الجمعة، 6 مايو 2022

كتاب 24 و :25 من فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

   كتاب :24 فتح الباري  أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه وذكر أطرافها : محمد فؤاد عبد الباقي  --
وعقب كل حديث أطرافه كما ذكرها محمد فؤاد عبد الباقي]

أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُؤْمِنَاتِ مَا أَنْزَلَ"
الحديث الخامس والعشرون حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، يزيد أحدهما على صاحبه. قوله: "حفظت بعضه وثبتني فيه معمر" بين أبو نعيم في مستخرجه القدر الذي حفظه سفيان عن الزهري والقدر الذي ثبته فيه معمر، فساقه من طريق حامد بن يحيى عن سفيان إلى قوله: "فأحرم منها بعمرة" ومن قوله: "وبعث عينا له من خزاعة إلخ" مما ثبته فيه معمر، وقد تقدم في هذا الباب من رواية علي بن المديني عن سفيان وفيه قول سفيان "لا أحفظ الإشعار والتقليد فيه: "وأن عليا قال: "ما أدري ما أراد سفيان بذلك، هل أراد أنه لا يحفظ الإشعار والتقليد فيه خاصة، أو أراد أنه لا يحفظ بقية الحديث: "وقد أزالت هذه الرواية الإشكال والتردد الذي وقع لعلي بن المديني، وقد تقدم الكلام على شرح الحديث مستوفى في الشروط، وأنه أورد هنا صدر الحديث واختصره هناك، وساق هناك الحديث بطوله واقتصر منه هنا على البعض، وتقدم بيان ما وقع هنا مما لم يذكره هناك من تسمية عينه الذي بعثه وأنه بشر بن سفيان الخزاعي، وضبط غدير الأشطاط، وذكر الواقدي أنه وراء عسفان. ثم أورد المصنف بعضا من الحديث غير ما ذكره من هذه الطريق من طريق أخرى. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه، ويعقوب هو ابن إبراهيم بن سعد، وابن أخي ابن شهاب اسمه محمد بن عبد الله بن مسلم بن شهاب. قوله: "وامعضوا" بتشديد الميم بعدها عين مهملة ثم ضاد معجمة. وفي رواية الكشميهني: "وامتعضوا" بإظهار المثناة والمعنى شق عليهم، وقد سبق بسطه في الشروط. قوله: "ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال إلا رده" أي إلى المشركين في تلك المدة وإن كان مسلما. قوله: "وجاءت المؤمنات مهاجرات" أي في تلك لمدة أيضا، وقد ذكرت أسماء من سمي منهن في كتاب الشروط. قوله: "فكانت أم كلثوم بنت عقبه بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي من مكة إلى المدينة مهاجرة مسلمة. فقوله: "وهي عاتق" أي بلغت واستحقت التزويج ولم تدخل في السن، وقيل: هي الشابة، وقيل: فوق المعصر، وقيل: استحقت التخدير، وقيل: بين البالغ والعانس، وتقدم بسط ذلك في كتاب العيدين. قوله: "فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم" في حديث عبد الله بن أبي أحمد بن جحش" هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فخرج أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة بن أبي معيط حتى قدما المدينة فكلما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها إليهم، فنقض العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة، فنزلت الآية" أخرجه ابن مردويه في تفسيره، وبهذا يظهر المراد بقوله في حديث الباب: "حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل". قوله: "حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل" أي من استثنائهن من مقتضى الصلح على رد من جاء منهم مسلما، وسيأتي بيان ذلك مشروحا في أواخر كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.
4182- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ بِهَذِهِ الْآيَةِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [12 الممتحنة] وَعَنْ عَمِّهِ قَالَ "بَلَغَنَا حِينَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقُوا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِيرٍ.... فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ".

(7/454)


الحديث السادس والعشرون قوله: "قال ابن شهاب وأخبرني عروة إلخ" هو موصول بالإسناد المذكور، وقد وصله الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي خيثمة عن يعقوب بن إبراهيم به وفيه بيان لأن الذي وقع في الشرط من عطف هذه القصة في رواية الزهري عن عروة عن مروان والمسور مدرج وإنما هو عن عروة عن عائشة، ويأتي شرح الامتحان في النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: "وعن عمه" هو موصل بالإسناد المذكور أيضا. قوله: "بلغنا حين أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلى المشركين ما أنفقوا على من هاجر من أزواجهم" هذا القدر ذكره هكذا مرسلا، وهو موصول من رواية معمر كما أشرنا إليه في الشروط، وسأشبع الكلام على ذلك في النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: "وبلغنا أن أبا بصير فذكره بطوله" كذا في الأصل وأشار إلى ما تقدم في قصة أبي بصير في كتاب الشروط؛ وقد ذكرت شرحها مبسوطا هناك حيث ساقها مطولة.
4183- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَرَجَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ فَقَالَ إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ"
4185- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَهَلَّ وَقَالَ إِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَتَلَا[21 الأحزاب] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
4185- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ......." و حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ بَعْضَ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ لَوْ أَقَمْتَ الْعَامَ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا تَصِلَ إِلَى الْبَيْتِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ فَنَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدَايَاهُ وَحَلَقَ وَقَصَّرَ أَصْحَابُهُ وَقَالَ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوْجَبْتُ عُمْرَةً فَإِنْ خُلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْبَيْتِ طُفْتُ وَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْبَيْتِ صَنَعْتُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ مَا أُرَى شَأْنَهُمَا إِلَّا وَاحِدًا أُشْ هِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي فَطَافَ طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا وَاحِدًا حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا"
4186- حَدَّثَنِي شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ سَمِعَ النَّضْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا صَخْرٌ عَنْ نَافِعٍ قَالَ "إِنَّ النَّاسَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ عُمَرُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ إِلَى فَرَسٍ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ يَأْتِي بِهِ لِيُقَاتِلَ عَلَيْهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ وَعُمَرُ لاَ يَدْرِي بِذَلِكَ فَبَايَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْفَرَسِ فَجَاءَ بِهِ إِلَى عُمَرَ وَعُمَرُ يَسْتَلْئِمُ لِلْقِتَالِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ

(7/455)


قَالَ فَانْطَلَقَ فَذَهَبَ مَعَهُ حَتَّى بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ الَّتِي يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ
4187- وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيُّ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّاسَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ تَفَرَّقُوا فِي ظِلاَلِ الشَّجَرِ فَإِذَا النَّاسُ مُحْدِقُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ انْظُرْ مَا شَأْنُ النَّاسِ قَدْ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهُمْ يُبَايِعُونَ فَبَايَعَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عُمَرَ فَخَرَجَ فَبَايَعَ"
الحديث السابع والعشرون حديث ابن عمر حيث خرج معتمرا في الفتنة. الحديث ذكره من طريق، وقد تقدم شرحه في "باب الإحصار" من كتاب الحج. قوله: "حدثني شجاع بن الوليد" أي البخاري المؤدب أبو الليث، ثقة من أقران البخاري، وسمع قبله قليلا، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع. وأما شجاع بن الوليد الكوفي فذاك يكنى أم بدر ولم يدركه البخاري. قوله: "سمع النضر بن محمد" هو الجرشي بضم الجيم وفتح الراء بعدها معجمة، ثقة متفق عليه، وما له في البخاري لا هذا الحديث. قوله: "حدثنا صخر" هو ابن جويرية. قوله: "عن نافع قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلخ" ظاهر هذا السياق الإرسال، ولكن الطريق التي بعدها أوضحت أن نافعا حمله عن ابن عمر. قوله: "عند رجل من الأنصار" لم أقف على اسمه، ويحتمل أنه الذي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينه، وقد تقدمت الإشارة إليه في أول كتاب العلم. قوله: "وعمر يستلئم للقتال" أي يلبس اللأمة بالهمز وهي السلاح. قوله: "وقال هشام بن عمار" كذا وقع بصيغة التعليق، وفي بعض النسخ "وقال لي" وقد وصله الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن دحيم وهو عبد الرحمن بن إبراهيم عن الوليد بن مسلم بالإسناد المذكور. قوله: "فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم" أي محيطون به ناظرون إليه بأحد بأحداقهم. قوله: "فقال: يا عبد الله" القائل يا عبد الله هو عمر. قوله: "قد أحدقوا" كذا للكشميهني وغيره وهو الصواب. ووقع للمستملي: "قال أحدقوا" جعل بدل قد قال وهو تحريف، وهذا السبب الذي هنا في أن ابن عمر بايع قبل أبيه غير السبب الذي قبله، ويمكن الجمع بينهما بأنه بعثه يحضر له الفرس، ورأى الناس مجتمعين فقال له انظر ما شأنهم، فبدأ بكشف حالهم فوجدهم يبايعون فبايع، وتوجه إلى الفرس فأحضرها وأعاد حينئذ الجواب على أبيه، وأما ابن التين فلم يظهر له وجه الجمع بينهما فقال: هذا اختلاف، ولم يسند نافع إلى ابن عمر ذلك في شيء من الروايتين، كذا قال، والثانية ظاهرة في الرد عليه فإن فيها عن ابن عمر كما بيناه. ثم زعم أن المبايعة المذكورة إنما كانت حين قدموا إلى المدينة مهاجرين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الناس فمر به ابن عمر وهو يبايع، الحديث. قلت: وبمثل ذلك لا ترد الروايات الصحيحة. فقد صرح في الرواية الأولى بأن ذلك كان يوم الحديبية، والقصة التي أشار إليها تقدمت من وجه آخر في الهجرة، وليس فيما نقل فيها ما يمنع التعدد، بل يتعين ذلك لصحة الطريقين. والله المستعان. قوله: "فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع" هكذا أورده مختصرا، وتوضحه الرواية التي قبله وهو أن ابن عمر لما رأى الناس يبايعون بيع ثم رجع إلى عمر فأخبره بذلك فخرج وخرج معه فبايع عمر

(7/456)


وبايع ابن عمر مرة أخرى.
4188- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا يَعْلَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اعْتَمَرَ فَطَافَ فَطُفْنَا مَعَهُ وَصَلَّى وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَكُنَّا نَسْتُرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لاَ يُصِيبُهُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ"
4189- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَصِينٍ قَالَ قَالَ أَبُو وَائِلٍ "لَمَّا قَدِمَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ مِنْ صِفِّينَ أَتَيْنَاهُ نَسْتَخْبِرُهُ فَقَالَ اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لَرَدَدْتُ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لِأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلاَّ أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ قَبْلَ هَذَا الأَمْرِ مَا نَسُدُّ مِنْهَا خُصْمًا إِلاَّ انْفَجَرَ عَلَيْنَا خُصْمٌ مَا نَدْرِي كَيْفَ نَأْتِي لَهُ"
4190- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَاحْلِقْ وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوْ انْسُكْ نَسِيكَةً قَالَ أَيُّوبُ لاَ أَدْرِي بِأَيِّ هَذَا بَدَأَ"
4191- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ وَقَدْ حَصَرَنَا الْمُشْرِكُونَ قَالَ وَكَانَتْ لِي وَفْرَةٌ فَجَعَلَتْ الْهَوَامُّ تَسَّاقَطُ عَلَى وَجْهِي فَمَرَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ [196 البقرة]: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
الحديث التاسع والعشرون قوله: "حدثتا ابن نمير" هو محمد بن عبد الله بن نمير. قوله: "حدثنا يعلى" هو ابن عبيد، وإسماعيل هو ابن أبي خالد. قوله: "لا يصيبه أحد بشيء" أي لئلا يصيبه، وهذا كان في عمرة القضاء وقد تقدم أن عبد الله بن أبي أوفى كان ممن بايع تحت الشجرة وهو في عمرة الحديبية، وكل من شهد الحديبية وعاش إلى السنة المقبلة خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم معتمرا في عمرة القضاء. قوله: "حدثنا الحسن" بفتح المهملتين أي ابن إسحاق بن زياد الليثي مولاهم المروزي المعروف بحسنويه يكنى أبا علي، وثقه النسائي، ولم يعرفه أبو حاتم وعرفه غيره، قال ابن حبان في الثقات: كان من أصحاب

(7/457)


ابن المبارك ومات سنة إحدى وأربعين ومائتين، وما له في البخاري سوى هذا الحديث. ومحمد بن سابق من شيوخ البخاري، وقد يروي عنه بواسطة كما هنا. قوله: "ما يسد منه خصم1" بضم الخاء المعجمة وسكون المهملة أي جانب، وقد تقدم هذا الحديث في آخر الجهاد. وزعم المزي في "الأطراف" أن المصنف أخرج هذه الطريق في فرض الخمس، وليس كذلك. حديث كعب بن عجرة في قصة القمل وحلق رأسه بالحديبية أورده المصنف من وجهين، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك. حديث كعب بن عجرة في قصة القمل وحلق رأسه بالحديبية أورده المصنف من وجهين، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
ـــــــ
1 رواية المتن "ما نسد منها خصما"

(7/458)


36 - باب قِصَّةِ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ
4192- حَدَّثَنِي عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ "أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكَلَّمُوا بِالإِسْلاَمِ فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَوْدٍ وَرَاعٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا نَاحِيَةَ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ"
قَالَ قَتَادَةُ "بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُثْلَةِ" وَقَالَ شُعْبَةُ وَأَبَانُ وَحَمَّادٌ عَنْ قَتَادَةَ "مِنْ عُرَيْنَةَ" وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَأَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ "قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ"
4193- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ أَبُو عُمَرَ الْحَوْضِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَالْحَجَّاجُ الصَّوَّافُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو رَجَاءٍ مَوْلَى أَبِي قِلاَبَةَ وَكَانَ مَعَهُ بِالشَّأْمِ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ اسْتَشَارَ النَّاسَ يَوْمًا قَالَ مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْقَسَامَةِ فَقَالُوا حَقٌّ قَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَضَتْ بِهَا الْخُلَفَاءُ قَبْلَكَ قَالَ وَأَبُو قِلاَبَةَ خَلْفَ سَرِيرِهِ فَقَالَ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ فَأَيْنَ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْعُرَنِيِّينَ قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ "إِيَّايَ حَدَّثَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ" قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ "مِنْ عُرَيْنَةَ" وَقَالَ أَبُو قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ "مِنْ عُكْلٍ ....ذَكَرَ الْقِصَّةَ"
قوله: "باب قصة عكل" بضم المهملة وسكون الكاف بعدها لام "وعرينة" بمهملة وراء ثم نون مصغر، قبيلتان تقدم ذكرهما وبيان نسبهما في "باب أبواب الإبل" من كتاب الطهارة مع شرح حديث الباب مستوفى، وتقدم قريبا بيان الاختلاف في وقتها وأن ابن إسحاق ذكر أنها كانت بعد غزوة ذي قرد.قوله: "قال قتادة" هو موصول بالإسناد المذكور إليه. قوله: "وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة" بضم الميم

(7/458)


وسكون المثلثة، وهذا البلاغ لم أقف على من فسر المراد به، وقد يسر الله الكريم به الآن، وكنت قد أغفلت التنبيه عليه في المقدمة، وحقه أن يذكر في الفصل الأخير منها عند ذكر عدد أحاديث الصحيح وتفصيلها بذكر كل صحابي وكم ورد له عنده من حديث، وأن يذكر في المبهمات من الفصل المذكور، فإنه حديث أخرجه البخاري في الجملة وإن كان إسناده معضلا، فإن هذا المتن جاء من حديث قتادة عن الحسن البصري عن هياج بن عمران عن عمران بن حصين وعن سمرة بن جندب قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثا على الصدقة وينهانا عن المثلة" أخرجه أبو داود من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة بهذا الإسناد واللفظ وفيه قصة، وأخرجه أحمد من طريق سعيد عن قتادة بهذا الإسناد إلى عمران بن حصين وفيه القصة ولفظه: "كان يحث في خطبته على الصدقة وينهى عن المثلة" وعن سمرة مثل ذلك، وإسناد هذا الحديث قوي، فإن هياجا بتحتانية ثقيلة وآخره جيم هو ابن عمران البصري وثقه ابن سعد وابن حبان وبقية رجاله من رجال الصحيح، وسيأتي في الذبائح، ومضى في المظالم من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة والنهبى" ولكنه من غير طريق قتادة، وسيأتي شرح المثلة في الذبائح إن شاء الله تعالى والذي يظهر أن الذي أوردناه هو مراد قتادة بالبلاغ الذي وقع عند البخاري، وقد تبين بهذا أن في الحديث الذي أخرجه النسائي من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن هشام عن قتادة عن أنس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة" إدراجا وأن هذا القدر من الحديث لم يسنده قتادة عن أنس وإنما ذكره بلاغا، ولما نشط لذكر إسناده ساقه بوسائط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. قوله: "وقال شعبة وأبان وحماد عن قتادة من عرينة" يريد أن هؤلاء رووا هذا الحديث عن قتادة عن أنس فاقتصروا على ذكر عرينة دون عكل، فأما رواية شعبة فوصلها المصنف في الزكاة. وأما رواية أبان وهو ابن يزيد العطار فوصلها ابن أبي شيبة، وأما رواية حماد هو ابن سلمة فوصلها أبو داود والنسائي. قوله: "قال يحيى بن أبي كثير وأيوب عن أبي قلابة عن أنس: قدم نفر من عكل" يريد أن هذين روياه بعكس أولئك فاقتصرا على ذكر عكل دون عرينة، فأما رواية يحيى فوصلها المصنف في المحاربين، وأما رواية أيوب فوصلها المصنف في الطهارة. قوله: "وحدثني محمد بن عبد الرحيم" هو الحافظ لمعروف بصاعقة البزار يكنى أبا يحيى، وحفص بن عمر شيخه من شيوخ البخاري وربما روى عنه بواسطة كالذي هنا. قوله: "حدثنا أيوب والحجاج الصواف قالا حدثني أبو قلابة" كذا وقع في النسخ المعتمدة "قال حدثني" بالأفراد والمراد حجاج، فأما أيوب فلا يظهر من هذه الرواية كيفية سياقه، وقد اختلف عليه فيه هل هو عنده عن أبي قلابة بغير واسطة أو بواسطة، وأوضح ذلك الدار قطني فقال: أن أيوب حيث يرويه عن أبي قلابة نفسه فإنه يقتصر على قصة العرنيين، وحيث يرويه عن أبي رجاء مولى أبي قلابة عن أبي قلابة فإنه يذكر مع ذلك قصة أبي قلابة مع عمر بن عبد العزيز ولما دار بينه وبين عنبسة بن سعيد، وأما حجاج الصواف فإنه يرويه بتمامه عن أبي رجاء عن أبي قلابة انتهى. وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من هذا في كتاب الطهارة. قوله: "وأبو قلابة خلف سريره فقال عنبسة بن سعيد" كذا وقع مختصرا، وسيأتي في الديات من طريق إسماعيل بن علية عن حجاج الصواف مطولا، وكذا ساقه الإسماعيلي من طريق أيوب عن أبي رجاء عن أبي قلابة مطولا، وسيأتي شرحه في الديات إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال أبو قلابة عن أنس من عكل، وذكر القصة" أي قصتهم، وقد تقدم الكلام على حديث أبي قلابة في الطهارة. "تنبيه": وقع من قوله: "وقال شعبة "إلى آخر الباب عند أبي ذر بين غزوة

(7/459)


ذي قرد وبين غزوة خيبر وعليه جرى الإسماعيلي، ووقع عند الباقين تاليا لحديث العرنيين الذي قبله وهو الراجح، ولعل الفصل وقع مع تغيير بعض الرواة، ويحتمل أن يكون البخاري تعمد ذلك إشارة منه إلى أن قصة العرنيين متحدة مع غزوة ذي قرد كما يشير إليه كلام بعض أهل المغازي، وإن كان الراجح خلافه، والله أعلم.

(7/460)


باب غزوة ذات الفرد
...
37 - باب غَزْوَةِ ذِي قَرَدَ
وَهِيَ الْغَزْوَةُ الَّتِي أَغَارُوا عَلَى لِقَاحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ خَيْبَرَ بِثَلاَثٍ
4194- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ يَقُولُ "خَرَجْتُ قَبْلَ أَنْ يُؤَذَّنَ بِالأُولَى وَكَانَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْعَى بِذِي قَرَدَ قَالَ فَلَقِيَنِي غُلاَمٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَالَ أُخِذَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ مَنْ أَخَذَهَا قَالَ غَطَفَانُ قَالَ فَصَرَخْتُ ثَلاَثَ صَرَخَاتٍ يَا صَبَاحَاهْ قَالَ فَأَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْ الْمَدِينَةِ ثُمَّ انْدَفَعْتُ عَلَى وَجْهِي حَتَّى أَدْرَكْتُهُمْ وَقَدْ أَخَذُوا يَسْتَقُونَ مِنْ الْمَاءِ فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ بِنَبْلِي وَكُنْتُ رَامِيًا وَأَقُولُ أَنَا ابْنُ الأَكْوَعْ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ وَأَرْتَجِزُ حَتَّى اسْتَنْقَذْتُ اللِّقَاحَ مِنْهُمْ وَاسْتَلَبْتُ مِنْهُمْ ثَلاَثِينَ بُرْدَةً قَالَ وَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ حَمَيْتُ الْقَوْمَ الْمَاءَ وَهُمْ عِطَاشٌ فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ السَّاعَةَ فَقَالَ يَا ابْنَ الأَكْوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ قَالَ ثُمَّ رَجَعْنَا وَيُرْدِفُنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَتِهِ حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ"
قوله: "وهي الغزوة التي أغاروا فيها على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم قبل خيبر بثلاث" كذا جزم به، ومستنده في ذلك حديث إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه فإنه قال في آخر الحديث الطويل الذي أخرجه مسلم من طريقه" قال فرجعنا - أي من الغزوة - إلى المدينة فوالله ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر" وأما ابن سعد فقال: "كانت غزوة ذي قرد في ربيع الأول سنة ست قبل الحديبية، وقيل: في جمادى الأولى" وعن ابن إسحاق في شعبان منها فإنه قال: "كانت بنو لحيان في شعبان سنة ست، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يقم بها إلا ليالي حتى أغار عيينة بن حصن على لقاحه" قال القرطبي شارح مسلم في الكلام على حديث سلمة من الأكوع: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية، فيكون ما وقع في حديث سلمه من وهم بعض الرواة، قال: ويحتمل أن يجمع بأن يقال: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان أغزى سرية فيهم سلمة بن الأكوع إلى خيبر قبل فتحها، فأخبر سلمة عن نفسه وعمن خرج معه يعني حيث قال: "خرجنا إلى خيبر" قال: ويؤيده أن ابن إسحاق ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أغزى إليها عبد الله بن رواحة قبل فتحها مرتين انتهى. وسياق الحديث يأبى هدا الجمع، فإن فيه بعد قوله: "حين خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل عمر يرتجز بالقول" وفيه

(7/460)


قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من السائق" وفيه مبارزة علي لمرحب وقتل عامر وغير ذلك مما وقع في غزوة خيبر حين خرج إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا ما في الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قرد أصح مما ذكره أهل السير، ويحتمل في طريق الجمع أن تكون إغارة عيينة بن حصن على اللقاح وقعت مرتين الأولى التي ذكرها ابن إسحاق وهي قبل الحديبية، والثانية بعد الحديبية قبل الخروج إلى خيبر، وكان رأس الذين أغاروا عبد الرحمن بن عيينة كما في سياق سلمة عند مسلم، ويؤيده أن الحاكم ذكر في "الإكليل" أن الخروج إلى ذي، قرد تكرر، ففي الأول خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد، وفي الثانية خرج إليها النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الآخر سنة خمس، والثالثة هذه المختلف فيها انتهى. فإذا ثبت هذا قوي هذا الجمع الذي ذكرته والله أعلم.قوله: "حدثنا حاتم" هو ابن إسماعيل ويزيد بن أبي عبيدة هو مولى سلمة بن الأكوع، وقد أخرج البخاري هذا الحديث عاليا في الجهاد عن مكي بن إبراهيم عن يزيد وهو أحد ثلاثياته. قوله: "خرجت قبل أن يؤذن بالأولى" يعني صلاة الصبح، ويدل عليه في رواية مسلم أنه تبعهم من الغلس إلى غروب الشمس. وفي رواية مكي "خرجت من المدينة ذاهبا نحو الغابة". قوله: "وكانت لقاح رسول الله ترعى بذي قرد" اللقاح بكسر اللام وتخفيف القاف ثم مهملة. ذوات الدر من الإبل واحدها لقحة بالكسر وبالفتح أيضا، واللقوح الحلوب. وذكر ابن سعد أنها كانت عشرين لقحة، قال. وكان فيهم ابن أبي ذر وامرأته فأغار المشركون عليهم فقتلوا الرجل وأسروا المرأة. قوله: "فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف" لم أقف على أسمه، ويحتمل أن يكون هو رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في رواية مسلم، وكأنه كان ملك أحدهما وكان يخدم الآخر فنسب تارة إلى هذا وتارة إلى هذا. قوله: "غطفان" بفتح المعجمة والطاء المشالة المهملة والفاء، تقدم بيان نسبهم في غزوة ذات الرقاع. وفي رواية مكي "غطفان وفزارة" وهو من الخاص بعد العام لأن فزارة من غطفان، وعند مسلم: "قدمنا الحديبية ثم قدمنا المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلامه وأنا معه، وخرجت بفرس لطلحة أندبه، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري" ولأحمد وابن سعد من هذا الوجه" عبد الرحمن بن عيينة بن حصن الفزاري وقد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاقه أجمع وقتل راعيه، قال فقلت: يا رباح خذ هذا الفرس وأبلغه طلحة وأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر" وللطبراني من وجه آخر عن سلمة" خرجت بقوسي ونبلي وكنت أرمي الصيد، فإذا عيينة بن حصن قد أغار على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاقها" ولا مناف، فإن كلا من عيينة وعبد الرحمن بن عيينة كان في القوم. وذكر موسى بن عقبة وابن إسحاق أن مسعدة الفزاري كان أيضا رئيسا في فزارة في هذه الغزاة. قوله: "فصرخت ثلاثة صرخات" في رواية المستملي: "بثلاث" بزيادة الموحدة وهي للاستغاثة. قوله: "فأسمعت ما بين لابتي المدينة" فيه إشعار بأنه كان واسع الصوت جدا، ويحتمل أن يكون ذلك من خوارق العادات. ولمسلم: "فعلوت أكمة فاستقبلت المدينة فناديت ثلاثا" وللطبراني "فصعدت في سلع ثم صحت: يا صباحاه، فانتهى صياحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنودي في الناس الفزع الفزع" وهو عند إسحاق بمعناه. قوله: "يا صباحاه" هي كلمة تقال عند استنفار من كان غافلا عن عدوه. قوله: "ثم اندفعت على وجهي" أي لم ألتفت يمينا ولا شمالا بل أسرعت الجري، وكان شديد العدو كما سيأتي بيانه في آخر الحديث. قوله: "حتى أدركتهم" في رواية مكي "حتى ألقاهم وقد أخذوها" يعني اللقاح ذكره بهذه الصيغة مبالغة في استحضار الحال. قوله: "فأقبلت أرميهم"1 أي أقبلت عليهم أرميهم أي بالسهام.
ـــــــ
1 نسخة المتن "فجعلت أرميهم"

(7/461)


قوله: "وأقول: أنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع" بضم الراء وتشديد المعجمة جمع راضع وهو اللئيم، فمعناه اليوم يوم اللئام أي اليوم يوم هلاك اللئام، والأصل فيه أن شخصا كان شديد البخل، فكان إذا أراد حلب ناقته ارتضع من ثديها لئلا يحلبها فيسمع جيرانه أو من يمر به صوت الحلب فيطلبون منه اللبن، وقيل: بل صنع ذلك لئلا يتبدد من اللبن شيء إذا حلب في الإناء أو يبقى في الإناء شيء إذا شربه منه، فقالوا في المثل "الأم من راضع" وقيل: بل معنى المثل ارتضع اللؤم من بطن أمه، وقيل: كل من كان يوصف وباللؤم يوصف بالمص والرضاع، وقيل: المراد من يمص طرف الخلال إذا خل أسنانه، وهو دال على شدة الحرص. وقيل: هو الراعي الذي لا يستصحب محلبا، فإذا جاءه الضيف اعتذر بأن لا محلب منه، وإذا أراد أن يشرب ارتضع ثديها. وقال أبو عمرو الشيباني: هو الذي يرتضع الشاة أو الناقة عند إرادة الحلب من شدة الشره. وقيل: أصله الشاة ترضع لبن شاتين من شدة الجوع. وقيل: معناه اليوم يعرف من ارتضع كريمة فأنجبته ولئيمة فهجنته. وقيل: معناه اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره وتدرب بها من غيره. وقال الداودي: معناه هذا يوم شديد عليكم تفارق فيه المرضعة من أرضعته فلا تجد من ترضعه. قال السهيلي: قوله اليوم يوم الرضع يجوز الرفع فيهما ويصب الأول ورفع الثاني على جعل الأول ظرفا قال: وهو جائز إذا كان الظرف واسعا ولا يضيق على الثاني. قال: وقال أهل اللغة: يقال في اللؤم رضع بالفتح يرضع بالضم رضاعة لا غير، ورضع الصبي بالكسر ثدي أمه يرضع بالفتح رضاعا مثل سمع يسمع سماعا. وعند مسلم في هذا الموضع "فأقبلت أرميهم بالنبل وأرتجز" وفيه: "فألحق رجلا منهم فأصكه بسهم في رجله فخلص السهم إلى كعبه، فما زلت أرميهم وأعقرهم، فإذا رجع إلى فارس منهم أتيت شجرة فجلست في أصلها ثم رميته فعقرت به، فإذا تضايق الخيل فدخلوا في مضايقة علوت الجبل فرميتهم بالحجارة" وعند ابن إسحاق "وكان سلمة مثل الأسد، فإذا حملت عليه الخيل فر ثم عارضهم فنضحها عنه بالنبل". قوله: "استنقذت اللقاح منهم واستلبت منهم ثلاثين بردة" في رواية مسلم: "فما زلت كذلك حتى ما خلق الله من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعير إلا خلفته وراء ظهري، ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا يتخففون بها، قال فأتوا مضيقا فأتاهم رجل فجلسوا يتغدون فجلست على رأس قرن، فقال لهم: من هذا؟ فقالوا لقينا من هذا البرج، قال فليقم إليه منكم أربعة، فتوجهوا إليه فتهددهم فرجعوا، قال: فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم الأخرم الأسدي، فقلت له احذوهم، فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة فقتله عبد الرحمن وتحول على فرسه، فلحقه أبو قتادة فقتل عبد الرحمن وتحول على الفرس، قال واتبعتهم على رجلي حتى ما أرى أحدا، فعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذي قرد فشربوا منه وهم عطاش، قال فجلاهم عنه حتى طردهم، وتركوا فرسين على ثنية فحثت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر ابن إسحاق نحو هذه القصة وقال: "إن الأخرم لقب، واسمه محرز بن نضلة" لكن وقع عنده "حبيب بن عيينة بن حصن" بدل عبد الرحمن، فيحتمل أن يكون كان له اسمان. قوله: "وجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس" في رواية مسلم: "وأتاني عمي عامر بن الأكوع بسطيحة فيها ماء وسطيحة فيها لبن، فتوضأت وشربت" ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه، فإذا هو قد أخذ كل شيء استنقذته منهم، ونحر له بلال ناقته. قوله: "قد حميت القوم الماء" أي منعتهم من الشرب. قوله: "فابعث إليهم الساعة" في رواية مسلم: "فقلت يا رسول الله خلني أنتخب من القوم مائة رجل فأتبعهم فلا يبقى منهم مخبر، قال فضحك" وعند ابن إسحاق" فقلت يا رسول الله لو

(7/462)


سرحتني في مائة رجل لأخذت بأعناق القوم". قوله: "فقال يا ابن الأكوع ملكت فأسجح" بهمزة قطع وسين مهملة ساكنة وجيم مكسورة بعدها مهملة، أي سهل. والمعنى قدرت فاعف. والسجاحة السهولة. زاد مكي في روايته: "أن القوم ليقرون في قومهم" وعند الكشميهني: "من قومهم" ولمسلم: "أنهم ليقرون في أرض غطفان" ويقرون بضم أوله وسكون القاف وفتح الراء وسكون الواو من القرى وهي الضيافة، ولابن إسحاق "فقال إنهم الآن وليغبقون في غطفان" وهو بالغين المعجمة الساكنة والموحدة المفتوحة والقاف، من الغبوق وهو شرب أول الليل، والمراد أنهم فاتوا وأنهم وصلوا إلى بلاد قومهم ونزلوا عليهم فهم الآن يذبحون لهم ويطعمونهم. ووقع عند مسلم: "قال: فجاء رجل فقال: نحر لهم فلان جزورا، فلما كشطوا جلدها إذا هم بغبرة، فقالوا: أتاكم القوم فخرجوا هاربين". قوله: "ثم رجعنا إلى المدينة ويردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى دخلنا المدينة" في رواية مسلم: "ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء" وذكر قصة الأنصاري الذي سابقه فسبقه سلمة، قال: "فسبقت إلى المدينة، فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر - وفيه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خ ير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا اليوم سلمة . قال سلمة ثم أعطاني سهم الراجل والفارس جميعا" وروى الحاكم في "الإكليل" والبيهقي من طريق عكرمة بن قتادة بن عبد الله بن عكرمة بن عبد الله بن أبي قتادة حدثني أبي عن أبيه عن عبد الله بن أبي قتادة، أن أبا قتادة اشترى فرسه، فلقيه مسعدة الفزاري فتقاولا فقال أبو قتادة: أسأل الله أن يلقينك وأنا عليها، قال: آمين. قال: فبينما هو يعلفها إذ قيل: أخذت اللقاح، فركبها حتى هجم على العسكر، قال فطلع على فارس فقال: لقد ألقانيك الله يا أبا قتادة، فذكر مصارعته له وظفره به وقتله وهزم المشركين، ثم لم ينشب المسلمون أن طلع عليهم أبو قتادة يحوش اللقاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبو قتادة سيد الفرسان ". وفي الحديث جواز العدو الشديد في الغزو، والإنذار بالصياح العالي، وتعريف الإنسان نفسه إذا كان شجاعا ليرعب خصمه، واستحباب الثناء على الشجاع ومن فيه فضيلة لا سيما عند الصنع الجميل ليستزيد من ذلك ومحله حيث يؤمن الافتتان، وفيه المسابقة على الإقدام ولا خلاف في جوازه بغير عوض، وأما بالعوض فالصحيح لا يصح. والله أعلم.

(7/463)


38 - باب غَزْوَةِ خَيْبَرَ
4195- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ وَهِيَ مِنْ أَدْنَى خَيْبَرَ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَعَا بِالأَزْوَادِ فَلَمْ يُؤْتَ إِلاَّ بِالسَّوِيقِ فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ فَأَكَلَ وَأَكَلْنَا ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ"
4196- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لِعَامِرٍ يَا عَامِرُ أَلاَ تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلًا شَاعِرًا فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ يَقُولُ:

(7/463)


اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا أَبْقَيْنَا ... وَثَبِّتْ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا إِنَّا ... إِذَا صِيحَ بِنَا أَبَيْنَا
وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ هَذَا السَّائِقُ قَالُوا عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ قَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ وَجَبَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْلاَ أَمْتَعْتَنَا بِهِ فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ مَسَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَا هَذِهِ النِّيرَانُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُون َ قَالُوا عَلَى لَحْمٍ قَالَ عَلَى أَيِّ لَحْمٍ قَالُوا لَحْمِ حُمُرِ الإِنْسِيَّةِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ أَوْ ذَاكَ فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ قَصِيرًا فَتَنَاوَلَ بِهِ سَاقَ يَهُودِيٍّ لِيَضْرِبَهُ وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ فَأَصَابَ عَيْنَ رُكْبَةِ عَامِرٍ فَمَاتَ مِنْهُ قَالَ فَلَمَّا قَفَلُوا قَالَ سَلَمَةُ رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي قَالَ مَا لَكَ قُلْتُ لَهُ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كَذَبَ مَنْ قَالَهُ إِنَّ لَهُ لاَجْرَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلَّ عَرَبِيٌّ مَشَى بِهَا مِثْلَهُ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ قَالَ نَشَأَ بِهَا "
قوله: "باب غزوة خيبر" بمعجمة وتحتانية وموحدة بوزن جعفر، وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام، وذكر أبو عبيدة البكري أنها سميت باسم رجل من العماليق نزلها، قال ابن إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم سنه سبع فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها في صفر، وروى يونس بن بكير في المغازي عن ابن إسحاق في حديث المسور ومروان قالا: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة فأعطاه الله فيها خيبر بقوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يعني خيبر، فقدم المدينة في ذي الحجة فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرم. وذكر موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة عشرين ليلة أو نحوها، ثم خرج إلى خيبر. وعند ابن عائذ من حديث ابن عباس "أقام بعد الرجوع من الحديبية عشر ليال" وفي مغازي سليمان التيمي "أقام خمسة عشر يوما" وحكى ابن التين عن ابن الحصار أنها كانت في آخر سنة ست، وهذا منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم، وهذه الأقوال متقاربة، والراجح منها ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول، وأما ما ذكره الحاكم عن الواقدي وكذا ذكره ابن سعد أنها كانت في جمادى الأولى، فالذي رأيته في مغازي الواقدي أنها كانت في صفر، وقيل: في ربيع الأول، وأغرب من ذلك ما أخرجه ابن سعد وابن أبي شيبة من حديث أبي سعيد الخدري قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان"

(7/464)


الحديث وإسناده حسن، إلا أنه خطأ، ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت، وتوجيهه بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها في رمضان جزما، والله أعلم. وذكر الشيخ أبو حامد في التعليقة أنها كانت سنة خمس، وهو وهم، ولعله انتقال من الخندق إلى خيبر. وذكر ابن هشام أنه صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة نميلة بنون مصغر ابن عبد الله الليثي، وعند أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة أنه سباع بن عرفطة وهو أصح. حديث سويد بن النعمان وهو الأنصاري الحارثي أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر، الحديث. وقد تقدم شرحه في الطهارة. والغرض منه هنا الإشارة إلى أن الطريق التي خرجوا منها إلى خيبر كانت على طريق الصهباء، وقد تقدم ضبطها. قوله: "خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر ألا تسمعنا" لم أقف على اسمه صريحا، وعند ابن إسحاق من حديث نصر بن دهر الأسلمي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع وهو عم سلمة بن الأكوع واسم الأكوع سنان: "انزل يا ابن الأكوع فاحد لنا من هنياتك" ففي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره بذلك. قوله: "من هنيهاتك" في رواية الكشميهني بحذف الهاء الثانية وتشديد التحتانية التي قبلها، والهنيهات جمع هنيهة وهي تصغير هنة كما قالوا في تصغير سنة سنيهة. ووقع في الدعوات من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد" لو أسمعتنا من هناتك" بغير تصغير. قوله: "وكان عامر رجلا شاعرا" قيل: هذا يدل على أن الرجز من أقسام الشعر، لأن الذي قاله عامر حينئذ من الرجز. وسيأتي بسط ذلك في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. قوله: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" في هذا القسم زحاف الخزم بمعجمتين وهو زيادة سبب خفيف في أوله، وأكثرها أربعة أحرف، وقد تقدم في الجهاد من حديث البراء بن عازب وأنه من شعر عبد الله بن رواحة، فيحتمل أن يكون هو وعامر تواردا على ما تواردا منه، بدليل ما وقع لكل منهما مما ليس عند الآخر، أو استعان عامر ببعض ما سبقه إليه ابن رواحة. قوله: "فاغفر فداء لك ما اتقينا" أما قوله فداء فهو بكسر الفاء وبالمد، وحكى ابن التين فتح أوله مع القصر وزعم أنه هنا بالكسر القصر لضرورة الوزن، ولم يصب في ذلك فإنه لا يتزن إلا بالمد. وقد استشكل هذا الكلام لأنه لا يقال في حق الله، إذ معنى فداء لك نفديك بأنفسنا وحذف متعلق الفداء للشهرة، وإنما يتصور الفداء لمن يجوز عليه الفناء. وأجيب عن ذلك بأنها كلمه لا يراد بها ظاهرها بل المراد بها المحبة والتعظيم مع قطع النظر عن ظاهر اللفظ. وقيل: المخاطب بهذا الشعر النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى لا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقك ونصرك، وعلى هذا فقوله: "اللهم" لم يقصد بها الدعاء، وإنما افتتح بها الكلام، والمخاطب بقول الشاعر "لولا أنت" النبي صلى الله عليه وسلم إلخ، ويعكر عليه قوله بعد ذلك:
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
فإنه دعا الله تعالى ويحتمل أن يكون المنعى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت والله أعلم. وأما قوله: "ما اتقينا" فبتشديد المثناة بعدها قاف للأكثر، ومعناه ما تركنا من الأوامر، و "ما" ظرفية، وللأصيلي والنسفي بهمزة قطع ثم موحدة ساكنة أي ما خلفنا وراءنا مما اكتسبنا من الآثام، أو ما أبقيناه وراءنا من الذنوب فلم نتب منه. وللقابسي "ما لقينا" باللام وكسر القاف والمعنى ما وجدنا من المناهي، ووقع في رواية قتيبة عن حاتم بن إسماعيل

(7/465)


كما سيأتي في الأدب "ما اقتفينا" بقاف ساكنة ومثناة مفتوحة ثم تحتانية ساكنة أي تبعنا من الخطايا من قفوت الأثر إذا اتبعته، وكذا لمسلم عن قتيبة وهي أشهر الروايات في هذا الرجز. قوله: "وألقين سكينة علينا" في رواية النسفي "وألق السكينة علينا" بحذف النون وبزيادة ألف ولام في السكينة بغير تنوين، وليس بموزون. قوله: "إنا إذا صيح بنا أتينا" بمثناة، أي جئنا إذا دعينا إلى القتال أو إلى الحق، وروي بالموحدة كذا رأيت في رواية النسفي، فإن كانت ثابتة فالمعنى إذا دعينا إلى غير الحق امتنعنا. قوله: "وبالصياح عولوا علينا" أي قصدونا بالدعاء بالصوت العالي واستغاثوا علينا، تقول: عولت على فلان وعولت بفلان بمعنى استغثت به. وقال الخطابي: المعني أجلبوا علينا بالصوت، وهو من العويل. وتعقبه ابن التين بأن عولوا بالتثقيل من التعويل ولو كان من العويل لكان أعولوا. ووقع في رواية إياس بن سلمة عن أبيه عند أحمد في هذا الرجز من الزيادة:
"وإن الذين قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا"
وهذا القسم الأخير عند مسلم أيضا. قوله: "من هذا السائق" في رواية أحمد فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل في السير ينزل بعضهم فيسوقها ويحدو في تلك الحال. قوله: "قال يرحمه الله" في رواية إياس بن سلمة "قال غفر لك ربك" قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد، وبهذه الزيادة يظهر السر في قول الرجل "لولا أمتعتنا به". قوله: "قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به" اسم هذا الرجل عمر سماه مسلم في رواية إياس بن سلمة ولفظه: "فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له: يا نبي الله لولا أمتعتنا بعامر" وفي حديث نصر بن دهر عند ابن إسحاق "فقال عمر: وجبت يا رسول الله" ومعنى قوله لولا أي هلا، وأمتعتنا أي متعتنا أي أبقيته لنا لنتمتع به أي بشجاعته، والتمتع الترفه إلى مدة، ومنه أمتعني الله ببقائك. قوله: "فأتينا خيبرا" أي أهل خيبر. قوله: "فحاصرناهم" ذكر ابن إسحاق أن أول شيء حاصروه ففتح حصن ناعم، ثم انتقلوا إلى غيره. قوله: "حتى أصابتنا مخمصة" بمعجمة ثم مهملة أي مجاعة شديدة، وسيأتي شرح قصة الحمر الأهلية في كتاب الذبائح إن شاء الله تعالى. قوله: "وكان سيف عامر قصيرا فتناول به ساق يهودي ليضربه" في رواية إياس بن سلمة "فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
قال فبرز إليه عامر فقال:
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، فصار عامر يسفل له أي يضربه من أسفل، فرجع سيفه - أي عامر - على نفسه. قوله: "ويرجع ذباب سيفه" أي طرفه الأعلى وقيل: حده. قوله: "فأصاب عين ركبة عامر" أي طرف ركبته الأعلى فمات منه. وفي رواية يحيى القطان "فأصيب عامر بسيف نفسه فمات" وفي رواية إياس بن سلمة عند مسلم: "فقطع أكحله فكانت فيها نفسه "وفي رواية ابن إسحاق" فكلمه كلما شديدا فمات منه". قوله: "فلما قفلوا من خيبر" أي رجعوا. قوله: "وهو آخذ يدي" في رواية الكشميهني: "بيدي" وفي رواية قتيبة

(7/466)


"رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم شاحبا" بمعجمة ثم مهملة وموحدة أي متغير اللون. وفي رواية إياس "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي". قوله: "زعموا أن عامرا حبط عمله" في رواية إياس "بطل عمل عامر قتل نفسه" وسمي من القائلين أسيد بن حضير، في رواية قتيبة الآتية في الأدب وعند ابن إسحاق "فكان المسلمون شكوا فيه وقالوا فما قتله سلاحه" ونحو عند مسلم من وجه آخر عن سلمة. قوله: "كذب من قاله" أي أخطأ. قوله: "إن له أجرين" في رواية الكشميهني: "لأجرين" وكذا في رواية قتيبة، وكذا في رواية ابن إسحاق "إنه لشهيد، وصلى عليه". قوله: "إنه لجاهد مجاهد" كذا للأكثر باسم الفاعل فيهما وكسر الهاء والتنوين، والأول مرفوع على الخبر. والثاني إتباع للتأكيد، كما قالوا جاد مجد. ووقع لأبي ذر عن الحموي والمستملي بفتح الهاء والدال، وكذا ضبطه الباجي، قال عياض: والأول هو الوجه. قلت: يؤيده رواية أبي داود من وجه آخر عن سلمة "مات جاهدا مجاهدا" قال ابن دريد: رجل جاهد أي جاد في أموره. وقال ابن التين: الجاهد من يرتكب المشقة، ومجاهد أي لأعداء الله تعالى. قوله: "قل عربي مشى بها مثله" كذا في هذه الرواية بالميم والقصر من المشي، والضمير للأرض أو المدينة أو الحرب أو الخصلة. قوله: "قال قتيبة نشأ" أي بنون وبهمزة، والمراد أن قتيبة رواه عن حاتم بن إسماعيل بهذا الإسناد فخالف في هذه اللفظة. وروايته موصولة في الأدب عنده، وغفل الكشميهني فرواها هنالك بالميم والقصر، وحكى السهيلي أنه وقع في رواية: "مشابها" بضم الميم اسم فاعل من الشبهة أي ليس له مشابه في صفات الكمال في القتال، وهو منصوب بفعل محذوف تقديره رأيته مشابها، أو على الحال من قوله: "عربي" قال السهيلي: والحال من النكرة يجوز إذا كان في تصحيح معنى، قال السهيلي أيضا: وروى "قل عربيا نشأ بها مثله" والفاعل مثله، وعربيا منصوب على التمييز لأن في الكلام معنى المدح، على حد قولهم عظم زيد رجلا، وقل زيد أدبا.
4197- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى خَيْبَرَ لَيْلًا وَكَانَ إِذَا أَتَى قَوْمًا بِلَيْلٍ لَمْ يُغِرْ بِهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ الْيَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ" .
4198- أَخْبَرَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "صَبَّحْنَا خَيْبَرَ بُكْرَةً فَخَرَجَ أَهْلُهَا بِالْمَسَاحِي فَلَمَّا بَصُرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ فَأَصَبْنَا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ"
4199- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ أُكِلَتْ الْحُمُرُ فَسَكَتَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ أُكِلَتْ الْحُمُرُ

(7/467)


فَسَكَتَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ أُفْنِيَتْ الْحُمُرُ فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ"
الحديث الثالث حديث أنس ذكره من ثلاثة طرق قوله: "عن أنس" في رواية أبي إسحاق الفزاري عن حميد "سمعت أنسا" كما تقدم في الجهاد. قوله: "أتى خيبر ليلا" أي قرب منها، وذكر ابن إسحاق أنه نزل بواد يقال له الرجيع بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم وكانوا حلفاءهم، قال: فبلغني أن غطفان تجهزوا وقصدوا خيبر، فسمعوا حسا خلفهم فظنوا أن المسلمين خلفوهم في ذراريهم، فرجعوا فأقاموا وخذلوا أهل خيبر. قوله: "لم يغر بهم حتى يصبح" كذا للأكثر من الإغارة، ولأبي ذر عن المستملي: "لم يقربهم" بفتح أوله وسكون القاف وفتح الراء وسكون الموحدة، وتقدم في الجهاد بلفظ: "لا يغير عليهم" وهو يؤيد رواية الجمهور، وتقدم في الأذان من وجه آخر عن حميد بلفظ: "كان إذا غزا لم يغز بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانا كف عنهم وإلا أغار، قال: فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب" وحكى الواقدي أن أهل خيبر سمعوا بقصده لهم، فكانوا يخرجون في كل يوم متسلحين مستعدين، فلا يرون أحدا. حتى إذا كانت الليلة التي قدم فيها المسلمون ناموا فلم تتحرك لهم دابة ولم يصح لهم ديك، وخرجوا بالمساحي طالبين مزارعهم فوجدوا المسلمين. قوله: "خرجت يهود" زاد أحمد من طريق قتادة عن أنس "إلى زروعهم". قولهم: "بمساحيهم" بمهملتين جمع مسحاة وهي من آلات الحرث "ومكاتلهم" جمع مكتل وهو القفة الكبيرة التي يحول فيها التراب وغيره. وعند أحمد من حديث أبي طلحة في نحو هذه القصة" حتى إذا كان عند السحر وذهب ذو الزرع إلى زرعه وذو الضرع إلى ضرعه أغار عليهم". قوله: "محمد والخميس" تقدم في أوائل الصلاة من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس بلفظ: "خرج القوم إلى أعمالهم فقالوا: محمد" قال عبد العزيز. قال بعض أصحابنا عن أنس "والخميس" يعني الجيش وعرف المراد ببعض أصحابه من هذا الطريق، وتقدم في صلاة الخوف من طريق حماد بن زيد عن ثابت وعبد العزيز عن أنس نحوه وفيه: "يقولون محمد والخميس" قال: والخميس الجيش. وعرف من سياق هذا الباب أن اللفظ هناك لثابت، وقد بينت ما في هذا الموضع من الإدراج في أوائل كتات الصلاة، وزاد في الجهاد من وجه آخر عن أيوب "فلجئوا إلى الحصن" أي تحصنوا به. قوله: "خربت خيبر" زاد في الجهاد فرفع يديه وقال: "الله أكبر، خربت خيبر" وزيادة التكبير في معظم الطرق عن أنس وعن حميد، قال السهيلي: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل، لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى آلات الهدم - مع أن لفظ المسحاة من سحوت إذا قشرت - أخذ منه أن مدينتهم ستخرب، انتهى. ويحتمل أن يكون قال. "خربت خيبر" بطريق الوحي. ويؤيده قوله بعد ذلك: "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" . قوله في رواية محمد بن سيرين عن أنس "صبحنا خيبر بكرة" لا يغاير قوله في رواية حميد عن أنس أنهم قدموها ليلا، فإنه يحمل على أنهم لما قدموها وناموا دونها ركبوا إليها يكره فصبحوها بالقتال والإغارة، وقد وقع ذلك في رواية إسماعيل بن جعفر عن حميد واضحا، زاد في رواية محمد بن سيرين قصة الحمر الأهلية وسيأتي شرحها مستوفى في كتاب الذبائح إن شاء تعالى. قوله: "حدثنا عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي، وليس هو والد الراوي عند عبد الله بن عبد الوهاب، فإن الراوي عنه عبدري حجيي إلا ثقفي. قوله: "ينهيانكم" في رواية سفيان الآتية "ينهاكم" بالإفراد وفي رواية عبد الوهاب بالتثنية،

(7/468)


وهو دال على جواز جمع اسم الله مع غيره في ضمير واحد، فيرد به على من زعم أن قوله للخطيب: "بئس خطيب القوم أنت" لكونه قال: "ومن يعصمها فقد غوى" وقد تقدمت الإشارة إلى مباحث ذلك في كتاب الصلاة. قوله: "فأكفئت القدور" قال ابن التين: صوابه فكفئت، قال الأصمعي: كفأت الإناء قلبته ولا يقال أكفأته، ويحتمل أن يكون المراد أميلت حتى أزيل ما فيها، قال الكسائي: أكفأت الإناء أملته.
4200- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ قَرِيبًا مِنْ خَيْبَرَ بِغَلَسٍ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ فَخَرَجُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ فَقَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ وَكَانَ فِي السَّبْيِ صَفِيَّةُ فَصَارَتْ إِلَى دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ثُمَّ صَارَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا فَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ لِثَابِتٍ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ آنْتَ قُلْتَ لِأَنَسٍ مَا أَصْدَقَهَا فَحَرَّكَ ثَابِتٌ رَأْسَهُ تَصْدِيقًا لَهُ"
4201- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَقَالَ ثَابِتٌ لِأَنَسٍ مَا أَصْدَقَهَا قَالَ أَصْدَقَهَا نَفْسَهَا فَأَعْتَقَهَا"
قوله: "حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس "تقدم في صلاة الخوف مع ثابت عبد العزيز بن صهيب. قوله: "فخرجوا يسعون في السكك، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة وسبى الذرية" فيه اختصار كبير، لأنه يوهم أن ذلك وقع عقب الإغارة عليهم، وليس كذلك فقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام على محاصرتهم بضع عشرة ليلة، وقيل: أكثر من ذلك. ويؤيده قوله في الحديث الذي قبله: "إنهم أصابتهم مخمصة شديدة" فإنه دال على طول مدة الحصار، إذ لو وقع الفتح من يومهم لم يقع لهم ذلك. وفي حديث سلمة بن الأكوع وسهل بن سعد الآتيين قريبا في قصة على ما يؤكد ذلك، وكذا في حديث سهل وأبي هريرة في قصة الذي قتل نفسه، وكذا في حديث عبد الله بن أبي أوفى أنهم حاصروهم. حديث أنس أيضا في ذكر صفية، ذكره من طريقين، وسيأتي في الباب من وجه ثالث بأتم من هذا سياقا. وصفية هي بنت حيي بن أخطب بن سعية - بفتح المهملة وسكون العين المهملة بعدها تحتانية ساكنة - ابن عامر بن عبيد بن كعب، من ذرية هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام، وأمها برة بنت شموال من بني قريظة، وكانت تحت سلام بن مشكم القرظي ثم فرقها فتزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضيري فقتل عنها يوم خيبر، ذكر ذلك ابن سعد وأسند بعضه من وجه مرسل. قوله: "وكان في السبي صفية بنت حيي فصارت إلى دحية، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية عبد العزيز عن أنس" فجاء دحية فقال: أعطني يا رسول الله جارية من السبي، قال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية، فجاء رجل فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية سيدة قريظة والنضير لا تصلح إلا لك، قال ادعوه بها، فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذ جارية من السبي غيرها ، وعند ابن إسحاق أن صفية سبيت من حصن القموص وهو حصن بني أبي الحقيق، وكانت تحت كناية بن

(7/469)


الربيع بن أبي الحقيق وسبي معها بنت عمها - وعند غيره بنت عم زوجها - فلما استرجع النبي صلى الله عليه وسلم صفية من دحية أعطاه بنت عمها. قال السهيلي: لا معارضة بين هذه الأخبار فإنه أخذها من دحية قبل القسم، والذي عوضه عنها ليس على سبيل البيع بل على سبيل النفل. قلت: وقع في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عند مسلم أن صفية وقعت في سهم دحية، وعنده أيضا فيه: "فاشتراها من دحية بسبعة أرؤس" فالأولى في طريق الجمع أن المراد بسهمه هنا نصيبه الذي اختاره لنفسه، وذلك أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه جارية فأذن له أن يأخذ جارية، فأخذ صفية. فلما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أنها بنت ملك من ملوكهم ظهر له أنها ليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه واختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بها، فإن في ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع في الهبة من شيء. وأما إطلاق الشراء على العوض فعلى سبيل المجاز، ولعله عوضه عنها بنت عمها أو بنت عم زوجها فلم تطب نفسه فأعطاه من جملة السبي زيادة على ذلك. وعند ابن سعد من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس وأصله في مسلم: "صارت صفية لدحية، فجعلوا يمدحونها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطى بها دحية ما رضي" وقد تقدم شيء من هذا في أوائل الصلاة، ويأتي تمام قصتها في الحديث الثاني عشر، ويأتي الكلام على قوله في الحديث: "وجعل عتقها صداقها" في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.
4205- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ أَوْ قَالَ لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ وَأَنَا خَلْفَ دَابَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَنِي وَأَنَا أَقُولُ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ فَقَالَ لِي يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي قَالَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ "
الحديث الخامس حديث أبي موسى الأشعري قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد، وعاصم هو الأحول، وأبو عثمان هو النهدي، والإسناد كله إلى أبي موسى بصريون. قوله: "لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أو قال لما توجه" هو شك من الراوي. قوله: "أشرف الناس على واد - فذكر الحديث إلى قول أبي موسى - فسمعني وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله" هذا السياق يوهم أن ذلك وقع وهم ذاهبون إلى خيبر، وليس كذلك بل إنما وقع ذلك حال رجوعهم، لأن أبا موسى إنما قدم بعد فتح خيبر مع جعفر كما سيأتي في الباب من حديثه واضحا، وعلى هذا ففي السياق حذف تقديره: لما توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فحاصرها ففتحها ففزع فرجع أشرف الناس إلخ، وسيأتي شرح المتن في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى.

(7/470)


4202- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ فَقِيلَ مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَ مَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَنَا صَاحِبُهُ قَالَ فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ قَالَ فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ سَيْفَهُ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ فَقُلْتُ أَنَا لَكُمْ بِهِ فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عِنْدَ ذَلِكَ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ "
4203- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "شَهِدْنَا خَيْبَرَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِي الإِسْلاَمَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّار ِ فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ أَشَدَّ الْقِتَالِ حَتَّى كَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحَةُ فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ يَرْتَابُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحَةِ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا أَسْهُمًا فَنَحَرَ بِهَا نَفْسَهُ فَاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَدَّقَ اللَّهُ حَدِيثَكَ انْتَحَرَ فُلاَنٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ قُمْ يَا فُلاَنُ فَأَذِّنْ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ ". تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
4204- وَقَالَ شَبِيبٌ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ شَهِدْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَابَعَهُ صَالِحٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعِيدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الحديث السادس حديث سهل بن سعد في قصة الذي قتل نفسه قوله: "حدثنا يعقوب" هو ابن عبد الرحمن

(7/471)


الإسكندراني، وأبو حازم هو سلمة بن دينار. قوله: "التقى هو والمشركون" في رواية ابن أبي حازم الآتية بعد قليل "في بعض مغازيه" ولم أقف على تعيين كونها خيبر، لكنه مبني على أن القصة التي في حديث سهل متحدة مع القصة التي في حديث أبي هريرة، وقد صرح في حديث أبي هريرة أن ذلك كان بخيبر وفيه نظر، فإن في سياق سهل أن الرجل الذي قتل نفسه اتكأ على حد سيفه حتى خرج من ظهره، وفي سياق أبي هريرة أنه استخرج أسهما من كنانته فنحر بها نفسه. وأيضا ففي حديث سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم لما أخبروه بقصته" إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة" الحديث، وفي حديث أبي هريرة أنه قال لهم لما أخبروه بقصته" قم يا بلال فأذن: إنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن" ولهذا جنح ابن التين إلى التعدد، ويمكن الجمع بأنه لا منافاة في المغايرة الأخيرة، وأما الأول فيحتمل أن يكون نحر نفسه بأسهمه فلم تزهق روحه وإن كان قد أشرف على القتل فاتكأ حينئذ على سيفه استعجالا للموت، لكن جزم ابن الجوزي في مشكله بأن القصة التي حكاها سهل بن سعد وقعت بأحد، قال: واسم الرجل قزمان الظفري، وكان قد تخلف عن المسلمين يوم أحد فعيره النساء، فخرج حتى صار في الصف الأول فكان أول من رمى بسهم، ثم صار إلى السيف ففعل العجائب، فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول: الموت أحسن من الفرار، فمر به قتادة بن النعمان فقال له: هنيئا لك بالشهادة، قال: والله إني ما قاتلت على دين، وإنما قاتلت على حسب قومي. ثم أقلقته الجراحة فقتل نفسه. قلت: وهذا الذي نقله أخذه من مغازي الواقدي وهو لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف، نعم أخرج أبو يعلى من طريق سعيد بن عبد الرحمن القاضي عن أبي حازم حديث الباب وأوله أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ما رأينا مثل ما أبلى فلان، لقد فر الناس وما فر وما ترك للمشركين شاذة ولا فاذة الحديث بطوله على نحو ما في الصحيح، وليس فيه تسميته، وسعيد مختلف فيه وما أظن روايته خفيت على البخاري، وأظنه لم يلتفت إليها لأن في بعض طرقه عن أبي حازم" غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وظاهره يقتضي أنها غير أحد، لأن سهلا ما كان حينئذ ممن يطلق على نفسه ذلك لصغره، لأن الصحيح أن مولده قبل الهجرة بخمس سنين فيكون في أحد ابن عشرة أو إحدى عشرة، على أنه حفظ أشياء من أمر أحد مثل غسل فاطمة جراحة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من ذلك أن يقول: "غزونا" إلا أن يحمل على المجاز كما سيأتي لأبي هريرة، لكن يدفعه ما سيأتي من رواية الكشميهني قريبا. قوله: "فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره" أي رجع بعد فراغ القتال في ذلك اليوم. قوله: "وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل" وقع في كلام جماعة ممن تكلم على هذا الكتاب أن اسمه قزمان بضم القاف وسكون الزاي الظفري بضم المعجمة والفاء نسبة إلى بني ظفر بطن من الأنصار وكن يكنى أبا الغيداق بمعجمة مفتوحة وتحتانية ساكنة وآخره قاف، ويعكر عليه ما تقدم. قوله: "شاذة ولا فاذة" الشاذة بتشديد المعجمة ما انفرد عن الجماعة، وبالفاء مثله ما لم يختلط بهم، ثم هما صفة لمحذوف أي نسمة، والهاء فيهما للمبالغة، والمعنى أنه لا يلقى شيئا إلا قتله، وقيل: المراد بالشاذ والفاذ ما كبر وصغر، وقيل: الشاذ الخارج والفاذ المنفرد، وقيل: هما بمعني، وقيل الثاني إتباع. قوله: "فقال" أي قائل، وتقدم في الجهاد بلفظ فقالوا ويأتي بعد قليل من طريق أخرى بلفظ: "فقيل" ووقع هنا للكشميهني: "فقلت" فإن كانت محفوظة عرف اسم قائل ذلك. قوله: "ما أجزأ" بالهمزة أي ما أغنى. قوله: "فقال إنه من أهل النار" في رواية ابن أبي حازم المذكورة" فقالوا أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار" وفي حديث أكثم بن أبي الجون الخزاعي عند الطبراني" قال قلنا يا رسول الله فلان

(7/472)


يجزئ في القتال، قال: هو في النار. قلنا يا رسول الله إذا كان فلان في عبادته واجتهاده ولين جانبه في النار فأين نحن؟ قال: ذلك أخباث النفاق قال فكنا نتحفظ عليه في القتال". قوله: "فقال رجل من القوم: أنا صاحبه" في رواية ابن أبي حازم "لأتبعنه" وهذا الرجل هو أكثم بن أبي الجون كما سيظهر من سياق حديثه. قوله: "فجرح جرحا شديدا" المصنف زاد في حديث أكثم "فقلنا يا رسول الله قد استشهد فلان، قال: هو في النار". قوله: "فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه" في رواية ابن أبي حازم "فوضع نصاب سيفه في الأرض" وفي حديث أكثم "أخذ سيفه فوضعه بين ثدييه ثم اتكأ عليه حتى خرج من ظهره، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أشهد أنك رسول الله". قوله: "وهو من أهل الجنة" زاد في حديث أكثم "تدركه الشقاوة والسعادة عند خروج نفسه فيختم له بها" وسيأتي شرح الكلام الأخير في كتاب القدر إن شاء تعالى. قوله: "شهدنا خيبر" أراد جيشها من المسلمين، لأن الثابت أنه إنما جاء بعد أن فتحت خيبر، ووقع عند الواقدي أنه قدم بعد فتح معظم خيبر فحضر فتح آخرها، لكن مضى في الجهاد من طريق عنبسة بن سعيد عن أبي هريرة قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعدما افتتحها فقلت: يا رسول الله أسهم لي" وسيأتي البحث في ذلك في حديث آخر لأبي هريرة آخر هذا الباب. قوله: "فلما حضر القتال" بالرفع والنصب. قوله: "فقال لرجل ممن معه" أي عن رجل، واللام قد تأتي بمعنى عن مثل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} ويحتمل أن يكون بمعنى في أي في شأنه أي سببه، ومنه قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . قوله: "فكاد بعض الناس يرتاب" في رواية معمر في الجهاد "فكاد بعض الناس أن يرتاب" ففيه دخول أن على خبر كاد، وهو جائز مع قلته. قوله: "قم يا فلان" هو بلال كما وقع مفسرا في كتاب القدر. قوله: "إن الله يؤيد" في رواية الكشميهني: "ليؤيد" قال النووي يجوز في أن فتح الهمزة وكسرها. قوله: "بالرجل الفاجر" يحتمل أن تكون اللام للعهد، والمراد به قزمان المذكور، ويحتمل أن تكون للجنس. قوله: "تابعه معمر" أي تابع شعيبا عن الزهري أي بهذا الإسناد، وهو موصول عند المصنف في آخر الجهاد مقرونا برواية شعيب عن الزهري. قوله: "وقال شبيب" أي ابن سعيد "عن يونس" أي ابن يزيد "عن ابن شهاب" أي الزهري بهذا الإسناد. قوله: "شهدنا حنينا" يريد أن يونس خالف معمرا وشعيبا فذكر بدل خيبر لفظة "حنين" ورواية شبيب هذه وصلها النسائي مقتصرا على طرف من الحديث، وأوردها الذهلي في "الزهريات" ويعقوب بن سفيان في تاريخه كلاهما عن أحمد بن شبيب عن أبيه بتمامه، وأحمد من شيوخ البخاري وقد أخرج عنه غير هذا، وقد وافق يونس معمرا وشعيبا في الإسناد، لكن زاد فيه مع سعيد بن المسيب عبد الرحمن بن عبد الله من كعب بن مالك، وساق الحديث عنهما عن أبي هريرة. قوله: "وقال ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم "يعني وافق شبيبا في لفظ: "حنين" وخالفه في الإسناد فأرسل الحديث، وطريق ابن المبارك هذه وصلها في الجهاد ولم أر فيها تعيين الغزوة. قوله: "وتابعه صالح" يعني ابن كيسان "عن الزهري" وهذه المتابعة ذكرها البخاري في تاريخه. قال: "قال لي عبد العزيز الأويسي عن إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن بعض من شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه: هذا من أهل النار " الحديث فظهر أن المراد بالمتابعة أن صالحا تابع رواية ابن المبارك عن يونس في ترك ذكر اسم الغزوة، لا في بقية المتن ولا في الإسناد. وقد رواه يعقوب بن إبراهيم بن سعد

(7/473)


عن أبيه عن صالح عن لزهري فقال: "عن عبد الرحمن بن المسيب" مرسلا ووهم فيه، وكأنه أراد أن يقول: "عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب وسعيد بن المسيب" فذهل. قوله: "وقال الزبيدي أخبرني الزهري أن عبد الرحمن بن كعب أخبره أن عبيد الله بن كعب قال: أخبرني من شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر" قال الزهري: "وأخبرني عبيد الله بن عبد الله وسعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية النسفي "عبد الله بن عبد الله" هكذا أورد البخاري طريق الزبيدي هذه معلقة مختصرة، وأجحف فيها في الاختصار فإنه لم يفصل بين رواية الزهري الموصولة عن عبد الرحمن وبين روايته المرسلة عن سعيد وعبيد الله بن عبد الله، وقد أوضح ذلك في التاريخ، وكذلك أبو نعيم في "المستخرج" والذهلي في "الزهريات" فأخرجوه من طريق عبد الله بن سالم الحمصي عن الزبيدي فساق الحديث الموصول بالقصة ثم ساق بعده" قال الزبيدي قال الزهري وأخبرني عبد الله بن عبد الله وسعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا بلال قم فأذن إنه لا يدخل إلا رجل مؤمن، والله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" هذا سياق البخاري، وفي سياق الذهلي" قال الزهري وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله" وهذا أصوب من عبيد الله بن عبد الله، نبه عليه أبو علي الجياني، وقد اقتضى صنيع البخاري ترجيح رواية شعيب ومعمر وأشار إلى أن بقية الروايات محتملة وهذه عادته في الروايات المختلفة إذا رجح بعضها عنده اعتمده وأشار إلى البقية، وأن ذلك لا يستلزم القدح في الرواية الراجحة لأن شرط الاضطراب أن تتساوى وجوه الاختلاف فلا يرجح شيء منها، وذكر مسلم في كتاب التمييز فيه اختلافا آخر على الزهري فقال: "حدثنا الحسن بن الحلواني عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بلال قم فأذن إنه إلا يدخل الجنة إلا مؤمن . قال الحلواني: قلت ليعقوب بن إبراهيم من عبد الرحمن بن المسيب هذا؟ قال كان لسعيد بن المسيب أخ اسمه عبد الرحمن، وكان رجل من بني كنانة يقال له عبد الرحمن بن المسيب، فأظن أن هذا هو الكناني. قال مسلم وليس ما قال يعقوب بشيء، وإنما سقط من هذا الإسناد واو واحدة ففحش خطؤه، وإنما هو عن الزهري عن عبد الرحمن وابن المسيب، فعبد الرحمن هو ابن عبد الله بن كعب وابن المسيب هو سعيد، وقد حدث به عن الزهري كذلك ابن أخيه وموسى بن عقبة ويونس بن يزيد، والله أعلم. وكذا رجح الذهلي رواية شعيب ومعمر قال: ولا تدفع رواية الأخيرين لأن الزهري كان يقع له الحديث من عدة طرق فيحمله عنه أصحابه بحسب ذلك، نعم ساق من طريق موسى بن عقبة وابن أخي الزهري عن الزهري موافقة الزبيدي على إرسال آخر الحديث، قال المهلب: هذا الرجل ممن أعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه نفذ عليه الوعيد من الفساق، ولا يلزم منه أن كل من قتل نفسه يقضى عليه بالنار. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون قوله: "هو من أهل النار" أي إن لم يغفر الله له. ويحتمل أن يكون حين أصابته الجراحة ارتاب وشك في الإيمان أو استحل قتل نفسه فمات كافرا. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في بقية الحديث: "لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة" وبذلك حزم ابن المنير. والذي يظهر أن المراد بالفاجر أعم من أن يكون كافرا أو فاسقا، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نستعين بمشرك" لأنه محمول على من كان يظهر الكفر أو هو منسوخ، وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات، وذلك من معجزاته الظاهرة، وفيه جواز إعلام الرجل الصالح بفضيلة تكون فيه والجهر بها. "تنبيه": المنادى بذلك بلال، ووقع عند مسلم في رواية: "قم يا ابن الخطاب" وعند البيهقي أن

(7/474)


المنادى بذلك عبد الرحمن بن عوف، ويجمع بأنهم نادوا جميعا في جهات مختلفة.
4206- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ "رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ فَقُلْتُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ فَقَالَ هَذِهِ ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ النَّاسُ أُصِيبَ سَلَمَةُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَثَ فِيهِ ثَلاَثَ نَفَثَاتٍ فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ"
4207- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ قَالَ "الْتَقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَاقْتَتَلُوا فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لاَ يَدَعُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالُوا أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لاَتَّبِعَنَّهُ فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ وَمَا ذَاكَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ "
4208- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْخُزَاعِيُّ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ "نَظَرَ أَنَسٌ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَرَأَى طَيَالِسَةً فَقَالَ كَأَنَّهُمْ السَّاعَةَ يَهُودُ خَيْبَرَ"
الحديث الثامن حديث سلمة بن الأكوع وهو من ثلاثياته قوله: "فقلت يا أبا مسلم" هي كنية سلمة بن الأكوع. قوله: "أصابتها يوم خيبر" أي أصابت ركبته، ويوم بالنصب على الظرفية. قوله: "فنفث فيه" أي في موضع الضربة، وقد تقدم أنه فوق النفخ ودون النفل، وقد يكون بغير ريق بخلاف التفل، وقد يكون بريق خفيف بخلاف النفخ. حديث سهل بن سعد تقدم شرحه. قوله: "حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي" هو بصري واسم جده الوليد وهو ثقة من أقران أحمد وليس له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر تقدم في الجهاد. قوله: "حدثنا زياد بن الربيع" هو اليحمدي بفتح التحتانية والميم بينهما مهملة ساكنة بصري أيضا، وثقه أحمد وغيره، ونقل ابن عدي عن البخاري أنه قال: فيه نظر، قال ابن عدي: وما أرى بروايته بأسا. قلت: وليس له في البخاري سوى هذا الحديث. قوله: "عن أبي عمران" هو عبد الملك بن حبيب الجوني بفتح الجيم وسكون الواو ثم نون نسبة إلى بني الجون بن عوف بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس، وهم بطن من الأزد، وكذا جزم به الرشاطي عن أبي عبيد أن أبا عمران من هذا البطن، وجزم الحازمي أنه من بني الجون بطن من كندة ولم يسق نسبه، وقد ساقه الرشاطي فقال: الجون واسمه معاوية بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور. قوله: "فرأى طيالسة" أي عليهم. وفي رواية محمد بن

(7/475)


بزيع عن زياد بن الربيع عند ابن خزيمة وأبي نعيم أن أنسا قال: "ما شبهت الناس اليوم في المسجد وكثرة الطيالسة إلا بيهود خيبر" والذي يظهر أن يهود خيبر كانوا يكثرون من لبس الطيالسة، وكان غيرهم من الناس الذين شاهدهم أنس لا يكثرون منها، فلما قدم البصرة رآهم يكثرون من لبس الطيالسة فشبههم بيهود خيبر، ولا يلزم من هذا كراهية لبس الطيالسة. وقيل: المراد بالطيالسة الأكسية، وإنما أنكر ألوانها لأنها كانت صفراء.
4209- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَيْبَرَ وَكَانَ رَمِدًا فَقَالَ أَنَا أَتَخَلَّفُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَحِقَ بِهِ فَلَمَّا بِتْنَا اللَّيْلَةَ الَّتِي فُتِحَتْ قَالَ لاَعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا أَوْ لَيَأْخُذَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يُفْتَحُ عَلَيْ هِ فَنَحْنُ نَرْجُوهَا فَقِيلَ هَذَا عَلِيٌّ فَأَعْطَاهُ فَفُتِحَ عَلَيْهِ"
4210- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَوْمَ خَيْبَرَ لاَ عْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقِيلَ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ قَالَ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لاَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ "
الحديث العاشر والحادي عشر حديث سلمة بن الأكوع وحديث سهل بن سعد فيقصة فتح علي خيبر. قوله: "وكان رمدا" في حديث علي عند ابن أبي شيبة: "أرمد" وفي حديث جابر عند الطبراني في الصغير "أرمد شديد الرمد" وفي حديث ابن عمر عند أبي نعيم في الدلائل "أرمد لا يبصر".قوله: "فقال أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلحق به" وكأنه أنكر على نفسه تأخره عن النبي صلى الله عليه وسلم: فقال ذلك، وقوله: "فلحق به" يحتمل أن يكون لحق به قبل أن يصل إلى خيبر، ويحتمل أن يكون لحق به بعد أن وصل إليها. قوله: "فلما بتنا الليلة التي فتحت" خيبر في صبيحتها "قال لأعطين الراية غدا" وقع في هذه الرواية اختصار، وهو عند أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث بريدة بن الخصيب قال: "لما كان يوم خيبر أخذ أبو بكر اللواء فرجع ولم يفتح له، فلما كان الغد أخذه عمر فرجع ولم يفتح له، وقتل محمود بن مسلمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأدفعن لوائي غدا إلى رجل" الحديث، وعند ابن إسحاق نحوه من وجه آخر، وفي الباب عن أكثر من عشرة من الصحابة سردهم الحاكم في "الإكليل" وأبو نعيم والبيهقي في "الدلائل". قوله: "لأعطين الراية غدا أو ليأخذن الراية غدا" هو شك من الراوي، وفي حديث سهل الذي بعده

(7/476)


"لأعطين هذه الراية غدا رجلا" بغير شك، وفي حديث بريدة "إني دافع اللواء غدا إلى رجل يحبه الله ورسوله" والراية بمعني اللواء وهو العلم الذي في الحرب يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم العسكر، وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما، لكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس "كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض" ومثله عند الطبراني عن بريدة، وعند ابن عدي عن أبي هريرة وزاد: "مكتوبا فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله "وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة بينهما عرفية، وقد ذكر ابن إسحاق وكذا أبو الأسود عن عروة أن أول ما وجدت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية". قوله: "يحبه الله ورسوله" زاد في حديث سهل بن سعد "ويحب الله ورسوله" وفي رواية ابن إسحاق "ليس بفرار" وفي حديث بريدة "لا يرجع حتى يفتح الله له". قوله: "فنحن نرجوها" في حديث سهل "فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها" وقوله: "يدوكون" بمهملة مضمومة أي باتوا في اختلاط واختلاف، والدوكة بالكاف الاختلاط، وعند مسلم من حديث أبي هريرة" إن عمر قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ" وفي حديث بريدة "فما منا رجل له منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنا لها، فدعا عليا وهو يشتكي عينه فمسحها، ثم دفع إليه اللواء" ولمسلم من طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال: "فأرسلني إلى علي قال: فجئت به أقوده أرمد فبزق في عينه فبرأ". قوله: "فقيل هذا علي" كذا وقع مختصرا، وبيانه في رواية إياس بن سلمة عند مسلم، وفي حديث سهل بن سعد الذي بعده" فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأتوا به" وقد ظهر من حديث سلمة بن الأكوع أنه هو الذي أحضره، ولعل عليا حضر إليهم بخيبر ولم يقدر على مباشرة القتال لرمده، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فحضر من المكان الذي نزل به، أو بعث إليه إلى المدينة فصادف حضوره. قوله "فبرأ" بفتح الراء والهمزة بوزن ضرب, ويجوز كسر الراء بوزن علم, وعند الحاكم من حديث علي نفسه قال"فوضع رأسي في حجره ثم بزق في الية راحته فدلك بها عيني" وعند بريدة في "الدلائل" للبيهقي "فما وجعها علي حتى مضى لسبيله" أي مات. وعند الطبراني من حديث علي "فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلي الراية يوم خيبر" وله من وجه أخر "فما اشتكيتها حتى الساعة, قال: ودعا لي فقال: "اللهم أذهب عنه الحر والقر" قال فما اشتكيتهما حتى يومي هذا". قوله: "فأعطاه ففتح عليه" في حديث سهل "فأعطاه الراية" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد" فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر وفدك وجاء بعجوتهما" وقد اختلف في فتح خيبر هل كان عنوة أو صلحا، وفي حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس التصريح بأنه كان عنوة وبه جزم ابن عبد البر، ورد على من قال فتحت صلحا قال. وإنما دخلت الشبهة على من قال فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لحقن دمائهم، وهو ضرب من الصلح لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال انتهى. والذي يظهر أن الشبهة في ذلك قول ابن عمر "إن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على النخل وألجأهم إلى القصر فصالحوه على أن يجلوا منها وله الصفراء والبيضاء والحلقة ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيبوا" الحديث وفي آخره: "فسبى نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم للنكث الذي نكثوا، وأراد أن يجليهم فقالوا: دعنا في هذه الأرض نصلحها" الحديث أخرجه أبو داود والبيهقي وغيرهما، وكذلك أخرجه أبو الأسود في المغازي عن عروة، فعلى هذا كان قد وقع الصلح، ثم حدث النقض منهم فزال أثر الصلح، ثم من عليهم بترك القتل وإبقائهم

(7/477)


عمالا بالأرض ليس لهم فيها ملك، ولذلك أجلاهم عمر كما تقدم في المزارعة، فلو كانوا صولحوا على أرضهم لم يجلوا منها والله أعلم. وقد تقدم في فرض الخمس احتجاج الطحاوي على أن بعضها فتح صلحا بما أخرجه هو وأبو داود من طريق بشير بن يسار" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم خيبر عزله نصفها لنوائبه وقسم نصفها بين المسلمين" وهو حديث اختلف في وصله وإرساله، وهو ظاهر في أن بعضها فتح صلحا، والله أعلم. قوله: "فبرأ" بفتح الراء والهمزة بوزن ضرب، ويجوز كسر الراء بوزن علم، وعند الحاكم من حديث علي نفسه قال: "فوضع رأسي في حجره ثم بزق في ألية راحته فدلك بها عيني" وعند بريدة في "الدلائل" للبيهقي "فما وجعها علي حتى مضى لسبيله" أي مات. وعند الطبراني من حديث علي "فما رمدت ولا صدعت مذ دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلي الراية يوم خيبر" وله من وجه آخر "فما اشتكيتها حتى الساعة. قال: ودعا لي فقال: اللهم أذهب عنه الحر والقر، قال فما اشتكيتهما حتى يومي هذا". قوله: في حديث سهل "فقال علي يا رسول الله أقاتلهم" هو بحذف همزة الاستفهام. قوله: "حتى يكونوا مثلنا" أي حتى يسلموا. قوله: "فقال انفذ" بصم الفاء بعدها معجمة. قوله: "على رسلك" بكسر الراء أي على هينتك. قوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام" ووقع في حديث أبي هريرة عند مسلم: "فقال علي" يا رسول الله علام أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله " واستدل بقوله: "ادعهم" أن الدعوة شرط في جواز القتال. والخلاف في ذلك مشهور فقيل: يشترط مطلقا، وهو عن مالك سواء من بلغتهم الدعوة أو لما تبلغهم، قال: إلا أن يعجلوا المسلمين، وقيل: لا مطلقا وعن الشافعي مثله. وعنه لا يقاتل من لم تبلغه حتى يدعوهم، وأما من بلغته فتجوز الإغارة عليهم بغير دعاء، وهو مقتضى الأحاديث. ويحمل ما في حديث سهل على الاستحباب، بدليل أن في حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أغار على أهل خيبر لما لم يسمع النداء. وكان ذلك أول ما طرقهم، وكانت قصة علي يعد ذلك. وعن الحنفية تجوز الإغارة عليهم مطلقا وتستحب الدعوة. قوله: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا إلخ" يؤخذ منه أن تألف الكافر حتى يسلم أولى من المبادرة إلى قتله. قوله: "حمر النعم" بسكون الميم من حمر وبفتح النون والعين المهملة وهو من ألوان الإبل المحمودة، قيل: المراد خير لك من أن تكون لك فتتصدق بها، وقيل: تقتنيها وتملكها، وكانت مما تتفاخر العرب بها. وذكر ابن إسحاق من حديث أبي رافع قال: "خرجنا مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته فضربه رجل من يهود فطرح ترسه، فتناول علي بابا كان عند الحصن فتترس به عن نفسه حتى فتح الله عليه، فلقد رأيتني أنا في سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه". وللحاكم من حديث جابر "أن عليا حمل الباب يوم خيبر، وأنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا" والجمع بينهما أن السبعة عالجوا قلبه، والأربعين عالجوا حمله، والفرق بين الأمرين ظاهر، ولو لم يكن إلا باختلاف حال الأبطال. وزاد مسلم في حديث إياس بن سلمة عن أبيه "وخرج مرحب فقال: قد علمت خيبر أني مرحب، الأبيات. فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدرة، الأبيات. فضرب رأس مرحب فقتله، فكان الفتح على يديه" وكذا في حديث بريدة الذي أشرت إليه قبل وخالف ذلك أهل السير فجزم ابن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي بأن الذي قتل مرحبا هو محمد بن مسلمة، وكذا روى أحمد بإسناد حسن عن جابر، وقيل إن محمد بن مسلمة كان بارزه فقطع رجليه فأجهز عليه علي، وقيل: أن الذي قتله هو الحارث أخو مرحب فاشتبه على بعض الرواة، فإن لم يكن كذلك وإلا فما في الصحيح مقدم على ما سواه، ولاسيما وقد جاء من حديث بريدة أيضا، وكان اسم الحصن الذي فتحه على القموص وهو من أعظم حصونهم، ومنه سبيت صفية بنت حيي، والله أعلم.
4211- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ح و حَدَّثَنِي أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ

(7/478)


عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قَدِمْنَا خَيْبَرَ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا فَاصْطَفَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الصَّهْبَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ ثُمَّ قَالَ لِي آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَتَهُ عَلَى صَفِيَّةَ ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ وَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ"
4212- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ "سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ بِطَرِيقِ خَيْبَرَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أَعْرَسَ بِهَا وَكَانَتْ فِيمَنْ ضُرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابُ"
4213- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلاَ لَحْمٍ وَمَا كَانَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ أَمَرَ بِلاَلًا بِالأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ فَأَلْقَى عَلَيْهَا التَّمْرَ وَالأَقِطَ وَالسَّمْنَ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ قَالُوا إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأَ لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ"
الحديث الثاني عشر حديث أنس في قصة صفية أخرجه من طرق: الطريق الأول قوله: "حدثنا عبد الغفار بن داود" هو أبو صالح الحراني، أخرج عنه هنا وفي البيوع خاصة هذا الحديث الواحد، وشيخه يعقوب هو ابن عبد الرحمن الإسكندراني. قوله: "وحدثني أحمد" في رواية كريمة أحمد بن عيسى. وفي رواية أبي علي بن شبويه عن الفربري أحمد بن صالح وبه جزم أبو نعيم في "المستخرج" والذي يظهر أن البخاري ساقه على لفظ رواية ابن وهب، وأما على رواية ابن عبد الغفار فساقها في البيوع قبيل السلم على لفظه. قوله: "عن عمرو" في رواية عبد الغفار عن عمرو بن أبي عمرو واسم أبي عمرو ميسرة. قوله: "مولى المطلب" هو ابن عبد الله بن حنطب المخزومي. قوله: "فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي وقد قتل عنها زوجها وكانت عروسا" اسم الحصن القموص كما تقدم قريبا، واسم زوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق كما تقدم في النفقات، وكان سبب قتله ما أخرجه البيهقي بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك من ترك من أهل خيبر على أن لا يكتموه شيئا من أموالهم فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، قال فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله منه إلى خيبر، فسألهم عنه فقالوا. أذهبته النفقات، فقال. العهد قريب، والمال أكثر من ذلك . قال: فوجد بعد ذلك في خربة، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية "وقد تقدمت الإشارة إلى بعض هذا الحديث في الحديث الذي قبله. قوله: "فاصطفاها لنفسه" روى أبو داود وأحمد وصححه وابن حبان والحاكم

(7/479)


من طريق أبي أحمد الزبيدي عن سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال: "كانت صفية من الصفي" والصفي بفتح المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتانية، فسره محمد بن سيرين فيما أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عنه قال: "كان يضرب للنبي صلى الله عليه وسلم بسهم مع المسلمين، والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء" ومن طريق الشعبي قال: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره من الخمس" ومن طريق قتادة "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا كان له سهم صاف يأخذه من حيث شاء، وكانت صفية من ذلك السهم" وقيل: إن صفية كان اسمها قبل أن تسبي زينب، فلما صارت من الصفي سميت صفية. قوله: "فخرج بها حتى بلغنا سد الصهباء" أما سد فبفتح المهملة وبضمها، وأما الصهباء فتقدم بيانها في كتاب الطهارة، ووقع في رواية عبد الغفار هنا "سد الروحاء" والأول أصوب، وهي رواية قتيبة كما تقدم في الجهاد، ورواية سعيد بن منصور عن يعقوب في هذا الحديث أخرجها أبو داود وغيره. والروحاء بالمهملة مكان قريب من المدينة بينهما نيف وثلاثون ميلا من جهة مكة، وقد تقدم ذلك في حديث ابن عمر في أواخر المساجد، وقيل: بقرب المدينة مكان آخر يقال له الروحاء، وعلى التقديرين فليست قرب خيبر، فالصواب ما اتفق عليه الجماعة أنها الصهباء، وهي على بريد من خيبر قاله ابن سعد وغيره. قوله: "حلت" أي طهرت من الحيض، وقد تقدم بيان ذلك في أواخر كتاب البيوع قبيل كتاب السلم وعند ابن سعد من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وصله عند مسلم في قصة صفية "قال أنس ودفعها إلى أمي أم سليم حتى تهيئها وتصبنها وتعتد عندها" وإطلاق العدة عليها مجاز عن الاستبراء، والله أعلم. قوله: "فبنى بها" يأتي بيان ذلك وشرح بقية الحديث فيما يتعلق بتزويج صفية في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: "يحوي لها" بالمهملة المفتوحة وضم أوله وتشديد الواو، أي يجعل لها حوية، وهي كساء محشوة تدار حول الراكب. قوله: "ويضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب" وزاد عن قتيبة عن يعقوب في الجهاد في آخر هذا الحديث ذكر أحد وذكر الدعاء للمدينة، وفي أوله أيضا التعوذ، وقد بينت هناك أماكن شرح هذه الأحاديث. ووقع في مغازي أبي الأسود عن عروة "فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لها فخذه لتركب، فأجلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضع رجلها على فخذه، فوضعت ركبتها على فخذه وركبت". قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أونس، وأخوه أبو بكر عبد الحميد، وسليمان هو بن بلال، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري وروايته عن حميد من رواية الأقران. قوله: "أقام على صفية بنت حتى بطريق خيبر ثلاثة أيام حتى أعرس بها" المراد أنه أقام في المنزلة التي أعرس بها فيها ثلاثة أيام، لا أنه سار ثلاثة أيام ثم أعرس لأن في حديث سويد بن النعمان المذكور في أول غزوة خيبر أن الصهباء قريبة من خيبر، وبين ابن سعد في حديث ذكره في ترجمتها أن الموضع الذي بنى بها فيه بينه وبين خيبر ستة أميال، وقد ذكر في الطريق التي قبل هذه أنه صلى الله عليه وسلم أعرس بصفية بسد الصهباء، وهو يبين المراد من قوله: "بطريق خيبر" وكذا قوله في الطريق الثالثة "أقام بين خيبر والمدينة ثلاث ليال" ولا مغايرة بينه وبين قوله في التي قبلها ثلاثة أيام لأنه يبين أنها ثلاثة أيام بلياليها. قوله: "قام النبي صلى الله عليه وسلم" كذا لأبي ذر عن السرخسي، وللباقين "أقام" وهو أوجه. قوله: "قالوا إن حجبها إلخ" سيأتي شرحه واضحا في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.

(7/480)


4214- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح و حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنَّا مُحَاصِرِي خَيْبَرَ فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ فَنَزَوْتُ لِآخُذَهُ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَحْيَيْتُ"
4215- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ وَسَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ أَكْلِ الثُّومِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ"
"نَهَى عَنْ أَكْلِ الثُّوم"ِ هُوَ عَنْ نَافِعٍ وَحْدَهُ" وَلُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ" عَنْ سَالِمٍ
4216- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ"
[الحديث 4216- أطرافه في: 6961,5573,5115]
4217- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ"
4218- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ وَسَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ"
4219- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ وَرَخَّصَ فِي الْخَيْلِ"
[الحدبث 4219- طرفاه في: 5524,5520]
4220- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا عَبَّادٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ "قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ يَوْمَ خَيْبَرَ فَإِنَّ الْقُدُورَ لَتَغْلِي قَالَ وَبَعْضُهَا نَضِجَتْ فَجَاءَ مُنَادِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا وَأَهْرِقُوهَا قَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى فَتَحَدَّثْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ نَهَى عَنْهَا الْبَتَّةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ"
4222,4221- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ الْبَرَاءِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ "أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابُوا حُمُرًا فَطَبَخُوهَا فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ

(7/481)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ"
[الحدبث 4221- أطرافه في: 5525,4226,4225,4223]
4224,4223- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ وَابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُحَدِّثَانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَقَدْ نَصَبُوا الْقُدُورَ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ "
4225- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ "غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ"
4226- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ عَنْ عَامِرٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ أَنْ نُلْقِيَ الْحُمُرَ الأَهْلِيَّةَ نِيئَةً وَنَضِيجَةً ثُمَّ لَمْ يَأْمُرْنَا بِأَكْلِهِ بَعْدُ"
4227- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الحُسَيْنِ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "لاَ أَدْرِي أَنَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ حَمُولَةَ النَّاسِ فَكَرِهَ أَنْ تَذْهَبَ حَمُولَتُهُمْ أَوْ حَرَّمَهُ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ لَحْمَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ"
حديث عبد الله بن مغفل بالغين المعجمة والفاء الثقيلة المزني. قوله: "حدثنا وهب" هو ابن جرير بن حازم، وساق الحديث هناك، وتقدم في الخمس لفظ أبي الوليد المبدوء بذكره هنا. قوله: "فرمى إنسان بجراب" لم أقف على اسمه. وقد تقدم أن الجراب بكسر الجيم ويجوز فتحها في لغة نادرة، وتقدمت بقية مباحثه في "باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب" من كتاب الخمس. حديث ابن عمر، ذكر من ثلاثة طرق إلى عبيد الله بن عمر العمري عن نافع وسالم عنه، فأما الطريق الثالثة وهي طريق محمد بن عبيد عن عبد الله فتبين من الرواية الأولى وهي رواية أبي أسامة عن عبيد الله أن فيها إدراجا لأنه صرح في رواية أبي أسامة أن ذكر الثوم عن نافع وحده، وذكر الحمر عن سالم، واقتصر في الرواية الثانية وهي رواية عبد الله وهو ابن المبارك عن عبيد الله على ما ذكر نافع وحده مقتصرا في المتن على ذكر الحمر، فدل على أن ذكر الحمر والثوم معا عند نافع، وأن الذي عند سالم إنما هو ذكر الحمر خاصة دون ذكر الثوم، فأدرجهما محمد بن عبيد الله في روايته عن عبيد الله عنهما، هذا مقتضى ما في هذا الموضع وسيكون لنا عودة إليه في الذبائح، ونذكر هناك شرح الحديث إن شاء الله تعالى. ويستفاد من الجمع بين النهي عن أكل الثوم ولحوم الحمر جواز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، لأن أكل الحمر حرام وأكل الثوم مكروه، وقد جمع بينهما بلفظ النهي. فاستعمله في حقيقته وهو التحريم، وفي مجازه هو الكراهة. الحديث الخامس عشر حديث علي قوله: "ابني محمد" أي ابن علي بن أبي طالب. قوله: "عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الأنسية" في رواية أبي ذر عن السرخسي والمستملي: "حمر الأنسية" بغير ألف ولام في الحمر، قيل إن في الحديث تقديما وتأخيرا والصواب: نهى يوم خيبر على لحوم الحمر الأنسية وعن متعة

(7/482)


النساء، وليس يوم خيبر ظرفا لمتعة النساء لأنه لم يقع في غزوة خيبر تمتع بالنساء، وسيأتي بسط ذلك في مكانه من كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. حديث ابن عمر، ذكر من ثلاثة طرق إلى عبيد الله بن عمر العمري عن نافع وسالم عنه، فأما الطريق الثالثة وهي طريق محمد بن عبيد عن عبد الله فتبين من الرواية الأولى وهي رواية أبي أسامة عن عبيد الله أن فيها إدراجا لأنه صرح في رواية أبي أسامة أن ذكر الثوم عن نافع وحده، وذكر الحمر عن سالم، واقتصر في الرواية الثانية وهي رواية عبد الله وهو ابن المبارك عن عبيد الله على ما ذكر نافع وحده مقتصرا في المتن على ذكر الحمر، فدل على أن ذكر الحمر والثوم معا عند نافع، وأن الذي عند سالم إنما هو ذكر الحمر خاصة دون ذكر الثوم، فأدرجهما محمد بن عبيد الله في روايته عن عبيد الله عنهما، هذا مقتضى ما في هذا الموضع وسيكون لنا عودة إليه في الذبائح، ونذكر هناك شرح الحديث إن شاء الله تعالى. ويستفاد من الجمع بين النهي عن أكل الثوم ولحوم الحمر جواز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، لأن أكل الحمر حرام وأكل الثوم مكروه، وقد جمع بينهما بلفظ النهي. فاستعمله في حقيقته وهو التحريم، وفي مجازه هو الكراهة. حديث ابن عمر، ذكر من ثلاثة طرق إلى عبيد الله بن عمر العمري عن نافع وسالم عنه، فأما الطريق الثالثة وهي طريق محمد بن عبيد عن عبد الله فتبين من الرواية الأولى وهي رواية أبي أسامة عن عبيد الله أن فيها إدراجا لأنه صرح في رواية أبي أسامة أن ذكر الثوم عن نافع وحده، وذكر الحمر عن سالم، واقتصر في الرواية الثانية وهي رواية عبد الله وهو ابن المبارك عن عبيد الله على ما ذكر نافع وحده مقتصرا في المتن على ذكر الحمر، فدل على أن ذكر الحمر والثوم معا عند نافع، وأن الذي عند سالم إنما هو ذكر الحمر خاصة دون ذكر الثوم، فأدرجهما محمد بن عبيد الله في روايته عن عبيد الله عنهما، هذا مقتضى ما في هذا الموضع وسيكون لنا عودة إليه في الذبائح، ونذكر هناك شرح الحديث إن شاء الله تعالى. ويستفاد من الجمع بين النهي عن أكل الثوم ولحوم الحمر جواز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، لأن أكل الحمر حرام وأكل الثوم مكروه، وقد جمع بينهما بلفظ النهي. فاستعمله في حقيقته وهو التحريم، وفي مجازه هو الكراهة. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار ومحمد بن علي هو أبو جعفر الباقر بن زين العابدين بن الحسين بن علي. قوله: "عن لحوم الحمر" زاد الكشميهني: "الأهلية" وسيأتي شرحه في الذبائح إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا عباد" هو ابن العوام والشيباني سليمان بن فيروز. قوله: "أصابتنا مجاعة يوم خيبر، فإن القدور لتغلي" كذا وقع مختصرا وتمامه قد تقدم في فرض الخمس من وجه آخر عن الشيباني بلفظ: "فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها، فلما غلت القدور" الحديث، وقد ذكر الواقدي أن عدة الحمر التي ذبحوها كانت عشرين أو ثلاثين. كذا رواه بالشك. قوله: "وقال بعضهم: نهى عنها البتة لأنها كانت تأكل العذرة" تقدم في فرض الخمس أن بعض الصحابة قال: "نهى عنها البتة" وإن الشيباني قال: "لقيت سعيد بن جبير فقال: نهى عنها البتة" وزاد الإسماعيلي من رواية جرير عن الشيباني قال: "فلقيت سعيد بن جبير فسألته عن ذلك، وذكرت له ذلك فقال: نهى عنها البتة، لأنها كانت تأكل العذرة" وسيأتي شرح ذلك في كتاب الذبائح إن شاء الله تعالى. "تنبيه": قوله: "البتة" معناه القطع، وألفها ألف وصل، وجزم الكرماني بأنها ألف قطع على غير القياس، ولم أر ما قاله في كلام أحد من أهل اللغة، قال الجوهري الانبتات الانقطاع، ورجل منبت أي منقطع به، ويقال لا أفعله بتة ولا أفعله البتة لكل أمر لا رجعة فيه، ونصبه على المصدر انتهى. ورأيته في النسخ المعتمدة بألف وصل والله أعلم. حديث البراء وهو ابن عازب مقرونا بابن أبي أوفى، أخرجه من ثلاثة طرق: عن شعبة عاليتين ونازلة، والنكتة في إيراد النازلة بعد العالية أن في النازلة التصريح بسماع التابعي له من الصحابيين دون العالية فإنها بالعنعنة. قوله: "في الأولى واطبخوها" بتشديد الطاء المهملة أي عالجوا طبخها. قوله فيها "فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم" هو أبو طلحة كما تقدم. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن منصور، وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق: إسحاق بن راهويه فقال: "عن النضر - وهو ابن شميل - عن شعبة" فدل على أنه ليس شيخ البخاري فيه، وقد حققت في المقدمة أن إسحاق حيث أتى عن عبد الصمد فهو ابن منصور لا ابن راهويه. قوله فيها "أنه قال يوم خيبر وقد نصبوا القدور: أكفئوا القدور" أي أميلوها ليراق ما فيها. قوله في الثالثة "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، واقتصر في روايته على البراء، وقد بين الإسماعيلي الاختلاف فيه على شعبة وأن أكثر الرواة عنه جمعوا بينهما، ومنهم من أفرد أحدهما بالذكر، وإن الجري رواه عن شعبة فقال عن عدي عن ابن أوفى أو البراء بالشك. قوله: "نحوه" قد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق محمد بن يحيى الذهلي عن مسلم بن إبراهيم بلفظ: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر فأصبنا حمرا فطبخناها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أكفئوا القدور " ثم ساقه المصنف من وجه آخر عن البراء. قوله: "ابن أبي زائدة" هو يحيى بن زكريا، وعاصم هو الأحول، وعامر هو الشعبي. قوله: "نيئة ونضيجة" بالتنوين فيهما، ووقع في رواية بهاء الضمير فيها والنيء بكسر النون بعدها تحتانية ساكنة ثم همزة ضد النضيج. قوله: "ثم لم يأمرنا بأكله بعد" فيه إشارة إلى استمرار تحريمه، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الذبائح إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثني محمد بن أبي الحسين" كذا للجميع، وهو أبو جعفر محمد بن أبي الحسين جعفر السمناني بكسر المهملة وسكون الميم ونونين بيتهما ألف، كان

(7/483)


حافظا، وهو من أقران البخاري، وعاش بعده خمس سنين، وقد ذكر الكلاباذي ومن تبعه أن البخاري ما روى عنه غير هذا الحديث، لكن مقدم في العيدين حديث آخر قال البخاري فيه: "حدثتا محمد حدثنا عمر بن حفص بن غياث" فالذي يظهر أنه هذا، وقد روى البخاري الكثير عن عمر بن حفص بن غياث وأخرج عنه هنا بواسطة.
4228- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا قَالَ فَسَّرَهُ نَافِعٌ فَقَالَ إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ"
الحديث العشرون حديث ابن عمر في سهام الراجل والفارس، تقدم شرحه في الجهاد. والقائل "قال فسره نافع" هو عبيد الله بن عمر العمري الراوي عنه، وهو موصول بالإسناد المذكور إليه. وزائدة هو ابن قدامة، ومحمد بن سابق من شيوخ البخاري وربما حدث عنه بواسطة كما هنا، وشيخ البخاري الحسن بن إسحاق يقدم قريبا في عمرة الحديبية.
4229- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ قَالَ "مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا وَنَحْنُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْكَ فَقَالَ إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ قَالَ جُبَيْرٌ وَلَمْ يَقْسِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا"
الحديث الحادي والعشرون حديث جبير بن مطعم، تقدم شرحه في فرض الخمس، وقوله: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" كذا للأكثر بفتح الشين المعجمة وبالهمزة، وللمستملي هنا وحده بكسر المهملة وتشديد التحتانية. وقوله: "قال جبير: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس وبني نوفل شيئا" هو موصول بالإسناد المذكور.
4230- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أَبُو رُهْمٍ إِمَّا قَالَ بِضْعٌ وَإِمَّا قَالَ فِي ثَلاَثَةٍ وَخَمْسِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ وَكَانَ أُنَاسٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُونَ لَنَا يَعْنِي لِأَهْلِ السَّفِينَةِ سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ وَدَخَلَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَهِيَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَنَا عَلَى حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَةً وَقَدْ كَانَتْ هَاجَرَتْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِيمَنْ هَاجَرَ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى حَفْصَةَ وَأَسْمَاءُ عِنْدَهَا فَقَالَ عُمَرُ حِينَ رَأَى أَسْمَاءَ مَنْ هَذِهِ قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ قَالَ عُمَرُ الْحَبَشِيَّةُ هَذِهِ الْبَحْرِيَّةُ هَذِهِ قَالَتْ أَسْمَاءُ نَعَمْ قَالَ سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكُمْ فَغَضِبَتْ وَقَالَتْ كَلاَ وَاللَّهِ كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ

(7/484)


وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ وَكُنَّا فِي دَارِ -أَوْ فِي أَرْضِ- الْبُعَدَاءِ الْبُغَضَاءِ بِالْحَبَشَةِ وَذَلِكَ فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَايْمُ اللَّهِ لاَ أَطْعَمُ طَعَامًا وَلاَ أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَذْكُرَ مَا قُلْتَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ كُنَّا نُؤْذَى وَنُخَافُ وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْأَلُهُ وَاللَّهِ لاَ أَكْذِبُ وَلاَ أَزِيغُ وَلاَ أَزِيدُ عَلَيْهِ "
4231- "فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ عُمَرَ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَمَا قُلْتِ لَهُ قَالَتْ قُلْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا قَالَ لَيْسَ بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ وَلَهُ وَلِأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَكُمْ أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ قَالَتْ فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ يَأْتُونِي أَرْسَالًا يَسْأَلُونِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ مَا مِنْ الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ وَلاَ أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قَالَ أَبُو بُرْدَةَ "قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى وَإِنَّهُ لَيَسْتَعِيدُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنِّي"
4232- قَالَ أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لاَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ وَمِنْهُمْ حَكِيمٌ إِذَا لَقِيَ الْخَيْلَ أَوْ قَالَ الْعَدُوَّ قَالَ لَهُمْ إِنَّ أَصْحَابِي يَأْمُرُونَكُمْ أَنْ تَنْظُرُوهُمْ"
الحديث الثاني والعشرون حديث أبي موسى قوله: "بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه" ظاهره أنهم لم يبلغهم شأن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد الهجرة بمدة طويلة، وهذا إن كان أراد بالمخرج البعثة، وإن أراد الهجرة فيحتمل أن تكون بلغتهم الدعوة فأسلموا وأقاموا ببلادهم إلى أن عرفوا بالهجرة فعزموا عليها، وإنما تأخروا هذه المدة إما لعدم بلوغ الخبر إليهم بذلك، وإما لعلمهم بما كان المسلمون فيه من المحاربة مع الكفار، فلما بلغتهم المهادنة آمنوا وطلبوا الوصول إليه. وقد روى ابن منده من وجه آخر عن أبي بردة عن أبيه "خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جئنا مكة أنا وأخوك وأبو عامر بن قيس وأبو رهم ومحمد بن قيس وأبو بردة وخمسون من الأشعريين وستة من عك، ثم خرجنا في البحر حتى أتينا المدينة" وصححه ابن حبان من هذا الوجه، ويجمع بينه وبين ما في الصحيح أنهم مروا بمكة في حال مجيئهم إلى المدينة، ويجوز أن يكونوا دخلوا مكة لأن ذلك كان في الهدنة. قوله: "أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم" أما أبو بردة فاسمه عامر، وله حديث عند أحمد والحاكم من طريق كريب بن الحارث بن أبي موسى وهو ابن أخيه عنه، وأما أبو رهم فهو بضم الراء وسكون الهاء واسمه مجدي بفتح الميم وسكون الجيم وكسر المهملة وتشديد التحتانية قاله ابن عبد البر، وجزم ابن حبان في "الصحابة" بأن اسمه محمد، ويعكر عليه ما تقدم قبل من المغايرة بين أبي رهم ومحمد بن قيس وذكر ابن قانع أن جماعة من الأشعريين أخبروه وحققوا له وكتبوا خطوطهم أن اسم أبي رهم مجيلة بكسر الجيم بعدها تحتانية خفيفة ثم لام ثم هاء. قوله: "إما قال بضع وإما قال ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي" في رواية المستملي: "من قومه" وقد بين في الرواية التي قبل أنهم كانوا خمسين من الأشعريين وهم قومه، فلعل الزائد على ذلك هو وإخوته، فمن

(7/485)


قال اثنين أراد من ذكرهما في حديث الباب وهما أبو بردة وأبو رهم، ومن قال ثلاثة أو أكثر فعلى الخلاف في عدد من كان معه من إخوته. وأخرج البلاذري بسند له عن ابن عباس أنهم كانوا أربعين رجلا، والجمع بينه وبين ما قبله بالحمل على الأصول والاتباع، وأما ابن إسحاق فقال: كانوا ستة عشر رجلا وقيل أقل. قوله: "فوافقنا جعفر بن أبي طالب" أي بأرض الحبشة. قوله: "فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا" اختصر المصنف هنا شيئا ذكره في الخمس بهذا الإسناد وهو "فقال جعفر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا. فأقمنا معه". قوله: "حتى قدمنا جميعا" ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية إلى النجاشي أن يجهز إليه جعفر بن أبي طالب ومن معه فجهزهم وأكرمهم وقدم بهم عمرو بن أمية وهو بخيبر، وسمى ابن إسحاق من قدم مع جعفر فسرد أسماءهم وهم ستة عشر رجلا، فمنهم امرأته أسماء بنت عميس وخالد بن سعيد بن العاص وامرأته وأخوه عمرو بن سعيد ومعيقيب بن أبي فاطمة. قوله: "فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم" زاد في فرض الخمس "فأسهم لنا ولم يسهم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهدها معه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه فإنه قسم لهم معهم" وقد أخرجه الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي كريب شيخ البخاري فيه في هذا الموضع من هذا الحديث. ووقع عند البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يقسم لهم كلم المسلمين فأشركوهم. قوله: "وكان أناس" سمى منهم عمر كما سيأتي. قوله: "دخلت أسماء بنت عميس" هي زوج جعفر، وقوله: "وهي ممن قدم معنا" هو كلام أبي موسى. قوله: "على حفصة" زاد أبو يعلى "زوج النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "قال عمر آلحبشية هذه؟ البحيرية هذه؟" كذا لأبي ذر بالتصغير، ولغيره: "البحرية" بغير تصغير. وكذا في رواية أبي يعلى. ووقع في الموضعين بهمزة الاستفهام، ونسبها إلى الحبشة لسكناها فيهم، وإلى البحر لركوبها إياه. قوله: "وكنا في دار أو في أرض البعداء" هو شك من الراوي. قوله: "البعداء البغضاء" كذا للأكثر جمع بغيض وبعيد. وفي رواية أبي يعلى بالشك البعداء أو البغضاء، وللنسفي البعد بضمتين، وللقابسي البعد البعداء البغضاء جمع بينهما فلعله فسر الأولى بالثانية، وعند ابن سعيد من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي" فقالت: أي لعمري لقد صدقت، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعلم جاهلكم، وكنا البعداء والطرداء". قوله: "وذلك في الله وفي رسوله" أي لأجلهما. قوله: "وايم الله" بهمزة وصل، وفيها لغات تقدم ذكرها. قوله: "ولكم أنتم أهل السفينة" بنصب أهل على الاختصاص أو على النداء بحذف أداته، ويجوز الجر على البدل من الضمير. قوله: "هجرتان" زاد أبو يعلى "هاجرتم مرتين، هاجرتم إلى النجاشي وهاجرتم إلي" ولابن سعد بإسناد صحيح عن الشعبي قال: "قالت أسماء بنت عميس: يا رسول الله إن رجالا يفخرون علينا ويزعمون أنا لسنا من المهاجرين الأولين، فقال: بل لكم هجرتان، هاجرتم إلى أرض الحبشة، ثم هاجرتم بعد ذلك " ومن وجه آخر عن الشعبي نحوه وقال فيه: "كذب من يقول ذلك" ومن وجه آخر عنه قال يقول: "للناس هجرة واحدة" وظاهره تفضيلهم على غيرهم من المهاجرين، لكن لا يلزم منه تفضيلهم على الإطلاق، بل من الحيثية المذكورة. وهذا القدر المرفوع من الحديث ظاهر هذا السياق أنه من رواية أسماء بنت عميس، وقد تقدم في الهجرة بهذا الإسناد من رواية أبي موسى لا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، وكذلك أخرجه ابن حبان، ومن وجه آخر عن أبي بردة عن أبي موسى. قوله: "قالت" يعني أسماء بنت عميس، وهذا يحتمل أن يكون من رواية أبي موسى عنها فيكون من رواية صحابي عن مثله، ويحتمل أن يكون من رواية أبي بردة عنها ويؤيده قوله بعد هذا "قال أبو بردة قالت أسماء".

(7/486)


قوله: "يأتونني" في رواية الكشميهني: "يأتون" وقوله: "أرسالا" بفتح الهمزة أي أفواجا، أي يجيئون إليها ناسا بعد ناس. وفي رواية أبي يعلى "ولقد رأيت أبا موسى إنه ليستعيد مني هذا الحديث. قوله: "قال أبو بردة" هو موصول بالإسناد المذكور، وقد أفرده مسلم عن أبي كريب وساق الحديث الذي قبله إلى قوله: "وإنه ليستعيد هذا الحديث مني". قوله: "إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين" الرفقة الجماعة المترافقون، والراء مثلثة والأشهر ضمها. قوله: "حين يدخلون بالليل" بالدال والحاء المعجمة لجميع رواة البخاري ومسلم، وحكى عياض عن بعض رواة مسلم بالراء والحاء المهملة، وصوبها الدمياطي في البخاري، وهو عجيب منه فإن الرواية بالدال والمعجمة، والمعنى صحيح فلا معنى للتغيير، وقد نقل عياض عن بعض الناس اختيار الرواية التي بالراء والمهملة، قال النووي: والرواية الأولى صحيحة أو أصح، والمراد يدخلون منازلهم إذا خرجوا إلى المسجد أو إلى شغل ما ثم رجعوا. قوله: "بالقرآن" يتعلق بأصوات، وفيه أن رفع الصوت بالقرآن بالليل مستحسن لكن محله إذا لم يؤذ أحدا وأمن من الرياء. قوله: "ومنهم حكيم" قال عياض قال أبو علي الصدفي: هو صفة لرجل منهم. وقال أبو علي الجياني: هو اسم علم على رجل من الأشعريين، واستدركه على صاحب "الاستيعاب". قوله: "إذا لقي الخيل أو قال العدو" هو شك من الراوي. قوله: "قال لهما إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم" أي تنتظروهم من الانتظار ومعناه أنه لفرط شجاعته كان لا يفر من العدو بل يواجههم ويقول لهم إذا أرادوا الانصراف مثلا انتظروا الفرسان حتى يأتوكم، ليثبتهم على القتال وهذا بالنسبة إلى الشق الثاني وهو قوله: "أو قال العدو" وأما على الشق الأول وهو قوله: "إذا لقي الخيل" فيحتمل أن يريد بها خيل المسلمين، ويشير بذلك إلى أن أصحابه كانوا رجالة فكان هو يأمر الفرسان أن ينتظروهم ليسيروا إلى العدو جميعا، وهذا أشبه بالصواب. قال ابن التين: معنى كلامه أن أصحابه يحبون القتال في سبيل الله ولا يبالون بما يصيبهم.
4223- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ حَفْصَ بْنَ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ"قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَقَسَمَ لَنَا وَلَمْ يَقْسِمْ لِأَحَدٍ لَمْ يَشْهَدْ الْفَتْحَ غَيْرَنَا"
الحديث الرابع والعشرون قوله: "حدثنا إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه، وقوله: "سمع" أي أنه سمع. ويريد هو ابن عبد الله بن أبي بردة الأشعري. قوله: "قدمنا" أي هو وأصحابه مع جعفر ومن معه. قوله: "ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا" يعني الأشعريين ومن معهم، وجعفر ومن معه. وقد سبق في فرض الخمس من وجه آخر عن بريد بلفظ: "وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه لهم معهم" وقد تقدم شرحه هناك. ويعكر على هذا الحصر ما سيأتي في حديث أبي هريرة والذي بعده وسيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى.
4234- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ حَدَّثَنِي ثَوْرٌ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي الْقُرَى

(7/487)


وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ فَقَالَ هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ"
[الحديث 4234- طرفه في: 6707]
الحديث الخامس والعشرون قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي ومعاوية بن عمرو هو الأزدي وهو من شيوخ البخاري وربما روى عنه بواسطة كما هنا. قوله: "قال أبو إسحاق" هو إبراهيم بن مجمد بن الحارث الفزاري ووقع في مسند حديث مالك للنسائي من وجه آخر عن معاوية بن عمرو قال: "حدثنا أبو إسحاق" وأخرجه الدار قطني في "الموطآت" طريق المسيب بن واضح قال: "حدثنا أبو إسحاق الفزاري". قوله: "عن مالك" نزل البخاري في هذا الحديث درجتين لأنه أخرجه في الأيمان والنذور عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك وبينه وبين مالك في هذا الموضع ثلاثة رجال، قال ابن طاهر: والسر في ذلك أن في رواية أبي إسحاق الفزاري وحده عن مالك "حدثني ثور بن زيد" وفي رواية الباقين "عن ثور" وللبخاري حرص شديد على الإتيان بالطرق المصرحة بالتحديث انتهى. وثور بن زيد هو الديلي، مدني مشهور. وقد صرح في رواية أبي إسحاق هذه أيضا بقوله: "حدثني سالم أنه سمع أبا هريرة" وعنعن باقي الرواة عن مالك جميع الإسناد، وسالم مولى ابن مطيع يكني أبا الغيث وهو بها أشهر، وقد سمي هنا. فلا التفات لقول من قال إنه لا يوقف على اسمه صحيحا. وهو مدني لا يعرف اسم أبيه، وابن مطيع اسمه عبد الله وليس لسالم في الصحيح رواية عن غير أبي هريرة، له عنه تسعة أحاديث تقدم منها في الاستقراض وفي الوصايا وفي المناقب. قوله: "افتتحنا خيبر" في رواية عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي عن أبيه في الموطأ "حنين" بدل خيبر، وخالفه محمد بن وضاح عن يحيى بن يحيى فقال: "خيبر" مثل الجماعة، نبه عليه ابن عبد البر. ووقع في رواية إسماعيل المذكورة "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر" وهي رواية الموطأ أعني قوله: "خرجنا"، وأخرجها مسلم من طريق ابن وهب عن مالك، ومن طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ثور، فحكى الدار قطني عن موسى بن هارون أنه قال: وهم ثور في هذا الحديث، لأن أبا هريرة لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وإنما قدم بعد خروجهم، وقدم عليهم خيبر بعد أن فتحت. قال أبو مسعود: ويؤيده حديث عنبسة بن سعيد عن أبي هريرة قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعدما افتتحوها" قال ولكن لا يشك أحد أن أبا هريرة حضر قسمة الغنائم، فالغرض من الحديث قصة مدعم في غلول الشملة. قلت: وكأن محمد بن إسحاق صاحب المغازي استشعر بوهم ثور بن زيد في هذه اللفظة فروى الحديث عنه بدونها، أخرجه ابن حبان والحاكم وابن منده من طريقه بلفظ: "انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى" ورواية أبي إسحاق الفزاري التي في هذا الباب من هذا الاعتراض بأن يحمل قوله: "افتتحنا" أي المسلمون، وقد تقدم نظير ذلك قريبا. وروى البيهقي في "الدلائل" من وجه آخر عن أبي هريرة قال: "خرجنا مع

(7/488)


النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى" فلعل هذا أصل الحديث، وحديث قدوم أبي هريرة المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من طريق خثيم بن عراك بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة قال: "قدمت المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وقد استخلف سباع بن عرفطة" فذكر الحديث وفيه: "فزودونا شيئا حتى أتينا خيبر وقد افتتحها النبي، فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم" ويجمع بين هذا وبين الحصر الذي في حديث أبي موسى الذي قبله أن أبا موسى أراد أنه لم يسهم لأحد لم يشهد الوقعة من غير استرضاء أحد من الغانمين إلا لأصحاب السفينة، وأما أبو هريرة وأصحابه فلم يعطهم إلا عن طيب خواطر المسلمين، والله أعلم. وسأذكر رواية عنبسة بن سعيد التي أشار إليها أبو مسعود وبيان ما فيها بعد هذا الحديث إن شاء الله تعالى. قوله: "إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط" في رواية مسلم: "غنمنا المتاع والطعام والثياب" وعند رواة الموطأ "إلا الأموال والثياب والمتاع" وعند يحيى بن يحيى الليثي وحده "إلا الأموال والثياب" والأول هو المحفوظ، ومقتضاه أن الثياب والمتاع لا تسمى مالا، وقد نقل ثعلب عن ابن الأعرابي عن المفضل الضبي قال: المال عند العرب الصامت والناطق، فالصامت الذهب والفضة والجوهر والناطق البعير والبقرة والشاة، فإذا قلت عن حضري كثر ماله فالمراد الصامت، وإذا قلت عن بدوي فالمراد الناطق انتهى. وقد أطلق أبو قتادة على البستان مالا فقال في قصة السلب الذي تنازع فيه هو والقرشي في غزوة حنين" فابتعت به مخرفا، فإنه لأول مال تأثلته" فالذي يظهر أن المال ما له قيمة، لكن قد يغلب على قوم تخصيصه بشيء كما حكاه المفضل فتحمل الأموال على المواشي والحوائط التي ذكرت في رواية الباب ولا يراد بها النقود لأنه نفاها أولا. قوله: "إلى وادي القرى" تقدم ضبطه في البيوع. قوله: "عبد له" في رواية الموطأ "عبد أسود". قوله: "مدعم" بكسر الميم وسكون المهملة وفتح العين المهملة. قوله: "أهداه له أحد بني الضباب" كذا في رواية أبي إسحاق بكسر الضاد المعجمة وموحدتين الأولى خفيفة بينهما ألف بلفظ جمع الضب وفي رواية مسلم أهداه له رفاعة بن زيد أحد بني الضبيب بضم أوله بصيغة التصغير. وفي رواية أبي إسحاق رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضبني بضم المعجمة وفتح الموحدة بعدها نون، وقيل: بفتح المعجمة وكسر الموحدة نسبة إلى بطن من جذام، قال الواقدي: كان رفاعة قد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من قومه قبل خروجه إلى خيبر فأسلموا وعقد له على قومه. قوله: "فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد البيهقي في الرواية المذكورة "وقد استقبلتنا يهود بالرمي ولم نكن على تعبية". قوله: "سهم عائر" بعين مهملة بوزن فاعل أي لا يدري من رمى به، وقيل هو الحائد عن قصده. قوله: "بل والذي نفسي بيده" في رواية الكشميهني: "بلى" وهو تصحيف وفي رواية مسلم: "كلا" وهو رواية الموطأ: قوله: "لتشتغل عليه نارا" يحتمل أن يكون ذلك حقيقة بأن تصير الشملة نفسها نارا فيعذب بها، ويحتمل أن يكون المراد أنها سبب لعذاب النار، وكذا القول في الشراك الآتي ذكره. قوله: "فجاء رجل" لم أقف على اسمه. قوله: "بشراك أو بشراكين" الشراك بسكر المعجمة وتخفيف الراء: سير النعل على ظهر القدم، وفي الحديث تعظيم أمر الغلول، وقد مر شرح ذلك واضحا في أواخر كتاب الجهاد في "باب القليل من الغلول" في الكلام على حديث عبد الله بن عمرو قال: "كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو في النار في عباءة غلها" وكلام عياض يشعر بأن قصته مع قصة مدعم متحدة، والذي يظهر من عدة أوجه تغايرهما. نعم عند مسلم من حديث عمر" لما كان يوم خيبر قالوا فلان شهيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلا إني

(7/489)


رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة" فهذا يمكن تفسيره بكركرة، بخلاف قصة مدعم فإنها كانت بوادي القرى، ومات بسهم عائر، وغل شملة. والذي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم كركرة هوذة بن علي، بخلاف مدعم فأهداه رفاعة فافترقا، والله أعلم. وذكر البيهقي في روايته أنه صلى الله عليه وسلم: "حاصر أهل وادي القرى حتى فتحها، وبلغ ذلك أهل تيماء فصالحوه" وفي الحديث قبول الإمام الهدية، فإن كان لأمر يختص به في نفسه أن لو كان غير وال فله التصرف فيها بما أراد، وإلا فلا يتصرف فيها إلا للمسلمين، وعلى هذا التفصيل يحمل حديث: "هدايا الأمراء غلول" فيخص بمن أخذها فاستبد بها، وخالف في ذلك بعض الحنفية فقال: له الاستبداد مطلقا بدليل أنه لو ردها على مهديها لجاز، فلو كانت فيئا للمسلمين لما ردها، وفي هذا الاحتجاج نطر لا يخفي، وقد تقدم شيء من هذا في أواخر الهبة.
4235- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنْ أَتْرُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَّانًا لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مَا فُتِحَتْ عَلَيَّ قَرْيَةٌ إِلاَّ قَسَمْتُهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَلَكِنِّي أَتْرُكُهَا خِزَانَةً لَهُمْ يَقْتَسِمُونَهَا"
4236- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَوْلاَ آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ قَرْيَةٌ إِلاَّ قَسَمْتُهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ"
الحديث السادس والعشرون حديث عمر ذكره من طريقين قوله: "أخبرنا محمد بن جعفر" أي ابن أبي كثير. قوله: "أخبرني زيد" هو ابن أسلم مولى عمر. قوله: "لولا أن أترك آخر الناس ببانا" كذا للأكثر بموحدتين مفتوحتين الثانية ثقيلة وبعد الألف نون، قال أبو عبيدة بعد أن أخرجه عن ابن مهدي قال ابن مهدي يعني شيئا واحدا، قال الخطابي ولا أحسب هذه اللفظة عربية ولم أسمعها في غير هذا الحديث. وقال الأزهري: بل هي لغة صحيحة، لكنها غير فاشية في لغة معد، وقد صححها صاحب العين وقال: ضوعفت حروفه. وقال: الببان المعدم الذي لا شيء له، ويقال هم على ببان واحد أي على طريقة واحدة. وقال ابن فارس: يقال هم ببان واحد أي شيء واحد. قال الطبري: الببان في المعدم الذي لا شيء له، فالمعنى لولا أن أتركهم فقراء معدمين لا شيء لهم أي متساوين في الفقر. وقال أبو سعيد الضرير فيما تعقبه على أبي عبيد: صوابه بيانا بالموحدة ثم تحتانية بدل الموحدة الثانية، أي شيئا واحدا، فإنهم قالوا لمن لا يعرف: هو هيان بن بيان. قلت: وقد وقع من عمر ذكر هذه الكلمة في قصة أخرى وهو أنه كان يفضل في القسمة فقال: "لئن عشت لأجعلن الناس ببابا واحدا". ذكره الجوهري. وهو مما يؤيد تفسيرها بالتسوية. وروى الدار قطني في" غرائب مالك" من طريق معن بن عيسى عن مالك بسند حديث الباب عن عمر قال: "لئن بقيت إلى الحول لألحقن أسفل الناس بأعلاهم" وقد قدمت ذلك في "باب الغنيمة لمن شهد الوقعة" من كتاب الجهاد. "تنبيه": نقل صاحب "المطالع" عن أهل العربية أنه لم يلتق حرفان من جنس واحد في اللسان العربي، وتعقب بأن ذلك لا يعرف عن أحد من النحويين ولا اللغة، وقد ذكر سيبويه الببر بموحدة مفتوحة ثم ساكنة وهي دابة تعادي الأسد. وفي الأعلام "ببة" بموحدتين الثانية ثقيلة لقب عبد الله بن الحارث الهاشمي أمير الكوفة. قوله: "ولكني أتركها لهم خزانة يقسمونها" أي يقتسمون خراجها. قوله: "حدثنا

(7/490)


ابن مهدي عن مالك عن زيد بن أسلم" ووقع في "غرائب أبي عبيد" عن ابن مهدي عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، فهو محمول على أن لعبد الرحمن بن مهدي فيه شيخين، لأنه ليس في رواية مالك قوله: "ببانا" وهو في رواية هشام بن سعد المذكورة كما وقع في رواية محمد بن جعفر بن أبي كثير.
4237- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ وَسَأَلَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ أَخْبَرَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ قَالَ لَهُ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ لاَ تُعْطِهِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ فَقَالَ وَا عَجَبَاهْ لِوَبْرٍ تَدَلَّى مِنْ قَدُومِ الضَّأْنِ" 4238- وَيُذْكَرُ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُخْبِرُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ قَالَ "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَانَ عَلَى سَرِيَّةٍ مِنْ الْمَدِينَةِ قِبَلَ نَجْدٍ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَدِمَ أَبَانُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحَهَا وَإِنَّ حُزْمَ خَيْلِهِمْ لَلِيفٌ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَقْسِمْ لَهُمْ قَالَ أَبَانُ وَأَنْتَ بِهَذَا يَا وَبْرُ تَحَدَّرَ مِنْ رَأْسِ ضَأْنٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَانُ اجْلِسْ فَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ"
4239- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَدِّي "أَنَّ أَبَانَ بْنَ سَعِيدٍ أَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ وَقَالَ أَبَانُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَاعَجَبًا لَكَ وَبْرٌ تَدَأْدَأَ مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ يَنْعَى عَلَيَّ امْرَأً أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِيَدِي وَمَنَعَهُ أَنْ يُهِينَنِي بِيَدِهِ"
الحديث السابع والعشرون حديث أبي هريرة قوله: "سمعت الزهري وسأله إسماعيل بن أمية" أي ابن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي، والجملة حالية. قوله: "قال أخبرني" قائل ذلك هو الزهري، وعنبسة بن سعيد أي ابن العاص وهو عم والد إسماعيل بن أمية. قوله: "أن أبا هريرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله" هذا السياق صورته مرسل، وقد تقدم من وجه آخر مصرحا فيه بالاتصال في أوائل الجهاد، وفيه بيان اسم المبهم هنا في قوله: "قال بعض بني سعيد" وبيان المراد بقوله ابن قوقل وشرح ما فيه. قوله: "فسأله" أي سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه من غنائم خيبر. وفي رواية الحميدي عن سفيان في الجهاد" فقلت يا رسول الله أسهم لي". قوله: "قال له بعض بني سعيد بن العاص لا تعطه" القائل هو أبان بن سعيد كما في الرواية التي بعده. قوله: "واعجباه" في رواية السعيدي التي بعد هذه واعجبا لك" وهو بالتنوين اسم فعل بمعنى أعجب و" وا" مثل واها، واعجبا للتوكيد وبغير التنوين بمعنى وأعجبي فأبدلت الكسرة فتحة كقوله يا أسفي، وفيه شاهد على استعمال "وا" في منادي غير مندوب كما هو رأي المبرد واختيار ابن مالك. قوله: "لوبر تدلي من قدوم الضأن" كذا اختصره، وقد مضى في الجهاد من رواية الحميدي عن سفيان أتم منه، وسيأتي شرحه في الذي بعده. قوله: "ويذكر عن الزبيدي" أي محمد بن الوليد، وطريقه هذه وصلها أبو داود من طريق إسماعيل بن عياش عنه، ووصلها أيضا أبو نعيم في "المستخرج" من طريق إسماعيل أيضا ومن طريق عبد الله بن سالم كلاهما عن الحميدي. قوله: "يخبر سعيد بن العاص" أي ابن أمية، وكان سعيد بن العاص تأمر على المدينة من قبل معاوية في ذلك الزمان. قوله: "قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبان على سرية من المدينة قبل نجد" لم أعرف حال هذه

(7/491)


السرية، وأما أبان فهو ابن سعيد بن العاص بن أمية، وهو عم سعيد بن العاص الذي حدثه أبو هريرة، وكان إسلام أبان بعد غزوة الحديبية، وقد ذكرنا أولا في قصة الحديبية في الشروط وغيرها أن أبان هذا أجار عثمان بن عفان في الحديبية حتى دخل مكة وبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم في هذه الغزوة أن غزوة خيبر كانت عقب الرجوع من الحديبية، فيشعر ذلك بأن أبان أسلم عقب الحديبية حتى أمكن أن يبعثه النبي في سرية، وقد ذكر الهيثم بن علي في الأخبار سبب إسلام أبان، فروى من طريق سعيد بن العاص قال: "قتل أبي يوم بدر،. فرباني عمي أبان، وكان شديدا على النبي صلى الله عليه وسلم يسبه إذا ذكر، فخرج إلى الشام فرجع فلم يسبه، فسئل عن ذلك، فذكر أنه لقي راهبا فأخبره بصفته ونعته، فوقع في قلبه تصديقه، فلم يلبث أن خرج إلى المدينة فأسلم" فإن كان هذا ثابتا احتمل أن يكون خروج أبان إلى الشام كان قبل الحديبية. قوله: "وإن حزم" بمهملة وزاي مضمومتين. قوله: "لليف" بلام التأكيد، والليف معروف. وفي رواية الكشميهني الليف على أنه خبر إن بغير تأكيد. قوله: "وأنت بهذا" أي وأنت تقول بهذا، أو وأنت بهذا المكان والمنزلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كونك لست من أهله ولا من قومه ولا من بلاده. قوله: "يا وبر" بفتح الواو وسكون الموحدة دابة صغيرة كالسنور وحشية، ونقل أبو علي القالي عن أبي حاتم أن بعض العرب يسمي كل دابة من حشرات الجبال وبرا، قال الخطابي: أراد أبان تحقير أبي هريرة، وأنه ليس في قدر من يشير بعطاء ولا منع، وأنه قليل القدرة على القتال انتهى. ونقل ابن التين عن أبي الحسن القابسي أنه قال: معناه أنه ملصق في قريش لأنه شبهه بالذي يعلق بوبر الشاة من الشوك وغيره. وتعقبه ابن التين بأنه يلزم من ذلك أن تكون الرواية: "وبر" بالتحريك. قال: ولم يضبط إلا بالسكون. قوله: "تحدر" في الرواية الأولى "تدلي" وهي بمعناها، وفي الرواية التي بعدها، "تدأدأ" بمهملتين بينهما همزة ساكنة، قيل: أصله تدهدأ فأبدلت الهاء همزة، وقيل: الدأدأة صوت الحجارة في المسيل، ووقع في رواية المستملي: "تدأرأ" براء بدل الدال الثانية. وفي رواية أبي زيد المروزي "تردى" وهي بمعنى تحدر وتدلي، كأنه يقول: تهجم علينا بغتة. قوله: "من رأس ضال" كذا في هذه الرواية باللام، وفي التي قبلها بالنون، وقد فسر البخاري في رواية المستملي الضال باللام فقال هو السدر البري، وكذا قال أهل اللغة إنه السدر البري، ووقع في نسخة الصغاني "الضال سدرة البر" وتقدم كلام ابن دقيق العيد في ذلك في أوائل الجهاد وأنه السدر البري، وأما قدوم فبفتح القاف للأكثر أي طرف، ووقع في رواية الأصيلي بضم القاف، وأما الضان فقيل هو رأس الجبل لأنه في الغالب موضع مرعي الغنم، وقيل: هو بغير همز، وهو جبل لدوس قوم أبي هريرة. قوله: "ينعى" بفتح أوله وسكون النون بعدها عين مهملة مفتوحة أي يعيب على، يقال نعى فلان على فلان أمرا إذا عابه ووبخه عليه. وفي رواية أبي داود عن حامد بن يحيى عن سفيان "يعيرني". قوله: "ومنعه أن يهني" بالتشديد أصله يهينني فأدغمت إحدى النونين في الأخرى، ووقع في الرواية الأخيرة "ومنعه أن يهينني بيده" وقد تقدم بقية شرحه في الجهاد، قيل: وقع في إحدى الطريقين ما يدخل فيه قسم المقلوب، فإن في رواية أبي عيينة أن أبا هريرة هو السائل أن يقسم له، وأن أبان هو الذي أشار بمنعه. وفي رواية الزبيدي أن أبان هو الذي سأل، وأن أبا هريرة هو الذي أشار بمنعه، وقد رجح الذهلي رواية الزبيدي. ويؤيد ذلك وقوع التصريح في روايته بقول النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبان أجلس" ولم يقسم لهم، ويحتمل أن يجمع بينهما بأن يكون كل من أبان وأبي هريرة أشار أن لا يقسم للآخر، ويدل عليه أن أبا هريرة احتج على أبان بأنه

(7/492)


قاتل ابن قوقل، وأبان احتج على أبي هريرة بأنه ليس ممن له في الحرب يد يستحق بها النفل فلا يكون فيه قلب، وقد سلمت رواية السعيدي من هذا الاختلاف، فإنه لم يتعرض في حديثه لسؤال القسمة أصلا.
والله أعلم.
4241,4240- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكٍ وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَالِ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ مِنْهَا شَيْئًا فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ فَهَجَرَتْهُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ لَيْلًا وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ وَصَلَّى عَلَيْهَا وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنْ النَّاسِ وَجْهٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ يُبَايِعُ تِلْكَ الأَشْهُرَ فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ ائْتِنَا وَلاَ يَأْتِنَا أَحَدٌ مَعَكَ كَرَاهِيَةً لِمَحْضَرِ عُمَرَ فَقَالَ عُمَرُ لاَ وَاللَّهِ لاَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا عَسَيْتَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُمْ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ فَقَالَ إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالأَمْرِ وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبًا حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَمْوَالِ فَلَمْ آلُ فِيهَا عَنْ الْخَيْرِ وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلاَّ صَنَعْتُهُ فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَشَهَّدَ وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنْ الْبَيْعَةِ وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ وَحَدَّثَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَلاَ إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِي هَذَا الأَمْرِ نَصِيبًا فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا أَصَبْتَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا حِينَ رَاجَعَ الأَمْرَ الْمَعْرُوفَ"
الحديث الثامن والعشرون حديث عائشة "إن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها" تقدم شرحه في فرض الخمس، وفي هذه الطريق زيادة لم تذكر هناك فتشرح. قوله: "وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر" هذا هو الصحيح في بقائها بعده، وروى ابن سعد من وجهين أنها عاشت بعده ثلاثة أشهر ونقل عن الواقدي، وأن ستة أشهر هو

(7/493)


الثبت، وقيل: عاشت بعده سبعين يوما، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: شهرين جاء ذلك عن عائشة أيضا. وأشار البيهقي إلى أن في قوله: "وعاشت إلخ" إدراجا، وذلك أنه وقع عند مسلم من طريق أخرى عن الزهري فذكر الحديث وقال في آخره: "قلت للزهري: كم عاشت فاطمة بعده: قال: ستة أشهر" وعزا هذه الرواية لمسلم، ولم يقع عند مسلم هكذا بل فيه كما عند البخاري موصولا. والله أعلم. قوله: "دفنها زوجها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر" روى ابن سعد من طريق عمرة بنت عبد الرحمن أن العباس صلى عليها، ومن عدة طرق أنها دفنت ليلا، وكان ذلك بوصية منها لإرادة الزيادة في التستر، ولعله لم يعلم أبا بكر بموتها لأنه ظن أن ذلك لا يخفى عنه، وليس في الخبر ما يدل على أن أبا بكر لم يعلم بموتها ولا صلى عليها، وأما الحديث الذي أخرجه مسلم والنسائي وأبو داود من حديث جابر في النهي عن الدفن ليلا فهو محمول على حال الاختيار لأنه في بعضه "إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك". قوله: "وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة" أي كان الناس يحترمونه إكراما لفاطمة، فلما ماتت واستمر على عدم الحضور عند أبي بكر قصر الناس عن ذلك الاحترام لإرادة دخوله فيما دخل فيه الناس، ولذلك قالت عائشة في آخر الحديث: "لما جاء وبايع كان الناس قريبا إليه حين راجع الأمر بالمعروف" وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلف عن أبي بكر في مدة حياة فاطمة لشغله بها وتمريضها وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم لأنها لما غضبت من رد أبي بكر عليها فيما سألته من الميراث رأى علي أن يوافقها في الانقطاع عنه. قوله: "فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر" أي في حياة فاطمة. قال المازري: العذر لعلي في تخلفه مع ما اعتذر هو به أنه يكفي في بيعة الإمام أن يقع من أهل الحل والعقد ولا يجب الاستيعاب، ولا يلزم كل أحد أن يحضر عنده ويضع يده في يده، بل يكفي التزام طاعته والانقياد له بأن لا يخالفه ولا يشق العصا عليه، وهذا كان حال علي لم يقع منه إلا التأخر عن الحضور عند أبي بكر، وقد ذكرت سبب ذلك. قوله: "كراهيه ليحضر عمر" في رواية الأكثر "لمحضر عمر" والسبب في ذلك ما ألفوه من قوة عمر وصلابته في القول والفعل، وكان أبو بكر رقيقا لينا، فكأنهم خشوا من حضور عمر كثرة المعاتبة التي قد تفضي إلى خلاف ما قصدوه من المصافاة. قوله: "لا تدخل عليهم" أي لئلا يتركوا من تعظيمك ما يجب لك. قوله: "وما عسيتهم أن يفعلوا بي" قال ابن مالك: في هذا شاهد على صحة تضمين بعض الأفعال معنى فعل آخر وإجرائه مجراه في التعدية، فإن عسيت في هذا الكلام بمعنى حسبت وأجريت مجراها فنصبت ضمير الغائبين على أنه مفعول ثان، وكان حقه أن يكون عاريا من "أن" لكن جيء بها لئلا تخرج" عسى" عن مقتضاها بالكلية. وأيضا فإن "أن" قد تسد بصلتها مسد مفعولي حسبت، فلا يستبعد مجيئها بعد المفعول الأولى بدلا منه. قال: ويجوز حمل "ما عسيتهم" حرف خطاب والهاء والميم اسم عسى، والتقدير ما عساهم أن يفعلوا بي، وهو وجه حسن. قوله: "ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك" بفتح الفاء من ننفس أي لم نحسدك على الخلافة، يقال نفست بكسر الفاء أنفس بالفتح نفاسة، وقوله: "استبددت" في رواية غير أبي ذر "واستبدت" بدال واحدة وهو بمعناه وأسقطت الثانية تخفيفا كقوله: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أصله ظللتم، أي لم تشاورنا، والمراد بالأمر الخلافة. قوله: "وكنا نرى" بضم أوله ويجوز الفتح. قوله: "لقرابتنا" أي لأجل قرابتنا "من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبا" أي لنا في هذا الأمر. قوله: "حتى فاضت" أي لم يزل علي يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فاضت عينا أبي بكر من الرقة. قال المازري: ولعل عليا أشار إلى أن أبا بكر استبد عليه

(7/494)


بأمور عظام كان مثله عليه أن يحضره فيها ويشاوره، أو أنه أشار إلى أنه لم يستشره في عقد الخلافة له أولا، والعذر لأبي بكر أنه خشي من التأخر عن البيعة الاختلاف لما كان وقع من الأنصار كما تقدم في حديث السقيفة فلم ينتظروه. قوله: "شجر بيني وبينكم" أي وقع من الاختلاف والتنازع. قوله: "من هذه الأموال" أي التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم من أرض خيبر وغيرها. قوله: "فلم آل" أي لم أقصر. قوله: "موعدك العشية" بالفتح ويجوز الضم أي بعد الزوال. قوله: "رقي المنبر" بكسر القاف بعدها تحتانية أي علا، وحكى ابن التين أنه رآه في نسخة بفتح القاف بعدها ألف وهو تحريف. قوله: "وعذره" بفتح العين والذال على أنه فعل ماض، ولغير أبي ذر بضم العين وإسكان الذال عطفا على مفعول وذكر. قوله: "وتشهد علي فعظم حق أبي بكر" زاد مسلم في روايته من طريق معمر عن الزهري" وذكر فضيلته وسابقيته، ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه". قوله: "وكان المسلمون إلى علي قريبا" أي كان ودهم له قريبا "حين راجع الأمر بالمعروف "أي من الدخول فيما دخل فيه الناس. قال القرطبي: من تأمل ما دار بين أبي بكر وعلي من المعاتبة ومن الاعتذار وما تضمن ذلك من الإنصاف عرف أن بعضهم كان يعترف بفضل الأخر، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحيانا لكن الديانة ترد ذلك والله الموفق. وقد تمسك الرافضة بتأخر علي عن بيعة أبي بكر إلى أن ماتت فاطمة، وهذيانهم في ذلك مشهور. وفي هذا الحديث ما يدفع في حجتهم، وقد صحح ابن حبان وغيره من حديث أبي سعيد الخدري وغيره أن عليا بايع أبا بكر في أول الأمر، وأما ما وقع في مسلم: "عن الزهري أن رجلا قال له لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة، قال: لا ولا أحد من بني هاشم" فقد ضعفه البيهقي بأن الزهري لم يسنده، وأن الرواية الموصولة عن أبي سعيد أصح، وجمع غيره بأنه بياعه بيعة ثانية مؤكدة للأولى لإزالة ما كان وقع بسبب الميراث كما تقدم، وعلى هذا فيحمل قول الزهري لم يبايعه علي في تلك الأيام على إرادة الملازمة له والحضور عنده وما أشبه ذلك، فإن في انقطاع مثله عن مثله ما يوهم من لا يعرف باطن الأمر أنه بسبب عدم الرضا مخلافته فأطلق من أطلق ذلك، وبسبب ذلك أظهر علي المبايعة التي بعد موت فاطمة عليها السلام لإزالة هذه الشبهة.
4243- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُمَارَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ قُلْنَا الْآنَ نَشْبَعُ مِنْ التَّمْرِ"
4243- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ حَبِيبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "مَا شَبِعْنَا حَتَّى فَتَحْنَا خَيْبَرَ"
الحديث التاسع والعشرون قوله: "حدثني حرمي" بفتح المهملة والراء وكسر الميم بعدها تحتانية ثقيلة اسم بلفظ النسب، وهو ابن عمارة شيخ شيخه وعمارة هو ابن أبي حفصة وعكرمة هو مولى ابن عباس، وليس لعكرمة عن عائشة في البخاري غير هذا الحديث، وآخر سبق في الطهارة، وثالث يأتي في اللباس. قوله: "قلنا الآن نشبع من التمر" أي لكثرة ما فيها من النخيل، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا قبل فتحها في قلة من العيش. قوله: "حدثنا الحسن" هو ابن محمد بن الصباح الزعفراني، وقع منسوبا في رواية أبي علي بن السكن. وقال الكلاباذي: يقال إنه الزعفراني، وأما الحاكم فقال: هو الحسن بن شجاع، يعني البلخي أحد الحفاظ، وهو من أقران البخاري، ومات

(7/495)


قبله باثنتي عشرة سنة وهو شاب، وسيأتي في تفسير سورة الزمر حديث آخر عن الحسن غير منسوب فقيل أيضا إنه هو، وقرة بن حبيب أي أبي يزيد القنوي بفتح القاف والنون الخفيفة نسبة إلى بيع القنا وهي الرماح، وكذا يقال له أيضا الرماح، وهو قشيري النسب بصري، أصله من نيسابور، وقد لقيه البخاري وحدث عنه في الأدب المفرد، وليس له في الصحيح سوى هذا الموضع ومات سنة أربع وعشرين ومائتين. قوله: "ما شبعنا حتى فتحنا خيبر" يؤيد حديث عائشة الذي قبله.

(7/496)


39 - باب اسْتِعْمَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ
4245,4244- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ فَقَالَ لاَ تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا "
4247,4246- وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنْ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ مِنْ الأَنْصَارِ إِلَى خَيْبَرَ فَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا"
وَعَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ...... مِثْلَهُ
قوله: "باب استعمال النبي صلى الله عليه وسلم على أهل خيبر" أي بعد فتحها لتنمية الثمار. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وسبق الحديث وشرحه في أواخر البيوع. قوله: "وقال عبد العزيز بن محمد" هو الدراوردي، وقد وصله أبو عوانة والدار قطني من طريقه. قوله: "عن عبد المجيد" هو ابن سهل شيخ مالك فيه. قوله: "عن سعيد" هو ابن المسيب. قوله: "بعث أخا بني عدي من الأنصار" في رواية أبي عوانة والدار قطني "سواد بن غزية" وهو من بني عدي بن النجار، وسواد بتخفيف الواو، وشذ السهيلي فشددها، ولعله اعتمد على بعض ما في نسخ الدار قطني سوار آخره راء، لكن ذكر أبو عمر أنها تصحيف. وروى الخطيب من وجه آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل على خيبر فلان ابن صعصعة فلعلها قصة أخرى. قوله: "وعن عبد المجيد" هو معطوف على الذي قبله، وهو عن عبد العزيز الدراوردي عن عبد المجيد، فلعبد المجيد فيه شيخان والله أعلم.

(7/496)


40 - باب مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ
4248- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال "أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر لليهود أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها"
قوله: "باب معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر" ذكر فيه حديث ابن عمر مختصرا وقد تقدم في المزارعة مع شرحه واضحا.

(7/496)


41 - باب الشَّاةِ الَّتِي سُمَّتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ
رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4249- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ"
قوله: "باب الشاة التي سمت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر" أي جعل فيها السم، والسم مثلث السين. قوله: "رواه عروة عن عائشة" لعله يشير إلى الحديث الذي ذكره في الوفاة النبوية من هذا الوجه معلقا أيضا، وسيأتي ذكره هناك. قوله: "حدثني سعيد" هو ابن سعيد المقبري. قوله: "لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم" هكذا أورده مختصرا، وقد سبق مطولا في أواخر الجزية فذكر هذا الطرف وراد" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا لي من كان ها هنا من يهود" فذكر الحديث. وسيأتي شرح ما يتعلق بذلك في كتاب الطب. قال أبي إسحاق: لما اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مشوية، وكانت سألت: أي عضو من الشاة أحب إليه؟ قيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم، فلما تناول الذراع لاك منها مضغه ولم يسغها، وأكل معه بشر بن البراء فأساغ لقمته، فذكر القصة، وأنه صفح عنها، وأن بشر بن البراء مات منها. وروى البيهقي من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة "أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فأكل، فقال لأصحابه: أمسكوا فإنها مسمومة . وقال لها: ما حملك على ذلك؟ قالت. أردت إن كنت نبيا فيطلعك الله، وإن كنت كاذبا فأريح الناس منك، قال فما عرض لها" ومن طريق أبي نضرة عن جابر نحوه فقال: "فلما يعاقبها" وروى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري عن أبي بن كعب مثله وزاد: "فاحتجم على الكاهل" قال قال الزهري. "فأسلمت فتركها" قال معمر: والناس يقولون قتلها. وأخرج ابن سعد عن شيخه الواقدي بأسانيد متعددة له هذه القصة مطولة وفي آخره: "قال فدفعها إلى ولاة بشر بن البراء فقتلوها" قال الواقدي: وهو الثبت. وأخرج أبو داود من طريق يونس عن الزهري عن جابر نحو رواية معمر عنه، وهذا منقطع لأن الزهري لم يسمع من جابر، ومن طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة نحوه مرسلا. قال البيهقي: وصله حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال البيهقي. يحتمل أن يكون تركها أولا ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة قتلها، وبذلك أجاب السهيلي وزاد: أنه كان تركها لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها يبشر قصاصا. قلت: ويحتمل أن يكون تركها لكونها أسلمت، وإنما أخر قتلها حتى مات بشر لأن بموته تحقق وجوب القصاص بشرطه. ووافق موسى بن عقبة على تسميتها زينب بنت الحارث. وأخرج الواقدي بسند له عن الزهري "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ما حملك على ما فعلت؟ قالت: قتلت أبي وعمي وزوجي وأخي". قال فسألت إبراهيم بن جعفر فقال: عمها يسار وكان من أجبن1 الناس، وهو الذي أنزل من الرف. وأخوها زبير، وزوجها سلام بن مشكم. ووقع في سنن أبي داود "أخت مرحب" وبه جزم السهيلي. وعند البيهقي في الدلائل "بنت أخي مرحب" ولم ينفرد الزهري بدعواه أنها أسلمت، فقد جزم بذلك سليمان التيمي في مغازيه ولفظه بعد قولها وإن كنت كاذبا أرحت الناس منك، وقد استبان لي الآن أنك صادق، وأنا أشهدك ومن حضر أني على دينك، وأن
ـــــــ
1 في هامش طبعة بولاق: في نسخة "أخبث"

(7/497)


لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله قال فانصرف عنها حين أسلمت. وقد اشتملت قصة خيبر على أحكام كثيرة: منها جواز قتال الكفار في أشهر الحرم، والإغارة على من بلغته الدعوة بغير إنذار، وقسمة الغنيمة على السهام، وأكل الطعام الذي يصاب من المشركين قبل القسمة لمن يحتاج إليه بشرط أن لا يدخره ولا يحوله، وأن مدد الجيش إذا حضر بعد انقضاء الحرب يسهم له إن رضي الجماعة كما وقع لجعفر والأشعريين، ولا يسهم لهم إذا لم يرضوا كما وقع لأبان بن سعيد وأصحابه، وبذلك يجمع بين الأخبار. ومنها تحريم لحوم الحمر الأهلية، وأن ما لا يؤكل لحمه لا يطهر بالذكاة، وتحريم متعة النساء، وجواز المساقاة والمزارعة، ويثبت عقد الصلح والتوثق من أرباب التهم، وأن من خالف من أهل الذمة ما شرط عليه انتقض عهده وهدر دمه، وأن من أخذ شيئا من الغنيمة قبل القسمة لم يملكه ولو كان دون حقه، وأن الإمام مخير في أرض العنوة بين قسمتها وتركها، وجواز إجلاء أهل الذمة إذا استغنى عنهم، وجواز البناء بالأهل بالسفر، والأكل من طعام أهل الكتاب وقبول هديتهم، وقد ذكرت غالب هذه الأحكام في أبوابها، والله الهادي للصواب.

(7/498)


42 - باب غَزْوَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
4250- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ عَلَى قَوْمٍ فَطَعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَالَ إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ كَانَ خَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ "
قوله: "غزوة زيد بن حارثة" بالمهملة والمثلثة: مولى النبي صلى الله عليه وسلم ووالد أسامة بن زيد. حديث ابن عمر في بعث أسامة، سيأتي شرحه في أواخر المغازي، والغرض منه قوله: "فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله" وسيأتي قريبا بعد غزو مؤتة حديث أبي عاصم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال: "غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وغزوت مع ابن حارثة، استعمله علينا" هكذا ذكره مبهما، ورواه أبو مسلم الكجي عن أبي عاصم بلفظ: "وغزوت مع زيد بن حارثة سبع غزوات يؤمره علينا" وكذلك أخرجه الطبراني عن أبي مسلم بهذا اللفظ وأخرجه أبو نعيم في" المستخرج" عن أبي شعيب الحراني عن أبي عاصم كذلك، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طرق عن أبي عاصم. وقد تتبعت ما ذكره أهل المغازي من سرايا زيد بن حارثة فبلغت سبعا كما قاله سلمة، وإن كان بعضهم ذكر ما لم يذكره بعض، فأولها: في جمادى الأخيرة سنة خمس قبل نجد في مائة راكب، والثانية: في ربيع الآخر سنة ست إلى بني سليم، والثالثة: في جمادى الأولى منها في مائة وسبعين فتلقى عيرا لقريش وأسروا أبا العاص بن الربيع، والرابعة: في جمادى الآخرة منها إلى بني ثعلبة، والخامسة: إلى حسمي بضم المهملة وسكون المهملة مقصور في خمسمائة إلى أناس من بني جذام بطريق الشام كانوا قطعوا الطريق على دحية وهو راجع من عند هرقل، والسادسة: إلى وادي القرى، والسابعة: إلى ناس من بني فزارة، وكان خرج قبلها في تجارة فخرج عليه ناس من بني فزارة فأخذوا ما معه وضربوه فجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأوقع بهم وقتل أم قرفة بكسر القاف وسكون الراء بعدها فاء وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر زوج مالك بن حذيفة بن بدر عم عيينة بن حصن بن حذيفة وكانت معظمة فيهم، فيقال

(7/498)


ربطها في ذنب فرسين وأجراهما فتقطعت، وأسر بنتها وكانت جميلة، ولعل هذه الأخيرة مراد المصنف، وقد ذكر مسلم طرفا منها من حديث سلمة بن الأكوع

(7/499)


43- باب عُمْرَةِ الْقَضَاءِذَكَرَهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4251- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "لَمَّا اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ كَتَبُوا هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قَالُوا لاَ نُقِرُّ لَكَ بِهَذَا لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ شَيْئًا وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ امْحُ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ عَلِيٌّ لاَ وَاللَّهِ لاَ أَمْحُوكَ أَبَدًا فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ فَكَتَبَ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لاَ يُدْخِلُ مَكَّةَ السِّلاَحَ إِلاَّ السَّيْفَ فِي الْقِرَابِ وَأَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهُ وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الأَجَلُ أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا فَقَدْ مَضَى الأَجَلُ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي يَا عَمِّ يَا عَمِّ فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ حَمَلَتْهَا فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ قَالَ عَلِيٌّ أَنَا أَخَذْتُهَا وَهِيَ بِنْتُ عَمِّي وَقَالَ جَعْفَرٌ ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي وَقَالَ زَيْدٌ ابْنَةُ أَخِي فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا وَقَالَ الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُم ِّ وَقَالَ لِعَلِيٍّ أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ وَقَالَ لِجَعْفَرٍ أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي وَقَالَ لِزَيْدٍ أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلاَنَا وَقَالَ عَلِيٌّ أَلاَ تَتَزَوَّجُ بِنْتَ حَمْزَةَ قَالَ إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ "
4252- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ وَلاَ يَحْمِلَ سِلاَحًا عَلَيْهِمْ إِلاَّ سُيُوفًا وَلاَ يُقِيمَ بِهَا إِلاَّ مَا أَحَبُّوا فَاعْتَمَرَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ فَلَمَّا أَنْ أَقَامَ بِهَا ثَلاَثًا أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ"
قوله: "باب عمرة القضاء" كذا للأكثر، وللمستملي وحده "غزوة القضاء" والأول أولى. ووجهوا كونها غزوة بأن موسى بن عقبة ذكر في المغازي عن ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم خرج مستعدا بالسلاح والمقاتلة خشية أن يقع

(7/499)


من قريش غدر فبلغهم ذلك ففزعوا، فلقيه مكرز فأخبره أنه باق على شرطه وأن لا يدخل مكة بسلاح إلا السيوف في أغمادها، وإنما خرج في تلك الهيئة احتياطا فوثق بذلك، وأخر النبي صلى الله عليه وسلم السلاح مع طائفة من أصحابه خارج الحرم حتى رجع، ولا يلزم من إطلاق الغزوة وقوع المقاتلة. وقال ابن الأثير: أدخل البخاري عمرة القضاء في المغازي لكونها كانت مسببة عن غزوة الحديبية، انتهى. واختلف في سبب تسميتها عمرة القضاء، فقيل: المراد ما وقع من المقاضاة بين المسلمين والمشركين من الكتاب الذي كتب بينهم بالحديبية، فالمراد بالقضاء الفصل الذي وقع عليه الصلح، ولذلك يقال لها عمرة القضية. قال أهل اللغة: قاضى فلانا عاهده، وقاضاه عاوضه، فيحتمل تسميتها بذلك لأمرين قاله عياض. ويرجح الثاني تسميتها قصاصا قال الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} قال السهيلي: تسميتها عمرة القصاص أولى لأن هذه الآية نزلت فيها. قلت: كذا رواه ابن جرير وعبد بن حميد بإسناد صحيح عن مجاهد، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه. وقال ابن إسحاق: بلغنا عن ابن عباس فذكره، ووصله الحاكم في "الإكليل" عن ابن عباس لكن في إسناده الواقدي. وقال السهيلي: سميت عمرة القضاء لأنه قاضي فيها قريشا، لا لأنها قضاء عن العمرة التي صد عنها، لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها بل كانت عمرة تامة، ولهذا عدوا عمر النبي صلى الله عليه وسلم أربعا كما تقدم تقريره في كتاب الحج. وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى، وعدت عمرة الحديبية في العمر لثبوت الأجر لا لأنها كملت، وهذا الخلاف مبني على الاختلاف في وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت، فقال الجمهور: يجب عليه الهدي ولا قضاء عليه، وعن أبي حنيفة عكسه، وعن أحمد رواية أنه لا يلزمه هدي ولا قضاء، وأخرى يلزمه الهدي والقضاء، فحجة الجمهور قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وحجة أبي حنيفة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها، ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء. وحجة من أوجبها ما وقع للصحابة فإنهم نحروا الهدي حيث صدوا واعتمروا من قابل وساقوا الهدي، وقد روى أبو داود من طريق أبي حاضر قال: "اعتمرت فأحصرت فنحرت الهدي وتحللت، ثم رجعت العام المقبل فقال لي ابن عباس: ابذل الهدي فإن الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك". وحجة من لم يوجبها أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدي بل أمر من معه هدي أن ينحره، ومن ليس معه هدي أن يحلق. واستدل الكل بظاهر أحاديث من أوجبهما، قال ابن إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة مثل الشهر الذي صد فيه المشركون معتمرا عمر القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها، وكذلك ذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود عن عروة وسليمان التيمي جميعا في مغازيهم أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى عمرة القضاء في ذي القعدة. وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند حسن عن ابن عمر قال: "كانت عمرة القضية في ذي القعدة سنة سبع" وفي مغازي سليمان التيمي "لما رجع من خيبر بث سراياه وأقام بالمدينة حتى استهل ذو القعدة فنادى في الناس أن تجهزوا إلى العمرة" وقال ابن إسحاق: خرج معه من كان صد في تلك العمرة إلا من مات أو استشهد. وقال الحاكم في "الإكليل" تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما هل ذو القعدة أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم وأن لا يتخلف منهم أحد شهد الحديبية، فخرجوا إلا من استشهد، وخرج معه آخرون معتمرين فكانت عدتهم ألفين سوى النساء والصبيان، قال وتسمى أيضا عمرة الصلح. قلت: فتحصل من أسمائها أربعة: القضاء، والقضية، والقصاص، والصلح. قوله: "ذكره أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم" كنت ذكرت

(7/500)


في "تعليق التعليق" أن مراده حديث أنس في عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم موصولا في الحج، ثم ظهر لي الآن أن مراده بحديث أنس ما أخرجه عبد الرزاق عنه من وجهين: أحدهما: روايته عن معمر عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة ينشد بين يديه:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... قد أنزل الرحمن في تنزيله
بأن خير القتل في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما قتلناكم على تنزيله
أخرجه أبو يعلى من طريقه، وأخرجه الطبراني عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن عبد الرزاق وما وجدته في مسند أحمد، وقد أخرجه الطبراني أيضا عاليا عن إبراهيم بن أبي سويد عن عبد الرزاق، ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي في "الدلائل"، وأخرجه من طريق أبي الأزهر عن عبد الرزاق فذكر القسم الأول من الرجز وقال بعده:
اليوم نضربكم على تنزيله ... ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله ... يا رب إني مؤمن بقيله
قال الدار قطني في" الأفراد ": تفرد به معمر عن الزهري، وتفرد به عبد الرزاق عن معمر.
قلت: وقد رواه موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري أيضا لكن لم يذكر أنسا، وعنده بعد قوله:
قد أنزل الرحمن في تنزيله ... في صحف تتلى على رسوله
وذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: بلغني...فذكره وزاد بعد قوله:
يا رب إني مؤمن بقيله ... إني رأيت الحق في قبوله
وزعم ابن هشام في مختصر السيرة أن قوله: "نحن ضربناكم على تأويله" إلى آخر الشعر من قول عمار بن ياسر قاله يوم صفين، قال: ويؤيده أن المشركين لم يقروا بالتنزيل، وإنما يقاتل على التأويل من أقر بالتنزيل، انتهى. وإذا ثبتت الرواية فلا مانع من إطلاق ذلك، فإن التقدير على رأي ابن هشام: نحن ضربناكم على تأويله. أي حتى تذعنوا إلى ذلك التأويل. ويجوز أن يكون التقدير: نحن ضربناكم على تأويل ما فهمنا منه حتى تدخلوا فيما دخلنا فيه. وإذا كان كذلك محتملا وثبتت الرواية سقط الاعتراض.
نعم الرواية التي جاء فيما فاليوم نضربكم على تأويله يظهر أنها قول عمار، ويبعد أن تكون قول ابن رواحة لأنه لم يقع في عمرة القضاء ضرب ولا قتال، وصحيح الرواية:
نحن ضربناكم على تأويله ... كما ضربناكم على تنزيله
يشير بكل منهما إلى ما مضى، ولا مانع أن يتمثل عمار بن ياسر بهذا الرجز ويقول هذه اللفظة، ومعنى قوله: "نحن ضربناكم على تنزيله" أي في عهد الرسول فيما مضى، وقوله: "واليوم نضربكم على تأويله" أي الآن. وجاز تسكين الباء لضرورة الشعر، بل هي لغة قرئ بها في المشهور والله أعلم. والرواية الثانية رواية عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس أخرجها البزار وقال: لم يروه عن ثابت إلا جعفر بن سليمان، وأخرجها

(7/501)


الترمذي والنسائي من طريقه بلفظ: "إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة بن يديه يمشي وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... يذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خل عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل . قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس نحوه قال: وفي غير هذا الحديث أن هذه القصة لكعب بن مالك، وهو أصح لأن عبد الله بن رواحة قتل بمؤتة وكانت عمرة القضاء قبل ذلك. قلت: وهو ذهول شديد وغلط مردود، وما أدري كيف وقع الترمذي في ذلك مع وفور معرفته ومع أن في قصة عمرة القضاء اختصام جعفر وأخيه علي وزيد بن حارثة في بنت حمزة كما سيأتي في هذا الباب، وجعفر قتل هو وزيد وابن رواحة في موطن واحد كما سيأتي قريبا، وكيف يخفى عليه - أعني الترمذي - مثل هذا؟ ثم وجدت عن بعضهم أن الذي عند الترمذي من حديث أنس أن ذلك كان في فتح مكة، فإن كان كذلك اتجه اعتراضه، لكن الموجود بخط الكروخي راوي الترمذي ما تقدم، والله أعلم. وقد صححه ابن حبان من الوجهين، وعجيب من الحاكم كيف لم يستدركه مع أن الوجه الأول على شرطهما، ومن الوجه الثاني على شرط مسلم لأجل جعفر. قوله: "عن البراء" في رواية شعبة عن أبي إسحاق "سمعت البراء" أخرجها في الصلح. قوله: "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة" أي سنة ست. قوله: "أن يدعوه" بفتح الدال أي يتركوه. قوله: "حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام" أي من العام المقبل، وصرح به في حديث ابن عمر بعده، وتقدم سبب هذه المقاضاة في الكلام على حديث المسور في الشروط مستوفى. قوله: "فلما كتب الكتاب" كذا هو بضم الكاف من كتب على البناء للمجهول، وللأكثر كتبوا بصيغة الجمع، وتقدم في الجزية من طريق يوسف بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق بلفظ: "فأخذ يكتب بينهم الشرط علي بن أبي طالب" وفي رواية شعبة "كتب علي بينهم كتابا" وفي حديث المسور "قال فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل. أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب باسمك اللهم" ونحوه في حديث أنس باختصار ولفظه: "أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لعلي: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل: ما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم" وللحاكم من حديث عبد الله بن مغفل "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فأمسك سهيل بيده فقال: اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: اكتب باسمك اللهم، فكتب". قوله: "هذا" إشارة إلى ما في الذهن. قوله: "ما قاضى" خبر مفسر له. وفي رواية الكشميهني: "هذا ما قاضانا" وهو غلط، وكأنه لما رأى قوله: "اكتبوا" ظن بأن المراد قريش، وليس كذلك بل المراد المسلمون، ونسبة ذلك إليهم وإن كان الكاتب واحدا مجازية، وفي حديث عبد الله بن مغفل المذكور" فكتب هذا ما صالح محمد رسول الله أهل مكة". قوله: "قالوا لا نقر لك بهذا" تقدم في الصلح بهذا الإسناد بعينه بلفظ: "فقالوا لا نقر بها" أي بالنبوة. قوله: "لو نعلم أنك رسول

(7/502)


الله ما منعناك شيئا" زاد في رواية يوسف "ولبايعناك" وعند النسائي عن أحمد بن سليمان عن عبيد الله بن موسى شيخ البخاري فيه: "ما منعناك بيته" وفي رواية شعبة عن أبي إسحاق "لو كنت رسول الله لم نقاتلك" وفي حديث أنس "لاتبعناك" وفي حديث المسور "فقال سهيل بن عمرو: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك" وفي رواية أبي الأسود عن عروة في المغازي "فقال سهيل: ظلمناك إن أقررنا لك بها ومنعناك" وفي حديث عبد الله بن مغفل "لقد ظلمناك إن كنت رسولا". قوله: "ولكن أنت محمد بن عبد الله" وفي رواية يوسف وكذا حديث المسور "ولكن اكتب" وكذا هو في رواية زكريا عن أبي إسحاق عند مسلم، وفي حديث أنس وكذا في مرسل عروة" ولكن اكتب اسمك واسم وأبيك" زاد في حديث عبد الله بن مغفل "فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب". قوله: "ثم قال لعلي: امح رسول الله" أي امح هذه الكلمة المكتوبة من الكتاب، فقال: لا والله لا أمحوك أبدا" وللنسائي من طريق علقمة بن قيس عن علي قال: "كنت كاتب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فكتبت: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو علمنا أنه رسول الله ما قاتلناه، امحها. فقلت: هو والله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رغم أنفك، لا والله لا أمحوها" وكأن عليا فهم أن أمره له بذلك ليس متحتما، فلذلك امتنع من امتثاله. ووقع في رواية يوسف بعد "فقال لعلي: امح رسول الله، فقال: لا والله لا أمحاه أبدا. قال: فأرنيه، فأراه إياه فمحا النبي صلى الله عليه وسلم بيده" ونحوه في رواية زكريا عند مسلم وفي حديث علي عند النسائي وزاد: "وقال: أما إن لك مثلها، وستأتيها وأنت مضطر" يشير صلى الله عليه وسلم إلى ما وقع لعلي يوم الحكمين فكان كذلك. قوله: "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لكتاب وليس يحسن يكتب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله" تقدم هذا الحديث في الصلح عن عبيد الله بن موسى بهذا الإسناد وليست فيه هذه اللفظة "ليس يحسن يكتب" ولهذا أنكر بعض المتأخرين على أبي مسعود نسبتها إلى تخريج البخاري وقال: ليس في البخاري هذه اللفظة ولا في مسلم، وهو كما قال عن مسلم فإنه أخرجه من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق بلفظ: "فأراه مكانها فمحاها وكتب: "ابن عبد الله" انتهى وقد عرفت ثبوتها في البخاري في مظنة الحديث، وكذلك أخرجها النسائي عن أحمد بن سليمان عن عبيد الله بن موسى مثل ما هنا سواء، وكذا أخرجها أحمد عن حجين بن المثني عن إسرائيل ولفظه: "فأخذ الكتاب - وليس يحسن أن يكتب - فكتب مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله" وقد تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجي فادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم: كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن يكتب، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم:
برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال إن رسول الله قد كتبا
فجمعهم الأمير فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن لأنه قيد النفي بما قيل ورود القرآن فقال. {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} وبعد أن تحققت أميته وتقررت بذلك معجزته وأمن الارتياب في ذلك لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فتكون معجزة أخرى. وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك، منهم شيخه أبو ذر الهروي وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء إفريقية وغيرها، واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي

(7/503)


شيبة وعمر بن شبة من طريق مجاهد عن عون بن عبد الله قال: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ: قال مجاهد: فذكرته للشعبي فقال: صدق قد سمعت من يذكر ذلك. ومن طريق يونس بن ميسرة على أبي كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعيينة، فقال عيينة: أتراني أذهب بصحيفة المتلمس؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة فنظر فيها فقال: قد كتب لك بما أمر لك " قال يونس فنرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بعدما أنزل عليه. قال عياض: وردت آثار تدل على معرفة حروف الخط وحسن تصويرها كقوله لكاتبه: "ضع القلم على أذنك فإنه أذكر لك" وقوله لمعاوية: "ألق الدواة وحرف القلم وأقم الباء وفرق السين ولا تعور الميم" وقوله: "لا تمد بسم الله" قال: وهذا وإن لم يثبت أنه كتب فلا يبعد أن يرزق علم وضيع الكتابة، فإنه أوتي علم كل شيء. وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث. وعن قصة الحديبية بأن القصة واحدة والكاتب فيها علي وقد صرح في حديث المسور بأن عليا هو الذي كتب، فيحمل على أن النكتة في قوله: "فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب" لبيان أن قوله: "أرني إياها" أنه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك "فكتب" فيه حذف تقديره فمحاها فأعادها لعلي فكتب. وبهذا جزم ابن التين وأطلق كتب بمعنى أمر بالكتابة، وهو كثير كقوله: كتب إلى قيصر وكتب إلى كسرى، وعلى تقدير حمله على ظاهره فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالما بالكتابة ويخرج عن كونه أميا، فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصور بعض الكلمات ويحسن وضعها وخصوصا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا ككثير من الملوك. ويحتمل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ وهو لا يحسنها فخرج المكتوب على وفق المراد فيكون معجزة أخرى في ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا. وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمة الأصول من الأشاعرة وتبعه ابن الجوزي، وتعقب ذلك السهيلي وغيره بأن هذا وإن كان ممكنا ويكون آية أخرى لكنه يناقض كونه أميا لا يكتب، وهي الآية التي قامت بها الحجة وأفحم الجاحد وانحسمت الشبهة. فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة. وقال المعاند: كان يحسن يكتب لكنه كان يكتم ذلك، قال السهيلي: والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا، والحق أن معني قوله: "فكتب" أي أمر عليا أن يكتب انتهى. وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة تستلزم مناقضة المعجزة وتثبت كونه غير أمي نظر كبير، والله أعلم. قوله: "لا يدخل" هذا تفسير للخبر المتقدم. قوله: "إلا السيف في القراب" في رواية شعبة "فكان فيما اشترطوا أن يدخلوا مكة فيقيموا بها ثلاثا ولا يدخلها بسلاح" ونحوه لزكريا عن أبي إسحاق عند مسلم. قوله: "وأن لا يخرج من أهلها بأحد إلخ" في حديث أنس "قال علي: قلت يا رسول الله أكتب هذا؟ قال: نعم". قوله: "فلما دخلها" أي في العام المقبل. قوله: "ومضى الأجل" أي الأيام الثلاثة. وقال الكرماني: لما مضى أي قرب مضيه، ويتعين الحمل عليه لئلا يلزم الخلف. قوله: "أتوا عليا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل" في رواية يوسف "فقالوا: مر صاحبك فليرتحل". قوله: "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية يوسف" فذكر ذلك علي فقال: نعم فارتحل" وفي مغازي أبي الأسود عن عروة" فلما كان اليوم الرابع جاءه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى فقالا: ننشدك الله والعهد إلا ما خرجت من أرضنا، فرد عليه سعد بن عبادة، فأسكته النبي صلى الله عليه وسلم وآذن بالرحيل" وأخرج

(7/504)


الحاكم في "المستدرك" من حديث ميمونة في هذه القصة" فأتاه حويطب بن عبد العزي" وكأنه في أوائل النهار فلم يكمل الثلاث إلا في مثل ذلك الوقت من النهار الرابع الذي دخل فيه بالتلفيق، وكان مجيئهم في أول النهار قرب مجيء ذلك الوقت. قوله: "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة" هكذا رواه البخاري عن عبيد الله بن موسى معطوفا على إسناد القصة التي قبله، وكذا أخرجه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عبيد الله بن موسى، وكذا رواه الحاكم في "الإكليل" والبيهقي من طريق سعيد بن مسعود عن عبيد الله بن موسى بتمامه، وادعى البيهقي أن فيه إدراجا لأن زكريا بن أبي زائدة رواه عن أبي إسحاق متصلا. وأخرج مسلم والإسماعيلي القصة الأولى من طريقه عن أبي إسحاق من حديث علي، وهكذا رواه أسود بن عامر عن إسرائيل أخرجه أحمد من طريقه لكن باختصار في الموضعين قال البيهقي: وكذا روى عبيد الله بن موسى أيضا قصة بنت حمزة من حديث علي. قلت: هو كذلك عند ابن حبان عن الحسن بن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبيد الله بن موسى لكن باختصار، وكذا رواه الهيثم بن كليب في مسنده عن الحسن بن علي بن عفان عن عبيد الله بن موسى بأتم من سياق ابن حبان. وأخرج أبو داود من طريق إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل قصة بنت حمزة خاصة من حديث علي بلفظ: "لما خرجنا من مكة تبعتنا بنت حمزة" الحديث. وكذا أخرجها أحمد عن حجاج بن محمد ويحيى بن آدم جميعا عن إسرائيل. قلت: والذي يظهر لي أن لا إدراج فيه، وأن الحديث كان عند إسرائيل وكذا عند عبيد الله بن موسى عنه بالإسنادين جميعا، لكنه في القصة الأولى من حديث البراء أتم، وبالقصة الثانية من حديث علي أتم، وبيان ذلك أن عند البيهقي في رواية زكريا عن أبي إسحاق عن البراء قال. "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة أيام في عمرة القضاء، فلما كان اليوم الثالث قالوا لعلي: إن هذا آخر يوم من شرط صاحبك، فمره فليخرج. فحدثه بذلك فقال: نعم، فخرج". قال أبو إسحاق. فحدثني هانئ بن هانئ وهبيرة فذكر حديث علي في قصة بنت حمزة أتم مما وقع في حديث هذا الباب عن البراء، وسيأتي إيضاح ذلك عند شرحه إن شاء الله تعالى. وكذا أخرج الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن أبي بكرة بن أبي شيبة عن عبيد الله بن موسى قصة بنت حمزة من حديث البراء، فوضح أنه عند عبيد الله بن موسى ثم عند أبي بكر بن أبي شيبة عنه بالإسنادين جميعا، وكذا أخرج ابن سعد عن عبيد الله بن موسى بالإسنادين معا عنه. قوله: "لجعفر أشبهت خلقي وخلقي". قوله: "ابنة حمزة" اسمها عمارة وقيل فاطمة وقيل أمامة وقيل أمة الله وقيل سلمى، والأول هو المشهور. وذكر الحاكم في "الإكليل" وأبو سعيد في "شرف المصطفى" من حديث ابن عباس بسند ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أخي بين حمزة وزيد بن حارثة، وأن عمارة بنت حمزة كانت مع أمها بمكة. قوله: "تنادي يا عم" كأنها خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إجلالا له، وإلا فهو ابن عمها، أو بالنسبة إلى كون حمزة وإن كان عمه من النسب فهو أخوه من الرضاعة، وقد أقرها على ذلك بقوله لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دونك ابنة عمك" وفي ديوان حسان بن ثابت لأبي سعيد السكري أن عليا هو الذي قال لفاطمة ولفظه: "فأخذ علي أمامه فدفعها إلى فاطمة" وذكر أن مخاصمة علي وجعفر وزيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت بعد أن وصلوا إلى مر الظهران. قوله: "دونك" هي كلمة من أسماء الأفعال تدل على الأمر بأخذ الشيء المشار إليه. قوله: "حملتها" كذا للأكثر بصيغة الفعل الماضي وكأن الفاء سقطت. قلت: وقد ثبتت في رواية النسائي من الوجه الذي أخرجه منه البخاري، وكذا لأبي داود من طريق إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل، وكذا لأحمد في حديث علي. ووقع في

(7/505)


رواية أبي ذر عن السرخسي والكشميهني: "حمليها" بتشديد الميم المكسورة وبالتحتانية بصيغة الأمر، وللكشميهني في الصلح في هذا الموضع "احمليها" بألف بدل التشديد، وعند الحاكم من مرسل الحسن" فقال علي لفاطمة وهي في هودجها: أمسكيها عندك" وعند ابن سعد من مرسل محمد بن علي بن الحسين الباقر بإسناد صحيح إليه" بينما بنت حمزة تطوف في الرجال إذا أخذ علي بيدها فألقاها إلى فاطمة في هودجها". قوله: "فاختصم فيها علي بن أبي طالب وجعفر "أي أخوه "وزيد بن حارثة" أي في أيهم تكون عنده، وكانت خصومتهم في ذلك بعد أن قدموا المدينة، ثبت ذلك في حديث علي عند أحمد والحاكم. وفي المغازي لأبي الأسود عن عروة في هذه القصة "فلما دنوا من المدينة كلمه فيها زيد بن حارثة وكان وصي حمزة وأخاه" وهذا لا ينفي أن المخاصمة إنما وقعت بالمدينة، فلعل زيدا سأل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ووقعت المنازعة بعد، ووقع في مغازي سليمان التيمي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع إلى رحله وجد بنت حمزة فقال لها: ما أخرجك؟ قالت: رجل من أهلك، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجها". وفي حديث علي عند أبي داود "أن زيد بن حارثة أخرجها من مكة" وفي حديث ابن عباس المذكور "فقال له علي: كيف تترك ابنة عمك مقيمة بين ظهراني المشركين "؟ وهذا يشعر بأن أمها إما لم تكن أسلمت فإن في حديث ابن عباس المذكور أنها سلمى بنت عميس وهي معدودة في الصحابة، وإما أن تكون ماتت إن لم يثبت حديث ابن عباس، وإنما أقرهم على أخذها مع اشتراط المشركين أن لا يخرج بأحد من أهلها أراد الخروج، لأنهم لم يطلبوها، وأيضا فقد تقدم في الشروط ويأتي في التفسير أن النساء المؤمنات لم يدخلن في ذلك، لكن إنما نزل القرآن في ذلك بعد رجوعهم إلى المدينة. ووقع في رواية أبي سعيد السكري أن فاطمة قالت لعلي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى أن لا يصيب منهم أحدا إلا رده عليهم، فقال لها علي: إنها ليست منهم إنما هي منا. قوله: "فاختصم فيها علي إلخ" زاد في رواية ابن سعد "حتى ارتفعت أصواتهم فأيقظوا النبي صلى الله عليه وسلم من نومه". قوله: "فقال علي أنا أخرجتها وهي بنت عمي" زاد في حديث علي عند أبي داود "وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أحق بها". قوله: "وخالتها تحتي" أي زوجتي. وفي رواية الحاكم عندي واسم خالتها أسماء بنت عميس التي تقدم ذكرها في غزوة خيبر وصرح باسمها في حديث علي عند أحمد، وكان لكل من هؤلاء الثلاثة فيها شبهة: أما زيد فللأخوة التي ذكرتها ولكونه بدأ بإخراجها من مكة، وأما علي فلأنه ابن عمها وحملها مع زوجته وأما جعفر فلكونه ابن عمها وخالتها عنده فيترجح جانب جعفر باجتماع قرابة الرجل والمرأة منها دون الآخرين. قوله: "وقال زيد بنت أخي" زاد في حديث علي إنما خرجت إليها. قوله: "فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها" في حديث ابن عباس المذكور فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "جعفر أولى بها. وفي حديث علي عند أبي داود وأحمد أما الجارية فلا قضى بها لجعفر. وفي رواية أبي سعيد السكري: ادفعاها إلى جعفر فإنه أوسع منكم. وهذا سبب ثالث. قوله: "وقال: الخالة بمنزلة الأم" أي في هذا الحكم الخاص لأنها تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد لما دل عليه السياق، فلا حجة فيه لمن زعم أن الخالة ترث لأن الأم ترث، وفي حديث علي وفي مرسل الباقر "الخالة والدة، وإنما الخالة أم" وهي بمعنى قوله بمنزلة الأم لا أنها أم حقيقية. ويؤخذ منه أن الخالة في الحضانة مقدمة على العمة لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب العصبات من النساء فهي مقدمة على غيرها، ويؤخذ منه تقديم أقارب الأم على أقارب الأب. وعن أحمد رواية أن العمة مقدمة في الحضانة على الخالة، وأجيب عن هذه القصة بأن العمة لما تطلب، فإن قيل: والخالة لم تطلب، قيل:

(7/506)


قد طلب لها زوجها، فكما أن للقريب المحضون أن يمنع الحاضنة إذا تزوجت فللزوج أيضا أن يمنعها من أخذه، فإذا وقع الرضا سقط الحرج. وفيه من الفوائد أيضا تعظيم صلة الرحم بحيث تقع المخاصمة بين الكبار في التوصل إليها، وأن الحاكم يبين دليل الحكم للخصم، وأن الخصم يدلي بحجته، وأن الحاضنة إذا تزوجت بقريب المحضونة لا تسقط حضانتها إذا كانت المحضونة أنثى أخذا بظاهر هذا الحديث قاله أحمد، وعنه لا فرق بين الأنثى والذكر، ولا يشترط كونه محرما لكن يشترط أن يكون فيه مأمونا، وأن الصغيرة لا تشتهي، ولا تسقط إلا إذا تزوجت بأجنبي، والمعروف عن الشافعية والمالكية اشتراط كون الزوج جدا للمحضون. وأجابوا عن هذه القصة بأن العمة لم يطلب وأن الزوج رضي بإقامتها عنده، وكل من طلبت حضانتها لها كانت متزوجة فرجح جانب جعفر بكونه تزوج الخالة. قوله: "وقال لعلي: أنت مني وأنا منك " أي في النسب والصهر والمسابقة والمحبة وغير ذلك من المزايا، ولم يرد محض القرابة وإلا فجعفر شريكه فيها. قوله: "وقال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي " بفتح الخاء الأولى وضم الثانية، في مرسل ابن سيرين عند ابن سعد "أشبه خلقك خلقي، وخلقك خلقي" وهي منقبة عظيمة لجعفر، أما الخلق فالمراد به الصورة فقد شاركه فيها جماعة ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت أسماءهم في مناقب الحسن وأنهم عشرة أنفس غير فاطمة عليها السلام، وقد كنت نظمت إذ ذاك بيتين في ذلك ووقفت بعد ذلك في حديث أنس على أن إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم كان يشبهه، وكذا في قصة جعفر بن أبي طالب أن ولديه عبد الله وعونا كانا يشبهانه فغيرت البيتين الأولين بالزيادة فأصلحتهما هناك، ورأيت إعادتهما هنا ليكتبهما من لم يكن كتبهما إذ ذاك:
شبه النبي ليج سائب وأبي ... سفيان والحسنين الخال أمهما
وجعفر ولداه وابن عامرهم ... ومسلم كابس يتلوه مع قثما
ووقع في تراجم الرجال وأهل البيت ممن كان يشبهه صلى الله عليه وسلم من غير هؤلاء عدة: منهم إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ويحيى بن القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي وكان يقال له الشبيه، والقاسم بن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، وعلي بن علي بن عباد بن رفاعة الرفاعي شيخ بصري من أتباع التابعين، ذكر ابن سعد عن عفان قال: كان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما لم أدخل هؤلاء في النظم لبعد عهدهم عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم فاقتصرت على من أدركه والله أعلم. وأما شبهه في الخلق بالضم فخصوصية جعفر إلا أن يقال إن مثل ذلك حصل لفاطمة عليها السلام، فإن في حديث عائشة ما يقتضي ذلك ولكن ليس بصريح كما في قصة جعفر هذه. وهي منقبة عظيمة لجعفر، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . قوله: "وقال لزيد: أنت أخونا " أي في الإيمان "ومولانا" أي من جهة أنه أعتقه، وقد تقدم أن مولى القوم منهم، فوقع منه صلى الله عليه وسلم تطييب خواطر الجميع وإن كان قضى لجعفر فقد بين وجه ذلك. وحاصله أن المقضي له في الحقيقة الخالة وجعفر تبع لها لأنه كان القائم في الطلب لها، وفي حديث علي عند أحمد وكذا في مرسل الباقر "فقام جعفر فحجل حول النبي صلى الله عليه وسلم دار عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: شيء رأيت الحبشة يصنعونه بملوكهم" وفي حديث ابن عباس "أن النجاشي كان إذا رضى أحدا من أصحابه قام فحجل حوله" وحجل بفتح المهملة وكسر الجيم أي وقف على رجل واحدة وهو الرقص بهيئة مخصوصة. وفي حديث علي المذكور أن الثلاثة فعلوا ذلك. قوله: "قال علي" أي للنبي صلى الله عليه وسلم "ألا نتزوج بنت حمزة؟ قال: إنها

(7/507)


بنت أخي" أي من الرضاعة. هو موصول بالإسناد المذكور أولا، ووقع في رواية النسائي: "فقال علي إلخ" ووقع في رواية أبي سعيد السكري" فدفعناها إلى جعفر فلم تزل عنده حتى قتل، فأوصى بها جعفر إلى علي فمكثت عنده حتى بلغت، فعرضها علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها فقال: هي ابنة أخي من الرضاعة " وسيأتي الكلام على ما يتعلق بالرضاعة في أوائل النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثني محمد هو ابن رافع" هذا البعض رواه الفربري، ووقع في رواية النسفي عن البخاري "حدثني محمد بن رافع" وكذا تقدم في الصلح مجزوما به في هذا الحديث لجميعهم، وساقه هناك على لفظه وهنا على لفظ رفيقه. وسريح هو ابن النعمان وهو من شيوخ البخاري، وقد يحدث عنه بواسطة كما هنا. قوله: "وحدثني محمد بن الحسين بن إبراهيم" يعني المعروف بابن إشكاب يكنى أبا جعفر وأبوه الحسين بن إبراهيم بن الحسن العامري يكنى أبا علي، خراساني سكن بغداد وطلب الحديث ولزم أبا يوسف، وقد أدركه البخاري فإنه مات سنة ست عشرة ومائتين، وليس له ولا لأبيه في البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "بالحديبية" تقدم بيان ذلك في حديث المسور في الشروط. قوله: "إلا سيوفا" يعني في غمدها كما تقدم في الذي قبله. قوله: "ولا يقيم بها إلا ما أحبوا" بين في حديث البراء أنهم اتفقوا على ثلاث أيام. وقال ابن التين قوله: "ثلاثة أيام" يخالف قوله: "إلا ما أحبوا" فيجمع بأن محبتهم لما كانت ثلاثة أيام أفصح بها الراوي معبرا عما آل إليه الحال وهو ثلاثة أيام. قلت: بل قوله: "ما أحبوا" مجمل بينته رواية ثلاثة أيام بدليل ما سأذكره من حديث البراء. قوله: "فلما أن أقام بها ثلاثا أمروه أن يخرج فخرج" تقدم بيان ذلك في حديث البراء، ووقع في رواية زكريا عن أبي إسحاق عن البراء عند مسلم: "فقالوا لعلي: هذا آخر يوم من شرط صاحبك، فمره أن يخرج، فذكر ذلك له فخرج".
4253- حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ ثُمَّ قَالَ كَمْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرْبَعًا إحداهن في رجب"
4254- ثُمَّ سَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ قَالَ عُرْوَةُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَلاَ تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ فَقَالَتْ مَا اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةً إِلاَّ وَهُوَ شَاهِدُهُ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ"
4255- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ سَمِعَ ابْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ لَمَّا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَتَرْنَاهُ مِنْ غِلْمَانِ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْهُمْ أَنْ يُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
4256- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ وَهَنَتهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ

(7/508)


فأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاَثَةَ وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَزَادَ ابْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَامِهِ الَّذِي اسْتَأْمَنَ قَالَ ارْمُلُوا لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ قُوَّتَهُمْ وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ قِبَلِ قُعَيْقِعَانَ "
4257- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "إِنَّمَا سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ"
4259- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلاَلٌ وَمَاتَتْ بِسَرِفَ "
وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَأَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ"
الحديث الثالث حديث ابن عمر في العمرة، وفيه قصته مع عائشة وإنكارها عليه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب، وقد تقدم شرحه في أبواب العمرة، وقوله فيه: "ألا تسمعين" في رواية الكشميهني، ونقل الكرماني رواية: "ألا تسمعي" بغير نون وهي لغية. قوله: "عن إسماعيل بن أبي خالد" في رواية الحميدي "عن سفيان حدثنا إسماعيل بن أبي خالد". قوله: "سترناه من غلمان المشركين ومنهم أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم "أي خشية أن يؤذوه، كذا قاله علي بن عبد الله عن سفيان بهذا اللفظ. وقاله ابن أبي عمر عن سفيان بلفظ: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة طاف بالبيت في عمرة القضية، فكنا نستره من السفهاء والصبيان مخافة أن يؤذوه" أخرجه الإسماعيلي، وأخرجه ن رواية إسحاق بن أبي إسرائيل عن سفيان بلفظ: "وكنا نستره من صبيان أهل مكة لا يؤذونه" أخرجه الحميدي كذلك، وتقدم في أبواب العمرة من وجه آخر عن عبد الله بن أبي أوفى بأتم من هذا السياق قال: "اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتمرنا معه، فلما دخل مكة طاف فطفنا معه، وأتى الصفا والمروة وأتيناهما معه" أي سعوا، قال: "وكنا نستره من أهل مكة أن يرميه أحد". حديث ابن عباس، تقدم بهذا السند والمتن في أبواب الطواف من كتاب الحج في "باب بدء الرمل" وشرحت بعض ألفاظه وحكم الرمل هناك. قوله: "وفد" أي قوم وزنا ومعنى، ووقع في رواية ابن السكن "وقد" بفتح القاف وسكون الدال وهو خطأ. قوله: "وهنتهم" بتخفيف الهاء وتشديدها أي أضعفتهم، ويثرب اسم المدينة النبوية في الجاهلية، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تسميتها بذلك، وإنما ذكر ابن عباس ذلك حكاية: لكلام المشركين وفي رواية الإسماعيلي: "فأطلعه الله على ما قالوا". قوله: "إلا الإبقاء عليهم" بكسر الهمزة وسكون الموحدة بعدها القاف والمد أي الرفق بهم والإشفاق عليهم، والمعنى لم يمنعه من أمرهم بالرمل في جميع الطوفات إلا الرفق بهم، قال القرطبي: روينا قوله: "إلا الإبقاء عليهم" بالرفع على أنه فاعل يمنعه، وبالنصب على أن يكون مفعولا من أجله ويكون في يمنعه ضمير عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فاعله. قوله: "وأن يمشوا بين الركنين" أي اليمانيين، وعند أبي داود من

(7/509)


وجه آخر "وكانوا إذا تواروا عن قريش بين الركنين مشوا، وإذا طلعوا عليهم رملوا" وسيأتي في الذي بعده أن المشركين كانوا من قبل قيقعان وهو يشرف على الركنين الشاميين، ومن كان به لا يرى من بين الركنين اليمانيين. ولمسلم من هذا الوجه في آخره: "فقال المشركون. هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم، لهؤلاء أجلد من كذا". قوله: "وزاد ابن سلمة" كذا وقع هنا، ووقع عند النسفي عقب الذي قبله وهو به أليق، وابن سلمة هو حماد، وقد شارك حماد بن زيد في روايته له عن أيوب وزاد عليه تعيين مكان المشركين وهو قيقعان، وطريق حماد بن سلمة هذه وصلها الإسماعيلي نحوه وزاد في آخره: "فلما رملوا قال المشركون: ما وهنتهم "ووقع في بعض النسخ وزاد ابن مسلمة" بزيادة ميم في أوله وهو غلط. قوله: "حدثنا محمد" هو ابن سلام، وعمرو هو ابن دينار. قوله: "إنما سعى بالبيت" أي رمل. قوله: "ليرى المشركون قوته" تقدم سببه في الذي قبله. قوله: "تزوج ميمونة وهو محرم" سيأتي البحث فيه في كتاب النكاح. قوله: "وزاد ابن إسحاق إلخ" هو موصول في السيرة، وزاد في آخره: "وكان الذي زوجها منه العباس بن عبد المطلب" ولابن حبان والطبراني من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق بلفظ: "تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك - يعني عمرة القضاء - وهو حرام وكان الذي زوجه إياها العباس" ونحوه للنسائي من وجه آخر عن ابن عباس، وفي مغازي أبي الأسود عن عروة "بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب إلى ميمونة ليخطبها له فجعلت أمرها إلى العباس، وكانت أختها أم الفضل تحته، فزوجه إياها، فبني بها بسرف، وقدر الله أنها ماتت بعد ذلك بسرف، وكانت قبله صلى الله عليه وسلم تحت أبي رهم بن عبد العزى، وقيل: تحت أخيه حويطب، وقيل: سخبرة بن أبي رهم، وأمها هند بنت عوف الهلالية.

(7/510)


44 - باب غَزْوَةِ مُؤْتَةَ مِنْ أَرْضِ الشَّأْمِ
4260- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ أَبِي هِلاَلٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ "وَقَفَ عَلَى جَعْفَرٍ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ قَتِيلٌ فَعَدَدْتُ بِهِ خَمْسِينَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي دُبُرِهِ يَعْنِي فِي ظَهْرِهِ"
[الحديث 4260- طرفه في: 4261]
4261- أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنْتُ فِيهِمْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ فَالْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَوَجَدْنَاهُ فِي الْقَتْلَى وَوَجَدْنَا مَا فِي جَسَدِهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ"
قوله: "باب غزوة مؤتة" بضم الميم وسكون الواو بغير همز لأكثر الرواة وبه جزم المبرد، ومنهم من همزها وبه جزم ثعلب والجوهري وابن فارس، وحكى صاحب "الواعي" الوجهين. وأما الموتة التي ورد الاستعاذة منها

(7/510)


وفسرت بالجنون فهي بغير همز. قوله: "من أرض الشام" قال ابن إسحاق هي بالقرب من البلقاء. وقال غيره هي على مرحلتين من بيت المقدس. ويقال: إن السبب فيها أن شرحبيل بن عمرو الغساني - وهو من أمراء قيصر على الشام - قتل رسولا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب بصري، واسم الرسول الحارث بن عمير، فجهز إليهم النبي صلى الله عليه وسلم عسكرا في ثلاثة آلاف. وفي "مغازي أبي الأسود" عن عروة "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش إلى موتة في جمادى من سنة ثمان" وكذا قال ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أهل المغازي لا يختلفون في ذلك، إلا ما ذكر خليفة في تاريخه أنها كانت سنة سبع. قوله: "حدثنا أحمد" هو ابن صالح، بينه أبو علي بن شبويه عن الفربري، وبه جزم أبو نعيم. قوله: "عن عمرو" هو ابن الحارث، وابن أبي هلال هو سعيد. قوله: "قال وأخبرني نافع" هو معطوف على شيء محذوف، ويؤيد ذلك قوله: "أنه وقف على جعفر يومئذ" ولم يتقدم لغزوة موتة إشارة ولم أر من نبه على ذلك من الشراح، وقد تتبعت ذلك حتى فتح الله بمعرفة المراد فوجدت في أول "باب جامع الشهادتين" من السنن لسعيد بن منصور قال: "حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمر بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال أنه بلغه أن ابن رواحة - فذكر شعرا له - قال. فلما التقوا أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل حتى قتل، ثم أخذها جعفر فقاتل حتى قتل، ثم أخذها ابن رواحة فحاد حيدة فقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... كارهة أو لتطاوعنه
ما لي أراك تكرهين الجنة
ثم نزل فقاتل حتى قتل، فأخذ خالد بن الوليد الراية ورجع بالمسلمين على حمية، ورمى واقد بن عبد الله التيمي المشركين حتى ردهم الله، قال ابن أبي هلال" وأخبرني نافع - فذكر ما أخرجه البخاري وزاد في آخره - قال سعيد بن أبي هلال: وبلغني أنهم دفنوا يومئذ زيدا وجعفرا وابن رواحة في حفرة واحدة".. قوله: "ليس منها" كذا للأكثر. وفي رواية الكشميهني: "ليس فيها". قوله: "أخبرنا أحمد بن أبي بكر" هو أبو مصعب الزهري، ومغيرة بن عبد الرحمن هو المخزومي بينه أبو علي عن مصعب الزبيري، وفي طبقته مغيرة بن عبد الرحمن الخزامي وهو أوثق من المخزومي، وليس للمخزومي في البخاري سوى هذا الحديث، وهو بطريق المتابعة عنده. وكان المخزومي فقيه أهل المدينة بعد مالك، وهو صدوق. قوله: "عن عبد الله بن سعيد" في رواية مصعب "عبد الله بن سعيد بن أبي هند" وهو مدني ثقة. قوله: "إن قتل زيد فجعفر" زاد موسى بن إسحاق في المغازي عن ابن شهاب "فجعفر بن أبي طالب أميرهم" وفي حديث عبد الله بن جعفر عند أحمد والنسائي بإسناد صحيح "إن قتل زيد فأميركم جعفر" وروى أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أبي قتادة قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء وقال: عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فجعفر " فذكر الحديث وفيه: "فوثب جعفر فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما كنت أرهب أن تستعمل علي زيدا، قال امض فإنك لا تدري أي ذلك خير". قوله: "قال عبد الله" أي ابن عمر، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب "أي بعد أن قتل، كذا اختصره. وفي حديث عبد الله بن جعفر المذكور "فلقوا العدو، فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذها جعفر" ونحوه في مرسل عروة عند ابن إسحاق وذكر ابن إسحاق بإسناد حسن وهو عند أبي داود من طريقه "عن رجل من بني مرة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقر لها، ثم تقدم

(7/511)


فقاتل حتى قتل. قال ابن إسحاق وحدثني محمد بن جعفر عن عروة قال: ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحه فالتوى بها بعض الالتواء ثم تقدم على فرسه ثم نزل فقاتل حتى قتل. ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم الأنصاري فقال: اصطلحوا على رجل، فقالوا: أنت لها، قال: لا، فاصطلحوا على خالد بن الوليد" وروى الطبراني من حديث أبي اليسر الأنصاري قال: "أنا دفعت الراية إلى ثابت بن أقرم لما أصيب عبد الله بن رواحة، فدفعها إلى خالد بن الوليد وقال له: أنت أعلم بالقتال مني". قوله: "فعددت به خمسين بين طعنة وضربة" روى سعيد بن منصور عن أبي معشر عن نافع مثله. وقال ابن سعد عن أبي نعيم عن أبي معشر "تسعين" وفي الرواية الثانية "ووجدنا في جسده بضعه وتسعين من طعنه ورمية" وكذا أخرجه ابن سعد من طريق العمري عن نافع بلفظ: "بضع وتسعون" وظاهرهما التخالف، ويجمع بأن العدد قد لا يكون له مفهوم، أو بأن الريادة باعتبار ما وجد فيه من رمي السهام، فإن ذلك لم يذكر في الرواية الأولى، أو الخمسين مقيدة بكونها ليس فيها شيء في دبره أي في ظهره. فقد يكون الباقي في بقية جسده ولا يستلزم ذلك أنه ولى دبره، وهو محمول على أن الرمي إنما جاء من جهة قفاه أو جانبيه، ولكن يؤيد الأول أن في رواية العمري عن نافع" فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده" بعد أن ذكر العدد بضع وتسعون، ووقع في رواية البيهقي في الدلائل عن البخاري بلفظ: "بضعا وتسعين أو بضعا وسبعين" بالشك، لم أر ذلك في شيء من نسخ البخاري. وفي قوله: "ليس شيء منها في دبره" بيان فرط شجاعته وإقدامه.
4262- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ وَاقِدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ فَقَالَ أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ - وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ - حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ "
4263- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ "لَمَّا جَاءَ قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ قَالَتْ عَائِشَةُ وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ تَعْنِي مِنْ شَقِّ الْبَابِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ قَالَ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ قَالَ فَذَهَبَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ قَدْ نَهَيْتُهُنَّ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُطِعْنَهُ قَالَ فَأَمَرَ أَيْضًا فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا فَزَعَمَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ مِنْ التُّرَابِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ تَفْعَلُ وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَنَاءِ"
الحديث الثاني حديث أنس قوله: "حدثنا أحمد بن واقد" هو أحمد بن عبد الملك بن واقد الحراني. قوله: "نعى

(7/512)


زيدا" أي أخبرهم بقتله، وذكر موسى بن عقبة في المغازي أن يعلى بن أمية قدم بخبر أهل موتة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت فأخبرني وإن شئت أخبرك . قال فأخبرني. فأخبره خبرهم. فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره" وعند الطبراني من حديث أبى اليسر الأنصاري "أن أبا عامر الأشعري هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمصابهم". قوله: "ثم أخذ جعفر فأصيب" كذا هنا بحذفه المفعول، والمراد الراية. ووقع في "علامات النبوة" عند أبي ذر بهذا الإسناد بلفظ: "ثم أخذها". قوله: "وعيناه تذرفان" بذال معجمة وراء مكسورة أي تدفعان الدموع. قوله: "حتى أخذها سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم" في حديث أبي قتادة "ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد، ولم يكن من الأمراء، وهو أمير نفسه" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "اللهم إنه سيف من سيوفك فأنت تنصره" فمن يومئذ سمي سيف الله. وفي حديث عبد الله بن جعفر "ثم أخذها سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليهم" وتقدم حديث الباب في الجهاد من وجه آخر عن أيوب "فأخذها خالد بن الوليد من غير إمرة" والمراد نفي كونه كان منصوصا عليه، وإلا فقد ثبت أنهم اتفقوا عليه، وزاد قيه "وما يسرهم أنهم عندنا" أي لما رأوا من فضل الشهادة. وزاد في حديث عبد الله بن جعفر "ثم أمهل آل جعفر ثلاثا ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال: ائتوني ببني أخي. فجيء بنا كأننا أفراخ، فدعا الحلاق فحلق رءوسنا ثم قال: أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي. ثم دعا لهم" وفي الحديث جواز الإعلام بموت الميت ولا يكون ذلك من النعي المنهي عنه. وقد تقدم تقرير ذلك في الجنائز. وفيه جواز تعليق الإمارة بشرط، وتولية عدة أمراء بالترتيب. وقد اختلف هل تنعقد الولاية الثانية في الحال أو لا؟ والذي يظهر أنها في الحال تنعقد، ولكن بشرط الترتيب. وقيل. تنعقد لواحد لا بعينه، وتتعين لمن عينها الإمام على الترتيب. وقيل: تنعقد للأول فقط، وأما الثاني فبطريق الاختيار. واختيار الإمام مقدم على غيره لأنه أعرف بالمصلحة العامة. وفيه جواز التأمر في الحرب بغير تأمير، قال الطحاوي: هذا أصل يؤخذ منه أن على المسلمين أن يقدموا رجلا إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر. وفيه جواز الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه علم ظاهر من أعلام النبوة، وفضيلة ظاهرة لخالد بن الوليد ولمن ذكر من الصحابة. واختلف أهل النقل في المراد بقوله: "حتى فتح الله عليه" هل كان هناك قتال فيه هزيمة للمشركين، أو المراد بالفتح انحيازه بالمسلمين حتى رجعوا سالمين؟ ففي رواية ابن إسحاق عن محمد بن جعفر عن عروة "فحاش خالد الناس ودافع وانحاز وانحيز عنه، ثم انصرف بالناس" وهذا يدل على الأول، ويؤيده ما تقدم من بلاغ سعيد بن أبي هلال في الحديث الأول. وذكر ابن سعد عن أبي عامر "أن المسلمين انهزموا لما قتل عبد الله بن رواحة حتى لم أر اثنين جميعا، ثم اجتمعوا على خالد" وعند الواقدي من طريق عبد الله بن الحارث بن فضيل عن أبيه قال: "لما أصبح خالد بن الوليد جعل مقدمته ساقة، وميمنته ميسرة، فأنكر العدو حالهم وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا وانكشفوا منهزمين". وعنده من حديث جابر قال: "أصيب بمؤتة ناس من المشركين وغنم المسلمون بعض أمتعة المشركين" وفي مغازي أبي الأسود عن عروة "فحمل خالد على الروم فهزموهم" وهذا يدل على الثاني. أو يمكن الجمع بأن يكونوا هزموا جانبا من المشركين وخشي خالد أن يتكاثر الكفار عليهم، فقد قيل إنهم كانوا أكثر من مائة ألف، فانحاز بهم حتى رجع بهم إلى المدينة. وهذا السند وإن كان ضعيفا من جهة الانقطاع، والآخر من جهة ابن لهيعة الراوي عن أبي الأسود، وكذلك الواقدي، فقد وقع في المغازي لموسى بن عقبة - وهي

(7/513)


أصح المغازي كما تقدم - ما نصه "ثم أخذه - يعني اللواء - عبد الله بن رواحة فقتل، ثم اصطلح المسلمون على خالد بن الوليد فهزم الله العدو وأظهر المسلمين" قال العماد بن كثير: يمكن الجمع بأن خالدا لما جاز المسلمين وبات، ثم أصبح وقد غير هيئة العسكر كما تقدم، وتوهم العدو أنهم قد جاء لهم مدد، حمل عليهم خالد حينئذ فولوا فلم يتبعهم، ورأى الرجوع بالمسلمين هي الغنيمة الكبرى. ثم وجدت في "مغازي ابن عائذ" بسند منقطع أن خالدا لما أخذ الراية قاتلهم قتالا شديدا حتى انحاز الفريقان عن غير هزيمة، وقفل المسلمون فمروا على طريقهم بقرية بها حصن كانوا في ذهابهم قتلوا من المسلمين رجلا، فحاصروهم، حتى فتح الله عليهم عنوة، وقتل خالد بن الوليد مقاتلتهم، فسمي ذلك المكان نقيع الدم إلى اليوم. قوله: "حدثنا عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري. قوله: "لما جاء قتل ابن رواحة" يحتمل أن يكون المراد مجيء الخبر على لسان القاصد الذي حضر من عند الجيش، ويحتمل أن يكون المراد مجيء الخبر على لسان جبريل كما يدل عليه حديث أنس الذي قبله. قوله: "جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد البيهقي من طريق المقدمي عن عبد الوهاب في المسجد. قوله: "يعرف فيه الحزن" أي لما جعل الله فيه من الرحمة، ولا ينافي ذلك الرضا بالقضاء، ويؤخذ منه أن ظهور الحزن على الإنسان إذا أصيب بمصيبة لا يخرجه عن كونه صابرا راضيا إذا كان قلبه مطمئنا، بل قد يقال إن من كان ينزعج بالمصيبة ويعالج نفسه على الرضا والصبر أرفع رتبة ممن لا يبالي بوقوع المصيبة أصلا، أشار إلى ذلك الطبري وأطال في تقريره. قوله: "وأنا أطلع من صائر الباب، تعني من شق الباب" ووقع في رواية القابسي "من صائر الباب بشق الباب: "وللنسفي" شق" بغير موحدة والأول أصوب هنا، وشق بالكسر وبالفتح أيضا، يقال بالفتح هو الموضع الذي ينظر منه كالكوة، وبالكسر الناحية. وهذه الرواية تدل على أن في الرواية التي تقدمت في الجنائز بلفظ: "من صائر الباب شق الباب: "إدراجا، وأنه تفسير من بعض رواته. وذكر ابن التين وغيره أن الذي وقع في الحديث بلفظ: "صائر" تغيير والصواب "صير" بكسر المهملة وتحتانية ساكنة ثم راء، قال الجوهري: الصير شق الباب، وفي الحديث: "من نظر من صير باب ففقئت عينه فهي هدر" قال أبو عبيد: لم أسمع هذا الحرف إلا في هذا الحديث. قوله: "فأتاه رجل" لم أقف على اسمه. قوله: "إن نساء جعفر" يحتمل أن يريد زوجاته، ويحتمل أن يريد من ينسب إليه من النساء في الجملة، وهذا الثاني هو المعتمد لأنا لا نعرف لجعفر زوجة غير أسماء بنت عميس. قوله: "فذكر بكاءهن" في رواية الكشميهني: "وذكر" بواو. قوله: "فأمره أن يأتيهن" كذا رأيت في أصل أبي ذر، فإن كان مضبوطا ففيه حذف تقديره فنهاهن، وأظنه محرفا فإن الذي في سائر الروايات "فأمره أن ينهاهن" وهو الوجه، وكذا وقع في الجنائز: قوله: "وذكر أنه لم يطعنه" في رواية الكشميهني: "وذكر أنهن" وهو أوجه. قوله: "لقد غلبننا" أي في عدم الامتثال لقوله، وذلك إما لأنه لم يصرح لهن بنهي الشارع عن ذلك فحملن أمره على أنه يحتسب عليهن من قبل نفسه، أو حملن الأمر على التنزيه فتمادين على ما هن فيه، أو لأنهن لشدة المصيبة لم يقدرن على ترك البكاء. والذي يظهر أن النهي إنما وقع عن قدر زائد على محض البكاء كالنوح ونحو ذلك، فلذلك أمر الرجل بتكرار النهي. واستبعده بعضهم من جهة أن الصحابيات لا يتمادين بعد تكرار النهي على أمر محرم، ولعلهن تركن النوح ولم يتركن البكاء، وكان غرض الرجل حسم المادة ولم يطعنه، لكن قوله: "فاحث في أفواههن من التراب" يدل على أنهن تمادين على الأمر الممنوع، ويجوز في الثاء المثلثة من

(7/514)


قوله: "فاحث" الضم والكسر لأنه يقال حثى يحثو ويحثى. قوله: "من العناء" يفتح العين المهملة وبالنون والمد هو التعب، ووقع في رواية العذري عند مسلم: "من الغي" بغين معجمة وتحتانية ثقيلة، وللطبراني مثله لكن بعين مهملة ومراد عائشة أن الرجل لا يقدر على ذلك، فإذا كان لا يقدر فقد أتعب نفسه ومن يخاطبه في شيء لا يقدر على إزالته ولعل الرجل لم يفهم من الأمر المحتم. وقال القرطبي لم يكن الأمر للرجل بذلك على حقيقته، لكن تقديره إن أمكنك فإن ذلك يسكنهن إن فعلته وأمكنك، وإلا فالملاطفة أولى. وفي الحديث جواز معاقبة من نهي عن منكر فتمادى عليه بما يليق به. وقال النووي: معنى كلام عائشة إنك قاصر عن القيام بما أمرت به من الإنكار فينبغي أن تخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقصورك عن ذلك ليرسل غيرك وتستريح أنت من العناء. ووقع عند ابن إسحاق من وجه آخر صحيح عن عائشة في آخره: "قالت عائشة: وعرفت أنه لا يقدر أن يحثي في أفواههن التراب. قالت: وربما ضر التكلف أهله" وفي حديث عائشة من الفوائد بيان ما هو الأولى بالمصاب من الهيئات، ومشروعية الانتصاب للعزاء على هيئته، وملازمة الوقار والتثبت. وفيه جواز نظر من شأنه الاحتجاب من شق الباب، وأما عكسه فممنوع. وفيه إطلاق الدعاء بلفظ لا يقصد الداعي إيقاعه بالمدعو به، لأن قول عائشة "أرغم الله أنفك" أي ألصقه بالتراب. ولم ترد حقيقة هذا، وإنما جرت عادة العرب بإطلاق هذه اللفظة في موضع الشماتة بمن يقال له، ووجه المناسبة في قوله: "احث في أفواههن" دون أعينهن مع أن الأعين محل البكاء الإشارة إلى أن النهي لم يقع عن مجرد البكاء، بل عن قدر زائد عليه من صياح أو نياحة. والله أعلم.
4264- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ "كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَيَّا ابْنَ جَعْفَرٍ قَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنِ"
4265- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يَقُولُ لَقَدْ انْقَطَعَتْ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلاَّ صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ
[الحديث 4265- طرفه في: 4266]
4266- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ قَالَ "سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يَقُولُ لَقَدْ دُقَّ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ وَصَبَرَتْ فِي يَدِي صَفِيحَةٌ لِي يَمَانِيَةٌ"
الحديث الرابع قوله: "حدثني محمد بن أبي بكر" هو المقدمي، وعمر بن علي هو عمه، وعامر هو الشعبي. قوله: "يا ابن ذي الجناحين" تقدم شرحه في مناقب جعفر، وأنه عوض بذلك عن قطع يديه في تلك الوقعة حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت، ثم أخذه بشماله فقطعت، ثم احتضنه فقتل. وإن النسفي روى عن البخاري أنه يقال لكل ذي ناحيتين جناحان، وأنه أشار إلى أن الجناحين في هذه القصة ليسا على ظاهرهما. وقال السهيلي: قوله: جناحان ليسا كما يسبق إلى الوهم كجناحي الطير وريشه، لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها، فالمراد بالجناحية صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر. وقد عبر القرآن عن العضد بالجناح توسعا في قوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وقال العلماء في أجنحة الملائكة: إنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة، فقد ثبت أن لجبريل ستمائة جناح، ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلا عن أكثر من ذلك، وإذا لم يثبت خبر في بيان

(7/515)


كيفيتها فنؤمن بها من غير بحث عن حقيقتها، انتهى. وهذا الذي جزم به في مقام المنع والذي نقله عن العلماء ليس صريحا في الدلالة لما ادعاه، ولا مانع من الحمل على الظاهر إلا من جهة ما ذكره من المعهود، وهو من قياس الغائب على الشاهد وهو ضعيف، وكون الصورة البشرية أشرف الصور لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره، لأن الصورة باقية. وقد روى البيهقي في "الدلائل" من مرسل عاصم بن عمر بن قتادة أن جناحي جعفر من ياقوت. وجاء في جناحي جبريل أنهما لؤلؤ أخرجه ابن منده في ترجمة ورقة. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، والإسناد كله كوفيون إلا الصحابي. قوله: "يمانية" بتخفيف التحتانية وحكي تشديدها، وهذا الحديث يقتضي أن المسلمين قتلوا من المشركين كثيرا، وقد روى أحمد وأبو داود من حديث عوف بن مالك "أن رجلا من أهل اليمن رافقه في هذه الغزوة، فقتل روميا وأخذ سلبه، فاستكثره خالد بن الوليد، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فدل على أن ذلك بعد أن قام خالد بن الوليد بالأمر، وهو يرجح أن خالدا لم يقتصر على حوز المسلمين والنجاة بهم بل باشر القتال، فيمكن الجمع كما تقدم. قوله: "دق في يدي" بضم الدال فسره في الرواية الأولى بقوله: "انقطعت". قوله: "يمانية" بتخفيف التحتانية وحكي تشديدها، وهذا الحديث يقتضي أن المسلمين قتلوا من المشركين كثيرا، وقد روى أحمد وأبو داود من حديث عوف بن مالك "أن رجلا من أهل اليمن رافقه في هذه الغزوة، فقتل روميا وأخذ سلبه، فاستكثره خالد بن الوليد، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فدل على أن ذلك بعد أن قام خالد بن الوليد بالأمر، وهو يرجح أن خالدا لم يقتصر على حوز المسلمين والنجاة بهم بل باشر القتال، فيمكن الجمع كما تقدم.
4267- حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي وَا جَبَلاَهْ وَا كَذَا وَا كَذَا تُعَدِّدُ عَلَيْهِ فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلاَّ قِيلَ لِي آنْتَ كَذَلِكَ"
[الحديث 4267 –طرفه في:4268]
4268- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْثَرُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ "أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِهَذَا فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ"
قوله: "عن حصين" هو ابن عبد الرحمن، وعامر هو الشعبي كما في الرواية الثانية. قوله: "أغمي على عبد الله بن رواحة" أي ابن ثعلب بن امرئ القيس الأنصاري الخزرجي أحد شعراء النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار وأحد النقباء بالعقبة وأحد البدريين. قوله: "فجعلت أخته عمرة" هي والدة النعمان بن بشير راوي الحديث، ووقع في رواية هشيم عند أبي نعيم وفي مرسل أبي عمران الجوني عند ابن سعد أنها أمه، وهو خطأ، فلو كانت أمه تسمى عمرة لجوزت وقوع ذلك لهما، ولكن اسم أمه كبشة بنت واقد، وهذا الحديث ذكره خلف في مسند النعمان، وذكره المزي في مسند عبد الله بن رواحة، وهو واضح لأن المتن منقول عنه، وينبغي أن يذكر أيضا في مسند عمرة لقوله في الطريق الثانية "لم تبك عليه" أي عمرة فهو نقل من النعمان ما صنعت أمه، ولما قال خاله، لكن يصغر النعمان عن إدراك ذلك من خاله، فالذي يظهر أنه إنما نقل جميع ذلك عن أمه فيكون الحديث من رواية النعمان عن أمه عن أخيها، فيكون ذلك من رواية ثلاثة من الصحابة في نسق. قوله: "واجبلاه وكذا وكذا تعدد عليه" في رواية هشيم عن حصين عند أبي نعيم في المستخرج "واعضداه" وفي مرسل الحسن عند ابن سعد" واجبلاه، واعزاه" وفي مرسل أبي عمران الجوني عنده "واظهراه" وزاد فيه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عاده فأغمي عليه فقال: اللهم إن كان أجله قد حضر فيسر عليه، وإلا فاشفه ، قال: فوجد خفة، فقال

(7/516)


كان ملك قد رفع مرزبة من حديد يقول: آنت كذا؟ فلو قلت نعم لقمعني بها". قوله: "قيل لي آنت كذلك" هو استفهام إنكار، وفي مرسل الحسن "آنت جبلها، آنت عزها" وزاد أبو نعيم في "المستخرج" من طريق هشيم في آخرها "فنهاها عن البكاء عليه" وبها تظهر النكتة في قوله في الرواية الثانية "فلما مات لم تبك عليه" أي أصلا امتثالا لأمره، وبهذه الزيادة وهي قوله: "فلما مات لم تبك عليه" تظهر النكتة في إدخال هذا الحديث في هذا الباب، ويظهر أو يتجه الرد على من قال: لا مناسبة لدخوله فيه لأن موت عبد الله بن رواحة لم يكن في ذلك المرض، والله أعلم.

(7/517)


45 - باب بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ إِلَى الْحُرُقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ
4269- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ أَخْبَرَنَا أَبُو ظَبْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَكَفَّ الأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ قُلْتُ كَانَ مُتَعَوِّذًا فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ"
[الحديث 4270- أطرافه في: 4273,4272,4271]
4270- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ يَقُولُ "غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ وَخَرَجْتُ فِيمَا يَبْعَثُ مِنْ الْبُعُوثِ تِسْعَ غَزَوَاتٍ مَرَّةً عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ وَمَرَّةً عَلَيْنَا أُسَامَةُ"
4271- وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ سَلَمَةَ يَقُولُ "غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ وَخَرَجْتُ فِيمَا يَبْعَثُ مِنْ الْبَعْثِ تِسْعَ غَزَوَاتٍ عَلَيْنَا مَرَّةً أَبُو بَكْرٍ وَمَرَّةً أُسَامَةُ"
4272- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ وَغَزَوْتُ مَعَ ابْنِ حَارِثَةَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْنَا"
4273- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ "غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ فَذَكَرَ خَيْبَرَ وَالْحُدَيْبِيَةَ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ وَيَوْمَ الْقَرَدِ -قَالَ يَزِيدُ وَنَسِيتُ بَقِيَّتَهُمْ"
قوله: "باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات" بضم المهملة وفتح الراء بعدها قاف، نسبة إلى الحرقة، واسمه جهيش بن عامر بن ثعلبة بن مودعة بن جهينة، تسمى الحرقة لأنه حرق قوما بالقتل فبالغ في ذلك ذكره

(7/517)


ابن الكلبي. قوله: "أخبرنا حصين" هو ابن عبد الرحمن، وأبو ظبيان بالمعجمة ثم الموحدة اسمه حصين بن جندب، قال النووي أهل اللغة يفتحون الطاء يعني المشالة من الظبيان، وأهل الحديث يكسرونها. قوله: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة" ليس في هذا ما يدل على أنه كان أمير الجيش كما هو ظاهر الترجمة، وقد ذكر أهل المغازي سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة بتحتانية ساكنة وفاء مفتوحة، وهي وراء بطن نخل، وذلك في رمضان سنة سبع. وقالوا: إن أسامة قتل الرجل في هذه السرية، فإن ثبت أن أسامة كان أمير الجيش فالذي صنعه البخاري هو الصواب لأنه ما أمر إلا بعد قتل أبيه بغزوة موتة وذلك في رجب سنة ثمان، وإن لم يثبت أنه كان أميرها رجح ما قال أهل المغازي، وسيأتي شرح حديث الباب في كتاب الديات وفيه تسمية الرجل المقتول إن شاء الله تعالى. ذكر المصنف حديث سلمة بن الأكوع قال: "غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات. وخرجت فيما يبعث من البعوث بتسع غزوات، مرة علينا أبو بكر، ومرة علينا أسامة بن زيد بن حارثة "أما غزوات سلمة مع النبي صلى الله عليه وسلم فتقدم بيانها في غزوة الحديبية، وقد ذكر منها في الطريق الأخيرة من حديث الباب خيبر والحديبية ويوم الحنين ويوم القرد وفي آخره: "قال يزيد - يعني ابن أبي عبيد الراوي عنه - ونسيت بقيتهم" كذا فيه بالميم في ضمير جمع الغزوات والمعروف فيه التأنيث، وكذا وقع في رواية النسفي بالميم وضبب عليه، ووقع في رواية حكاها الكرماني ولم أقف لعله "بقيتها" هي أوجه، وأما بقية الغزوات التي نسيهن يزيد فهن غزوة الفتح وغزوة الطائف فإنهما وإن كانا في سنة غزوة حنين فهما غيرهما وغزوة تبوك وهي آخر الغزوات النبوية، فهذه سبع غزوات كما ثبت في أكثر الروايات، وإن كانت الرواية الأولى وهي رواية حاتم بن إسماعيل بلفظ: "التسع" محفوظة فلعله عد غزوة وادي القرى التي وقعت عقب خيبر، وعد أيضا عمرة القضاء غزوة كما تقدم من صنيع البخاري فكمل بها التسعة، وأما ما وقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق نصر بن علي عن حماد بن مسعدة فذكر هذا الحديث فقال في أوله "أحد وخيبر" ففيه نظر لأنهم لم يذكروا سلمة فيمن شهد أحدا. وقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن حماد بن مسعدة ولم يذكر فيه أحدا والله أعلم. وأما البعوث فسرية أبي بكر الصديق إلى بني فزارة كما ثبت من حديثه عند مسلم، وسريته إلى بني كلاب ذكرها ابن سعد، وبعثه إلى الحج سنة تسع. وأما أسامة فأول ما أرسل في السرية التي وقع ذكرها في الباب ثم في سرية إلى ابني بضم الهمزة وسكون الموحدة ثم نون مقصور وهي من نواحي البلقاء وذلك في صفر، فوقفنا مما ذكره على خمس سرايا وبقيت أربع. فليستدركها على أهل المغازي فإنهم لم يذكروا غير الذي ذكرته بعد التتبع البالغ، ويحتمل أن يكون فيه حذف تقديره: ومرة علينا غيرهما، وأيضا فإنه لم يذكر في بعض الروايات للبعوث عددا. قوله: "وقال عمر بن حفص" أي ابن غياث وهو من شيوخ البخاري وربما حدث عنه بواسطة، وهذا الحديث قد وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي بشر إسماعيل بن عبد الله عن عمر بن حفص به. قوله: "وغزوت مع ابن حارثة استعمله علينا" كذا أبهمه البخاري عن شيخه أبي عاصم، وقد ذكرت ما فيه في "باب غزوة زيد بن حارثة" ولعل البخاري أبهمه عمدا لمخالفة بقية روايات الباب في تعيين أسامة. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا حماد بن مسعدة" يقال إن محمد بن عبد الله هذا هو الذهلي نسبة إلى جده وهو محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس، وكان أبو داود إذا حدث عنه نسب أباه يحيى إلى جده فارس ولا يذكر خالدا ويقال إن محمد بن عبد الله المذكور هو المخزومي، وجزم الكلاباذي والبرقاني بأنه الذهلي، والله أعلم.

(7/518)


باب غزوة الفتح وما بعث به حاطب لأهل مكة
...
46 - باب غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَمَا بَعَثَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ
يُخْبِرُهُمْ بِغَزْوِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4274- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ "أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوا مِنْهَا قَالَ فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ قُلْنَا لَهَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ قَالَتْ مَا مَعِي كِتَابٌ فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ قَالَ فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَا حَاطِبُ مَا هَذَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ يَقُولُ كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ [الممتحنة 1]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ} إِلَى قَوْلِهِ {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}
قوله: "باب غزوة الفتح" أي فتح مكة شرفها الله تعالى، وسقط لفظ: "باب" من نسخة الصغاني، وكان سبب ذلك أن قريشا نقضوا العهد الذي وقع بالحديبية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغزاهم. قال ابن إسحاق "حدثني الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة أنه كان في الشرط: من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل، فدخلت بنو بكر - أي ابن عبد مناة بن كنانة - في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال ابن إسحاق: وكان بين بني بكر وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام، فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية الديلي من بني بكر في بني الديل حتى بيت خزاعة على ماء لهم يقال له الوتير، فأصاب منهم رجلا يقال له منبه، واستيقظت لهم خزاعة فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال، وأمدت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل بعضهم معهم ليلا في خفية، فلما انقضت الحرب خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد فقال:
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فانصر هداك الله نصرا أيدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا

(7/519)


إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بيوتنا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا
قال ابن إسحاق: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم" فكان ذلك ما هاج فتح مكة. وقد روى البزار من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة بعض الأبيات المذكورة في هذه القصة، وهو إسناد حسن موصول. ولكن رواه ابن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة مرسلا. وأخرجه أيضا من رواية أيوب عن عكرمة مرسلا مطولا قال فيه: "لما وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة، وكانت خزاعة في صلحه وبنو بكر في صلح قريش، فكان بينهم قتال، فأمدتهم قريش بسلاح وطعام، فظهروا على خزاعة وقتلوا منهم. قال: وجاء وفد خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى النصر، وذكر الشعر" وأخرجه عبد الرزاق من طريق مقسم عن ابن عباس مطولا وليس في الشعر. وأخرجه الطبراني من حديث ميمونة بنت الحارث مطولا وفيه أيضا أنها "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليلا وهو في متوضئه: نصرت نصرت، فسألته فقال: هذا راجز بني كعب يستصرخني، وزعم أن قريشا أعانت عليهم بني بكر. قالت: فأقمنا ثلاثا، ثم صلى الصبح بالناس، ثم سمعت الراجز ينشده" وعند موسى بن عقبة في هذه القصة قال: ويذكرون أن ممن أعانهم من قريش صفوان بن أمية وشيبة بن عثمان وسهل بن عمرو. قوله: "وما بعث به حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم "سقط لفظ: "به" من بعض النسخ أي لعزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم. وعند ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبيدي عن عروة قال: فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بذلك، ثم أعطاه امرأة من مزينة، وفي مرسل أبي سلمة المذكور عند ابن أبي شيبة: "ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعائشة جه زيني ولا تعلمي بذلك أحدا ، فدخل عليها أبو بكر فأنكر بعض شأنها فقال: ما هذا؟ فقالت له، فقال: والله ما انقضت الهدنة بيننا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له أنهم أول من غدر. ثم أمر بالطرق فحبست فعمي على أهل مكة لا يأتيهم خبر". قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "عن عمرو" تقدم في الجهاد" عن علي عن سفيان سمعت عمرو بن دينار". قوله: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد" كذا في رواية عبيد الله بن أبي رافع. وفي رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي كما تقدم في فضل من شهد بدرا "بعثني وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام" فيحتمل أن يكون الثلاثة كانوا معه، فذكر أحد الراويين عنه ما لم يذكره الآخر ولم يذكر ابن إسحاق مع علي والزبير أحدا، وساق الخبر بالتثنية. قال: "فخرجا حتى أدركاها فاستنزلاها إلخ" فالذي يظهر أنه كان مع كل منهما آخر تبعا له. قوله: "فإن بها ظعينة معها كتاب" في أواخر الجهاد من وجه آخر عن علي: "وتجدون بها امرأة أعطاها حاطب كتابا" وذكر ابن إسحاق أن اسمها سارة، والواقدي أن اسمها كنود. وفي رواية سارة، وفي أخرى أم سارة. وذكر الواقدي أن حاطبا جعل لها عشرة دنانير على ذلك، وقيل: دينارا واحدا، وقيل: إنها كانت مولاة العباس. قوله: "فأخرجته من عقاصها" قد تقدم في الجهاد، وبيان الاختلاف في ذلك، ووجه الجمع بين كونه في عقاصها أو في حجزتها. قوله: "يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي مرسل عروة تخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا. قوله: "إني كنت امرأ ملصقا في قريش" أي حليفا،

(7/520)


وقد فسره بقوله: "كنت حليفا ولم أكن من أنفسها" وعند ابن إسحاق "ليس في القوم من أصل ولا عشيرة" وعند أحمد "وكنت غريبا" قال السهيلي: كان حاطب حليفا لعبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى، واسم أبي بلتعة عمرو، وقيل: كان حليفا لقريش. قوله: "يحمون بها قرابتي" في رواية ابن إسحاق "وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه" وسيأتي تكملة شرح هذا الحديث في سورة الممتحنة، وذكر بعض أهل المغازي وهو في "تفسير يحيى بن سلام" أن لفظ الكتاب" أما بعد يا معشر قريش فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده. فانظروا لأنفسكم والسلام" كذا حكاه السهيلي. وروى الواقدي بسند له مرسل أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد"

(7/521)


المجلد الثامن
"بقية" كتاب المغازي
باب غزوة الفتح في رمضان
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
47- باب غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ
4275- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا غَزْوَةَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ" قَالَ وَسَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكَدِيدَ الْمَاءَ الَّذِي بَيْنَ قُدَيْدٍ وَعُسْفَانَ أَفْطَرَ فَلَمْ يَزَلْ مُفْطِرًا حَتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ"
4276- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي رَمَضَانَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلاَفٍ وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ فَسَارَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَكَّةَ يَصُومُ وَيَصُومُونَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ وَهُوَ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ أَفْطَرَ وَأَفْطَرُوا" قَالَ الزُّهْرِيُّ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآخِرُ فَالآخِرُ
4277حَدَّثَنِي عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ إِلَى حُنَيْنٍ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فَصَائِمٌ وَمُفْطِرٌ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ فَوَضَعَهُ عَلَى رَاحَتِهِ أَوْ عَلَى رَاحِلَتِهِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى النَّاسِ فَقَالَ الْمُفْطِرُونَ لِلصُّوَّامِ أَفْطِرُوا"
4278- وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ" وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4279- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَ نَهَارًا لِيُرِيَهُ النَّاسَ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ" قَالَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ"

(8/3)


قوله: "باب غزوة الفتح في رمضان" أي كانت في رمضان سنة ثمان من الهجرة، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الصيام في الكلام على حديث ابن عباس المذكور في هذا الباب، وقد تقدم هناك أنهم خرجوا من المدينة لعشر مضين من رمضان، وزاد ابن إسحاق عن الزهري بهذا الإسناد أنه صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة أبا رهم الغفار. قوله: "قال: وسمعت ابن المسيب يقول مثل ذلك" قائل ذلك هو الزهري، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "وعن عبيد الله بن عبد الله" هو موصول بالإسناد المذكور، وقد تقدم بيان ذلك أيضا في الصيام. وبين البيهقي من طريق عاصم بن علي عن الليث ما حذفه البخاري منه فإنه ساقه إلى قوله: "وسمعت سعيد بن المسيب يقول مثل ذلك" وزاد: "لا أدري أخرج في شعبان فاستقبله رمضان، أو خرج في رمضان بعدما دخل، غير أن عبيد الله بن عبد الله أخبرني" فذكر ما ذكره البخاري، فحذف البخاري منه التردد المذكور. ثم أخرج البيهقي من طريق ابن أبي حفصة عن الزهري بهذا الإسناد قال: "صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان" ثم ساقه من طريق معمر عن الزهري وبين أن هذا القدر من قول الزهري وأن ابن أبي حفصة أدرجه، وكذا أخرجه يونس عن الزهري، وروى أحمد بإسناد صحيح من طريق قزعة بن يحيى عن أبي سعيد قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان" وهذا يدفع التردد الماضي ويعين يوم الخروج، وقول الزهري يعين يوم الدخول ويعطي أنه أقام في الطريق اثني عشر يوما. وأما ما قال الواقدي إنه خرج لعشر خلون من رمضان فليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه، وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخرى: منها عند مسلم: "لست عشرة" ولأحمد "لثماني عشرة" وفي أخرى "لثنتي عشرة" والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى والأخرى على ما بقي، والذي في المغازي: دخل لتسع عشرة مضت، وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر. ووقع في أخرى بالشك في تسع عشرة أو سبع عشرة. وروى يعقوب بن سفيان من رواية ابن إسحاق عن جماعة من مشايخه أن الفتح كان في عشر بقين من رمضان، فإن ثبت حمل على أن مراده أنه وقع في العشر الأوسط، قبل أن يدخل العشر الأخير. قوله: "ومعه عشرة آلاف" أي من سائر القبائل. وفي مرسل عروة عند ابن إسحاق وابن عائذ "ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار وأسلم وغفار ومزينة وجهينة وسليم" وكذا وقع في "الإكليل" و "شرف المصطفى" ويجمع بينهما بأن العشرة آلاف خرج بها من المدينة ثم تلاحق بها الألفان. وسيأتي تفصيل ذلك في مرسل عروة الذي بعد هذا. قوله: "وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة" هكذا وقع في رواية معمر، وهو وهم، والصواب على رأس سبع سنين ونصف، وإنما وقع الوهم من كون غزوة الفتح كانت في سنة ثمان، ومن أثناء ربيع الأول إلى أثناء رمضان نصف سنة سواء، فالتحرير أنها سبع سنين ونصف ويمكن توجيه رواية معمر بأنه بناء على التاريخ بأول السنة من المحرم، فإذا دخل من السنة الثانية شهران أو ثلاثة أطلق عليها سنة مجازا من تسمية البعض باسم الكل، ويقع ذلك في آخر ربيع الأول، ومن ثم إلى رمضان نصف سنة. أو يقال كان آخر شعبان تلك السنة آخر سبع سنين ونصف من أول ربيع الأول، فلما دخل رمضان دخل سنة أخرى. وأول السنة يصدق عليه أنه رأسها فيصح أنه رأس ثمان سنين ونصف، أو أن رأس الثمان كان أول ربيع الأول وما بعده نصف سنة. قوله: "يصوم ويصومون" تقدم شرحه في كتاب الصيام. قوله: "خالد" هو الحذاء

(8/4)


"عن عكرمة عن ابن عباس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان إلى حنين" استشكله الإسماعيلي بأن حنينا كانت بعد الفتح فيحتاج إلى تأمل، فإنه ذكر قبل ذلك أنه خرج من المدينة إلى مكة، وكذا حكى ابن التين عن الداودي أنه قال: الصواب أنه خرج إلى مكة، أو كانت "خيبر" فتصحفت. قلت: وحمله على خيبر مردود، فإن الخروج إليها لم يكن في رمضان، وتأويله ظاهر فإن المراد بقوله: "إلى حنين" أي التي وقعت عقب الفتح لأنها لما وقعت أثرها أطلق الخروج إليها. وقد وقع نظير ذلك في حديث أبي هريرة الآتي قريبا. وبهذا جمع المحب الطبري. وقال غيره: يجوز أن يكون خرج إلى حنين في بقية رمضان قاله ابن التين. ويعكر عليه أنه خرج من المدينة في عاشر رمضان فقدم مكة وسطه وأقام بها تسعة عشر كما سيأتي. قلت: وهذا الذي جزم به معترض، فإن ابتداء خروجه مختلف فيه كما مضى في آخر الغزوة من حديث ابن عباس، فيكون الخروج إلى حنين في شوال. قوله: "دعا بإناء من لبن أو ماء" في رواية طاوس عن ابن عباس آخر الباب: "دعا بإناء من ماء فشرب نهارا" الحديث. قال الداودي: يحتمل أن يكون دعا بهذا مرة وبهذا مرة. قلت: لا دليل على التعدد، فإن الحديث واحد والقصة واحدة، وإنما وقع الشك من الراوي فقدم عليه رواية من جزم، وأبعد ابن التين فقال: كانت قصتان إحداهما في الفتح والأخرى في حنين. قوله: "فقال المفطرون للصوم أفطروا" كذا لأبي ذر ولغيره: "للصوام" بألف وكلاهما جمع صائم. وفي رواية الطبري في تهذيبه "فقال المفطرون للصوام أفطروا يا عصاة" . قوله: "وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر" وصله أحمد بن حنبل عنه وبقيته "خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان فصام حتى مر بغدير في الطريق" الحديث. قوله: "وقال حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس" كذا وقع في بعض نسخ أبي ذر، وللأكثر ليس فيه ابن عباس، وبه جزم الدار قطني وأبو نعيم في المستخرج، وكذلك وصله البيهقي من طريق سليمان بن حرب وهو أحد مشايخ البخاري عن حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة، فذكر الحديث بطوله في فتح مكة. قال البيهقي في آخر الكلام عليه: لم يجاوز به أيوب عكرمة. قلت: وقد أشرت إليه قبله، وأن ابن أبي شيبة أخرجه هكذا مرسلا عن سليمان بن حرب به بطوله، وسأذكر ما فيه من فائدة في أثناء الكلام على شرح هذه الغزوة. طريق طاوس عن ابن عباس قد تقدم الكلام عليها في كتاب الصيام أيضا.

(8/5)


48- باب أَيْنَ رَكَزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ
4280- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلُوا يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ فَإِذَا هُمْ بِنِيرَانٍ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ مَا هَذِهِ لَكَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ فَقَالَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ نِيرَانُ بَنِي عَمْرٍو فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ عَمْرٌو أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُمْ فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَمَّا سَارَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: "احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ حَطْمِ الْخَيْلِ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ" فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ فَجَعَلَتْ

(8/5)


الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ قَالَ يَا عَبَّاسُ مَنْ هَذِهِ قَالَ هَذِهِ غِفَارُ قَالَ مَا لِي وَلِغِفَارَ ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ وَمَرَّتْ سُلَيْمُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَالَ مَنْ هَذِهِ قَالَ هَؤُلاَءِ الأَنْصَارُ عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَهُ الرَّايَةُ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ وَهِيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَرَايَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ مَا قَالَ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ كَذَبَ سَعْدٌ وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ قَالَ وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بِالْحَجُونِ " قَالَ عُرْوَةُ وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ "سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَا هُنَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ قَالَ وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُدَا فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ رَجُلاَنِ حُبَيْشُ بْنُ الأَشْعَرِ وَكُرْزُ بْنُ جابِرٍ الْفِهْرِيُّ"
قوله: "باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح" أي بيان المكان الذي ركزت فيه راية النبي صلى الله عليه وسلم بأمره. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة "عن أبيه قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح" هكذا أورده مرسلا، ولم أره في شيء من الطرق عن عروة موصولا، ومقصود البخاري منه ما ترجم به وهو آخر الحديث، فإنه موصول عن عروة عن نافع بن جبير بن مطعم عن العباس بن عبد المطلب والزبير بن العوام. قوله: "فبلغ ذلك قريشا" ظاهره أنهم بلغهم مسيره قبل خروج أبي سفيان وحكيم بن حزام، والذي عند ابن إسحاق وعند ابن عائذ من مغازي عروة: ثم خرجوا وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر الظهران ولم تعلم بهم قريش. وكذا في رواية أبي سلمة عند ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالطرق فحبست، ثم خرج، فغم على أهل مكة الأمر، فقال أبو سفيان لحكيم بن حزام: هل لك أن تركب إلى أمر لعلنا أن نلقى خبرا؟ فقال له بديل بن ورقاء: وأنا معكم، قالا: وأنت إن شئت فركبوا. وفي رواية ابن عائذ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "لم يغز رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا حتى بعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى ثلاث: أن يودوا قتيل خزاعة، وبين أن يبرءوا من حلف بكر، أو ينبذ إليهم على سواء. فأتاهم ضمرة فخيرهم، فقال قرظة بن عمرو: لا نودي ولا نبرأ، ولكنا ننبذ إليه على سواء. فانصرف ضمرة بذلك. فأرسلت قريش أبا سفيان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تجديد العهد"وكذلك أخرجه مسدد من مرسل محمد بن عباد بن جعفر، فأنكره الواقدي وزعم أن أبا سفيان إنما توجه مبادرا قبل أن يبلغ المسلمين الخبر، والله أعلم. وفي مرسل عكرمة عند ابن أبي شيبة ونحوه في مغازي عروة عند ابن إسحاق وابن عائذ" فخافت قريش، فانطلق أبو

(8/6)


سفيان إلى المدينة فقال لأبي بكر: جدد لنا الحلف، قال: ليس الأمر إلي. ثم أتى عمر فأغلظ له عمر.
ثم أتى فاطمة فقالت له: ليس الأمر إلي. فأتى عليا فقال: ليس الأمر إلي. فقال: ما رأيت كاليوم رجل أضل - أي من أبي سفيان - أنت كبير الناس، فجدد الحلف. قال: فضرب إحدى يديه على الأخرى وقال: قد أجرت بين الناس. ورجع إلى مكة فقالوا له: ما جئتنا بحرب فنحذر، ولا بصلح فنأمن "لفظ عكرمة وفي رواية عروة "فقالوا له: لعب بك علي وإن إخفار جوارك لهين عليهم" فيحتمل أن يكون قوله: "بلغ قريشا" أي غلب على ظنهم ذلك لا أن مبلغا بلغهم ذلك حقيقة. قوله: "خرجوا يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية ابن عائذ "فبعثوا أبا سفيان وحكيم بن حزام فلقيا بديل بن ورقاء فاستصحباه فخرج معهما" . قوله: "حتى أتوا مر الظهران" بفتح الميم وتشديد الراء مكان معروف، والعامة تقوله بسكون الراء وزيادة واو، والظهران بفتح المعجمة وسكون الهاء بلفظ تثنية ظهر، وفي مرسل أبي سلمة "حتى إذا دنوا من ثنية مر الظهران أظلموا - أي دخلوا في الليل - فأشرفوا على الثنية، فإذا النيران قد أخذت الوادي كله" وعند ابن إسحاق "أن المسلمين أوقدوا تلك الليلة عشرة آلاف نار" . قوله: "فقال أبو سفيان ما هذه" أي النيران "لكأنها" جواب قسم محذوف. وقوله: "نيران عرفة" إشارة إلى ما جرت به عادتهم من إيقاد النيران الكثيرة ليلة عرفة، وعند ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه في تلك الليلة فأوقدوا عشرة آلاف نار. قوله: "فقال بديل بن ورقاء: هذه نيران بني عمرو" يعني خزاعة، وعمرو يعني ابن لحي الذي تقدم ذكره مع نسب خزاعة في أول المناقب" فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك" ومثل هذا في مرسل أبي سلمة، وفي مغازي عروة عند ابن عائذ عكس ذلك وأنهم لما رأوا الفساطيط وسمعوا صهيل الخيل فراعهم ذلك فقالوا: هؤلاء بنو كعب - يعني خزاعة، وكعب أكبر بطون خزاعة - جاشت بهم الحرب. فقال بديل: هؤلاء أكثر من بني كعب ما بلغ تأليبها هذا. قالوا: فانتجعت هوازن أرضنا، والله ما نعرف هذا أنه هذا المثل صاح الناس. قوله: "فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم" في رواية ابن عائذ "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بين يديه خيلا تقبض العيون، وخزاعة على الطريق لا يتركون أحدا يمضي، فلما دخل أبو سفيان وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل تحت الليل" وفي مرسل أبي سلمة "وكان حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرا من الأنصار، وكان عمر بن الخطاب عليهم تلك الليلة فجاءوا بهم إليه فقالوا: جئناك بنفر أخذناهم من أهل مكة، فقال عمر: والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم، قالوا قد أتيناك بأبي سفيان" وعند ابن إسحاق "أن العباس خرج ليلا فلقي أبا سفيان وبديلا، فحمل أبا سفيان معه على البغلة ورجع صاحباه" ويمكن الجمع بأن الحرس لما أخذوهم استنقذ العباس أبا سفيان. وفي رواية ابن إسحاق "فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران قال العباس: والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش، قال: فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جئت الأراك فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: ما الحيلة؟ قلت: فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، قال: فركب خلفي ورجع صاحباه" وهذا مخالف للرواية السابقة أنهم أخذوهم، ولكن عند ابن عائذ "فدخل بديل وحكيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما" فيحمل قوله: "ورجع صاحباه" أي بعد أن أسلما، واستمر أبو سفيان عند العباس لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يحبسه

(8/7)


حتى يرى العساكر. ويحتمل أن يكونا رجعا لما التقى العباس بأبي سفيان فأخذهما العسكر أيضا. وفي مغازي موسى بن عقبة ما يؤيد ذلك، وفيه: "فلقيهم العباس فأجارهم وأدخلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم بديل وحكيم، وتأخر أبو سفيان بإسلامه حتى أصبح" ويجمع بين ما عند ابن إسحاق ومرسل أبي سلمة بأن الحرس أخذوهم، فلما رأوا أبا سفيان مع العباس تركوه معه. وفي رواية عكرمة "فذهب به العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له، فقال: يا أبا سفيان أسلم تسلم، قال كيف أصنع باللات والعزى؟ قال: فسمعه عمر فقال: لو كنت خارجا من القبة ما قلتها أبدا، فأسلم أبو سفيان، فذهب به العباس إلى منزله، فلما أصبح ورأى مبادرة الناس إلى الصلاة أسلم" . قوله: "احبس أبا سفيان" في رواية موسى بن عقبة أن العباس قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا آمن أن يرجع أبو سفيان فيكفر، فاحبسه حتى تريه جنود الله، ففعل، فقال أبو سفيان: أغدرا يا بني هاشم؟ قال العباس: لا ولكن لي إليك حاجة فتصبح فتنظر جنود الله للمشركين وما أعد الله للمشركين، فحبسه بالمضيق دون الأراك حتى أصبحوا. قوله: "عند خطم الجبل" في رواية النسفي والقابسي بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة وبالجيم والموحدة أي أنف الجبل، وهي رواية ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي. وفي رواية الأكثر بفتح المهملة من اللفظة الأولى وبالخاء المعجمة وسكون التحتانية أي ازدحامها، وإنما حبسه هناك لكونه مضيقا ليرى الجميع ولا يفوته رؤية أحد منهم. قوله: "فجعلت القبائل تمر" في رواية موسى بن عقبة "وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي: لتظهر كل قبيلة ما معها من الأداة والعدة، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم الكتائب فمرت كتيبة فقال أبو سفيان: يا عباس أفي هذه محمد؟ قال: لا، قال: فمن هؤلاء؟ قال: قضاعة. ثم مرت القبائل فرأى أمرا عظيما أرعبه" . قوله: "كتيبة كتيبة" بمثناة وزن عظيمة، وهي القطعة من الجيش، فعيلة من الكتب بفتح ثم سكون وهو الجمع. قوله: "ما لي ولغفار. ثم مرت جهينة قال مثل ذلك" وفي مرسل أبي سلمة "مرت جهينة فقال: أي عباس من هؤلاء؟ قال: هذه جهينة. قال: مالي ولجهينة، والله ما كان بيني وبينهم حرب قط" والمذكور في مرسل عروة هذا من القبائل غفار وجهينة وسعد بن هذيم وسليم، وفي مرسل أبي سلمة من الزيادة أسلم ومزينة، ولم يذكر سعد بن هذيم وهم من قضاعة، وقد ذكر قضاعة عند موسى بن عقبة وسعد بن هذيم المعروف فيها سعد هذيم بالإضافة، ويصح الآخر على المجاز وهو سعد بن زيد بن ليث بن سود بضم المهملة ابن أسلم بضم اللام ابن الحاف بمهملة وفاء ابن قضاعة. وفي سعد هذيم طوائف من العرب، منهم بنو ضنة بكسر المعجمة ثم نون وبنو عذرة وهي قبيلة كبيرة مشهورة، وهذيم الذي نسب إليه سعد عبد كان رباه فنسب إليه. وذكر الواقدي في القبائل أيضا أشجع وأسلم وتميما وفزارة. قوله: "معه الراية" أي راية الأنصار، وكانت راية المهاجرين مع الزبير كما سيأتي. قوله: "فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة" بالحاء المهملة أي يوم حرب لا يوجد منه مخلص، أي يوم قتل، يقال لحم فلان فلانا إذا قتله. قوله: "اليوم تستحل الكعبة. فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار" وكذا وقع في هذا الموضع مختصرا، ومراد سعد بقوله يوم الملحمة يوم المقتلة العظمى، ومراد أبي سفيان بقوله يوم الذمار وهو بكسر المعجمة وتخفيف الميم أي الهلاك، قال الخطابي: تمنى أبو سفيان أن يكون له يد فيحمي قومه ويدفع عنهم. وقيل المراد هذا يوم الغضب للحريم والأهل والانتصار لهم لمن قدر عليه، وقيل المراد هذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتي من أن ينالني مكروه. قال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين فقال: يا رسول الله ما

(8/8)


آمن أن يكون لسعد في قريش صولة. فقال لعلي: أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها" . قال ابن هشام: الرجل المذكور هو عمر. قلت: وفيه بعد، لأن عمر كان معروفا بشدة البأس عليهم. وقد روى الأموي في المغازي أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما حاذاه: أمرت بقتل قومك؟ قال: لا.
فذكر له ما قاله سعد بن عبادة، ثم ناشده الله والرحم، فقال: يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشا" . وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس. وعند ابن عساكر من طريق أبي الزبير عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك عارضت امرأة من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:
يا نبي الهدى إليك لجا حي ... قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السماء
إن سعدا يريد قاصمة الظهر ... بأهل الحجون والبطحاء
فلما سمع هذا الشعر دخلته رأفة لهم ورحمة، فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابنه قيس. وعند أبي يعلى من حديث الزبير "أن النبي صلى الله عليه وسلم دفعها إليه، فدخل مكة بلواءين" وإسناده ضعيف جدا، لكن جزم موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري أنه دفعها إلى الزبير بن العوام فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التي نزعت من سعد. والذي يظهر في الجمع أن عليا أرسل بنزعها، وأن يدخل بها، ثم خشي تغير خاطر سعد فأمر بدفعها لابنه قيس، ثم إن سعدا خشي أن يقع من ابنه شيء ينكره النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير. وهذه القصة الأخيرة قد ذكرها البزار من حديث أنس بإسناد على شرط البخاري ولفظه: "كان قيس في مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، فكلم سعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرفه عن الموضع الذي فيه مخافة أن يقدم على شيء، فصرفه عن ذلك" والشعر الذي أنشدته المرأة ذكر الواقدي أنه لضرار بن الخطاب الفهري، وكأنه أرسل به المرأة ليكون أبلغ في المعاطفة عليهم، وسيأتي في حديث الباب أن أبا سفيان شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما قال سعد فقال: "كذب سعد"أي أخطأ. وذكر الأموي في المغازي أن سعد بن عبادة لما قال: "اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا، فحاذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان لما مر به فناداه: يا رسول الله أمرت بقتل قومك - وذكر له قول سعد بن عبادة - ثم قال له: أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس وأوصلهم، فقال: يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله فيه قريشا . فأرسل إلى سعد فأخذ اللواء من يده فجعله في يد ابنه قيس" قوله: "ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب" أي أقلها عددا، قال عياض: وقع للجميع بالقاف، ووقع في الجمع للحميدي "أجل" بالجيم وهي أظهر، ولا يبعد صحة الأولى لأن عدد المهاجرين كان أقل من عدد غيرهم من القبائل. قوله: "وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة" لم يكتف أبو سفيان بما دار بينه وبين العباس حتى شكا للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فقال: كذب سعد "فيه إطلاق الكذب على الإخبار بغير ما سيقع ولو كان قائله بناه على غلبة ظنه وقوة القرينة. قوله: "يوم يعظم فيه الكعبة" يشير إلى ما وقع من إظهار الإسلام وأذان بلال على ظهرها وغير ذلك مما أزيل عنها مما كان فيها من الأصنام ومحو ما فيها من الصور وغير ذلك. قوله: "ويوم تكسى فيه الكعبة " قيل إن قريشا كانوا يكسون الكعبة في رمضان فصادف ذلك اليوم، أو المراد باليوم الزمان كما قال

(8/9)


يوم الفتح، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه هو الذي يكسوها في ذلك العام، ووقع ذلك. قوله: "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون" بفتح المهملة وضم الجيم الخفيفة هو مكان معروف بالقرب من مقبرة مكة" قال عروة: فأخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، هاهنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية" وهذا السياق يوهم أن نافعا حضر المقالة المذكورة يوم فتح مكة، وليس كذلك فإنه لا صحبة له، ولكنه محمول عندي على أنه سمع العباس يقول للزبير ذلك بعد ذلك في حجة اجتمعوا فيها إما في خلافة عمر أو في خلافة عثمان، ويحتمل أن يكون التقدير: سمعت العباس يقول قلت للزبير إلخ فحذفت" قلت" . قوله:"قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم" القائل ذلك هو عروة وهو من بقية الخبر، وهو ظاهر الإرسال في الجميع إلا في القدر الذي صرح عروة بسماعه له من نافع بن جبير، وأما باقيه فيحتمل أن يكون عروة تلقاه عن أبيه، أو عن العباس فإنه أدركه وهو صغير، أو جمعه من نقل جماعة له بأسانيد مختلفة وهو الراجح. قوله: "وأمر النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء" أي بالمد؛ ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدا أي بالقصر، وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها، وكذا جزم ابن إسحاق أن خالدا دخل من أسفل ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها وضربت له هناك قبة، وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقا واضحا فقال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة، وأمره أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وعند البيهقي بإسناد حسن من حديث ابن عمر قال: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر كيف قال حسان؟ فأنشده قوله:
عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأسنة مسرجات ... يلطمهن بالخمر النساء
فقال: "أدخلوها من حيث قال حسان" . قوله: "فقتل من خيل خالد بن الوليد رضي الله عنه يومئذ رجلان: حبيش" بمهملة ثم موحدة ثم معجمة، وعند ابن إسحاق بمعجمة ونون ثم مهملة مصغر "ابن الأشعر" وهو لقب، واسمه خالد بن سعد بن منقذ بن ربيعة بن أخزم الخزاعي، وهو أخو أم معبد التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا. وروى البغوي والطبراني وآخرون قصتها من طريق حزام بن هشام بن حبيش عن أبيه عن جده، وعن أحمد "حدثنا موسى بن داود حدثنا حزام بن هشام بن حبيش قال: شهد جدي الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" قوله: "وكرز: بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي هو ابن جابر بن حسل بمهملتين بكسر ثم سكون ابن الأحب بمهملة مفتوحة وموحدة مشددة ابن حبيب الفهري، وكان من رؤساء المشركين، وهو الذي أغار على سرح النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الأولى، ثم أسلم قديما، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في طلب العرنيين. وذكر ابن إسحاق أن هذين الرجلين سلكا طريقا فشذا عن عسكر خالد فقتلهما المشركون يومئذ. وذكر ابن إسحاق أن أصحاب خالد لقوا ناسا من قريش، منهم سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية كانوا تجمعوا بالخندمة بالخاء المعجمة والنون مكان أسفل مكة ليقاتلوا المسلمين، فناوشوهم

(8/10)


شيئا من القتال، فقتل من خيل خالد مسلمة بن الميلاء الجهني، وقتل من المشركين اثنا عشر رجلا أو ثلاثة عشر وانهزموا، وفي ذلك يقول حماس بن قيس بن خالد البكري - قال ابن هشام: ويقال هي للرعاش الهذلي - يخاطب امرأته حين لامته على الفرار من المسلمين:
إنك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فر صفوان وفر عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة ... يقطعن كل ساعد وجمجمة
ضربا فلا يسمع إلا غمغمة ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة
وعند موسى بن عقبة: "واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناة وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالدا، فقاتلهم، فانهزموا وقتل من بني بكر نحو عشرين رجلا ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة إلى باب المسجد حتى دخلوا في الدور، وارتفعت طائفة منهم على الجبال، وصاح أبو سفيان: من أغلق بابه وكف يده فهو آمن، قال: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة فقال: ما هذا وقد نهيت عن القتال؟ فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن له بد من أن يقاتل. ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعد أن اطمأن لخالد بن الوليد: لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟ فقال: هم بدؤونا بالقتال ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت يدي ما استطعت. فقال: قضاء الله خير" وذكر ابن سعد أن عدة من أصيب من الكفار أربعة وعشرون رجلا، ومن هذيل خاصة أربعة، وقيل مجموع من قتل منهم ثلاثة عشر رجلا. وروى الطبراني من حديث ابن عباس قال: "خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله حرم مكة" الحديث، فقيل له: "هذا خالد بن الوليد يقتل، فقال: " قم يا فلان فقل له فليرفع القتل" ، فأتاه الرجل فقال له: إن نبي الله يقول لك اقتل من قدرت عليه، فقتل سبعين ثم اعتذر الرجل إليه، فسكت" قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أمراءه أن لا يقتلوا إلا من قاتلهم، غير أنه أهدر دم نفر سماهم. وقد جمعت أسماءهم من مفرقات الأخبار وهم: عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نقيد بنون وقاف مصغر، ومقيس بن صبابة بمهملة مضمومة وموحدتين الأولى خفيفة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن خطل كانتا تغنيان بهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة بني المطلب وهي التي وجد معها كتاب حاطب. فأما ابن أبي سرح فكان أسلم ثم ارتد ثم شفع فيه عثمان يوم الفتح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وقبل إسلامه. وأما عكرمة ففر إلى اليمن فتبعته امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فرجع معها بأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الحويرث فكان شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فقتله علي يوم الفتح. وأما مقيس بن صبابة فكان أسلم ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، وكان الأنصاري قتل أخاه هشاما خطأ، فجاء مقيس فأخذ الدية ثم قتل الأنصاري ثم ارتد، فقتله نميلة بن عبد الله يوم الفتح. وأما هبار فكان شديد الأذى للمسلمين وعرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجرت فنخس بعيرها فأسقطت، ولم يزل ذلك المرض بها حتى ماتت، فلما كان يوم الفتح بعد أن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه أعلن بالإسلام فقبل منه فعفا عنه. وأما القينتان فاسمهما فرتني وقرينة، فاستؤمن لإحداهما فأسلمت وقتلت الأخرى. وأما سارة فأسلمت وعاشت إلى خلافة عمر. وقال الحميدي: بل قتلت. وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي قتله علي. وذكر غير ابن إسحاق أن فرتني هي التي أسلمت وأن قرينة قتلت.

(8/11)


وذكر الحاكم أيضا ممن أهدر دمه كعب بن زهير وقصته مشهورة، وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح. ووحشي بن حرب وقد تقدم شأنه في غزوة أحد. وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان وقد أسلمت. وأرنب مولاة ابن خطل أيضا قتلت. وأم سعد قتلت فيما ذكر ابن إسحاق فكملت العدة ثمانية رجال وست نسوة. ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد هما القينتان اختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب. قلت: وسيأتي في حديث أنس في هذا الباب ذكر ابن خطل. وروى أحمد ومسلم والنسائي من طريق عبد الله بن رباح عن أبي هريرة قال: "أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بعث على إحدى الجنبتين خالد بن الوليد وبعث الزبير على الأخرى وبعث أبا عبيدة على الحسر - بضم المهملة وتشديد السين المهملة أي الذين بغير سلاح - فقال لي: يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار، فهتف بهم فجاءوا فأطافوا به، فقال لهم: أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟ ثم قال بإحدى يديه على الأخرى: احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا. قال أبو هريرة: فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أغلق بابه فهو آمن" وقد تمسك بهذه القصة من قال إن مكة فتحت عنوة وهو قول الأكثر، وعن الشافعي ورواية عن أحمد أنها فتحت صلحا لما وقع هذا التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها، ولأنها لم تقسم، ولأن الغانمين لم يملكوا دورها وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها. وحجة الأولين ما وقع من التصريح من الأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه صلى الله عليه وسلم بأنها أحلت ساعة من نهار، ونهيه عن التأسي به في ذلك. وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة فقد تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها ويترك لهم دورهم وغنائمهم، لأن قسمة الأرض المغنومة ليست متفقا عليها، بل الخلاف ثابت عن الصحابة فمن بعدهم، وقد فتحت أكثر البلاد عنوة فلم تقسم وذلك في زمن عمر وعثمان مع وجود أكثر الصحابة، وقد زادت مكة عن ذلك بأمر يمكن أن يدعي اختصاصها به دون بقية البلاد، وهي أنها دار النسك ومتعبد الخلق، وقد جعلها الله تعالى حرما سواء العاكف فيه والباد. وأما قول النووي احتج الشافعي بالأحاديث المشهورة بأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه نظر، لأن الذي أشار إليه إن كان مراده ما وقع له من قوله صلى الله عليه وسلم: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" كما تقدم وكذا " من دخل المسجد" كما عند ابن إسحاق فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال، والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشا لم يلتزموا ذلك لأنهم استعدوا للحرب كما ثبت في حديث أبي هريرة عند مسلم: "أن قريشا وبشت أوباشا لها وأتباعا فقالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطيناه الذين سألنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أترون أوباش قريش؟ ثم قال بإحدى يديه على الأخرى أي احصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا. قال: فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدا إلا قتلناه" وإن كان مراده بالصلح وقوع عقد به فهذا لم ينقل ولا أظنه عنى إلا الاحتمال الأول وفيه ما ذكرته. وتمسك أيضا من قال إنه مبهم بما وقع عند ابن إسحاق في سياق قصة الفتح: فقال العباس لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة. ثم قال في القصة بعد قصة أبي سفيان "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن" ، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد". وعند موسى بن عقبة في المغازي - وهي أصح ما صنف في ذلك عند الجماعة - ما نصه "أن أبا سفيان وحكيم بن حزام قالا:

(8/12)


يا رسول الله كنت حقيقا أن تجعل عدتك وكيدك بهوازن، فإنهم أبعد رحما وأشد عداوة، فقال: إني لأرجو أن يجمعهما الله لي: فتح مكة وإعزاز الإسلام بها، وهزيمة هوازن وغنيمة أموالهم. فقال أبو سفيان وحكيم: فادع الناس بالأمان، أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها أآمنون هم؟ قال: من كف يده وأغلق داره فهو آمن. قالوا: فابعثنا نؤذن بذلك فيهم. قال: انطلقوا، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم فهو آمن" ، ودار أبي سفيان بأعلى مكة ودار حكيم بأسفلها. فلما توجها قال العباس: يا رسول الله إني لا آمن أبا سفيان أن يرتد؛ فرده حتى تريه جنود الله. قال: أفعل" فذكر القصة، وفي ذلك تصريح بعموم التأمين، فكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة، فمن ثم قال الشافعي: كانت مكة مأمونة ولم يكن فتحها عنوة، والأمان كالصلح. وأما الذين تعرضوا للقتال أو الذين استثنوا من الأمان وأمر أن يقتلوا ولو تعلقوا بأستار الكعبة فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عنوة. ويمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره صلى الله عليه وسلم بالقتال وبين حديث الباب في تأمينه صلى الله عليه وسلم لهم بأن يكون التأمين علق بشرط وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما تفرقوا إلى دورهم ورضوا بالتأمين المذكور لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك وقاتلوا خالد بن الوليد ومن معه فقاتلهم حتى قتلهم وهزمهم أن تكون البلد فتحت عنوة، لأن العبرة بالأصول لا بالأتباع وبالأكثر لا بالأقل، ولا خلاف مع ذلك أنه لم يجر فيها قسم غنيمة ولا سبي من أهلها ممن باشر القتال أحد، وهو مما يؤيد قول من قال لم يكن فتحها عنوة. وعند أبي داود بإسناد حسن "عن جابر أنه سئل: هل غنمتم يوم الفتح شيئا؟ قال: لا" وجنحت طائفة - منهم الماوردي - إلى أن بعضها فتح عنوة لما وقع من قصة خالد بن الوليد المذكورة، وقرر ذلك الحاكم في "الإكليل" . والحق أن صورة فتحها كان عنوة ومعاملة أهلها معاملة من دخلت بأمان، ومنع جمع منهم السهيلي ترتب عدم قسمتها وجواز بيع دورها وإجارتها على أنها فتحت صلحا، أما أولا فلأن الإمام مخير في قسمة الأرض بين الغانمين إذا انتزعت من الكفار وبين إبقائها وقفا على المسلمين، ولا يلزم من ذلك منع بيع الدور وإجارتها. وأما ثانيا فقال بعضهم: لا تدخل الأرض في حكم الأموال، لأن من مضى كانوا إذا غلبوا على الكفار لم يغنموا الأموال، فتنزل النار فتأكلها وتصير الأرض عموما لهم كما قال الله تعالى: {دْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} الآية. وقال: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} الآية. والمسألة مشهورة فلا نطيل بها هنا، وقد تقدم كثير من مباحث دور مكة في "باب توريث دور مكة" من كتاب الحج.
4281- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: "سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ يُرَجِّعُ وَقَالَ لَوْلاَ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ حَوْلِي لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ "
[الحديث4281- أطرافه في: 4835، 5034، 5047، 7540]
4282- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ "عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ زَمَنَ الْفَتْحِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ"

(8/13)


4283- "ثُمَّ قَالَ: "لاَ يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلاَ يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ" قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ وَمَنْ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ قَالَ وَرِثَهُ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ قَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِهِ وَلَمْ يَقُلْ يُونُسُ حَجَّتِهِ وَلاَ زَمَنَ الْفَتْح"
4284- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْزِلُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِذَا فَتَحَ اللَّهُ الْخَيْفُ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ "
4285- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَادَ حُنَيْنًا: " مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْر" .
ثم ذكر المصنف في الباب بعد هذا ستة أحاديث: قوله: "حدثنا أبو الوليد" كذا في الأصول، وزعم أنه وقع بدله سليمان بن حرب. قوله: "عن معاوية بن قرة" في رواية حجاج بن منهال عن شعبة "أخبرنا أبو إياس" أخرجه في فضائل القرآن، وأبو إياس هو معاوية بن قرة. قوله: "وهو يقرأ سورة الفتح" زاد في رواية آدم عن شعبة في فضائل القرآن "قراءة لينة" . قوله: "يرجع" بتشديد الجيم، والترجيع ترديد القارئ الحرف في الحلق. قوله: "وقال: لولا أن تجتمع الناس" القائل هو معاوية بن قرة راوي الحديث، بين ذلك مسلم بن إبراهيم في روايته لهذا الحديث عن شعبة، وهو في تفسير سورة الفتح وفي أواخر التوحيد من رواية شبابة عن شعبة في هذا الحديث نحوه وأتم منه، ولفظه: "ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفل وقال: لولا أن تجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي صلى الله عليه وسلم. فقلت لمعاوية: كيف ترجيعه؟ قال: أأأ ثلاث مرات" وللحاكم في "الإكليل" من رواية وهب بن جرير عن شعبة "لقرأت بذلك اللحن الذي قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم" . قوله: "حدثنا سليمان بن عبد الرحمن" هو المعروف بابن بنت شرحبيل وسعدان بن يحيى هو سعيد بن يحيى بن صالح اللخمي أبو يحيى الكوفي نزيل دمشق، وسعدان لقبه، وهو صدوق. وأشار الدار قطني إلى لينه. وما له في البخاري سوى هذا الموضع. وشيخه محمد بن أبي حفصة، واسم أبي حفصة ميسرة، بصري يكنى أبا سلمة، صدوق. ضعفه النسائي. وما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الحج قرنه فيه بغيره. قوله: "أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله أين ننزل غدا؟"تقدم شرحه مستوفى في "باب توريث دور مكة" من كتاب الحج. قوله: "قيل للزهري: من ورث أبا طالب" السائل عن ذلك لم أقف على اسمه. قوله: "ورثه عقيل وطالب" ، تقدم في الحج من رواية يونس عن الزهري بلفظ: "وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين. وكان عقيل وطالب كافرين" انتهى. وهذا يدل على تقدم هذا الحكم في أوائل الإسلام، لأن أبا طالب مات قبل الهجرة. ويحتمل أن تكون الهجرة لما وقعت استولى عقيل وطالب على ما خلفه أبو طالب، وكان أبو طالب قد وضع يده على ما خلفه عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه

(8/14)


كان شقيقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب بعد موت جده عبد المطلب، فلما مات أبو طالب ثم وقعت الهجرة ولم يسلم طالب وتأخر إسلام عقيل استوليا على ما خلف أبو طالب، ومات طالب قبل بدر وتأخر عقيل، فلما تقرر حكم الإسلام بترك توريث المسلم من الكافر استمر ذلك بيد عقيل فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وكان عقيل قد باع تلك الدور كلها. واختلف في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عقيلا على ما يخصه هو. فقيل: ترك له ذلك تفضلا عليه، وقيل استمالة له وتأليفا، وقيل تصحيحا لتصرفات الجاهلية كما تصحح أنكحتهم. وفي قوله: "وهل ترك لنا عقيل من دار" إشارة إلى أنه لو تركها بغير بيع لنزل فيها، وفيه تعقب على الخطابي حيث قال: إنما لم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم فيها لأنها دور هجروها في الله تعالى بالهجرة، فلم ير أن يرجع في شيء تركه لله تعالى. وفي كلامه نظر لا يخفى، والأظهر ما قدمته، وأن الذي يختص بالترك إنما هو إقامة المهاجر في البلد التي هاجر منها كما تقدم تقريره في أبواب الهجرة، لا مجرد نزوله في دار يملكها إذا أقام المدة المأذون له فيها وهي أيام النسك وثلاثة أيام بعده. والله أعلم. قوله: "وقال معمر عن الزهري" أي بالإسناد المذكور "أين ننزل غدا في حجته" طريق معمر تقدمت موصولة في الجهاد. قوله: "ولم يقل يونس" أي ابن يزيد "حجته ولا زمن الفتح" أي سكت عن ذلك، بقي الاختلاف بين ابن أبي حفصة ومعمر، ومعمر أوثق وأتقن من محمد بن أبي حفصة. قوله: "عن عبد الرحمن" هو الأعرج. قوله: "منزلنا إن شاء الله" هو للتبرك. قوله: "إذا افتتح الله الخيف" هو بالرفع وهو مبتدأ خبره منزلنا، وليس هو مفعول افتتح. والخيف ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء. قوله: "حيث تقاسموا" يعني قريشا "على الكفر" أي لما تحالف قريش أن لا يبايعوا بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يؤووهم وحصروهم في الشعب وتقدم بيان ذلك في المبعث، وتقدم أيضا شرحه في "باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم بمكة" من كتاب الحج. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حين أراد حنينا" أي في غزوة الفتح لأن غزوة حنين عقب غزوة الفتح، وقد تقدم في الباب المذكور في الحج من رواية شعيب عن الزهري بلفظ: "حين أراد قدوم مكة" ولا مغايرة بين الروايتين بطريق الجمع المذكور، لكن ذكره هناك أيضا من رواية الأوزاعي عن الزهري بلفظ: "قال وهو بمنى: نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة" وهذا يدل على أنه قال ذلك في حجته لا في غزوة الفتح، فهو شبيه بالحديث الذي قبله في الاختلاف في ذلك، ويحتمل التعدد والله أعلم. قيل إنما اختار النبي صلى الله عليه وسلم النزول في ذلك الموضع ليتذكر ما كانوا فيه فيشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه من الفتح العظيم وتمكنهم من دخول مكة ظاهرا على رغم أنف من سعى في إخراجه منها ومبالغة في الصفح عن الذين أساءوا ومقابلتهم بالمن والإحسان، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
4286- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: "اقْتُلْهُ" قَالَ مَالِكٌ وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا"
4287- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلاَثُ مِائَةِ نُصُبٍ فَجَعَلَ

(8/15)


يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ"
4288- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أ"َنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ فَأُخْرِجَ صُورَةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ الأَزْلاَمِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قَاتَلَهُمْ اللَّهُ لَقَدْ عَلِمُوا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ" ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْبَيْتِ وَخَرَجَ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ وَقَالَ وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
الحديث الرابع، قوله: "يحيى بن قزعة" بفتح القاف والزاي بعدها مهملة. قوله: "عن ابن شهاب" في رواية يحيى بن عبد الحميد عن مالك "حدثني ابن شهاب" أخرجه الدار قطني. وفي رواية أحمد عن أبي أحمد الزبيري عن مالك عن ابن شهاب "أن أنس بن مالك أخبره" . قوله: "المغفر" في رواية أبي عبيد القاسم بن سلام عن يحيى بن بكير عن مالك "مغفر من حديد" قال الدار قطني: تفرد به أبو عبيد وهو في "الموطا" ليحيى بن بكير مثل الجماعة، ورواه عن مالك جماعة من أصحابه خارج الموطأ بلفظ: "مغفر من حديد" ثم ساقه من رواية عشرة عن مالك كذلك، وكذلك هو عند ابن عدي من رواية أبي أويس عن ابن شهاب، وعند الدار قطني من رواية شبابة بن سوار عن مالك، وفي هذا الحديث: "من رأى منكم ابن خطل فليقتله" ومن رواية زيد بن الحباب عن مالك بهذا الإسناد "وكان ابن خطل يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعر" . قوله: "فقال اقتله" زاد الوليد بن مسلم عن مالك في آخره: "فقتل" أخرجه ابن عائذ وصححه ابن حبان، واختلف في قاتله، وقد جزم ابن إسحاق بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، وحكى الواقدي فيه أقوالا: منها أن قاتله شريك بن عبدة العجلاني، ورجح أنه أبو برزة، وقد بينت ما فيه من الاختلاف في كتاب الحج مع بقية شرح هذا الحديث في "باب دخول مكة بغير إحرام" من أبواب العمرة بما يغني عن إعادته. واستدل بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة على أن الكعبة لا تعيذ من وجب عليه القتل، وأنه يجوز قتل من وجب عليه القتل في الحرم. وفي الاستدلال بذلك نظر لأن المخالفين تمسكوا بأن ذلك إنما وقع في الساعة التي أحل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها القتال بمكة، وقد صرح بأن حرمتها عادت كما كانت، والساعة المذكورة وقع عند أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنها استمرت من صبيحة يوم الفتح إلى العصر. وأخرج عمر بن شبة في "كتاب مكة" من حديث السائب بن يزيد قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استخرج من تحت أستار الكعبة عبد الله بن خطل فضربت عنقه صبرا بين زمزم ومقام إبراهيم وقال: "لا يقتلن قرشي بعد هذا صبرا" ورجاله ثقات إلا أن في أبي معشر مقالا، والله أعلم. قوله: "عن ابن أبي نجيح" في رواية الحميدي في التفسير عن ابن عيينة حدثنا ابن أبي نجيح وهو عبد الله واسم أبي نجيح يسار، وتقدم في الملازمة عن علي بن عبد الله عن سفيان "حدثنا ابن أبي نجيح" ولابن عيينة في هذا الحديث إسناد آخر أخرجه الطبراني من طريق عبد الغفار بن داود عن ابن عيينة عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل عن ابن مسعود. قوله: "عن أبي معمر" هو عبد الله بن سخبرة. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود. قوله: "ستون وثلاثمائة نصب"

(8/16)


بضم النون والمهملة وقد تسكن، بعدها موحدة، هي واحدة الأنصاب، وهو ما ينصب للعبادة من دون الله تعالى. ووقع في رواية ابن أبي شيبة عن ابن عيينة "صنما" بدل "نصبا" . ويطلق النصب ويراد به الحجارة التي كانوا يذبحون عليها للأصنام وليست مرادة هنا، وتطلق الأنصاب على أعلام الطريق وليست مرادة هنا ولا في الآية. قوله: "فجعل يطعنها" بضم العين وبفتحها والأول أشهر. قوله: "بعود في يده ويقول: جاء الحق" في حديث أبي هريرة عند مسلم: "يطعن في عينيه بسية القوس" وفي حديث ابن عمر عند الفاكهي وصححه ابن حبان: "فيسقط الصنم ولا يمسه" ، وللفاكهي والطبراني من حديث ابن عباس "فلم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه، مع أنها كانت ثابتة بالأرض، وقد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص" وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لإذلال الأصنام وعابديها، ولإظهار أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تدفع عن نفسها شيئا. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن منصور، وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث بن سعيد. قوله: "حدثني أبي" سقط من رواية الأصيلي ولا بد منه. قوله: "أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت" وقع في حديث جابر عند ابن سعد وأبي داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها حتى محيت الصور، وكان عمر هو الذي أخرجها" والذي يظهر أنه محا ما كان من الصور مدهونا مثلا. وأخرج ما كان مخروطا. وأما حديث أسامة "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فرأى صورة إبراهيم فدعا بماء فجعل يمحوها" وقد تقدم في الحج فهو محمول على أنه بقيت بقية خفي على من محاها أولا. وقد حكى ابن عائذ في المغازي عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أن صورة عيسى وأمه بقيتا حتى رآهما بعض من أسلم من نصارى غسان فقال: إنكما لببلاد غربة، فلما هدم ابن الزبير البيت ذهبا فلم يبق لهما أثر. وقد أطنب عمر بن شبة في "كتاب مكة" في تخريج طريق هذا الحديث فذكر ما تقدم وقال: "حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج سأل سليمان بن موسى عطاء: أدركت في الكعبة تماثيل؟ قال: نعم، أدركت تماثيل مريم في حجرها ابنها عيسى مزوقا، وكان ذلك في العمود الأوسط الذي يلي الباب. قال: فمتى ذهب ذلك؟ قال: في الحريق" وفيه عن ابن جريج "أخبرني عمرو بن دينار أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطمس الصور التي كانت في البيت" وهذا سند صحيح، ومن طريق عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فأمرني فأتيته بماء في دلو فجعل يبل الثوب ويضرب به على الصور ويقول: قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون" قوله: "وخرج ولم يصل" تقدم شرحه في "باب من كبر في نواحي الكعبة" من كتاب الحج، وفيه الكلام على من أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة ومن نفاها. قوله: "الأزلام" هي السهام التي كانوا يستقسمون بها الخير والشر، وعند ابن أبي شيبة من حديث جابر نحو حديث ابن مسعود وفيه: "فأمر بها فكبت لوجوهها" وفيه نحو حديث ابن عباس وزاد: "قاتلهم الله، ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام. ثم دعا بزعفران فلطخ تلك التماثيل" . وفي الحديث كراهية الصلاة في المكان الذي فيه صور لكونها مظنة الشرك، وكان غالب كفر الأمم من جهة الصور. قوله: "تابعه معمر عن أيوب" وصله أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب. قوله: "وقال وهيب حدثنا أيوب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني أنه أرسله. ووقع في نسخة الصغاني بإثبات ابن عباس في التعليق عن وهيب وهو خطأ، ورجحت الرواية الموصولة عند البخاري لاتفاق عبد الوارث ومعمر على ذلك عن أيوب.

(8/17)


49- باب دُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ
4289- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُرْدِفًا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَمَعَهُ بِلاَلٌ وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ مِنْ الْحَجَبَةِ حَتَّى أَنَاخَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِفْتَاحِ الْبَيْتِ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلاَلٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَمَكَثَ فِيهِ نَهَارًا طَوِيلاً ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَبَقَ النَّاسُ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ فَوَجَدَ بِلاَلاً وَرَاءَ الْبَابِ قَائِمًا فَسَأَلَهُ أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى مِنْ سَجْدَة" .
4290- حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَوُهَيْبٌ فِي كَدَاء" .
4291- حدثنا عبيد الله بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة عم هشام عن أبيه "دخل النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة من كداء" .
قوله: "باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة" أي حين فتحها. وقد روى الحاكم في "الإكليل" من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على رحله متخشعا" . قوله: "وقال الليث حدثني يونس" هو ابن يزيد، وهذه الطريق وصلها المؤلف في الجهاد، وتقدم شرح الحديث في الصلاة وفي الحج في "باب إغلاق البيت" مع فوائد كثيرة. قوله: "فأمره أن يأتي بمفتاح البيت" روى عبد الرزاق والطبراني من جهته من مرسل الزهري "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان يوم الفتح: ائتني بمفتاح الكعبة، فأبطأ عليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق ويقول: ما يحبسه؟ فسعى إليه رجل، وجعلت المرأة التي عندها المفتاح وهي أم عثمان واسمها سلافة بنت سعيد تقول: إن أخذه منكم لا يعطيكموه أبدا، فلم يزل بها حتى أعطت المفتاح؛ فجاء به ففتح، ثم دخل البيت، ثم خرج فجلس عند السقاية فقال علي: إنا أعطينا النبوة والسقاية والحجابة، ما قوم بأعظم نصيبا منا. فكره النبي صلى الله عليه وسلم مقالته. ثم دعا عثمان بن طلحة فدفع المفتاح إليه" . وروى ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب مرسلا نحوه، وعند ابن إسحاق بإسناد حسن عن صفية بنت شيبة قالت: "لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتح له فدخلها، ثم وقف على باب الكعبة فخطب" قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة، فذكر الحديث، وفيه: ثم قال: "يا معشر قريش، ما ترون إني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء" . ثم جلس فقام علي فقال:

(8/18)


اجمع لنا الحجابة والسقاية، فذكره. وروى ابن عائذ من مرسل عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع مفتاح الكعبة إلى عثمان فقال: خذها خالدة مخلدة، إني لم أدفعها إليكم ولكن الله دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلا ظالم. ومن طريق ابن جريج أن عليا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة والسقاية، فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فدعا عثمان فقال: خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم" . ومن طريق علي بن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني شيبة، كلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف. وروى الفاكهي من طريق محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ناول عثمان المفتاح قال له: غيبه. قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح. ومن حديث ابن عمر أن بني أبي طلحة كانوا يقولون: لا يفتح الكعبة إلا هم، فتناول النبي صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده. قوله: "حدثنا الهيثم بن خارجة" بخاء معجمة وجيم خراساني نزل بغداد، كان من الإثبات. قال عبد الله بن أحمد: كان أبي إذا رضي عن إنسان وكان عنده ثقة حدث عنه وهو حي، فحدثنا عن الهيثم بن خارجة وهو حي، وليس له عند البخاري موصول سوى هذا الموضع. "تابعه أبو أسامة ووهيب في كداء" أي روياه عن هشام بن عروة بهذا الإسناد وقالا في روايتهما: "دخل من كداء" أي بالفتح والمد، وطريق أبي أسامة وصلها المصنف في الحج عن محمود بن غيلان عنه موصولا، وأوردها هنا عن عبيد بن إسماعيل عنه فلم يذكر فيه عائشة. وأما طريق وهيب وهو ابن خالد فوصلها المصنف أيضا في الحج، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى هناك.

(8/19)


50- باب مَنْزِلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ
4292- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن عمرو عن ابن أبي ليلى قال: "ما أخبرنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ، فإنها ذكرت أنه يوم فتح مكة اغتسل في بيتها، ثم صلى ثماني ركعات، قالت: لم أره صلى صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود"
قوله: "باب منزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح" أي المكان الذي نزل فيه، وقد تقدم قريبا في الكلام على الحديث الثالث أنه نزل بالمحصب، وهنا أنه في بيت أم هانئ. وكذا في "الإكليل" من طريق معمر عن ابن شهاب عن عبد الله بن الحارث عن أم هانئ وكان النبي صلى الله عليه وسلم نازلا عليها يوم الفتح، ولا مغايرة بينهما لأنه لم يقم في بيت أم هانئ وإنما نزل به حتى اغتسل وصلى ثم رجع إلى حيث ضربت خيمته عند شعب أبي طالب، وهو المكان الذي حصرت فيه قريش المسلمين، وقد تقدم شرح حديث الباب في كتاب الصلاة، وروى الواقدي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "منزلنا إذا فتح الله علينا مكة في الخيف حيث تقاسموا على الكفر وجاه شعب أبي طالب حيث حصرونا" ومن حديث أبي رافع نحو حديث أسامة السابق وقال فيه: "ولم يزل مضطربا بالأبطح لم يدخل بيوت مكة"

(8/19)


باب "إذا جاء نصر الله والفتح"
...
51- باب 4293- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" .

(8/19)


52-باب مَقَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ زَمَنَ الْفَتْحِ
4297- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ح حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَقَمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرًا نَقْصُرُ الصَّلاَةَ"
4298- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْن" .
4299- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَقَمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ تِسْعَ عَشْرَةَ نَقْصُرُ الصَّلاَةَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَحْنُ نَقْصُرُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ تِسْعَ عَشْرَةَ فَإِذَا زِدْنَا أَتْمَمْنَا" .
قوله: "باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح" ذكر فيه حديث أنس "أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرا نقصر الصلاة" وحديث ابن عباس "أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين" وفي الرواية الثانية عنه "أقمنا في سفر" ولم يذكر المكان، فظاهر هذين الحديثين التعارض، والذي أعتقده أن حديث أنس إنما هو في حجة الوداع، فإنها هي السفرة التي أقام فيها بمكة عشرا، لأنه دخل يوم الرابع وخرج يوم الرابع عشر، وأما حديث ابن عباس فهو في الفتح وقد قدمت ذلك بأدلته في "باب قصر الصلاة" وأوردت هناك التصريح بأن حديث أنس إنما هو في حجة الوداع، ولعل البخاري أدخله في هذا الباب إشارة إلى ما ذكرت ولم يفصح بذلك تشحيذا للأذهان. ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق وكيع عن سفيان "فأقام بها عشرا يقصر الصلاة حتى رجع إلى المدينة" ، وكذا هو في "باب قصر الصلاة" من وجه آخر عن يحيى بن أبي إسحاق عند المصنف، وهو يؤيد ما ذكرته، فإن مدة إقامتهم في سفرة الفتح حتى رجعوا إلى المدينة أكثر من ثمانين يوما. "تنبيه" : سفيان في حديث أنس هو الثوري في الروايتين، وعبد الله في حديث ابن عباس هو ابن المبارك، وعاصم هو ابن سليمان الأحول. وقوله: "وقال ابن

(8/21)


عباس" هو موصول بالإسناد المذكور كما تقدم بيانه في "باب قصر الصلاة" أيضا.

(8/22)


باب "أحاديث أخرى عن الفتح"
...
53-باب- 4300- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ "أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَسَحَ وَجْهَهُ عَامَ الْفَتْح"
[الحديث 4300- طرفه في: 6356]
4301- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا وَنَحْنُ مَعَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ "قَالَ وَزَعَمَ أَبُو جَمِيلَةَ أَنَّهُ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ مَعَهُ عَامَ الْفَتْح"
قوله: "باب" كذا في الأصول بغير ترجمة، وسقط من رواية النسفي فصارت أحاديثه من جملة الباب الذي قبله، ومناسبتها له غير ظاهرة، ولعله كان قد بيض له ليكتب له ترجمة فلم يتفق، والمناسب لترجمته" من شهد الفتح" ثم ذكر فيه أحد عشر حديثا. قوله: "وقال الليث إلخ" وصله المصنف في "التاريخ الصغير" قال: "حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث" فذكره وقال في آخره: "عام الفتح بمكة" وقد وصله من وجه آخر عن الزهري فقال: "عن عبد الله بن ثعلبة أنه رأى سعد بن أبي وقاص أوتر بركعة" أخرجه في كتاب الأدب كما سيأتي. قوله: "أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صعير" بمهملة مصغرا، وهو عذري بضم المهملة وسكون المعجمة، ويقال له أيضا ابن أبي صعير، وهو ابن عمرو بن زيد بن سنان حليف بني زهرة، ولأبيه ثعلبة صحبة، وقد حذف المصنف المخبر به اختصارا وقد ظهر بما ذكر في الأدب. قوله: "عن الزهري عن سنين أبي جميلة قال: أخبرنا ونحن مع ابن المسيب" والجملة الحالية أراد الزهري بها تقوية روايته عنه بأنها كانت بحضرة سعيد. قوله: "عن سنين" بمهملة ونون مصغر، وقيل بتشديد التحتانية وبالنون الأولى فقط، تقدم ذكره في الشهادات بما يغني عن إعادته. قوله: "وخرج معه عام الفتح" ذكر أبو عمر أنه حج معه حجة الوداع، تقدم ذكره في الشهادات.
4302- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ "قَالَ لِي أَبُو قِلاَبَةَ أَلاَ تَلْقَاهُ فَتَسْأَلَهُ قَالَ فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ كُنَّا بِمَا مَمَرَّ النَّاسِ وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ مَا لِلنَّاسِ مَا هَذَا الرَّجُلُ فَيَقُولُونَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ أَوْحَى إِلَيْهِ أَوْ أَوْحَى اللَّهُ بِكَذَا فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلاَمَ وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلاَمِهِمْ الْفَتْحَ فَيَقُولُونَ اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلاَمِهِمْ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا فَقَالَ: " صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وَصَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا" فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنْ الرُّكْبَانِ فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْحَيِّ أَلاَ تُغَطُّوا عَنَّا

(8/22)


اسْتَ قَارِئِكُمْ فَاشْتَزَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيص" .
قوله: "عن عمرو بن سلمة" مختلف في صحبته، ففي هذا الحديث أن أباه وفد، وفيه إشعار بأنه لم يفد معه. وأخرج ابن منده من طريق حماد بن سلمة عن أيوب بهذا الإسناد ما يدل على أنه وفد أيضا، وكذلك أخرجه الطبراني، وأبو سلمة بكسر اللام هو ابن قيس ويقال نفيع الجرمي بفتح الجيم وسكون الراء، صحابي ما له في البخاري سوى هذا الحديث، وكذا ابنه، لكن وقع ذكر عمرو بن سلمة في حديث مالك بن الحويرث كما تقدم في صفة الصلاة. قوله: "قال لي أبو قلابة" هو مقول أيوب. قوله: "كنا بما ممر الناس" يجوز في ممر الحركات الثلاث، وعند أبي داود من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن عمرو بن سلمة "كنا نحاصر، يمر بنا الناس إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم" . قوله: "ما للناس، ما للناس" كذا فيه مكرر مرتين. قوله: "ما هذا الرجل" أي يسألون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن حال العرب معه. قوله: "أوحى إليه، أوحى الله بكذا" يريد حكاية ما كانوا يخبرونهم به مما سمعوه من القرآن. وفي رواية يوسف القاضي عن سليمان بن حرب عند أبي نعيم في المستخرج "فيقولون نبي يزعم أن الله أرسله وأن الله أوحى إليه كذا وكذا، فجعلت أحفظ ذلك الكلام" وفي رواية أبي داود "وكنت غلاما حافظا، فحفظت من ذلك قرآنا كثيرا" . قوله: "فكأنما يقر" كذا للكشميهني بضم أوله وفتح القاف وتشديد الراء من القرار. وفي رواية عنه بزيادة ألف مقصورة من التقرية أي يجمع، وللأكثر بهمز من القراءة، وللإسماعيلي: "يغري" بغين معجمة وراء ثقيلة أي يلصق بالغراء، ورجحها عياض. قوله: "تلوم" بفتح أوله واللام وتشديد الواو أي تنتظر وإحدى التاءين محذوفة. قوله: "وبدر" أي سبق. قوله: "فلما قدم" استقبلناه، هذا يشعر بأنه ما وفد مع أبيه لكن لا يمنع أن يكون وفد بعد ذلك. قوله: "وليؤمكم أكثركم قرآنا" في رواية أبي داود من وجه آخر عن عمرو بن سلمة عن أبيه "أنهم قالوا: يا رسول الله من يؤمنا؟ قال: أكثركم جمعا للقرآن" . قوله: "فنظروا" في رواية الإسماعيلي: "فنظروا إلى أهل حوائنا" بكسر المهملة وتخفيف الواو والمد، والحواء مكان الحي النزول. قوله: "تقلصت" أي انجمعت وارتفعت. وفي رواية أبي داود "تكشفت عني" وله من طريق عاصم بن سليمان عن عمرو بن سلمة "فكنت أؤمهم في بردة موصولة فيها فتق، فكنت إذا سجدت خرجت استي" . قوله: "ألا تغطون" كذا في الأصول، وزعم ابن التين أنه وقع عنده بحذف النون. ولأبي داود "فقالت امرأة من النساء: واروا عنا عورة قارئكم" . قوله: "فاشتروا" أي ثوبا. وفي رواية أبي داود "فاشتروا لي قميصا عمانيا" وهو بضم المهملة وتخفيف الميم نسبة إلى عمان وهي من البحرين، وزاد أبو داود في رواية له "قال عمرو بن سلمة: فما شهدت مجمعا من جرم إلا كنت إمامهم" وفي الحديث حجة للشافعية في إمامة الصبي المميز في الفريضة، وهي خلافية مشهورة ولم ينصف من قال إنهم فعلوا ذلك باجتهادهم، ولم يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لأنها شهادة نفي، ولأن زمن الوحي لا يقع التقرير فيه على ما لا يجوز، كما استدل أبو سعيد وجابر لجواز العزل بكونهم فعلوه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان منهيا عنه لنهى عنه في القرآن، وكذا من استدل به بأن ستر العورة في الصلاة ليس شرطا لصحتها بل هو سنة، ويجزي بدون ذلك لأنها واقعة حال فيحتمل أن يكون ذلك بعد علمهم بالحكم.
4303- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ

(8/23)


"كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنْ يَقْبِضَ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ وَقَالَ عُتْبَةُ إِنَّهُ ابْنِي فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي الْفَتْحِ أَخَذَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْبَلَ مَعَهُ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ هَذَا ابْنُ أَخِي عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ قَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَخِي هَذَا ابْنُ زَمْعَةَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَإِذَا أَشْبَهُ النَّاسِ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هُوَ لَكَ هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ" قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ" وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَصِيحُ بِذَلِكَ.
الحديث الرابع والخامس حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة، وسيأتي شرحه في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى. وفي آخره حديث أبي هريرة في معنى قوله: "الولد للفراش" والغرض منه هنا الإشارة إلى أن هذه القصة وقعت في فتح مكة. قوله: "وقال الليث حدثني يونس" وصله الذهلي في "الزهريات" وساقه المصنف هنا على لفظ يونس، وأورده مقرونا بطريق مالك وفيه مخالفة شديدة له، وسأبين ذلك عند شرحه، وقد عابه الإسماعيلي وقال: قرن بين روايتي مالك ويونس مع شدة اختلافهما، ولم يبين ذلك. قوله: "قال ابن شهاب قالت عائشة" كذا هنا، وهذا القدر موصول في رواية مالك بذكر عروة فيه. وفي قوله: "هو أخوك يا عبد بن زمعة" رد لمن زعم أن قوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" أن اللام فيه للملك فقال: أي هو لك عبد. قوله: "وقال ابن شهاب وكان أبو هريرة يصيح بذلك" أي يعلن بهذا الحديث1 وهذا موصول إلى ابن شهاب ومنقطع بين ابن شهاب وأبي هريرة، وهو حديث مستقل أغفل المزي التنبيه عليه في "الأطراف" وقد أخرج مسلم والترمذي والنسائي من طريق سفيان بن عيينة ومسلم أيضا من طريق معمر كلاهما عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، زاد معمر "وأبي سلمة بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر" وفي رواية لمسلم عن ابن عيينة عن سعيد وأبي سلمة معا؛ وفي أخرى عن سعيد أو أبي سلمة. قال الدار قطني في "العلل" : هو محفوظ لابن شهاب عنهما. قلت: وسيأتي في الفرائض من وجه آخر عن أبي هريرة باختصار، لكن من غير طريق ابن شهاب، فلعل هذا الاختلاف هو السبب في ترك إخراج البخاري لحديث أبي هريرة من طريق ابن شهاب.
4304- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَفَزِعَ قَوْمُهَا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَسْتَشْفِعُونَهُ قَالَ عُرْوَةُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسَامَةُ فِيهَا تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَتُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ قَالَ أُسَامَةُ اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ خَطِيبًا فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ
ـــــــ
1 في هامش طبعة بولاق: في نسخة "بهذا الحكم"

(8/24)


فَإِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهَا" فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتَزَوَّجَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ فَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
الحديث السادس قوله: "أخبرني عروة بن الزبير أن امرأة سرقت" كذا فيه بصورة الإرسال، لكن في آخره ما يقتضي أنه عن عائشة، لقوله في آخره: "قالت عائشة فكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها" وعند الإسماعيلي من طريق الزهري عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: "فتابت فحسنت توبتها وكانت تأتيني فأرفع حاجتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم:"وسيأتي شرح هذا الحديث في كتاب الحدود؛ والغرض منه هنا الإشارة إلى أن هذه القصة وقعت يوم الفتح.
4305، 4306- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي مُجَاشِعٌ قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخِي بَعْدَ الْفَتْحِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُكَ بِأَخِي لِتُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ قَالَ ذَهَبَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ بِمَا فِيهَا فَقُلْتُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُبَايِعُهُ قَالَ أُبَايِعُهُ عَلَى الإِسْلاَمِ وَالإِيمَانِ وَالْجِهَادِ فَلَقِيتُ مَعْبَدًا بَعْدُ وَكَانَ أَكْبَرَهُمَا فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ صَدَقَ مُجَاشِع" .
4307، 4308- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ "انْطَلَقْتُ بِأَبِي مَعْبَدٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ قَالَ: مَضَتْ الْهِجْرَةُ لأَهْلِهَا أُبَايِعُهُ عَلَى الإِسْلاَمِ وَالْجِهَادِ" فَلَقِيتُ أَبَا مَعْبَدٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ صَدَقَ مُجَاشِعٌ وَقَالَ خَالِدٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ مُجَاشِعٍ أَنَّهُ جَاءَ بِأَخِيهِ مُجَالِدٍ"
4309- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ "قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُهَاجِرَ إِلَى الشَّأْمِ قَالَ لاَ هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ فَانْطَلِقْ فَاعْرِضْ نَفْسَكَ فَإِنْ وَجَدْتَ شَيْئًا وَإِلاَ رَجَعْت" .
4310- وَقَالَ النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا "قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لاَ هِجْرَةَ الْيَوْمَ أَوْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ"
4311- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أبو عمرو الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عبدة بن أبي لبابة عن مجاهد بن جبر المكي "أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: لا هجرة بعد الفتح" .
4312- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ

(8/25)


قَالَ: "زُرْتُ عَائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فَسَأَلَهَا عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَتْ لاَ هِجْرَةَ الْيَوْمَ كَانَ الْمُؤْمِنُ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ فَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ"
الحديث السابع قوله: "حدثنا زهير" هو ابن معاوية، وعاصم هو ابن سليمان، وأبو عثمان هو النهدي، ومجاشع هو ابن مسعود السلمي، وقوله: "بأخي" هو مجالد بوزن أخيه، وكنيته معبد كما في الرواية الثانية، والذي هنا "فلقيت معبدا" كذا للأكثر، وللكشميهني: "فلقيت أبا معبد" وهو وهم من جهة هذه الرواية وإن كان صوابا في نفس الأمر. قوله: "وقال خالد" هو الحذاء، وصل هذه الطريق الإسماعيلي من جهة خالد بن عبد الله عنه بلفظ عن مجاشع بن مسعود أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود فقال: "هذا مجالد يا رسول الله فبايعه على الهجرة" الحديث، وقد تقدم بيان أحوال الهجرة مستوفى في أبواب الهجرة وفي أوائل الجهاد. حديث ابن عمر، تقدم سندا ومتنا في أوائل الهجرة. قوله: "وقال النضر" ابن شميل، وصله الإسماعيلي من طريق أحمد بن منصور عنه وزاد في آخره: "ولكن جهاد، فانطلق فاعرض نفسك فإن أصبت شيئا وإلا فارجع" حديث عائشة، تقدم في أوائل الهجرة سندا ومتنا، وإسحاق بن يزيد هو ابن إبراهيم بن يزيد الفراديسي نسبة إلى جده.
4313- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحْلِلْ لِي قَطُّ إِلاَّ سَاعَةً مِنْ الدَّهْرِ لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلاَ يُعْضَدُ شَوْكُهَا وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا وَلاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلاَّ الإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهُ لِلْقَيْنِ وَالْبُيُوتِ فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ إِلاَّ الإِذْخِرَ فَإِنَّهُ حَلاَل" .
وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِ هَذَا أَوْ نَحْوِ هَذَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم" .
الحديث العاشر قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن منصور وبه جزم أبو علي الجياني. وقال الحاكم هو ابن نصر. قوله: "حدثنا أبو عاصم" هو النبيل وهو من شيوخ البخاري، وربما حدث عنه بواسطة كما هنا. قوله: "عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" : هذا مرسل، وقد وصله في الحج والجهاد وغيرهما من رواية منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس، وأورده ابن أبي شيبة من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس، والذي قبله أولى. قوله: "وعن ابن جريج" هو موصول بالإسناد الذي قبله، وعبد الكريم هو ابن مالك الجزري، ووقع عند الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي عاصم عن ابن جريج "سمعت عبد الكريم سمعت عكرمة"

(8/26)


وقد تقدم شرح هذا الحديث في كتاب الحج. قوله: "رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" أي الخطبة المذكورة، وقد وصلها في كتاب العلم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة، وأول الحديث عنده "أن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين" الحديث، وقد تقدم شرحه هناك ولله الحمد.

(8/27)


باب قوله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم...}
...
54-باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [25 التوبة]:
{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ـ إِلَى قَوْلِهِ ـ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
قوله: "باب قول الله تعالى: {ويَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ - إلى - غَفُورٌ رَحِيمٌ} كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ـ ثم قال إِلَى ِ ـ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ووقع في رواية النسفي: باب غزوة حنين، وقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ - إلى - غَفُورٌ رَحِيمٌ} وحنين بمهملة ونون مصغر واد إلى جنب ذي المجاز قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات، قال أبو عبيد البكري: سمي باسم حنين بن قابثة بن مهلائيل. قال أهل المغازي: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين لست خلت من شوال، وقيل لليلتين بقيتا من رمضان. وجمع بعضهم بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان وسار سادس شوال؛ وكان وصوله إليها في عاشره، وكان السبب في ذلك أن مالك بن عوف النضري جمع القبائل من هوازن ووافقه على ذلك الثقفيون، وقصدوا محاربة المسلمين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم. قال عمر بن شبة في" كتاب مكة ": حدثنا الحزامي يعني إبراهيم بن المنذر حدثنا ابن وهب عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة أنه كتب إلى الوليد: أما بعد فإنك كتبت إلي تسألني عن قصة الفتح، فذكر له وقتها، فأقام عامئذ بمكة نصف شهر، ولم يزد على ذلك حتى أتاه أن هوازن وثقيفا قد نزلوا حنينا يريدون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا قد جمعوا إليه ورئيسهم عوف بن مالك. ولأبي داود بإسناد حسن من حديث سهل ابن الحنظلية" أنهم ساروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين فأطنبوا السير، فجاء رجل فقال: إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم قد اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله تعالى" وعند ابن إسحاق من حديث جابر ما يدل على أن هذا الرجل هو عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي. قوله: {يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} روى يونس بن بكير في "زيادات المغازي" عن الربيع بن أنس قال: قال رجل يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة. وقوله: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} إلى آخر الآيات، يأتي بيان ذلك في شرح أحاديث الباب. ثم ذكر المصنف فيه خمسة أحاديث:
4314- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ "رَأَيْتُ بِيَدِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى ضَرْبَةً قَالَ ضُرِبْتُهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قُلْتُ شَهِدْتَ حُنَيْنًا قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ ".
4315- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ "يَا أَبَا عُمَارَةَ أَتَوَلَّيْتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُوَلِّ وَلَكِنْ

(8/27)


عَجِلَ سَرَعَانُ الْقَوْمِ فَرَشَقَتْهُمْ هَوَازِنُ ـ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِرَأْسِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ ـ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِب" .
4316- حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق "قيل للبراء وأن أسمع: أوليتم مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحنين؟ فقال: أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا، كانوا رماة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" .
4317- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ "وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ لَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً وَإِنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ انْكَشَفُوا فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ فَاسْتُقْبِلْنَا بِالسِّهَامِ وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِزِمَامِهَا وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِب" .
قَالَ إِسْرَائِيلُ وَزُهَيْرٌ "نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَغْلَتِه" .
الحديث الأول، قوله: "عن إسماعيل" هو ابن أبي خالد، وكذا هو منسوب في رواية أحمد عن يزيد بن هارون. قوله: "ضربة" زاد أحمد "فقلت ما هذه" وفي رواية الإسماعيلي: "ضربة على ساعده" وفي رواية له "أثر ضربة" . قوله: "شهدت حنينا قال قبل ذلك" في رواية أحمد "قال نعم وقبل ذلك" ومراده بما قبل ذلك ما قبل حنين من المشاهد، وأول مشاهده الحديبية فيما ذكره من صنف في الرجال، ووقفت في بعض حديثه على ما يدل أنه شهد الخندق، وهو صحابي ابن صحابي. حديث البراء، قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي، ومدار هذا الحديث عليه، وقد تقدم في الجهاد من وجه آخر عن سفيان وهو الثوري قال: "حدثني أبو إسحاق" . قوله: "وجاءه رجل" لم أقف على اسمه، وقد ذكر في الرواية الثالثة أنه من قيس. قوله: "يا أبا عمارة" هي كنية البراء. قوله: "أتوليت يوم حنين" الهمزة للاستفهام وتوليت أي انهزمت، وفي الرواية الثانية "أوليتم مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين" وفي الثالثة "أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وكلها بمعنى. قوله: "أما أنا فأشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يول" تضمن جواب البراء إثبات الفرار لهم، لكن لا على طريق التعميم، وأراد أن إطلاق السائل يشمل الجميع حتى النبي صلى الله عليه وسلم لظاهر الرواية الثانية، ويمكن الجمع بين الثانية والثالثة بحمل المعية على ما قبل الهزيمة فبادر إلى استثنائه ثم أوضح ذلك، وختم حديثه بأنه لم يكن أحد يومئذ أشد منه صلى الله عليه وسلم. قال النووي: هذا الجواب من بديع الأدب، لأن تقدير الكلام فررتم كلكم. فيدخل فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال البراء: لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن جرى كيت وكيت، فأوضح أن فرار من فر لم يكن على نية الاستمرار في الفرار، وإنما انكشفوا من وقع السهام وكأنه لم يستحضر الرواية الثانية. وقد ظهر من الأحاديث الواردة في هذه القصة أن الجميع لم يفروا كما سيأتي بيانه، ويحتمل أن البراء فهم من السائل أنه اشتبه عليه حديث سلمة بن الأكوع الذي أخرجه مسلم بلفظ: "ومررت برسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما" فلذلك حلف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يول، ودل ذلك على أن منهزما حال من سلمة، ولهذا وقع في

(8/28)


طريق أخرى "ومررت برسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما وهو على بغلته فقال: لقد رأى ابن الأكوع فزعا" ويحتمل أن يكون السائل أخذ التعميم من قوله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} فبين له أنه من العموم الذي أريد به الخصوص. قوله: "ولكن عجل سرعان القوم فرشقتهم هوازن" فأما سرعان فبفتح المهملة والراء، ويجوز سكون الراء، وقد تقدم ضبطه في سجود السهو في الكلام على حديث ذي اليدين، والرشق بالشين المعجمة والقاف رمي السهام، وأما هوازن فهي قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون ينسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بمعجمة ثم مهملة ثم فاء مفتوحات ابن قيس بن عيلان بن إلياس بن مضر، والعذر لمن انهزم من غير المؤلفة أن العدو كانوا ضعفهم في العدد وأكثر من ذلك، وقد بين شعبة في الرواية الثالثة السبب في الإسراع المذكور قال: كانت هوازن رماة، قال: وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا. وللمصنف في الجهاد "انهزموا" قال: "فأكببنا" وفي روايته في الجهاد في باب من قاد دابة غيره في الحرب "فأقبل الناس على الغنائم فاستقبلونا بالسهام" ، وللمصنف في الجهاد أيضا من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق تكملة السبب المذكور قال: "خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا - بضم المهملة وتشديد السين المهملة - ليس عليهم سلاح، فاستقبلهم جمع هوازن وبني نضر ما يكادون يسقط لهم سهم، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون" الحديث. وفيه: "فنزل واستنصر، ثم قال: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ". ثم صف أصحابه" وفي رواية مسلم من طريق زكريا عن أبي إسحاق "فرموهم برشق من نبل كأنها رجل جراد فانكشفوا" وذكر ابن إسحاق من حديث جابر وغيره في سبب انكشافهم أمرا آخر، وهو أن مالك بن عوف سبق بهم إلى حنين فأعدوا وتهيأوا في مضايق الوادي، وأقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين. وفي حديث أنس عند مسلم وغيره من رواية سليمان التيمي عن السميط عن أنس قال: "افتتحنا مكة، ثم إنا غزونا حنينا، قال: فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت: صف الخيل، ثم المقاتلة، ثم النساء من وراء ذلك، ثم الغنم ثم النعم. قال: ونحن بشر كثير، وعلى ميمنة خيلنا خالد بن الوليد، فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا فلم نلبث أن انكشفت خيلنا وفرت الأعراب ومن تعلم من الناس" وسيأتي للمصنف قريبا من رواية هشام بن زيد عن أنس قال: "أقبلت هوازن وغطفان بذراريهم ونعمهم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف ومعه الطلقاء، قال: فأدبروا عنه حتى بقي وحده" الحديث. ويجمع بين قوله: "حتى بقي وحده" وبين الأخبار الدالة على أنه بقي معه جماعة بأن المراد بقي وحده متقدما مقبلا على العدو، والذين ثبتوا معه كانوا وراءه، أو الوحدة بالنسبة لمباشرة القتال، وأبو سفيان بن الحارث وغيره كانوا يخدمونه في إمساك البغلة ونحو ذلك. ووقع في رواية أبي نعيم في "الدلائل" تفصيل المائة: بضعة وثلاثون من المهاجرين والبقية من الأنصار ومن النساء أم سليم وأم حارثة. قوله: "وأبو سفيان بن الحارث" أي ابن عبد المطلب بن هاشم وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامه قبل فتح مكة لأنه خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه في الطريق وهو سائر إلى فتح مكة فأسلم وحسن إسلامه، وخرج إلى غزوة حنين فكان فيمن ثبت. وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة قال: لما فر الناس يوم حنين جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" ، فلم يبق معه إلا أربعة نفر، ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم: علي والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر. قال: وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل. وروى الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال: "لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس

(8/29)


لمولين، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل" وهذا أكثر ما وقفت عليه من عدد من ثبت يوم حنين. وروى أحمد والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس؛ وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا، ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة" وهذا لا يخالف حديث ابن عمر فإنه نفى أن يكونوا مائة، وابن مسعود أثبت أنهم كانوا ثمانين، وأما ما ذكره النووي في شرح مسلم أنه ثبت معه اثنا عشر رجلا فكأنه أخذه مما ذكره ابن إسحاق في حديثه أنه ثبت معه العباس وابنه الفضل وعلي وأبو سفيان بن الحارث وأخوه ربيعة وأسامة بن زيد وأخوه من أمه أيمن ابن أم أيمن، ومن المهاجرين أبو بكر وعمر، فهؤلاء تسعة، وقد تقدم ذكر ابن مسعود في مرسل الحاكم فهؤلاء عشرة، ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط وذلك قوله:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة ... وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا
وعاشرنا وافى الحمام بنفسه ... لما مسه في الله لا يتوجع
ولعل هذا هو الثبت، ومن زاد على ذلك يكون عجل في الرجوع فعد فيمن لم ينهزم، وممن ذكر الزبير بن بكار وغيره أنه ثبت يوم حنين أيضا جعفر بن أبي سفيان بن الحارث وقثم بن العباس وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وشيبة بن عثمان الحجبي، فقد ثبت عنه أنه لما رأى الناس قد انهزموا استدبر النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، فأقبل عليه فضربه في صدره وقال له: قاتل الكفار، فقاتلهم حتى انهزموا. قال الطبري: الانهزام المنهي عنه هو ما وقع على غير نية العود وأما الاستطراد للكثرة فهو كالتحيز إلى فئة. قوله: "آخذ برأس بغلته" في رواية زهير "فأقبلوا أي المشركون هنالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته البيضاء وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل واستنصر" . قال العلماء: في ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة يومئذ دلالة على النهاية في الشجاعة والثبات. وقوله: "فنزل" أي عن البغلة "فاستنصر" أي قال: اللهم أنزل نصرك" . وقع مصرحا به في رواية مسلم من طريق زكريا عن أبي إسحاق. وفي حديث العباس عند مسلم: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث فلم نفارقه" الحديث، وفيه: "ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال العباس: وأنا آخذ بلجام رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه" ويمكن الجمع بأن أبا سفيان كان آخذا أولا بزمامها فلما ركضها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشركين خشي العباس فأخذ بلجام البغلة يكفها، وأخذ أبو سفيان بالركاب وترك اللجام للعباس إجلالا له لأنه كان عمه. قوله: "بغلته" هذه البغلة هي البيضاء، وعند مسلم من حديث العباس "وكان على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي" وله من حديث سلمة "وكان على بغلته الشهباء" ووقع عند ابن سعد وتبعه جماعة ممن صنف السيرة أنه صلى الله عليه وسلم كان على بغلته دلدل، وفيه نظر لأن دلدل أهداها له المقوقس؛ وقد ذكر القطب الحلبي أنه استشكل عند الدمياطي ما ذكره ابن سعد فقال له: كنت تبعته فذكرت ذلك في السيرة وكنت حينئذ سيريا محضا، وكان ينبغي لنا أن نذكر الخلاف. قال القطب الحلبي: يحتمل أن يكون يومئذ ركب كلا من البغلتين إن ثبت أنها كانت صحبته، وإلا فما في الصحيح أصح. ودل قول الدمياطي أنه كان يعتقد الرجوع عن كثير

(8/30)


مما وافق فيه أهل السير وخالف الأحاديث الصحيحة، وأن ذلك كان منه قبل أن يتضلع من الأحاديث الصحيحة ولخروج نسخ من كتابه وانتشاره لم يتمكن من تغييره. وقد أغرب النووي فقال: وقع عند مسلم: "على بغلته البيضاء" وفي أخرى "الشهباء" وهي واحدة ولا نعرف له بغلة غيرها. وتعقب بدلدل فقد ذكرها غير واحد، لكن قيل إن الاسمين لواحدة. قوله: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" قال ابن التين: كان بعض أهل العلم يقوله بفتح الباء من قوله: "لا كذب" ليخرجه عن الوزن، وقد أجيب عن مقالته صلى الله عليه وسلم هذا الرجز بأجوبة أحدها أنه نظم غيره، وأنه كان فيه: أنت النبي لا كذب أنت ابن عبد المطلب، فذكره بلفظ: "أنا" في الموضعين. ثانيها أن هذا رجز وليس من أقسام الشعر، وهذا مردود. ثالثها أنه لا يكون شعرا حتى يتم قطعة، وهذه كلمات يسيرة ولا تسمى شعرا. رابعها أنه خرج موزونا ولم يقصد به الشعر، وهذا أعدل الأجوبة، وقد تقدم هذا المعنى في غير هذا المكان، ويأتي تاما في كتاب الأدب. وأما نسبته إلى عبد المطلب دون أبيه عبد الله فكأنها لشهرة عبد المطلب بين الناس لما رزق من نباهة الذكر وطول العمر، بخلاف عبد الله فإنه مات شابا، ولهذا كان كثير من العرب يدعونه ابن عبد المطلب، كما قال ضمام بن ثعلبة لما قدم: أيكم ابن عبد المطلب وقيل لأنه كان اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله ويهدي الله الخلق على يديه ويكون خاتم الأنبياء، فانتسب إليه ليتذكر ذلك من كان يعرفه، وقد اشتهر ذلك بينهم، وذكره سيف بن ذي يزن قديما لعبد المطلب قبل أن يتزوج عبد الله آمنة وأراد النبي صلى الله عليه وسلم تنبيه أصحابه بأنه لا بد من ظهوره وأن العاقبة له لتقوى قلوبهم إذا عرفوا أنه ثابت غير منهزم. وأما قوله: "لا كذب " ففيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، وأنا متيقن بأن الذي وعدني الله به من النصر حق، فلا يجوز علي الفرار. وقيل: معنى قوله: "لا كذب" أي أنا النبي حقا لا كذب في ذلك.
" تنبيهان " : أحدهما ساق البخاري الحديث عاليا عن أبي الوليد عن شعبة، لكنه مختصر جدا. ثم ساقه من رواية غندر عن شعبة مطولا بنزول درجة. وقد أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة الفضل بن الحباب عن أبي الوليد مطولا، فكأنه لما حدث به البخاري حدثه به مختصرا. " الثاني " اتفقت الطرق التي أخرجها البخاري لهذا الحديث من سياق هذا الحديث إلى قوله: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" إلا رواية زهير بن معاوية فزاد في آخرها "ثم صف أصحابه" وزاد مسلم في حديث البراء من رواية زكريا عن أبي إسحاق قال البراء: "كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذيه" يعني النبي صلى الله عليه وسلم. ولمسلم من حديث العباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ صار يركض بغلته إلى جهة الكفار" وزاد فقال: "أي عباس ناد أصحاب الشجرة" ، وكان العباس صيتا، قال: فناديت بأعلى صوتي أين أصحاب الشجرة، قال فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك. قال فاقتتلوا والكفار، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم فقال هذا حين حمي الوطيس. ثم أخذ حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال: انهزموا ورب الكعبة، قال: فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا" ولابن إسحاق نحوه وزاد: "فجعل الرجل يعطف بغيره فلا يقدر، فيقذف درعه ثم يأخذ بسيفه ودرقته ثم يؤم الصوت" . قوله: "قال إسرائيل وزهير: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته" أي إن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق وزهير بن معاوية الجعفي رويا هذا الحديث عن أبي إسحاق عن البراء فقالا في آخره:

(8/31)


"نزل النبي صلى الله عليه وسلم عن بغلته" فأما رواية إسرائيل فوصلها المصنف في "باب من قال خذها وأنا ابن فلان" من كتاب الجهاد ولفظه: "كان أبو سفيان بن الحارث آخذا بعنان بغلته، فلما غشيه المشركون نزل" وقد تقدم شرح ذلك. وأما رواية زهير فوصلها أيضا في "باب من صف أصحابه عند الهزيمة" وقد ذكرت لفظه قريبا. ولمسلم من حديث سلمة بن الأكوع "لما غشوا النبي صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب، ثم استقبل به وجوههم فقال: " شاهت الوجوه" ، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا منهزمين". ولأحمد وأبي داود والترمذي من حديث أبي عبد الرحمن الفهري في قصة حنين قال: "فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيا عباد الله، أنا عبد الله ورسوله. ثم اقتحم عن فرسه فأخذ كفا من تراب، قال: فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب به وجوههم وقال: شاهت الوجوه، فهزمهم" قال يعلى بن عطاء راويه عن أبي همام عن أبي عبد الرحمن الفهري "قال: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا" ولأحمد والحاكم من حديث ابن مسعود "ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته قدما، فحادت به بغلته فمال عن السرج فقلت ارتفع رفعك الله، فقال: ناولني كفا من تراب، فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا. وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، فولى المشركون الأدبار" وللبزار من حديث ابن عباس "أن عليا ناول النبي صلى الله عليه وسلم التراب، فرمى به في وجوه المشركين يوم حنين" . ويجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم أولا قال لصاحبه: ناولني فناوله فرماهم، ثم نزل عن البغلة فأخذ بيده فرماهم أيضا. فيحتمل أن الحصى في إحدى المرتين وفي الأخرى التراب، والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد حسن الأدب في الخطاب، والإرشاد إلى حسن السؤال بحسن الجواب. وذم الإعجاب. وفيه جواز الانتساب إلى الآباء ولو ماتوا في الجاهلية، والنهي عن ذلك محمول على ما هو خارج الحرب. ومثله الرخصة في الخيلاء في الحرب دون غيرها. وجواز التعرض إلى الهلاك في سبيل الله، ولا يقال كان النبي صلى الله عليه وسلم متيقنا للنصر لوعد الله تعالى له بذلك وهو حق، لأن أبا سفيان بن الحارث قد ثبت معه آخذا بلجام بغلته وليس هو في اليقين مثل النبي صلى الله عليه وسلم. وقد استشهد في تلك الحالة أيمن ابن أم أيمن كما تقدمت الإشارة إليه في شعر العباس. وفيه ركوب البغلة إشارة إلى مزيد الثبات، لأن ركوب الفحولة مظنة الاستعداد للفرار والتولي، وإذا كان رأس الجيش قد وطن نفسه على عدم الفرار وأخذ بأسباب ذلك كان ذلك أدعى لأتباعه على الثبات. وفيه شهرة الرئيس نفسه في الحرب مبالغة في الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو.
4318، 4319- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ وَزَعَمَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَعِي مَنْ تَرَوْنَ وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ" وَكَانَ أَنْظَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا:

(8/32)


فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا لاَ نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْ سَبْيِ هَوَازِن" .
الحديث الثالث حديث المسور ومروان، تقدم ذكره من وجهين عن الزهري، وقد تقدم في أول الشروط في قصة صلح الحديبية أن الزهري رواه عن عروة عن المسور ومروان عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه في بقية المواضع حيث لا يذكر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرسله، فإن المسور يصغر عن إدراك القصة ومروان أصغر منه. نعم كان المسور في قصة حنين مميزا، فقد ضبط في ذلك الأوان قصة خطبة علي لابنة أبي جهل، والله أعلم. قوله: "حدثنا ابن أخي ابن شهاب قال محمد بن مسلم بن شهاب" هو الزهري، وسقط ابن مسلم من بعض النسخ. قوله: "وزعم عروة بن الزبير" هو معطوف على قصة صلح الحديبية، وقد أخرجه موسى بن عقبة عن الزهري بلفظ: "حدثني عروة بن الزبير إلخ" وسيأتي في الأحكام. قوله: "قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين" ساق الزهري هذه القصة من هذا الوجه مختصرة، وقد ساقها موسى بن عقبة في المغازي مطولة ولفظه: "ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف في شوال إلى الجعرانة وبها السبي يعني سبي هوازن، وقدمت عليه وفد هوازن مسلمين فيهم تسعة نفر من أشرافهم فأسلموا وبايعوا، ثم كلموه فقالوا: يا رسول الله إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات وهن مخازي الأقوام، فقال: سأطلب لكم، وقد وقعت المقاسم فأي الأمرين أحب إليكم: السبي أم المال؟ قالوا: خيرتنا يا رسول الله بين الحسب والمال، فالحسب أحب إلينا، ولا نتكلم في شاة ولا بعير. فقال: أما الذي لبني هاشم فهو لكم، وسوف أكلم لكم المسلمين، فكلموهم وأظهروا إسلامكم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الهاجرة قاموا فتكلم خطباؤهم فأبلغوا ورغبوا إلى المسلمين في رد سبيهم، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغوا فشفع لهم وحض المسلمين عليه وقال: قد رددت الذي لبني هاشم عليهم" فاستفيد من هذه القصة عدد الوفد وغير ذلك مما لا يخفى. وقد أغفل محمد بن سعد لما ذكر الوفود وفد هوازن هؤلاء مع أنه لم يجمع أحد في الوفود أكثر مما جمع. وممن سمي من وفد هوازن زهير بن صرد كما سيأتي، وأبو مروان - ويقال أبو ثروان أوله مثلثة بدل الميم ويقال بموحدة وقاف - وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، ذكره ابن سعد. وفي رواية ابن إسحاق "حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" تعيين الذي خطب لهم في ذلك ولفظه: "وأدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا: يا رسول الله إنا أهل وعشيرة قد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله إن اللواتي في الحظائر من السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، وأنت خير مكفول، ثم أنشده الأبيات المشهورة أولها:

(8/33)


امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر
يقول فيها:
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملؤه من محضها الدرر
ثم ساق القصة نحو سياق موسى بن عقبة. وأورد الطبراني شعر زهير بن صرد من حديثه فزاد على ما أورده ابن إسحاق خمسة أبيات. وقد وقع لنا عاليا جدا في "المعجم الصغير" عشاري الإسناد، ومن بين الطبراني فيه وزهير لا يعرف، لكن يقوى حديثه بالمتابعة المذكورة فهو حسن، وقد بسطت القول فيه في "الأربعين المتباينة" وفي "الأمالي" وفي "الصحابة" وفي "العشرة العشارية" وبينت وهم من زعم أن الإسناد منقطع، والله الموفق. قوله: "وقد كنت استأنيت بكم" في رواية الكشميهني: "لكم" ومعنى استأنيت استنظرت، أي أخرت قسم السبي لتحضروا فأبطأتم، وكان ترك السبي بغير قسمة وتوجه إلى الطائف فحاصرها كما سيأتي، ثم رجع عنها إلى الجعرانة ثم قسم الغنائم هناك، فجاءه وفد هوازن بعد ذلك، فبين لهم أنه أخر القسم ليحضروا فأبطأوا. وقوله: "بضع عشرة ليلة" فيه بيان مدة التأخير. وقوله: "قفل" بفتح القاف والفاء أي رجع. وذكر الواقدي أن وفد هوازن كانوا أربعة وعشرين بيتا فيهم أبو برقان السعدي فقال: يا رسول الله إن في هذه الحظائر إلا أمهاتك وخالاتك وحواضنك ومرضعاتك فامنن علينا، من الله عليك. فقال: "قد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون" ، وقد قسمت السبي. قوله: "فمن أحب أن يطيب ذلك" بفتح الطاء المهملة وتشديد الياء التحتانية أي يعطيه عن طيب نفس منه من غير عوض. قوله: "على حظه" أي بأن يرد السبي بشرط أن يعطي عوضه. ووقع في رواية موسى بن عقبة "فمن أحب منكم أن يعطي غير مكره فليفعل، ومن كره أن يعطي فعلي فداؤهم" . قوله: "فقال الناس قد طيبنا ذلك" في رواية موسى بن عقبة "فأعطى الناس ما بأيديهم، إلا قليلا من الناس سألوا الفداء" وفي رواية عمرو بن شعيب المذكورة "فقال المهاجرون: ما كان لنا فهو لرسول الله. وقالت الأنصار كذلك. وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة: أما أنا وبنو فزارة فلا. وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيء نصيبه، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم" . قوله: "فقال إنا لا ندري من أذن منكم إلخ" يأتي الكلام عليه في "باب العرفاء" من كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله: "هذا الذي بلغني عن سبي هوازن" بين المصنف في الهبة أن الذي قال هذا إلخ هو الزهري، قال: وذلك بعد أن خرج هذا الحديث عن يحيى بن بكير عن الليث بسنده.
4320- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ح حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "لَمَّا قَفَلْنَا مِنْ حُنَيْنٍ سَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَذْرٍ كَانَ نَذَرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ اعْتِكَافٍ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَفَائِه" .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم" .
4321- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ

(8/34)


عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حُنَيْنٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ فَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلاَ رَجُلاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَضَرَبْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ مَا بَالُ النَّاسِ قَالَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ رَجَعُوا وَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ" فَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ قَالَ ثُمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مِثْلَهُ فَقُمْتُ فَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ قَالَ ثُمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ فَقُمْتُ فَقَالَ: "مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ" فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ رَجُلٌ صَدَقَ وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنِّي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لاَهَا اللَّهِ إِذًا لاَ يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ فَأَعْطِهِ" فَأَعْطَانِيهِ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ فَإِنَّهُ لاَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلاَم" .
الحديث الرابع قوله: "عن نافع أن عمر قال: يا رسول الله" هكذا ذكره مرسلا مختصرا، ثم عقبه برواية معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موصولا تاما. وقد عاب عليه الإسماعيلي جمعهما لأن قوله: "لما قفلنا من حنين" لم يقع في رواية حماد بن زيد أي الرواية الأولى المرسلة، والجواب أن البخاري إنما نظر إلى أصل الحديث لا إلى النقص والزيادة في ألفاظ الرواة، وإنما أورد طريق حماد بن زيد المرسلة للإشارة إلى أن روايته مرجوحة، لأن جماعة من أصحاب شيخه أيوب خالفوه فيه فوصلوه، بل بعض أصحاب حماد بن زيد رواه عنه موصولا كما أشار إليه البخاري أيضا هنا، على أن رواية حماد بن زيد وإن لم يقع فيها ذكر القفول من حنين صريحا لكنه فيها ضمنا كما سأبينه، وقد وقع في رواية بعضهم ما ليس عند معمر أيضا مما هو أدخل في مقصود الباب كما سأبينه، فأما بقية لفظ الرواية الأولى فقد ساقها هو في فرض الخمس بلفظ: "أن عمر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان علي اعتكاف ليلة في الجاهلية، فأمره أن يفي به. قال: وأصاب عمر جاريتين من سبي حنين فوضعهما في بعض بيوت مكة" الحديث، وكذا أورده الإسماعيلي من طريق سليمان بن حرب وأبي الربيع الزهراني وخلف بن هشام كلهم عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع "أن عمر كان عليه اعتكاف ليلة في الجاهلية، فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة سأله عنه، فأمره أن يعتكف" لفظ أبي الربيع قلت: وكان نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة بعد رجوعه من الطائف بالاتفاق، وكذا سبي حنين إنما قسم بعد الرجوع منها فاتحدت رواية حماد بن زيد ومعمر معنى، وظهر رد ما اعترض به الإسماعيلي. وأما رواية من رواه عن حماد بن زيد موصولا فأشار إليه البخاري بقوله: "وقال بعضهم عن حماد إلخ" فالمراد بحماد ابن زيد، فإنه ذكر عقبه رواية حماد بن سلمة وهي مخالفة لسياقه، والمراد بالبعض المبهم أحمد بن عبدة الضبي، كذلك أخرجه الإسماعيلي من طريقه فقال: "أخبرني القاسم هو ابن زكريا حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال:"كان عمر نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يفي به "وكذا أخرجه مسلم وابن خزيمة عن أحمد بن عبدة وذكرا فيه إنكار ابن عمر عمرة الجعرانة، ولم يسق مسلم لفظه، وقد أوضحته في" باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة" من كتاب فرض الخمس. وأما رواية من رواه عن أيوب موصولا فأشار إليه البخاري بقوله:

(8/35)


"ورواه جرير بن حازم وحماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر" فرواية جرير بن حازم وصلها مسلم وغيره من رواية ابن وهب عن جرير بن حازم "أن أيوب حدثه أن نافعا حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة بعد أن رجع من الطائف فقال: " يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد الحرام فكيف ترى؟ قال: اذهب فاعتكف يوما" . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه جارية من الخمس، فلما أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس قال عمر: يا عبد الله اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها" فاشتمل هذا السياق على فوائد زوائد، وعرف وجه دخول هذا الحديث في "باب غزوة حنين" ورواية حماد بن سلمة وصلها مسلم من طريق حجاج بن منهال "حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب" مقرونة برواية محمد بن إسحاق كلاهما عن نافع عن ابن عمر، قال في قصة النذر يعني دون غيره من ذكر الجارية والسبي، وقد ذكرت في فرض الخمس كلام الدارقطني على هذا الحديث وأنه قال: رواه ابن عيينة عن أيوب، فاختلف الرواة عنه، فمنهم من أرسله ومنهم من وصله، وممن رواه موصولا محمد بن أبي خلف وهو من شيوخ مسلم أخرجه الإسماعيلي من طريقه وفيه ذكر النذر والسبي والجارية كما في رواية جرير بن حازم، وفي المغازي لابن إسحاق في قصة الجارية فائدة أخرى "قال: حدثني أبو وجزة يزيد بن عبيد السعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى من سبي هوازن علي بن أبي طالب جارية يقال لها ريطة بنت حبان بن عمير، وأعطى عثمان جارية يقال لها زينب بنت خناس، وأعطى عمر قلابة فوهبها لابنه، قال ابن إسحاق: فحدثني نافع عن ابن عمر قال. بعثت جاريتي إلى أخوالي في بني جمح ليصلحوا لي منها حتى أطوف بالبيت، ثم أتيتهم فخرجت من المسجد فإذا الناس يشتدون، قلت ما شأنكم؟ قالوا: رد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءنا وأبناءنا فقلت دونكم صاحبتكم فهي في بني جمح، فانطلقوا فأخذوها" وهذا لا ينافي قوله في رواية حماد بن زيد أنه وهب عمر جاريتين، فيجمع بينهما بأن عمر أعطى إحدى جاريتيه لولده عبد الله، والله أعلم. وذكر الواقدي أنه أعطى لعبد الرحمن بن عوف وآخرين معه من الجواري، وأن جارية سعد بن أبي وقاص اختارته فأقامت عنده وولدت له والله أعلم.
وقد تقدم ما يتعلق بالاعتكاف في بابه، ويأتي ما يتعلق بالنذر في بابه إن شاء الله تعالى.
4322- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُ رَجُلاً مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَآخَرُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَخْتِلُهُ مِنْ وَرَائِهِ لِيَقْتُلَهُ فَأَسْرَعْتُ إِلَى الَّذِي يَخْتِلُهُ فَرَفَعَ يَدَهُ لِيَضْرِبَنِي وَأَضْرِبُ يَدَهُ فَقَطَعْتُهَا ثُمَّ أَخَذَنِي فَضَمَّنِي ضَمًّا شَدِيدًا حَتَّى تَخَوَّفْتُ ثُمَّ تَرَكَ فَتَحَلَّلَ وَدَفَعْتُهُ ثُمَّ قَتَلْتُهُ وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَانْهَزَمْتُ مَعَهُمْ فَإِذَا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي النَّاسِ فَقُلْتُ لَهُ مَا شَأْنُ النَّاسِ قَالَ أَمْرُ اللَّهِ ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ" فَقُمْتُ لِأَلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي فَجَلَسْتُ ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ سِلاَحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَلاَ لاَ يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَدَعَ أَسَدًا

(8/36)


مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلاَم" .
الحديث الخامس حديث أبي قتادة، قوله: "عن يحيى بن سعيد" هو الأنصاري وعمر بن كثير بن أفلح مدني مولى أبي أيوب الأنصاري، وثقه النسائي وغيره، وهو تابعي صغير، ولكن ابن حبان ذكره في أتباع التابعين، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث بهذا الإسناد، لكن ذكره في مواضع: فتقدم في البيوع مختصرا، وفي فرض الخمس تاما، وسيأتي في الأحكام. وقد ذكرت في البيوع أن يحيى بن يحيى الأندلسي حرفه في روايته فقال: عن عمرو بن كثير والصواب "عمر" . قوله: "عن أبي محمد" هو نافع بن عباس معروف باسمه وكنيته. قوله: "فلما التقينا كانت للمسلمين جولة" بفتح الجيم وسكون الواو أي حركة فيها اختلاف، وقد أطلق في رواية الليث الآتية بعدها أنهم انهزموا، لكن بعد القصة التي ذكرها أبو قتادة، وقد تقدم في حديث البراء أن الجميع لم ينهزموا. قوله: "فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين" لم أقف على اسمهما، وقوله: "علا" أي ظهر. وفي رواية الليث التي بعدها "نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلا من المشركين وآخر من المشركين يختله" بفتح أوله وسكون الخاء المعجمة وكسر المثناة أي يريد أن يأخذه على غرة، وتبين من هذه الرواية أن الضمير في قوله في الأولى: "فضربته من ورائه" لهذا الثاني الذي كان يريد أن يختل المسلم. قوله: "على حبل عاتقه" حبل العاتق عصبه، والعاتق موضع الرداء من المنكب، وعرف منه أن قوله في الرواية الثانية: "فأضرب يده فقطعتها" أن المراد باليد الذراع والعضد إلى الكتف، وقوله: "فقطعت الدرع" أي التي كان لابسها وخلصت الضربة إلى يده فقطعتها. قوله: "وجدت منها ريح الموت" أي من شدتها، وأشعر ذلك بأن هذا المشرك كان شديد القوة جدا. قوله: "ثم أدركه الموت فأرسلني" أي أطلقني. قوله: "فلحقت عمر" في السياق حذف بينته الرواية الثانية حيث قال: "فتحلل ودفعته ثم قتلته وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فإذا بعمر بن الخطاب" . قوله: "أمر الله" أي حكم الله وما قضى به. قوله: "ثم رجعوا" في الرواية الثانية "ثم تراجعوا" وقد تقدم في الحديث الأول كيفية رجوعهم وهزيمة المشركين بما يغني عن إعادته. قوله: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه" تقدم شرح ذلك مستوفى في فرض الخمس. قوله: "فقلت من يشهد لي" زاد في الرواية التي تلي هذه "فلم أر أحدا يشهد لي" وذكر الواقدي أن عبد الله بن أنيس شهد له، فإن كان ضبطه احتمل أن يكون وجده في المرة الثانية فإن في الرواية الثانية "فجلست ثم بدا لي فذكرت أمره" . قوله: "فقال رجل" في الرواية الثانية "من جلسائه" وذكر الواقدي أن اسمه أسود بن خزاعي، وفيه نظر لأن في الرواية الصحيحة أن الذي أخذ السلب قرشي. قوله: "صدق، وسلبه عندي فأرضه منه" في رواية الكشميهني: "فأرضه مني" . قوله: "فقال أبو بكر الصديق: لاها الله، إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه" هكذا ضبطناه في الأصول المعتمدة من الصحيحين وغيرهما بهذه الأحرف "لاها الله إذا" فأما لاها الله فقال الجوهري: ها للتنبيه وقد يقسم بها يقال لاها الله ما فعلت كذا، قال ابن مالك. فيه شاهد على جواز الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبيه، قال: ولا يكون ذلك إلا مع الله أي لم يسمع لاها الرحمن كما سمع لا والرحمن، قال: وفي النطق بها أربعة أوجه، أحدها ها الله باللام بغير الهاء بغير إظهار شيء من الألفين، ثانيها مثله لكن بإظهار ألف

(8/37)


واحدة بغير همز كقولهم التقت حلقتا البطان، ثالثها ثبوت الألفين بهمزة قطع، رابعها بحذف الألف وثبوت همزة القطع، انتهى كلامه. والمشهور في الراوية من هذه الأوجه الثالث ثم الأول. وقال أبو حاتم السجستاني: العرب تقول لاهأ الله ذا بالهمز، والقياس ترك الهمز، وحكى ابن التين عن الداودي أنه روى برفع الله، قال: والمعنى يأبى الله. وقال غيره: إن ثبتت الرواية بالرفع فتكون "ها" للتنبيه و "الله" مبتدأ و "لا يعمد" خبره انتهى. ولا يخفى تكلفه. وقد نقل الأئمة الاتفاق على الجر فلا يلتفت إلى غيره. وأما إذا فثبتت في جميع الروايات المعتمدة والأصول المحققة من الصحيحين وغيرهما بكسر الألف ثم ذال معجمة منونة. وقال الخطابي: هكذا يروونه، وإنما هو في كلامهم - أي العرب - لاها الله ذا، والهاء فيه بمنزلة الواو، والمعنى لا والله يكون ذا. ونقل عياض في "المشارق" عن إسماعيل القاضي أن المازني قال قول الرواة: "لاها الله إذا" خطأ، والصواب لاها الله ذا أي ذا يميني وقسمي. وقال أبو زيد: ليس في كلامهم لاها الله إذا، وإنما هو لاها الله ذا، وذا صلة في الكلام، والمعنى لا والله، هذا ما أقسم به، ومنه أخذ الجوهري قال: قولهم لاها الله ذا معناه لا والله هذا، ففرقوا بين حرف التنبيه والصلة، والتقدير لا والله ما فعلت ذا. وتوارد كثير ممن تكلم على هذا الحديث أن الذي وقع في الخبر بلفظ: "إذا" خطأ وإنما هو "ذا" تبعا لأهل العربية، ومن زعم أنه ورد في شيء من الروايات بخلاف ذلك فلم يصب، بل يكون ذلك من إصلاح بعض من قلد أهل العربية في ذلك. وقد اختلف في كتابة "إذا" هذه هل تكتب بألف أو بنون، وهذا الخلاف مبني على أنها اسم أو حرف فمن قال هي اسم قال الأصل فيمن قيل له سأجيء إليك فأجاب إذا أكرمك أي إذا جئتني أكرمك ثم حذف جئتني وعوض عنها التنوين وأضمرت أن، فعلى هذا يكتب بالنون. ومن قال هي حرف - وهم الجمهور - اختلفوا، فمنهم من قال هي بسيطة وهو الراجح، ومنهم من قال مركبة من إذا وإن فعلى الأول تكتب بألف وهو الراجح وبه وقع رسم المصاحف، وعلى الثاني تكتب بنون، واختلف في معناها قال سيبويه: معناها الجواب والجزاء، وتبعه جماعة فقالوا: هي حرف جواب يقتضي التعليل. وأفاد أبو علي الفارسي أنها قد تتمحض للجواب، وأكثر ما تجيء جوابا للو وإن ظاهرا أو مقدرا، فعلى هذا لو ثبتت الرواية بلفظ: "إذا" لاختل نظم الكلام لأنه يصير هكذا: لا والله، إذا لا يعمد إلى أسد إلخ. وكان حق السياق أن يقول: إذا يعمد، أي لو أجابك إلى ما طلبت لعمد إلى أسد إلخ، وقد ثبتت الرواية بلفظ لا يعمد إلخ، فمن ثم ادعى من ادعى أنها تغيير، ولكن قال ابن مالك: وقع في الرواية: "إذا" بألف وتنوين وليس ببعيد. وقال أبو البقاء: هو بعيد، ولكن يمكن أن يوجه بأن التقدير: لا والله لا يعطي إذا، يعني ويكون لا يعمد إلخ تأكيدا للنفي المذكور وموضحا للسبب فيه. وقال الطيبي: ثبت في الرواية: "لاها الله إذا" فحمله بعض النحويين على أنه من تغيير بعض الرواة لأن العرب لا تستعمل لاها الله بدون ذا، وإن سلم استعماله بدون ذا فليس هذا موضع إذا لأنها حرف جزاء والكلام هنا على نقيضه، فإن مقتضى الجزاء أن لا يذكر "لا" في قوله: "لا يعمد" بل كان يقول: إذا يعمد إلى أسد إلخ ليصح جوابا لطلب السلب، قال: والحديث صحيح والمعنى صحيح، وهو كقولك لمن قال لك افعل كذا فقلت له: والله إذا لا أفعل، فالتقدير إذا والله لا يعمد إلى أسد إلخ، قال: ويحتمل أن يكون "إذا" زائدة كما قال أبو البقاء إنها زائدة في قول الحماسي "إذا لقام بنصري معشر خشن" في جواب قوله: "لو كنت من مازن لم تستبح أبلي" قال: والعجب ممن يعتني بشرح الحديث ويقدم نقل بعض الأدباء

(8/38)


على أئمة الحديث وجهابذته وينسبون إليهم الخطأ والتصحيف، ولا أقول إن جهابذة المحدثين أعدل وأتقن في النقل إذ يقتضي المشاركة بينهم، بل أقول: لا يجوز العدول عنهم في النقل إلى غيرهم. قلت: وقد سبقه إلى تقرير ما وقع في الرواية ورد ما خالفها الإمام أبو العباس القرطبي في "المفهم" فنقل ما تقدم عن أئمة العربية ثم قال: وقع في رواية العذري والهوزني في مسلم: "لاها الله ذا" بغير ألف ولا تنوين، وهو الذي جزم به من ذكرناه. قال: والذي يظهر لي أن الرواية المشهورة صواب وليست بخطأ، وذلك أن هذا الكلام وقع على جواب إحدى الكلمتين للأخرى، والهاء هي التي عوض بها عن واو القسم، وذلك أن العرب تقول في القسم "الله لأفعلن" بمد الهمزة وبقصرها، فكأنهم عوضوا عن الهمزة ها فقالوا "ها الله" لتقارب مخرجيهما، وكذلك قالوا بالمد والقصر، وتحقيقه أن الذي مد مع الهاء كأنه نطق بهمزتين أبدل من إحداهما ألفا استثقالا لاجتماعهما كما تقول: الله والذي قصر كأنه نطق بهمزة واحدة كما تقول: الله، وأما "إذا" فهي بلا شك حرف جواب وتعليل، وهي مثل التي وقعت في قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذا" فلو قال فلا والله إذا لكان مساويا لما وقع هنا وهو قوله: "لاها الله إذا" من كل وجه؛ لكنه لم يحتج هناك إلى القسم فتركه، قال: فقد وضح تقرير الكلام ومناسبته واستقامته معني ووضعا من غير حاجة إلى تكلف بعيد يخرج عن البلاغة، ولا سيما من ارتكب أبعد وأفسد فجعل الهاء للتنبيه وذا للإشارة وفصل بينهما بالمقسم به، قال: وليس هذا قياسا فيطرد، ولا فصيحا فيحمل عليه الكلام النبوي، ولا مرويا برواية ثابتة. قال: وما وجد للعدوي وغيره فإصلاح من اغتر بما حكي عن أهل العربية، والحق أحق أن يتبع. وقال بعض من أدركناه وهو أبو جعفر الغرناطي نزيل حلب في حاشية نسخته من البخاري: استرسل جماعة من القدماء في هذا الإشكال إلى أن جعلوا المخلص منه أن اتهموا الأثبات بالتصحيف فقالوا: والصواب "لاها الله ذا" باسم الإشارة. قال: ويا عجب من قوم يقبلون التشكيك على الروايات الثابتة ويطلبون لها تأويلا. جوابهم أن ها الله لا يستلزم اسم الإشارة كما قال ابن مالك، وأما جعل، "لا يعمد" جواب فأرضه فهو سبب الغلط، وليس بصحيح ممن زعمه، وإنما هو جواب شرط مقدر يدل عليه صدق فأرضه، فكأن أبا بكر قال: إذا صدق في أنه صاحب السلب إذا لا يعمد إلى السلب فيعطيك حقه، فالجزاء على هذا صحيح لأن صدقه سبب أن لا يفعل ذلك. قال: وهذأ واضح لا تكلف فيه انتهى. وهو توجيه حسن. والذي قبله أقعد. ويؤيد ما رجحه من الاعتماد على ما ثبتت به الرواية كثرة وقوع هذه الجملة في كثير من الأحاديث، منها ما وقع في حديث عائشة في قصة بريرة لما ذكرت أن أهلها يشترطون الولاء قالت: فانتهرتها فقلت: "لاها الله إذا" ومنها ما وقع في قصة جليبيب بالجيم والموحدتين مصغرا "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عليه امرأة من الأنصار إلى أبيها فقال: حتى أستأمر أمها، قال: فنعم إذا. قال فذهب إلى امرأته فذكر لها فقالت: لاها الله إذا، وقد منعناها فلانا" الحديث، صححه ابن حبان من حديث أنس. ومنها ما أخرجه أحمد في "الزهد" قال: "قال مالك بن دينار للحسن: يا أبا سعيد لو لبست مثل عباءتي هذه، قال: لاها الله إذا ألبس مثل عباءتك هذه" وفي "تهذيب الكمال" في ترجمة ابن أبي عتيق "أنه دخل على عائشة في مرضها فقال: كيف أصبحت جعلني الله فداك؟ قالت: أصبحت ذاهبة. قال: فلا إذا. وكان فيه دعابة" ووقع في كثير من الأحاديث في سياق الإثبات بقسم وبغير قسم، فمن ذلك في قصة جليبيب، ومنها حديث عائشة في قصة صفية لما قال صلى الله عليه وسلم: "أحابستنا هي؟ وقال إنها طافت بعد

(8/39)


ما أفاضت فقال: فلتنفر إذا" وفي رواية: "فلا إذا" ومنها حديث عمرو بن العاص وغيره في سؤاله عن أحب الناس "فقال: عائشة. فقال: لم أعن النساء؟ قال: فأبوها إذا" ومنها حديث ابن عباس في قصة الأعرابي الذي أصابته الحمى فقال: "بل حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور. قال: فنعم إذا" ومنها ما أخرجه الفاكهي من طريق سفيان قال: "لقيت ليطة بن الفرزدق فقلت: أسمعت هذا الحديث من أبيك؟ قال: أي ها الله إذا، سمعت أبي يقوله:"فذكر القصة. ومنها ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء أرأيت لو أني فرغت من صلاتي فلم أرض كمالها، أفلا أعود لها؟ قال: بلى ها الله إذا" والذي يظهر من تقدير الكلام بعد أن تقرر أن "إذا" حرف جواب وجزاء أنه كأنه قال: إذا والله أقول لك نعم، وكذا في النفي كأنه أجابه بقوله: إذا والله لا نعطيك، إذا والله لا أشترط، إذا والله لا ألبس، وأخر حرف الجواب في الأمثلة كلها. وقد قال ابن جريج في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} : فلا يؤتون الناس إذا، وجعل ذلك جوابا عن عدم النصيب بها، مع أن الفعل مستقبل وذكر أبو موسى المديني في "المغيث" له في قوله تعالى: {إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً} إذا قيل هو اسم بمعنى الحروف الناصبة وقيل أصله إذا الذي هو من ظروف الزمان وإنما نون للفرق ومعناه حينئذ أي إن أخرجوك من مكة، فحينئذ لا يلبثون خلفك إلا قليلا. وإذا تقرر ذلك أمكن حمل ما ورد من هذه الأحاديث عليه فيكون التقدير: لا والله حينئذ. ثم أراد بيان السبب في ذلك فقال: لا يعمد إلخ والله أعلم. وإنما أطلت في هذا الموضع لأنني منذ طلبت الحديث ووقفت على كلام الخطابي وقعت عندي منه نفرة للإقدام على تخطئة الروايات الثابتة، خصوصا ما في الصحيحين، فما زلت أتطلب المخلص من ذلك إلى أن ظفرت بما ذكرته، فرأيت إثباته كله هنا، والله الموفق. قوله: "لا يعمد إلخ" أي لا يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل كأنه أسد في الشجاعة يقاتل عن دين الله ورسوله فيأخذ حقه ويعطيكه بغير طيبة من نفسه، هكذا ضبط للأكثر بالتحتانية فيه وفي يعطيك، وضبطه النووي بالنون فيهما. قوله: "فيعطيك سلبه" أي سلب قتيله فأضافه إليه باعتبار أنه ملكه. "تنبيه" : وقع في حديث أنس أن الذي خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عمر أخرجه أحمد من طريق حماد بن سلمة عن إسحاق بن أبي طلحة عنه ولفظه: "إن هوازن جاءت يوم حنين" فذكر القصة قال: "فهزم الله المشركين، فلم يضرب بسيف ولم يطعن برمح. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: " من قتل كافرا فله سلبه" ، فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين راجلا وأخذ أسلابهم. وقال أبو قتادة: إني ضربت رجلا على حبل العاتق وعليه درع فأعجلت عنه، فقام رجل فقال: أخذتها فأرضه منها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل شيئا إلا أعطاه أو سكت، فسكت. فقال عمر. والله لا يفيئها الله على أسد من أسده ويعطيكها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق عمر "وهذا الإسناد قد أخرج به مسلم بعض هذا الحديث وكذلك أبو داود، لكن الراجح أن الذي قال ذلك أبو بكر كما رواه أبو قتادة وهو صاحب القصة فهو أتقن لما وقع فيها من غيره. ويحتمل الجمع بأن يكون عمر أيضا قال ذلك تقوية لقول أبي بكر. والله أعلم. قوله: "صدق" أي القائل: "فأعطه" بصيغة الأمر للذي اعترف بأن السلب عنده. قوله: "فابتعت به" ذكر الواقدي أن الذي اشتراه منه حاطب بن أبي بلتعة وأن الثمن كان سبع أواقي. قوله: "مخرفا" بفتح الميم والراء ويجوز كسر الراء أي بستانا، سمي بذلك لأنه يخترف منه التمر أي يجتنى، وأما بكسر الميم فهو اسم الآلة التي يخترف بها، وفي الرواية التي بعدها "خرافا" وهو بكسر أوله وهو التمر الذي يخترف أي يجتنى، وأطلقه على البستان مجازا فكأنه قال: بستان خراف. وذكر

(8/40)


الواقدي أن البستان المذكور كان يقال له الوديين. قوله: "في بني سلمة" بكسر اللام هم بطن من الأنصار وهم قوم أبي قتادة. قوله: "تأثلته" بمثناة ثم مثلثة أي أصلته، وأثلة كل شيء أصله. وفي رواية ابن إسحاق "أول مال اعتقدته" أي جعلته عقدة، والأصل فيه من العقد لأن من ملك شيئا عقد عليه. قوله: "وقال الليث حدثني يحيى بن سعيد" هو الأنصاري شيخ مالك فيه، وروايته هذه وصلها المصنف في الأحكام عن قتيبة عنه لكن باختصار وقال فيه: "عن يحيى" لم يقل حدثني، وذكر في آخره كلمة قال فيها: "قال لي عبد الله حدثنا الليث" يعني بالإسناد المذكور، وعبد الله هو ابن صالح كاتب الليث، وأكثر ما يعلقه البخاري عن الليث ما أخذه عن عبد الله بن صالح المذكور، وقد أشبع القول في ذلك في المقدمة، وقد وصل الإسماعيلي هذا الحديث من طريق حجاج بن محمد عن الليث قال: "حدثني يحيى بن سعيد" وذكره بتمامه. قوله: "تخوفت" حذف المفعول والتقدير الهلاك. قوله: "ثم برك" كذا للأكثر بالموحدة. ولبعضهم بالمثناة أي تركني. وفي رواية الإسماعيلي: "ثم نزف" بضم النون وكسر الزاي بعدها فاء ويؤيده قوله بعدها "فتحلل" . قوله: "سلاح هذا القتيل الذي يذكر" في رواية الكشميهني: "الذي ذكره" وتبين بهذه الرواية أن سلبه كان سلاحا. قوله: "أصيبغ" بمهملة ثم معجمة عند القابسي، وبمعجمة ثم مهملة عند أبي ذر. وقال ابن التين: وصفه بالضعف والمهانة، والأصيبغ نوع من الطير، أو شبهه بنبات ضعيف يقال له الصبغاء إذا طلع من الأرض يكون أول ما يلي الشمس منه أصفر ذكر ذلك الخطابي، وعلى هذا رواية القابسي، وعلى الثاني تصغير الضبع على غير قياس، كأنه لما عظم أبا قتادة بأنه أسد صغر خصمه وشبهه بالضبع لضعف افتراسه وما يوصف به من العجز. وقال ابن مالك: أضيبع بمعجمة وعين مهملة تصغير أضبع ويكنى به عن الضعيف. قوله: "ويدع" أي يترك وهو بالرفع ويجوز للنصب والجر.

(8/41)


55- باب غَزْوَةِ أَوْطَاسٍ
4323- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَقُتِلَ دُرَيْدٌ وَهَزَمَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ قَالَ أَبُو مُوسَى وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ رَمَاهُ جُشَمِيٌّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا عَمِّ مَنْ رَمَاكَ فَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى فَقَالَ ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي فَقَصَدْتُ لَهُ فَلَحِقْتُهُ فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى فَاتَّبَعْتُهُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ أَلاَ تَسْتَحْيِي أَلاَ تَثْبُتُ فَكَفَّ فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْتُهُ ثُمَّ قُلْتُ لأَبِي عَامِرٍ قَتَلَ اللَّهُ صَاحِبَكَ قَالَ فَانْزِعْ هَذَا السَّهْمَ فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي أَقْرِئْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلاَمَ وَقُلْ لَهُ اسْتَغْفِرْ لِي وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ فَمَكُثَ يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ فَرَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مُرْمَلٍ وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِهِ وَجَنْبَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ وَقَالَ قُلْ لَهُ اسْتَغْفِرْ لِي فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ

(8/41)


ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنْ النَّاسِ فَقُلْتُ وَلِي فَاسْتَغْفِرْ فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلاً كَرِيمًا" قَالَ أَبُو بُرْدَةَ إِحْدَاهُمَا لأَبِي عَامِرٍ وَالأُخْرَى لأَبِي مُوسَى".
قوله: "باب غزوة أوطاس" قال عياض: هو واد في دار هوازن، وهو موضع حرب حنين انتهى. وهذا الذي قاله ذهب إليه بعض أهل السير، والراجح أن وادي أوطاس غير وادي حنين، ويوضح ذلك ما ذكر ابن إسحاق أن الوقعة كانت في وادي حنين، وأن هوازن لما انهزموا صارت طائفة منهما إلى الطائف وطائفة إلى بجيلة وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عسكرا مقدمهم أبو عامر الأشعري إلى من مضى إلى أوطاس كما يدل عليه حديث الباب، ثم توجه هو وعساكره إلى الطائف. وقال أبو عبيدة البكري: أوطاس واد في ديار هوازن، وهناك عسكروا هم وثقيف ثم التقوا بحنين. قوله: "بعث أبا عامر" هو عبيد بن سليم بن حضار الأشعري، وهو عم أبي موسى. وقال ابن إسحاق: هو ابن عمه. والأول أشهر. قوله: "فلقي دريد بن الصمة فقتل دريد" أما الصمة فهو بكسر المهملة وتشديد الميم أي ابن بكر بن علقمة - ويقال بن الحارث بن بكر بن علقمة - الجشمي بضم الجيم وفتح المعجمة من بني جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن، فالصمة لقب لأبيه واسمه الحارث، وقوله فقتل رويناه على البناء للمجهول، واختلف في قاتله فجزم محمد بن إسحاق بأنه ربيعة بن رفيع بفاء مصغر ابن وهبان بن ثعلبة بن ربيعة السلمي وكان يقال له ابن الذعنة بمعجمة ثم مهملة، ويقال بمهملة ثم معجمة وهي أمه. وقال ابن هشام: يقال اسمه عبد الله بن قبيع بن أهبان، وساق بقبة نسبه. ويقال له أيضا ابن الدغنة وليس هو ابن الدغنة المذكور في قصة أبي بكر في الهجرة، وروى البزار في مسند أنس بإسناد حسن ما يشعر بأن قاتل دريد بن الصمة هو الزبير بن العوام ولفظه: "لما انهزم المشركون انحاز دريد بن الصمة في ستمائة نفس على أكمة فرأوا كتيبة، فقال خلوهم لي، فخلوهم، فقال: هذه قضاعة ولا بأس عليكم، ثم رأوا كتيبة مثل ذلك، فقال: هذه سليم، ثم رأوا فارسا وحده فقال: خلوه لي، فقالوا معتجر بعمامة سوداء، فقال: هذا الزبير بن العوام، وهو قاتلكم ومخرجكم من مكانكم هذا، قال فالتفت الزبير فرآهم فقال: علام هؤلاء هاهنا؟ فمضي إليهم، وتبعه جماعة فقتلوا منهم ثلاثمائة، فحز رأس دريد بن الصمة فجعله بين يديه. ويحتمل أن يكون ابن الدغنة كان في جماعة الزبير فباشر قتله فنسب إلى الزبير مجازا، وكان دريد من الشعراء الفرسان المشهورين في الجاهلية، ويقال إنه كان لما قتل ابن عشرين - ويقال ابن ستين - ومائة سنة. قوله: "قال أبو موسى وبعثني" أي النبي صلى الله عليه وسلم "مع أبي عامر" أي إلى من التجأ إلى أوطاس. وقال ابن إسحاق: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا عامر الأشعري في آثار من توجه إلى أوطاس، فأدرك بعض من انهزم فناوشوه القتال. قوله: "فرمي أبو عامر في ركبته، رماه جشمي" بضم الجيم وفتح المعجمة أي رجل من بني جشم، واختلف في اسم هذا الجشمي فقال ابن إسحاق: زعموا أن سلمة بن دريد بن الصمة هو الذي رمى أبا عامر بسهم فأصاب ركبته فقتله، وأخذ الراية أبو موسى الأشعري فقاتلهم ففتح الله عليه. وقال ابن هشام: حدثني من أثق به أن الذي رمى أبا عامر أخوان من بني جشم وهما أوفى والعلاء ابنا الحارث، وفي نسخة وافى بدل أوفي، فأصاب أحدهما ركبته، وقتلهما أبو موسى الأشعري. وعند ابن عائذ والطبراني في "الأوسط" من وجه آخر عن أبي موسى الأشعري

(8/42)


بإسناد حسن "لما هزم الله المشركين يوم حنين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل الطلب أبا عامر الأشعري وأنا معه فقتل ابن دريد أبا عامر، فعدلت إليه فقتلته وأخذت اللواء" الحديث. فهذا يؤيد ما ذكره ابن إسحاق. وذكر ابن إسحاق في المغازي أيضا أن أبا عامر لقي يوم أوطاس عشرة من المشركين إخوة فقتلهم واحدا بعد واحد، حتى كان العاشر فحمل عليه وهو يدعوه إلى الإسلام وهو يقول: اللهم اشهد عليه، فقال الرجل اللهم لا تشهد علي، فكف عنه أبو عامر ظنا منه أنه أسلم فقتله العاشر، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسميه شهيد أبي عامر، وهذا يخالف الحديث الصحيح في أن أبا موسى قتل قاتل أبي عامر، وما في الصحيح أولى بالقبول، ولعل الذي ذكره ابن إسحاق شارك في قتله. قوله: "فنزا منه الماء" أي انصب من موضع السهم. قوله: "قال يا ابن أخي" هذا يرد قول ابن إسحاق إنه ابن عمه، ويحتمل - إن كان ضبطه - أن يكون قال له ذلك لكونه كان أسن منه. قوله: "فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية ابن عائذ "فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم معي اللواء قال: يا أبا موسى قتل أبو عامر" . قوله: "على سرير مرمل" براء مهملة ثم ميم ثقيلة، أي معمول بالرمال، وهي حبال الحصر التي تضفر بها الأسرة. قوله: "وعليه فراش" قال ابن التين: أنكره الشيخ أبو الحسن وقال: الصواب: ما عليه فراش، فسقطت "ما" انتهى. وهو إنكار عجيب، فلا يلزم من كونه رقد على غير فراش كما في قصة عمر أن لا يكون على سريره دائما فراش. قوله: "فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه" يستفاد منه استحباب التطهير لإرادة الدعاء، ورفع اليدين في الدعاء، خلافا لمن خص ذلك بالاستسقاء، وسيأتي بيان ما ورد من ذلك في كتاب الدعوات. قوله: "فوق كثير من خلقك" أي في المرتبة. وفي رواية ابن عائذ "في الأكثرين يوم القيامة" . قوله: "قال أبو بردة" هو موصول بالإسناد المذكور.

(8/43)


56- باب غَزْوَةِ الطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ
4324- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ سَمِعَ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي مُخَنَّثٌ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الطَّائِفَ غَدًا فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلاَنَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَدْخُلَنَّ هَؤُلاَءِ عَلَيْكُن" . قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ الْمُخَنَّثُ هِيتٌ.
حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا وَزَادَ "وَهُوَ مُحَاصِرُ الطَّائِفِ يَوْمَئِذ" .
[الحديث 4224- طرفاه في: 5235، 5887]
قوله: "باب غزوة الطائف" هو بلد كبير مشهور، كثير الأعناب والنخيل، على ثلاث مراحل أو اثنتين من مكة من جهة المشرق، قبل أصلها أن جبريل عليه السلام اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصريم فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حيث الطائف فسمي الموضع بها، وكانت أولا بنواحي صنعاء، واسم الأرض وج بتشديد الجيم، سميت برجل وهو ابن عبد الجن من العمالقة وهو أولا من نزل بها. وسار النبي صلى الله عليه وسلم إليها بعد منصرفه من حنين وحبس الغنائم بالجعرانة، وكان مالك بن عوف النضري قائد هوازن لما انهزم دخل الطائف وكان

(8/43)


له حصن بلية، وهي بكسر اللام وتخفيف التحتانية على أميال من الطائف، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو سائر إلى الطائف فأمر بهدمه. قوله: "في شوال سنة ثمان قاله موسى بن عقبة" . قلت: كذا ذكره في مغازيه، وهو قول جمهور أهل المغازي. وقيل بل وصل إليها في أول ذي القعدة. ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث: حديث أم سلمة وهشام هو ابن عروة، وفي الإسناد لطيفة: رجل عن أبيه وهما تابعيان، وامرأة عن أمها وهما صحابيتان. قوله: "أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف" الحديث يأتي شرحه في كتاب النكاح، والغرض منه هنا ذكر حصار الطائف، ولذلك أورد الطريق الأخرى بعده حيث قال فيها: "وهو محاصر الطائف يومئذ" وعبد الله بن أبي أمية هو أخو أم سلمة راوية الحديث، وكان إسلامه مع أبي سفيان بن الحارث المقدم ذكره في غزوة الفتح، واستشهد عبد الله بالطائف أصابه سهم فقتله. وقوله في الأول: "قال ابن عيينة وقال ابن جريج" هو موصول بالإسناد الأول. وقوله: "المخنث هيت" أي اسمه، وهو بكسر الهاء وسكون التحتانية بعدها مثناة، وضبطه بعضهم بفتح أوله، وأما ابن درستويه فضبطه بنون ثم موحدة، وزعم أن الأول تصحيف. قال: والهنب الأحمق. وسيأتي ما قيل في اسمه من الاختلاف هل هو واحد أو جماعة في كتاب النكاح، وكذا ما قيل في اسم المرأة، والأشهر أنها بادية إن شاء الله تعالى.
4325- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الشَّاعِرِ الأَعْمَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّائِفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا قَالَ: "إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا نَذْهَبُ وَلاَ نَفْتَحُهُ وَقَالَ مَرَّةً نَقْفُلُ فَقَالَ اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ فَغَدَوْا فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ فَقَالَ إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَعْجَبَهُمْ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً فَتَبَسَّمَ" قَالَ: قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الْخَبَرَ كُلَّه" .
قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار، وأبو العباس الشاعر الأعمى تقدم ذكره وتسميته في قيام الليل. قوله: "عن عبد الله بن عمر" في رواية الكشميهني: "عبد الله بن عمرو" بفتح العين وسكون الميم، وكذا وقع في رواية النسفي والأصيلي، وقرئ على ابن زيد المروزي كذلك فرده بضم العين، وقد ذكر الدار قطني الاختلاف فيه وقال: الصواب عبد الله بن عمر بن الخطاب، والأول هو الصواب في رواية علي بن المديني وكذلك الحميدي وغيرهما من حفاظ أصحاب ابن عيينة، وكذا أخرجه الطبراني من رواية إبراهيم بن يسار وهو ممن لازم ابن عيينة جدا، والذي قال عن ابن عيينة في هذا الحديث: "عبد الله بن عمر" وهم الذين سمعوا منه متأخرا كما نبه عليه الحاكم، وقد بالغ الحميدي في إيضاح ذلك فقال في مسنده في روايته لهذا الحديث عن سفيان "عبد الله بن عمر بن الخطاب" وأخرجه البيهقي في "الدلائل" من طريق عثمان الدارمي عن علي بن المديني قال: "حدثنا به سفيان غير مرة يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب، لم يقل عبد الله بن عمرو بن العاص" وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة فقال: "عبد الله بن عمر" وكذا رواه عنه مسلم، وأخرجه الإسماعيلي

(8/44)


من وجه آخر عنه فزاد: "قال أبو بكر سمعت ابن عيينة مرة أخرى يحدث به عن ابن عمر" وقال المفضل العلائي عن يحيى بن معين "أبو العباس عن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر في الطائف الصحيح ابن عمر" . قوله: "لما حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فلم ينل منهم شيئا" في مرسل ابن الزبير عند ابن أبي شيبة قال: "لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم الطائف قال أصحابه: يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم، فقال: اللهم اهد ثقيفا" وذكر أهل المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استعصى عليه الحصن وكانوا قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة ورموا على المسلمين سكك الحديد المحماة ورموهم بالنبل فأصابوا قوما، فاستشار نوفل بن معاوية الديلي فقال: هم ثعلب قي حجر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، فرحل عنهم "وذكر أنس في حديثه عند مسلم أن مدة حصارهم كانت أربعين يوما، وعند أهل السير اختلاف قيل عشرين يوما وقيل بضعة عشر وقيل ثمانية عشر وقيل خمسة عشر. قوله:. "إنا قافلون" أي راجعون إلى المدينة. قوله: "فثقل عليهم" بين سبب ذلك بقولهم: "نذهب ولا نفتحه" وحاصل الخبر أنهم لما أخبرهم بالرجوع بغير فتح لم يعجبهم، فلما رأى ذلك أمرهم بالقتال فلم يفتح لهم فأصيبوا بالجراح لأنهم رموا عليهم من أعلى السور فكانوا ينالون منهم بسهامهم ولا تصل السهام إلى من على السور، فلما رأوا ذلك تبين لهم تصويب الرجوع، فلما أعاد عليهم القول بالرجوع أعجبهم حينئذ، ولهذا قال: "فضحك" وقوله: "وقال سفيان مرة فتبسم" هو ترديد من الراوي. قوله: "قال الحميدي حدثنا سفيان الخبر كله" بالنصب أي أن الحميدي رواه بغير عنعنة بل ذكر الخبر في جميع الإسناد، ووقع في رواية الكشميهني بالخبر كله، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" وفي "الدلائل" من طريق بشر بن موسى عن الحميدي "حدثنا سفيان حدثنا عمرو سمعت أبا العباس الأعمى يقول سمعت عبد الله بن عمر يقول:"فذكره.
4326، 4327- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ قَالَ: "سَمِعْتُ سَعْدًا وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَبَا بَكْرَةَ وَكَانَ تَسَوَّرَ حِصْنَ الطَّائِفِ فِي أُنَاسٍ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالاَ سَمِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ" وَقَالَ هِشَامٌ وَأَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَوْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدًا وَأَبَا بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: عَاصِمٌ قُلْتُ لَقَدْ شَهِدَ عِنْدَكَ رَجُلاَنِ حَسْبُكَ بِهِمَا قَالَ أَجَلْ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَأَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَمَّا الآخَرُ فَنَزَلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَالِثَ ثَلاَثَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الطَّائِف" .
[الحديث 4326- طرفه في: 6766]
[الحديث 4327- طرفه في: 6767]
الحديث الثالث قوله: "عن عاصم" هو ابن سليمان، وأبو عثمان هو النهدي، وشرح المتن يأتي في الفرائض، والغرض منه ذكر أبي بكرة واسمه نفيع بن الحارث وكان مولى الحارث بن كلدة الثقفي، فتدلى من حصن الطائف ببكرة فكني أبا بكرة لذلك أخرج ذلك الطبراني بسند لا بأس به من حديث أبي بكرة، وكان ممن نزل من حصن الطائف من عبيدهم فأسلم فيما ذكر أهل المغازي منهم مع أبي بكرة: المنبعث وكان عبدا لعثمان بن عامر بن معتب،

(8/45)


وكذا مرزوق والأزرق زوج سمية والدة زياد بن عبيد الذي صار يقال له زياد ابن أبيه، والأزرق أبو عقبة وكان لكلدة الثقفي، ثم حالف بني أمية لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفعه لخالد بن سعيد بن العاص ليعلمه الإسلام، ووردان وكان لعبد الله بن ربيعة، ويحنس النبال وكان لابن مالك الثقفي وإبراهيم بن جابر وكان لخرشة الثقفي، وبشار وكان لعثمان بن عبد الله، ونافع مولي الحارث بن كلدة، ونافع مولي غيلان بن سلمة الثقفي، ويقال كان معهم زياد ابن سمية والصحيح أنه لم يخرج حينئذ لصغره، ولم أعرف أسماء الباقين. قوله: "تسور" أي صعد إلى أعلاه وهذا لا يخالف قوله: "تدلى" لأنه تسور من أسفله إلى أعلاه ثم تدلى منه. وقوله: "وقال هشام" هو ابن يوسف الصنعاني، ولم يقع لي موصولا إليه، وقد أخرجه عبد الرزاق عن معمر لكن عن أبي عثمان وحده عن أبي بكرة وحده بغير شك، وغرض المصنف منه ما فيه من بيان عدد من أبهم في الرواية الأولى فإن فيها "تسور من حصن الطائف في أناس" وفي هذا "فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف" وفيه رد على من زعم أن أبا بكرة لم ينزل من سور الطائف غيره وهو شيء قاله موسى بن عقبة في مغازيه وتبعه الحاكم، وجمع بعضهم بين القولين بأن أبا بكرة نزل وحده أولا ثم نزل الباقون بعده، وهو جمع حسن، وروى ابن أبي شيبة وأحمد من حديث ابن عباس قال: "أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف كل من خرج إليه من رقيق المشركين" وأخرجه ابن سعد مرسلا من وجه آخر. قال: "اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحور كما وأبشرا" فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما فأفضلا لها منه طائفة.
4328- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجِعْرَانَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَلاَ تُنْجِزُ لِي مَا وَعَدْتَنِي. فَقَالَ: لَهُ أَبْشِرْ فَقَالَ قَدْ أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ أَبْشِرْ فَأَقْبَلَ عَلَى أَبِي مُوسَى وَبِلاَلٍ كَهَيْئَةِ الْغَضْبَانِ فَقَالَ رَدَّ الْبُشْرَى فَاقْبَلاَ أَنْتُمَا قَالاَ قَبِلْنَا ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ ثُمَّ قَالَ اشْرَبَا مِنْهُ وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا وَأَبْشِرَا" فَأَخَذَا الْقَدَحَ فَفَعَلاَ فَنَادَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ أَنْ أَفْضِلاَ لأُمِّكُمَا فَأَفْضَلاَ لَهَا مِنْهُ طَائِفَة" .
قوله: "وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة" أما الجعرانة فهي لكسر الجيم والعين المهملة وتشديد الراء وقد تسكن العين، وهي بين الطائف ومكة وإلى مكة أقرب قاله عياض. وقال الفاكهي: بينها وبين مكة بريد. وقال الباجي: ثمانية عشر ميلا. وقد أنكر الداودي الشارح قوله إن الجعرانة بين مكة والمدينة وقال: إنما هي بين مكة والطائف وكذا حزم النووي بأن الجعرانة بين الطائف ومكة وهو مقتضى ما تقدم نقله عن الفاكهي وغيره. قوله: "أعرابي" لم أقف على اسمه. قوله: "ألا تنجز لي ما وعدتني" يحتمل أن الوعد كان خاصا به، ويحتمل أن يكون عاما، وكان طلبه أن يعجل له نصيبه من الغنيمة فإنه صلى الله عليه وسلم كان أمر أن تجمع غنائم حنين بالجعرانة وتوجه هو بالعساكر إلى الطائف، فلما رجع منها قسم الغنائم حينئذ بالجعرانة. فلهذا وقع في كثير ممن كان حديث عهد بالإسلام استبطاء الغنيمة واستنجاز قسمتها. قوله: "أبشر" بهمزة قطع أي بقرب القسمة، أو بالثواب الجزيل على الصبر. قوله: "فنادت أم سلمة"

(8/46)


هي زوج النبي وهي أم المؤمنين، ولهذا قالت: لأمكما. قوله: "فأفضلا لها منه طائفة" أي بقية. وفي الحديث مقبة لأبي عامر ولأبي موسى ولبلال ولأم سلمة رضي الله عنهم.
4329- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ يَعْلَى كَانَ يَقُولُ لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَ فَبَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ مَعَهُ فِيهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِالطِّيبِ فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى بِيَدِهِ أَنْ تَعَالَ فَجَاءَ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ أَيْنَ الَّذِي يَسْأَلُنِي عَنْ الْعُمْرَةِ آنِفًا فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ: أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّك " .
الحديث الخامس قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن إبراهيم المعروف بابن علية، ويعلى هو ابن أمية التميمي، وقد تقدم شرح حديثه مستوفى في أبواب العمرة.
4330- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: "لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَمَ فِي النَّاسِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَلًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ قَالَ مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ قَالَ لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا أَتَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْض" .
[الحديث 4330- طرفه في: 7245]
الحديث السادس قوله: "حدثنا وهيب" هو ابن خالد. قوله: "عن عمرو بن يحيى" في رواية أحمد عن عفان عن وهيب "حدثنا عمرو بن يحيى" وهو المازني الأنصاري المدني. وفي رواية إسماعيل بن جعفر عند مسلم عن عمرو بن يحيى بن عمارة. قوله: "لما أفاء الله على رسوله يوم حنين" أي أعطاه غنائم الذين قاتلهم يوم حنين، وأصل الفيء الرد والرجوع، ومنه سمي الظل بعد الزوال فيئا لأنه رجع من جانب إلى جانب، فكأن أموال الكفار سميت فيئا لأنها كانت في الأصل للمؤمنين إذ الإيمان هو الأصل والكفر طارئ عليه، فإذا غلب

(8/47)


الكفار على شيء من المال فهو بطريق التعدي فإذا غنمه المسلمون منهم فكأنه رجع إليهم ما كان لهم، وقد قدمنا قريبا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بحبس الغنائم بالجعرانة، فلما رجع من الطائف وصل إلى الجعرانة في خامس ذي القعدة، وكان السبب في تأخير القسمة ما تقدم في حديث المسور رجاء أن يسلموا، وكانوا ستة آلاف نفس من النساء والأطفال وكانت الإبل أربعة وعشرين ألفا والغنم أربعين ألف شاة. قوله: "قسم في الناس" حذف المفعول والمراد به الغنائم، ووقع في رواية الزهري عن أنس في الباب: "يعطي رجالا المائة من الإبل" . وقوله: "في المؤلفة قلوبهم" بدل بعض من كل، والمراد بالمؤلفة ناس من قريش أسلموا يوم الفتح إسلاما ضعيفا، وقيل كان فيهم من لم يسلم بعد كصفوان بن أمية. وقد اختلف في المراد بالمؤلفة قلوبهما الذين هم أحد المستحقين للزكاة فقيل: كفار يعطون ترغيبا في الإسلام، وقيل مسلمون لهم أتباع كفار ليتألفوهم، وقيل مسلمون أول ما دخلوا في الإسلام ليتمكن الإسلام من قلوبهم. وأما المراد بالمؤلفة هنا فهذا الأخير لقوله في رواية الزهري في الباب: "فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم" . ووقع في حديث أنس الآتي في "باب قسم الغنائم في قريش" والمراد بهم من فتحت مكة وهم فيها. وفي رواية له "فأعطى الطلقاء والمهاجرين" والمراد بالطلقاء جمع طليق: من حصل من النبي صلى الله عليه وسلم المن عليه يوم فتح مكة من قريش وأتباعهم، والمراد بالمهاجرين من أسلم قبل فتح مكة وهاجر إلى المدينة. وقد سرد أبو الفضل بن طاهر في "المبهمات" له أسماء المؤلفة وهم "س" أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، "س" وحكيم بن حزام، وأبو السنابل بن بعكك، وصفوان بن أمية، وعبد الرحمن بن يربوع وهؤلاء من قريش، وعيينة بن حصين الفزاري والأقرع بن حابس التميمي وعمرو بن الأيهم التميمي، "س" والعباس بن مرداس السلمي، "س" ومالك بن عوف النضري، والعلاء بن حارثة الثقفي وفي ذكر الأخيرين نظر: فقبل إنهما جاءا طائعين من الطائف إلى الجعرانة، وذكر الواقدي في المؤلفة "س" معاوية ويزيد ابني أبي سفيان، وأسيد بن حارثة، ومخرمة بن نوفل، "س" وسعيد بن يربوع، "س" وقيس بن عدي "س" وعمرو بن وهب، "س" وهشام بن عمرو. وذكر ابن إسحاق من ذكرت عليه علامة سين وزاد: النضر بن الحارث، والحارث بن هشام، وجبير بن مطعم. وممن ذكره فمهم أبو عمر سفيان بن عبد الأسد، والسائب بن أبي السائب، ومطيع بن الأسود وأبو جهم بن حذيفة. وذكر ابن الجوزي فيهم زيد الخيل، وعلقمة بن علاثة، وحكيم بن طلق بن سفيان بن أمية وخالد بن قيس السهمي، وعمير بن مرداس. وذكر غيرهم فيهم قيس بن مخرمة، وأحيحة بن أمية بن خلف، وابن أبي شريق، وحرملة بن هوذة، وخالد بن هوذة، وعكرمة بن عامر العبدري، وشيبة بن عمارة، وعمرو بن ورقة، ولبيد بن ربيعة، والمغيرة بن الحارث، وهشام بن الوليد المخزومي. فهؤلاء زيادة على أربعين نفسا. قوله: "ولم يعط الأنصار شيئا" طاهر في أن العطية المذكورة كانت من جميع الغنيمة. وقال القرطبي في "المفهم" : الإجراء على أصول الشريعة أن العطاء المذكور كان من الخمس، ومنه كان أكثر عطاياه، وقد قال في هذه الغزوة للأعرابي: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم" أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو، وعلى الأول فيكون ذلك مخصوصا بهذه الواقعة. وقد ذكر السبب في ذلك في رواية قتادة عن أنس في الباب حيث قال: " إن قريشا حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجيرهم وأتألفهم" . قلت: الأول هو المعتمد، وسيأتي ما يؤكده. والذي رجحه القرطبي جزم به الواقدي، ولكنه ليس بحجة إذا انفرد فكيف إذا خالف،

(8/48)


وقيل إنما كان تصرف في الغنيمة لأن الأنصار كانوا انهزموا فلم يرجعوا حتى وقعت الهزيمة على الكفار فرد الله أمر الغنيمة لنبيه. وهذا معنى القول السابق بأنه خاص بهذه الواقعة، واختار أبو عبيد أنه كان من الخمس. وقال ابن القيم: اقتضت حكمة الله أن فتح مكة كان سببا لدخول كثير من قبائل العرب في الإسلام وكانوا يقولون: دعوه وقومه، فإن غلبهم دخلنا في دينه، وإن غلبوه كفونا أمره. فلما فتح الله عليه استمر بعضهم على ضلاله فجمعوا له وتأهبوا لحربه، وكان من الحكمة في ذلك أن يظهر أن الله نصر رسوله لا بكثرة من دخل في دينه من القبائل ولا بانكفاف قومه عن قتاله، ثم لما قدر الله عليه من غلبته إياهم قدر وقوع هزيمة المسلمين مع كثرة عددهم وقوة عددهم ليتبين لهم أن النصر الحق إنما هو من عنده لا بقوتهم، ولو قدر أن لا يغلبوا الكفار ابتداء لرجع من رجع منهم شامخ الرأس متعاظما، فقدر هزيمتهم ثم أعقبهم النصر ليدخلوا مكة كما دخلها النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح متواضعا متخشعا، واقتضت حكمته أيضا أن غنائم الكفار لما حصلت ثم قسمت على من لم يتمكن الإيمان من قلبه لما بقي فيه من الطبع البشري في محبة المال فقسمه فيهم لتطمئن قلوبهم وتجتمع على محبته، لأنها جبلت على حب من أحسن إليها. ومنع أهل الجهاد من أكابر المهاجرين ورؤساء الأنصار مع ظهور استحقاقهم لجميعها لأنه لو قسم ذلك فيهم لكان مقصورا عليهم، بخلاف قسمته على المؤلفة لأن فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسهم، فلما كان ذلك العطاء سببا لدخولهم في الإسلام ولتقوية قلب من دخل فيه قبل تبعهم من دونهم في الدخول، فكان في ذلك عظيم المصلحة. ولذلك لم يقسم فيهم من أموال أهل مكة عند فتحها قليلا ولا كثيرا مع احتياج الجيوش إلى المال الذي يعينهم على ما هم فيه، فحرك الله قلوب المشركين لغزوهم، فرأى كثيرهم أن يخرجوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم فكانوا غنيمة للمسلمين، ولو لم يقذف الله في قلب رئيسهم أن سوقه معه هو الصواب لكان الرأي ما أشار إليه دريد فخالفه فكان ذلك سببا لتصييرهم غنيمة للمسلمين، ثم اقتضت تلك الحكمة أن تقسم تلك الغنائم في المؤلفة ويوكل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه. ثم كان من تمام التأليف رد من سبي منهم إليهم، فانشرحت صدورهم للإسلام فدخلوا طائعين راغبين، وجبر ذلك قلوب أهل مكة بما نالهم من النصر والغنيمة عما حصل لهم من الكسر والرعب فصرف عنهم شر من كان يجاورهم من أشد العرب من هوازن وثقيف بما وقع بهم من الكسرة وبما قيض لهم من الدخول في الإسلام، ولولا ذلك ما كان أهل مكة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدتها وكثرتها. وأما قصة الأنصار وقول من قال منهم فقد اعتذر رؤساؤهم بأن ذلك كان من بعض أتباعهم، ولما شرح لهم صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنع رجعوا مذعنين ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عود رسول الله إلى بلادهم، فسلوا عن الشاة والبعير، والسبايا من الأنثى والصغير، بما حازوه من الفوز العظيم، ومجاورة النبي الكريم لهم حيا وميتا. وهذا دأب الحكيم يعطي كل أحد ما يناسبه، انتهى ملخصا. قوله: "فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس" كذا للأكثر مرة واحدة. وفي رواية أبي ذر "فكأنهم وجد إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، أو كأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس" أورده على الشك هل قال: "وجد" بضمتين جمع واحد أو "وجدوا" على أنه فعل ماض. ووقع له عن الكشميهني وحده "وجدوا" في الموضعين فصار تكرارا بغير فائدة، وكذا رأيته في أصل النسفي. ووقع في رواية مسلم كذلك. قال عياض: وقع في نسخة قي الثاني "أن لم يصبهم" يعني بفتح الهمزة وبالنون قال: وعلى هذا تظهر فائدة التكرار، وجوز الكرماني أن يكون الأول من الغضب والثاني من الحزن

(8/49)


والمعنى أنهم غضبوا، والموجدة الغضب يقال وجد في نفسه إذا غضب، ويقال أيضا وجد إذا حزن، ووجد ضد فقد، ووجد إذا استفاد مالا، ويظهر الفرق بينهما بمصادرهما: ففي الغضب موحدة، وفي الحزن وجدا بالفتح، وفي ضد الفقد وجدانا، وفي المال وجدا بالضم، وقد يقع الاشتراك في بعض هذه المصادر، وموضع بسط ذلك غير هذا الموضع. وفي "مغازي سليمان التيمي" أن سبب حزنهم أنهم خافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الإقامة بمكة. والأصح ما في الصحيح حيث قال: "إذ لم يصبهم ما أصاب الناس" على أنه لا يمتنع الجمع وهذا أولى. ووقع في رواية الزهري عن أنس في الباب: "فقالوا: يغفر الله لرسوله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم" وفي رواية هشام بن زيد عن أنس آخر الباب: "إذا كانت شديدة فنحن ندعي، ويعطي الغنيمة غيرنا" وهذا ظاهر في أن العطاء كان من صلب الغنيمة بخلاف ما رجحه القرطبي. قوله: "فخطبهم" زاد مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن يحيى "فحمد الله وأثنى علبه" وسيأتي في الباب في رواية الزهري "فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، فلم يدع معهم غيرهم، فلما اجتمعوا قام فقال: ما حديث بلغني عنكم؟ فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا" وفي رواية هشام بن زيد "فجمعهم في قبة من أدم فقال: يا معشر الأنصار، ما حديث بلغني؟ فسكتوا" ويحمل على الله بعضهم سكت وبعضهم أجاب. وفي رواية أبي التياح عن أنس عند الإسماعيلي فجمعهم فقال: "ما الذي بلغتي عنكم؟ قالوا: هو الذي بلغك، وكانوا لا يكذبون" ولأحمد من طريق ثابت عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أما سفيان وعيينة والأقرع وسهيل بن عمرو في آخرين يوم حنين، فقالت الأنصار: سيوفنا تقطر من دمائهم وهم يذهبون بالمغنم" فذكر الحديث وفيه: "ثم قال: أقلتم كذا وكذا؟ قالوا: نعم" وإسناده على شرط مسلم، وكذا ذكر ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري أن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمقالتهم سعد بن عبادة ولفظه: "لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة، فدخل عليه سعد بن عبادة فذكر له ذلك، فقال له: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك. فخرج فجمعهم" الحديث، وأخرجه أحمد من هذا الوجه، وهذا يعكر على الرواية التي فيها "أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا" لأن سعد بن عبادة من رؤساء الأنصار بلا ريب، إلا أن يحمل على الأغلب الأكثر، وأن الذي خاطبه بذلك سعد بن عبادة ولم يرد إدخال نفسه في النفي، أو أنه لم يقل لفظا وإن كان رضي بالقول المذكور فقال ما أنا إلا من قومي، وهذا أوجه، والله أعلم. قوله: " ألم أجدكم ضلالا " بالضم والتشديد جمع ضال والمراد هنا ضلالة الشرك، وبالهداية الإيمان. وقد رتب صلى الله عليه وسلم ما من الله عليهم على يده من النعم ترتيبا بالغا فبدأ بنعمة الإيمان التي لا يوازيها شيء من أمر الدنيا، وثنى بنعمة الألفة وهي أعظم من نعمة المال لأن الأموال تبذل في تحصيلها وقد لا تحصل، وقد كانت الأنصار قبل الهجرة في غاية التنافر والتقاطع لما وقع بينهم من حرب بعاث وغيرها كما تقدم في أول الهجرة، فزال ذلك كله بالإسلام كما قال الله تعالى: {لوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} . قوله: "عالة" بالمهملة أي فقراء لا مال لهم، والعيلة الفقر. قوله: "كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن" بفتح الهمزة والميم والتشديد: أفعل تفضيل من المن، وفي حديث أبي سعيد "فقالوا ماذا نجيبك يا رسول الله ولله ولرسوله المن والفضل" . قوله: "قال لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا" في رواية إسماعيل

(8/50)


بن جعفر "لو شئتم أن تقولوا جئتنا كذا وكذا وكان من الأمر كذا وكذا" لأشياء زعم عمرو بن أبي يحيى المازني راوي الحديث أنه لا يحفظها. وفي هذا رد على من قال إن الراوي كنى عن ذلك عمدا على طريق التأدب، وقد جوز بعضهم أن يكون المراد جئتنا ونحن على ضلالة فهدينا بك وما أشبه ذلك، وفيه بعد، فقد فسر ذلك في حديث أبي سعيد ولفظه: "فقال: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فواسيناك" ونحوه في مغازي أبي الأسود عن عروة مرسلا وابن عائذ من حديث ابن عباس موصولا، وفي مغازي سليمان التيمي أنهم قالوا في جواب ذلك "رضينا عن الله ورسوله" وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه بغير إسناد، وأخرجه أحمد عن ابن أبي عدي عن حميد عن أنس بلفظ: "أفلا تقولون جئتنا خائفا فآمناك، وطريدا فآويناك، ومخذولا فنصرناك. فقالوا: بل المن علينا لله ولرسوله" وإسناده صحيح، وروى أحمد من وجه آخر عن أبي سعيد قال: "قال رجل من الأنصار لأصحابه: لقد كنت أحدثكم أن لو استقامت الأمور لقد آثر عليكم، قال فردوا عليه ردا عنيفا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم:"الحديث. وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعا منه وإنصافا، وإلا ففي الحقيقة الحجة البالغة والمنة الظاهرة في جميع ذلك له عليهم، فإنه لولا هجرته إليهم وسكناه عندهم لما كان بينهم وبين غيرهم فرق، وقد نبه على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا ترضون إلخ" فنبههم على ما غفلوا عنه من عظيم ما اختصوا به منه بالنسبة إلى ما حصل عليه غيرهم من عرض الدنيا الفانية. قوله: " بالشاة والبعير " اسم جنس فيهما، والشاة تقع على الذكر والأنثى وكذا البعير. وفي رواية الزهري " أن يذهب الناس بالأموال" وفي رواية أبي التياح بعدها وكذا قتادة "بالدنيا" قوله: "إلى رحالكم" بالحاء المهملة أي بيوتكم وهي رواية قتادة، زاد في رواية الزهري عن أنس "فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به" وزاد فيه أيضا: "قالوا يا رسول الله قد رضينا" وفي رواية قتادة "قالوا بلى" وذكر الواقدي أنه حينئذ دعاهم ليكتب لهم بالبحرين تكون لهم خاصة بعده دون الناس، وهي يومئذ أفضل ما فتح عليه من الأرض، فأبوا وقالوا: لا حاجة لنا بالدنيا. قوله: " لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار" قال الخطابي: أراد بهذا الكلام تألف الأنصار واستطابة نفوسهم والثناء عليهم في دينهم حتى رضي أن يكون واحدا منهم لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها، ونسبة الإنسان تقع على وجوه: منها الولادة، والبلادية، والاعتقادية، والصناعية. ولا شك أنه لم يرد الانتقال عن نسب آبائه لأنه ممتنع قطعا. وأما الاعتقادي فلا معنى للانتقال فيه، فلم يبق إلا القسمان الأخيران، وكانت المدينة دار الأنصار والهجرة إليها أمرا واجبا، أي لولا أن النسبة الهجرية لا يسعني تركها لانتسبت إلى داركم. قال: ويحتمل أنه لما كانوا أخواله لكون أم عبد المطلب منهم أراد أن ينتسب إليهم بهذه الولادة لولا مانع الهجرة. وقال ابن الجوزي: لم يرد صلى الله عليه وسلم تغير نسبه ولا محو هجرته، وإنما أراد أنه لولا ما سبق من كونه هاجر لانتسب إلى المدينة وإلى نصرة الدين، فالتقدير لولا أن النسبة إلى الهجرة نسبة دينية لا يسع تركها لانتسبت إلى داركم. وقال القرطبي: معناه لتسميت باسمكم وانتسبت إليكم كما كانوا ينتسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة وتربيتها سبقت فمنعت من ذلك، وهي أعلى وأشرف فلا تتبدل بغيرها. وقيل معناه لكنت من الأنصار في الأحكام والعداد. وقيل: التقدير لولا أن ثواب الهجرة أعظم لاخترت أن يكون ثوابي ثواب الأنصار، ولم يرد ظاهر النسب أصلا. وقيل لولا التزامي بشروط الهجرة ومنها ترك الإقامة بمكة فوق ثلاث لاخترت أن يكون من الأنصار فيباح لي ذلك. قوله: "وادي الأنصار"

(8/51)


هو المكان المنخفض، وقبل الذي فيه ماء، والمراد هنا بلدهم. وقوله: "شعب الأنصار" بكسر الشين المعجمة وهو اسم لما انفرج بين جبلين. وقيل الطريق في الجبل. وأراد صلى الله عليه وسلم بهذا وبما بعده التنبيه على جزيل ما حصل لهم من ثواب النصرة والقناعة بالله ورسوله عن الدنيا. ومن هذا وصفه فحقه أن يسلك طريقه ويتبع حاله. قال الخطابي: لما كانت العادة أن المرء يكون في نزوله وارتحاله مع قومه، وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشعاب، فإذا تفرقت في السفر الطرق سلك كل قوم منهم واديا وشعبا. فأراد أنه مع الأنصار. قال: ويحتمل أن يريد بالوادي المذهب كما يقال فلان في واد وأنا في واد. قوله: "الأنصار شعار والناس دثار" الشعار بكسر المعجمة بعدها مهملة خفيفة: الثوب الذي يلي الجلد من الجسد. والدثار بكسر المهملة ومثلثة خفيفة الذي فوقه. وهي استعارة لطيفة لفرط قربهم منه. وأراد أيضا أنهم بطانته وخاصته وأنهم ألصق به وأقرب إليه من غيرهم. زاد في حديث أبي سعيد " اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا" . قوله: "إنكم ستلقون بعدي أثرة" بضم الهمزة وسكون المثلثة وبفتحتين، ويجوز كسر أوله مع الإسكان، أي الانفراد بالشيء المشترك دون من يشركه فيه. وفي رواية الزهري "أثرة شديدة" والمعنى أنه يستأثر عليهم بما لهم فيه اشتراك في الاستحقاق. وقال أبو عبيد: معناه يفضل نفسه عليكم في الفيء. وقيل المراد بالأثرة الشدة. ويرده سياق الحديث وسببه. قوله: "فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" أي يوم القيامة. وفي رواية الزهري " حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض" أي اصبروا حتى تموتوا، فإنكم ستجدونني عند الحوض، فيحصل لكم الانتصاف ممن ظلمكم والثواب الجزيل على الصبر. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم إقامة الحجة على الخصم وإفحامه بالحق عند الحاجة إليه، وحسن أدب الأنصار في تركهم المماراة، والمبالغة في الحياء، وبيان أن الذي نقل عنهم إنما كان عن شبانهم لا عن شيوخهم وكهولهم. وفيه مناقب عظيمة لهم لما اشتمل من ثناء الرسول البالغ عليهم، وأن الكبير ينبه الصغير على ما يغفل عنه، ويوضح له وجه الشبهة ليرجع إلى الحق. وفيه المعاتبة واستعطاف المعاتب وإعتابه عن عتبه بإقامة حجة من عتب عليه، والاعتذار والاعتراف. وفيه علم من أعلام النبوة لقوله: "ستلقون بعدي أثرة" فكان كما قال. وقد قال الزهري في روايته عن أنس في آخر الحديث: "قال أنس: فلم يصبروا" . وفيه أن للإمام تفضيل بعض الناس على بعض في مصارف الفيء، وأن له أن يعطي الغني منه للمصلحة. وأن من طلب حقه من الدنيا لا عتب عليه في ذلك. ومشروعية الخطبة عند الأمر الذي يحدث سواء كان خاصا أم عاما. وفيه جواز تخصيص بعض المخاطبين في الخطبة. وفيه تسلية من فاته شيء من الدنيا مما حصل له من ثواب الآخرة، والحض على طلب الهداية والألفة والغني، وأن المنة لله ورسوله على الإطلاق، وتقديم جانب الآخرة على الدنيا، والصبر عما فات منها ليدخر ذلك لصاحبه في الآخرة، والآخرة خير وأبقى.
4331- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَالَ نَاسٌ مِنْ الأَنْصَارِ حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي رِجَالًا الْمِائَةَ مِنْ الإِبِلِ فَقَالُوا يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ قَالَ أَنَسٌ فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقَالَتِهِمْ فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ

(8/52)


مِنْ أَدَمٍ وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ فَقَالَ فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَتَجِدُونَ أُثْرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ" قَالَ أَنَسٌ فَلَمْ يَصْبِرُوا".
4332- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ فَغَضِبَتْ الأَنْصَارُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا بَلَى قَالَ لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَهُم" .
4333- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ الْتَقَى هَوَازِنُ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةُ آلاَفٍ وَالطُّلَقَاءُ فَأَدْبَرُوا قَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ قَالُوا لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ لَبَّيْكَ نَحْنُ بَيْنَ يَدَيْكَ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ" فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ فَأَعْطَى الطُّلَقَاءَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا فَقَالُوا فَدَعَاهُمْ فَأَدْخَلَهُمْ فِي قُبَّةٍ فَقَالَ أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتْ الأَنْصَارُ شِعْبًا لاَخْتَرْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ"
4334حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بُيُوتِكُمْ قَالُوا بَلَى قَالَ لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتْ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الأَنْصَار" .
4337- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَغَيْرُهُمْ بِنَعَمِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ

(8/53)


وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةُ آلاَفٍ وَمِنْ الطُّلَقَاءِ فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا الْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ قَالُوا لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ قَالُوا لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ فَنَزَلَ فَقَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ فَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ غَنَائِمَ كَثِيرَةً فَقَسَمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا فَقَالَتْ الأَنْصَارُ إِذَا كَانَتْ شَدِيدَةٌ فَنَحْنُ نُدْعَى وَيُعْطَى الْغَنِيمَةَ غَيْرُنَا فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ فَسَكَتُوا فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلاَ تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ قَالُوا بَلَى فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتْ الأَنْصَارُ شِعْبًا لاَخَذْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ" وَقَالَ هِشَامٌ قُلْتُ يَا أَبَا حَمْزَةَ وَأَنْتَ شَاهِدٌ ذَاكَ قَالَ وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْه" .
الحديث السابع حديث أنس، أورده من رواية الزهري وأبي التياح وهشام بن زيد وقتادة كلهم عن أنس. وفي رواية بعضهم ما ليس في رواية الآخر، وقد ذكرت ما في رواياتهم من فائدة في الذي قبله. وهشام في رواية الزهري هو ابن يوسف الصنعاني، وأبو التياح اسمه يزيد بن حميد، وإسناده كله بصريون. وكذا طريق قتادة. وهشام بن زيد هو ابن أنس بن مالك. وقد أورد حديثه من طريقين: فالأولى عن أزهر وهو ابن سعد السمان، والثانية عن معاذ بن معاذ وهو العنبري كلاهما عن ابن عون وهو عبد الله، وجميعهم بصريون. قوله في رواية أبي التياح "لما كان يوم فتح مكة قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم في قريش" كذا لأبي ذر عن شيخه، وله في رواية الكشميهني: "بين قريش" وهي رواية الأصيلي، ووقع عند القابسي "غنائم في قريش" ولبعضهم "غنائم من قريش" وهو خطأ لأنه يوهم أن مكة لما فتحت قسمت غنائم قريش، وليس كذلك، بل المراد بقوله: "يوم فتح مكة" زمان فتح مكة وهو يشمل السنة كلها، ولما كانت غزوة حنين ناشئة عن غزوة مكة أضيفت إليها كما تقدم عكسه، وقد قرر ذلك الإسماعيلي فقال: قوله يعني في رواية: "لما افتتحت مكة قسمت الغنائم" يريد غنائم هوازن، فإنه لم يكن عند فتح مكة غنيمة تقسم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم غزا حنينا بعد فتح مكة في تلك الأيام القريبة، وكان السبب في هوازن فتح مكة لأن الخلوص إلى محاربتهم كان بفتح مكة، وقد خطأ القابسي الرواية وقال: الصواب في قريش. وأخرج أبو نعيم هذا الحديث من طريق أبي مسلم الكجي عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه بلفظ: "لما كان يوم حنين قالت الأنصار: والله إن هذا لهو العجب، إن سيوفنا تقطر من دماء قريش" الحديث، فهذا لا إشكال فيه. قوله: "أنبأنا هشام بن زيد" في رواية معاذ "عن هشام" . قوله: في رواية قتادة "إن قريشا حديث عهد" كذا وقع بالإفراد في الصحيحين، والمعروف "حديثو عهد" ، وكتبها الدمياطي بخطه "حديثو عهد" وفيه نظر. وقد وقع عند الإسماعيلي: "أن قريشا كانوا قريب عهد". قوله: "أن أجبرهم" كذا للأكثر بفتح أوله وسكون الجيم بعدها موحدة ثم راء مهملة، وللسرخسي والمستملي بضم أوله وكسر الجيم بعدها تحتانية ساكنة ثم زاي من الجائزة. قوله في

(8/54)


رواية معاذ "عشرة آلاف من الطلقاء" في رواية الكشميهني: "عشرة آلاف والطلقاء" وهو أولى فإن الطلقاء لم يبلغوا هذا القدر ولا عشر عشره، وقيل إن الواو مقدرة عند من جوز تقدير حرف العطف. قوله: "وقال هشام: قلت يا أبا حمزة" هو موصول بالإسناد المذكور، وأبو حمزة هو أنس بن مالك. وقوله: "شاهد ذلك" في رواية الكشميهني: "شاهد ذاك. قال وأين أغيب عنه" هو استفهام إنكار يقرر أنه ما كان ينبغي له أن يظن أن أنسا يغيب عن ذلك. وقوله: "وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم تحوزونه إلى بيوتكم" كذا للجميع بالحاء المهملة والزاي من الحوز، ووقع عند الكرماني "تجيرونه" بالتحتانية بدل الواو وضبطه بالجيم والراء المهملة وفسره بقوله أي تنقذونه، وكل ذلك خطأ نقلا وتفسيرا. وقد أخرجه مسلم والإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: "فتذهبون بمحمد تحوزونه" كما في الرواية المعتمدة.
4335- حدثنا قبيصة بن سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال: "لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمة حنين قال رجل من الأنصار: ما أراد بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتغير وجهه، ثم قال: رحمة الله على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" .
4336- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا أَعْطَى الأَقْرَعَ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَعْطَى نَاسًا فَقَالَ رَجُلٌ مَا أُرِيدَ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ وَجْهُ اللَّهِ فَقُلْتُ لاَخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ"
الحديث الثامن حديث ابن مسعود ذكره من وجهين قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود. قوله: "آثر ناسا، أعطى الأقرع" أي ابن حابس بن عثمان بن محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي المجاشعي، قيل كان اسمه فراس والأقرع لقبه. قوله: "وأعطى عيينة" أي ابن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري. قوله: "وأعطى ناسا" تقدم ذكرهم في الكلام على المؤلفة قريبا، وفي هذه العطية يقول العباس بن مرداس السلمي كما أخرجه أحمد ومسلم والبيهقي في الدلائل من طريق عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن جده رافع بن خديج "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من سبي حنين مائة مائة من الإبل. فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة، وأعطى صفوان بن أمية مائة، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى مالك بن عوف مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، وأعطى علقمة بن علاثة مائة، وأعطى العباس بن مرداس دون المائة، فأنشأ يقول:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع

(8/55)


قال: "فأكمل له المائة" وساق ابن إسحاق وموسى بن عقبة هذه الأبيات أكثر من هذا. قوله في رواية منصور "فقال رجل" في رواية الأعمش "فقال رجل من الأنصار" وفي رواية الواقدي أنه معتب بن قشير من بني عمرو بن عوف، وكان من المنافقين، وفيه تعقب على مغلطاي حيث قال: لم أر أحدا قال إنه من الأنصار إلا ما وقع هنا وجزم بأنه حرقوص بن زهير السعدي، وتبعه ابن الملقن وأخطأ في ذلك، فإن قصة حرقوص غير هذه كما سيأتي قريبا من حديث أبي سعيد الخدري. قوله: "ما أراد بها" في رواية منصور "ما أريد بها" على البناء للمجهول. قوله: "فقلت لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية الأعمش "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته" . قوله: "فتغير وجهه" في رواية الواقدي "حتى ندمت على ما بلغته" . قوله: "رحمة الله على موسى" تقدمت الإشارة إلى شيء من شرحه في أحاديث الأنبياء، وفي الحديث جواز المفاضلة في القسمة، والإعراض عن الجاهل، والصفح عن الأذى، والتأسي بمن مضى من النظراء. "تنبيه" : وقع حديث ابن مسعود مقدما على طريق معاذ عن ابن عون عن هشام عن أنس في رواية أبي ذر، والصواب تأخيره لتتوالى طرق حديث أنس، وأظنه من تغيير الرواة عن الفربري، فإن طريق أنس الأخيرة سقطت من رواية النسفي، فلعل البخاري ألحقها فكتبت مؤخره عن مكانها.

(8/56)


57- باب السَّرِيَّةِ الَّتِي قِبَلَ نَجْدٍ
4338- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ فَكُنْتُ فِيهَا فَبَلَغَتْ سِهَامُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا وَنُفِّلْنَا بَعِيرًا بَعِيرًا فَرَجَعْنَا بِثَلاَثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا" .
قوله: "باب السرية التي قبل نجد" قبل بكسر القاف وفتح الموحدة أي في جهة نجد، هكذا ذكرها بعد غزوة الطائف. والذي ذكره أهل المغازي أنها كانت قبل التوجه لفتح مكة. فقال ابن سعد: كانت في شعبان سنة ثمان. وذكر غيره أنها كانت قبل مؤتة، ومؤتة كانت في جمادى كما تقدم من السنة. وقيل كانت في رمضان. قالوا: وكان أبو قتادة أميرها، وكانوا خمسة وعشرين، وغنموا من غطفان بأرض محارب مائتي بعير وألفي شاة. والسرية بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية هي التي تخرج بالليل، والسارية التي تخرج بالنهار، وقيل سميت بذلك لأنها تخفي ذهابها. وهذا يقتضي أنها أخذت من السر ولا يصح لاختلاف المادة، وهي قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهي من مائة إلى خمسمائة فما زاد على خمسمائة يقال له منسر بالنون والمهملة، فإن زاد على الثمانمائة سمي جيشا، وما بينهما يسمى هبطة، فإن زاد على أربعة آلاف يسمى جحفلا، فإن زاد فجيش جرار، والخميس الجيش العظيم، وما افترق من السرية يسمى بعثا، فالعشرة فما بعدها تسمى حفيرة، والأربعون عصبة، وإلى ثلاثمائة مقنب بقاف ونون ثم موحدة، فإن زاد سمي جمرة بالجيم، والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر. حديث ابن عمر المذكور في الباب قد تقدم شرحه في فرض الخمس، وفي ذكره عقيب حديث أبي قتادة أشار إلى اتحادهما.

(8/56)


باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى جذيمة
...
58- باب بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ
7339- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ح و حَدَّثَنِي نُعَيْمٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا

(8/56)


59- باب سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ وَعَلْقَمَةَ بْنِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ وَيُقَالُ إِنَّهَا سَرِيَّةُ الأَنْصَارِي
4340- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَغَضِبَ فَقَالَ أَلَيْسَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ فَاجْمَعُوا لِي حَطَباً فَجَمَعُوا فَقَالَ أَوْقِدُوا نَاراً فَأَوْقَدُوهَا فَقَالَ ادْخُلُوهَا فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا وَيَقُولُونَ فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النَّارِ فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتْ النَّارُ فَسَكَنَ غَضَبُهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوف" .
[الحديث 4340- طرفاه: 7145, 7257]
قوله: "باب سرية عبد الله بن حذافة السهمي وعلقمة بن مجزز المدلجي، ويقال إنها سرية الأنصار" قلت: كذا ترجم، وأشار بأصل الترجمة إلى ما رواه أحمد وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من طريق عمر بن الحكم عن أبي سعيد الخدري قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن مجزز على بعث أنا فيهم، حتى انتهينا إلى رأس غزاتنا أو كنا ببعض الطريق أذن لطائفة من الجيش وأمر عليهم عبد الله بن حذافة السهمي وكان من أصحاب بدر، وكانت فيه دعابة" الحديث. وذكر ابن سعد هذه القصة بنحو هذا السياق. وذكر أن سببها أنه بلغ النبي

(8/58)


صلى الله عليه وسلم أن ناسا من الحبشة تراآهم أهل جدة، فبعث إليهم علقمة بن مجزز في ربيع الآخر في سنة تسع في ثلاثمائة فانتهى إلى جزيرة في البحر، فلما خاض البحر إليهم هربوا، فلما رجع تعجل بعض القوم إلى أهلهم، فأمر عبد الله بن حذافة على من تعجل. وذكر ابن إسحاق أن سبب هذه القصة أن وقاص بن مجزز كان قتل يوم ذي قرد، فأراد علقمة بن مجزز أن يأخذ بثأره فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السرية. قلت: وهذا يخالف ما ذكره ابن سعد، إلا أن يجمع بأن يكون أمر بالأمرين، وأرخها ابن سعد في ربيع الآخر سنة تسع، فالله أعلم. وأما قوله: "ويقال إنها سرية الأنصاري" فأشار بذلك إلى احتمال تعدد القصة، وهو الذي يظهر لي لاختلاف سياقهما واسم أميرهما، والسبب في أمره بدخولهم النار، ويحتمل الجمع بينهما بضرب من التأويل، ويبعده وصف عبد الله بن حذافة السهمي القرشي المهاجري بكونه أنصاريا، فقد تقدم بيان نسب عبد الله بن حذافة في كتاب العلم، ويحتمل الحمل على المعنى الأعم أي أنه نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة، وإلى التعدد جنح ابن القيم. وأما ابن الجوزي فقال: قوله من الأنصار وهم من بعض الرواة وإنما هو سهمي قلت: ويؤيده حديث ابن عباس عند أحمد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية، نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، وسيأتي في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى. وقد رواه شعبة عن زبيد اليامي عن سعد بن عبيدة فقال: "رجلا" ولم يقل من الأنصار ولم يسمه، أخرجه المصنف في كتاب خبر الواحد. وأما علقمة بن مجزز فهو بضم أوله وجيم مفتوحة ومعجمتين الأولى مكسورة ثقيلة وحكي فتحها والأول أصوب. وقال عياض: وقع لأكثر الرواة بسكون المهملة وكسر الراء المهملة، وعن القابسي بجيم ومعجمتين وهو الصواب. قلت: وأغرب الكرماني فحكى أنه بالحاء المهملة وتشديد الراء فتحا وكسرا، وهو خطأ ظاهر، وهو ولد القائف الذي يأتي ذكره في النكاح في حديث عائشة في قوله في زيد بن حارثة وابنه أسامة "أن بعض هذه الأقدام لمن بعض" فعلقمة صحابي ابن صحابي. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد. قوله: "حدثني سعد بن عبيدة" بالتصغير. قوله: "عن أبي عبد الرحمن" هو السلمي. قوله: "فغضب" في رواية حفص من بن غياث عن الأعمش في الأحكام "فغضب عليهم" وفي رواية مسلم: "فأغضبوه في شيء" . قوله: "فقال أوقدوا نارا" في رواية حفص "فقال عزمت عليكم لما جمعتم حطبا وأوقدتم نارا ثم دخلتم فيها" وهذا يخالف حديث أبي سعيد، فإن فيه فأوقد القوم نارا ليصنعوا عليها صنيعا لهم أو يصطلون، فقال لهم: أليس عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى. قال: أعزم عليكم بحقي وطاعتي لما تواثبتم في هذه النار. قوله: "فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا" في رواية حفص "فلما هموا بالدخول فيها فقاموا ينظر بعضهم إلى بعض" وفي رواية ابن جرير من طريق أبي معاوية عن الأعمش "فقال لهم شاب منهم: لا تعجلوا بدخولها" وفي رواية زبيد عن سعد بن عبيدة في خبر الواحد "فأرادوا أن يدخلوها. وقال آخرون: إنما فررنا منها" . قوله: "فما زالوا حتى خمدت النار" في رواية حفص "فبينما هم كذلك إذ خمدت النار" وخمدت هو بفتح الميم أي طفئ لهبها، وحكى المطرزي كسر الميم من خمدت. قوله: "فسكن غضبه" هذا أيضا يخالف حديث أبي سعيد، فإن فيه أنه كانت به دعابة، وفيه أنهم تحجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها فقال: احبسوا أنفسكم فإنما كنت أضحك معكم. قوله: "فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية حفص "فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم" . قوله: "ما خرجوا منها إلى يوم القيامة" في رواية حفص

(8/59)


"ما خرجوا منها أبدا" وفي رواية زبيد " فلم يزالوا فيها إلى يوم القيامة " يعني أن الدخول فيها معصية، والعاصي يستحق النار. ويحتمل أن يكون المراد لو دخلوها مستحلين لما خرجوا منها أبدا. وعلى هذا ففي العبارة نوع من أنواع البديع وهو الاستخدام، لأن الضمير في قوله: "لو دخلوها" للنار التي أوقدوها، والضمير في قوله: " ما خرجوا منها أبدا" لنار الآخرة، لأنهم ارتكبوا ما نهوا عنه من قتل أنفسهم. ويحتمل وهو الظاهر أن الضمير للنار التي أوقدت لهم أي ظنوا أنهم إذا دخلوا بسبب طاعة أميرهم لا تضرهم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لو دخلوا فيها لاحترقوا فماتوا، فلم يخرجوا. قوله: "الطاعة في المعروف" في رواية حفص "إنما الطاعة في المعروف" وفي رواية زبيد "وقال للآخرين: لا طاعة في معصية" وفي رواية مسلم من هذا الوجه "وقال للآخرين - أي الذين امتنعوا - قولا حسنا" وفي حديث أبي سعيد " من أمركم منهم بمعصية فلا تطيعوه" . وفي الحديث من الفوائد أن الحكم في حال الغضب ينفذ منه ما لا يخالف الشرع، وأن الغضب يغطي على ذوي العقول. وفيه أن الإيمان بالله ينجي من النار لقولهم: "إنما فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار" والفرار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرار إلى الله والفرار إلى الله يطلق على الإيمان، قال الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} . وفيه أن الأمر المطلق لا يعم الأحوال لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يطيعوا الأمير، فحملوا ذلك على عموم الأحوال حتى في حال الغضب وفي حال الأمر بالمعصية، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن الأمر بطاعته مقصور على ما كان منه في غير معصية، وسيأتي مزيد لهذه المسألة في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. واستنبط منه الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة أن الجمع من هذه الأمة لا يجتمعون على خطأ لانقسام السرية قسمين: منهم من هان عليه دخول النار فظنه طاعة، ومنهم من فهم حقيقة الأمر وأنه مقصور على ما ليس بمعصية، فكان اختلافهم سببا لرحمة الجميع. قال: وفيه أن من كان صادق النية لا يقع إلا في خير، ولو قصد الشر فإن الله يصرفه عنه، ولهذا قال بعض أهل المعرفة: من صدق مع الله وقاه الله، ومن توكل على الله كفاه الله.

(8/60)


60- باب بَعْثُ أَبِي مُوسَى وَمُعَاذٍ إِلَى الْيَمَنِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
4341، 4342- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا مُوسَى وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: "وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلاَفٍ قَالَ وَالْيَمَنُ مِخْلاَفَانِ ثُمَّ قَالَ: "يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا" فَانْطَلَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى عَمَلِهِ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَارَ فِي أَرْضِهِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَحْدَثَ بِهِ عَهْدًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَسَارَ مُعَاذٌ فِي أَرْضِهِ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَبِي مُوسَى فَجَاءَ يَسِيرُ عَلَى بَغْلَتِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ وَإِذَا هُوَ جَالِسٌ وَقَدْ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ قَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَيُّمَ هَذَا قَالَ هَذَا رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ قَالَ لاَ أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ قَالَ إِنَّمَا جِيءَ بِهِ لِذَلِكَ فَانْزِلْ قَالَ مَا أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا قَالَ فَكَيْفَ تَقْرَأُ أَنْتَ يَا مُعَاذُ قَالَ أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَأَقُومُ وَقَدْ قَضَيْتُ جُزْئِي مِنْ النَّوْمِ فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِي فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي" .
[الحديث4342- طرفه في:4345]

(8/60)


قوله: "باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع" كأنه أشار بالتقييد بما قبل حجة الوداع إلى ما وقع في بعض أحاديث الباب أنه رجع من اليمن فلقي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في حجة الوداع، لكن القبلية نسبية، وقد قدمت في الزكاة في الكلام على حديث معاذ متى كان بعثه إلى اليمن. وروى أحمد من طريق عاصم بن حميد عن معاذ "لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج يوصيه ومعاذ راكب" الحديث. ومن طريق يزيد بن قطيب عن معاذ "لما بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: قد بعثتك إلى قوم رقيقة قلوبهم، فقاتل بمن أطاعك من عصاك" وعند أهل المغازي أنها كانت في ربيع الآخر سنة تسع من الهجرة. قوله: "حدثنا عبد الملك" هو ابن عمير. قوله: "عن أبي بردة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى" هذا صورته مرسل، وقد عقبه المصنف بطريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى وهو ظاهر الاتصال، وإن كان فيما يتعلق بالسؤال عن الأشربة، لكن الغرض منه إثبات قصة بعث أبي موسى إلى اليمن وهو مقصود الباب، ثم قواه بطريق طارق بن شهاب قال: "حدثني أبو موسى قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض قومي" الحديث، وهو وإن كان إنما يتعلق بمسألة الإهلال لكنه يثبت أصل قصة البعث المقصودة هنا أيضا، ثم قوى قصة معاذ بحديث ابن عباس في وصية النبي صلى الله عليه وسلم له حين أرسله إلى اليمن، وبرواية عمرو بن ميمون عن معاذ والمراد بها أيضا إثبات أصل قصة بعث معاذ إلى اليمن وإن كان سياق الحديث في معنى آخر، وقد اشتمل الباب على عدة أحاديث: الحديث الأول أصل البعث إلى اليمن، وسيأتي في استتابة المرتدين من طريق حميد بن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى سبب بعثه إلى اليمن ولفظه: "قال أقبلت ومعي رجلان من الأشعريين وكلاهما سأل - يعني أن يستعمله - فقال: لن نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى إلى اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل" . قوله: "وبعث كل واحد منهما على مخلاف، قال واليمن مخلافان" المخلاف بكسر الميم وسكون المعجمة وآخره فاء هو بلغة أهل اليمن، وهو الكورة والإقليم والرستاق بضم الراء وسكون المهملة بعدها مثناة وآخرها قاف. وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن وكان من عمله الجند بفتح الجيم والنون، وله بها مسجد مشهور إلى اليوم، وكانت جهة أبي موسى السفلى. والله أعلم. قوله: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا" قال الطيبيي: هو معنى الثاني من باب المقابلة المعنوية، لأن الحقيقة أن يقال بشرا ولا تنذرا وآنسا ولا تنفرا. فجمع بينهما ليعم البشارة والنذارة والتأنيس والتنفير. قلت: ويظهر لي أن النكتة في الإتيان بلفظ البشارة وهو الأصل، وبلفظ التنفير وهو اللازم، وأتى بالذي بعده على العكس للإشارة إلى أن الإنذار لا ينفى مطلقا بخلاف التنفير، فاكتفى بما يلزم عنه الإنذار وهو التنفير، فكأنه قيل إن أنذرتم فليكن بغير تنفير، كقوله تعالى: { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} . قوله: "إذا سار في أرضه كان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا" كذا فيه، وللأكثر "إذا سار في أرضه وكان قريبا أحدث - أي جدد - به العهد لزيارته" ووقع في رواية سعيد بن أبي بردة الآتية في الباب: "فجعلا يتزاوران، فزار معاذ أبا موسى" زاد في رواية حميد بن هلال "فلما قدم عليه ألقى له وسادة قال انزل" . قوله: "وإذا رجل عنده" لم أقف على اسمه، لكن في رواية سعيد بن أبي بردة أنه يهودي، وسيأتي كذلك في رواية حميد بن هلال في استتابة المرتدين مع شرح هذه القصة وبيان الاختلاف في مدة استتابة المرتدين، وقوله: "أيم" بفتح الميم وترك إشباعها لغة، وأخطأ من ضمها وأصله "أي" الاستفهامية دخلت عليها "ما" وقد سمع "أيم هذا" بالتخفيف مثل "إيش هذا" فحذفت الألف من أيم والهمز من أيش. قوله: "ثم نزل فقال

(8/61)


يا عبد الله" هو اسم أبي موسى "كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوقه تفوقا" بالفاء ثم القاف أي ألازم قراءته ليلا ونهارا شيئا بعد شيء وحينا بعد حين: مأخوذ من فواق الناقة وهو أن تحلب ثم تترك ساعة حتى تدر ثم تحلب هكذا دائما. قوله: "وقد قضيت جزئي" قال الدمياطي: لعله أربي وهو الوجه، وهو كما قال لو جاءت به الرواية، ولكن الذي جاء في الرواية صحيح والمراد به أنه جزأ الليل أجزاء: جزءا للنوم، وجزءا للقراءة والقيام، فلا يلتفت إلى تخطئة الرواية الصحيحة الموجهة بمجرد التخيل. قوله: "فاحتسبت نومتي كما احتسبت قومتي" كذا لهم بصيغة الفعل الماضي، وللكشميهني: "فأحتسب" بغير المثناة في آخره بصيغة الفعل المضارع، ومعناه أنه يطلب الثواب في الراحة كما يطلبه في التعب، لأن الراحة إذا قصد بها الإعانة على العبادة حصلت الثواب. " تنبيه " : كان بعث أبي موسى إلى اليمن بعد الرجوع من غزوة تبوك، لأنه شهد غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بيان ذلك في الكلام عليها فيما بعد إن شاء الله تعالى، واستدل به على أن أبا موسى كان عالما فطنا حاذقا، ولولا ذلك لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، ولو كان فوض الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصاه به، ولذلك اعتمد عليه عمر ثم عثمان ثم علي، وأما الخوارج والروافض فطعنوا فيه ونسبوه إلى الغفلة وعدم الفطنة لما صدر منه في التحكيم بصفين، قال ابن العربي وغيره: والحق أنه لم يصدر منه ما يقتضي وصفه بذلك، وغاية ما وقع منه أن اجتهاده أداه إلى أن يجعل الأمر شورى بين من بقي من أكابر الصحابة من أهل بدر ونحوهم1 لما شاهد من الاختلاف الشديد بين الطائفتين بصفين، وآل الأمر إلى ما آل إليه.
4343- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِهَا فَقَالَ: وَمَا هِيَ قَالَ الْبِتْعُ وَالْمِزْرُ فَقُلْتُ لأَبِي بُرْدَةَ مَا الْبِتْعُ قَالَ نَبِيذُ الْعَسَلِ وَالْمِزْرُ نَبِيذُ الشَّعِيرِ فَقَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" رَوَاهُ جَرِيرٌ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَة" .
4344، 4345- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَدَّهُ أَبَا مُوسَى وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: "يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا فَقَالَ أَبُو مُوسَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ أَرْضَنَا بِهَا شَرَابٌ مِنْ الشَّعِيرِ الْمِزْرُ وَشَرَابٌ مِنْ الْعَسَلِ الْبِتْعُ فَقَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" فَانْطَلَقَا فَقَالَ مُعَاذٌ لأَبِي مُوسَى كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى رَاحِلَتِي وَأَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا قَالَ أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي وَضَرَبَ فُسْطَاطًا فَجَعَلاَ يَتَزَاوَرَانِ فَزَارَ مُعَاذٌ أَبَا مُوسَى فَإِذَا
ـــــــ
1 هذا ما اتفق عليه الحكمان، وهو خلاف ما دسته الشيعة في كتب التاريخ وشوهته، فاستقر في الأذهان خطأ، لتداول مؤلفي كتب التاريخ هذا الخطأ وإقرارهم له على غير ما وقع. انظر تحقيق ذلك في كتاب "العواصم من القواصم" للقاضي أبي بكر بن العربي وتعليقات محب الدين الخطيب عليه.

(8/62)


رَجُلٌ مُوثَقٌ فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو مُوسَى يَهُودِيٌّ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ فَقَالَ مُعَاذٌ لاَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ تَابَعَهُ الْعَقَدِيُّ وَوَهْبٌ عَنْ شُعْبَةَ وَقَالَ وَكِيعٌ وَالْنَّضْرُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَة" .
قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن منصور، وخالد هو ابن عبد الله الطحان، والشيباني اسمه سليمان بن فيروز. قوله: "البتع" بكسر الموحدة وسكون المثناة بعدها عين مهملة، وقد ذكر تفسيره عن أبي بردة راويه وأنه نبيذ العسل، ويأتي شرح المتن في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى. قوله: "رواه جرير وعبد الواحد عن الشيباني عن أبي بردة" يعني أنهما روياه عن الشيباني عن أبي بردة بدون ذكر سعيد بن أبي بردة، وهو كما قال. وأما رواية جرير وهو ابن عبد الحميد فوصلها الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة ومن طريق يوسف بن موسى كلاهما عن جرير عن الشيباني عن أبي بردة عن أبي موسى، وأما رواية عبد الواحد وهو ابن زياد فوصلها. 1 ثم ساق المصنف الحديث عن مسلم وهو ابن إبراهيم عن شعبة قال: "حدثنا سعيد بن أبي بردة عن أبيه" فذكره مرسلا مطولا فيه قصة بعثهما، وذكر الأشربة وقصة اليهودي وسؤال معاذ عن القراءة كما أشرنا إليه أولا. وقال بعده: "تابعه العقدي ووهب بن جرير عن شعبة. وقال وكيع والنضر وأبو داود عن شعبة عن سعيد" يعني أن مسلم بن إبراهيم والعقدي ووهب بن جرير أرسلوه عن شعبة، وأن وكيعا والنضر وهو ابن شميل وأبا داود وهو الطيالسي رووه عن شعبة موصولا، فأما رواية العقدي وهو أبو عامر عبد الملك بن عمرو فوصلها المؤلف في الأحكام، وأما رواية وهب بن جرير فوصلها إسحاق بن راهويه في مسنده عنه، وأما رواية وكيع فوصلها المؤلف في الجهاد مختصرا وأوردها ابن أبي عاصم في كتاب الأشربة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع مطولا، وهي في مسند أبي بكر بن أبي شيبة كذلك. وأما رواية النضر بن شميل فوصلها المؤلف في الأدب. وأما رواية أبي داود الطيالسي فوصلها كذلك في مسنده المروزي من طريق يونس بن حبيب عنه، ولكنه فرقه حديثين، ولذلك وصلها النسائي من طريق أبي داود.
4346- حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ هُوَ النَّرْسِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَائِذٍ حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ سَمِعْتُ طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَرْضِ قَوْمِي فَجِئْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنِيخٌ بِالأَبْطَحِ فَقَالَ: " أَحَجَجْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ كَيْفَ قُلْتَ قَالَ قُلْتُ لَبَّيْكَ إِهْلاَلًا كَإِهْلاَلِكَ قَالَ فَهَلْ سُقْتَ مَعَكَ هَدْيًا قُلْتُ لَمْ أَسُقْ قَالَ فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَاسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حِلَّ" فَفَعَلْتُ حَتَّى مَشَطَتْ لِي امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ بَنِي قَيْسٍ وَمَكُثْنَا بِذَلِكَ حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَر" .
قوله: "حدثنا عباس بن الوليد" بموحدة ثم مهملة "هو النرسي" بفتح النون وبالسين المهملة، قال أبو علي الجياني: رواه ابن السكن والأكثر هكذا. وفي رواية أبي أحمد يعني الجرجاني "حدثنا عباس" ولم
ـــــــ
1 هكذا بياض في النسخ

(8/63)


ينسبه. وفي رواية أبي زيد المروزي مثله إلا أنه قرأ عليهم بالتحتانية والشين المعجمة وليس بشيء. إنما هو بالموحدة والمهملة وهو النرسي وما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في علامات النبوة. وجزم بمثل ذلك صاحب المشارق والمطالع، وأما الدمياطي فضبطه بالعجمة وعين أنه الرقام، ونوزع في ذلك والصواب النرسي. قوله: "عبد الواحد" هو ابن زياد وأيوب بن عائذ بتحتانية بعدها ذال معجمة، وهو مدلجي بصري، وثقه يحيى بن معين وغيره، ورمي بالإرجاء، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع. وقد أورده في الحج من طريق شعبة وسفيان عن قيس بن مسلم شيخ أيوب بن عائذ فيه، وتقدم الكلام عليه هناك مستوفى.
4347- حَدَّثَنِي حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: "إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَاب" .
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ طَوَّعَتْ طَاعَتْ وَأَطَاعَتْ لُغَةٌ طِعْتُ وَطُعْتُ وَأَطَعْتُ
قوله: "حدثني حبان" بكسر أوله ثم موحدة ثم نون ابن موسى، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "حين بعثه إلى اليمن" تقدم بيان الوقت الذي بعثه فيه وما فيه من اختلاف في أواخر كتاب الزكاة مع بقية شرح الحديث مستوفى ولله الحمد. قوله: "قال أبو عبد الله: طوعت طاعت وأطاعت" ومع هذا وما بعده لغير أبي ذر والنسفي، وأراد بذلك تفسير قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} على عادته في تفسير اللفظة الغريبة من القرآن إذا وافقت لفظة من الحديث، والذي وقع في حديث معاذ "فإن هم أطاعوا" فإن عند بعض رواته كما ذكره ابن التين "فإن هم طاعوا" بغير ألف، وقد قرأ الحسن البصري وطائفة معه "فطاوعت له نفسه" قال ابن التين: إذا امتثل أمره فقد أطاعه، وإذا وافقه فقد طاوعه، قال الأزهري. الطوع نقيض الكره، وطاع له انقاد، فإذا مضى لأمره فقد أطاعه. وقال يعقوب بن السكيت: طاع وأطاع بمعنى. وقال الأزهري أيضا: منهم من يقول طاع له يطوع طوعا فهو طائع بمعنى أطاع. والحاصل أن طاع وأطاع استعمل كل منهما لازما ومتعديا إما بمعنى واحد مثل "بدأ الله الخلق" وأبدأه، أو دخلت الهمزة للتعدية وفي اللازم للصيرورة، أو ضمن المتعدي بالهمزة معنى فعل آخر لازم لأن كثيرا من أهل العلم باللغة فسروا أطاع بمعنى لأن وانقاد، وهو اللائق في حديث معاذ هنا، وإن كان الغالب في الرباعي التعدي وفي الثلاثي اللزوم، وهذا أولى من دعوى فعل وأفعل بمعنى واحد لكونه قليلا، وأولى من دعوى أن اللام في قوله: "فإن هم أطاعوا لك" زائدة، وقد تقدم شيء من هذا في شرح الحديث في الزكاة. وقوله بعد ذلك: "طعت طعت وأطعت" : الأول بالضم والثانية بالكسر والثالثة بالفتح بزيادة ألف في أوله.

(8/64)


4348- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ "أَنَّ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَدِمَ الْيَمَنَ صَلَّى بِهِمْ الصُّبْحَ فَقَرَأَ {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ زَادَ مُعَاذٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَرَأَ مُعَاذٌ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ سُورَةَ النِّسَاءِ فَلَمَّا قَالَ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً قَالَ رَجُلٌ خَلْفَهُ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيم" .
قوله: "عن عمرو بن ميمون" هو الأودي وهو من المخضرمين. قوله: "أن معاذا لما قدم اليمن" هو موصول لأن عمرو بن ميمون كان باليمن لما قدمها معاذ. قوله: "فقال رجل من القوم: قرت عين أم إبراهيم" أي حصل لها السرور، وكني عنه بقرت عينها أي بردت دمعتها لأن دمعة السرور باردة بخلاف دمعة الحزن فإنها حارة، ولهذا يقال فيمن يدعي عليه: أسخن الله عينه. وقد استشكل تقرير معاذ لهذا القائل في الصلاة وترك أمره بالإعادة، وأجيب عن ذلك إما بأن الجاهل بالحكم يعذر، وإما أن يكون أمره بالإعادة ولم ينقل، أو كان القائل خلفهم ولكن لم يدخل معهم في الصلاة. قوله: "زاد معاذ عن شعبة" فذكره المراد بالزيادة قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا" وليس بين الروايتين منافاة لأن معاذا إنما قدم اليمن لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فالقصة واحدة، ودل الحديث على أنه كان أميرا على الصلاة، وحديث ابن عباس يدل على أنه كان أميرا على المال أيضا، وقد تقدم في الزكاة ما يوضح ذلك.

(8/65)


61- باب بَعْثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَم وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَمَنِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
4349- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ ثُمَّ بَعَثَ عَلِيّاً بَعْدَ ذَلِكَ مَكَانَهُ فَقَالَ: " مُرْ أَصْحَابَ خَالِدٍ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ أَنْ يُعَقِّبَ مَعَكَ فَلْيُعَقِّبْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقْبِلْ" فَكُنْتُ فِيمَنْ عَقَّبَ مَعَهُ قَالَ فَغَنِمْتُ أَوَاقٍ ذَوَاتِ عَدَد"
قوله: "باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع" قد ذكر في آخر الباب حديث جابر "أن عليا قدم من اليمن فلاقى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في حجة الوداع" وقد تقدم الكلام عليه في كتاب الحج. وقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي من طريق أخرى عن علي قال: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني وأنا حديث السن لا أبصر القضاء، قال: فوضع يده على صدري وقال. اللهم ثبت لسانه واهد قلبه. وقال: يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر" فذكر الحديث. قوله: "شريح" هو بالشين المعجمة وآخره حاء مهملة. قوله: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد إلى اليمن" كان ذلك بعد رجوعهم من الطائف وقسمة الغنائم بالجعرانة. قوله: "أن يعقب معك"

(8/65)


أي يرجع إلى اليمن، والتعقيب أن يعود بعض العسكر بعد الرجوع ليصيبوا غزوة من الغد، كذا قال الخطابي. وقال ابن فارس: غزاة بعد غزاة. والذي يظهر أنه أعم من ذلك وأصله أن الخليفة يرسل العسكر إلى جهة مدة فإذا انمضت رجعوا وأرسل غيرهم، فمن شاء أن يرجع من العسكر الأول مع العسكر الثاني سمي رجوعه تعقيبا. قوله: "فغنمت أواقي" بتشديد التحتانية ويجوز تخفيفها. وقوله: "ذوات عدد" لم أقف على تحريرها.
" تنبيه " : أورد البخاري هذا الحديث مختصرا، وقد أورده الإسماعيلي من طريق أبي عبيدة بن أبي السفر "سمعت إبراهيم بن يوسف" وهو الذي أخرجه البخاري من طريقه فزاد فيه: "قال البراء: فكنت ممن عقب معه، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، فصلى بنا علي وصفنا صفا واحدا ثم تقدم بين أيدينا فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت همدان جميعا، فكتب علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ الكتاب خر ساجدا، ثم رفع رأسه وقال: السلام على همدان" وعند الترمذي من طريق الأحوص بن خوات عن أبي إسحاق في حديث البراء قصة الجارية، وسأذكر بيان ذلك في الحديث الذي بعده إن شاء الله تعالى.
4350- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مَنْجُوفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّاً إِلَى خَالِدٍ لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيّاً وَقَدْ اغْتَسَلَ فَقُلْتُ لِخَالِدٍ أَلاَ تَرَى إِلَى هَذَا فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: يَا بُرَيْدَةُ أَتُبْغِضُ عَلِيًّا فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ لاَ تُبْغِضْهُ فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِك" .
قوله: "حدثنا علي بن سويد بن منجوف" بفتح الميم وسكون النون وضم الجيم وسكون الواو، ووقع في رواية القابسي "عن علي بن سويد عن منجوف" وهو تصحيف، وعلي بن سويد بن منجوف سدوسي بصري ثقة ليس له في البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "عن عبد الله بن بريدة" في رواية الإسماعيلي: "حدثني عبد الله" . قوله: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا إلى خالد" أي ابن الوليد "ليقبض الخمس" أي خمس الغنيمة. وفي رواية الإسماعيلي التي سأذكرها "ليقسم الخمس" . قوله: "وكنت أبغض عليا وقد اغتسل فقلت لخالد ألا ترى" هكذا وقع عنده مختصرا، وقد أورده الإسماعيلي من طرق إلى روح بن عبادة الذي أخرجه البخاري من طريقه فقال في سياقه: "بعث عليا إلى خالد ليقسم الخمس" وفي رواية له "ليقسم الفيء، فاصطفى علي منه لنفسه سبيئة" بفتح المهملة وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة، ثم همزة أي جارية من السبي. وفي رواية له "فأخذ منه جارية ثم أصبح يقطر رأسه، فقال خالد لبريدة: ألا ترى ما صنع هذا؟ قال بريدة: وكنت أبغض عليا" ولأحمد من طريق عبد الجليل عن عبد الله بن بريدة عن أبيه "أبغضت عليا بغضا لم أبغضه أحدا، وأحببت رجلا من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليا، قال: فأصبنا سبيا فكتب - أي الرجل - إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ابعث إلينا من يخمسه، قال: فبعث إلينا عليا، وفي السبي وصيفة هي أفضل السبي، قال: فخمس وقسم، فخرج ورأسه يقطر - فقلت؟ يا أبا الحسن ما هذا؟ فقال: ألم تر إلى الوصيفة، فإنها صارت في الخمس، ثم صارت في آل محمد، ثم صارت في آل علي فوقعت بها" . قوله: "فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية - عبد الجليل "فكتب الرجل: إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالقصة، فقلت: ابعثني فبعثني فجعل يقرأ الكتاب ويقول صدق" . قوله: " فقال يا بريدة أتبغض عليا؟

(8/66)


فقلت: نعم قال: لا تبغضه" زاد في رواية عبد الجليل "وإن كنت تحبه فازدد له حبا" . قوله: "فإن له في الخمس أكثر من ذلك" في رواية عبد الجليل "فو الذي نفس محمد بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة" وزاد: "قال: فما كان أحد من الناس أحب إلي من علي" وأخرج أحمد هذا الحديث من طريق أجلح الكندي عن عبد الله بن بريدة بطوله وزاد في آخره: "لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي" وأخرجه أحد أيضا والنسائي من طريق سعيد بن عبيدة عن عبد الله بن بريدة مختصرا وفي آخره: "فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد احمر وجهه يقول: من كنت وليه فعلي وليه" وأخرجه الحاكم من هذا الوجه مطولا وفيه قصة الجارية نحو رواية عبد الجليل، وهذه طرق يقوي بعضها بعضا. قال أبو ذر الهروي: إنما أبغض الصحابي عليا لأنه رآه أخذ من المغنم، فظن أنه غل، فلما أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ أقل من حقه أحبه اهـ. وهو تأويل حسن، لكن يبعده صدر الحديث الذي أخرجه أحمد فلعل سبب البغض كان لمعنى آخر وزال بنهي النبي صلى الله عليه وسلم لهم عن بغضه. وقد استشكل وقوع علي على الجارية بغير استبراء، وكذلك قسمته لنفسه، فأما الأول فمحمول على أنها كانت بكرا غير بالغ ورأى أن مثلها لا يستبرأ كما صار إليه غيره من الصحابة، ويجوز أن تكون حاضت عقب صيرورتها له ثم طهرت بعد يوم وليلة ثم وقع عليها وليس ما يدفعه، وأما القسمة فجائزة في مثل ذلك ممن هو شريك فيما يقسمه كالإمام إذا قسم بين الرعية وهو منهم، فكذلك من نصبه الإمام قام مقامه. وقد أجاب الخطابي بالثاني، وأجاب عن الأول لاحتمال أن تكون عذراء أو دون البلوغ أو أداه اجتهاده أن لا استبراء فيها، ويؤخذ من الحديث جواز التسري على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف التزويج عليها لما وقع في حديث المسور في كتاب النكاح.
4351- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعْمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: "بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا قَالَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ وَأَقْرَعَ بْنِ حابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمَّرُ الإِزَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ قَالَ: وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ قَالَ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ قَالَ لاَ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي فَقَالَ خَالِدٌ وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ قَالَ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ وَأَظُنُّهُ قَالَ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لاَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ" .

(8/67)


الحديث الثالث حديث أبي سعيد قوله: "عن عمارة بن القعقاع" ابن شبرمة بضم المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة. قوله: "حدثنا عبد الرحمن" هو ابن زياد، ونعم يضم النون وسكون المهملة. قوله: "بذهيبة" تصغير ذهبة، وكأنه أنثها على معنى الطائفة أو الجملة. وقال الخطابي: على معنى القطعة. وفيه نظر لأنها كانت تبرا، وقد يؤنث الذهب في بعض اللغات، وفي معظم النسخ من مسلم: "بذهبة" بفتحتين بغير تصغير. قوله: "في أديم مقروظ" بظاء معجمة مشالة أي مدبوغ بالقرظ. قوله: "لم تحصل من ترابها" أي لم تخلص من تراب المعدن فكأنها كانت تبرا وتخليصها بالسبك. قوله: "بين عيينة بن بدر" كذا نسب لجده الأعلى. وهو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري. قوله: "وأقرع بن حابس" قال ابن مالك: فيه شاهد على أن ذا الألف واللام من الأعلام الغالبة قد ينزعان عنه في غير نداء ولا إضافة ولا ضرورة، وقد حكى سيبويه عن العرب: هذا يوم اثنين مبارك. وقال مسكين الدارمي ونابغة الجعدي1 في الجعدية، وقد تقدم ذكر عيينة والأقرع في غزوة حنين، وقد مضى في أحاديث الأنبياء ويأتي في التوحيد من طريق سعيد بن مسروق عن ابن أبي نعم بلفظ: "والأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي" . قوله: "وزيد الخيل" أي ابن مهلهل الطائي. وفي رواية سعيد بن مسروق "وبين زيد الخيل الطائي ثم أحد بني نبهان" وقيل له زيد الخيل لكرائم الخيل التي كانت له، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير بالراء بدل اللام وأثنى عليه فأسلم فحسن إسلامه ومات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "والرابع إما علقمة" أي ابن علاثة بضم المهملة والمثلثة العامري "وإما عامر بن الطفيل" وهو العامري، وجزم في رواية سعيد بن مسروق بأنه علقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب وهو من أكابر بني عامر، وكان يتنازع الرياسة هو وعامر بن الطفيل، وأسلم علقمة فحسن إسلامه، واستعمله عمر على حوران فمات بها في خلافته. وذكر عامر بن الطفيل غلط من عبد الواحد فإنه كان مات قبل ذلك. قوله: "فقال رجل من أصحابه" لم أقف على اسمه. وفي رواية سعيد بن مسروق "فغضبت قريش والأنصار وقالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا، فقال: إنما أتألفهم" والصناديد بالمهملة والنون جمع صنديد وهو الرئيس. قوله: "فقال ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء" في رواية سعيد بن مسروق أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك عقب قول الخارجي الذي يذكر بعد هذا، وهو المحفوظ.
" تنبيه " : هذه القصة غير القصة المتقدمة في غزوة حنين، ووهم من خلطها بها. واختلف في هذه الذهيبة فقبل: كانت خمس الخمس، وفيه نظر. وقيل من الخمس، وكان ذلك من خصائصه أنه يضعه في صنف من الأصناف للمصلحة. وقيل من أصل الغنيمة وهو بعيد. وسيأتي الكلام على قوله: "من في السماء" في كتاب التوحيد. قوله: "فقام رجل غائر العينين" بالغين المعجمة والتحتانية وزن فاعل من الغور، والمراد أن عينيه داخلتان في محاجرهما لاصقتين بقعر الحدقة، وهو ضد الجحوظ. قوله: "مشرف" بشين معجمة وفاء أي بارزهما، والوجنتان العظمان المشرفان على الخدين. قوله: "ناشز: بنون وشين معجمة وزاي أي مرتفعها، في رواية سعيد بن مسروق "ناتئ الجبين" بنون و مثناة على وزن فاعل من النتوء أي أنه يرتفع على ما حوله. قوله: "محلوق" سيأتي في أواخر التوحيد من وجه آخر أن الخوارج سيماهم التحليق، وكان السلف يوفرون شعورهم لا يحلقونها،
ـــــــ
1 في هامش طبعة بولاق: في بعض النسخ وتابعه الجعدي.

(8/68)


وكانت طريقة الخوارج حلق جميع رءوسهم. قوله: "أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله" وفي رواية سعيد بن مسروق "فقال ومن يطع الله إذا عصيته" وهذا الرجل هو ذو الخويصرة التميمي كما تقدم صريحا في علامات النبوة من وجه آخر عن أبي سعيد الخدري، وعند أبي داود اسمه نافع ورجحه السهيلي، وقيل اسمه حرقوص بن زهير السعدي، وسيأتي تحرير ذلك في كتاب استتابة المرتدين. قوله: "فقال خالد بن الوليد" في رواية أبي سلمة عن أبي سعيد في علامات النبوة "فقال عمر" ولا تنافيه هذه الرواية لاحتمال أن يكون كل منهما سأل في ذلك. قوله: " ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، لعله أن يكون يصلي" فيه استعمال لعل استعمال عسى، نبه عليه ابن مالك، وقوله: "يصلي" قيل فيه دلالة من طريق المفهوم على أن تارك الصلاة يقتل وفيه نظر. قوله: "أن أنقب" بنون وقاف ثقيلة بعدها موحدة أي إنما أمرت أن آخذ بظواهر أمورهم، قال القرطبي: إنما منع قتله وإن كان قد استوجب القتل لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ولا سيما من صلى، كما تقدم نظيره في قصة عبد الله بن أبي. وقال المازري: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم من الرجل الطعن في النبوة، وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة، وليس ذلك كبيرة، والأنبياء معصومون من الكبائر بالإجماع. واختلف في جواز وقوع الصغائر، أو لعله لم يعاقب هذا الرجل لأنه لم يثبت ذلك عنه، بل نقله عنه واحد، وخبر الواحد لا يراق به الدم. انتهى. وأبطله عياض بقوله في الحديث: "اعدل يا محمد" فخاطبه في الملأ بذلك حتى استأذنوه في قتله، فالصواب ما تقدم. قوله: " يخرج من ضئضئ" كذا للأكثر بضادين معجمتين مكسورتين بينهما تحتانية مهموزة ساكنة وفي آخره تحتانية مهموزة أيضا. وفي رواية الكشميهني بصادين مهملتين، فأما بالضاد المعجمة فالمراد به النسل والعقب، وزعم ابن الأثير أن الذي بالمهملة بمعناه، وحكى ابن الأثير أنه روي بالمد بوزن قنديل. وفي رواية سعيد بن مسروق في أحاديث الأنبياء أنه من ضئضئ هذا أو من عقب هذا. قوله: "يتلون كتاب الله رطبا" في رواية سعيد بن مسروق "يقرءون القرآن" . قوله: " لا يجاوز حناجرهم" تقدم شرحه في علامات النبوة. قوله: " يمرقون من الدين " في رواية سعيد بن مسروق "من الإسلام" وفيه رد على من أول الدين هنا بالطاعة. وقال: إن المراد أنهم يخرجون من طاعة الإمام كما يخرج السهم من الرمية، وهذه صفة الخوارج الذين كانوا لا يطيعون الخلفاء. والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام كما فسرته الرواية الأخرى، وخرج الكلام مخرج الزجر وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل. وزاد سعيد بن مسروق في روايته: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان" وهو مما أخبر به صلى الله عليه وسلم من المغيبات فوقع كما قال. قوله: "وأظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود" في رواية سعيد بن مسروق " لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" ولم يتردد فيه وهو الراجح، وقد استشكل قوله: " لئن أدركتهم لأقتلنهم" مع أنه نهى خالدا عن قتل أصلهم، وأجيب بأنه أراد إدراك خروجهم واعتراضهم المسلمين بالسيف، ولم يكن ظهر ذلك في زمانه، وأول ما ظهر في زمان علي كما هو مشهور، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في "علامات النبوة" ، واستدل به على تكفير الخوارج، وهي مسألة شهيرة في الأصول، وسيأتي الإلمام بشيء منها في استتابة المرتدين.
4352- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ: "أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ" زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ فَقَدِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(8/69)


بِسِعَايَتِهِ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِمَ أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ قَالَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ" قَالَ وَأَهْدَى لَهُ عَلِيٌّ هَدْيًا" .
4353، 4354- حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل عن حميد الطويل حدثنا بكر أنه "ذكر لابن عمر أن أنسا حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة وحجة، فقال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم بالحج وأهلنا به معه، فلما قدمنا مكة قال: من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم هدي، فقدم علينا علي بن أبي طالب من اليمن حاجا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بم أهللت، فإن معنا أهلك؟ قال: أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأمسك فإن معنا هديا"
الحيث الرابع حديث جابر في مجيء علي من اليمن إلى الحج حجة الوداع، وقد تقدم بالسندين المذكورين في كتاب الحج، وتقدم شرحه هناك. وقوله هنا: "وقدم علي بسعايته" بكسر السين المهملة يعني ولايته على اليمن لا بسعاية الصدقة، قال النووي تبعا لغيره: لأنه كان يحرم عليه ذلك كما ثبت في صحيح مسلم في قصة طلب الفضل بن العباس أن يكون عاملا على الصدقة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها أوساخ الناس" والله أعلم.

(8/70)


62- باب غَزْوَةُ ذِي الْخَلَصَةِ
4355- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ حَدَّثَنَا بَيَانٌ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: " كَانَ بَيْتٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ لَهُ ذُو الْخَلَصَةِ وَالْكَعْبَةُ الْيَمانِيَةُ وَالْكَعْبَةُ الشَّأْمِيَّةُ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلاَ تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ فَنَفَرْتُ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَاكِبًا فَكَسَرْنَاهُ وَقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَدَعَا لَنَا وَلِأَحْمَس" .
4356- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ قَالَ لِي جَرِيرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلاَ تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ وَكَانَ بَيْتًا فِي خَثْعَمَ يُسَمَّى الْكَعْبَةَ الْيَمانِيَةَ فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ وَكُنْتُ لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَكَسَرَهَا وَحَرَّقَهَا ثُمَّ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ قَالَ فَبَارَكَ فِي خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّات" .
4357- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلاَ تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ فَقُلْتُ بَلَى فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ

(8/70)


فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ وَكُنْتُ لاَ أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ يَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا" قَالَ فَمَا وَقَعْتُ عَنْ فَرَسٍ بَعْدُ قَالَ وَكَانَ ذُو الْخَلَصَةِ بَيْتًا بِالْيَمَنِ لِخَثْعَمَ وَبَجِيلَةَ فِيهِ نُصُبٌ تُعْبَدُ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ قَالَ فَأَتَاهَا فَحَرَّقَهَا بِالنَّارِ وَكَسَرَهَا قَالَ وَلَمَّا قَدِمَ جَرِيرٌ الْيَمَنَ كَانَ بِهَا رَجُلٌ يَسْتَقْسِمُ بِالأَزْلاَمِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَا هُنَا فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْكَ ضَرَبَ عُنُقَكَ قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَضْرِبُ بِهَا إِذْ وَقَفَ عَلَيْهِ جَرِيرٌ فَقَالَ لَتَكْسِرَنَّهَا وَلَتَشْهَدَنَّ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَوْ لاَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ قَالَ فَكَسَرَهَا وَشَهِدَ ثُمَّ بَعَثَ جَرِيرٌ رَجُلاً مِنْ أَحْمَسَ يُكْنَى أَبَا أَرْطَاةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ قَالَ فَبَرَّكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّات" .
قوله: "غزوة ذي الخلصة" بفتح الخاء المعجمة واللام بعدها مهملة، وحكى ابن دريد فتح أوله وإسكان ثانيه، وحكى ابن هشام ضمها، وقيل بفتح أوله وضم ثانيه والأول أشهر. والخلصة نبات له حب أحمر كخرز العقيق، وذو الخلصة اسم للبيت الذي كان فيه الصنم، وقيل اسم البيت الخلصة واسم الصنم ذو الخلصة، وحكى المبرد أن موضع ذي الخلصة صار مسجدا جامعا لبلدة يقال لها العبلات من أرض خثعم، ووهم من قال إنه كان في بلاد فارس. قوله: "حدثنا خالد" هو ابن عبد الله الطحان، وبيان بموحدة ثم تحتانية خفيفة وهو ابن بشر، وقيس هو ابن حازم. قوله: "كان بيت في الجاهلية يقال له ذو الخلصة" في الرواية التي بعدها أنه كان في خثعم بمعجمة ومثلثة وزن جعفر قبيلة شهيرة ينتسبون إلى خثعم بن أنمار بفتح أوله وسكون النون أي ابن إراش بكسر أوله وتخفيف الراء وفي آخره معجمة ابن عنز بفتح المهملة وسكون النون بعدها زاي أي ابن وائل ينتهي نسبهم إلى ربيعة بن نزار إخوة مضر بن نزار جد قريش، وقد وقع ذكر ذي الخلصة في حديث أبي هريرة عند الشيخين في كتاب الفتن مرفوعا: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة" وكان صنما تعبده دوس في الجاهلية. والذي يظهر لي أنه غير المراد في حديث الباب وإن كان السهيلي يشير إلى اتحادهما لأن دوسا قبيلة أبي هريرة وهم ينتسبون إلى دوس بن عدثان بضم المهملة وبعد الدال الساكنة مثلثة ابن عبد الله بن زهران، ينتهي نسبهم إلى الأزد، فبينهم وبين خثعم تباين في النسب والبلد. وذكر ابن دحية أن ذا الخلصة المراد في حديث أبي هريرة كان عمرو بن لحي قد نصبه أسفل مكة، وكانوا يلبسونه القلائد ويجعلون عليه بيض النعام ويذبحون عنده، وأما الذي لخثعم فكانوا قد بنوا بيتا يضاهون به الكعبة فظهر الافتراق وقوي التعدد. والله أعلم. قوله: "والكعبة اليمانية والكعبة الشامية" كذا فيه. قيل: وهو غلط والصواب اليمانية فقط، سموها بذلك مضاهاة للكعبة، والكعبة البيت الحرام بالنسبة لمن يكون جهة اليمن شامية فسموا التي بمكة شامية والتي عندهم يمانية تفريقا بينهما. والذي يظهر لي أن الذي في الرواية صواب وأنها كان يقال لها اليمانية باعتبار كونها باليمن والشامية باعتبار أنهم جعلوا بابها مقابل الشام، وقد حكى عياض أن في بعض الروايات "والكعبة اليمانية الكعبة الشامية" بغير واو. قال: وفيه إيهام، قال: والمعنى كان يقال

(8/71)


لها تارة هكذا وتارة هكذا، وهذا يقوي ما قلته فإن إرادة ذلك مع ثبوت الواو أولى. وقال غيره: قوله: "والكعبة الشامية" مبتدأ محذوف الخبر تقديره هي التي بمكة، وقيل الكعبة مبتدأ الشامية خبره والجملة حال والمعنى والكعبة هي الشامية لا غير، وحكي السهيلي عن بعض النحويين أن "له" زائدة وأن الصواب "كان يقال الكعبة الشامية" أي لهذا البيت الجديد "والكعبة اليمانية" أي للبيت العتيق أو بالعكس، قال السهيلي: وليست فيه زيادة، وإنما اللام بمعنى من أجل أي كان يقال من أجله الكعبة الشامية والكعبة اليمانية أي إحدى الصفتين للعتيق والأخرى للجديد. قوله: "ألا تريحني" هو بتخفيف اللام طلب يتضمن الأمر وخص جريرا بذلك لأنها كانت في بلاد قومه وكان هو من أشرافهم، والمراد بالراحة راحة القلب، وما كان شيء أتعب لقلب النبي صلى الله عليه وسلم من بقاء ما يشرك به من دون الله تعالى. وروى الحاكم في "الإكليل" من حديث البراء بن عازب قال: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مائة رجل من بني بجيلة وبني قشير جرير بن عبد الله، فسأله عن بني خثعم فأخبره أنهم أبوا أن يجيبوا إلى الإسلام، فاستعمله على عامة من كان معه، وندب معه ثلاثمائة من الأنصار وأمره أن يسير إلى خثعم فيدعوهم ثلاثة أيام، فإن أجابوا إلى الإسلام قبل منهم وهدم صنمهم ذا الخلصة، وإلا وضع فيهم السيف" . قوله: "فنفرت" أي خرجت مسرعا. قوله: "في مائة وخمسين راكبا" زاد في الرواية التي بعدها "وكانوا أصحاب خيل" أي يثبتون عليها لقوله بعده: "وكنت لا أثبت على الخيل" ووقع في رواية ضعيفة في الطبراني أنهم كانوا سبعمائة، فلعلها إن كانت محفوظة يكون الزائد رجالة وأتباعا. ثم وجدت في "كتاب الصحابة لابن السكن" أنهم كانوا أكثر من ذلك فذكر عن قيس بن غربة الأحمسي أنه وفد في خمسمائة، قال: وقدم جرير في قومه وقدم الحجاج بن ذي الأعين في مائتين، قال: وضم إلينا ثلاثمائة من الأنصار وغيرهم، فغزونا بني خثعم. فكأن المائة والخمسين هم قوم جرير وتكملة المائتين أتباعهم وكأن الرواية التي فيها سبعمائة من كان من رهط جرير وقيس بن غربة لأن الخمسين كانوا من قبيلة واحدة، وغربة بفتح المعجمة والراء المهملة بعدها موحدة ضبطه الأكثر. قوله: "فكسرناه" أي البيت وسيأتي البحث فيه بعد. قوله: "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته" كذا فيه، وفي الرواية الأخيرة أن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك رسول جرير، فكأنه نسب إلى جرير مجازا. قوله: "فدعا لنا ولأحمس" بمهملة وزن أحمر وهم إخوة بجيلة بفتح الموحدة وكسر الجيم رهط جرير ينتسبون إلى أحمس بن الغوث بن أنمار، وبجيلة امرأة نسبت إليها القبيلة المشهورة، ومدار نسبهم أيضا على أنمار. وفي العرب قبيلة أخرى يقال لها أحمس ليست مرادة هنا ينتسبون إلى أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار. ووقع في الرواية التي بعد هذه "فبارك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات" أي دعا لهم بالبركة. ووقع عند الإسماعيلي من رواية ابن شهاب عن إسماعيل بن أبي خالد "فدعا لأحمس بالبركة" . قوله: "وكنت لا أثبت على الخيل فضرب على صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري" في حديث البراء عند الحاكم "فشكا جرير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلع فقال: ادن مني، فدنا منه فوضع يده على رأسه ثم أرسلها على وجهه وصدره حتى بلغ عانته ثم وضع يده على رأسه وأرسلها على ظهره حتى انتهت إلى أليته وهو يقول مثل قوله الأول" فكان ذلك للتبرك بيده المباركة.
" فائدة " : القلع بالقاف ثم اللام المفتوحتين ضبطه أبو عبيد الهروي: الذي لا يثبت على السرج، وقيل بكسر أوله، قال الجوهري: رجل قلع القدم بالكسر إذا كانت قدمه لا تثبت عند الحرب وفلان قلعة إذا كان يتقلع عن سرجه. وسئل عن الحكمة في قوله: "خمس مرات" فقيل: مبالغة واقتصارا على

(8/72)


الوتر لأنه مطلوب، ثم ظهر لي احتمال أن يكون دعا للخيل والرجال أو لهما معا. ثم أراد التأكيد في تكرير الدعاء ثلاثا، فدعا للرجال مرتين أخريين، وللخيل مرتين أخريين ليكمل لكل من الصنفين ثلاثا، فكان مجموع ذلك خمس مرات. قوله: "اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا" قيل فيه تقديم وتأخير، لأنه لا يكون هاديا حتى يكون مهديا، وقيل معناه كاملا مكملا، ووقع في حديث البراء أنه قال ذلك في حال إمرار يده عليه في المرتين، وزاد: "وبارك فيه وفي ذريته" .
" تنبيه " : كلام المزي في "الأطراف" يقتضي أن قوله: " واجعله هاديا مهديا " من أفراد مسلم، وليس كذلك لأنه ثبت هنا من طريقين. قوله: "فكسرها وحرقها" أي هدم بناءها ورمى النار فيما فيها من الخشب. قوله: "ولما قدم جرير اليمن إلخ" يشعر باتحاد قصته في غزوة ذي الخلصة بقصة ذهابه إلى اليمن، وكأنه لما فرغ من أمر ذي الخلصة وأرسل رسوله مبشرا استمر ذاهبا إلى اليمن للسبب الذي سيذكر بعد باب، وقوله: "يستقسم" أي يستخرج غيب ما يريد فعله من خير أو شر، وقد حرم الله ذلك بقوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} وحكي أبو الفرج الأصبهاني أنهم كانوا يستقسمون عند ذي الخلصة، وأن امرأ القيس لما خرج يطلب بثأر أبيه استقسم عنده فخرج له ما يكره، فسب الصنم ورماه بالحجارة وأنشد:
لو كنت يا ذا الخلص الموتورا ... لم تنه عن قتل العداة زورا
قال: فلم يستقسم عنده أحد بعد حتى جاء الإسلام. قلت: وحديث الباب يدل على أنهم استمروا يستقسمون عنده حتى نهاهم الإسلام، وكأن الذي استقسم عنده بعد ذلك لم يبلغه التحريم أو لم يكن أسلم حتى زجره جرير. قوله: "ثم بعث جرير رجلا من أحمس يكنى أبا أرطاة" بفتح الهمزة وسكون الراء بعدها مهملة وبعد الألف هاء تأنيث واسم أبي أرطاة هذا حصين بن ربيعة، وقع مسمى في صحيح مسلم، ولبعض رواته "حسين" بسين مهملة بدل الصاد وهو تصحيف، ومنهم من سماه "حصن" بكسر أوله وسكون ثانيه وقلبه بعض الرواة فقال: "ربيعة بن حصين" ومنهم من سماه "أرطاة" والصواب أبو أرطاة حصين بن ربيعة وهو ابن عامر بن الأزور، وهو صحابي بجلي لم أر له ذكرا إلا في هذا الحديث. قوله: "كأنها جمل أجرب" بالجيم والموحدة. هو كناية عن نزع زينتها وإذهاب بهجتها. وقال الخطابي: المراد أنها صارت مثل الجمل المطلي بالقطران من جربه، إشارة إلى أنها صارت سوداء لما وقع فيها من التحريق. ووقع لبعض الرواة، وقيل إنها رواية مسدد "أجوف" بواو بدل الراء وفاء بدل الموحدة، والمعنى أنها صارت صورة بغير معنى، والأجوف الخالي الجوف مع كبره في الظاهر. ووقع لابن بطال معنى قوله أجرب أي أسود، ومعنى قوله أجوف أي أبيض وحكاه عن ثابت السرقسطي، وأنكره عياض وقال: هو تصحيف وإفساد للمعنى، كذا قال، فإن أراد إنكار تفسير أجوف بأبيض فمقبول لأنه يضاد معنى الأسود، وقد ثبت أنه حرقها والذي يحرق يصير أثره أسود لا محالة فيه فكيف يوصف بكونه أبيض، وإن أراد إنكار لفظ أجوف فلا إفساد فيه فإن المراد أنه صار خاليا لا شيء فيه كما قررته. وفي الحديث مشروعية إزالة ما يفتتن به الناس من بناء وغيره سواء كان إنسانا أو حيوانا أو جمادا، وفيه استمالة نفوس القوم بتأمير من هو منهم، والاستمالة بالدعاء والثناء والبشارة في الفتوح، وفضل ركوب الخيل في الحرب، وقبول خبر الواحد، والمبالغة في نكاية العدو، ومناقب لجرير ولقومه، وبركة يد النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه، وأنه كان يدعو وترا وقد يجاوز الثلاث. وفيه

(8/73)


تخصيص لعموم قول أنس: "كان إذا دعا دعا ثلاثا" فيحمل على الغالب، وكأن الزيادة لمعنى اقتضى ذلك، وهو ظاهر في أحمس لما اعتمدوه من دحض الكفر ونصر الإسلام ولا سيما مع القوم الذين هم منهم.

(8/74)


63- باب غَزْوَةُ ذَاتِ السُّلاَسِلِ، وَهِيَ غَزْوَةُ لَخْمٍ وَجُذَامَ
قَالَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عُرْوَةَ هِيَ بِلاَدُ بَلِيٍّ وَعُذْرَةَ وَبَنِي الْقَيْنِ
4358- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلاَسِلِ قَالَ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: " أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ عَائِشَةُ قُلْتُ مِنْ الرِّجَالِ قَالَ أَبُوهَا قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ عُمَرُ فَعَدَّ رِجَالاً فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِم" .
قوله: "باب غزوة ذات السلاسل" تقدم ضبطها وبيان الاختلاف فيها في أواخر مناقب أبي بكر، قيل سميت ذات السلاسل لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا، وقيل لأن بها ماء يقال له السلسل. وذكر ابن سعد أنها وراء وادي القرى وبينها وبين المدينة عشرة أيام، قال: وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة، وقيل كانت سنة سبع وبه جزم ابن أبي خالد في كتاب "صحيح التاريخ" ، ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة موتة، إلا ابن إسحاق فقال: قبلها. قلت: وهو قضية ما ذكر عن ابن سعد وابن أبي خالد. قوله: "وهي غزوة لخم وجذام، قاله إسماعيل بن أبي خالد" وعند ابن إسحاق أنه ماء لبني جذام ولخم، أما لخم فبفتح اللام وسكون المعجمة: قبيلة كبيرة شهيرة ينسبون إلى لخم، واسمه مالك بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد، وأما جذام فبضم الجيم بعدها معجمة خفيفة: قبيلة كبيرة شهيرة أيضا ينسبون إلى عمرو بن عدي وهم إخوة لخم على المشهور، وقيل هم من ولد أسد بن خزيمة. قوله: "وقال ابن إسحاق عن يزيد عن عروة هي بلاد بلي وعذرة وبني القين" أما يزيد فهو ابن رومان مدني مشهور، وأما عروة فهو ابن الزبير بن العوام، وأما القبائل التي ذكرها فالثلاثة بطون من قضاعة، أما بلي فبفتح الموحدة وكسر اللام الخفيفة بعدها ياء النسب: قبيلة كبيرة ينسبون إلى بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وأما عذرة فبضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة: قبيلة كبيرة ينسبون إلى عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن ليث بن سويد بن أسلم بضم اللام ابن الحاف بن قضاعة، وأما بنو القين فقبيلة كبيرة أيضا ينسبون إلى القين بن جسر، ويقال كان له عبد يسمى القين حضنه فنسب إليه، وكان اسمه النعمان بن جسر بن شيع الله بكسر المعجمة وسكون التحتانية بعدها عين مهملة ابن أسد بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، ووهم ابن التين فقال: بنو القين قبيلة من بني تميم، وذكر ابن سعد أن جمعا من قضاعة تجمعوا وأرادوا أن يدنوا من أطراف المدينة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص فعقد له لواء أبيض وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار، ثم أمده بأبي عبيدة بن الجراح في مائتين وأمره أن يلحق بعمرو وأن لا يختلفا فأراد أبو عبيدة أن يؤم بهم فمنعه عمرو وقال: إنما قدمت علي مددا وأنا الأمير، فأطاع له أبو عبيدة فصلى بهم عمرو، وتقدم في التيمم أنه "احتلم في ليلة باردة فلم يغتسل وتيمم وصلى بهم" الحديث. وسار عمرو

(8/74)


حتى وطئ بلاد بلي وعذرة. وكذا ذكر موسى بن عقبة نحو هذه القصة، وذكر ابن إسحاق أن أم عمرو بن العاص كانت من بلي فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عمرا يستنفر الناس إلى الإسلام ويستألفهم بذلك، وروى إسحاق بن راهويه والحاكم من حديث بريدة أن عمرو بن العاص أمرهم في تلك الغزوة أن لا يوقدوا نارا، فأنكر ذلك عمر، فقال له أبو بكر: دعه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعثه علبنا إلا لعلمه بالحرب، فسكت عنه. فهذا السيب أصح إسنادا من الذي ذكره ابن إسحاق، لكن لا يمنع الجمع. وروى ابن حبان من طريق قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في ذات السلاسل، فسأله أصحابه أن يوقدوا نارا فمنعهم، فكلموا أبا بكر فكلمه في ذلك فقال: لا يوقد أحد منهم نارا إلا قذفته فيها قال: فلقوا العدو فهزمهم، فأرادوا أن يتبعوهم فمنعهم، فلما انصرفوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد. فحمد أمره. فقال. يا رسول الله من أحب الناس إليك؟"الحديث. فاشتمل هذا السياق على فوائد زوائد، ويجمع بينه وبين حديث بريدة بأن أبا بكر سأله فلم يجبه فسلم له أمره، وألحوا على أبي بكر حتى يسأله فسأله فلم يجبه. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن شاهين، وخالد هو ابن عبد الله الطحان، وشيخه خالد هو ابن مهران الحذاء، وأبو عثمان هو النهدي. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل" هذا صورته مرسل، بل جزم الإسماعيلي بأنه مرسل، لكن الحديث موصول لقوله بعد ذلك "قال: فأتيته" فإن المراد قال: عمرو بن العاص. وأبو عثمان سمع من عمرو بن العاص، وقد أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى والإسماعيلي من رواية وهب بن بقية ومعلى بن منصور كلهم عن خالد بن عبد الله بالإسناد الذي أخرجه البخاري، فقال في روايته: "عن أبي عثمان عن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته" فذكر الحديث. وتقدم في مناقب أبي بكر من طريق أخرى عن خالد الحذاء "عن أبي عثمان قال: حدثنا عمرو بن العاص" فذكره. قوله: "فأتيته" في رواية معلى بن منصور المذكورة "قدمت من جيش ذات السلاسل، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم:"وعند البيهقي من طريق علي بن عاصم عن خالد الحذاء في هذه القصة "قال عمرو: فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على قوم فيهم أبو بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده، فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت: يا رسول الله من أحب الناس إليك " الحديث. قوله: "فعد رجالا" في رواية علي بن عاصم قال: قلت في نفسي لا أعود لمثلها أسأل عن هذا. وفي الحديث جواز تأمير المفضول على الفاضل إذا امتاز المفضول بصفة تتعلق بتلك الولاية، ومزية أبي بكر على الرجال وبنته عائشة على النساء، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في المناقب، ومنقبة لعمرو بن العاص لتأميره على جيش فيهم أبو بكر وعمرو إن كان ذلك لا يقتضي أفضليته عليهم لكن يقتضي أن له فضلا في الجملة. وقد روينا في "فوائد أبي بكر بن أبي الهيثم" من حديث رافع الطائي قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا واستعمل عليهم عمرو بن العاص وفيهم أبو بكر" قال: وهي الغزوة التي يفتخر بها أهل الشام. وروى أحمد والبخاري في الأدب وصححه أبو عوانة وابن حبان والحاكم من طريق علي بن رباح عن عمرو بن العاص قال: "بعث إلي النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني أن آخذ ثيابي وسلاحي فقال: يا عمرو، إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك، قلت: إني لم أسلم رغبة في المال. قال: نعم المال الصالح للمرء الصالح" وهذا فيه إشعار بأن بعثه عقب إسلامه، وكان إسلامه في أثناء سنة سبع من الهجرة. قوله في آخر الحديث: "فسكت" بتشديد المثناة المضمومة، هو مقول عمرو.

(8/75)


64- باب ذَهَابُ جَرِيرٍ إِلَى الْيَمَنِ
4359- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ الْعَبْسِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: "كُنْتُ بِالْيَمَنِ فَلَقِيتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ذَا كَلاَعٍ وَذَا عَمْرٍو فَجَعَلْتُ أُحَدِّثُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ ذُو عَمْرٍو لَئِنْ كَانَ الَّذِي تَذْكُرُ مِنْ أَمْرِ صَاحِبِكَ لَقَدْ مَرَّ عَلَى أَجَلِهِ مُنْذُ ثَلاَثٍ وَأَقْبَلاَ مَعِي حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ رُفِعَ لَنَا رَكْبٌ مِنْ قِبَلِ الْمَدِينَةِ فَسَأَلْنَاهُمْ فَقَالُوا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ وَالنَّاسُ صَالِحُونَ فَقَالاَ أَخْبِرْ صَاحِبَكَ أَنَّا قَدْ جِئْنَا وَلَعَلَّنَا سَنَعُودُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَرَجَعَا إِلَى الْيَمَنِ فَأَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرٍ بِحَدِيثِهِمْ قَالَ أَفَلاَ جِئْتَ بِهِمْ فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ قَالَ لِي ذُو عَمْرٍو يَا جَرِيرُ إِنَّ بِكَ عَلَيَّ كَرَامَةً وَإِنِّي مُخْبِرُكَ خَبَرًا إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا كُنْتُمْ إِذَا هَلَكَ أَمِيرٌ تَأَمَّرْتُمْ فِي آخَرَ فَإِذَا كَانَتْ بِالسَّيْفِ كَانُوا مُلُوكًا يَغْضَبُونَ غَضَبَ الْمُلُوكِ وَيَرْضَوْنَ رِضَا الْمُلُوك"
قوله: "باب ذهاب جرير" أي ابن عبد الله البجلي "إلى اليمن" ذكر الطبراني من طريق إبراهيم بن جرير عن أبيه قال: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أقاتلهم وأدعوهم أن يقولوا لا إله إلا الله" فالذي يظهر أن هذا البعث غير بعثه إلى هدم ذي الخلصة، ويحتمل أن يكون بعثه إلى الجهتين على الترتيب، ويؤيده ما وقع عند ابن حبان في حديث جرير "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا جرير إنه لم يبق من طواغيت الجاهلية إلا بيت ذي الخلصة" فإنه يشعر بتأخير هذه القصة جدا، وسيأتي في حجة الوداع أن جريرا شهدها فكأن إرساله كان بعدها، فهدمها ثم توجه إلى اليمن، ولهذا لما رجع بلغته وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "حدثني عبد الله بن أبي شيبة" هو أبو بكر واسم أبيه محمد بن أبي شيبة واسمه إبراهيم بن عثمان العبسي بالموحدة الحافظ، وابن إدريس هو عبد الله، وقيس هو ابن أبي حازم، والإسناد كله كوفيون. قوله: "كنت باليمن" في رواية أبي إسحاق عن جرير عند ابن عساكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى ذي عمرو وذي الكلاع يدعوهما إلى الإسلام فأسلما، قال: "وقال في ذو الكلاع ادخل على أم شرحبيل" يعني زوجته. وعند الواقدي في الردة بأسانيد متعددة نحو هذا. قوله: "فلقيت رجلين من أهل اليمن" في رواية الإسماعيلي: "كنت باليمن، فأقبلت ومعي ذو الكلاع وذو عمرو" وهذه الرواية أبين، وذلك أن جريرا قضى حاجته من اليمن وأقبل راجعا يريد المدينة فصحبه من ملوك اليمن ذو الكلاع وذو عمرو، فأما ذو الكلاع فهو بفتح الكاف وتخفيف اللام واسمه اسميفع بسكون المهملة وفتح الميم وسكون التحتانية وفتح الفاء وبعدها مهملة، ويقال أيفع بن باكوراء ويقال ابن حوشب بن عمرو. وأما ذو عمرو فكان أحد ملوك اليمن وهو من حمير أيضا، ولم أقف على اسم غيره، ولا رأيت من أخباره أكثر مما ذكر في حديث الباب، وكانا عزما على التوجه إلى المدينة فلما بلغهما وفاة النبي صلى الله عليه وسلم رجعا إلى اليمن ثم هاجرا في زمن عمر. قوله: "لئن كان الذي تذكر من أمر صاحبك" أي حقا، في رواية الإسماعيلي: "لئن كان كما تذكر" وقوله: "لقد مر على أجله" جواب لشرط مقدر، أي إن أخبرتني بهذا أخبرك بهذا، وهذا قاله ذو عمرو عن اطلاع من الكتب القديمة لأن اليمن كان أقام بها جماعة من اليهود فدخل كثير من

(8/76)


أهل اليمن في دينهم وتعلموا منهم، وذلك بين في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن إنك ستأتي قوما أهل كتاب. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون سمع من بعض القادمين من المدينة سرا، أو أنه كان في الجاهلية كاهنا، أو أنه صار بعد إسلامه محدثا أي يفتح الدال، وقد تقدم تفسيره وأنه الملهم. قلت: وسياق الحديث يدل على ما قررته لأنه علق ما ظهر له من وفاته على ما أخبره به جرير من أحواله، ولو كان ذلك مستفادا من غير ما ذكرته لما احتاج إلى بناء ذلك على ذلك، لأن الأولين خبر محض والثالث وقوع شيء في النفس عن غير قصد، وقد روى الطبراني من طريق زياد بن علاقة عن جرير في هذه القصة قال. "قال لي حبر باليمن" وهذا يؤيد ما قلته فلله الحمد. قوله: "فأخبرت أبا بكر بحديثهم قال: أفلا جئت بهم" كأنه جمع باعتبار من كان معهما من الأتباع. قوله: "فلما كان بعد إلخ" لعل ذلك كان لما هاجر ذو عمرو في خلاقة عمر، وذكر يعقوب بن شبة بإسناد له أن ذا الكلاع كان معه اثنا عشر ألف بيت من مواليه؛ فسأله عمر بيعهم ليستعين بهم على حرب المشركين فقال ذو الكلاع: هم أحرار فأعتقهم في ساعة واحدة. وروى سيف في الفتوح أن أبا بكر بعث أنس بن مالك يستنفر أهل اليمن إلى الجهاد فرحل ذو الكلاع ومن أطاعه. وذكر ابن الكلبي في النسب أن ذا الكلاع كان جميلا، فكان إذا دخل مكة يتعمم. وشهد صفين مع معاوية وقتل بها. قوله: "تأمرتم" بمد الهمزة وتخفيف الميم أي تشاورتم، أو بالقصر وتشديد الميم أي أقمتم أميرا منكم عن رضا منكم أو عهد من الأول. قوله: "فإذا كانت" أي الإمارة "بالسيف" أي بالقهر والغلبة "كانوا ملوكا" أي الخلفاء، وهذا دليل على ما قررته أن ذا عمرو كان له اطلاع على الأخبار من الكتب القديمة، وإشارته بهذا الكلام تطابق الحديث الذي أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره من حديث سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا" قال ابن التين: ما قاله ذو عمرو وذو الكلاع لا يكون إلا عن كتاب أو كهانة، وما قاله ذو عمرو لا يكون إلا عن كتاب. قلت: ولا أدري لم فرق بين المقالتين والاحتمال فيهما واحد، بل المقالة الأخيرة يحتمل أن تكون من جهة التجربة.

(8/77)


باب غزوة سيف البحر وهو يتلقون عيرا لقريش وأميرهم أبو عبيدة
...
65- باب غَزْوَةُ سِيفِ الْبَحْرِ، وَهُمْ يَتَلَقَّوْنَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ وَأَمِيرُهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ
4360- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَهُمْ ثَلاَثُ مِائَةٍ فَخَرَجْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ الْجَيْشِ فَجُمِعَ فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ فَكَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلٌ قَلِيلٌ حَتَّى فَنِيَ فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلاَّ تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ فَقُلْتُ مَا تُغْنِي عَنْكُمْ تَمْرَةٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ فَأَكَلَ مِنْهَا الْقَوْمُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلاَعِهِ فَنُصِبَا ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا" .
4361- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: "سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَ مِائَةِ رَاكِبٍ أَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ نَرْصُدُ عِيرَ قُرَيْشٍ

(8/77)


فَأَقَمْنَا بِالسَّاحِلِ نِصْفَ شَهْرٍ فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْخَبَطِ فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ وَادَّهَنَّا مِنْ وَدَكِهِ حَتَّى ثَابَتْ إِلَيْنَا أَجْسَامُنَا فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعاً مِنْ أَضْلاَعِهِ فَنَصَبَهُ فَعَمَدَ إِلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ مَعَهُ قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً ضِلَعاً مِنْ أَضْلاَعِهِ فَنَصَبَهُ وَأَخَذَ رَجُلاً وَبَعِيراً فَمَرَّ تَحْتَهُ قَالَ جَابِرٌ وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ نَحَرَ ثَلاَثَ جَزَائِرَ ثُمَّ نَحَرَ ثَلاَثَ جَزَائِرَ ثُمَّ نَحَرَ ثَلاَثَ جَزَائِرَ ثُمَّ إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ نَهَاهُ وَكَانَ عَمْرٌو يَقُولُ أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ لِأَبِيهِ كُنْتُ فِي الْجَيْشِ فَجَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْتُ قَالَ ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْتُ قَالَ ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْتُ ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نُهِيت"
4362- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "غَزَوْنَا جَيْشَ الْخَبَطِ وَأُمِّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ فَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ كُلُوا فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ أَطْعِمُونَا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ فَأَكَلَه"
قوله: "باب غزوة سيف البحر" هو بكسر المهملة وسكون التحتانية وآخره فاء، أي ساحل البحر. قوله: "وهم يتلقون عير لقريش" هو صريح ما في الرواية الثانية في الباب حيث قال فيها: "نرصد عير قريش" وقد ذكر ابن سعد وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى حي من جهينة بالقبلية بفتح القاف والموحدة مما يلي ساحل البحر، بينهم وبين المدينة خمس ليال، وأنهم انصرفوا ولم يلقوا كيدا، وأن ذلك كان في رجب سنة ثمان. وهذا لا يغاير ظاهره ما في الصحيح لأنه يمكن الجمع بين كونهم يتلقون عيرا لقريش ويقصدون حيا من جهينة، ويقوي هذا الجمع ما عند مسلم من طريق عبيد الله بن مقسم عن جابر قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا إلى أرض جهينة" فذكر هذه القصة، لكن تلقى عير قريش ما يتصور أن يكون في الوقت الذي ذكره ابن سعد في رجب سنة ثمان لأنهم كانوا حينئذ في الهدنة، بل مقتضى ما في الصحيح أن تكون هذه السرية في سنة ست أو قبلها قبل هدنة الحديبية، نعم يحتمل أن يكون تلقيهم للعير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ولهذا لم يقع في شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدا، بل فيه أنهم قاموا نصف شهر أو أكثر في مكان واحد، فالله أعلم. قوله: "عن وهب بن كيسان عن جابر" 1 . قوله: "قبل الساحل" بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهته، ووقع في رواية عبادة بن الوليد بن عبادة "سيف البحر" وسأذكر من أخرجها. قوله: "وأمر عليهم أبا عبيدة" في رواية أبي حمزة الخولاني عن جابر بن أبي عاصم في الأطعمة "تأمر علينا قيس بن سعد بن عبادة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والمحفوظ ما اتفقت عليه روايات الصحيحين
ـــــــ
1 بياض بالأصل

(8/78)


أنه أبو عبيدة وكأن أحد رواته ظن من صنيع قيس بن سعد في تلك الغزوة ما صنع من نحر الإبل التي اشتراها أنه كان أمير السرية، وليس كذلك. قوله: "فخرجنا فكنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع فكان مزود تمر" المزود بكسر الميم وسكون الزاي ما يجعل فيه الزاد. قوله: "فكان يقوتنا" بفتح أوله والتخفيف من الثلاثي، وبضمه والتشديد من التقويت. قوله: "كل يوم قليلا قليلا حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة" ظاهر هذا السياق أنهم كان لهم زاد بطريق العموم وأزواد بطريق الخصوص. فلما فني الذي بطريق العموم اقتضى رأي أبي عبيدة أن يجمع الذي بطريق الخصوص لقصد المساواة بينهم في ذلك ففعل، فكان جميعه مزودا واحدا، ووقع عند مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة، فتلقينا لقريش، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، وكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة" وظاهره مخالف لرواية الباب، ويمكن الجمع بأن الزاد العام كان قدر جراب، فلما نفد وجمع أبو عبيدة الزاد الخاص اتفق أنه أيضا كان قدر جراب ويكون كل من الراويين ذكر ما لم يذكره الآخر، وأما تفرقة ذلك تمرة تمرة فكان في ثاني الحال. وقد تقدم في الجهاد من طريق هشام بن عروة عن وهب بن كيسان في هذا الحديث: "خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا، ففني زادنا، حتى كان الرجل منا يأكل كل يوم تمرة" وأما قول عياض يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور فمردود لأن حديث الباب صريح في أن الذي اجتمع من أزوادهم كان مزود تمر، ورواية أبي الزبير صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم زودهم جرابا من تمر، فصح أن التمر كان معهم من غير الجراب. وأما قول غيره يحتمل أن يكون تفرقته عليهم تمرة تمرة كان من الجراب النبوي قصدا لبركته، وكان يفرق عليهم من الأزواد التي جمعت أكثر من ذلك، فبعيد من ظاهر السياق بل في رواية هشام بن عروة عند ابن عبد البر "فقلت أزوادنا حتى ما كان يصيب الرجل منا إلا تمرة" . قوله: "فقلت: ما تغني عنكم تمرة"؟ هو صريح في أن السائل عن ذلك وهب بن كيسان فيفسر به المبهم في رواية هشام بن عروة التي مضت في الجهاد فإن فيها "فقال رجل يا أبا عبد الله - وهي كنية جابر - أين كانت تقع التمرة من الرجل"؟ وعند مسلم من رواية أبي الزبير أنه أيضا سئل عن ذلك فقال: "لقد وجدنا فقدها حين فنيت" أي مؤثرا. وفي رواية أبي الزبير "فقلت كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي الثدي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل" . قوله: "ثم انتهينا إلى البحر" أي إلى ساحل البحر، وهو صريح الرواية الثانية. وفي رواية أبي الزبير "فانطلقنا على ساحل البحر" . قوله: "فإذا حوت مثل الظرب" أما الحوت فهو اسم جنس لجميع السمك، وقيل هو مخصوص بما عظم منها، والظرب بفتح المعجمة المشالة، ووقع في بعض النسخ بالمعجمة الساقطة حكاها ابن التين. والأول أصوب، وبكسر الراء بعدها موحدة: الجبل الصغير. وقال القزاز: هو بسكون الراء إذا كان منبسطا ليس بالعالي. وفي رواية أبي الزبير "فوقع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم: فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر" وفي الرواية الثانية "فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر" وفي رواية الخولاني "فهبطنا بساحل البحر فإذا نحن بأعظم حوت" قال أهل اللغة: العنبر سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلدها

(8/79)


الترسة، ويقال إن العنبر المشموم رجيع هذه الدابة. وقال ابن سيناء: بل المشموم يخرج من البحر، وإنما يؤخذ من أجواف السمك الذي يبتلعه. ونقل الماوردي عن الشافعي قال: سمعت من يقول رأيت العنبر نابتا في البحر ملتويا مثل عنق الشاة، وفي البحر دابة تأكله وهو سم لها فيقتلها فيقذفها، فيخرج العنبر من بطنها. وقال الأزهري: العنبر سمكة تكون بالبحر الأعظم يبلغ طولها خمسين ذراعا يقال لها بالة وليست بعربية: قال الفرزدق:
فبتنا كأن العنبر الورد بيننا
وبالة بحر فاؤها قد تخرما
أي قد تشفق. ووقع في رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار في أواخر الباب: "فألقى لنا البحر حوتا ميتا" واستدل به على جواز أكل ميتة السمك، وسيأتي البحث فيه في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى. قوله: "فأكل منه القوم ثمان عشرة ليلة" في رواية عمرو بن دينار "فأكلنا منه نصف شهر" وفي رواية أبي الزبير "فأقمنا عليها شهرا" ويجمع بين هذا الاختلاف بأن الذي قال: ثمان عشرة ضبط ما لم يضبطه غيره، وأن من قال نصف شهر ألغى الكسر الزائد وهو ثلاثة أيام، ومن قال شهرا جبر الكسر أو ضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم الحوت إليها، ورجح النووي رواية أبي الزبير لما فيها من الزيادة. وقال ابن التين: إحدى الروايتين وهم. انتهى. ووقع في رواية الحاكم "اثني عشر يوما" وهي شاذة، وأشد منها شذوذا رواية الخولاني "فأقمنا قبلها ثلاثا" ولعل الجمع الذي ذكرته أولى. والله أعلم. قوله: "ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا" كذا فيه، واستشكل لأن الضلع مؤنثة، ويجاب بأن تأنيثه غير حقيقي فيجوز فيه التذكير. قوله: "ثم أمر براحلة فرحلت ثم مرت تحتهما فلم تصبهما" وفي الرواية الثانية "فعمد إلى أطول رجل معه فمر تحته" وفي حديث عبادة بن الصامت عند ابن إسحاق "ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فخرج من تحتهما وما مست رأسه" وهذا الرجل لم أقف على اسمه، وأظنه قيس بن سعد بن عبادة فإن له ذكرا في هذه الغزوة كما ستراه بعد، وكان مشهورا بالطول، وقصته في ذلك مع معاوية لما أرسل إليه ملك الروم بالسراويل معروفة، فذكرها المعافي الحريري في الجليس وأبو الفرج الأصبهاني وغيرهما، ومحصلها أن أطول رجل من الروم نزع له قيس بن سعد سراويله فكان طول قامة الرومي، بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها بالأرض، وعوتب قيس في نزع سراويله في المجلس فأنشد:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادي نمته ثمود
وزاد مسلم في رواية أبي الزبير "فأخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه" والوقب تقدم ضبطه وهو حفرة العين في عظم الوجه، وأصله نقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء والجمع وقاب بكسر أوله، ووقع في آخر

(8/80)


صحيح مسلم من طريق عبادة بن الوليد "أن عبادة بن الصامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم - فذكر حديثا طويلا وفي آخره - وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فقال: "عسى الله أن يطعمكم" ، فأتينا سيف البحر فزخر البحر زخرة فألقى دابة فأورينا على شقها النار فاطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا. قال جابر: فدخلت وفلان وفلان حتى عد خمسة في حجاج عينها وما يرانا أحد، حتى خرجنا وأخذنا ضلعا من أضلاعها فقوسناه ثم دعونا بأعظم رجل في الركب وأعظم جمل في الركب وأعظم كفل في الركب فدخل تحته ما يطأطأ رأسه" . وظاهر سياقه أن ذلك وقع لهم في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يمكن حمل قوله فأتينا سيف البحر على أنه معطوف على شيء محذوف تقديره: فبعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأتينا إلخ، فيتحد مع القصة التي في حديث الباب. قوله: "فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط" بفتح المعجمة والموحدة بعدها مهملة هو ورق السلم، في رواية أبي الزبير "وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله" وهذا يدل على أنه كان يابسا، بخلاف ما جزم به الداودي أنه كان أخضر رطبا. ووقع في رواية الخولاني "وأصابتنا مخمصة" . قوله: "حتى ثابت" بمثلثة أي رجعت، وفيه إشارة إلى أنهم أصابهم هزال من الجوع السابق. قوله: "وادهنا من ودكه" بفتح الواو والمهملة أي شحمه. وفي رواية أبي الزبير "فلقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن ونقطع منه الفدر كالثور" . والوقب بفتح الواو وسكون القاف بعدها موحدة هي النقرة التي تكون فيها الحدقة، والفدر بكسر الفاء وفتح الدال جمع فدرة بفتح ثم سكون وهي القطعة من اللحم ومن غيره. وفي رواية الخولاني "فحملنا ما شئنا من قديد وودك في الأسقية والغرائر" . قوله: "فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه" كذا للأكثر، وللمستملي: "من أعضائه" والأول أصوب لأن في السياق "قال سفيان مرة ضلعا من أعضائه" فدل على أن الرواية الأولى "من أضلاعه" . قوله: "وكان رجل من القوم نحر ثلاث جزائر" أي عندما جاعوا، ووقع في رواية الخولاني "سبع جزائر" . قوله: "وكان عمرو" هو ابن دينار، وأبو صالح هو ذكوان السمان. قوله: "أن قيس بن سعد قال لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، قال: انحر" وهذا صورته مرسل لأن عمرو بن دينار لم يدرك زمان تحديث قيس لأبيه، لكنه في مسند الحميدي موصول أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريقه ولفظه: "عن أبي صالح عن قيس بن سعد بن عبادة قال: قلت لأبي وكنت في ذلك الجيش جيش الخبط فأصاب الناس جوع، قال لي: انحر. قلت: نحرت" فذكره وفي آخره: "قلت نهيت" وذكر الواقدي بإسناد له أن قيس بن سعد لما رأى ما بالناس قال: من يشتري مني تمرا بالمدينة بجزور هنا، فقال له رجل من جهينة: من أنت؟ فانتسب له، فقال: عرفت نسبك. فابتاع منه خمس جزائر بخمسة أوسق وأشهد له نفرا من الصحابة، فامتنع عمر لكون قيس لا مال له، فقال الأعرابي: ما كان سعد ليجني بابنه في أوسق تمر، فبلغ ذلك سعدا فغضب ووهب لقيس أربع حوائط أقلها يجذ خمسين وسقا. وزاد ابن خزيمة من طريق عمرو بن الحارث عن عمرو بن دينار وقال في حديثه "لما قدموا ذكروا شأن قيس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت" وفي حديث الواقدي أن أهل المدينة بلغهم الجهد الذي قد أصاب القوم، فقال سعد بن عبادة إن يك قيس كما أعرف فسينحر للقوم. قوله: "وأمر أبو عبيدة" كذا لهم يضم الهمزة وتشديد الميم على البناء للمجهول. وفي رواية ابن عيينة عند مسلم: "وأميرنا أبو عبيدة" . قوله: "وأخبرني أبو الزبير" القائل هو ابن حريج، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "أطعمونا إن كان معكم منه ، فآتاه بعضهم" بالمد أي فأعطاه "فأكله" ووقع في رواية ابن السكن "فأتاه بعضهم بعضو منه فأكله" قال عياض. وهو الوجه. قلت: في رواية أحمد من طريق ابن جريج التي أخرجها منه البخاري "وكان معنا منه شيء، فأرسل به إليه بعض القوم فأكل منه" ووقع في رواية أبي حمزة عن جابر عند ابن أبي عاصم في كتاب الأطعمة "فلما قدموا ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو نعلم أنا ندركه لم يروح لأحببنا لو كان عندنا منه" وهذا لا يخالف رواية أبي الزبير لأنه يحمل على أنه قال ذلك ازديادا منه بعد أن أحضروا له منه ما ذكر، أو قال ذلك قبل أن يحضروا له منه وكان الذي أحضروه معهم لم يروح فأكل منه، والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد أيضا مشروعية المواساة بين الجيش عند وقوع المجاعة، وأن الاجتماع على الطعام يستدعي البركة فيه، وقد اختلفوا في سبب نهي أبي عبيدة قيسا أن يستمر على إطعام

(8/81)


الجيش، فقيل: لخشية أن تفنى حمولتهم، وفيه نظر لأن القصة أنه اشترى من غير العسكر، وقيل: لأنه كان يستدين على ذمته، وليس له مال فأريد الرفق به، وهذا أظهر. والله أعلم.

(8/82)


66- باب حَجُّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ
4363- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ لاَ يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَان"
4364- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً بَرَاءَةٌ وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَة}
[الحديث4364- أطرافه في: 4605، 4654، 6744]
قوله: "حج أبي بكر بالناس في سنة تسع" كذا جزم به، ونقل المحب الطبري عن صحيح ابن حبان أن فيه عن أبي هريرة "لما قفل النبي صلى الله عليه وسلم من حنين اعتمر من الجعرانة وأمر أبا بكر في تلك الحجة" قال المحب: إنما حج أبو بكر سنة تسع والجعرانة كانت سنة ثمان، قال: وإنما حج فيها عتاب بن أسيد، كذا قال، وكأنه تبع الماوردي فإنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عتابا أن يحج بالناس عام الفتح، والذي جزم به الأزرقي في "أخبار مكة" خلافه فقال: لم يبلغنا أنه استعمل في تلك السنة على الحج أحدا، وإنما ولي عتابا إمرة مكة فحج المسلمون والمشركون جميعا وكان المسلمون مع عتاب لكونه الأمير. قلت: والحق أنه لم يختلف في ذلك، وإنما وقع الاختلاف في أي شهر حج أبو بكر، فذكر ابن سعد وغيره بإسناد صحيح عن مجاهد أن حجة أبي بكر وقعت في ذي القعدة، ووافقه عكرمة بن خالد فيما أخرجه الحاكم في "الإكليل" ، ومن عدا هذين إما مصرح بأن حجة أبي بكر كانت في ذي الحجة - كالداودي وبه جزم من المفسرين الرماني والثعلبي والماوردي وتبعهم جماعة - وإما ساكت. والمعتمد ما قاله مجاهد وبه جزم الأزرقي. ويؤيده أن ابن إسحاق صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعد أن رجع من تبوك رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج، فهو ظاهر في أن بعث أبي بكر كان بعد انسلاخ ذي القعدة، فيكون حجه في ذي الحجة على هذا والله أعلم. واستدل بهذا الحديث على أن فرض الحج كان قبل حجة الوداع، والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة، وذهب جماعة إلى أن حج أبي بكر هذا لم يسقط عنه الفرض بل كان تطوعا قبل فرض الحج ولا يخفى ضعفه. ولبسط تقرير ذلك موضع غير هذا. وقال ابن القيم في الهدي: ويستفاد أيضا من قول أبي هريرة في حديث الباب: "قبل حجة الوداع" أنها كانت سنة تسع لأن حجة الوداع كانت سنة عشر اتفاقا، وذكر ابن إسحاق أن خروج أبي بكر كان في ذي القعدة، وذكر الواقدي أنه خرج في تلك الحجة مع أبي بكر ثلاثمائة من الصحابة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بدنة. حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في رهط يؤذن في الناس أن لا يحج بعد العام مشرك" هكذا أورده مختصرا، وسيأتي في تفسير سورة براءة تام السياق، ويأتي تمام شرحه هناك. حديث البراء "آخر سورة نزلت كاملة براءة" الحديث.

(8/82)


وسيأتي شرحه في التفسير أيضا وبيان ما وقع فيه من الإشكال من قوله: "كاملة" والغرض منه الإشارة إلى أن نزول قوله تعالى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية كان في هذه القصة، أشار إلى ذلك الإسماعيلي ودقق في ذلك على خلاف عادته من الاعتراض على مثل ذلك. وقد ذكر ابن إسحاق بإسناد مرسل قال: "نزلت براءة وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا على الحج، فقيل لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا عليا فقال: اخرج بصدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر بمنى إذا اجتمعوا" فذكر الحديث. وروى أحمد من طريق محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال: "كنت مع علي بن أبي طالب، فكنت أنادي حتى صحل صوتي" الحديث. ومن طريق زيد بن يشيع قال: "سألت عليا بأي شيء بعثت في الحجة؟ قال: بأربع لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته" وأخرجه الترمذي من هذا الوجه وصححه.
" تنبيه " : وقع هنا ذكر حجة أبي بكر قبل الوفود، والواقع أن ابتداء الوفود كان بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة في "أواخر سنة ثمان وما وبعدها، بل ذكر ابن إسحاق أن الوفود كانوا بعد غزوة تبوك. نعم اتفقوا على أن ذلك كله كان في سنة تسع. قال ابن هشام:"حدثني أبو عبيدة قال: كانت سنة تسع تسمى سنة الوفود "وقد تقدم في غزوة الفتح في حديث عمرو بن سلمة" كانت العرب تلوم بإسلامها الفتح "الحديث. فلما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، ولعل ذلك من تصرف الرواة كما قدمته غير مرة، وسيأتي نظير هذا في تقديم حجة الوداع على غزوة تبوك، وقد سرد محمد بن سعد في الطبقات الوفود، وتبعه الدمياطي في السيرة التي جمعها، وتبعه ابن سيد الناس، ومغلطاي، وشيخنا في نظم السيرة ومجموع ما ذكروه يزيد على الستين.

(8/83)


67- باب وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ
4365- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي صَخْرَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " أَتَى نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا فَرُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ فَجَاءَ نَفَرٌ مِنْ الْيَمَنِ فَقَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ قَالُوا قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّه "
قوله: "وفد بني تميم" أي ابن مر بضم الميم وتشديد الراء ابن أد بضم الهمزة وتشديد الدال المهملة ابن طابخة بموحدة مكسورة ثم معجمة ابن إلياس بن مضر بن نزار، وذكر ابن إسحاق أن أشراف بني تميم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم منهم عطارد بن حاجب الدارمي والأقرع بن حابس الدارمي والزبرقان بن بدر السعدي وعمرو بن الأهتم المنقري والحباب بن يزيد المجاشعي ونعيم بن يزيد بن قيس بن الحارث وقيس بن عاصم المنقري، قال ابن إسحاق: ومعهم عيينة بن حصن، وكان الأقرع وعيينة شهدا الفتح ثم كانا مع بني تميم، فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته، فذكر القصة. وسيأتي بيان ذلك في تفسير سورة الحجرات إن شاء الله تعالى. حديث عمران بن حصين في قوله صلى الله عليه وسلم: " اقبلوا البشرى يا بني تميم" الحديث وقد تقدم شرحه في

(8/83)


أول بدء الخلق.

(8/84)


باب إرسال النبي صلى الله عليه وسلم عيينة ابن حصن إلى بني تميم
...
68- باب قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ غَزْوَةُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ بَنِي الْعَنْبَرِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَأَغَارَ وَأَصَابَ مِنْهُمْ نَاسًا وَسَبَى مِنْهُمْ ِسَباء"
4366- حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لاَ أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ بَعْدَ ثَلاَثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهَا فِيهِمْ: "هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ" وَكَانَتْ فِيهِمْ سَبِيَّةٌ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ: "أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمٍ أَوْ قَوْمِي" .
4367- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُمْ "أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمِّرْ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ عُمَرُ بَلْ أَمِّرْ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَرَدْتَ إِلاَّ خِلاَفِي قَالَ عُمَرُ مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا} حَتَّى انْقَضَت"
[الحديث4367- أطرافه في: 4845، 4847، 7302]
"باب قال ابن إسحاق: غزوة عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر "يعني الفزاري" بني العنبر من بني تميم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأغار وأصاب منهم ناسا وسبي منهم سباء" انتهى. وذكر الواقدي أن سبب بعث عيينة أن بني تميم أغاروا على ناس من خزاعة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عيينة بن حصن في خمسين ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري، فأسر منهم أحد عشر رجلا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا. فقدم رؤساؤهم بسبب ذلك. قال ابن سعد: كان ذلك في المحرم سنة تسع. قوله: "وكانت فيهم" في رواية الكشميهني: "منهم" . قوله: "سبية" بفتح المهملة وكسر الموحدة وتشديد التحتانية وتخفيفها ثم همزة، أي جارية مسبية فعيلة بمعنى مفعولة، وقد تقدم الكلام على اسمها وتسمية بعض من أسر معها وشرح هذه القصة من هذا الحديث في كتاب العتق. قوله: "وجاءت صدقاتهم فقال: هذه صدقات قوم، أو قومي" كذا وقع بالشك وقوم بالكسر بغير تنوين. وفي رواية أبي يعلى عن زهير بن حرب شيخ البخاري فيه: "صدقات قومي" بغير تردد. قوله في حديث عبد الله بن الزبير "قدم ركب من بني تميم فقال أبو بكر: أمر القعقاع" سيأتي شرح هذا الحديث مستوفى في أول تفسير سورة الحجرات إن شاء الله تعالى.

(8/84)


69- باب وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ
4368- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا قُرَّةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ "قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ

(8/84)


70- باب وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ وَحَدِيثِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ
4372- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ فَقَالَ عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ قَالَ مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ فَقَالَ عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ فَقَالَ أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ" فَانْطَلَقَ إِلَى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ إِلَيَّ وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ صَبَوْتَ قَالَ لاَ وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ وَاللَّهِ لاَ يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال" أما حنيفة فهو ابن لجيم بجيم ابن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وهي قبيلة كبيرة شهيرة ينزلون اليمامة بين مكة واليمن، وكان وفد بني حنيفة كما ذكره ابن إسحاق وغيره في سنه تسع، وذكر الواقدي كانوا سبعة عشر رجلا فيهم مسيلمة. وأما ثمامة بن أثال فأبوه بضم الهمزة خفيفة ابن النعمان بن مسلمة الحنفي، وهو من فضلاء الصحابة، وكانت قصته قبل وفد بني حنيفة بزمان، فإن قصته صريحة في أنها كانت قبل فتح مكة كما سنبينه، وكان البخاري ذكرها هنا استطرادا. ثم ذكر المصنف فيه أربعة أحاديث: الحديث الأول حديث أبي هريرة في قصة ثمامة، وقد صرح فيه بسماع سعيد المقبري له من أبي هريرة. وأخرجه ابن إسحاق عن سعيد فقال: "عن أبيه عن أبي هريرة" وهو من المزيد في متصل الأسانيد فإن الليث موصوف بأنه أتقن الناس لحديث سعيد المقبري، ويحتمل أن يكون سعيد سمعه من أبي هريرة، وكان أبوه قد حدثه به قبل، أو ثبته في شيء منه فحدث به على الوجهين. قوله: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد" أي بعث فرسان خيل إلى جهة نجد، وزعم سيف في "كتاب الزهد" له أن الذي أخذ ثمامة وأسره هو العباس بن عبد المطلب، وفيه نظر أيضا لأن العباس إنما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان فتح مكة، وقصة ثمامة تقتضي أنها كانت قبل ذلك بحيث اعتمر ثمامة ثم رجع إلى بلاده ثم منعهم أن يميروا أهل مكة، ثم شكا أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ثم بعث يشفع فيهم عند ثمامة. قوله: "ماذا عندك" أي أي شيء عندك؟ ويحتمل أن تكون "ما" استفهامية و "ذا" موصولة

(8/87)


"وعندك" صلته، أي ما الذي استقر في ظنك أن أفعله بك؟ فأجاب بأنه ظن خيرا فقال: عندي يا محمد خير، أي لأنك لست ممن يظلم، بل ممن يعفو ويحسن. قوله: "إن تقتلني تقتل ذا دم" كذا للأكثر بمهملة مخففة الميم، وللكشميهني: "ذم" بمعجمة مثقل الميم، قال النووي: معنى رواية الأكثر إن تقتل تقتل ذا دم أي صاحب دم لدمه موقع يشتفي قاتله بقتله ويدرك ثأره لرياسته وعظمته، ويحتمل أن يكون المعنى أنه عليه دم وهو مطلوب به فلا لوم عليك في قتله. وأما الرواية بالمعجمة فمعناها ذا ذمة، وثبت كذلك في رواية أبي داود، وضعفها عياض بأنه يقلب المعنى لأنه إذا كان ذا ذمة يمتنع قتله. قال النووي: يمكن تصحيحها بأن يحمل على الوجه الأول، والمراد بالذمة الحرمة في قومه، وأوجه الجميع الوجه الثاني لأنه مشاكل لقوله بعد ذلك: "وإن تنعم تنعم على شاكر" ، وجميع ذلك تفصيل لقوله عندي خير؛ وفعل الشرط إذا كرر في الجزاء دل على فخامة الأمر. قوله: "قال: عندي ما قلت لك" أي إن تنعم تنعم على شاكر؛ هكذا اقتصر في اليوم الثاني على أحد الشقين. وحذف الأمرين في اليوم الثالث، وفيه دليل على حذفه وذلك أنه قدم أول يوم أشق الأمرين عليه وأشفى الأمرين لصدر خصومه وهو القتل، فلما لم يقع اقتصر على ذكر الاستعطاف وطلب الأنعام في اليوم الثاني، فكأنه في اليوم الأول رأى أمارات الغضب فقدم ذكر القتل، فلما لم يقتله طمع في العفو فاقتصر عليه، فلما لم يعمل شيئا مما قال اقتصر في اليوم الثالث على الإجمال تفويضا إلى جميل خلقه صلى الله عليه وسلم. وقد وافق ثمامة في هذه المخاطبة قول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لأن المقام يليق بذلك قوله: "فقال: أطلقوا ثمامة" في رواية ابن إسحاق "قال قد عفوت عنك يا ثمامة وأعتقتك" وزاد ابن إسحاق في روايته أنه لما كان في الأسر جمعوا ما كان في أهل النبي صلى الله عليه وسلم من طعام ولبن فلم يقع ذلك من ثمامة موقعا، فلما أسلم جاءوه بالطعام فلم يصب منه إلا قليلا. فتعجبوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، وإن المؤمن يأكل في معي واحد" . قوله: "فبشره" أي بخيري الدنيا والآخرة، أو بشره بالجنة أو بمحو ذنوبه وتبعاته السابقة. قوله: "فلما قدم مكة" زاد ابن هشام قال: "بلغني أنه خرج معتمرا حتى إذا كان ببطن مكة لبي، فكان أول من دخل مكة يلبي. فأخذته قريش فقالوا: لقد اجترأت علينا، وأرادوا قتله، فقال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى الطعام من اليمامة فتركوه" . قوله: "قال: لا ولكن أسلمت مع محمد" كأنه قال: لا ما خرجت من الدين، لأن عبادة الأوثان ليست دينا، فإذا تركتها لا أكون خرجت من دين، بل استحدثت دين الإسلام. وقوله: "مع محمد" أي وافقته على دينه فصرنا متصاحبين في الإسلام أنا بالابتداء وهو بالاستدامة. ووقع في رواية ابن هشام "ولكن تبعت خير الدين دين محمد". قوله: "ولا والله" فيه حذف تقديره: والله لا أرجع إلى دينكم ولا أرفق بكم فأترك الميرة تأتيكم من اليمامة. قوله: "لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم" زاد ابن هشام "ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا، فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل إليهم" . وفي قصة ثمامة من الفوائد ربط الكافر في المسجد، والمن على الأسير الكافر وتعظيم أمر الغفور عن المسيء لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبا في ساعة واحدة لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل. وفيه الاغتسال عند الإسلام وأن الإحسان يزيل البغض ويثبت الحب، وأن الكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم شرع له أن يستمر في عمل ذلك الخير. وفيه الملاطفة بمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من

(8/88)


قومه، وفيه بعث السرايا إلى بلاد الكفار، وأسر من وجد منهم، والتخيير بعد ذلك في قتله أو الإبقاء عليه.
4373- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِطْعَةُ جَرِيدٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ وَإِنِّي لاَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيْتُ وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْه"
4374- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ أُرَى الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أَرَيْتُ فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنْ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ وَالآخَرُ مُسَيْلِمَة" .
4375- حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أتيت بخزائن الأرض، فوضع في كفي سواران من ذهب، فكبرا علي، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فذهبا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء؛ وصاحب اليمامة"
قوله: "عن عبد الله بن أبي حسين" هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث النوفلي، تابعي صغير مشهور نسب هنا لجده. قوله: "قدم مسيلمة الكذاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم" أي المدينة، ومسيلمة مصغر بكسر اللام ابن ثمامة بن كبير بموحدة ابن حبيب بن الحارث من بني حنيفة. قال ابن إسحاق: ادعى النبوة سنة عشر، وزعم وثيمة في "كتاب الردة" أن مسيلمة لقب واسمه ثمامة، وفيه نظر لأن كنيته أبو ثمامة، فإن كان محفوظا فيكون ممن توافقت كنيته واسمه، وسياق هذه القصة يخالف ما ذكره ابن إسحاق أنه قدم مع وفد قومه، وأنهم تركوه في رحالهم يحفظها لهم، وذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخذوا منه جائزته، وأنه قال: "لهم إنه ليس بشركم" وأن مسيلمة لما ادعى أنه أشرك في النبوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم احتج بهذه المقالة، وهذا مع شذوذه ضعيف السند لانقطاعه، وأمر مسيلمة كان عند قومه أكثر من ذلك، فقد كان يقال له رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم، وكيف يلتئم هذا الخبر الضعيف مع قوله في هذا الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع به وخاطبه وصرح له بحضرة قومه أن لو سأله القطعة الجريدة ما أعطاه، ويحتمل أن يكون مسيلمة قدم مرتين الأولى كان تابعا وكان رئيس بني حنيفة غيره ولهذا أقام في

(8/89)


حفظ رحالهم، ومرة متبوعا وفيها خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم، أو القصة واحدة وكانت إقامته في رحالهم باختياره أنفة منه واستكبارا أن يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وعامله النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الكرم على عادته في الاستئلاف، فقال لقومه. إنه ليس بشركم أي بمكان، لكونه كان يحفظ رحالهم، وأراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل، فلما لم يفد مسيلمة توجه بنفسه إليهم ليقيم عليهم الحجة ويعذر إليه بالإنذار والعلم عند الله تعالى. ويستفاد من هذه القصة أن الإمام يأتي بنفسه إلى من قدم يريد لقاءه من الكفار إذا تعين ذلك طريقا لمصلحة المسلمين. قوله: "إن جعل لي محمد الأمر من بعده" أي الخلافة؛ وسقط لفظ: "الأمر" هنا عند الأكثر وهو مقدر، وقد ثبتت في رواية ابن السكن وثبتت أيضا في الرواية المتقدمة في علامات النبوة. قوله: "وقدمها في بشر كثير" ذكر الواقدي كما تقدم أن عدد من كان مع مسيلمة من قومه سبعه عشر نفسا، فيحتمل تعدد القدوم كما تقدم. قوله: "ولن تعدو أمر الله" كذا للأكثر، ولبعضهم لن تعد بالجزم وهو لغة، أي الجزم بلن، والمراد بأمر الله حكمه. وقوله: "ولئن أدبرت" أي خالفت الحق، وقوله: "ليعقرنك" بالقاف أي يهلكك. قوله: "وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني" أي لأنه كان خطيب الأنصار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم فاكتفى بما قاله لمسيلمة وأعلمه أنه إن كان يريد الإسهاب في الخطاب فهذا الخطيب يقوم عني في ذلك، ويؤخذ منه استعانة الإمام بأهل البلاغة في جواب أهل العناد ونحو ذلك. قوله: "أريت" بضم أوله وكسر الراء من رؤيا المنام، وقد فسره ابن عباس عن أبي هريرة وهو الحديث الثالث، وسيأتي شرحه في تعبير الرؤيا إن شاء الله تعالى. قوله: "من ذهب" من لبيان الجنس لقوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} ووهم من قال الأساور لا تكون إلا من ذهب فإن كانت من فضة فهي القلب. قوله: " فأهمني شأنهما" في رواية همام التي بعدها "فكبرا علي" . قوله: "أحدهما العنسي" بالمهملة ثم نون ساكنة ثم سين مهملة وهو الأسود، وهو صاحب صنعاء كما في الرواية الثانية، وسأذكر شأنه في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى، ويؤخذ من هذه القصة منقبة للصديق رضي الله عنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تولى نفخ السوارين بنفسه حتى طارا، فأما الأسود فقتل في زمنه، وأما مسيلمة فكان القائم عليه حتى قتله أبو بكر الصديق فقام مقام النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويؤخذ منه أن السوار وسائر آلات أنواع الحلي اللائقة بالنساء تعير للرجال بما يسوؤهم ولا يسرهم، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى.
4376- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ مَهْدِيَّ بْنَ مَيْمُونٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ يَقُولُ "كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الآخَرَ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا مُنَصِّلُ الأَسِنَّةِ فَلاَ نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلاَ سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلاَّ نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَب"
4377- وَسَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ يَقُولُ: "كُنْتُ يَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلاَمًا أَرْعَى الإِبِلَ عَلَى أَهْلِي فَلَمَّا سَمِعْنَا بِخُرُوجِهِ فَرَرْنَا إِلَى النَّارِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّاب"
قوله: "حدثنا الصلت بن محمد" أي ابن عبد الرحمن الخاركي بالخاء المعجمة يكني أبا همام،

(8/90)


بصري ثقة، أكثر عنه البخاري، وهو بفتح المهملة وسكون اللام بعدها مثناة. قوله: "هو أخير منه" في رواية الكشميهني: "أحسن" بدل أخير، وأخير لغة في خير. والمراد بالخيرية الحسية من كونه أشد بياضا أو نعومة أو نحو ذلك من صفات الحجارة المستحسنة. قوله: "جثوة من تراب" بضم الجيم وسكون المثلثة هو القطعة من التراب تجمع فتصير كوما وجمعها الجثا. قوله: "ثم جئنا حدثنا بالشاة نحلبها عليه" أي لتصير نظير الحجر، وأبعد من قال: المراد بجلبهم الشاة على التراب مجاز ذلك وهو أنهم يتقربون إليه بالتصدق عليه بذلك اللبن. قوله: "منصل" بسكون النون وكسر الصاد، وللكشميهني بفتح النون وتشديد الصاد، وقد فسره بنزع الحديد من السلاح لأجل شهر رجب إشارة إلى تركهم القتال، لأنهم كانوا ينزعون الحديد من السلاح في الأشهر الحرم، ويقال: نصلت الرمح إذا جعلت له نصلا، وأنصلته إذا نزعت منه النصل. قوله: "وألقيناه شهر رجب" بالفتح أي في شهر رجب. ولبعضهم "لشهر رجب" أي لأجل شهر رجب. وأخرج عمر بن شبة في "أخبار البصرة" في ذكر وقعة الجمل هذا الخبر من طريق عبد الله بن عون عن أبي رجاء أنه ذكر الدماء فعظمها وقال: كان أهل الجاهلية إذا دخل الشهر الحرام نرع أحدهم سنانه من رمحه وجعلها في علوم النساء1 ويقولون. جاء منصل الأسنة، ثم والله لقد رأيت هودج عائشة يوم الجمل كأنه قنفذ، فقيل له: قاتلت يومئذ؟ قال: لقد رميت بأسهم. فقال له: كيف ذلك وأنت تقول ما تقول؟ فقال: ما كان إلا أن رأينا أم المؤمنين، فما تمالكنا. قوله: "وسمعت أبا رجاء يقول" هو حديث آخر متصل بالإسناد المذكور. قوله: "كنت يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم غلاما أرعى الإبل على أهلي، فلما سمعنا بخروجه فررنا إلى النار، إلى مسيلمة الكذاب" الذي يظهر أن مراده بقوله: "بعث" أي اشتهر أمره عندهم، ومراده بخروجه أي ظهوره على قومه من قريش بفتح مكة، وليس المراد مبدأ ظهوره بالنبوة ولا خروجه من مكة إلى المدينة لطول المدة بين ذلك وبين خروج مسيلمة. ودلت القصة على أن أبا رجاء كان من جملة من بايع مسيلمة من قومه بني عطارد بن عوف بن كعب بطن من بني تميم، وكان السبب في ذلك أن سجاحا بفتح المهملة وتخفيف الجيم وآخره حاء مهملة وهي امرأة من بني تميم ادعت النبوة أيضا فتابعها جماعة من قومها، ثم بلغها أمر مسيلمة فخادعها إلى أن تزوجها واجتمع قومها وقومه على طاعة مسيلمة.
ـــــــ
1 بهامش طبعة بولاق: كذا في نسخ الشرح التي بأيدينا.

(8/91)


71- باب قِصَّةُ الأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ
4378- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عُبَيْدَةَ بْنِ نَشِيطٍ وَكَانَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: "بَلَغَنَا أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ وَكَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ كُرَيْزٍ وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ خَطِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضِيبٌ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَكَلَّمَهُ فَقَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ إِنْ شِئْتَ خَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الأَمْرِ ثُمَّ جَعَلْتَهُ لَنَا بَعْدَكَ

(8/91)


فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْقَضِيبَ مَا أَعْطَيْتُكَهُ وَإِنِّي لاَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أُرِيتُ وَهَذَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ وَسَيُجِيبُكَ عَنِّي فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " .
4379- قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي ذَكَرَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُرِيتُ أَنَّهُ وُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَفُظِعْتُهُمَا وَكَرِهْتُهُمَا فَأُذِنَ لِي فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ" فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ فَيْرُوزُ بِالْيَمَنِ وَالآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّاب"
قوله: "قصة الأسود العنسي" بسكن النون، وحكى ابن التين جواز فتحها ولم أر له في ذلك سلفا. قوله: "حدثنا سعيد بن محمد الجرمي" بفتح الجيم وسكون الراء، كوفي ثقة مكثر، ويعقوب بن إبراهيم هو ابن سعد الزهري، وصالح هو ابن كيسان. قوله: "عن ابن عبيدة بن نشيط" بفتح النون وكسر الشين المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة. قوله: "وكان في موضع آخر اسمه عبد الله" أراد بهذا أن ينبه على أن المبهم هو عبد الله بن عبيدة لا أخوه موسى، وموسى ضعيف جدا وأخوه عبد الله ثقة، وكان عبد الله أكبر من موسى بثمانين سنة. وفي هذا الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق: صالح بن كيسان وعبد الله بن عبيدة وعبيد الله بن عبد الله وهو ابن عتبة بن مسعود. وساق البخاري عنه الحديث مرسلا. وقد ذكره في الباب الذي قبله موصولا لكن من رواية نافع بن جبير عن ابن عباس. قوله: "في دار بنت الحارث وكان تحته ابنة الحارث بن كريز: وهي أم عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، والذي وقع هنا أنها أم عبد الله بن عامر، قيل: الصواب أم أولاد عبد الله بن عامر لأنها زوجته لا أمه، فإن أم ابن عامر ليلى بنت أبي حثمة العدوية. وهو اعتراض متجه. ولعله كان فيه أم عبد الله بن عبد الله بن عامر فإن لعبد الله بن عامر ولدا اسمه عبد الله كاسم أبيه، وهو من بنت الحارث واسمها كيسة بتشديد التحتانية بعدها مهملة وهي بنت عبد الله بن عامر بن كريز، ولها منه أيضا عبد الرحمن وعبد الملك، وكانت كيسة قبل عبد الله بن عامر بن كريز تحت مسيلمة الكذاب، وإذا ثبت ذلك ظهر السر في نزول مسيلمة وقومه عليها لكونها كانت امرأته وأما ما وقع عند ابن إسحاق أنهم نزلوا بدار بنت الحارث وذكر غيره أن اسمها رملة بنت الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن زيد وهي من الأنصار ثم من بني النجار ولها صحبة وتكنى أم ثابت، وكانت زوج معاذ بن عفراء الصحابي المشهور، فكلام ابن سعد يدل على أن دارها كانت معدة لنزول الوفود، فإنه ذكر في وفد بني محارب وبني كلاب وبني تغلب وغيرهم أنهم نزلوا في دار بنت الحارث، وكذا ذكر ابن إسحاق أن بني قريظة حبسوا في دار بنت الحارث وتعقب السهيلي ما وقع عند ابن إسحاق في قصة مسيلمة بأن الصواب بنت الحارث، وهو تعقب صحيح إلا أنه يمكن الجمع بأن يكون وفد بني حنيفة نزلوا بدار بنت الحارث كسائر الوفود ومسيلمة وحده نزل بدار زوجته بنت الحارث. ثم ظهر لي أن الصواب ما وقع عند ابن إسحاق، وأن مسيلمة والوفد نزلوا في دار بنت الحارث وكانت دارها معدة للوفود، وكان يقال لها أيضا بنت الحارث، كذا صرح به محمد بن سعد في طبقات النساء فقال: رملة بنت الحارث ويقال لها ابنة الحارث بن ثعلبة الأنصارية؛ وساق نسبها. وأما زوجة مسيلمة وهي كيسة بنت الحارث

(8/92)


فلم تكن إذ ذاك بالمدينة وإنما كانت عند مسيلمة باليمامة، فلما قتل تزوجها ابن عمها عبد الله بن عامر بعد ذلك. والله أعلم. قوله: "ثم جعلته لنا بعدك" هذا مغاير لما ذكر ابن إسحاق أنه ادعى الشركة، إلا أن يحمل على أنه ادعى ذلك بعد أن رجع. قوله: "فقال ابن عباس: ذكر لي" كذا فيه بضم الذال من ذكر على البناء للمجهول، وقد وضح من حديث الباب قبله أن الذي ذكر له ذلك هو أبو هريرة. قوله: "إسواران" يكسر الهمزة وسكون المهملة تثنية إسوار وهي لغة في السوار، والسوار بالكسر ويجوز الضم، والأسوار أيضا صفة للكبير من الفرس: وهو بالضم والكسر معا بخلاف الإسوار من الحلي فإنه بالكسر فقط. قوله: "ففظعتهما وكرهتهما" بفاء وظاء مشالة مكسورة بعدها عين مهملة، يقال فظع الأمر فهو فظيع إذا جاوز المقدار، قال ابن الأثير: الفظيع الأمر الشديد، وجاء هنا متعديا، والمعروف فظعت به وفظعت منه فيحتمل التعدية على المعنى أي خفتهما، أو معنى فظعتهما اشتد علي أمرهما. قلت: يؤيد الثاني قوله في الرواية الماضية قريبا "وكبرا علي" . قوله: "فقال عبيد الله أحدهما العنسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر مسيلمة الكذاب" أما مسيلمة فقد ذكرت خبره، وأما العنسي وفيروز فكان من قصته أن العنسي وهو الأسود واسمه عبهلة بن كعب وكان يقال له أيضا ذو الخمار بالخاء المعجمة لأنه كان يخمر وجهه، وقيل هو اسم شيطانه. وكان الأسود قد خرج بصنعاء وادعى النبوة وغلب على عامل صنعاء المهاجر بن أبي أمية، ويقال إنه مر به فلما حاذاه عثر الحمار فادعى أنه سجد له، ولم يقم الحمار حتى قال له شيئا فقام، وروى يعقوب بن سفيان والبيهقي في "الدلائل" من طريقه من حديث النعمان بن بزرج بضم الموحدة وسكون الزاي ثم راء مضمومة ثم جيم قال: خرج الأسود الكذاب وهو من بني عنس يعني بسكون النون وكان معه شيطانان يقال لأحدهما سحيق بمهملتين وقاف مصغر والآخر شقيق بمعجمة وقافين مصغر، وكانا يخبرانه بكل شيء يحدث من أمور الناس، وكان باذان عامل النبي صلى الله عليه وسلم بصنعاء فمات، فجاء شيطان الأسود فأخبره، فخرج في قومه حتى ملك صنعاء وتزوج المرزبانة زوجة باذان، فذكر القصة في مواعدتها دادويه وفيروز وغيرهما حتى دخلوا على الأسود ليلا؛ وقد سقته المرزبانة الخمر صرفا حتى سكر، وكان على بابه ألف حارس. فنقب فيروز ومن معه الجدار حتى دخلوا فقتله فيروز واحتز رأسه، وأخرجوا المرأة وما أحبوا من متاع البيت، وأرسلوا الخبر إلى المدينة فوافى بذلك عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو الأسود عن عروة: أصيب الأسود قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة، فأتاه الوحي فأخبر به أصحابه، ثم جاء الخبر إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقيل وصل الخبر بذلك صبيحة دفن النبي صلى الله عليه وسلم.

(8/93)


72- باب قِصَّةِ أَهْلِ نَجْرَانَ
4380- حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: "جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدَانِ أَنْ يُلاَعِنَاهُ قَالَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ لاَ تَفْعَلْ فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلاَعَنَّا لاَ نُفْلِحُ نَحْنُ وَلاَ عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا قَالاَ إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلاً أَمِينًا وَلاَ تَبْعَثْ مَعَنَا إِلاَّ أَمِينًا فَقَالَ: "لاَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلاً أَمِيناً حَقَّ أَمِينٍ فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فَلَمَّا قَامَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذَا أَمِينُ

(8/93)


هَذِهِ الأُمَّة" .
4381- حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: "سمعت أبا إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة رضي الله عنه قال: "جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث لنا رجلا أمينا، فَقَالَ لاَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلاً أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ فَاسْتَشْرَفَ لَهُ الناس، فبعث أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاح" .
4382- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاح" .
قوله: "قصة أهل نجران" بفتح النون وسكون الجيم بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن يشتمل على ثلاثة وسبعين قرية مسيرة يوم للراكب السريع، كذا في زيادات يونس بن بكير بإسناد له في المغازي، وذكر ابن إسحاق أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهم حينئذ عشرون رجلا، لكن أعاد ذكرهم في الوفود بالمدينة فكأنهم قدموا مرتين. وقال ابن سعد: كان النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم فخرج إليه وفدهم في أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وعند ابن إسحاق أيضا من حديث كرز بن علقمة أنهم كانوا أربعة وعشرين رجلا، وسرد أسماءهم. قوله: "حدثني عباس بن الحسين" هو بغدادي ثقة، ليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر تقدم في التهجد مقرونا. قوله: "حدثنا يحيى بن آدم" في رواية الحاكم في "المستدرك" عن الأصم عن الحسن بن علي بن عفان عن يحيى بن آدم بهذا الإسناد عن ابن مسعود يدل حذيفة، وكذلك أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه من طرق أخرى عن إسرائيل، ورجح الدار قطني في "العلل" هذه وفيه نظر، فإن شعبة قد روى أصل الحديث عن أبي إسحاق فقال: "عن حذيفة" كما في الباب أيضا، وكأن البخاري فهم ذلك فاستظهر برواية شعبة، والذي يظهر أن الطريقين صحيحان، فقد رواه ابن أبي شيبة أيضا والإسماعيلي من رواية زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عن صلة عن حذيفة. قوله: "جاء السيد والعاقب صاحبا نجران" أما السيد فكان اسمه الأيهم بتحتانية ساكنة ويقال شرحبيل، وكان صاحب رحالهم ومجتمعهم ورئيسهم في ذلك، وأما العاقب فاسمه عبد المسيح وكان صاحب مشورتهم، وكان معهم أيضا أبو الحارث بن علقمة وكان أسقفهم وحبرهم وصاحب مدراسهم. قال ابن سعد: دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، فقال: إن أنكرتم ما أقول فهلم أباهلكم، فانصرفوا على ذلك. قوله: "يريدان أن يلاعناه" أي يباهلاه، وذكر ابن إسحاق بإسناد مرسل أن ثمانين آية من أول سورة آل عمران نزلت في ذلك، يشير إلى قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} الآية. قوله: "فقال أحدهما لصاحبه" ذكر أبو نعيم في الصحابة بإسناد له أن القائل ذلك هو السيد. وقال غيره: بل الذي قال ذلك هو العاقب لأنه كان صاحب رأيهم، وفي زيادات يونس بن بكير في المغازي بإسناد له أن الذي قال ذلك شرحبيل أبو مريم. قوله: "فوالله لئن كان نبيا فلاعنا" في رواية الكشميهني فلاعننا بإظهار النون. قوله: "لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا" زاد في رواية ابن مسعود "أبدا" ، وفي مرسل الشعبي عند ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران لو تموا على الملاعنة. ولما غدا عليهم أخذ بيد حسن وحسين وفاطمة تمشي خلفه للملاعنة" . قوله: "إنا نعطيك ما سألتنا"

(8/94)


وفي رواية يونس بن بكير أنه صالحهم على ألفي حلة: ألف في رجب وألف في صفر ومع كل حلة أوقية، وساق الكتاب الذي كتبه بينهم مطولا. وذكر ابن سعد أن السيد والعاقب رجعا بعد ذلك فأسلما، زاد في رواية ابن مسعود "فأتياه فقالا: لا نلاعنك، ولكن نعطيك ما سألت" وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام. وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته. وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة. وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي، ووقع ذلك لجماعة من العلماء. ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة. ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين. وفيها مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال، ويجري ذلك مجرى ضرب الجزية عليهم، فإن كلا منهما مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام. وفيها بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام. وفيها منقبة ظاهرة لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. وقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، وهذه القصة غير قصة أبي عبيدة لأن أبا عبيدة توجه معهم فقبض مال الصلح ورجع، وعلي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقبض منهم ما استحق عليهم من الجزية ويأخذ ممن أسلم منهم ما وجب عليه من الصدقة. والله أعلم. أورد المصنف حديث أنس أن أمين هذه الأمة أبو عبيدة إشارة إلى أن سببه الحديث الذي قبله، وقد تقدم في مناقب أبي عبيدة.

(8/95)


73- باب قِصَّةُ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ
4383- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ سَمِعَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ لَقَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا ثَلاَثًا" فَلَمْ يَقْدَمْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَمَرَ مُنَادِياً فَنَادَى مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنٌ أَوْ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِي قَالَ جَابِرٌ فَجِئْتُ أَبَا بَكْرٍ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا ثَلاَثًا" قَالَ فَأَعْطَانِي قَالَ جَابِرٌ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يُعْطِنِي ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَلَمْ يُعْطِنِي ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّالِثَةَ فَلَمْ يُعْطِنِي فَقُلْتُ لَهُ قَدْ أَتَيْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي ثُمَّ أَتَيْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي ثُمَّ أَتَيْتُكَ فَلَمْ تُعْطِنِي فَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَنِي وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي فَقَالَ أَقُلْتَ تَبْخَلُ عَنِّي وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ قَالَهَا ثَلاَثًا مَا مَنَعْتُكَ مِنْ مَرَّةٍ إِلاَّ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَك"
وَعَنْ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ جِئْتُهُ فَقَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ عُدَّهَا فَعَدَدْتُهَا فَوَجَدْتُهَا خَمْسَ مِائَةٍ فَقَالَ خُذْ مِثْلَهَا مَرَّتَيْن"
قوله: "قصة عمان والبحرين" أما البحرين فبلد عبد القيس، وقد تقدم بيانها في كتاب الجمعة. وأما عمان فبضم

(8/95)


المهملة وتخفيف الميم، قال عياض: هي فرضة بلاد اليمن لم يزد في تعريفها على ذلك. وقال الرشاطي. عمان في اليمن سميت بعمان بن سبأ، ينسب إليها الجلندي رئيس أهل عمان. ذكر وثيمة أن عمرو بن العاص قدم عليه من عند النبي صلى الله عليه وسلم فصدقه، وذكر غيره أن الذي آمن على يد عمرو بن العاص ولدا الجلندي عياذ وجيفر، وكان ذلك بعد خيبر، ذكره أبو عمرو انتهى. وروى الطبراني من حديث المسور بن مخرمة قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى الملوك" فذكر الحديث. وفيه: "وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعياذ ابني الجلندي ملك عمان وفيه: فرجعوا جميعا قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمرا فإنه توفي وعمرو بالبحرين" وفي هذا إشعار بقرب عمان من البحرين، وبقرب البعث إلى الملوك من وفاته صلى الله عليه وسلم فلعلها كانت بعد حنين فتصحفت، ولعل المصنف أشار بالترجمة إلى هذا الحديث لقوله في حديث الباب: "فلم يقدم مال البحرين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وروى أحمد من طريق أبي لبيد قال: "خرج رجل منا يقال له بيرح بن أسد، فرآه عمر فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل عمان، فأدخله على أبي بكر فقال: هذا من أهل الأرض التي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأعلم أرضا يقال لها عمان ينضح بناحيتها البحر، لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر" وعند مسلم من حديث أبي برزة قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا إلى قوم فسبوه وضربوه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك" .
" تنبيهان " : بعمل الشام بلدة يقال لها عمان لكنها بفتح العين وتشديد الميم، وهي التي أرادها الشاعر بقوله:
في وجهه خالان لولاهما ... ما بت مفتونا بعمان
وليست مرادة هنا قطعا، إنما وقع اختلاف للرواة فيما وقع في صفة الحوض النبوي كما سيأتي في مكانه حيث جاء في بعض طرقه ذكر عمان. وجيفر مثل جعفر إلا أن بدل العين تحتانية، وعياذ بفتح المهملة وتشديد التحتانية وآخره معجمة، والجلندي بضم الجيم وفتح اللام وسكون النون والقصر، وبيرح بموحدة ثم تحتانية ثم مهملة بوزن ديلم. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "سمع ابن المنكدر جابر بن عبد الله" بنصب جابر على أنه مفعول سمع. وفي رواية الحميدي في مسنده "حدثنا سفيان قال: سمعت ابن المنكدر قال: سمعت جابرا" وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في الكفالة وفي الشهادات وفي فرض الخمس. قوله: "وعن عمرو" هو معطوف على الإسناد الأول، وعمرو هو ابن دينار، ومحمد بن علي هو المعروف بالباقر، وأبوه هو زين العابدين بن الحسين بن علي، ووهم من زعم أن محمد بن علي هو ابن الحنفية، ووقع في رواية الحميدي "حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني محمد بن علي" فذكره.

(8/96)


74- باب قُدُومِ الأَشْعَرِيِّينَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ"
4384- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالاَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِي مِنْ الْيَمَنِ فَمَكَثْنَا حِينًا مَا نُرَى ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُمَّهُ إِلاَّ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِهِمْ وَلُزُومِهِمْ لَه" .

(8/96)


قوله: "باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن" هو من عطف العام على الخاص لأن الأشعريين من أهل اليمن، ومع ذلك ظهر في أن في المراد بأهل اليمن خصوصا آخر، وهو ما سأذكره من قصة نافع بن زيد الحميري أنه قدم وافدا في نفر من حمير، وبالله التوفيق. قوله: "وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: " هم مني وأنا منهم" هو طرف من حديث أوله: "أن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو جمعوا ثم اقتسموا بينهم، فهم مني وأنا منهم" الحديث، وقد وصله المؤلف في الشركة وشرح هناك، والمراد بقوله: "هم مني" المبالغة في اتصال طريقهما واتفاقهما على الطاعة. قوله: "حدثنا ابن أبي زائدة" هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، والإسناد كله كوفيون سوى شيخي البخاري. قوله: "عن الأسود" في المناقب من طريق يوسف بن أبي إسحاق "حدثني الأسود سمعت أبا موسى". قوله: "قدمت أنا وأخي من اليمن" تقدم بيان اسم أخيه في غزوة خيبر. قوله: "ما نرى" بضم النون. قوله: "ابن مسعود وأمه" اسم أمه أم عبد بنت عبد ود بن سواء، ولها صحبة. وقوله: "من أهل البيت" أي بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم في المناقب بلفظ: "من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم:"وتقدم الحديث في مناقب ابن مسعود.
" تنبيه " : سقط شيخا البخاري من أول هذا الإسناد من رواية أبي زيد المروزي، وابتداء الإسناد "حدثنا يحيى بن آدم" وثبتا عند غيره وهو الصواب، ولم يدرك البخاري يحيى بن آدم لأنه مات في ربيع الأول سنة ثلاث ومائتين بالكوفة، والبخاري يومئذ ببخارى ولم يرحل منها وعمره يومئذ تسع سنين، وإنما رحل بعد ذلك بمدة كما بينته في ترجمته في المقدمة.
"تنبيه آخر" : كان قدوم أبي موسى على النبي صلى الله عليه وسلم عند فتح خيبر لما قدم جعفر بن أبي طالب، وقيل إنه قدم عليه بمكة قبل الهجرة ثم كان ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى، ثم قدم الثانية صحبة جعفر. والصحيح أنه خرج طالبا المدينة في سفينة فألقتهم الريح إلى الحبشة، فاجتمعوا هناك بجعفر ثم قدموا صحبته. وعلى هذا فإنما ذكره البخاري هنا ليجمع ما وقع على شرطه من البعوث والسرايا والوفود ولو تباينت تواريخهم، ومن ثم ذكر غزوة سيف البحر مع أبي عبيدة بن الجراح وكانت قبل فتح مكة بمدة. وكنت أطن أن قوله: "وأهل اليمن" بعد الأشعريين من عطف العام على الخاص. ثم ظهر لي أن لهذا العام خصوصا أيضا، وأن المراد بهم بعض أهل اليمن وهم وفد حمير، فوجدت في "كتاب الصحابة لابن شاهين" من طريق إياس بن عمير الحميري أنه "قدم وافدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من حمير فقالوا: أتيناك لنتفقه في الدين" الحديث، وقد ذكرت فوائده في أول بدء الخلق، وحاصله الترجمة مشتملة على طائفتين، وليس المراد اجتماعهما في الوفادة، فإن قدوم الأشعريين كان مع أبي موسى في سنة سبع عند فتح خيبر، وقدوم وفد حمير في سنة تسع وهي سنة الوفود، ولأجل هذا اجتمعوا مع بني تميم. وقد عقد محمد بن سعد في الترجمة النبوية من الطبقات للوفود بابا وذكر فيه القبائل من مضر ثم من ربيعة ثم من اليمن وكاد يستوعب ذلك بتلخيص حسن. وكلامه أجمع ما يوجد في ذلك ومع أنه ذكر وفد حمير لم يقع له قصة نافع بن زيد التي ذكرتها.
4385- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ أَبُو مُوسَى أَكْرَمَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ جَرْمٍ وَإِنَّا لَجُلُوسٌ عِنْدَهُ وَهُوَ يَتَغَدَّى دَجَاجًا وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ جَالِسٌ فَدَعَاهُ إِلَى الْغَدَاءِ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ فَقَالَ هَلُمَّ فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُهُ فَقَالَ إِنِّي حَلَفْتُ

(8/97)


لاَ آكُلُهُ فَقَالَ هَلُمَّ أُخْبِرْكَ عَنْ يَمِينِكَ إِنَّا أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَأَبَى أَنْ يَحْمِلَنَا فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُتِيَ بِنَهْبِ إِبِلٍ فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ فَلَمَّا قَبَضْنَاهَا قُلْنَا تَغَفَّلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ لاَ نُفْلِحُ بَعْدَهَا أَبَدًا فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ حَلَفْتَ أَنْ لاَ تَحْمِلَنَا وَقَدْ حَمَلْتَنَا قَالَ أَجَلْ وَلَكِنْ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا" .
قوله: "حدثنا عبد السلام" هو ابن حرب. قوله: "عن زهدم" بزاي وزن جعفر وهو ابن مضرب بالضاد المعجمة وكسر الراء. قوله: "لما قدم أبو موسى" أي إلى الكوفة أميرا عليها في زمن عثمان، ووهم من قال: أراد قدم اليمن لأن زهد ما لم يكن من أهل اليمن. قوله: "أكرم هذا الحي من جرم" بفتح الجيم وسكون الراء: قبيلة شهيرة ينسبون إلى جرم بن ربان براء ثم موحدة ثقيلة ابن ثعلبة حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. قوله: "فقذرته" بفتح القاف وكسر الذال المعجمة، وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب الأطعمة، وعلى باقي الحديث في كتاب الإيمان والنذور إن شاء تعالى. وكان الوقت الذي طلب فيه الأشعريون الحملان من النبي صلى الله عليه وسلم عند إرادة غزوة تبوك.
4386- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو صَخْرَةَ جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيُّ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ قَالَ: "جَاءَتْ بَنُو تَمِيمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبْشِرُوا يَا بَنِي تَمِيمٍ قَالُوا أَمَّا إِذْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ قَالُوا قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّه" .
حديث عمران، أورده مختصرا، وقد تقدم بتمامه في بدء الخلق، والغرض منه قوله: "فجاء ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى" واستشكل بأن قدوم وفد بني تميم كان سنة تسع وقدوم الأشعريين كان قبل ذلك عقب فتح خيبر سنة سبع، وأجيب باحتمال أن يكون طائفة من الأشعريين قدموا بعد ذلك.
4387- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الإِيمَانُ هَا هُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْيَمَنِ وَالْجَفَاءُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الإِبِلِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَر" .
4388- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاَءُ فِي أَصْحَابِ الإِبِلِ وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَهْلِ الْغَنَم" . =


كتاب :25 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) =وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"

4389- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْفِتْنَةُ هَا هُنَا هَا هُنَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَان" .
4390- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ أَضْعَفُ قُلُوبًا وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً الْفِقْهُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَة" .
الحديث الرابع حديث أبي مسعود "الإيمان هاهنا وأشار بيده إلى اليمن" أي إلى جهة اليمن؛ وهذا يدل على أنه أراد أهل البلد لا من ينسب إلى اليمن ولو كان من غير أهلها. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش وذكوان هو ابن صالح. قوله: "وقال غندر عن شعبة إلخ" أورده لوقوع التصريح بقول الأعمش: "سمعت ذكوان" وقد وصله أحمد عن محمد بن جعفر غندر بهذا الإسناد. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وأخوه هو أبو بكر عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال، وثور بن زيد هو المدني، وأما ثور بن يزيد الشامي فأبوه بزيادة تحتانية مفتوحة في أوله، وأبو الغيث اسمه سالم. قوله: "الإيمان يمان" في رواية الأعرج التي بعدها "الفقه يمان" وفيها وفي رواية ذكوان "والحكمة يمانية" وفي أولها وأول رواية ذكوان "أتاكم أهل اليمن" وهو خطاب للصحابة الذين بالمدينة، وفي حديث أبي مسعود "والجفاء وغلظ القلوب في الفدادين إلخ" وفي رواية ذكوان عن أبي هريرة "والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل" وزاد فيها "والسكينة والوقار في أهل الغنم" وزاد في رواية أبي الغيث "والفتنة هنا حيث يطلع قرن الشيطان" وهذا هو الحديث السادس، وسيأتي شرحه في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. وتقدم شرح سائر ذلك في أول المناقب وفي بدء الخلق، وأشرت هناك إلى أن الرواية التي فيها "أتاكم أهل اليمن" ترد قول من قال: إن المراد بقوله: "الإيمان يمان" الأنصار وغير ذلك. وقد ذكر ابن الصلاح قول أبي عبيد وغيره: إن معنى قوله: "الإيمان يمان" أن مبدأ الإيمان من مكة لأن مكة من تهامة وتهامة من اليمن، وقيل: المراد مكة والمدينة، لأن هذا الكلام صدر وهو صلى الله عليه وسلم بتبوك، فتكون المدينة حينئذ بالنسبة إلى المحل الذي هو فيه يمانية، والثالث واختاره أبو عبيد أن المراد بذلك الأنصار لأنهم يمانيون في الأصل فنسب الإيمان إليهم لكونهم أنصاره. وقال ابن الصلاح: ولو تأملوا ألفاظ الحديث لما احتاجوا إلى هذا التأويل، لأن قوله: "أتاكم أهل اليمن" خطاب للناس ومنهم الأنصار، فيتعين أن الذين جاءوا غيرهم، قال: ومعنى الحديث وصف الذين جاءوا بقوة الإيمان وكماله ولا مفهوم له، قال: ثم المراد الموجودون حينئذ منهم لا كل أهل اليمن في كل زمان انتهى. ولا مانع أن يكون المراد بقوله: "الإيمان يمان" ما هو أعم مما ذكره أبو عبيد وما ذكره ابن الصلاح، وحاصله أن قوله: "يمان" يشمل من ينسب إلى اليمن بالسكنى وبالقبيلة، لكن كون المراد به من ينسب بالسكنى أظهر. بل هو المشاهد في كل عصر من أحوال سكان جهة اليمن وجهة الشمال، فغالب من يوجد من جهة اليمن رقاق القلوب والأبدان، وغالب من يوجد من جهة الشمال غلاظ القلوب والأبدان، وقد قسم في حديث أبي مسعود أهل الجهات الثلاثة: اليمن والشام والمشرق، ولم يتعرض للمغرب

(8/99)


في هذا الحديث، وقد ذكره في حديث آخر، فلعله كان فيه ولم يذكره الراوي إما لنسيان أو غيره، والله أعلم. وأورد البخاري هذه الأحاديث في الأشعريين لأنهم من أهل اليمن قطعا، وكأنه أشار إلى حديث ابن عباس "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذ قال: الله أكبر، إذا جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن نقية قلوبهم، حسنة طاعتهم. الإيمان يمان والفقه يمال والحكمة يمانية" أخرجه البزار. وعن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يطلع عليكم أهل اليمن كأنهم السحاب، هم خير أهل الأرض" الحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، وفي الطبراني من حديث عمرو بن عبسة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعيينة بن حصن: أي الرجال خير؟ قال رجال أهل نجد، قال: كذبت بل هم أهل اليمن، الإيمان يمان" الحديث. وأخرجه أيضا من حديث معاذ بن جبل، قال الخطابي: قوله: "هم أرق أفئدة وألين قلوبا" أي لأن الفؤاد غشاء القلب، فإذا رق نفذ القول وخلص إلى ما وراءه؛ وإذا غلظ بعد وصوله إلى داخل، وإذا كان القلب لينا علق كل ما يصادفه.
4391- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: "كُنَّا جُلُوسًا مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَجَاءَ خَبَّابٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيَسْتَطِيعُ هَؤُلاَءِ الشَّبَابُ أَنْ يَقْرَءُوا كَمَا تَقْرَأُ قَالَ أَمَا إِنَّكَ لَوْ شِئْتَ أَمَرْتُ بَعْضَهُمْ يَقْرَأُ عَلَيْكَ قَالَ أَجَلْ قَالَ اقْرَأْ يَا عَلْقَمَةُ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ حُدَيْرٍ أَخُو زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ أَتَأْمُرُ عَلْقَمَةَ أَنْ يَقْرَأَ وَلَيْسَ بِأَقْرَئِنَا قَالَ أَمَا إِنَّكَ إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ بِمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم فِي قَوْمِكَ وَقَوْمِهِ فَقَرَأْتُ خَمْسِينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى قَالَ قَدْ أَحْسَنَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ مَا أَقْرَأُ شَيْئًا إِلاَّ وَهُوَ يَقْرَؤُهُ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى خَبَّابٍ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ أَلَمْ يَأْنِ لِهَذَا الْخَاتَمِ أَنْ يُلْقَى قَالَ أَمَا إِنَّكَ لَنْ تَرَاهُ عَلَيَّ بَعْدَ الْيَوْمِ فَأَلْقَاهُ" رَوَاهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَة
الحديث السابع قوله: "فجاء خباب" بالمعجمة والموحدتين الأول ثقيلة، وهو ابن الأرت الصحابي المشهور. قوله: "يا أبا عبد الرحمن" هو كنية ابن مسعود. قوله: "أمرت بعضهم فيقرأ عليك" في رواية الكشميهني: "فقرأ: بصيغة الفعل الماضي. قوله:"فقال زيد بن حدير "بمهملة مصغر أخو زياد بن حدير، وزياد من كبار التابعين أدرك عمر وله رواية في سنن أبي داود ونزل الكوفة وولي إمرتها مرة، وهو أسدي من بني أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وأما أخوه زيد فلا أعرف له رواية. قوله:"أما "بتخفيف الميم" إن شئت أخبرتك بما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "في قومك وفي قومه" كأنه يشير إلى ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على النخع لأن علقمة نخعي، وإلى ذم بني أسد وزياد بن حدير أسدي، فأما ثناؤه على النخع ففيما أخرجه أحمد والبزار بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: "شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهذا الحي من النخع أو يثني عليهم، حتى تمنيت أني رجل منهم" وأما ذمه لبني أسد فتقدم في المناقب حديث أبي هريرة وغيره: "إن جهينة وغيرها خير من بني أسد وغطفان" وأما النخعي فمنسوب إلى النخع قبيلة مشهورة من اليمن، واسم النخع حبيب بن عمرو بن علة بضم المهملة وتخفيف اللام ابن جلد بن مالك بن أدد بن زيد، وقيل له النخع لأنه نخع عن قومه أي بعد. وفي رواية شعبة عن الأعمش عند أبي نعيم في المستخرج "لتسكتن أو لأحدثنك

(8/100)


بما قيل في قومك وقومه" . قوله: "فقرأت خمسين آية من سورة مريم" في رواية شعبة "فقال عبد الله رتل فداك أبي وأمي" . قوله: "وقال عبد الله كيف ترى" هو موصول بالإسناد المذكور، وخاطب عبد الله بذلك خبابا لأنه هو الذي سأله أولا، وهو الذي قال: قد أحسن، وكذا ثبت في رواية أحمد عن يعلى عن الأعمش ففيه: "قال خباب أحسنت" . قوله: "قال عبد الله" هو موصل أيضا. قوله: "ما أقرأ شيئا إلا وهو يقرأه" يعني علقمة، وهي منقبة عظيمة لعلقمة حيث شهد له ابن مسعود أنه مثله في القراءة. قوله: "ثم التفت إلى خباب وعليه خاتم من ذهب فقال: ألم يأن لهذا الخاتم أن يلقى" بضم أوله وفتح القاف أي يرمى به. قوله: "رواه غندر عن شعبة" أي عن الأعمش بالإسناد المذكور، وقد وصلها أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أحمد بن حنبل "حدثنا محمد بن جعفر" وهو غندر بإسناده هذا وكأنه في الزهد لأحمد إلا فلم أره في مسند أحمد إلا من طريق يعلى بن عبيد عن الأعمش، ووهم بعض من لقيناه فزعم أن هذا التعليق معاد في بعض النسخ وأن محله عقب حديث أبي هريرة، وقد ظهر لي أن لا إعادة وأنه في جميع النسخ، وأن الذي وقع في الموضعين من رواية غندر عن شعبة صواب، وأن المراد في الموضع الثاني أن شعبة رواه عن الأعمش بالإسناد الذي وصله به من طريق أبي حمزة عن الأعمش، وقد أثبت الإسماعيلي في مستخرجه رواية غندر عن شعبة فقال بعد أن أخرجه من طريق ابن شهاب عن الأعمش بالإسناد الذي وصله به "رواه جماعة عن الأعمش، ورواه غندر عن شعبة" وفي الحديث منقبة لابن مسعود وحسن تأنيه في الموعظة والتعليم، وأن بعض الصحابة كان يخفى عليه بعض الأحكام فإذا نبه عليها رجع، ولعل خبابا كان يعتقد أن النهي عن لبس الرجال خاتم الذهب للتنزيه، فنبهه ابن مسعود على تحريمه، فرجع إليه مسرعا.

(8/101)


75- باب قِصَّةُ دَوْسٍ وَالطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ
4392- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ ذَكْوَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " جَاءَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ دَوْسًا قَدْ هَلَكَتْ عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِم" .
4393- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا ... عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّتِ
وَأَبَقَ غُلاَمٌ لِي فِي الطَّرِيقِ فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الْغُلاَمُ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا غُلاَمُكَ فَقُلْتُ هُوَ لِوَجْهِ اللَّهِ فَأَعْتَقْتُه" .
قوله: "قصة دوس والطفيل بن عمرو الدوسي" بفتح المهملة وسكون الواو بعدها مهملة، تقدم نسبهم في غزوة ذي الخلصة، والطفيل بن عمرو أي ابن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس، كان يقال له ذو النور آخره راء؛ لأنه لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم بعثه إلى قومه فقال: اجعل لي آية، فقال: اللهم نور له،

(8/101)


فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا إنه مثلة، فتحول إلي طرف سوطه، وكان يضيء في الليلة المظلمة؛ ذكره هشام بن الكلبي في قصة طويلة، وفيها أنه دعا قومه إلى الإسلام فأسلم أبوه ولم تسلم أمه، وأجابه أبو هريرة وحده. قلت: وهذا يدل على تقدم إسلامه، وقد جزم ابن أبي حاتم بأنه قدم مع أبي هريرة بخيبر وكأنها قدمته الثانية. قوله: "عن ابن ذكوان" هو عبد الله أبو الزناد. قوله: "اللهم اهد دوسا وائت بهم" وقع مصداق ذلك، فذكر ابن الكلبي أن حبيب بن عمرو بن حثمة الدوسي كان حاكما على دوس، وكذا كان أبوه من قبله، وعمر ثلاثمائة سنة، وكان حبيب يقول: إني لأعلم أن للخلق خالقا لكني لا أدري من هو، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليه ومعه خمسة وسبعون رجلا من قومه فأسلم وأسلموا. وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الطفيل بن عمرو ليحرق صنم عمرو بن حثمة الذي كان يقال له ذو الكفين بفتح الكاف وكسر الفاء، فأحرقه. وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن الطفيل بن عمرو استشهد بأجنادين في خلافة أبي بكر، وكذا قال أبو الأسود عن عروة، وجزم ابن سعد بأنه استشهد باليمامة، وقيل باليرموك. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي خالد "عن قيس" هو ابن أبي حازم. قوله: "لما قدمت" أي أردت القدوم. قوله: "قلت في الطريق" تقدم شرحه مستوفى في كتاب العتق، وقوله في هذه الرواية: "وأبق غلام لي" لا يغاير قوله في الرواية الماضية في العتق "فأضل أحدهما صاحبه" لأن رواية أبق فسرت وجه الإضلال، وأن الذي أضل هو أبو هريرة، بخلاف غلامه فإنه أبق1 أبو هريرة مكانه لهربه، فلذلك أطلق أنه أضله، فلا يلتفت إلى إنكار ابن التين أنه أبق، وأما كونه عاد فحضر عند النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينافيه أيضا لأنه يحمل على أنه رحم عن الإباق وعاد إلى سيده ببركة الإسلام، ويحتمل أن يكون أطلق أبق بمعنى أنه أضل الطريق فلا تتنافى الروايتان.
ـــــــ
1 في العبارة غموض أو ساقط منها شيء.

(8/102)


باب قصة وفد طيء وحديث عدي بن حاتم
...
76- باب قِصَّةِ وَفْدِ طَيِّئ وَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ
4394- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: "أَتَيْنَا عُمَرَ فِي وَفْدٍ فَجَعَلَ يَدْعُو رَجُلاً رَجُلاً وَيُسَمِّيهِمْ فَقُلْتُ أَمَا تَعْرِفُنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ بَلَى أَسْلَمْتَ إِذْ كَفَرُوا وَأَقْبَلْتَ إِذْ أَدْبَرُوا وَوَفَيْتَ إِذْ غَدَرُوا وَعَرَفْتَ إِذْ أَنْكَرُوا فَقَالَ عَدِيٌّ فَلاَ أُبَالِي إِذاً" .
قوله: "وفد طيئ وحديث عدي بن حاتم" أي ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج بمهملة ثم معجمة ثم راء ثم جيم بوزن جعفر ابن امرئ القيس بن عدي الطائي، منسوب إلى طيئ بفتح المهملة وتشديد التحتانية المكسورة بعدها همزة ابن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، يقال كان اسمه جلهمة فسمي طيئا لأنه أول من طوى بئرا، ويقال أول من طوى المناهل. وأخرج مسلم من وجه آخر عن عدي بن حاتم قال: "أتيت عمر فقال: إن أول صدقة بيضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيء، جئت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم:"وزاد أحمد في أوله: "أتيت عمر في أناس من قومي، فجعل يعرض عني، فاستقبلته فقلت: أتعرفني؟"فذكر نحو ما أورده

(8/102)


البخاري ونحو ما أورده مسلم جميعا. قوله: "حدثنا عبد الملك" هو ابن عمير، وعمرو بن حريث بالمهملة وبالمثلثة مصغر هو المخزومي صحابي صغير، وفي الإسناد ثلاثة من الصحابة في نسق. قوله: "أتيت عمر" أي في خلافته. قوله: "فجعل يدعو رجلا رجلا يسميهم" أي قبل أن يدعوهم. قوله: "بل أسلمت إذ كفروا إلخ" يشير بذلك إلى وفاء عدي بالإسلام والصدقة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه منع من أطاعه من الردة، وذلك مشهور عند أهل العلم بالفتوح قوله: "فقال عدي: فلا أبالي إذا" أي إذا كنت تعرف قدري فلا أبالي إذا قدمت على غيري، وفي "الأدب المفرد" للبخاري "أن عمر قال لعدي: حياك الله من معرفة" وروى أحمد في سبب إسلام عدي أنه قال: "لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كرهته، فانطلقت إلى أقصى الأرض مما يلي الروم، ثم كرهت مكاني فقلت: لو أتيته، فإن كان كاذبا لم يخف علي، فأتيته فقال: " أسلم تسلم" . فقلت: إن لي دينا" وكان نصرانيا فذكر إسلامه. وذكر ذلك ابن إسحاق مطولا، وفيه أن خيل النبي صلى الله عليه وسلم أصابت أخت عدي وأن النبي صلى الله عليه وسلم من عليها فأطلقها بعد أن استعطفته بإشارة علي عليها فقالت له: هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك. فقال: " ومن وافدك؟ قالت عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله؟" فلما قدمت بنت حاتم على عدي أشارت عليه بالقدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم وأسلم وروى الترمذي من وجه آخر عن عدي بن حاتم قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال: هذا عدي بن حاتم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يقول: إني لأرجو الله أن يجعل يده في يدي" .

(8/103)


77- باب حَجَّةِ الْوَدَاعِ
4395- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لاَ يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا" فَقَدِمْتُ مَعَهُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَشَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ" فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ فَقَالَ هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ قَالَتْ فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا" .
قوله: "باب حجة الوداع" بكسر الحاء المهملة وبفتحها، وبكسر الواو وبفتحها، ذكر جابر في حديثه الطويل في صفتها كما أخرجه مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين - أي منذ قدم المدينة - لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحديث. ووقع في حديث أبي سعيد الخدري ما يوهم أنه صلى الله عليه وسلم حج قبل أن يهاجر غير حجة الوداع ولفظه 1
ـــــــ
1 بياض بأصله ا هـ

(8/103)


وعند الترمذي من حديث جابر" حج قبل أن يهاجر ثلاث حجج "وعن ابن عباس مثله أخرجه ابن ماجه والحاكم، قلت: وهو مبني على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، فإنهم قدموا أولا فتواعدوا، ثم قدموا ثانيا فبايعوا البيعة الأولى، ثم قدموا ثالثا فبايعوا البينة الثانية كما تقدم بيانه أول الهجرة، وهذا لا يقتضي نفي الحج قبل ذلك. وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثوري" أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل أن يهاجر حججا" وقال ابن الجوزي: حج حججا لا يعرف عددها. وقال ابن الأثير في النهاية: كان يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وفي حديث ابن عباس أن خروجه من المدينة كان لخمس بقين من ذي القعدة أخرجه المصنف في الحج، وأخرجه هو ومسلم من حديث عائشة مثله، وجزم ابن حزم بأن خروجه كان يوم الخميس، وفيه نظر لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس قطعا لما ثبت وتواتر أن وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، فتعين أن أول الشهر يوم الخميس فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس، بل ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة، لكن ثبت في الصحيحين عن أنس "صلينا الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا والعصر بذي الخليفة ركعتين" فدل على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة، فما بقي إلا أن يكون خروجهم يوم السبت، ويحمل قول من قال: "لخمس بقين" أي إن كان الشهر ثلاثين فاتفق أن جاء تسعا وعشرين فيكون يوم الخميس أول ذي الحجة بعد مضي أربع ليال لا خمس، وبهذا تتفق الأخبار، هكذا جمع الحافظ عماد الدين بن كثير بين الروايات، وقوي هذا الجمع بقول جابر "إنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة أو أربع" وكان دخوله صلى الله عليه وسلم مكة صبح رابعة كما ثبت في حديث عائشة، وذلك يوم الأحد، وهذا يؤيد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت كما تقدم، فيكون مكانه في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى. ثم ذكر المصنف في الباب سبعة عشر حديثا تقدم غالبها في كتاب الحج مشروحة، وسأبين ذلك مع مزيد فائدة. حديث عائشة، وقد تقدم شرحه مستوفى في باب التمتع والقران من كتاب الحج.
4396- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ قَالَ هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَمِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحِلُّوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قُلْتُ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُعَرَّفِ قَالَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَاهُ قَبْلُ وَبَعْدُ".
قوله: "عن ابن عباس إذا طاف بالبيت فقد حل فقلت: من أين قال هذا ابن عباس" القائل هو ابن جريج والمقول له عطاء، وذلك صريح في رواية مسلم، والمراد بالمعرف وهو بتشديد الراء الوقوف بعرفة وهو ظاهر في أن المراد بذلك من اعتمر مطلقا سواء كان قارنا أو متمتعا، وهو مذهب مشهور لابن عباس، وقد تقدم البحث فيه في أبواب الطواف في "باب من طاف بالبيت إذا قدم" من كتاب الحج.
4397- حَدَّثَنِي بَيَانٌ حَدَّثَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ طَارِقًا عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: "أَحَجَجْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ كَيْفَ أَهْلَلْتَ

(8/104)


قُلْتُ لَبَّيْكَ بِإِهْلاَلٍ كَإِهْلاَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حِلَّ"، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأْسِي" .
قوله: "حدثنا بيان" بفتح الموحدة وتخفيف التحتانية هو ابن عمرو البخاري، والنضر هو ابن شميل، وقيس هو ابن مسلم، وطارق هو ابن شهاب. وقد تقدم شرح المتن في "باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم" .
4398- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَتْ حَفْصَةُ فَمَا يَمْنَعُكَ فَقَالَ: لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَسْتُ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ هَدْيِي" . حديث حفصة وقد تقدم شرحه في "باب التمتع والقران" .
4399- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ حَدَّثَنِي شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ نَعَم" .
حديث ابن عباس "أن امرأة من خثعم استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع" الحديث في أمرها بالحج عن أبيها، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج، وفيه الكلام على اسمها واسم أبيها. وأورده هنا لتصريح الراوي بأن ذلك كان في حجة الوداع، وقوله في أول الإسناد: وقال محمد بن يوسف هو الفريابي وهو من شيوخ البخاري، وكأنه لم يسمع هذا الحديث منه، وقد وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريقه، وساق المصنف الحديث هنا على لفظه، وأما لفظ شعيب فسيأتي في كتاب الاستئذان، وهو أتم سياقا من رواية الأوزاعي.
4400- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أُسَامَةَ عَلَى الْقَصْوَاءِ وَمَعَهُ بِلاَلٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ حَتَّى أَنَاخَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ لِعُثْمَانَ ائْتِنَا بِالْمِفْتَاحِ فَجَاءَهُ بِالْمِفْتَاحِ فَفَتَحَ لَهُ الْبَابَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُسَامَةُ وَبِلاَلٌ وَعُثْمَانُ ثُمَّ أَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَمَكَثَ نَهَارًا طَوِيلاً ثُمَّ خَرَجَ وَابْتَدَرَ النَّاسُ الدُّخُولَ فَسَبَقْتُهُمْ فَوَجَدْتُ بِلاَلاً قَائِمًا مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ فَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى بَيْنَ ذَيْنِكَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ وَكَانَ

(8/105)


الْبَيْتُ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ سَطْرَيْنِ صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ مِنْ السَّطْرِ الْمُقَدَّمِ وَجَعَلَ بَابَ الْبَيْتِ خَلْفَ ظَهْرِهِ وَاسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُكَ حِينَ تَلِجُ الْبَيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ قَالَ وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى وَعِنْدَ الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَرْمَرَةٌ حَمْرَاء" .
الحديث السادس حديث ابن عمر في دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، تقدم شرحه مستوفى في "باب إغلاق البيت" من أبواب الطواف في كتاب الحج، وقوله في أول الإسناد "حدثني محمد" هو ابن رافع كما تقدم في الحج، وتقدم هناك بيان الاختلاف فيه، وقوله: "سطرين" بالمهملة، ووقع في رواية الأصيلي بالمعجمة وخطأه عياض، وقوله: "عند المكان الذي صلى فيه مرمرة" بسكون الراء والمهملتين والميمين المفتوحتين واحدة المرمر، وهو جنس من الرخام نفيس معروف، وكان ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم غير بناء الكعبة بعده في زمن ابن الزبير كما تقدم بسطه في كتاب الحج. وقد أشكل دخول هذا الحديث في "باب حجة الوداع" لأن فيه التصريح بأن القصة كانت عام الفتح، وعام الفتح كان سنة ثمان وحجة الوداع كانت سنة عشر، وفي أحاديث هذا الباب جميعها التصريح بحجة الوداع وبحجة النبي صلى الله عليه وسلم وهي حجة الوداع.
4401- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُمَا أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاضَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَحَابِسَتُنَا هِيَ فَقُلْتُ إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم:"فَلْتَنْفِر" .
حديث عائشة في قصة صفية، وقد تقدم شرحه في "باب إذا حاضت بعدما أفاضت" من كتاب الحج.
4402- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كُنَّا نَتَحَدَّثُ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَلاَ نَدْرِي مَا حَجَّةُ الْوَدَاعِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَأَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِ وَقَالَ: " مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ أَنْذَرَهُ نُوحٌ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ وَإِنَّهُ يَخْرُجُ فِيكُمْ فَمَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ شَأْنِهِ فَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عَلَى مَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ ثَلاَثًا إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَإِنَّهُ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَة" .
4403- " أَلاَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ قَالُوا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلاَثًا وَيْلَكُمْ أَوْ وَيْحَكُمْ انْظُرُوا لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض" .
قوله: "حدثني عمر بن محمد" أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر. قوله: "كنا نتحدث بحجة الوداع

(8/106)


والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا" في رواية أبي عاصم عن عمر بن محمد عند الإسماعيلي: "كنا نسمع بحجة الوداع" . قوله: "ولا ندري ما حجة الوداع" كأنه شيء ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فتحدثوا به وما فهموا أن المراد بالوداع وداع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وقعت وفاته صلى الله عليه وسلم بعدها بقليل فعرفوا المراد، وعرفوا أنه ودع الناس بالوصية التي أوصاهم بها أن لا يرجعوا بعده كفارا، وأكد التوديع بإشهاد الله عليهم بأنهم شهدوا أنه قد بلغ ما أرسل إليهم به، فعرفوا حينئذ المراد بقولهم حجة الوداع. وقد وقع في الحج في "باب الخطبة بمنى" من رواية عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه عن ابن عمر في هذا الحديث: "فودع الناس" وقدمت هناك ما وقع عند البيهقي أن سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} نزلت في وسط أيام التشريق، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه الوداع، فركب واجتمع الناس فذكر الخطبة. قوله: "فحمد الله وأثنى عليه" في رواية أبي نعيم في المستخرج "فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله وحده وأثنى عليه" الحديث، وذكر فيه قصة الدجال وفيه: "ألا إن الله حرم عليكم دماءكم" وهذا يدل على أن هذه الخطبة كلها كانت في حجة الوداع وقد ذكر الخطبة في حجة الوداع جماعة من الصحابة لم يذكر أحد منهم قصة الدجال فيها إلا ابن عمر، بل اقتصر الجميع على حديث: "إن أموالكم عليكم حرام" الحديث، وقد أورد المصنف منها حديث جرير وأبي بكرة هنا وحديث ابن عباس في الحج، وقد تقدم في الحج من رواية عاصم بن محمد بن زيد وهو أخو عمر بن محمد بن زيد عن أبيه عن ابن عمر بدونها، وزيادة عمر بن محمد صحيحة لأنه ثقة، وكأنه حفظ ما لم يحفظه غيره، وسيأتي شرح ما تضمنته هذه الزيادة في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى.
4404- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: "حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَأَنَّهُ حَجَّ بَعْدَ مَا هَاجَرَ حَجَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا حَجَّةَ الْوَدَاعِ" قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَبِمَكَّةَ أُخْرَى.
حديث زيد بن أرقم، تقدم شرحه في أول الهجرة، وقوله: "وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها حجة الوداع" يعني ولا حج قبلها إلا أن يريد نفي الحج الأصغر وهو العمرة فلا، فإنه اعتمر قبلها قطعا. قوله: "قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى" هو موصول بالإسناد المذكور، وغرض أبي إسحاق أن لقوله: "بعدما هاجر" مفهوما، وأنه قبل أن يهاجر كان قد حج لكن اقتصاره على قوله أخرى قد يوهم أنه لم يحج قبل الهجرة إلا واحدة وليس كذلك بل حج قبل أن يهاجر مرارا، بل الذي لا أرتاب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط، لأن قريشا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج، وإنما يتأخر منهم عنه من لم يكن بمكة أو عاقه ضعف، وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحج ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يتركه؟ وقد ثبت من حديث جبير بن مطعم أنه رآه في الجاهلية واقفا بعرفة، وأن ذلك من توفيق الله له، وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية كما بينته في الهجرة إلى المدينة.
4405- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِجَرِيرٍ: " اسْتَنْصِتْ النَّاسَ فَقَالَ لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض" .

(8/107)


الحديث العاشر حديث جرير قوله: "عن علي بن مدرك" بضم الميم وسكون الدال وكسر الراء وهو نخعي كوفي ثقة، ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وما له في البخاري سوى هذا الحديث، لكنه أورده في مواضع. والله أعلم. قوله: "استنصت الناس" فيه دليل على وهم من زعم أن إسلام جرير كان قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما، لأن حجة الوداع كانت قبل وفاته بأكثر من ثمانين يوما، وقد ذكر جرير أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع.
4406- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ ذُو الْحِجَّةِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَسَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلاَلاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ أَلاَ لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلَّغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ يَقُولُ صَدَقَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ مَرَّتَيْن" .
الحديث الحادي عشر حديث أبي بكرة قوله: "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي، ومحمد هو ابن سيرين، وابن أبي بكرة هو عبد الرحمن، وقد تقدم شرح الحديث في العلم وفي الحج، وقوله في الآية: "منها أربعة حرم" قيل الحكمة في جعل المحرم أول السنة أن يحصل الابتداء بشهر حرام ويختم بشهر حرام، وتتوسط السنة بشهر حرام وهو رجب، وإنما توالى شهران في الآخر لإرادة تفضيل الختام، والأعمال بالخواتيم.
4407- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ "أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْيَهُودِ قَالُوا لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا فَقَالَ عُمَرُ أَيَّةُ آيَةٍ فَقَالُوا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا} فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي لاَعْلَمُ أَيَّ مَكَانٍ أُنْزِلَتْ أُنْزِلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِعَرَفَة" قوله: "أن أناسا من اليهود" تقدم في كتاب الإيمان بلفظ: "إن رجلا من اليهود" وبينت أن المراد به كعب الأحبار، وفيه إشكال من جهة أنه كان أسلم، ويجوز أن يكون السؤال صدر قبل إسلامه لكن قد قيل إنه أسلم وهو باليمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم على يد علي، فإن ثبت احتمل أن يكون الذين سألوا جماعة من اليهود

(8/108)


اجتمعوا مع كعب على السؤال وتولى هو السؤال عن ذلك عنهم، فتجتمع الروايات كلها، وقد تقدم ذلك في كتاب الإيمان بأوضح من هذا مع بقية شرحه.
4408- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى يَوْمِ النَّحْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ وَقَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ" حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ مِثْلَه .
ثم أورد المصنف حديث عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا من أهل بعمرة" الحديث، وأورده من طرق عن مالك بسنده في طريقين، منها حجة الوداع وهو مقصود الترجمة، وقد تقدم من وجه آخر في أول الباب عن شيخ آخر لمالك بأتم من السياق المذكور هنا.
4409- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لاَ قُلْتُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ لاَ قُلْتُ فَالثُّلُثِ قَالَ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آأُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ رَثَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّة" .
حديث سعد وهو ابن أبي وقاص في الوصية بالثلث، وقد تقدم شرحه في الوصايا، وتقرير كون ذلك وقع في حجة الوداع، وبيان توجيه من قال إن ذلك في فتح مكة، ووجه الجمع بين الروايتين بما يغني عن إعادته.
4410- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاع" .
4411- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَخْبَرَهُ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَصَّرَ بَعْضُهُم" .
4412- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ

(8/109)


شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ "أَنَّهُ أَقْبَلَ يَسِيرُ عَلَى حِمَارٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَسَارَ الْحِمَارُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ فَصَفَّ مَعَ النَّاس" .
4413- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: "سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا شَاهِدٌ عَنْ سَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَص" .
4414- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ "أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا" .
الحديث الثالث عشر حديث سعد وهو ابن وأبي وقاص في الوصية بالثلث، وقد تقدم شرحه في الوصايا، وتقرير كون ذلك وقع في حجة الوداع، وبيان توجيه من قال إن ذلك في فتح مكة،ووجه الجمع بين الروايتين يما يغني عن إعادته، الحديث الخامس عشر حديث ابن عمر في الحلق في حجة الوداع. أورده من طريقين، وقد تقدم شرحه في الحج. تقدم شرحه في الحج. حديث ابن عباس في الصلاة بمنى، وقد تقدم شرحه في أبواب السترة في الصلاة. حديث أسامة بن زيد "كان يسير في حجته العنق" بفتح المهملة والنون والقاف، وقد تقدم شرحه في الحج أيضا. حديث أبي أيوب في الجمع بين المغرب والعشاء في حجة الوداع، وقد تقدم شرحه في الحج أيضا.

(8/110)


78- باب غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهِيَ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ
4415- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ الْحُمْلاَنَ لَهُمْ إِذْ هُمْ مَعَهُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ فَقُلْتُ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ أَصْحَابِي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ لِتَحْمِلَهُمْ فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ" وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ وَلاَ أَشْعُرُ وَرَجَعْتُ حَزِينًا مِنْ مَنْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيَّ فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَأَخْبَرْتُهُمْ الَّذِي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَلَمْ أَلْبَثْ إِلاَّ سُوَيْعَةً إِذْ سَمِعْتُ بِلاَلاً يُنَادِي أَيْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ فَأَجَبْتُهُ فَقَالَ أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوكَ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ قَالَ: " خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ ابْتَاعَهُنَّ حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ فَانْطَلِقْ بِهِنَّ إِلَى أَصْحَابِكَ فَقُلْ إِنَّ اللَّهَ أَوْ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلاَءِ فَارْكَبُوهُنَّ" فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِمْ بِهِنَّ فَقُلْتُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلاَءِ وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَدَعُكُمْ حَتَّى يَنْطَلِقَ مَعِي بَعْضُكُمْ إِلَى مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَظُنُّوا أَنِّي حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا لَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ

(8/110)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لِي وَاللَّهِ إِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ فَانْطَلَقَ أَبُو مُوسَى بِنَفَرٍ مِنْهُمْ حَتَّى أَتَوْا الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْعَهُ إِيَّاهُمْ ثُمَّ إِعْطَاءَهُمْ بَعْدُ فَحَدَّثُوهُمْ بِمِثْلِ مَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أَبُو مُوسَى".
قوله: "باب غزوة تبوك" هكذا أورد المصنف هذه الترجمة بعد حجة الوداع، وهو خطأ وما أظن ذلك إلا من النساخ، فإن غزوة تبوك كانت في شهر رجب من سنة تسع قبل حجة الوداع بلا خلاف، وعند ابن عائذ من حديث ابن عباس أنها كانت بعد الطائف بستة أشهر، وليس مخالفا لقول من قال في رجب إذا حذفنا الكسور؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد دخل المدينة من رجوعه من الطائف في ذي الحجة. وتبوك مكان معروف هو نصف طريق المدينة إلى دمشق، ويقال بين المدينة وبينه أربع عشرة مرحلة. وذكرها في "المحكم" في الثلاثي الصحيح، وكلام ابن قتيبة يقتضي أنها من المعتل فإنه قال: جاءها النبي صلى الله عليه وسلم وهم يبكون مكان مائها بقدح فقال: ما زلتم تبوكونها، فسميت حينئذ تبوك. قوله: "وهي غزوة العسرة" وفي أول أحاديث الباب قول أبي موسى "في جيش العسرة" بمهملتين الأول مضمومة وبعدها سكون مأخوذ من قوله تعالى:{الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} وهي غزوة تبوك. وفي حديث ابن عباس "قيل لعمر حدثنا عن شأن ساعة العسرة، قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فأصابنا عطش" الحديث أخرجه ابن خزيمة. وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن ابن عقيل قال: "خرجوا في قلة من الظهر وفي حر شديد حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء، فكان ذلك عسرة من الماء وفي الظهر وفي النفقة، فسميت غزوة العسرة" . وتبوك المشهور فيها عدم الصرف للتأنيث والعلمية، ومن صرفها أراد الموضع. ووقعت تسميتها بذلك في الأحاديث الصحيحة: منها حديث مسلم: "إنكم ستأتون غدا عين تبوك" وكذا أخرجه أحمد والبزار من حديث حذيفة، وقيل: سميت بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين سبقاه إلى العين "ما زلتما تبوكانها منذ اليوم" ، قال ابن قتيبة: فبذلك سميت عين تبوك؛ والبوك كالحفر انتهى. والحديث المذكور عند مالك ومسلم بغير هذا اللفظ، أخرجاه من حديث معاذ بن جبل "أنهم خرجوا في عام تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا، فجئناها وقد سبق إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء" فذكر الحديث في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ويديه بشيء من مائها ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس، وبينها وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، وكان السبب فيها ما ذكره ابن سعد وشيخه وغيره قالوا: بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعا، وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب، وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمهم بجهة غزوهم كما سيأتي في الكلام على حديث كعب بن مالك. وروى الطبراني من حديث عمران بن حصين قال: "كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: أن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلا من عظمائهم يقال له قباذ وجهز معه أربعين ألفا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يكن للناس قوة، وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام فقال: يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، قال فسمعته يقول: لا يضر عثمان ما عمل بعدها" وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن حيان نحوه، وذكر أبو سعيد في "شرف المصطفى" والبيهقي في "الدلائل"

(8/111)


من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم "أن اليهود قالوا. يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى الآيات من سورة بني إسرائيل {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} الآية" انتهى، وإسناده حسن مع كونه مرسلا. قوله: "أسأله الحملان لهم" بضم الحاء المهملة، أي الشيء الذي يركبون عليه ويحملهم. قوله: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب "وجاء نفر كلهم معسر يستحملونه لا يحبون التخلف عنه، فقال لا أجد. قال: ومن هؤلاء نفر من الأنصار ومن بني مزينة" وفي مغازي ابن إسحاق أن البكائين سبعة نفر1: سالم بن عمير، وأبو ليلى بن كعب، وعمرو بن الحمام، وعبد الله بن مغفل وقيل ابن غنمة، وعلية بن زيد، وهرمي بن عبد الله، وعرباض بن سارية، وسلمة بن صخر. قال: فبلغني أن أبا ياسر اليهودي وقيل ابن يامين - جهز أبا ليلى وابن مغفل، وقيل كان في البكائين بنو مقرن السبعة معقل إخوته. قوله: "خذ هذين القرينين" أي الجملين المشدودين أحدهما إلى الآخر، وقيل النظيرين المتساويين. وفي رواية أبي ذر عن المستملي: "هاتين القرينتين" أي الناقتين، وتقدم في قدوم الأشعريين أنه صلى الله عليه وسلم أمر لهم بخمس ذود وقال: هذا بستة أبعرة، فإما تعددت القصة أو زادهم على الخمس واحدا، وأما قوله: "هاتين القرينتين وهاتين القرينتين" فيحتمل أن يكون اختصارا من الراوي أو كان الأولى اثنتين والثانية أربعة لأن القرين يصدق على الواحد وعلى الأكثر، وأما الرواية التي فيها "هذين القرينين" فذكر ثم أنث فالأولى على إرادة البعير والثانية على إرادة الاختصاص لا على الوصفية. قوله: "ابتاعهن" في رواية الكشميهني: "ابتاعهم" وكذا "انطلق بهن" في روايته: "بهم" وهو تحريف، والصواب ما عند الجماعة لأنه جمع ما لا يعقل. قوله: "حينئذ من سعد" لم يتعين لي من هو سعد إلى الآن، إلا أنه يهجس في خاطري أنه سعد بن عبادة، وفي الحديث استحباب حنث الحالف في يمينه إذا رأى غيرها خيرا منها كما سيأتي البحث في الأيمان والنذور، وانعقاد اليمين في الغضب، وسنذكر هناك بقية فوائد حيث أبي موسى إن شاء الله تعالى.
4416- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا فَقَالَ أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ قَالَ أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ سَمِعْتُ مُصْعَبًا" .
قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن سعيد القطان، والحكم هو ابن عتيبة بمثناة وموحدة مصغر. قوله: "بمنزلة هارون من موسى" في رواية عطاء بن أبي رباح مرسلا عند الحاكم في الإكليل "فقال: يا علي اخلفني في أهلي، واضرب وخذ وعظ. ثم دعا نساءه فقال: اسمعن لعلي وأطعن" . قوله: "وقال أبو داود: حدثنا شعبة إلخ" أراد بيان التصريح بالسماع في رواية الحكم عن مصعب، وطريق أبي داود هذه وهو الطيالسي وصلها أبو نعيم في "المستخرج" والبيهقي في "الدلائل" من طريقه.
4417- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءً يُخْبِرُ قَالَ أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُسْرَةَ قَالَ كَانَ يَعْلَى يَقُولُ: تِلْكَ
ـــــــ
(1) المعدود ثمانية.

(8/112)


الْغَزْوَةُ أَوْثَقُ أَعْمَالِي عِنْدِي قَالَ عَطَاءٌ فَقَالَ صَفْوَانُ قَالَ يَعْلَى فَكَانَ لِي أَجِيرٌ فَقَاتَلَ إِنْسَانًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا يَدَ الآخَرِ قَالَ عَطَاءٌ فَلَقَدْ أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ أَيُّهُمَا عَضَّ الْآخَرَ فَنَسِيتُهُ قَالَ فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فِي الْعَاضِّ فَانْتَزَعَ إِحْدَى ثَنِيَّتَيْهِ فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ" قَالَ عَطَاءٌ وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا كَأَنَّهَا فِي فِي فَحْلٍ يَقْضَمُهَا" .
قوله: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العسرة" كذا للأكثر. وفي رواية السرخسي "العسيرة" بالتصغير. قال: "كان يعلى يقول تلك الغزوة أوثق أعمالي عندي" تقدم في الإجارة بلفظ إجمالي وبالعين المهملة أصح. قوله: "قال عطاء" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "كان لي أجير، فقاتل إنسانا فعض أحدهما يد الآخر، قال عطاء: فلقد أخبرني صفوان أيهما عض الآخر فنسيته" سيأتي البحث في ذلك وتتمة شرح هذا الحديث في كتاب الديات إن شاء الله تعالى.

(8/113)


79- باب حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ: [118 التوبة] {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}
قوله: "حديث كعب بن مالك، وقول الله تعالى {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} سيأتي الكلام على قوله: "خلفوا" في آخر الحديث.
4418- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ قَالَ كَعْبٌ لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلاَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ يُرِيدُ الدِّيوَانَ قَالَ كَعْبٌ فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلاَّ ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا فَأَقُولُ فِي نَفْسِي أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ

(8/113)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ أَوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: "مَا فَعَلَ كَعْبٌ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِئْسَ مَا قُلْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلاً حَضَرَنِي هَمِّي وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلاَنِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ: "تَعَالَ" فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ فَقُلْتُ بَلَى إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لاَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ لاَ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ" فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ قَالُوا نَعَمْ رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ فَقُلْتُ مَنْ هُمَا قَالُوا مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(8/114)


الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ وَلاَ يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ عَلَيَّ أَمْ لاَ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ فَقُلْتُ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ قَالَ فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْبَلاَءِ فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنْ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ فَقُلْتُ أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ قَالَ لاَ بَلْ اعْتَزِلْهَا وَلاَ تَقْرَبْهَا وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ فَقُلْتُ لامْرَأَتِي الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الأَمْرِ قَالَ كَعْبٌ فَجَاءَتْ امْرَأَةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ قَالَ: "لاَ وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبْكِ" قَالَتْ إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي لَوْ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لامْرَأَةِ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلاَمِنَا فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ قَالَ فَخَرَرْتُ

(8/115)


سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الْفَجْرِ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ قَالَ كَعْبٌ حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ وَلاَ أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ قَالَ كَعْبٌ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ: " أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ قَالَ قُلْتُ أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَالَ لاَ بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ" وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" قُلْتُ فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقًا مَا بَقِيتُ فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَبْلاَهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِي مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا وَإِنِّي لاَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [117 التوبة] {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ إِلَى قَوْلِهِ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلاَمِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [95 التوبة] {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ ـ إِلَى قَوْلِهِ ـ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} قَالَ كَعْبٌ وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ [118 التوبة] {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا عَنْ الْغَزْوِ إِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْه" .
قوله "حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} سياتي الكلام على قوله {خُلِّفُوا} قوله:"عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب "كذا عند الأكثر،

(8/116)


ووقع عن الزهري في بعض هذا الحديث رواية عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وهو عم عبد الرحمن بن عبد الله الذي حدث به عنه هنا. وفي رواية عن عبد الله بن كعب نفسه، قال أحمد بن صالح فيما أخرجه ابن مردويه: كان الزهري سمع هذا القدر من عبد الله بن كعب نفسه، وسمع هذا الحديث بطوله من ولده عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، وعنه أيضا رواية عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن عمه عبيد الله بالتصغير، ووقع عند ابن جرير من طريق يونس عن الزهري في أول الحديث بغير إسناد، قال الزهري: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهو يريد نصارى العرب والروم بالشام، حتى إذا بلغ تبوك أقام بضع عشرة ليلة، ولقيه بها وفد أذرح ووفد أيلة، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، ثم قفل من تبوك ولم يجاوزها، وأنزل الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} الآية" والثلاثة الذين خلفوا رهط من الأنصار في بضعة وثمانين رجلا، فلما رجع صدقه أولئك واعترفوا بذنوبهم، وكذب سائرهم فحلفوا ما حبسهم إلا العذر فقبل ذلك منهم، ونهى عن كلام الذين خلفوا. قال الزهري: "وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب" فساق الحديث بطوله. قوله: "وكان قائد كعب من بنيه" بفتح الموحدة وكسر النون بعدها تحتانية ساكنة، وقع في رواية القابسي هنا وكذا لابن السكن في الجهاد "من بيته" بفتح الموحدة وسكون التحتانية بعدها مثناة، والأول هو الصواب. وفي رواية معقل عن ابن شهاب عند مسلم: "وكان قائد كعب حين أصيب بصره وكان أعلم قومه وأوعاهم لأحاديث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" . قوله: "حين تخلف" أي زمان تخلفه. وقوله: "عن قصة" متعلق بقوله يحدث. قوله: "إلا في غزوة تبوك" زاد أحمد من رواية معمر "وهي آخر غزوة غزاها" وهذه الزيادة رواها موسى بن عقبة عن ابن شهاب بغير إسناد، ومثله في زيادات المغازي ليونس بن بكير من مرسل الحسن. وقوله: "ولم يعاتب أحدا" تقدم في غزوة بدر بهذا السند "ولم يعاتب الله أحدا" . قوله: "تواثقنا" بمثلثة وقاف أي أخذ بعضنا على بعض الميثاق لما تبايعنا على الإسلام والجهاد. قوله: "وما أحب أن لي بها مشهد بدر" أي أن لي بدلها. قوله: "وإن كانت بدر أذكر في الناس" أي أعظم ذكرا. وفي رواية يونس عن ابن شهاب عند مسلم: "وإن كانت بدر أكثر ذكرا في الناس منها" ولأحمد من طريق معمر ابن شهاب "ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لبدر" . قوله: "أقوى ولا أيسر" زاد مسلم: "مني" . قوله: "ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها" أي أوهم غيرها، والتورية أن يذكر لفظا يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر فيوهم إرادة القريب وهو يريد البعيد. وزاد أبو داود من طريق محمد بن ثور عن معمر عن الزهري "وكان يقول: الحرب خدعة" . "تنبيه" : هذه القطعة من الحديث أفردت منه، وقد تقدمت في الجهاد بهذا الإسناد، وزاد فيه من طريق يونس عن الزهري "وقلما كان يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس" . وللنسائي من طريق ابن وهب عن يونس "في سفر جهاد ولا غيره: "وله من وجه آخر" وخرج في غزوة تبوك يوم الخميس" . قوله: "وعدوا كثيرا" في رواية: "وغزو عدو كبير" . قوله: "فجلى" بالجيم وتشديد اللام ويجوز تخفيفها أي أوضح. قوله: "أهبة غزوهم" في رواية الكشميهني: "أهبة عدوهم" والأهبة بضم الهمزة وسكون الهاء ما يحتاج إليه في السفر والحرب. قوله: "ولا يجمعهم كتاب حافظ" بالتنوين فيهما. وفي رواية مسلم بالإضافة، وزاد في رواية معقل "يزيدون على عشرة آلاف، ولا يجمع ديوان حافظ" وللحاكم في "الإكليل" من حديث معاذ "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفا" وبهذه العدة جزم ابن إسحاق

(8/117)


وأورده الواقدي بسند آخر موصول وزاد: "أنه كان معه عشرة آلاف فرس" فتحمل رواية معقل على إرادة عدد الفرسان. ولابن مردويه "ولا يجمعهم ديوان حافظ" يعني كعب بذلك الديوان يقول: لا يجمعهم ديوان مكتوب، وهو يقوي رواية التنوين، وقد نقل عن أبي زرعة الرازي أنهم كانوا في غزوة تبوك أربعين ألفا، ولا تخالف الرواية التي في "الإكليل" أكثر من ثلاثين ألفا لاحتمال أن يكون من قال أربعين ألفا جبر الكسر، وقوله يريد الديوان هو كلام الزهري، وأراد بذلك الاحتراز عما وقع في حديث حذيفة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام" وقد ثبت أن أول من دون الديوان عمر رضي الله عنه. قوله: "قال كعب" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "فما رجل" في رواية مسلم: "فقل رجل" . قوله: "إلا ظن أنه سيخفى" في رواية الكشميهني: "أن سيخفى" بتخفيف النون بلا هاء. وفي رواية مسلم: "أن ذلك سيخفى له" . قوله: "حين طابت الثمار والظلال" في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب "في قيظ شديد في ليالي الخريف والناس خارفون في نخيلهم" وفي رواية أحمد من طريق معمر "وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاز وخفة الحاذ، وأنا في ذلك أصغو إلى الظلال والثمار" وقوله: "الحاذ" بحاء مهملة وتخفيف الذال المعجمة هو الحال وزنا ومعنى. وقوله: "أصغو" بصاد مهملة وضم المعجمة أي أميل، ويروى "أصعر" بضم العين المهملة بعدها راء. وفي رواية ابن مردويه "فالناس إليها صعر" . قوله: "حتى اشتد الناس الجد" بكسر الجيم وهو الجد في الشيء والمبالغة فيه، وضبطوا الناس بالرفع على أنه الفاعل والجد بالنصب على نزع الخافض، أو هو نعت لمصدر محذوف أي اشتد الناس الاشتداد الجد، وعند ابن السكن "اشتد بالناس الجد" برفع الجد وزيادة الموحدة وهو الذي في رواية أحمد ومسلم وغيرهما. وفي رواية الكشميهني: "بالناس الجد" والجد على هذا فاعل وهو مرفوع وهي رواية مسلم، وعند ابن مردويه "حتى شمر الناس الجد" وهو يؤيد التوجيه الأول. قوله: "فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي" بفتح الجيم وبكسرها وعند ابن أبي شيبة وابن جرير من وجه آخر عن كعب "فأخذت في جهازي، فأمسيت ولم أفرع، فقلت أتجهز في غد". قوله: "حتى أسرعوا" وفي رواية الكشميهني: "حتى شرعوا" بالشين المعجمة وهو تصحيف. قوله: "وليتني فعلت" زاد في رواية ابن مردويه "ولم أفعل" . قوله: "وتفارط" بالفاء والطاء والمهملة أي فات وسبق، والفرط السبق. وفي رواية ابن أبي شيبة: "حتى أمعن القوم وأسرعوا، فطفقت أغدو للتجهيز وتشغلني الرجال، فأجمعت القعود حين سبقني القوم" وفي رواية أحمد من طريق عمر بن كثير عن كعب "فقلت أيهات، سار الناس ثلاثا، فأقمت" . قوله: "مغموصا" بالغين المعجمة والصاد المهملة أي مطعونا عليه في دينه متهما بالنفاق، وقيل معناه مستحقرا، تقول غمصت فلانا إذا استحقرته. قوله: "حتى بلغ تبوك" بغير صرف للأكثر. وفي رواية: "تبوكا" على إرادة المكان. قوله: "فقال رجل من بني سلمة" بكسر اللام. وفي رواية معمر "من قومي" وعند الواقدي أنه عبد الله بن أنيس، وهذا غير الجهني الصحابي المشهور، وقد ذكر الواقدي فيمن استشهد باليمامة عبد الله بن أنيس السلمي بفتحتين فهو هذا، والذي رد عليه هو معاذ بن جبل اتفاقا إلا ما حكى الواقدي. وفي رواية أنه أبو قتادة، قال والأول أثبت. قوله: "حبسه برداه والنظر في عطفه" بكسر العين المهملة وكني بذلك عن حسنه وبهجته، والعرب نصف الرداء بصفة الحسن وتسميه عطفا لوقوعه على عطفي الرجل. قوله: "فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم" فبينما هو كذلك رأى رجلا منتصبا يزول به السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة" فإذا هو أبو خيثمة

(8/118)


الأنصاري: قلت: واسم أبي خيثمة هذا سعد بن خيثمة، كذا أخرجه الطبراني من حديثه ولفظه: "تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت حائطا فرأيت عريشا قد رش بالماء، ورأيت زوجتي فقلت: ما هذا بإنصاف، رسول الله صلى الله عليه وسلم في السموم والحرور وأنا في الظل والنعيم، فقمت إلي ناضح لي وتمرات فخرجت، فلما طلعت على العسكر فرآني الناس قال النبي: كن أبا خيثمة، فجئت، فدعا لي" وذكره ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم مرسلا، وذكر الواقدي أن اسمه عبد الله بن خيثمة. وقال ابن شهاب: اسمه مالك بن قيس. قوله: "فلما بلغني أنه توجه قافلا" في رواية مسلم: "فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وذكر ابن سعد أن قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان في رمضان. قوله: "حضرني همي" في رواية الكشميهني: "همني" وفي رواية مسلم: "بثي" بالموحدة ثم المثلثة. وفي رواية ابن أبي شيبة: "فطففت أعد العذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء وأهيئ الكلام" . قوله: "وأجمعت صدقه" أي جزمت بذلك وعقدت عليه قصدي. وفي رواية ابن أبي شيبة: "وعرفت أنه لا ينجيني منه إلا الصدق" . قوله: "وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس" هذه القطعة من هذا الحديث أفردت في الجهاد، وقد أخرجه أحمد من طريق ابن جريج عن ابن شهاب بلفظ: "لا يقدم من سفر إلا في الضحى فيبدأ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين ويقعد" وفي رواية ابن أبي شيبة ثم يدخل على أهله، وفي حديث أبي ثعلبة عند 1 والطبراني "كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم يثني بفاطمة ثم يأتي أزواجه" وفي لفظ: "ثم بدأ ببيت فاطمة ثم أتى بيوت نسائه" . قوله: "جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا" ذكر الواقدي أن هذا العدد كان من منافقي الأنصار، وأن المعذرين من الأعراب كانوا أيضا اثنين وثمانين رجلا من بني غفار وغيرهم، وأن عبد الله بن أبي ومن أطاعه من قومه كانوا من غير هؤلاء وكانوا عددا كثيرا. قوله: "فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب" وعند ابن عائذ في المغازي "فأعرض عنه، فقال: يا نبي الله لم تعرض عني؟ فوالله ما نافقت ولا ارتبت ولا بدلت، قال: فما خلفك"؟ . قوله: "والله لقد أعطيت جدلا" أي فصاحة وقوة كلام بحيث أخرج عن عهدة ما ينسب إلي بما يقبل ولا يرد. قوله: "تجد علي" بكسر الجيم أي تغضب. قوله: "حتى يقضي الله فيك، فقمت" زاد النسائي من طريق يونس عن الزهري "فمضيت" . قوله: "وثار رجال" أي وثبوا. قوله: "كافيك ذنبك" بالنصب على نزع الخافض أو على المفعولية أيضا، واستغفار بالرفع على أنه الفاعل. وعند ابن عائذ "فقال كعب. ما كنت لأجمع أمرين. أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكذبه. فقالوا: إنك شاعر جريء، فقال: أما على الكذب فلا" زاد في رواية ابن أبي شيبة: "كما صنع ذلك بغيرك فقبل منهم عذرهم واستغفر لهم" . قوله: "وقيل لهم مثل ما قيل لك" في رواية ابن مردويه "وقال لهما مثل ما قيل لك" . قوله: "يؤنبوني" بنون ثقيلة ثم موحدة من التأنيب وهو اللوم العنيف. قوله: "مرارة" بضم الميم وراءين الأولى خفيفة، و قوله: "العمري" بفتح المهملة وسكون الميم نسبة إلى بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، ووقع لبعضهم العامري وهو خطأ. وقوله: "ابن الربيع" هو المشهور، ووقع في رواية المسلم: "ابن ربيعة" وفي حديث مجمع بن جارية عند ابن مردويه "مرارة بن ربعي" وهو خطأ، وكذا ما وقع عند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن من تسميته "ربيع بن مرارة" وهو مقلوب، وذكر في هذا المرسل أن سبب تخلفه أنه كان له حائط حين زهي فقال في نفسه: قد
ـــــــ
1 بياض بأصله

(8/119)


غزوت قبلها، فلو أقمت عامي هذا. فلما تذكر ذنبه قال: اللهم إني أشهدك أني قد تصدقت به في سبيلك. وفيه أن الآخر يعني هلالا كان له أهل تفرقوا ثم اجتمعوا فقال: لو أقمت هذا العام عندهم، فلما تذكر قال: اللهم لك علي أن لا أرجع إلى أهل ولا مال. قوله: "وهلال بن أمية الواقفي" بقاف ثم فاء نسبة إلى بني واقف بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس. قوله: "فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا" هكذا وقع هنا. وظاهره أنه من كلام كعب بن مالك، وهو مقتضى صنيع البخاري، وقد قررت ذلك واضحا في غزوة بدر. وممن جزم بأنهما شهدا بدرا أبو بكر الأثرم، وتعقبه ابن الجوزي ونسبه إلى الغلط فلم يصب، واستدل بعض المتأخرين لكونهما لم يشهدا بدرا بما وقع في قصة حاطب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهجره ولا عاقبه مع كونه جس عليه، بل قال لعمر لما هم بقتله: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" . قال: وأين ذنب التخلف من ذنب الجس؟. قلت: وليس ما استدل به بواضح، لأنه يقتضي أن البدري عنده إذا جنى جناية ولو كبرت لا يعاقب عليها، وليس كذلك، فهذا عمر مع كونه المخاطب بقصة حاطب فقد جلد قدامة بن مظعون الحد لما شرب الخمر وهو بدري كما تقدم، وإنما لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم حاطبا ولا هجره لأنه قبل عذره في أنه إنما كاتب قريشا خشية على أهله وولده، وأراد أن يتخذ له عندهم يدا فعذره بذلك، بخلاف تخلف كعب وصاحبيه فإنهم لم يكن لهم عذر أصلا. والله أعلم. قوله: "لي فيهما أسوة" بكسر الهمزة ويجوز ضمها، قال ابن التين: التأسي بالنظير ينفع في الدنيا بخلاف الآخرة، فقد قال تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} الآية. قوله: "فمضيت حين ذكروهما لي" في رواية معمر "فقلت والله لا أرجع إليه في هذا أبدا" . قوله: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة" بالرفع وهو في موضع نصب على الاختصاص أي متخصصين بذلك دون بقية الناس. قوله: "حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي بالتي أعرف" وفي رواية معمر "وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالحيطان التي نعرف، وتنكر لنا الناس حتى ما هم الذين نعرف" وهذا يجده الحزين والمهموم في كل شيء حتى قد يجده في نفسه، وزاد المصنف في التفسير من طريق إسحاق بن راشد عن الزهري "وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يموت فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي" ، وعند ابن عائذ "حتى وجلوا أشد الوجل وصاروا مثل الرهبان" . قوله: "هل حرك شفتيه برد السلام علي" لم يجزم كعب بتحريك شفتيه عليه السلام، ولعل ذلك بسبب أنه لم يكن يديم النظر إليه من الخجل. قوله: "فأسارقه" بالسين المهملة والقاف أي أنظر إليه في خفية. قوله: "من جفوة الناس" بفتح الجيم وسكون الفاء أي إعراضهم. وفي رواية ابن أبي شيبة: "وطفقنا نمشي في الناس، لا يكلمنا أحد ولا يرد علينا سلاما" . قوله: "حتى تسورت" أي علوت سور الدار. قوله: "جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي" ذكر أنه ابن عمه لكونهما معا من بني سلمة، وليس هو ابن عمه أخي أبيه الأقرب. و قوله: "أنشدك" بضم المعجمة وفتح أوله أي أسألك، و قوله: "الله ورسوله أعلم" ليس هو تكليما لكعب لأنه لم ينو به ذلك كما سيأتي تقريره. قوله: "وتوليت حتى تسورت الحائط" وفي رواية معمر "فلم أملك نفسي أن بكيت، ثم اقتحمت الحائط خارجا" . قوله: "إذا نبطي" بفتح النون والموحدة. قوله: "من أنباط أهل الشام" نسبة إلى استنباط الماء واستخراجه، وهؤلاء كانوا في ذلك الوقت أهل الفلاحة وهذا النبطي الشامي كان نصرانيا كما وقع في رواية معمر "إذا نصراني جاء بطعام له يبيعه" ولم أقف على اسم هذا النصراني، ويقال إن النبط ينسبون إلى

(8/120)


نبط بن هانب بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح. قوله: "من ملك غسان" بفتح المعجمة وسين مهملة ثقيلة هو جبلة بن الأيهم، جزم بذلك ابن عائذ. وعند الواقدي الحارث بن أبي شمر، ويقال جبلة بن الأيهم. وفي رواية ابن مردويه "فكتب إلي كتابا في سرقة من حرير" . قوله: "ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة" بسكون المعجمة ويجوز كسرها، أي حيث يضيع حقك. وعند ابن عائذ "فإن لك متحولا" بالمهملة وفتح الواو، أي مكانا تتحول إليه. قوله: "فالحق بنا نواسك" بضم النون وكسر المهملة من المواساة، وزاد في رواية ابن أبي شيبة: "في أموالنا. فقلت: إنا لله، قد طمع في أهل الكفر" ونحوه لابن مردويه. قوله: "فتيممت" أي قصدت، والتنور ما يخبز فيه، وقوله فسجرته بسين مهملة وجيم أي أوقدته، وأنت الكتاب على معنى الصحيفة. وفي رواية ابن مردويه "فعمدت بها إلى تنور به فسجرته بها" . ودل صنيع كعب هذا على قوة إيمانه ومحبته لله ولرسوله، وإلا فمن صار في مثل حاله من الهجر والإعراض قد يضعف عن احتمال ذلك وتحمله الرغبة في الجاه والمال على هجران من هجره ولا سيما مع أمنه من الملك الذي استدعاه إليه أنه لا يكرهه على فراق دينه، لكن لما احتمل عنده أنه لا يأمن من الافتتان حسم المادة وأحرق الكتاب ومنع الجواب، هذا مع كونه من الشعراء الذين طبعت نفوسهم على الرغبة، ولا سيما بعد الاستدعاء والحث على الوصول إلى المقصود من الجاه والمال، ولا سيما والذي استدعاه قريب ونسيبه، ومع ذلك فغلب عليه دينه وقوي عنده يقينه، ورجح ما هو فيه من النكد والتعذيب على ما دعي إليه من الراحة والنعيم، حبا في الله ورسوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" وعند ابن عائذ أنه شكا حاله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما زال إعراضك عني حتى رغب في أهل الشرك. قوله: "إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم" لم أقف على اسمه، ثم وجدت في رواية الواقدي أنه خزيمة بن ثابت، قال: وهو الرسول إلى هلال ومرارة بذلك. قوله: "أن تعتزل امرأتك" هي عميرة بنت جبير بن صخر بن أمية الأنصارية أم أولاده الثلاثة عبد الله وعبيد الله ومعبد، ويقال اسم امرأته التي كانت يومئذ عنده خيرة بالمعجمة المفتوحة ثم التحتانية. قوله: "الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله" زاد النسائي من طريق معقل بن عبيد الله عن الزهري "فلحقت بهم" . قوله: "فجاءت امرأة هلال" هي خولة بنت عاصم. قوله: "فقال لي بعض أهلي" لم أقف على اسمه، ويشكل مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام الثلاثة، ويجاب بأنه لعله بعض ولده أو من النساء، ولم يقع النهي عن كلام الثلاثة للنساء اللائي في بيوتهم، أو الذي كلمه بذلك كان منافقا، أو كان ممن يخدمه ولم يدخل في النهي. قوله: "فأوفى" بالفاء مقصور أي أشرف واطلع. قوله: "على جبل سلع" بفتح المهملة وسكون اللام. وفي رواية معمر "من ذروة سلع" أي أعلاه، وزاد ابن مردويه "وكنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع فكنت أكون فيها" ونحوه لابن عائذ وزاد: "أكون فيها نهارا" . قوله: "يا كعب بن مالك أبشر" في رواية عمر بن كثير عن كعب عند أحمد "إذ سمعت رجلا على الثنية يقول: كعبا كعبا، حتى دنا مني فقال: بشروا كعبا" . قوله: "فخررت ساجدا وقد عرفت أنه جاء فرج" وعند ابن عائذ "فخر ساجدا يبكي فرحا بالتوبة" . قوله: "وآذن" بالمد وفتح المعجمة أي أعلم، وللكشميهني بغير مد وبالكسر، ووقع في رواية إسحاق بن راشد وفي رواية معمر "فأنزل الله توبتنا على نبيه حين بقي الثلث الأخير من الليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، وكانت أم سلمة محسنة في شأني معتنية بأمري فقال: يا أم سلمة تيب على كعب، قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره؟ قال: إذا يحطمكم الناس فيمنعوكم النوم سائر

(8/121)


الليلة. حتى إذا صلى الفجر آذن بتوبة الله علينا" . قوله: "وركض إلي رجل فرسا" لم أقف على اسمه، ويحتمل أن يكون هو حمزة بن عمرو الأسلمي. قوله: "وسعى ساع من أسلم" هو حمزة بن عمرو ورواه الواقدي، وعند ابن عائذ أن اللذين سعيا أبو بكر وعمر، لكنه صدره بقوله: "زعموا" وعند الواقدي "وكان الذي أوفى على سلع أبا بكر الصديق فصاح: قد تاب الله على كعب. والذي خرج على فرسه الزبير بن العوام. قال: وكان الذي بشرني فنزعت له ثوبي حمزة بن عمرو الأسلمي. قال: وكان الذي بشر هلال بن أمية بتوبته سعيد بن زيد، قال: وخرجت إلى بني واقف فبشرته فسجد. قال سعيد: فما ظننته يرفع رأسه حتى تخرج نفسه" يعني لما كان فيه من الجهد فقد قيل إنه امتنع من الطعام حتى كان يواصل الأيام صائما ولا يفتر من البكاء، وكان الذي بشر مرارة بنويته سلكان بن سلامة أو سلمة بن سلامة بن وقش. قوله: "والله ما أملك غيرهما يومئذ" يريد من جنس الثياب، وإلا فقد تقدم أنه كان عنده راحلتان، وسيأتي أنه استأذن أن يخرج من ماله صدقة. ثم وجدت في رواية ابن أبي شيبة التصريح بذلك ففيها "ووالله ما أملك يومئذ ثوبين غيرهما:"وزاد ابن عائذ من وجه آخر عن الزهري "فلبسهما" . قوله: "واستعرت ثوبين" في رواية الواقدي "من أبي قتادة" . قوله: "وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية مسلم: "فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم" . قوله: "فوجا فوجا" أي جماعة جماعة. قوله: "ليهنك بكسر النون" وزعم ابن التين أنه بفتحها، بل قال السفاقسي إنه أصوب لأنه من الهناء، وفيه نظر. قوله: "ولا أنساها لطلحة" قالوا سبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بينه وبين طلحة لما آخى بين المهاجرين والأنصار، والذي ذكره أهل المغازي أنه كان أخا الزبير لكن كان الزبير أخا طلحة في أخوه المهاجرين فهو أخو أخيه. قوله: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " استشكل هذا الإطلاق بيوم إسلامه فإنه مر عليه بعد أن ولدته أمه وهو خير أيامه، فقيل هو مستثنى، تقديرا وإن لم ينطق به لعدم خفائه، والأحسن في الجواب أن يوم توبته مكمل ليوم إسلامه، فيوم إسلامه بداية سعادته ويوم توبته مكمل لها فهو خير جميع أيامه، وإن كان يوم إسلامه خيرها فيوم توبته المضاف إلى إسلامه خير من يوم إسلامه المجرد عنها. والله أعلم. قوله: "قال: لا، بل من عند الله" زاد في رواية ابن أبي شيبة: "إنكم صدقتم الله فصدقكم" . قوله: "حتى كأنه قطعة قمر" في رواية إسحاق بن راشد في التفسير "حتى كأنه قطعة من التمر" ويسأل عن السر في التقييد بالقطعة مع كثرة ما ورد في كلام البلغاء من تشبيه الوجه بالقمر بغير تقييد، وقد تقدم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم تشبيههم له بالشمس طالعة وغير ذلك، وكان كعب بن مالك قائل هذا من شعراء الصحابة وحاله في ذلك مشهور، فلا بد في التقييد بذلك من حكمة. وما قيل في ذلك من الاحتراز من السواد الذي في القمر ليس بقوي، لأن المراد تشبيهه بما في القمر من الضياء والاستنارة، وهو في تمامه لا يكون فيها أقل مما في القطعة المجردة. وقد ذكرت في صفة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك توجيهات: ومنها أنه للإشارة إلى موضع الاستنارة وهو الجبين وفيه يظهر السرور كما قالت عائشة: مسرورا تبرق أسارير وجهه، فكأن التشبيه وقع على بعض الوجه فناسب أن يشبه ببعض القمر. قوله: "وكنا نعرف ذلك منه" في رواية الكشميهني: "فيه" ، وفيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من كمال الشفقة على أمته والرأفة بهم والفرح بما يسرهم. وعند ابن مردويه من وجه آخر عن كعب بن مالك "لما نزلت توبتي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقبلت يده وركبته" . قوله: "إن من توبتي أن أنخلع من مالي" أي أخرج من جميع مالي. قوله: "صدقة" هو مصدر في موضع الحال أي متصدقا، أو ضمن أنخلع معنى أتصدق وهو مصدر أيضاء وقوله: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك"

(8/122)


في رواية أبي داود عن كعب أنه قال: "إن من توبتي أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة. قال: لا، قلت: نصفه. قال: لا، قلت: فثلثه. قال: نعم" ولابن مردويه من طريق ابن عيينة عن الزهري "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يجزي عنك من ذلك الثلث" ونحوه لأحمد في قصة أبي لبابة حين قال: "إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله صدقة لله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يجزي عنك الثلث" . قوله: "فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله" أي أنعم عليه. وقوله: "في صدق الحديث مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني" وكذلك قوله بعد ذلك "فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني إلى الإسلام أعظم من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"ففي قوله: "أحسن وأعظم" شاهد على أن هذا السياق يورد ويراد به نفي الأفضلية لا المساواة، لأن كعبا شاركه في ذلك رفيقان، وقد نفى أن يكون لحد حصل له أحسن مما حصل له، وهو كذلك لكنه لم ينف المساواة. قوله: "أن لا أكون كذبته" لا زائدة كما نبه عليه عياض. قوله: "وكنا تخلفنا" بضم أوله وكسر اللام وفي رواية مسلم وغيره: "خلفنا" بضم المعجمة من غير شيء قبلها. قوله: "وأرجا" مهموزا أي أخر وزنا ومعنى، وحاصله أن كعبا فسر قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} أي أخروا حتى تاب الله عليهم، لا أن المراد أنهم خلفوا عن الغزو، وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر عمن سمع عكرمة في قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} قال: خلفوا عن التوبة، ولابن جرير من طريق قتادة نحوه، قال ابن جرير: فمعنى الكلام لقد تاب الله على الذين أخرت توبتهم. وفي قصة كعب من الفوائد غير ما تقدم جواز طلب أموال الكفار من ذوي الحرب، وجواز الغزو في الشهر الحرام، والتصريح بجهة الغزو إذا لم تقتض المصلحة ستره، وأن الإمام إذا استنفر الجيش عموما لزمهم النفير ولحق اللوم بكل فرد فرد أن لو تخلف. وقال السهيلي: إنما اشتد الغضب على من تخلف وإن كان الجهاد فرض كفاية لكنه في حق الأنصار خاصة فرض عين لأنهم بايعوا على ذلك، ومصداق ذلك قولهم وهم يحفرون الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
فكان تخلفهم عن هذه الغزوة كبيرة لأنها كالنكث لبيعتهم، كذا قال ابن بطال. قال السهيلي: ولا أعرف له وجها غير الذي قال. قلت: وقد ذكرت وجها غير الذي ذكره ولعله أقعد، ويؤيده قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} الآية. وعند الشافعية وجه أن الجهاد كان فرض عين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا فيتوجه العتاب على من تخلف مطلقا. وفيها أن العاجز عن الخروج بنفسه أو بماله لا لوم عليه، واستخلاف من يقوم مقام الإمام على أهله والضعفة، وفيها ترك قتل المنافقين، ويستنبط منه ترك قتل الزنديق إذا أظهر التوبة. وأجاب من أجازه بأن الترك كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة التأليف على الإسلام. وفيها عظم أمر المعصية، وقد نبه الحسن البصري على ذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم عنه قال: يا سبحان الله ما أكل هؤلاء الثلاثة مالا حراما ولا سفكوا دما حراما ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر؟ وفيها أن القوي في الدين يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ الضعيف في الدين، وجواز إخبار المرء عن تقصيره وتفريطه وعن سبب ذلك وما آل إليه أمره تحذيرا ونصيحة لغيره، وجواز مدح المرء بما فيه من الخير إذا أمن الفتنة، وتسلية نفسه بما لم يحصل له بما وقع لنظيره، وفضل أهل بدر والعقبة، والحلف للتأكيد من غير استحلاف، والتورية عن المقصد، ورد الغيبة، وجواز ترك وطء الزوجة مدة.

(8/123)


وفيه أن المرء إذا لاحت له فرصة في الطاعة فحقه أن يبادر إليها ولا يسوف بها لئلا يحرمها كما قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} ومثله قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ونسأل الله تعالى أن يلهمنا المبادرة إلى طاعته، وأن لا يسلبنا ما خولنا من نعمته. وفيها جواز تمني ما فات من الخير، وأن الإمام لا يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور بل يذكره ليراجع التوبة. وجواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن عن حمية لله ورسوله. وفيها جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد وهم الطاعن أو غلطه. وفيها أن المستحب للقادم أن يكون على وضوء، وأن يبدأ بالمسجد قبل بيته فيصلي ثم يجلس لمن يسلم عليه، ومشروعية السلام على القادم وتلقيه، والحكم بالظاهر، وقبول المعاذير واستحباب بكاء العاصي أسفا على ما فاته من الخير. وفيها إجراء الأحكام على الظاهر ووكول السرائر إلى الله تعالى وفيها ترك السلام على من أذنب، وجواز هجره أكثر من ثلاث. وأما النهي عن الهجر فوق الثلاث فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعيا، وأن التبسم قد يكون عن غضب كما يكون عن تعجب ولا يختص بالسرور. ومعاتبة الكبير أصحابه ومن يعز عليه دون غيره. وفيها فائدة الصدق وشؤم عاقبة الكذب. وفيها العمل بمفهوم اللقب إذا حفته قرينة، لقوله صلى الله عليه وسلم لما حدثه كعب "أما هذا فقد صدق" فإنه يشعر بأن من سواه كذب، لكن ليس على عمومه في حق كل أحد سواه، لأن مرارة وهلالا أيضا قد صدقا، فيختص الكذب بمن حلف واعتذر، لا بمن اعترف، ولهذا عاقب من صدق بالتأديب الذي ظهرت فائدته عن قرب، وأخر من كذب للعقاب الطويل، وفي الحديث الصحيح "إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له عقوبته في الدنيا، وإذا أراد به شرا أمسك عنه عقوبته فيرد القيامة بذنوبه" قيل وإنما غلظ في حق هؤلاء الثلاثة لأنهم تركوا الواجب عليهم من غير عذر، ويدل عليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} وقول الأنصار:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
وفيها تبريد حر المصيبة بالتأسي بالنظير، وفيها عظم مقدار الصدق في القول والفعل، وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به، وأن من عوقب بالهجر يعذر في التخلف عن صلاة الجماعة لأن مرارة وهلالا لم يخرجا من بيوتهما تلك المدة. وفيها سقوط رد السلام على المهجور عمن سلم عليه إذ لو كان واجبا لم يقل كعب: هل حرك شفتيه برد السلام. وفيها جواز دخول المرء دار جاره وصديقه بغير إذنه ومن غير الباب إذا علم رضاه. وفيها أن قول المرء: "الله ورسوله أعلم" ليس بخطاب ولا كلام ولا يحنث به من حلف أن لا يكلم الأخر إذا لم ينو به مكالمته وإنما قال أبو قتادة ذلك لما ألح عليه كعب، وإلا فقد تقدم أن رسول ملك غسان لما سأل عن كعب جعل الناس يشيرون له إلى كعب ولا يتكلمون بقولهم مثلا هذا كعب مبالغة في هجره والإعراض عنه، وفيها أن مسارقة النظر في الصلاة لا تقدح في صحتها، وإيثار طاعة الرسول على مودة القريب، وخدمة المرأة زوجها، والاحتياط لمجانبة ما يخشى الوقوع فيه، وجواز تحريق ما فيه اسم الله للمصلحة. وفيها مشروعية سجود الشكر والاستباق إلى البشارة بالخير وإعطاء البشير أنفس ما يحضر الذي يأتيه بالبشارة، وتهنئة من تجددت له نعمة، والقيام إليه إذا أقبل، واجتماع الناس عند الإمام في الأمور المهمة، وسروره بما يسر أتباعه، ومشروعية العارية، ومصافحة القادم والقيام له، والتزام المداومة على الخير الذي ينتفع به، واستحباب الصدقة عند التوبة، وأن من نذر الصدقة

(8/124)


بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه. وسيأتي البحث فيه في كتاب النذر إن شاء الله تعالى. وقال ابن التين: فيه أن كعب بن مالك من المهاجرين الأولين الذين صلوا إلى القبلتين، كذا قال، وليس كعب من المهاجرين إنما هو من السابقين من الأنصار.

(8/125)


80- باب نُزُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجْرَ
4419- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ قَالَ لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى أَجَازَ الْوَادِي" .
4420- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِ الْحِجْرِ: "لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُم" .
قوله: "باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر" بكسر المهملة وسكون الجيم، وهي منازل ثمود. زعم بعضهم أنه مر به ولم ينزل، ويرده التصريح في حديث ابن عمر بأنه "لما نزل الحجر أمرهم أن لا يشربوا" وقد تقدم حديث ابن عمر في بئر ثمود، وقد تقدمت مباحثه في أحاديث الأنبياء. وقوله: "أن يصيبكم" بفتح الهمزة مفعول له، أي كراهة الإصابة. وقوله: "أجاز الوادي" أي قطعه. قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لأصحاب الحجر لا تدخلوا "قال الكرماني: أي قال لأصحابه الذين معه في ذلك الموضع، وأضيف إلى الحجر لعبورهم عليه. وقد تكلم في ذلك وتعسف، وليس كما قال، بل اللام في قوله: "لأصحاب الحجر" بمعنى عن، وحذف المقول لهم ليعم كل سامع، والتقدير: قال لأمته عن أصحاب الحجر وهم ثمود: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، أي ثمود: وهذا واضح لإخفاء به.

(8/125)


باب حديث للمغيرة بن شعبة وحديث لأنس
...
81- باب 4421- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: "ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقُمْتُ أَسْكُبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذَهَبَ يَغْسِلُ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ عَلَيْهِ كُمُّ الْجُبَّةِ فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ جُبَّتِهِ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْه" .
4422- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ: "أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: هَذِهِ طَابَةُ وَهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّه".

(8/125)


82- باب كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ
4424- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّق" .
4425- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: "لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْجَمَلِ بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ قَالَ لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَة" .
4426- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ يَقُولُ "أَذْكُرُ أَنِّي خَرَجْتُ مَعَ الْغِلْمَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ نَتَلَقَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً مَعَ الصِّبْيَانِ"
4427- حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن الزهري عن السائب "أذكر أني خرجت مع

(8/126)


الصبيان نتلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك" .
قوله: "باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر" أما كسرى فهو ابن برويز بن هرمز بن أنو شروان. وهو كسرى الكبير المشهور، وقيل إن الذي بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم هو أنو شروان، وفيه نظر لما سيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن زربان ابنه يقتله، والذي قتله ابنه هو كسرى بن برويز بن هرمز. وكسرى بفتح الكاف وبكسرها لقب كل من تملك الفرس، ومعناه بالعربية المظفري وقد تقدم الكلام في ضبط كافه في "علامات النبوة" ، وأما قيصر فهو هرقل، وقد تقدم شأنه في أول الكتاب. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه، ويعقوب بن إبراهيم أي ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان، وقد تقدم للمصنف في العلم عاليا عن إبراهيم بن سعد. قوله: "مع عبد الله بن حذافة" هذا هو المعتمد، ووقع في رواية عمر بن شبة أنه خنيس بن حذافة، وهو غلط فإنه مات بأحد فتأيمت منه حفصة وبعث الرسل كان بعد الهدنة سنة سبع، ووقع في ترجمة عبد الله بن عيسى أخي كامل بن عدي من طريقه عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قصة اتخاذ الخاتم وفيه: "وبعث كتابا إلى كسرى بن هرمز بعث به مع عمر بن الخطاب" كذا قال، وعبد الله ضعيف فإن ثبت فلعله كتب إلى ملك فارس مرتين وذلك في أوائل سنة سبع. قوله: "إلى عظيم البحرين" هو المنذر ساوى العبدي. قوله: "فدفعه" الفاء عاطفة على محذوف تقدير فتوجه إليه فأعطاه الكتاب فأعطاه لقاصده عنده فتوجه به فدفعه إلى كسرى، ويحتمل أن يكون المنذر توجه بنفسه فلا يحتاج إلى القاصد، ويحتمل أن يكون القاصد لم يباشر إعطاء كسرى بنفسه كما هو الأغلب من حال الملوك فيزداد التقدير. قوله: "فلما قرا" كذا للأكثر بحذف المفعول، وللكشميهني: "فلما قرأه" وفيه مجاز فإنه لم يقرأه بنفسه وإنما قرئ عليه كما سيأتي. قوله: "مزقه" أي قطعه. قوله: "فحسبت أن ابن المسيب" القائل هو الزهري وهو موصول بالإسناد المذكور، ووقع في جميع الطرق مرسلا، ويحتمل أن يكون ابن المسيب سمعه من عبد الله بن حذافة صاحب القصة، فإن ابن سعد ذكر من حديثه أنه قال: "فقرأ عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فمزقه" . قوله: "فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي على كسرى وجنوده. قوله: "أن يمزقوا كل ممزق" بفتح الزاي أي يتفرقوا ويتقطعوا وفي حديث عبد الله بن حذافة "فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم مزق ملكه" وكتب إلى باذان عامله على اليمن: ابعث من عندك رجلين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز، فكتب باذان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبلغا صاحبكما أن ربي قتل ربه في هذه الليلة" ، قال: وكان ذلك ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع، وإن الله سلط عليه ابنه شيرويه فقتله. وعن الزهري قال: بلغني أن كسرى كتب إلى باذان بلغني أن رجلا من قريش يزعم أنه نبي، فسر إليه فإن تاب وإلا أبعث برأسه، فذكر القصة قال: فلما بلغ باذان أسلم هو ومن معه من الفرس.
" تنبيه " جزم ابن سعد بأن بعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى كان في سنة سبع في زمن الهدنة، وهو عند الواقدي من حديث الشفاء بنت عبد الله بلفظ: "منصرفه من الحديبية" وصنيع البخاري يقتضي أنه كان في سنة تسع، فإنه ذكره بعد غزوة تبوك، وذكر في آخر الباب حديث السائب أنه تلقى النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من تبوك إشارة إلى ما ذكرت، وقد ذكر أهل المغازي أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بتبوك كتب إلى قيصر وغيره، وهي غير المرة التي كتب إليه مع دحية، فإنها كانت في زمن الهدنة كما صرح به في الخبر وذلك سنة سبع. ووقع عند مسلم عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر" الحديث وفيه: "وإلى كل جبار عنيد" وروى الطبراني من حديث المسور بن مخرمة قال: "خرج

(8/127)


رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فقال: " إن الله بعثني للناس كافة. فأدوا عني ولا تختلفوا علي". فبعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى، وسليط بن عمرو إلى هوذة بن علي باليمامة، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى بهجر، وعمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجلندي بعمان، ودحية إلى قيصر، وشجاع بن وهب إلى ابن أبي شمر الغساني، وعمرو بن أمية إلى النجاشي، فرجعوا جميعا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، غير عمرو بن العاص" وزاد أصحاب السير أنه بعث المهاجرين أبي أمية بن الحارث بن عبد كلال وحريرا إلى ذي الكلاع، والسائب إلى مسيلمة، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس. وفي حديث أنس الذي أشرت إليه عند مسلم أن النجاشي الذي بعث إليه مع هؤلاء غير النجاشي الذي أسلم. قوله: "حدثنا عوف" هو الأعرابي و "الحسن" هو البصري والإسناد كله بصريون، وسماع الحسن من أبي بكرة تقدم بيانه في الصلح. قوله: "نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل" فيه تقديم وتأخير، والتقدير: نفعني الله أيام الجمل بكلمه سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أي قبل ذلك، فأيام يتعلق بـ "نفعني" لا بـ "سمعتها" فإنه سمعها قبل ذلك قطعا، والمراد بأصحاب الجمل العسكر الذين كانوا مع عائشة. قوله: "بعدما كدت ألحق بأصحاب الجمل" يعني عائشة رضي الله عنها ومن معها، وسيأتي بيان هذه القصة في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى، ومحصلها أن عثمان لما قتل وبويع علي بالخلافة خرج طلحة والزبير إلى مكة موجدا عائشة وكانت قد حجت، فاجتمع رأيهم على التوجه إلى البصرة يستنفرون الناس للطلب بدم عثمان، فبلغ ذلك عليا فخرج إليهم، فكانت وقعة الجمل، ونسبت إلى الجمل الذي كانت عائشة قد ركبته وهي في هودجها تدعو الناس إلى الإصلاح، والقائل: "لما بلغ" هو أبو بكرة، وهو تفسير لقوله: "بكلمة" وفيه إطلاق الكلمة على الكلام الكثير. قوله: "ملكوا عليهم بنت كسرى" هي بوران بنت شيرويه بن كسرى بن برويز، وذلك أن شيرويه لما قتل أباه كما تقدم كان أبوه لما عرف أن ابنه قد عمل على قتله احتال على قتل ابنه بعد موته فعمل في بعض خزائنه المختصة به حقا مسموما وكتب عليه: حق الجماع، من تناول منه كذا جامع كذا. فقرأه شيرويه، فتناول منه فكان فيه هلاكه، فلم يعش بعد أبيه سوى ستة أشهر، فلما مات لم يخلف أخا لأنه كان قتل إخوته حرصا على الملك ولم يخلف ذكرا، وكرهوا خروج الملك عن ذلك البيت فملكوا المرأة واسمها بوران بضم الموحدة. ذكر ذلك ابن قتيبة في المغازي. وذكر الطبري أيضا أن أختا أرزميدخت ملكت أيضا. قال الخطابي: في الحديث أن المرأة لا تلي الإمارة ولا القضاء، وفيه أنها لا تزوج نفسها، ولا تلي العقد على غيرها، كذا قال، وهو متعقب والمنع من أن تلي الإمارة والقضاء قول الجمهور، وأجازه الطبري وهي رواية عن مالك، وعن أبي حنيفة تلي الحكم فيما تجوز قيه شهادة النساء. ومناسبة هذا الحديث للترجمة من جهة أنه تتمة قصة كسرى الذي مزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسلط الله عليه ابنه فقتله ثم قتل إخوته حتى أفضى الأمر بهم إلى تأمير المرأة، فجر ذلك إلى ذهاب ملكهم ومزقوا كما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقال سفيان مرة مع الصبيان" هو موصول، ولكن بين الراوي عنه أنه قال مرة الغلمان ومرة الصبيان، وهو بالمعنى. ثم ساقه عن شيخ آخر عن سفيان وزاد في آخره: "مقدمه من تبوك" فأنكر الداودي هذا وتبعه ابن القيم وقال: ثنية الوداع من جهة مكة لا من جهة تبوك، بل هي مقابلها كالمشرق والمغرب. قال: إلا أن يكون هناك ثنية أخرى في تلك الجهة، والثنية ما ارتفع في الأرض، وقيل الطريق في الجبل. قلت: لا يمنع كونها من جهة الحجاز أن يكون خروج المسافر إلى الشام من جهتها، وهذا واضح كما في دخول مكة من ثنية والخروج منها من أخرى، وينتهي

(8/128)


كلاهما إلى طريق واحدة، وقد روينا بسند منقطع في "الحلبيات" قول النسوة لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة: "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع" فقيل: كان ذلك عند قدومه في الهجرة وقيل عند قدومه من غزوة تبوك.
" تنبيه " : في إيراد هذا الحديث آخر هذا الباب إشارة إلى أن إرسال الكتب إلى الملوك كان في سنة غزوة تبوك، ولكن لا يدفع ذلك قول من قال إنه كاتب الملوك في سنة الهدنة كقيصر، والجمع بين القولين أنه كاتب قيصر مرتين، وهذه الثانية قد وقع التصريح بها في "مسند أحمد" وكاتب النجاشي الذي أسلم وصلى عليه لما مات، ثم كاتب النجاشي الذي ولي بعده وكان كافرا، وقد روى مسلم من حديث أنس قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كل جبار يدعوهم إلى الله" وسمي منهم كسرى وقيصر والنجاشي، قال: وليس بالنجاشي الذي أسلم.

(8/129)


83- باب مَرَضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَفَاتِهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}
وَقَالَ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: " يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ"
قوله: "باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته وقول الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} سيأتي في الكلام على الحديث السادس عشر من هذا الباب وجه مناسبة هذه الآية لهذا الباب، وقد ذكر في الباب أيضا ما يدل على جنس مرضه كما سيأتي. وأما ابتداؤه فكان في بيت ميمونة كما سيأتي. ووقع في "السيرة لأبي معشر" في بيت زينب بنت جحش وفي "السيرة لسليمان التيمي" في بيت ريحانة؛ والأول المعتمد. وذكر الخطابي أنه ابتدأ به يوم الاثنين وقيل يوم السبت. وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء. واختلف في مدة مرضه، فالأكثر على أنها ثلاثة عشر يوما، وقيل بزيادة يوم وقيل بنقصه. والقولان في "الروضة" وصدر بالثاني، وقيل عشرة أيام وبه جزم "سليمان التيمي في مغازيه" وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح. وكانت وفاته يوم الاثنين بلا خلاف من ربيع الأول وكاد يكون إجماعا، لكن في حديث ابن مسعود عند البزار في حادي عشر رمضان، ثم عند ابن إسحاق والجمهور أنها في الثاني عشر منه، وعند موسى بن عقبة والليث والخوارزمي وابن زبر: مات لهلال ربيع الأول، وعند أبي مخنف والكلبي في ثانيه ورجحه السهيلي. وعلى القولين يتنزل ما نقله الرافعي أنه عاش بعد حجته ثمانين يوما،. وقيل أحدا وثمانين، وأما على ما جزم به في "الروضة" فيكون عاش بعد حجته تسعين يوما أو أحدا وتسعين، وقد استشكل ذلك السهيلي ومن تبعه أعني كونه مات يوم الاثنين ثاني عشر شهر ربيع الأول، وذلك أنهم اتفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس، فمهما فرضت الشهور الثلاثة توأم أو نواقص أو بعضها لم يصح، وهو ظاهر لمن تأمله. وأجاب البارزي ثم ابن كثير باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل، وكان أهل مكة والمدينة اختلفوا في رؤية هلال ذي الحجة فرآه أهل مكة ليلة الخميس ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها فكان أول ذي الحجه الجمعة وآخره السبت، وأول المحرم الأحد وآخره الاثنين، وأول صفر الثلاثاء وآخره الأربعاء، وأول ربيع الأول الخميس فيكون ثاني عشره الاثنين، وهذا الجواب بعيد من حيث أنه يلزم توالي أربعة أشهر كوامل، وقد جزم سليمان التيمي أحد الثقات بأن ابتداء مرض رسول الله كان يوم السبت الثاني والعشرين من صفر ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول، فعلى هذا كان صفر ناقصا، ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت إلا إن كان ذو الحجة والمحرم ناقصين فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر

(8/129)


متوالية، وأما على قول من قال: مات أول يوم من ربيع الأول فيكون اثنان ناقصين وواحد كاملا، ولهذا رجحه السهيلي. وفي "المغازي لأبي معشر" عن محمد بن قبس قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر، وهذا موافق لقول سليمان التيمي المقتضي لأن أول صفر كان السبت، وأما ما رواه ابن سعد من طريق عمر بن علي بن أبي طالب قال: "اشتكى رسول الله يوم الأربعاء لليلة بقيت من صفر فاشتكى ثلاث عشرة ليلة، ومات يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول" فيرد على هذا الإشكال المتقدم، وكيف يصح أن يكون أول صفر الأحد يكون تاسع عشرينه الأربعاء؟ والغرض أن ذا الحجة أوله الخميس، فلو فرض هو والمحرم كاملين لكان أول صفر الاثنين، فكيف يتأخر إلى يوم الأربعاء، فالمعتمد ما قال أبو مخنف، وكأن سبب غلط غيره أنهم قالوا مات في ثاني شهر ربيع الأول فتغيرت فصارت ثاني عشر، واستمر الوهم بذلك يتبع بعضهم بعضا من غير تأمل، والله أعلم. وقد أجاب القاضي بدر الدين بن جماعة بجواب آخر فقال. يحمل قول الجمهور لاثنتي عشرة ليلة خلت أي بأيامها فيكون موته في اليوم الثالث عشر، ويفرض الشهور كوامل فيصح قول الجمهور. ويعكر عليه ما يعكر على الذي قبله مع زيادة مخالفة اصطلاح أهل اللسان في قولهم لاثنتي عشرة فإنهم لا يفهمون منها إلا مضي الليالي، ويكون ما أرخ بذلك واقعا في اليوم الثاني عشر. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة وعشرين حديثا:
4429- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالْمُرْسَلاَتِ عُرْفًا ثُمَّ مَا صَلَّى لَنَا بَعْدَهَا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّه" .
الحديث الأول قوله: "عن أم الفضل" هي والدة ابن عباس، وقد تقدم شرح حديثها في القراءة في الصلاة.
4430- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُدْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِنَّ لَنَا أَبْنَاءً مِثْلَهُ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ فَسَأَلَ عُمَرُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ فَقَالَ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ مَا تَعْلَم" .
الحديث الثاني قوله: "عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدني ابن عباس" هو من إقامة الظاهر مقام المضمر، وقد أخرجه الترمذي من طريق شعبة المذكورة بلفظ: "كان عمر يسألني مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وتقدم شرح حديث الباب في غزوة الفتح من طريق آخر عن أبي بشر أتم سياقا وأكثر فوائد، وأطلنا بشرحه على تفسير سورة النصر، وتقدم في حجة الوداع حديث ابن عمر "نزلت سورة" إذا جاء نصر الله "في أيام التشريق في حجة الوداع" وعند الطبراني عن ابن عباس من وجه آخر أنها "لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة" وللطبراني من حديث جابر "لما نزلت هذه السورة قال النبي صلى الله عليه وسلم

(8/130)


لجبريل: "نعيت إلي نفسي". فقال له جبريل: والآخرة خير لك من الأولى".
4428- وقال يونس عن الزهري قال عروة: قالت عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه، يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم" .
الحديث الثالث قوله: "وقال يونس" هو ابن يزيد الأيلي، وهذا قد وصله البزار والحاكم والإسماعيلي من طريق عنبسة بن خالد عن يونس بهذا الإسناد. وقال البزار: تفرد به عنبسة عن يونس، أي بوصله، وألا فقد رواه موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري لكنه أرسله، وله شاهدان مرسلان أيضا أخرجهما إبراهيم الحربي في "غرائب الحديث:"له أحدهما من طريق يزيد بن رومان والآخر من رواية أبي جعفر الباقر، وللحاكم موصول من حديث أم مبشر قالت: "قلت: يا رسول الله ما تتهم بنفسك؟ فإني لا أتهم بابني إلا الطعام الذي أكل بخيبر؛ وكان ابنها بشر بن البراء بن معرور مات، فقال: وأنا لا أتهم غيرها. وهذا أوان انقطاع أبهري" وروى ابن سعد عن شيخه الواقدي بأسانيد متعددة في قصة الشاة التي سمت له بخيبر، فقال في آخر ذلك: "وعاش بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي قبض فيه. وجعل يقول: ما زلت أحد ألم الأكلة التي أكلتها بخيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري" عرق في الظهر وتوفي شهيدا انتهى وقوله: "عرق في الظهر" من كلام الراوي، وكذا قوله: "وتوفي شهيدا" وقوله: "ما أزال أجد ألم الطعام" أي أحس الألم في جوفي بسبب الطعام. وقال الداودي: المراد أنه نقص من لذة ذوقه وتعقبه ابن التين. وقوله: "أوان" بالفتح على الظرفية، قال أهل اللغة: الأبهر عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه. وقال الخطابي. يقال إن القلب متصل به. وقد تقدم شرح حال الشاة التي سمت بخيبر في غزوه خيبر مفصلا.
4439- حَدَّثَنِي حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ طَفِقْتُ أَنْفِثُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفِثُ وَأَمْسَحُ بِيَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْه" .
[الحديث 4439- أطرافه في: 5016، 5735، 5751]
الحديث الرابع حديث عائشة، قوله: "اشتكى" أي مرض، و "نفث" أي تفل بغير ريق أو مع ريق خفيف. قوله: "بالمعوذات" أي يقرأها ماسحا لجسده عند قراءتها، ووقع في رواية مالك عن ابن شهاب في فضائل القرآن بلفظ: "فقرأ على نفسه المعوذات" وسيأتي في الطب قول معمر بعد هذا الحديث. قلت للزهري: كيف ينفث؟ قال: ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. وسيأتي في الدعوات من طريق عقيل عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إذا أخذ مضجعه. هذه رواية الليث عن عقيل. وفي رواية المفضل بن فضالة عن عقيل في فضائل القرآن "كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما ثم يقرأ قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس" والمراد بالمعوذات سورة قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، وجمع إما باعتبار أن أقل الجمع اثنان أو باعتبار أن المراد الكلمات التي يقع التعوذ بها من السورتين، ويحتمل أن المراد بالمعوذات هاتان السورتان مع سورة

(8/131)


الإخلاص وأطلق ذلك تغليبا. وهذا هو المعتمد. قوله: "ومسح عنه بيده" في رواية معمر" وأمسح بيد نفسه لبركتها "وفي رواية مالك" وأمسح بيده رجاء بركتها "ولمسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة" فلما مرض مرضه الذي مات قيه جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي" وسيأتي في آخر هذا الباب من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة "فذهبت أعوذه، فرفع رأسه إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى" وللطبراني من حديث أبي موسى "فأفاق وهي تمسح صدره وتدعو بالشفاء، فقال: لا، ولكن أسأل الله الرفيق الأعلى" وسأذكر الكلام على الرفيق الأعلى في الحديث السابع.
4431- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ فَقَالَ: ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا فَتَنَازَعُوا وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ فَقَالُوا مَا شَأْنُهُ أَهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ فَذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ فَقَالَ دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ وَأَوْصَاهُمْ بِثَلاَثٍ قَالَ أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَةِ أَوْ قَالَ فَنَسِيتُهَا" .
4432- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ" فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلاَفَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا" قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَكَانَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لاخْتِلاَفِهِمْ وَلَغَطِهِم"
الحديث الخامس قوله: "يوم الخميس" هو خبر لمبتدأ محذوف أو عكسه، وقوله: "وما يوم الخميس" يستعمل عند إرادة تفخيم الأمر في الشدة والتعجب منه، زاد في أواخر الجهاد من هذا الوجه "ثم بكى حتى خضب دمعه الحصى" ولمسلم من طريق طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير "ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيتها على خديه كأنها نظام اللؤلؤ"وبكاء ابن عباس يحتمل لكونه تذكر وفاة رسول الله فتجدد له الحزن عليه، ويحتمل أن يكون انضاف إلى ذلك ما فات في معتقده من الخير الذي كان يحصل لو كتب ذلك الكتاب، ولهذا أطلق في الرواية الثانية أن ذلك رزية، ثم بالغ فيها فقال: كل الرزية. وقد تقدم في كتاب العلم الجواب عمن امتنع من ذلك كعمر رضي الله عنه. قوله: "اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه" زاد في الجهاد "يوم الخميس" وهذا يؤيد أن ابتداء مرضه، كان قبل ذلك، ووقع في الرواية الثانية "لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بضم الحاء المهملة وكسر الضاد المعجمة أي حضره الموت، وفي إطلاق

(8/132)


ذلك تجوز، فإنه عاش بعد ذلك إلى يوم الاثنين. قوله: "كتابا" قيل هو تعيين الخليفة بعده، وسيأتي شيء من ذلك في كتاب الأحكام في "باب الاستخلاف" منه. قوله: "لن تضلوا" في رواية الكشميهني: "لا تضلون" وتقدم في العلم وكذا في الرواية الثانية وتقدم توجيهه. قوله: "ولا ينبغي عند نبي تنازع" هو من جملة الحديث المرفوع، ويحتمل أن يكون مدرجا من قول ابن عباس. والصواب الأول، وقد تقدم في العلم بلفظ: " لا ينبغي عندي التنازع" . قوله: "فقالوا ما شأنه؟ أهجر" بهمزة لجميع رواة البخاري، وفي الرواية التي في الجهاد بلفظ: "فقالوا هجر" بغير همزة، ووقع للكشميهني هناك "فقالوا هجر، هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعاد هجر مرتين. قال عياض: معني أهجر أفحش، يقال هجر الرجل إذا هذى، وأهجر إذا أفحش. وتعقب بأنه يستلزم أن يكون بسكون الهاء والروايات كلها إنما هي بفتحها، وقد تكلم عياض وغيره على هذا الموضع فأطالوا، ولخصه القرطبي تلخيصا حسنا ثم لخصته من كلامه، وحاصله أن قوله هجر الراجح فيه إثبات همزة الاستفهام وبفتحات على أنه فعل ماض، قال: ولبعضهم أهجرا بضم الهاء وسكون الجيم والتنوين على أنه مفعول بفعل مضمر أي قال هجرا، والهجر بالضم ثم السكون الهذيان والمراد به هنا ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم فائدته. ووقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم مستحيل لأنه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أقول في الغضب والرضا إلا حقا" وإذا عرف ذلك فإنما قاله من قاله منكرا على من يوقف في امتثال أمره بإحضار الكتف والدواة فكأنه قال: كيف تتوقف أتظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه؟ امتثل أمره وأحضره ما طلب فإنه لا يقول إلا الحق، قال: هذا أحسن الأجوبة، قال: ويحتمل أن بعضهم قال ذلك عن شك عرض له، ولكن يبعده أن لا ينكره الباقون عليه مع كونهم من كبار الصحابة، ولو أنكروه عليه لنقل، ويحتمل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة كما أصاب كثيرا منهم عند موته. وقال غيره: ويحتمل أن يكون قائل ذلك أراد أنه اشتد وجعه فأطلق اللازم وأراد الملزوم، لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ عن شدة وجعه. وقيل: قال ذلك لإرادة سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده، فكأنه قال: إن ذلك يؤذيه ويفضي في العادة إلى ما ذكر، ويحتمل أن يكون قوله أهجر فعلا ماضيا من الهجر بفتح الهاء وسكون الجيم والمفعول محذوف أي الحياة، وذكره بلفظ الماضي مبالغة لما رأى من علامات الموت. قلت: ويظهر لي ترجيح ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبي ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع قد يشتغل به عن تحرير ما يريد أن يقوله لجواز وقوع ذلك، ولهذا وقع في الرواية الثانية "فقال بعضهم إنه قد غلبه الوجع" ووقع عند الإسماعيلي من طريق محمد بن خلاد عن سفيان في هذا الحديث: "فقالوا ما شأنه يهجر، استفهموه" وعن ابن سعد من طريق أخرى عن سعيد بن جبير "أن نبي الله ليهجر" ، ويؤيده أنه بعد أن قال ذلك استفهموه1 بصيغة الأمر بالاستفهام أي اختبروا أمره بأن يستفهموه عن هذا الذي أراده وابحثوا معه في كونه الأولى أولا. وفي قوله في الرواية الثانية: "فاختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم" ما يشهر بأن بعضهم كان مصمما على الامتثال والرد على من امتنع منهم، ولما وقع منهم الاختلاف ارتفعت البركة كما جرت العادة بذلك عند وقوع التنازع والتشاجر. وقد مضى في الصيام أنه صلى الله عليه وسلم خرج يخبرهم بليلة القدر فرأى رجلين يختصمان فرفعت، قال المازري: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك لأن الأوامر قد
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: لعل فيه سقطا، ويكون تمامه "أنه بعد أن قال ذلك، قال استفهموه" .

(8/133)


يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك عن غير قصد جازم، وعزمه صلى الله عليه وسلم كان إما بالوحي وإما بالاجتهاد، وكذلك تركه إن كان بالوحي فبالوحي وإلا فبالاجتهاد أيضا، وفيه حجة لمن قال بالرجوع إلى الاجتهاد في الشرعيات. وقال النووي: اتفق قول العلماء على أن قول عمر "حسبنا كتاب الله" من قوة فقهه ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها فاستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا ينسد باب الاجتهاد على العلماء. وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه رأيه، وأشار بقوله: "حسبنا كتاب الله" إلى قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . ويحتمل أن يكون قصد التخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما هو فيه من شدة الكرب، وقامت عنده قرينة بأن الذي أراد كتابته ليس مما لا يستغنون عنه، إذ لو كان من هذا القبيل لم يتركه صلى الله عليه وسلم لأجل اختلافهم، ولا يعارض ذلك قول ابن عباس إن الرزية إلخ، لأن عمر كان أفقه منه قطعا. وقال الخطابي: لم يتوهم عمر الغلط فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد كتابته، بل امتناعه محمول على أنه لما رأى ما هو فيه من الكرب وحضور الموت خشي أن يجد المنافقون سبيلا إلى الطعن فيما يكتبه وإلى حمله على تلك الحالة التي جرت العادة فيها بوقوع بعض ما يخالف الاتفاق فكان ذلك سبب توقف عمر، لا أنه تعمد مخالفة قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا جواز وقوع الغلط عليه حاشا وكلا. وقد تقدم شرح حديث ابن عباس في أواخر كتاب العلم، وقوله: "وقد ذهبوا يردون عنه" يحتمل أن يكون المراد يردون عليه أن يعيدون عليه مقالته ويستثبتونه فيها، ويحتمل أن يكون المراد يردون عنه القول المذكور على من قاله. قوله: "فقال دعوني: فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه" قال ابن الجوزي وغيره: يحتمل أن يكون المعنى دعوني فالذي أعاينه من كرامة الله التي أعدها لي بعد فراق الدنيا خير مما أنا فيه في الحياة، أو أن الذي أنا فيه من المراقبة والتأهب للقاء الله والتفكر في ذلك ونحوه أفضل من الذي تسألونني فيه من المباحثة عن المصلحة في الكتابة أو عدمها. ويحتمل أن يكون المعنى فإن امتناعي من أن أكتب لكم خير مما تدعونني إليه من الكتابة. قلت: ويحتمل عكسه أي الذي أشرت عليكم به من الكتابة خير مما تدعونني إليه من عدمها بل هذا هو الظاهر، وعلى الذي قبله كان ذلك الأمر اختبارا وامتحانا فهدى الله عمر لمراده وخفي ذلك على غيره. وأما قول ابن بطال: عمر أفقه من ابن عباس حيث اكتفى بالقرآن ولم يكتف ابن عباس به، وتعقب بأن إطلاق ذلك مع ما تقدم ليس بجيد؛ فإن قول عمر: "حسبنا كتاب الله" لم يرد أنه يكتفي به عن بيان السنة، بل لما قام عنده من القرينة، وخشي من الذي يترتب على كتابة الكتاب مما تقدمت الإشارة إليه، فرأى أن الاعتماد على القرآن لا يترتب عليه شيء مما حشيه، وأما ابن عباس فلا يقال في حقه لم يكتف بالقرآن مع كونه حبر القرآن وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه أسف على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه لكونه أولى من الاستنباط والله أعلم. وسيأتي في كفارة المرض في هذا الحديث زيادة لابن عباس وشرحها إن شاء الله تعالى. قوله: "وأوصاهم بثلاث" أي في تلك الحالة، وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتبه لم يكن أمرا متحتما لأنه لو كان مما أمر بتبليغه لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم، ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه، ولبلغه لهم لفظا كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك، وقد عاش بعد هذه المقالة أياما وحفظوا عنه أشياء لفظا، فيحتمل أن يكون مجموعها ما أراد أن يكتبه والله أعلم. وجزيرة العرب تقدم بيانها في كتاب الجهاد. وقوله: "أجيزوا

(8/134)


الوفد" أي أعطوهم، والجائزة العطية، وقيل أصله أن ناسا وفدوا على بعض الملوك وهو قائم على قنطرة فقال: أجيزوهم فصاروا يعطون الرجل ويطلقونه فيجوز على القنطرة متوجها فسميت عطية من يقدم على الكبير جائزة، وتستعمل أيضا في إعطاء الشاعر على مدحه ونحو ذلك. وقوله بنحو: "ما كنت أجيزهم" أي بقريب منه، وكانت جائزة الواحد على عهده صلى الله عليه وسلم وقية من فضة وهي أربعون درهما. قوله: "وسكت عن الثالثة أو قال: فنسيتها" يحتمل أن يكون القائل ذلك هو سعيد بن جبير، ثم وجدت عند الإسماعيلي التصريح بأن قائل دلك هو ابن عيينة. وفي "مسند الحميدي" ومن طريقه أبو نعيم في "المستخرج" : قال سفيان: قال سليمان أي ابن أبي مسلم: لا أدري أذكر سعيد بن جبير الثالثة فنسيتها أو سكت عنها. وهذا هو الأرجح، قال الداودي: الثالثة الوصية بالقرآن، وبه جزم ابن التين وقال المهلب: بل هو تجهيز جيش أسامة، وقواه ابن بطال بأن الصحابة لما اختلفوا على أبي بكر في تنفيذ جيش أسامة قال لهم أبو بكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم عهد بذلك عند موته. وقال عياض: يحتمل أن تكون هي قوله: "ولا تتخذوا قبري وثنا" فإنها ثبتت في الموطأ مقرونة بالأمر بإخراج اليهود، ويحتمل أن يكون ما وقع في حديث أنس أنها قوله: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" . قوله: "فاختلف أهل البيت" أي من كان في البيت من الصحابة ولم يرد أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. قوله فيها "فقال: قوموا" زاد ابن سعد من وجه آخر "فقال: قوموا عني" .
4433، 4434- حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ جَمِيلٍ اللَّخْمِيُّ حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها السلام في شكواه الذي قبض فيه، فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت، فسألنا عن ذلك فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت" .
قوله "حدثنا يسرة" بفتح التحتانية والمهملة ووالد إبراهيم بن سعد هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قوله "دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة في شكواه الذي قبض فيه فسارها بشيء" وفي أول هذا الحديث من رواية مسروق عن عائشة كما مضت في علامات النبوة أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم مرحبا ببنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارها ولأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت طلحة عن عاشه قالت ما رأيت أحدا أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها وقعودها من فاطمة وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك فلما مرض دخلت عليه فأكبت عليه تقبله واتفقت الروايتان على أن الذي سارهابه أولا فبكت هو إعلامه إياها بأنه ميت من مرضه ذلك واختلفا قيما سارها به ثانيا فضحكت ففي رواية عروة أنه إخبار إياها بأنها أول أهله لحوقا به وفي رواية مسروق أنه إخباره إياها بأنها سيدة نساء أهل الجنة وجعل كونها أول أهله لحوقا به مضموما إلى الأول وهو الراجح فإن حديث مسروق يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة وهو من الثقات الضابطين فما زاده مسروق قول عائشة فقلت ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن فسألتها عن ذلك فقالت ما كنت لأفشى سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفى النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها فقالت أسر إلى أن جبريل كان يعارضني

(8/135)


القرآن كل سنة مرة وأنه عارضني العام مرتين إلا حضر أجلى وأنك أول أهل بيتي لحوقا بي وقولها كأن مشيتها هو بكسر الميم لأن المراد الهيئة وقولها ما رأيت كاليوم فرحا تقدم توجيهه في الكسوف وأن التقدير ما رأيت كفرح اليوم فرحا أو ما رأيت فرحا كفرح رأيته اليوم وقولها حتى توفي متعلق بمحذوف تقديره فلم تقل لي شيئا حتى توفي وقد طوى عروة هذا كله فقال في روايته بعد قوله فضحكت فسألناها عن ذلك فقالت سارني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه الحديث وفي رواية عائشة بنت طلحة من الزيادة أن عائشة لما رأت بكاءها وضحكها قالت إن كنت لأظن أن هذه المرأة أعقل النساء فإذا هي من النساء ويحتمل تعدد القصة ويؤيده الجزم في رواية عروة بأنه ميت من وجعه ذلك بخلاف رواية مسروق ففيها أنه ظن ذلك بطريق الاستنباط مما ذكره من معارضة القرآن وقد يقال لا منافاة بين الخبرين إلا بالزيادة ولا يمتنع أن يكون إخباره بأنها أول أهله لحوقا به سببا لبكائها أو ضحكها معا باعتبارين فذكر كل من الراويين ما لم يذكره الآخر وقد روىالنسائي من طريق أبي سلمة عن عائشة في سبب البكاء أنه ميت وفي سبب الضحك الأمرين الآخرين ولابن سعد من رواية أبي سلمة عنها أن سبب البكاء موته وسبب الضحك أنها سيدة النساء وفي رواية عائشة بنت طلحة عنها أن سبب البكاء موته وسبب الضحك لحاقها به وعند الطبري من وجه آخر عن عائشة أنه قال لفاطمة إن جبريل أخبرني أنه ليس امرأة من نساء المسلمين أعظم ذرية منك فلا تكوني أدنى امرأة منهن صبرا وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع فوقع كما قال فأنهم اتفقوا على أن فاطمة عليها السلام كانت أول من مات من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعده حتى من أزواجه
4435- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّهُ لاَ يَمُوتُ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ يَقُولُ: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآيَةَ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ خُيِّر"
[الحديث 4435- أطرافه في: 4436، 4437، 4586، 6348، 6509]
4436- حدثنا مسلم حدثنا شعبة عن سعد عن عروة عن عائشة قالت: "لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم المرض الذي مات فيه جعل يقول: "في الرفيق الأعلى"
4437- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: " إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيا أو يخير" فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: "اللهم في الرفيق الأعلى" فقلت إذا لا يجاورنا فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح"
الحديث السابع حديث عائشة ذكره من طريق شعبة عن سعد وهو ابن إبراهيم المذكور قبله، أورده عاليا مختصرا ونازلا تاما ثم أورده أتم منه من طريق الزهري عن عروة، فأما الرواية النازلة فإنه ساقها من طريق غندر

(8/136)


عن شعبة، وأما الرواية العالية فأخرجها عن مسلم وهو ابن إبراهيم ولفظه مغاير للرواية الأخرى: "قالت عائشة: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم المرض الذي مات فيه جعل يقول: الرفيق الأعلى" وهذا القدر ليس في رواية غندر منه شيء، وقد وقع لي من طريق أحمد بن حرب عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري فيه بزيادة بعد قوله: "الذي قبض فيه:" "أصابته بحة فجعلت أسمعه يقول: في الرفيق الأعلى، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين الآية، قالت: فعلمت أنه يخير" فكأن البخاري اقتصر من رواية مسلم بن إبراهيم على موضع الزيادة وهي قوله: "في الرفيق الأعلى" فإنها ليست من رواية غندر، وقد اقتصر الإسماعيلي على تخريج رواية غندر دون رواية مسلم بن إبراهيم، وأخرجه من طريق معاذ بن معاذ عن شعبة ولفظه: "مثل غندر قولها" . قوله: "كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخير" بضم أوله وفتح الخاء المعجمة، ولم تصرح عائشة بذكر من سمعت ذلك منه في هذه الرواية، وصرحت بذلك في الرواية التي تليها من طريق الزهري عن عروة عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيى أو يخير" وهو شك من الراوي هل قال يحيى بضم أوله وفتح المهملة وتشديد التحتانية بعدها أخرى أو يخير كما في رواية سعد بن إبراهيم. وعند أحمد من طريق المطلب بن عبد الله عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ما من نبي يقبض إلا يرى الثواب ثم يخير" ، ولأحمد أيضا من حديث أبي مويهبة قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة" وعند عبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه: "خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل" . "تنبيه" : فهم عائشة من قوله صلى الله عليه وسلم: "في الرفيق الأعلى" أنه خير نظير فهم أبيها رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم: " إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده" أن العبد المراد هو النبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى كما تقدم في مناقبه. قوله: "وأخذته بحة" بضم الموحدة وتشديد المهملة: شيء يعرض في الحلق فيتغير له الصوت فغلط، تقول: بححت بالكسر بحا، ورجل أبح: إذا كان ذلك فيه خلقة. قوله: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} في رواية المطلب عن عائشة عند أحمد "فقال: مع الرفيق الأعلى، { مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ} - إلى قوله: {رَفِيقاً} وفي رواية أبي بردة عن أبي موسى عن أبيه عند النسائي وصححه ابن حبان:"فقال: أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد، مع جبريل وميكائيل وإسرافيل "وظاهره أن الرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه مع المذكورين. وفي رواية الزهري" في الرفيق الأعلى "وفي رواية عباد عن عائشة بعد هذا قال: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق" وفي رواية ذكوان عن عائشة "فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض" . وفي رواية ابن أبي مليكة عن عائشة "وقال: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى" وهذه الأحاديث ترد على من زعم أن "الرفيق" تغيير من الراوي وأن الصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة وهو من أسماء السماء. وقال الجوهري: الرفيق الأعلى الجنة. ويؤيده ما وقع عند أبي إسحاق: الرفيق الأعلى الجنة، وقيل بل الرفيق هنا اسم جنس يشمل الواحد وما فوقه والمراد الأنبياء ومن ذكر في الآية. وقد ختمت بقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} ونكتة الإتيان بهذه الكلمة بالإفراد الإشارة إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد، نبه عليه السهيلي. وزعم بعض المغاربة أنه يحتمل أن يراد بالرفيق الأعلى الله عز وجل لأنه من أسمائه كما أخرج أبو داود من حديث عبد الله بن مغفل رفعه: "إن الله رفيق يحب الرفق" كذا اقتصر عليه، والحديث عند مسلم عن عائشة فعزوه إليه أولى. قال:

(8/137)


والرفيق يحتمل أن يكون صفة ذات كالحكيم، أو صفة فعل. قال: ويحتمل أن يراد به حضرة القدس، ويحتمل أن يراد به الجماعة المذكورون في آية النساء. ومعنى كونهم رفيقا تعاونهم على طاعة الله وارتفاق بعضهم ببعض، وهذا الثالث هو المعتمد. وعليه اقتصر أكثر الشراح. وقد غلط الأزهري القول الأول، ولا وجه لتغليطه من الجهة التي غلطه بها وهو قوله: مع الرفيق أو في الرفيق، لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ. قال السهيلي: الحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة كونها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكوم الذكر باللسان لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع فلا يضره إذا كان قلبه عامرا بالذكر. انتهى ملخصا. قوله: "فظننت أنه خير" في رواية الزهري: "فقلت إذا لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح" وعند أبي الأسود في المغازي عن عروة "أن جبريل نزل إليه في تلك الحالة فخيره" . "تنبيه" : قال السهيلي: وجدت في بعض كتب الواقدي أن أول كلمة تكلم بها صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة "الله أكبر" وآخر كلمة تكلم بها كما في حديث عائشة "في الرفيق الأعلى" وروى الحاكم من حديث أنس "أن آخر ما تكلم به: جلال ربي الرفيع" .
4438- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَفَّانُ عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ "دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَهُ فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَصَمْتُهُ وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَهُ أَوْ إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: " فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى ثَلاَثًا" ثُمَّ قَضَى وَكَانَتْ تَقُولُ مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي"
4440- حدثنا معلى بن أسد، حدثنا عبد العزيز بن مختار، حدثنا هشام بن عروة عن عباد بن عبد الله بن الزبير أن عائشة أخبرته أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مسند إلي ظهره يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى"
[الحديث 4440- طرفه في: 5674]
قوله: "حدثني محمد" جزم الحاكم بأنه محمد بن يحيي الذهلي، وسقط عند ابن السكن فصار من رواية البخاري عن عفان بلا واسطة، وعفان من شيوخ البخاري قد أخرج عنه بلا واسطة قليلا من ذلك في كتاب الجنائز. قوله: "ومع عبد الرحمن سواك رطب" في رواية ابن أبي مليكة عن عائشة "ومر عبد الرحمن وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه، فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه" . قوله: "يستن به" أي يستاك، قال الخطابي: أصله من السن أي بالفتح، ومنه المسن الذي يسن عليه الحديد. قوله: "فأبده" بتشديد الدال أي مد نظره إليه، يقال أبددت فلانا النظر إذا طولته إليه. وفي رواية الكشميهني: "فأمده" بالميم. قوله: "فقضمته" بفتح القاف وكسر الضاد المعجمة أي مضغته، والقضم الأخذ بطرف الأسنان، يقال: قضمت الدابة بكسر الضاد شعيرها تقضم بالفتح إذا مضغته وحكى عياض أن الأكثر رووه بالصاد المهملة أي كسرته أو قطعته، وحكى ابن التين رواية بالفاء والمهملة، قال المحب الطبري: إن كان بالضاد المعجمة فيكون قولها: "فطيبته" تكرارا

(8/138)


وإن كان بالمهملة فلا لأنه يصير المعني كسرته لطوله، أو لإزالة المكان الذي تسوك به عبد الرحمن. قوله: "ثم لينته ثم طيبته" أي بالماء ويحتمل أن يكون طيبته تأكيدا للينته، وسيأتي من رواية ذكوان عن عائشة "فقلت آخذه لك؟ فأومأ برأسه أن نعم، فتناولته فأدخلته في فيه فاشتد، فتناولته فقلت: ألينه لك؟ فأومأ برأسه أن نعم" ويؤخذ منه العمل بالإشارة عند الحاجة إليها، وقوة فطنة عائشة. قوله: "ونفضته" بالفاء والضاد المعجمة، وقوله: "فيما عدا أن فرغ" أي من السواك. قوله: "وكانت تقول: مات ورأسه بين حاقنتي وذاقنتي" وفي رواية ذكوان عن عائشة "توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وإن الله جمع ريقي وريقه عند موته في آخر يوم من الدنيا" والحاقنة بالمهملة والقاف: ما سفل من الذقن، والذاقنة ما علا منه. أو الحاقنة: نقرة الترقوة، هما حاقنتان. ويقال: إن الحاقنة المطمئن من الترقوة والحلق. وقيل ما دون الترقوة من الصدر، وقيل: هي تحت السرة. وقال ثابت: الذاقنة طرف الحلقوم: والسحر بفتح المهملة وسكون الحاء المهملة هو الصدر، وهو في الأصل الرئة. والنحر بفتح النون وسكون المهملة والمراد به موضع النحر. وأغرب الداودي فقال: هو ما بين الثديين. والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر والنحر، والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها صلى الله عليه وسلم ورضي عنها. وهذا لا يغاير حديثها الذي قبل هذا أن رأسه كان على فخذها، لأنه محمول على أنها رفعته من فخذها إلى صدرها. وهذا الحديث يعارض ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق "أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ورأسه في حجر علي" وكل طريق منها لا يخلو من شيعي، فلا يلتفت إليهم. وقد رأيت بيان حال الأحاديث التي أشرت إليها دفعا لتوهم التعصب. قال ابن سعد: "ذكر من قال: توفي في حجر علي" وساق من حديث جابر: سأل كعب الأحبار عليا ما كان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أسندته إلى صدري، فوضع رأسه على منكبي فقال: "الصلاة الصلاة" . فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء. وفي سنده الواقدي وحرم بن عثمان وهما متروكان. وعن الواقدي عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "ادعوا إلى أخي" ، فدعي له علي فقال: ادن مني، قال: فلم يزل مستندا إلي وأنه ليكلمني حتى نزل به. وثقل في حجري فصحت: يا عباس أدركني إني هالك، فجاء العباس، فكان جهدهما جميعا أن أضجعاه. فيه انقطاع مع الواقدي، وعبد الله فيه لين. وبه عن أبيه عن علي بن الحسين: قبض ورأسه في حجر على فيه انقطاع. وعن الواقدي عن أبي الحويرث عن أبيه عن الشعبي: مات ورأسه في حجر علي. فيه الواقدي والانقطاع، وأبو الحويرث اسمه عبد الرحمن بن معاوية بن الحارث المدني قال مالك: ليس بثقة، وأبوه لا يعرف حاله. وعن الواقدي عن سليمان بن داود بن الحصين عن أبيه عن أبي غطفان: سألت ابن عباس قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إلى صدر علي، قال. فقلت: فإن عروة حدثني عن عائشة قالت: توفي النبي صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، فقال ابن عباس: لقد توفي وإنه لمستند إلى صدر علي، وهو الذي غسله وأخي الفضل، وأبى أبي أن يحضر. فيه الواقدي، وسليمان لا يعرف حاله، وأبو غطفان بفتح المعجمة ثم المهملة اسمه سعد وهو مشهور بكنيته، وثقه النسائي. وأخرج الحاكم في "الإكليل" من طريق حبة العدني عن علي: أسندته إلى صدري فسألت نفسه وحبة ضعيف. ومن حديث أم سلمة قالت: علي آخرهم عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث عن عائشة أثبت من هذا، ولعلها أرادت آخر الرجال به عهدا. ويمكن الجمع بأن يكون علي آخرهم عهدا به وأنه لم يفارقه حتى مال فلما مال ظن أنه مات ثم أفاق بعد أن توجه فأسندته عائشة بعده إلى صدرها فقبض. ووقع عند أحمد من طريق يزيد بن بابنوس

(8/139)


بموحدتين بينهما ألف غير مهموز وبعد الثانية المفتوحة نون مضمومة ثم واو ساكنة ثم سين مهملة في أثناء حديث: "فبينما رأسه ذات يوم على منكبي إذ مال رأسه نحو رأسي فظننت أنه يريد من رأسي حاجة فخرجت من فيه نقطة باردة فوقعت على ثغرة نحري فاقشعر لها جلدي، وظننت أنه غشي عليه فسجيته ثوبا" .
4441- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ هِلاَلٍ الْوَزَّانِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ قَالَتْ عَائِشَةُ لَوْلاَ ذَلِكَ لاَبْرِزَ قَبْرُهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا"
4443، 4444- و أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالاَ: "لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ يَقُولُ: "لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا" .
الحديث التاسع في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، تقدم شرحه في المساجد من كتاب الصلاة وفي كتاب الجنائز.
4445- أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: "لَقَدْ رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَمَا حَمَلَنِي عَلَى كَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِي أَنْ يُحِبَّ النَّاسُ بَعْدَهُ رَجُلًا قَامَ مَقَامَهُ أَبَدًا وَلاَ كُنْتُ أُرَى أَنَّهُ لَنْ يَقُومَ أَحَدٌ مَقَامَهُ إِلاَّ تَشَاءَمَ النَّاسُ بِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ يَعْدِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
4446- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي فَلاَ أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قولها: "فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم" سيأتي بيان الشدة المذكورة في الحديث الآتي أواخر الباب من رواية ذكوان عن عائشة ولفظه: "بين يديه ركوة أو علبة بها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه يقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات" وعند أحمد والترمذي وغيرهما من طريق القاسم عن عائشة قالت: "رأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت، فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت" وفي رواية شقيق عن مسروق عن عائشة قالت: "ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على النبي صلى الله عليه وسلم:"وسيأتي في الطب. وبين في حديث ابن مسعود في الطب أن له بسبب ذلك أجرين. ولأبي يعلى من حديث أبي سعيد: " إنا معاشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر" .

(8/140)


4442- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: "لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ وَهُوَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بِالَّذِي قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ هَلْ تَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الآخَرُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ قَالَ قُلْتُ لاَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ بَيْتِي وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ قَالَ: "هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُ هُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ" فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا بِيَدِهِ أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ قَالَتْ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُم"
الحديث الحادي عشر قوله: "لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي في وجعه. وفي رواية معمر عن الزهري أن ذلك كان في بيت ميمونة. قوله: "استأذن أزواجه أن يمرض" بضم أوله وفتح الميم وتشديد الراء، وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهري أن فاطمة هي التي خاطبت أمهات المؤمنين بذلك فقالت لهن: أنه يشق عليه الاختلاف. وفي رواية ابن أبي مليكة عن عائشة أن دخوله بيتها كان يوم الاثنين، ومات يوم الاثنين الذي يليه. وقد مضى شرح هذا الحديث في أبواب الإمامة وفي كتاب الطهارة. وذكرت في أبواب الإمامة طرفا من الاختلاف في اسم الذي كان يتكئ عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع العباس. وقد وقع في رواية لمسلم عن عائشة "فخرج بين الفضل بن العباس ورجل آخر" وفي أخرى "رجلين أحدهما أسامة" وعند الدار قطني "أسامة والفضل" وعند ابن حبان في آخره: "بريرة ونوبة" بضم النون وسكون الواو ثم موحدة ضبطه ابن ماكولا وأشار إلى هذه الرواية، واختلف هل هو اسم عبد أو أمة، فجزم سيف في الفتوح بأنه عند، وعند ابن سعد من وجه آخر "الفضل وثوبان" وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدد فيتعدد من اتكأ عليه، وهو أولى من قول من قال: تناوبوا في صلاة واحدة. قوله: "في بيتي" وفي رواية يزيد بن بابنوس عن عائشة عند أحمد "أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: " إني لا أستطيع أن أدور بيوتكن، فإذا شئتن أذنتن لي" ، وسيأتي بعد قليل من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنه "كان يقول: أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة" وكان أول ما بدأ مرضه في بيت ميمونة. قوله: "من سبع قرب" قيل الحكمة في هذا العدد أن له خاصية في دفع ضرر السم والسحر، وقد ذكر في أوائل الباب: "هذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم" وتمسك به بعض من أنكر نجاسة سؤر الكلب وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعا إنما هو لدفع التسمية التي في ريقه، وقد ثبت حديث: "من تصبح بسبع تمرات من عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" وللنسائي في قراءة الفاتحة على المصاب سبع مرات وسنده صحيح، وفي صحيح مسلم القول لمن به وجع "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر سبع مرات" وفي النسائي: "من قال عند مريض لم يحضر أجله: أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يشفيك سبع مرات" وفي مرسل أبي جعفر عند ابن أبي

(8/141)


شيبة: "أنه صلى الله عليه وسلم قال: أين أكون غدا؟ كررها، فعرفت أزواجه أنه إنما يريد عائشة، فقلن: يا رسول الله قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة" وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عند الإسماعيلي: "كان يقول: أين أنا؟ حرصا على بيت عائشة، فلما كان يومي سكن، وأذن له نساؤه أن يمرض في بيتي" وقوله: "وكانت عائشة تحدث" هو موصول بالإسناد المذكور، وكذا قوله: أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: هو مقول الزهري وهو موصول: وقد مضى القول فيه قريبا. قوله: "ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم" تقدم في فضل أبي بكر من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في مرضه - فذكر الحديث وقال فيه " لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر" ، الحديث وفيه: أنه آخر مجلس جلسه" ولمسلم من حديث جندب أن ذلك قبل موته بخمس، فعلى هذا يكون يوم الخميس، ولعله كان بعد أن وقع عنده اختلافهم ولغطهم كما تقدم قريبا وقال لهم: قوموا، فلعله وحد بعد ذلك خفة فخرج. وقوله: وأخبرني عبيد الله أن عائشة قالت إلخ. هو مقول الزهري أيضا وموصول أيضا، وإنما فصل ذلك ليبين ما هو عند شيخه عن ابن عباس وعائشة معا وعن عائشة فقط. حديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد، تقدم شرحه في المساجد من كتاب الصلاة وفي كتاب الجنائز. قوله: "رواه ابن عمر وأبو موسى وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم" كأنه يشير إلى ما يتعلق بصلاة أبي بكر، لا إلى جميع الحديث. فأما حديث ابن عمر فوصله المؤلف في أبواب الإمامة، وكذا حديث أبي موسى وصله أيضا في أحاديث الأنبياء في ترجمة يوسف الصديق، وأما حديث ابن عباس فوصله المؤلف في الإمامة أيضا من حديث عائشة.
4447- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ وَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَحَدَ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ النَّاسُ يَا أَبَا حَسَنٍ كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا فَأَخَذَ بِيَدِهِ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ ثَلاَثٍ عَبْدُ الْعَصَا وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْفَ يُتَوَفَّى مِنْ وَجَعِهِ هَذَا إِنِّي لاَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ اذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْنَسْأَلْهُ فِيمَنْ هَذَا الأَمْرُ إِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا عَلِمْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا فَقَالَ عَلِيٌّ إِنَّا وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَنَاهَا لاَ يُعْطِينَاهَا النَّاسُ بَعْدَهُ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم".
[الحديث 4447- طرفه في: 6266]
قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه، وبه جزم أبو نعيم في "المستخرج" . قوله: "أخبرني عبد الله بن كعب" هذا يؤيد ما تقدم في غزوة تبوك أن الزهري سمع من عبد الله وهو من أخويه عبد الرحمن وعبيد الله ومن عبد الرحمن بن عبد الله، ولا معنى لتوقف الدمياطي فيه فإن الإسناد صحيح وسماع الزهري من عبد الله بن كعب ثابت ولم ينفرد به شعيب، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق صالح عن ابن شهاب فصرح أيضا به، وقد رواه معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك ولم يسمه أخرجه عبد الرزاق، وفي الإسناد لطيفة وهي رواية تابعي عن تابعي وصحابي عن صحابي. قوله: "بارئا" اسم فاعل من برأ بمعنى أفاق من

(8/142)


المرض. قوله: "أنت والله بعد ثلاث عبد العصا" هو كناية عمن يصير تابعا لغيره، والمعنى أنه يموت بعد ثلاث وتصير أنت مأمورا عليك، وهذا من قوة فراسة العباس رضي الله عنه. قوله: "لأرى" بفتح الهمزة من الاعتقاد وبضمها بمعنى الظن، وهذا قاله العماس مستندا إلى التجربة، لقوله بعد ذلك. "إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت" وذكر ابن إسحاق عن الزهري أن ذلك كان يوم قبض النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "هذا الأمر" أي الخلافة. وفي مرسل الشعبي عند ابن سعد "فنسأله من يستخلف، فإن استحلف منا فذاك" . قوله: "فأوصى بنا" في مرسل الشعبي "وإلا أوصى بنا فحفظنا من بعده" وله من طريق أخرى "فقال علي: وهل يطمع في هذا الأمر غيرنا. قال: أظن والله سيكون" . قوله: "لا يعطيناها الناس بعده" أي يحتجون عليهم بمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم، وصرح بذلك في رواية لابن سعد. قوله: "لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي لا أطلبها منه، وزاد ابن سعد في مرسل الشعبي في آخره: "فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال العباس لعلي: ابسط يدك أبايعك تبايعك الناس، فلم يفعل" وزاد عبد الرزاق عن ابن عيينة قال: "قال الشعبي: لو أن عليا سأله عنها كان خيرا له من ماله وولده" ورويناه في "فوائد أبي الطاهر الذهلي" بسند جيد عن ابن أبي ليلى قال: "سمعت عليا يقول: لقيني العباس - فذكر نحو القصة التي في هذا الحديث باختصار وفي آخرها - قال: سمعت عليا يقول بعد ذلك: يا ليتني أطعت عباسا، يا ليتني أطعت عباسا" وقال عبد الرزاق: "كان معمر يقول لنا: أيهما كان أصوب رأيا؟ فنقول العباس. فيأبى ويقول: لو كان أعطاها عليا فمنعه الناس لكفروا" .
4448- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الاثْنَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي لَهُمْ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي صُفُوفِ الصَّلاَةِ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقَالَ أَنَسٌ وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلاَتِهِمْ فَرَحًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْر"
حديث أنس "أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر يوم الاثنين" فيه أنه لم يصل بهم ذلك اليوم، وأما ما أخرجه البيهقي من طريق محمد بن جعفر عن حميد عن أنس "آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم" الحديث وفسرها بأنها صلاة الصبح فلا يصح لحديث الباب، ويشبه أن يكون الصواب صلاة الظهر. قوله: "ثم دخل الحجرة وأرخى الستر" زاد أبو اليمان عن شعيب "وتوفي من يومه ذلك" أخرجه المصنف في الصلاة. وللإسماعيلي من هذا الوجه "فلما توفي بكى الناس، فقام عمر في المسجد فقال: ألا لا أسمعن أحدا يقول مات محمد" الحديث بهذه القصة، وهي على شرط الصحيح. قوله: "وتوفي من آخر ذلك اليوم" يخدش في جزم ابن إسحاق بأنه مات حين اشتد الضحى، ويجمع بينهما بأن إطلاق الآخر بمعني ابتداء الدخول في أول النصف الثاني من النهار وذلك عند

(8/143)


الزوال، واشتداد الضحى يقع قبل الزوال ويستمر حتى يتحقق زوال الشمس. وقد جزم موسى بن عقبة عن ابن شهاب بأنه صلى الله عليه وسلم مات حين زاغت الشمس، وكذا لأبي الأسود عن عروة، فهذا يؤيد الجمع الذي أشرت إليه.
4449- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ "إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلْتُ آخُذُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَتَنَاوَلْتُهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَقُلْتُ أُلَيِّنُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَلَيَّنْتُهُ فَأَمَرَّهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ يَشُكُّ عُمَرُ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُه".
4450- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ يَقُولُ: "أَيْنَ أَنَا غَدًا أَيْنَ أَنَا غَدًا" يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ يَدُورُ عَلَيَّ فِيهِ فِي بَيْتِي فَقَبَضَهُ اللَّهُ وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِي وَسَحْرِي وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي ثُمَّ قَالَتْ دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْطَانِيهِ فَقَضِمْتُهُ ثُمَّ مَضَغْتُهُ فَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِي"
4451- حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "توفي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه فرفع رأسه إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى . ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فظننت أن له بها حاجة فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه، فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولنيها فسقطت سده – أو سقطت من يده – فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة"
الحديث الرابع عشر قوله: "ابن أبي مليكة أن ذكوان أخبره أن عائشة" سيأتي بعد حديث من رواية ابن أبي

(8/144)


مليكة عن عائشة بلا واسطة، لكن في كل من الطريقين ما ليس في الآخر، فالظاهر أن الطريقين محفوظان. قوله: "فلينته" أي لينت السواك. قوله: "فأمره" بفاء وفتح الميم وتشديد الراء، أي أمره على أسنانه فاستاك به. وللكشميهني والأصيلي والقابسي "بأمره" بموحدة وميم ساكنة وراء مكسورة، قال عياض: والأول أولى، وقد تقدم شرح ما تضمنه هذا الحديث في هذا الباب. تقدم شرح ما تضمنه وقوله: "فقبضه الله وإن رأسه لبين نحري وسحري" في رواية همام عن هشام بهذا الإسناد عند أحمد نحوه وزاد: "فلما خرجت نفسه لم أجد ريحا قط أطيب منها" .
4452، 4453- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمْ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَتَيَمَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُغَشًّى بِثَوْبِ حِبَرَةٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَبَكَى ثُمَّ قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَاللَّهِ لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا"
4454- قَالَ الزُّهْرِيُّ وَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ اجْلِسْ يَا عُمَرُ فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إِلَى قَوْلِهِ {الشَّاكِرِينَ} وَقَالَ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ حَتَّى تَلاَهَا أَبُو بَكْرٍ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنْ النَّاسِ إِلاَّ يَتْلُوهَا فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلاَهَا فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلاَيَ وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلاَهَا عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَات"
الحديث السابع عشر قوله: "من مسكنه بالسنح" بضم المهملة وسكون النون وبضمها أيضا وآخره حاء مهملة، وتقدم ضبطه في الجنائز، وأنه مسكن زوجة أبي بكر الصديق. قوله: "لا يجمع الله عليك موتتين" تقدم الكلام عليه في أول الجنائز، وأغرب من قال: المراد بالموتة الأخرى موتة الشريعة أي لا يجمع الله عليك موتك وموت شريعتك. قال هذا القائل. ويؤيده قول أبي بكر بعد ذلك في خطبته "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" وقال الكرماني: فإن قلت ليس في القرآن أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، ثم أجاب بأن أبا بكر تلاها لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات. قلت: ورواية ابن السكن قد أوضحت المراد. فإنه زاد لفظ: "علمت" . قوله: "قال: وحدثني أبو سلمة" القائل هو الزهري. قوله: "وعمر يكلم الناس" أي يقول لهم: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند أحمد من طريق يزيد بن بابنوس عن عائشة متصلا بما ذكرته في آخر الكلام على الحديث الثامن شيء دار بين المغيرة

(8/145)


وعمر. ففيه بعد قولها: "فسجيته ثوبا: فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا فأذنت لهما، وجذبت الحجاب فنظر عمر إليه فقال: واغشيتاه، ثم قاما، فلما دنوا من الباب قال المغيرة: يا عمر مات. قال: كذبت، بل أنت رجل تحوشك فتنة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين. ثم جاء أبو بكر فرفعت الحجاب، فنظر إليه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وروى ابن إسحاق وعبد الرزاق والطبراني من طريق عكرمة "أن العباس قال لعمر: هل عند أحد منكم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ قال: لا. قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ولم يمت حتى حارب وسالم ونكح وطلق وترككم على محجة واضحة" وهذه من موافقات العباس للصديق في حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة: "أن أبا بكر مر بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين، وكانوا أظهروا الاستبشار ورفعوا رءوسهم، فقال: أيها الرجل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ألم تسمع الله تعالى يقول: "إنك ميت وإنهم ميتون" وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} ثم أتى المنبر فصعد فحمد الله وأثنى عليه فذكر خطبته" . قوله: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" زاد يزيد بن بابنوس عن عائشة "أن أبا بكر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله يقول : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} حتى فرغ من الآية، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ} الآية. وقال فيه: قال عمر. أو أنها في كتاب الله؟ ما شعرت أنها في كتاب الله" . وفي حديث ابن عمر نحوه وزاد: ثم نزل، فاستبشر المسلمون، وأخذ المنافقين الكآبة. قال ابن عمر وكأنما على وجوهنا أغطية فكشفت. قوله: "فأخبرني سعيد بن المسيب" هو مقول الزهري، وأغرب الخطابي فقال: ما أدري القائل: "فأخبرني سعيد بن المسيب" الزهري أو شيخه أبو مسلمة؟ فقلت: صرح عبد الرزاق عن معمر بأنه الزهري، وأثر ابن المسيب عن عمر هذا أهمله المزي في الأطراف مع أنه على شرطه. قوله: "فعقرت" بضم العين وكسر القاف أي هلكت. وفي رواية بفتح العين أي دهشت وتحيرت، ويقال سقطت، ورواه يعقوب بن السكيت بالفاء من العفر وهو التراب، ووقع في رواية الكشميهني: "فقعرت" بتقديم القاف على العين وهو خطأ والصواب الأول. قوله: "ما تقلني" بضم أوله وكسر القاف وتشديد اللام أي ما تحملني. قوله: "وحتى أهويت" في رواية الكشميهني: "هويت" بفتح أوله وثانيه. قوله: "إلى الأرض حين سمعته تلاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات" كذا للأكثر وقوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم:"على البدل من الهاء في قوله تلاها: أي تلا الآية التي معناها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، وهو قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وفي رواية ابن السكن "فعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات" وهي واضحة، وكذا عند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري "فعقرت وأنا قائم حتى خررت إلى الأرض، فأيقنت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات" وفي الحديث قوة جأش أبي بكر وكثرة علمه، وقد وافقه على ذلك العباس كما ذكرنا، والمغيرة كما رواه ابن سعد وابن أم مكتوم كما في المغازي لأبي الأسود عن عروة قال: "إنه كان يتلو قوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} والناس لا يلتفتون إليه، وكان أكثر الصحابة على خلاف ذلك "فيؤخذ منه أن الأقل عددا في الاجتهاد قد يصيب ويخطئ الأكثر فلا يتعين الترجيح بالأكثر، ولا سيما إن ظهر أن بعضهم قلد بعضا.
4455، 4456، 4457- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبَّلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(8/146)


بَعْدَ مَوْتِه"
[الحديث 4456- طرفه في: 5709]
حديث ابن عباس وعائشة "أن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم بعدما مات" تقدم في الحديث الذي قبله أنه كشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله. وفي رواية يزيد بن بابنوس عنها "أتاه من قبل رأسه فحدر فاه فقبل جبهته ثم قال: وأنبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه وحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واخليلاه" ولابن أبي شيبة عن ابن عمر: فوضع فاه على جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقبله ويبكي ويقول: "بأبي وأمي طبت حيا وميتا" وللطبراني من حديث جابر "أن أبا بكر قبل جبهته" وله من حديث سالم بن عتيك "أن أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فمسه فقالوا: يا صاحب رسول الله، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم" .
4458- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا يَحْيَى وَزَادَ "قَالَتْ عَائِشَةُ: لَدَدْنَاهُ فِي مَرَضِهِ فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لاَ تَلُدُّونِي فَقُلْنَا كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي قُلْنَا كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ لاَ يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلاَّ لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلاَّ الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ" رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
[الحديث 4458- أطرافه في: 5712، 6886، 6897]
الحديث التاسع عشر قوله: "حدثنا علي حدثنا يحيى وزاد: قالت عائشة لددناه في مرضه" أما علي فهو ابن عبد الله بن المديني، وأما يحيي فهو ابن سعيد القطان، ومراده أن عليا وافق عبد الله بن أبي شيبة في روايته عن يحيي بن سعيد الحديث الذي قبله وزاد عليه قصة اللدود. قوله: "لددناه" أي جعلنا في جانب فمه دواء بغير اختياره، وهذا هو اللدود، فأما ما يصب في الحلق فيقال له الوجور، وقد وقع عند الطبراني من حديث العباس "أنهم أذابوا قسطا - أي بزيت - قلدوه به" . قوله: "فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني، فقلنا: كراهية المريض للدواء" قال عياض: ضبطناه بالرفع أي هذا منه كراهية. وقال أبو البقاء: هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا الامتناع كراهية، ويحتمل أن النصب على أنه مفعول له أي نهانا للكراهية للدواء، ويحتمل أن يكون مصدرا أي كرهه كراهية الدواء، قال عياض: الرفع أوجه من النصب على المصدر. قوله: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم" قبل: فيه مشروعية القصاص في جميع ما يصاب به الإنسان عمدا، وفيه نظر، لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك عقوبة لهم لتركهم امتثال نهيه عن ذلك، أما من باشره فظاهر، وأما من لم يباشره فلكونهم تركوا نهيهم عما نهاهم هو عنه. ويستفاد منه أن التأويل البعيد لا يعذر به صاحبه وفيه نظر أيضا لأن الذي وقع في معارضة النهي، قال ابن العربي: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه فيقعوا في خطب عظيم، وتعقب بأنه كان يمكن العفو لأنه كان لا ينتقم لنفسه، والذي يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلا يعودوا، فكان ذلك تأديبا لا قصاصا ولا انتقاما. قيل: وإنما كره اللد مع أنه كان يتداوى لأنه تحقق أنه يموت في مرضه، ومن حقق ذلك كره له التداوي. قلت: وفيه نظر، والذي يظهر أن ذلك كان قبل التخيير والتحقق، وإنما أنكر التداوي لأنه كان غير ملائم لدائه، لأنهم طنوا أن به ذات الجنب فداووه بما يلائمها، ولم يكن به ذلك كما هو ظاهر

(8/147)


في سياق الخبر كما ترى، والله أعلم. قوله: "رواه ابن أبي الزناد عن هشام عن أبيه عن عائشة" وصله محمد بن مسعد عن محمد بن الصباح عن عبد الرحمن بن أبي الزناد بهذا السند ولفظه: كانت تأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصرة، فاشتدت به فأغمي عليه فلددناه، فلما أفاق قال: هذا من فعل نساء جئن من هنا، وأشار إلى الحبشة، وإن كنتم ترون أن الله يسلط علي ذات الجنب ما كان الله ليجعل لها علي سلطانا، والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد، فما بقي أحد في البيت إلا لد، ولددنا ميمونة وهي صائمة" ومن طريق أبي بكر بن عبد الرحمن أن أم سلمة وأسماء بنت عميس أشارتا بأن يلدوه، ورواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أسماء بنت عميس قالت: "إن أول ما اشتكى كان في بيت ميمونة، فاشتد مرضه حتى أغمي عليه، فتشاورن في لده فلدوه. فلما أفاق قال: هذا فعل نساء جئن من هنا - وأشار إلى الحبشة - وكانت أسماء منهن فقالوا: كنا نتهم بك ذات الجنب، فقال: ما كان الله ليعذبني به، لا يبقى أحد في البيت إلا لد. قال: فلقد التدت ميمونة وهي صائمة" وفي رواية ابن أبي الزناد هذه بيان ضعف ما رواه أبو يعلى بسند فيه ابن لهيعة من وجه آخر عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مات من ذات الجنب" ثم ظهر لي أنه يمكن الجمع بينهما بأن ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين كما سيأتي بيانه في كتاب الطب: أحدهما ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن، والآخر ريح محتقن بين الأضلاع، فالأول هو المنفي هنا، وقد وقع في رواية الحاكم في المستدرك "ذات الجنب من الشيطان" والثاني هو الذي أثبت هنا، وليس فيه محذور كالأول.
4459- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا أَزْهَرُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ: "ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَتْ مَنْ قَالَهُ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَمُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي فَدَعَا بِالطَّسْتِ فَانْخَنَثَ فَمَاتَ فَمَا شَعَرْتُ فَكَيْفَ أَوْصَى إِلَى عَلِي"
الحديث العشرون قوله: "أخبرني أزهر" هو ابن سعد السمان بصري، وشيخه عبد الله بن عون بصري أيضا، وأما إبراهيم وهو ابن يزيد النخعي والأسود فكوفيان. قوله: "ذكر" بضم أوله، وتقدم في الوصايا من وجه آخر بلفظ: "ذكروا" وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه "قيل لعائشة إنهم يزعمون أنه أوصى إلى علي، فقالت: ومتى أوصى إليه؟ وقد رأيته دعا بالطست ليتفل فيها" وقد تقدم شرح ما يتعلق به هناك وما يتعلق ببقية الحديث في أثناء هذا الباب.
4460- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ عَنْ طَلْحَةَ قَالَ: "سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَوْصَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لاَ فَقُلْتُ كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ أَوْ أُمِرُوا بِهَا قَالَ أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّه"
الحديث الحادي والعشرون حديث عبد الله بن أبي أوفى، تقدم شرحه مستوفى في أوائل الوصايا.
4461- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ أَمَةً إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ الَّتِي كَانَ يَرْكَبُهَا وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا لابْنِ

(8/148)


السَّبِيلِ صَدَقَة"
4462- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم وَا كَرْبَ أَبَاهُ فَقَالَ: " لَهَا لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ" فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم يَا أَنَسُ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التُّرَاب"
الحديث الثاني والعشرون حديث عمرو بن الحارث وهو المصطلقي أخو ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين. وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل الوصايا. قوله: "واكرب أباه" في رواية مبارك بن فضالة عن ثابت عند النسائي: "واكرباه" والأول أصوب لقوله في نفس الخبر "ليس على أبيك كرب بعد اليوم" وهذا يدل أنها لم ترفع صوتها بذلك وإلا لكان ينهاها. قوله: "يا أبتاه" كأنها قالت: يا أبي والمثناة بدل من التحتانية والألف للندبة ولمد الصوت والهاء للسكت. قوله: "من جنة الفردوس مأواه" بفتح الميم في أوله على أنها موصولة، وحكى الطيبي عن نسخة من "المصابيح" بكسرها على أنها حرف جر، قال: والأول أولى. قوله: "إلى جبريل ننعاه" قيل: الصواب إلى جبريل نعاه، جزم بذلك سبط ابن الجوزي في "المرآة" ، والأول موجه فلا معنى لتغليظ الرواة بالظن وزاد الطبراني من طريق عارم والإسماعيلي من طريق سعيد بن سليمان كلاهما عن حماد في هذا الحديث: "يا أبتاه، من ربه ما أدناه" ومثله للطبراني من طريق معمر، ولأبي داود من طريق حماد بن سلمة كلاهما عن ثابت به، قال الخطابي: زعم بعض من لا يعد في أهل العلم أن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" أن كربه كان شفقة على أمته لما علم من وقوع الفتن والاختلاف، وهذا ليس بشيء لأنه كان يلزم أن تنقطع شفقته على أمته بموته، والواقع أنها باقية إلى يوم القيامة لأنه مبعوث إلى من جاء بعده وأعمالهم تعرض عليه، وإنما الكلام على ظاهره، وأن المراد بالكرب ما كان يجده من شدة الموت، وكان فيما يصيب جسده من الآلام كالبشر ليتضاعف له الأجر كما تقدم. قوله: "فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس إلخ" وهذا من رواية أنس عن فاطمة، وأشارت عليها السلام بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك لأنه يدل على خلاف ما عرفته منهم من رقة قلوبهم عليه لشدة محبتهم له، وسكت أنس عن جوابها رعاية لها ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك، إلا أنا قهرناها على فعله امتثالا لأمره. وقد قال أبو سعيد فيما أخرجه البزار بسند جيد: "وما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا" ومثله في حديث ثابت عن أنس عند الترمذي وغيره، يريد أنهم وجدوها تغيرت عما عهدوه في حياته من الألف والصفاء والرقة، لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم والتأديب. ويستفاد من الحديث جواز التوجع للميت عند احتضاره بمثل قول فاطمة عليها السلام "وأكرب أباه" وأنه ليس من النياحة، لأنه صلى الله عليه وسلم أقرأها على ذلك. وأما قولها بعد أن قبض "واأبتاه إلخ" فيؤخذ منه أن تلك الألفاظ إذا كان الميت متصفا بها لا يمنع ذكره لها بعد موته، بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهرا وهو في الباطن بخلافه أو لا يتحقق اتصافه بها فيدخل في المنع، ونبه هنا على أن المزي ذكر كلام فاطمة هذا في مسند أنس، وهو متعقب، فإنه وإن كان أوله في مسنده لأن الظاهر

(8/149)


أنه حضره، لكن الأخير إنما هو من كلام فاطمة فحقه أن يذكر في رواية أنس عنها.

(8/150)


84- باب آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4463- حدثنا بشر بن محمد حدثنا عبد الله قال يونس قال الزهري أخبرني سعيد بن المسيب في رجال من أهل العلم أن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: " ثم إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير" فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى" فقلت إذا لا يختارنا وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح قالت فكانت آخر كلمة تكلم بها: "اللهم الرفيق الأعلى"
قوله: "باب آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم" ذكر فيه حديث عائشة، وقد شرح في الحديث السابع من الباب الذي قبله، وقول الزهري: "أخبرني سعيد بن المسيب في رجال أهل العلم" قد تقدم منهم عروة بن الزبير، وكأن عائشة أشارت إلى ما أشاعته الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي بالخلافة وأن يوفي ديونه، وقد أخرج العقيلي وغيره في "الضعفاء" في ترجمة حكيم بن جبير من طريق عبد العزيز بن مروان عن أبي هريرة عن سلمان أنه قال: قلت: "يا رسول الله إن الله لم يبعث نبيا إلا بين له من يلي بعده فهل بين لك؟ قال: نعم علي بن أبي طالب" . ومن طريق جرير بن عبد الحميد عن أشياخ من قومه عن سلمان: قلت: " يا رسول الله من وصيك؟ قال: وصيي وموضع سري وخليفتي على أهلي وخير من أخلفه بعدي علي بن أبي طالب" . ومن طريق أبي ربيعة الإيادي عن ابن بريدة عن أبيه رفعه: لكل نبي وصي وإن عليا وصيي وولدي. ومن طريق عبد الله بن السائب عن أبي ذر رفعه: " أنا خاتم النبيين وعلي خاتم الأوصياء" . أوردها وغيرها ابن الجوزي في "الموضوعات" .

(8/150)


85- باب وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4464، 4465- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا"
[الحديث 4464 – طرفه في:4978]
4466- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتِّينَ "قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مِثْلَه"
قوله: "باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم" أي في أي السنين وقعت؟ قوله: "عن يحيى" هو ابن أبي كثير. قوله: "لبث بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرا" هذا يخالف المروي عن عائشة عقبه أنه عاش ثلاثا وستين، إلا

(8/150)


باب توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي
...
86- باب ـ 4467 حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاَثِين"
قوله: "باب" كذا للجميع بغير ترجمة. قوله: "ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين" كذا للأكثر بحذف التميز وللمستملي وحده "ثلاثين صاعا" ووجه إيراده هنا الإشارة إلى أن ذلك من آخر أحواله، وهو يناسب حديث عمرو بن الحارث في الباب الأول أنه لم يترك دينارا ولا درهما.

(8/151)


87- باب بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ
4468- حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن الفضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه "استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أسامة فقالوا فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قد بلغني أنكم قلتم في أسامة وإنه أحب الناس إلي"
4469- حدثنا إسماعيل حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمارته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وايم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده"
قوله: "باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد في مرضه الذي توفي فيه" إنما أخر المصنف هذه الترجمة لما جاء أنه كان تجهيز أسامة يوم السبت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر، ودعا أسامة فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، وأغر صباحا على ابني، وحرق عليهم، وأسرع المسير تسبق الخبر، فإن ظفرك الله بهم فأقل الليث فيهم. فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه في اليوم الثالث فعقد لأسامة لواء بيده، فأخذه أسامة فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف، وكان ممن ندب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم، فتكلم في ذلك قوم منهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي، فرد عليه عمر، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فخطب بما ذكر في هذا الحديث. ثم اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: " أنفذوا بعث أسامة" فجهزه أبو بكر بعد أن استخلف، فسار عشرين ليلة إلى الجهة التي أمر بها، وقتل قاتل أبيه، ورجع بالجيش سالما وقد غنموا. وقد قص أصحاب المغازي قصة مطولة فلخصتها، وكانت آخر سرية جهزها النبي صلى الله عليه وسلم، وأول شيء جهزه أبو بكر رضي الله عنه، وقد أنكر أبي تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر أن يكون أبو بكر وعمر كانا في بعث أسامة؛ ومستند ما ذكره ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي وذكره ابن سند أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد. وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة ولفظه: "بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الأربعاء فأصبح يوم الخميس فعقد لأسامة فقال: اغز في سبيل الله وسر إلى موضع مقتل أبيك، فقد وليتك هذا الجيش" فذكر القصه وفيها "لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبو بكر وعمر، ولما جهزه أبو بكر بعد أن استخلف سأله أبو بكر أن يأذن لهم بالإقامة فأذن، ذكر ذلك كله ابن الجوزي في "المنتظم" جازما به، وذكر الواقدي وأخرجه ابن عساكر من طريقه مع أبي بكر وعمر أبا عبيدة وسعدا وسعيدا وسلمة بن أسلم وقتادة بن النعمان، والذي باشر القول من نسب إليه الطعن في إمارته عياش بن أبي ربيعة، وعند الواقدي أيضا أن عدة ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف فيهم مائة من قريش، وفيه عن أبي هريرة "كانت عدة الجيش سبعمائة" .

(8/152)


باب حديث "دفنا النبي صلى الله عليه وسلم منذ خمس"
...
88- باب 4470- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ "عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ مَتَى هَاجَرْتَ قَالَ خَرَجْنَا مِنْ الْيَمَنِ مُهَاجِرِينَ فَقَدِمْنَا الْجُحْفَةَ فَأَقْبَلَ رَاكِبٌ فَقُلْتُ لَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ دَفَنَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ خَمْسٍ قُلْتُ هَلْ سَمِعْتَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ شَيْئًا قَالَ نَعَمْ أَخْبَرَنِي بِلاَلٌ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فِي السَّبْعِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِر"
قوله: "باب" كذا للجميع بغير ترجمة. قوله: "عن ابن أبي حبيب" هو يزيد، وأبو الخير هو مرثد بن عبد الله، والصنابحي اسمه عبد الرحمن بن عسيلة، وليس له في صحيح البخاري سوى هذا الحديث، وعند أبي داود من وجه آخر عن الصنابحي أنه صلى الله عليه وسلم خلف أبا بكر الصديق. قوله: "فأقبل راكب" لم أقف على اسمه. قوله: "قلت هل سمعت"؟ القائل هو أبو الخير والمقول له الصنابحي، وقد تقدم الكلام على ليلة القدر في كتاب الصيام بما لا مزيد في التتبع عليه.

(8/153)


89- باب كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4471- حدثني عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال: "سألت زيد بن أرقم رضي الله عنه ثم كم غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سبع عشرة قلت كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم قال تسع عشرة" .
4472- حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق حدثنا البراء رضي الله عنه قال "غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة"
قوله: "باب كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم" ختم البخاري كتاب المغازي بنحو ما ابتدأه به، وقد تقدم الكلام في أول المغازي على حديث زيد بن أرقم، وزاد هنا عن أبي إسحاق حديث البراء قال: "غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة" وكأن أبا إسحاق كان حريصا على معرفة عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم فسأل زيد بن أرقم والبراء وغيرهما.
4473- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الحَسَنِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلِ بْنِ هِلاَلٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ كَهْمَسٍ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَة"
قوله: "حدثنا أحمد بن الحسن" هو ابن جنيدب بالجيم والنون وموحدة مصغرا الترمذي الحافظ، ليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وهو من أقران البخاري. قوله: "عن كهمس" بمهملة وزن جعفر. وفي رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن معتمر "سمعت كهمس بن الحسن" وابن بريدة هو عبد الله ولم يخرج البخاري لسليمان بن بريدة شيئا. قوله: "قال: غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة" كذا وقع في مسند أحمد، وكذا أخرجه مسلم عن أحمد نفسه، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي أخرجها مسلم عن شيوخ أخرج البخاري تلك الأحاديث بعينها عن أولئك الشيوخ بواسطة. ووقع من هذا النمط البخاري أكثر من مائتي حديث، وقد جردتها في جزء مفرد. وأخرج مسلم أيضا من وجه آخر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة قاتل منها في ثمان،

(8/153)


وقد تقدم في أول المغازي توجيه ذلك وتحرير عدد الغزوات. وأما السرايا فتقرب من سبعين، وقد استوعبها محمد بن سعد في الطبقات. وقرأت بخط مغلطاي أن مجموع الغزوات والسرايا مائة وهو كما قال، والله أعلم. "خاتمة" : اشتمل كتاب المغازي من الأحاديث المرفوعة وما في حكمها على خمسمائة وثلاثة وستين حديثا، المعلق منها ستة وسبعون حديثا والباقي موصول، المكرر منها فيه وفيما مضى أربعمائة حديث وعشرة أحاديث، والخالص مائه وثلاثة وخمسون حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى ثلاثة وستين حديثا وهي: حديث ابن مسعود "شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا" وحديث ابن عباس "لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر" وحديث علي "أنا أول من يجثو للخصومة" وحديث البراء "شهد علي بدرا وبارز وظاهر" وحديث ابن عمر في توجيهه إلى سعيد بن زيد وكان بدريا، وحديث محمد بن إياس بن البكير وكان أبوه شهد بدرا، وحديث رفاعة بن رافع في فضل أهل بدر، وحديث ابن عباس "هذا جبريل آخذ برأس فرسه وعليه أداة الحرب يوم بدر" وحديث أنس في أبي زيد البدري، وحديث قتادة بن النعمان في الأضاحي، وحديث الزبير في قتله العاصي بن سعيد ببدر، وحديث الربيع بنت معوذ في الضرب بالدف، وحديث علي في تكبيره على سهل بن حنيف، وحديث عمر "تأيمت حفصة" ، وحديث عمر مع قدامة بن مظعون، وحديث البراء في قتل أبي رافع اليهودي، وحديث عبد الرحمن بن عوف أنه أتي بطعام فقال: قتل مصعب بن عمير، وحديث زيد بن ثابت حين نسخ المصاحف، وحديث وحشي في قتل حمزة، وحديث ابن عمر في قتل مسيلمة، وحديث أبي هريرة في قصة خبيب بن عدي، وحديث بنت الحارث فيه، وحديث ابن عمر مع حفصة وفيه مراجعته مع حبيب بن سلمة، وحديث سليمان بن صرد "الآن نغزوهم" وحديث ابن عباس "صلى الخوف بذي قرد" وحديث أبي موسى فيه معلق، وحديث جابر فيه معلق، وحديث القاسم في أنمار معلق مرسل، وحديث عائشة في الولق، وحديث البراء في بر الحديبية، وحديث مرداس "يذهب الصالحون" وحديث بنت خفاف، وحديث عمر معها في شهود أبيها، وحديث البراء "لا ندري ما أحدثنا" وحديث زاهر في لحوم الحمر، وحديث أهبان بن أوس في السجود، وحديث عائذ بن عمرو في نقض الوتر، وحديث قتادة في المثلثة بلاغا، وحديث سلمة في الضرب يوم خيبر، وحديث أنس في الطيالسة، وحديث عائشة في تمر خيبر، وحديث ابن عمر فيه، وحديث ابن عمر في موتة، وحديث خالد بن الوليد فيه، وحديث عمرة بنت رواحة في البكاء، وحديث عروة في قصة الفتح مرسل، وحديث عبد الله بن ثعلبة في مسح وجهه، وحديث عمرو بن سلمة في الصلاة، وفيه حديثه عن أبيه، وحديث ابن أبي أوفى في ضربة حنين، وحديث ابن عمر في قصة بني جذيمة، وحديث أبي بردة في قصة اليهودي المرتد مرسل، وحديث البراء في قصة علي مع الجارية، وحديث بريدة فيه، وحديث جرير في بعثه إلى اليمن، وفيه روايته عن ذي عمرو، وحديث عبد الله بن الزبير في وفد بني تميم، وحديث أبي رجاء العطاردي في رجب، وحديثه فررنا إلى مسيلمة، وحديث ابن مسعود مع خباب وفيه قراءة علقمة، وحديث عدي مع عمر "أسلمت إذ كفروا" وحديث أبي بكرة "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" وحديث علي مع العباس في الوفاة النبوية، وحديث أنس مع فاطمة فيه، وحديث بلال في ليلة القدر. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين اثنان وأربعون أثرا غير ما ذكرناه في المسند مما له حكم الرفع. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(8/154)


كتاب التفسير
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
65- كِتَاب تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اسْمَانِ مِنْ الرَّحْمَةِ الرَّحِيمُ وَالرَّاحِمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْعَلِيمِ وَالْعَالِمِ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب التفسير" في رواية أبي ذر "كتاب تفسير القرآن" وأخر غيره البسملة والتفسير تفعيل من الفسر وهو البيان، تقول: فسرت الشيء بالتخفيف أفسره فسرا، وفسرته بالتشديد أفسره تفسيرا إذا بينته. وأصل الفسر نظر الطبيب إلى الماء ليعرف العلة. وقيل: هو من فسرت الفرس إذا ركضتها محصورة لينطلق حصرها. وقيل هو مقلوب من سفر كجذب وجبذ، تقول: سفر إذا كشف وجهه، ومنه أسفر الصبح إذا أضاء. واختلفوا في التفسير والتأويل، قال أبو عبيدة وطائفة: هما بمعنى. وقيل التفسير هو بيان المراد باللفظ، والتأويل هو بيان المراد بالمعنى، وقيل في الفرق بينهما غير ذلك، وقد بسطته في أواخر كتاب التوحيد. قوله: "الرحمن الرحيم اسمان من الرحمة" أي مشتقان من الرحمة، والرحمة لغة الرقة والانعطاف، وعلى هذا فوصفه به تعالى مجاز عن إنعامه على عباده، وهي صفة فعل لا صفة ذات. وقيل: ليس الرحمن مشتقا لقولهم وما الرحمن؟ وأجيب بأنهم جهلوا الصفة والموصوف، ولهذا لم يقولوا: ومن الرحمن؟ وقيل: هو علم بالغلبة لأنه جاء غير تابع لموصوف في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدا} وغير ذلك. وتعقب بأنه لا يلزم من مجيئه غير تابع أن لا يكون صفة، لأن الموصوف إذا علم جاز حذفه وإبقاء صفته. قوله: "الرحيم والراحم بمعنى واحد كالعليم والعالم" هذا بالنظر إلى أصل المعنى، وإلا فصيغة فعيل من صيغ المبالغة، فمعناها زائد على معنى الفاعل، وقد ترد صيغة فعيل بمعنى الصفة المشبهة، وفيها أيضا زيادة لدلالتها على الثبوت، بخلاف مجرد الفاعل فإنه يدل على الحدوث ويحتمل أن يكون المراد أن فعيلا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول لأنه قد يرد بمعنى مفعول فاحترز عنه، واختلف هل الرحمن والرحيم بمعنى واحد كالندمان والنديم فجمع بينهما تأكيدا؟ أو بينهما مغايرة بحسب المتعلق فهو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأن رحمته في الدنيا تعم المؤمن والكافر وفي الآخرة تخص المؤمن، أو التغاير بجهة أخرى فالرحمن أبلغ لأنه يتناول جلائل النعم وأصولها. تقول فلان غضبان إذا امتلأ غضبا. وأردف بالرحيم ليكون كالتتمة ليتناول ما دق. وقيل الرحيم أبلغ لما يقتضيه صيغة فعيل، والتحقيق أن جهة المبالغة فيهما مختلفة. وروى ابن جرير من طريق عطاء الخراساني أن غير الله لما تسمى بالرحمن كمسيلمة جيء بلفظ الرحيم لقطع التوهم فإنه لم يوصف بهما أحد إلا الله، وعن ابن المبارك: الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل يغضب، ومن الشاذ ما روي عن المبرد وثعلب أن الرحمن عبراني والرحيم عربي، وقد ضعفه ابن الأنباري والزجاج وغيرهما، وقد وجد في اللسان العبراني لكن بالخاء المعجمة. والله أعلم

(8/155)


باب ما جاء في سورة الفاتحة
...
1- باب مَا جَاءَ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَسُمِّيَتْ أُمَّ الْكِتَابِ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَيُبْدَأُ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلاَةِ

(8/155)


وَالدِّينُ الْجَزَاءُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ بِالدِّينِ بِالْحِسَابِ مَدِينِينَ مُحَاسَبِينَ
قوله: "باب ما جاء في فاتحة الكتاب" أي من الفضل، أو من التفسير، أو أعم من ذلك، مع التقييد بشرطه في كل وجه. قوله: "وسميت أم الكتاب أنه" بفتح الهمزة "يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة" هو كلام أبي عبيدة في أول "، مجاز القرآن" لكن لفظه: "ولسور القرآن أسماء: منها أن الحمد لله تسمى أم الكتاب لأنه يبدأ بها في أول القرآن، وتعاد قراءتها فيقرأ بها في كل ركعة قبل السورة، ويقال لها فاتحة الكتاب لأنه يفتتح بها في المصاحف فتكتب قبل الجميع" انتهى. وبهذا تبين المراد مما اختصره المصنف. وقال غيره: سميت أم الكتاب لأن أم الشيء ابتداؤه وأصله، ومنه سميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها. وقال بعض الشراح: التعليل بأنها يبدأ بها يناسب تسميتها فاتحة الكتاب لا أم الكتاب، والجواب أنه يتجه ما قال بالنظر إلى أن الأم مبدأ الولد، وقيل سميت أم القرآن لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله تعالى والتعبد بالأمر والنهي والوعد ولوعيد. وعلى ما فيها من ذكر الذات والصفات والفعل. واشتمالها على ذكر المبدأ والمعاد والمعاش. ونقل السهيلي عن الحسن وابن سيرين ووافقهما بقي بن مخلد كراهية تسمية الفاتحة أم الكتاب، وتعقبه السهيلي. قلت وسيأتي في حديث الباب تسميتها بذلك، ويأتي في تفسير الحجر حديث أبي هريرة مرفوعا: "أم القرآن هي السبع المثاني" ولا فرق بين تسميتها بأم القرآن وأم الكتاب. ولعل الذي كره ذلك وقف عند لفظ الأم، وإذا ثبت النص طاح ما دونه. وللفاتحة أسماء أخرى جمعت من آثار أخرى: الكنز والوافية والشافعية والكافية وسورة الحمد لله وسورة الصلاة وسورة الشفاء والأساس وسورة الشكر وسورة الدعاء. قوله: "الدين الجزاء في الخير والشر. كما تدين تدان" هو كلام أبي عبيدة أيضا قال: الدين الحساب والجزاء، يقال في المثل: كما تدين تدان. انتهى، وقد ورد هذا في حديث مرفوع أخرجه عبد الرازق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وهو مرسل رجاله ثقات. ورواه عبد الرزاق بهذا الإسناد أيضا عن أبي قلابة عن أبي الدرداء موقوفا وأبو قلابة لم يدرك أبا الدرداء. وله شاهد موصول من حديث ابن عمر أخرجه ابن عدي وضعفه. قوله: "وقال مجاهد: بالدين بالحساب. مدينين محاسبين" وصله عبد بن حميد في التفسير من طريق منصور عن مجاهد في قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} قال: بالحساب. ومن طريق ورقاء بن عمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} غير محاسبين. والأثر الأول جاء موقوفا عن ناس من الصحابة أخرجه الحاكم من طريق السدي عن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: هو يوم الحساب ويوم الجزاء وللدين معان أخرى: منها العادة والحكم والحال والخلق والطاعة والقهر والملة والشريعة والورع والسياسة، وشواهد ذلك يطول ذكرها.
4474- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: " كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي فَقَالَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ثُمَّ قَالَ لِي لاَعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ أَلَمْ تَقُلْ

(8/156)


لاَعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَالَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُه" .
[4474- أطرافه في: 4647، 4703، 5006]
قوله: "حدثني خبيب" بالمعجمة مصغر "ابن عبد الرحمن" أي ابن خبيب بن يساف الأنصاري، وحفص ابن عاصم أي ابن عمر بن الخطاب. قوله: "عن أبي سعيد بن المعلى" بين في رواية أخرى تأتي في تفسير الأنفال سماع خبيب له من حفص وحفص له من أبي سعيد، وليس لأبي سعيد هذا في البخاري سوى هذا الحديث. واختلف في اسمه فقيل: رافع، وقيل: الحارث وقواه ابن عبد البر ووهى الذي قبله. وقيل أوس وقيل بل أوس اسم أبيه والمعلى جده. ومات أبو سعيد سنة ثلاث أو أربع وسبعين من الهجرة، وأرخ ابن عبد البر وفاته سنة أربع وسبعين، وفيه نظر بينته في كتابي في الصحابة.
" تنبيهان " يتعلقان بإسناد هذا الحديث: " أحدهما " نسب الغزالي والفخر الرازي وتبعه البيضاوي هذه القصة لأبي سعيد الخدري، وهو وهم، وإنما هو أبو سعيد بن المعلى، " ثانيهما " روى الواقدي هذا الحديث عن محمد بن معاذ عن خبيب بن عبد الرحمن بهذا الإسناد فزاد في إسناده عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب. والذي في الصحيح أصح. والواقدي شديد الضعف إذا انفرد فكيف إذا خالف. وشيخه مجهول. وأظن الواقدي دخل عليه حديث في حديث فإن مالكا أخرج نحو الحديث المذكور من وجه آخر فيه ذكر أبي بن كعب فقال: عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي سعيد مولى عامر "أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب" ومن الرواة عن مالك من قال: "عن أبي سعيد عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه" وكذلك أخرجه الحاكم، ووهم ابن الأثير حيث ظن أن أبا سعيد شيخ العلاء هو أبو سعيد بن المعلى، فإن ابن المعلى صحابي أنصاري من أنفسهم مدني، وذلك تابعي مكي من موالي قريش، وقد اختلف فيه على العلاء أخرجه الترمذي من طريق الدراوردي والنسائي من طريق روح بن القاسم وأحمد في طريق عبد الرحمن بن إبراهيم وابن خزيمة من طريق حفص بن ميسرة كلهم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب" فذكر الحديث وأخرجه الترمذي وابن خزيمة من طريق عبد الحميد بن جعفر والحاكم من طريق شعبة كلاهما عن العلاء مثله لكن قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه" ورجح الترمذي كونه من مسند أبي هريرة، وقد أخرجه الحاكم أيضا من طريق الأعرج عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب" وهو مما يقوي ما رجحه الترمذي، وجمع البيهقي بأن القصة وقعت لأبي بن كعب ولأبي سعيد بن المعلى ويتعين المصير إلى ذلك لاختلاف مخرج الحديثين واختلاف سياقهما كما سأبينه. قوله: "كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه" زاد في تفسير الأنفال من وجه آخر عن شعبة "فلم آته حتى صليت ثم أتيته" وفي رواية أبي هريرة "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب وهو يصلي فقال: أي أبي، فألتفت فلم يجبه، ثم صلى فخفف. ثم انصرف فقال: سلام عليك يا رسول الله قال: ويحك ما منعك إذ دعوتك أن لا تجيبني" الحديث. قوله: "ألم يقل الله تعالى {اسْتَجِيبُوا} في حديث أبي هريرة " أو ليس تجد فيما أوحى الله إلي أن {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} الآية؟ فقلت: بلى يا رسول الله، لا أعود إن شاء الله" .
" تنبيه " نقل ابن التين عن الداودي أن في حديث الباب تقديما وتأخيرا، وهو قوله: "ألم يقل الله {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} قبل قول أبي سعيد" كنت في الصلاة "قال: فكأنه تأول أن من هو في الصلاة خارج عن هذا الخطاب قال: والذي تأول القاضيان عبد الوهاب وأبو الوليد أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرض يعصى المرء بتركه، وأنه

(8/157)


حكم يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم قلت: وما ادعاه الداودي لا دليل عليه، وما جنح إليه القاضيان من المالكية هو قول الشافعية على اختلاف عندهم بعد قولهم بوجوب الإجابة هل تبطل الصلاة أم لا. قوله : "لأعلمنك سورة هي أعظم السور" في رواية روح في تفسير الأنفال " لأعلمنك أعظم سورة في القرآن " وفي حديث أبي هريرة أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها "قال ابن التين معناه أن ثوابها أعظم من غيرها، واستدل به على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض وقد منع ذبك الأشعري وجماعة، لأن المفضول ناقص عن درجة الأفضل وأسماء الله وصفاته وكلامه لا نقص فيها، وأجابوا عن ذلك بأن معنى التفاضل أن ثواب بعضه أعظم من ثواب بعض، فالتفضيل إنما هو من حيث المعاني لا من حيث الصفة، ويؤيد التفضيل قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وقد روى ابن أبي حاتم من طريق علي ابن طلحة عن ابن عباس في قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} أي في المنفعة والرفق والرفعة، وفي هذا تعقب على من قال: فيه تقديم وتأخير والتقدير نأت منها بخير، وهو كما قيل في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} لكن قوله في آية الباب {أَوْ مِثْلِهَا} يرجح الاحتمال الأول، فهو المعتمد، والله أعلم. قوله: "ثم أخذ بيدي" زاد في حديث أبي هريرة "يحدثني وأنا أتباطأ مخافة أن يبلغ الباب قبل أن ينقضي الحديث" . قوله: "ألم تقل لأعلمنك سورة" في حديث أبي هريرة "قلت يا رسول الله ما السورة التي قد وعدتني؟ قال: كيف تقرأ في الصلاة؟ فقرأت عليه أم الكتاب" . قوله: "قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم" في رواية معاذ في تفسير الأنفال "فقال: هي الحمد لله رب العالمين، السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" وفي حديث أبي هريرة "فقال: إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " وفي هذا تصريح بأن المراد بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} هي الفاتحة. وقد روى النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس "أن السبع المثاني هي السبع الطوال" أي السور من أول البقرة إلى آخر الأعراف ثم براءة، وقيل يونس. وعلى الأول فالمراد بالسبع الآي لأن الفاتحة سبع آيات، وهو قول سعيد بن جبير. واختلف في تسميتها "مثاني" فقيل لأنها تثنى كل ركعة أي تعاد، وقيل لأنها يثنى بها على الله تعالى، وقيل لأنها استثنيت لهذه الأمة لم تنزل على من قبلها، قال ابن التين: فيه دليل على أن بسم الله الرحمن الرحيم ليست آية من القرآن، كذا قال، عكس غيره لأنه أراد السورة، ويؤيده أنه لو أراد { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الآية لم يقل هي السبع المثاني لأن الآية الواحدة لا يقال لها سبع فدل على أنه لو أراد بها السورة. والحمد لله رب العالمين من أسمائها، وفيه قوة لتأويل الشافعي في حديث أنس قال: كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، قال الشافعي: أراد السورة وتعقب بأن هذه السورة تسمى سورة الحمد لله، ولا تسمى الحمد لله رب العالمين، وهذا الحديث يرد هذا التعقب، وفيه أن الأمر يقتضي الفور لأنه عاتب الصحابي على تأخير إجابته. وفيه استعمال صيغة العموم في الأحوال كلها قال الخطابي: فيه أن حكم لفظ العموم أن يجري على جميع مقتضاه، وأن الخاص والعام إذا تقابلا كان العام منزلا على الخاص، لأن الشارع حرم الكلام في الصلاة على العموم، ثم استثنى منه إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة. وفيه أن إجابة المصلي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا تفسد الصلاة، هكذا صرح به جماعة من الشافعية وغيرهم. وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقا سواء كان المخاطب مصليا أو غير مصل، أما كونه يخرج بالإجابة من الصلاة أو لا يخرج فليس من الحديث ما يستلزمه. فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج

(8/158)


المجيب من الصلاة، وإلى ذلك جنح بعض الشافعية، وهل يختص هذا الحكم بالنداء أو يشمل ما هو أعم حتى تجب إجابته إذا سأل؟ فيه بحث وقد جزم ابن حبان بأن إجابة الصحابة في قصة ذي اليدين كان كذلك. قوله: "والقرآن العظيم الذي أوتيته" قال الخطابي: في قوله: "هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" دلالة على أن الفاتحة هي القرآن العظيم، وأن الواو ليست بالعاطفة التي تفصل بين الشيئين. وإنما هي التي تجيء بمعنى التفصيل كقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} انتهى. وفيه بحث لاحتمال أن يكون قوله: "والقرآن العظيم" محذوف الخبر والتقدير ما بعد الفاتحة مثلا فيكون وصف الفاتحة انتهى بقوله: "هي السبع المثاني" ثم عطف قوله: "والقرآن العظيم" أب ما زاد على الفاتحة وذكر ذلك رعاية لنظم الآية ويكون التقدير: والقرآن العظيم هو الذي أوتيته زيادة على الفاتحة.
" تنبيه " يستنبط من تفسير السبع المثاني بالفاتحة أن الفاتحة مكية وهو قول الجمهور، خلافا لمجاهد. ووجه الدلالة أنه سبحانه أمتن على رسوله بها، وسورة الحجر مكية اتفاقا فيدل على تقديم نزول الفاتحة عليها. قال الحسين بن الفضل: هذه هفوة من مجاهد، لأن العلماء على خلاف قوله، وأغرب بعض المتأخرين فنسب القول بذنك لأبي هريرة والزهري وعطاء بن يسار، وحكى القرطبي أن بعضهم زعم أنها نزلت مرتين، وفيه دليل على أن الفاتحة سبع آيات، ونقلوا فيه الإجماع لكن جاء عن حسين بن علي الجعفي أنها ست آيات لأنه لم يعد البسملة وعن عمرو بن عبيد أنها ثمان آيات لأنه عدها وعد {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وقيل لم يعدها وعد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وهذا أغرب الأقوال.

(8/159)


2- باب {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}
4475- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا قَالَ الإِمَامُ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فَقُولُوا آمِينَ فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه"
قوله: "باب {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال أهل العربية "لا" زائدة لتأكيد معنى النفي المفهوم من غير، لئلا يتوهم عطف الضالين على الذين أنعمت. وقيل لا بمعنى غير، ويؤيده قراءة عمر "غير المغضوب عليهم وغير الضالين" ذكرها أبو عبيد وسعيد بن منصور بإسناد صحيح، وهي للتأكيد أيضا وروى أحمد وابن حبان من حديث عدي بن حاتم "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المغضوب عليهم اليهود، ولا الضالين النصارى" هكذا أورده مختصرا، وهو عند الترمذي في حديث طويل. وأخرجه ابن مردويه بإسناد حسن عن أبي ذر، وأخرجه أحمد من طريق عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم بين المفسرين في ذلك اختلافا، قال السهيلي: وشاهد ذلك قوله تعالى في اليهود {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} وفي النصارى {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً} . حديث أبي هريرة في موافقة الإمام في التأمين، وقد تقدم شرحه في صفة الصلاة، وروى أحمد وأبو داود والترمذي من حديث وائل بن حجر قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال: آمين، ومد بها صوته" وروى أبو داود وابن ماجه نحوه من حديث أبي هريرة.

(8/159)


سورة البقرة: باب قول الله {وعلم آدم الأسماء كلها}
...
2- سورة الْبَقَرَةِ 10- باب قَوْلِ اللَّهِ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
4476- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و قَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ فَيَسْتَحِي ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ فَيَسْتَحِي فَيَقُولُ ائْتُوا خَلِيلَ الرَّحْمَنِ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ نَفْسٍ فَيَسْتَحِي مِنْ رَبِّهِ فَيَقُولُ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَةَ اللَّهِ وَرُوحَهُ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنَ لِي فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي مِثْلَهُ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُود" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى خَالِدِينَ فِيهَا" .
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم سورة البقرة" كذا لأبي ذر وسقطت البسملة لغيره. واتفقوا على أنها مدنية وأنها أول سورة أنزلت بها. وسيأتي قول عائشة "ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده صلى الله عليه وسلم:"ولم يدخل عليها إلا بالمدينة. قوله: "باب قول الله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} كذا لأبي ذر وسقطت لغيره: "باب قول الله" . قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، وهشام هو الدستوائي، وساق المصنف حديث الشفاعة لقول أهل الموقف لآدم وعلمك أسماء كل شيء، واختلف في المراد بالأسماء: فقيل أسماء ذريته، وقيل أسماء الملائكة، وقيل أسماء الأجناس دون أنواعها، وقيل أسماء كل ما في الأرض، وقيل أسماء كل شيء حتى القصعة. وقد غفل المزي في "الأطراف" فنسب هذه الطريقة إلى كتاب الإيمان وليس لها فيه ذكر. وإنما هي في التفسير. وسيأتي شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف.

(8/160)


2- باب - قَالَ مُجَاهِدٌ {إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أَصْحَابِهِمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ {مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} اللَّهُ جَامِعُهُمْ عَلَى الْخَاشِعِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا قَالَ مُجَاهِدٌ {بِقُوَّةٍ} يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ مَرَضٌ شَكٌّ وَمَا خَلْفَهَا عِبْرَةٌ لِمَنْ بَقِيَ لاَ شِيَةَ لاَ بَيَاضَ وَقَالَ غَيْرُهُ {يَسُومُونَكُمْ} يُولُونَكُمْ الْوَلاَيَةُ مَفْتُوحَةٌ مَصْدَرُ الْوَلاَءِ وَهِيَ الرُّبُوبِيَّةُ إِذَا كُسِرَتْ الْوَاوُ فَهِيَ الإِمَارَةُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحُبُوبُ الَّتِي تُؤْكَلُ كُلُّهَا {فُومٌ} وَقَالَ قَتَادَةُ {فَبَاءُوا} فَانْقَلَبُوا وَقَالَ غَيْرُهُ يَسْتَفْتِحُونَ يَسْتَنْصِرُونَ شَرَوْا بَاعُوا رَاعِنَا مِنْ الرُّعُونَةِ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُحَمِّقُوا إِنْسَانًا قَالُوا رَاعِنًا لاَ يَجْزِي لاَ يُغْنِي خُطُوَاتِ مِنْ الْخَطْوِ وَالْمَعْنَى آثَارَهُ ابْتَلَى اخْتَبَر"
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة. قوله: "قال مجاهد إلى آخر ما أورده عنه من التفاسير" سقط جميع ذلك للسرخسي. قوله: "إلى شياطينهم: أصحابهم من المنافقين والمشركين" وصله عبد بن حميد عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} قال: إلى أصحابهم، فذكره. ومن طريق شيبان عن قتادة قال: إلى إخوانهم من المشركين ورءوسهم وقادتهم في الشر. وروى الطبراني نحوه عن ابن مسعود، ومن طريق ابن عباس قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا الصحابة قالوا إنا على دينكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم - وهم أصحابهم - قالوا: إنا معكم. والنكتة في تعدية خلوا بإلى مع أن أكثر ما يتعدى بالباء أن الذي يتعدى بالباء يحتمل الانفراد والسخرية تقول: خلوت به إذا سخرت منه، والذي يتعدى بإلى نص في الانفراد، أفاد ذلك الطبري ويحتمل أن يكون ضمن "خلا" معنى ذهب. وعلى طريقة الكوفيين بأن حروف الجر تتناوب، فإلى بمعنى الباء أو بمعنى مع. قوله: "محيط بالكافرين: الله جامعهم" وصله عبد بن حميد بالإسناد المذكور عن مجاهد، ووصله الطبري من وجه آخر عنه وزاد: "في جهنم" ومن طريق ابن عباس في قوله: {مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} قال منزل بهم النقمة. "تنبيه" قوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} جملة مبتدأ وخبر اعترضت بين جملة {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ} وجملة "يكاد البرق يخطف أبصارهم" . قوله: {صبغة}: دين" وصله عبد بن حميد من طريق منصور عن مجاهد قال قوله صبغة الله أي دين الله، ومن طريق ابن أبي نجيح عنه قال: صبغة الله أي فطرة الله، ومن طريق قتادة قال: إن اليهود تصبغ أبناءها تهودا، وكذلك النصارى، وإن صبغة الله الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به نوحا ومن بعده انتهى وقراءة الجمهور ضبغة بالنصب وهو مصدر انتصب عن قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} على الأرجح، وقيل منصوب على الإغراء أي ألزموا، وكأن لفظ صبغة ورد بطريق المشاكلة لأن النصارى كانوا يغمسون من ولد منهم في ماء المعمودية ويزعمون أنهم يطهرونهم بذلك، فقيل للمسلمين ألزموا صبغة الله فإنها أطهر. قوله: {عَلَى الْخَاشِعِينَ} : على المؤمنين حقا" وصله عبد بن حميد عن شبابة بالسند المذكور عن مجاهد، وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي العالية قال في قوله: {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} قال: يعني الخائفين، ومن طريق مقاتل بن حبان قال: يعني به المتواضعين. قوله: "بقوة يعمل بما فيه" وصله عبد بالسند المذكور، وروى ابن أبي حاتم والطبري من طريق أبي العالية قال القوة الطاعة، ومن طريق قتادة والسدي قال: القوة الجد والاجتهاد. قوله: "وقال أبو العالية: مرض شك" وصله ابن

(8/161)


أبي حاتم من طريق أبي جعفر الرازي عن أبي العالية في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي شك، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، ومن طريق عكرمة قال: الرياء. ومن طريق قتادة في قوله: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} أي نفاقا وروى الطبري من طريق قتادة في قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال ريبة وشك في أمر الله تعالى. قوله: "وما خلفها عبرة لمن بقي" وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي جعفر الرازي عن أبي العالية في قوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم {مَا خَلْفَهَا} أي عبرة لمن بقي بعدهم من الناس. قوله: "لا شية فيها لا بياض فيها" تقدم في ترجمة موسى من أحاديث الأنبياء. قوله: "وقال غيره يسومونكم يولونكم" هو بضم أوله وسكون الواو والغير المذكور هو أبو عبيد القاسم بن سلام ذكره كذلك في "الغريب المصنف" وكذا قال أبو عبيدة معمر بن المثنى في "المجاز: ومنه قول عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الخسف فينا
ويحتمل أن يكون السوم بمعنى الدوام أي يديمون تعذيبكم، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي. وقال الطبري معنى يسومونكم يوردونكم أو يذيقونكم أو يولونكم. قوله: "الولاية مفتوحة" أي مفتوحة الواو "مصدر الولاء وهي الربوبية وإذا كسرت الواو فهي الإمارة" هو معنى كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} : الولاية بالفتح مصدر الولي. وبالكسر. ووليت العمل والأمر تليه. وذكر البخاري هذه الكلمة وإن كانت في الكهف لا في البقرة ليقوى تفسير يسومونكم يولونكم. قوله: "وقال بعضهم: الحبوب التي تؤكل كلها فوم" هذا حكاه الفراء في معاني القرآن عن عطاء وقتادة قال: الفوم كل حب يختبز وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أن الفوم الحنطة، وحكى ابن جرير أن في قراءة ابن مسعود الثوم بالمثلثة. وبه فسره سعيد بن جبير وغيره، فإن كان محفوظا فالفاء تبدل من الثاء في عدة أسماء فيكون هذا منها والله أعلم. قوله: "وقال قتادة فباءوا فانقلبوا" وصله عبد بن حميد من طريقه. قوله: "وقال غيره: {يَسْتَفْتِحُونَ} يستنصرون" هو تفسير أبي عبيدة، وروى مثله الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس. ومن طريق، الضحاك عن ابن عباس قال: أي يستطهرون. وروى ابن إسحاق في السيرة النبوية عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ لهم قالوا: فينا وفي اليهود نزلت، وذلك أنا كنا قد علوناهم في الجاهلية فكانوا يقولون: إن نبيا سيبعث قد أظل زمانه فنقتلكم معه، فلما بعث الله نبيه واتبعناه كفروا به. فنزلت. وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن ابن عباس مطولا. قوله: {شَرَوْا} باعوا هو قول أبي عبيدة أيضا، قال في قوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي باعوا، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم من طريق السدي. قوله: {رَاعِنَا} عن الرعونة، إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا راعنا" قلت هذا على قراءة من نون وهي قراءة الحسن البصري وأبي حيوة، ووجهه أنها صفة لمصدر محذوف أي لا تقولوا قولا راعنا أي قولا ذا رعونة. وروى ابن أبي حاتم من طريق عباد بن منصور عن الحسن قال: الراعن السخري من القول، نهاهم الله أن يسخروا من محمد. ويحتمل أن يضمن القول التسمية أي لا تسموا نبيكم راعنا. الراعن الأحمق والأرعن مبالغة فيه. وفي قراءة أبي بن كعب {لا تقولوا راعونا} وهي بلفظ الجمع. وكذا في مصحف ابن مسعود وفيه أيضا: "أرعونا" وقرأ الجمهور {رَاعِنَا} بغير تنوين على أنه فعل أمر من المراعاة. إنما نهوا عن ذلك لأنها كلمة تقتضي المساواة، وقد فسرها مجاهد: لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. وعن عطاء: كانت لغة تقولها

(8/162)


الأنصار فنهوا عنها. وعن السدي قال: كان رجل يهودي يقال له رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له: ارعني سمعك واسمع غير مسمع، فكان المسلمون يحسبون أن في ذلك تفخيما للنبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يقولون ذلك فنهوا عنه، وروى أبو نعيم في "الدلائل" بسند ضعيف جدا عن ابن عباس قال: راعنا بلسان اليهود السبب القبيح فسمع سعد بن معاذ ناسا من اليهود خاطبوا بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لئن سمعتها من أحد منكم لأضربن عنقه. قوله: "لا تجزي: لا تغني" هو قول أبي عبيدة في قوله تعالى: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} أي لا تغني، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: يعني لا تعني نفس مؤمنة عن نفس كافرة من المنفعة شيئا. قوله: "خطوات من الخطو والمعنى آثاره" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} : هي الخطأ واحدتها خطوة ومعناها آثار الشيطان، وروى ابن أبي حاتم من طريق عكرمة قال: خطوات الشيطان نزغات الشيطان.
ومن طريق مجاهد خطوات الشيطان خطاه. ومن طريق القاسم بن الوليد: قلت لقتادة فقال: كل معصية الله فهي من خطوات الشيطان، وروى سعيد بن منصور عن أبي مجلز قال: خطوات الشيطان النذور في المعاصي. كذا قال. واللفظ أعم من ذلك فمن في كلامه مقدرة. قوله: "ابتلى اختبر" هو تفسير أبي عبيدة والأكثر. وقال الفراء: أمره، وثبت هذا في نسخة الصغاني

(8/163)


باب قول الله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون}
...
3- باب قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
4477- حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك"
[الحديث 4477- أطرافه في: 4761، 6001، 6811، 6861، 7520، 7532]
قوله: "باب قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الأنداد جمع ند بكسر النون وهو النظير، وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي العالية قال: الند العدل. ومن طريق الضحاك عن ابن عباس قال: الأنداد الأشباه وسقط لفظ: "باب" لأبي ذر. حديث ابن مسعود "أي الذنب أعظم" وسيأتي شرحه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى.

(8/163)


4- باب {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْمَنُّ صَمْغَةٌ وَالسَّلْوَى الطَّيْرُ
4478- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْن"
[الحديث 4478- طرفاه في: 4639، 5708]

(8/163)


باب {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها رغدا حيث شئتم...}
...
5- باب {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} رَغَدًا وَاسِعٌ كَثِيرٌ
4479- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ فَبَدَّلُوا وَقَالُوا حِطَّةٌ حَبَّةٌ فِي شَعَرَة"
قوله: "باب {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} الآية كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى قوله: {الْمُحْسِنِينَ} . قوله: "رغدا" واسعا كثيرا هو من تفسير أبي عبيدة قال: الرغد الكثير الذي لا يتعب يقال قد أرغد فلان إذا أصاب عيشا واسعا كثيرا. وعن الضحاك عن ابن عباس في قوله: {وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} قال: الرغد سعة المعيشة، أخرجه الطبري. وأخرج من طريق السدي عن رجاله قال: الرغد الهنيء، ومن طريق مجاهد قال: الرغد الذي لا حساب فيه. حديث أبي هريرة في قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} وقد تقدم ذكره في قصة موسى من أحاديث الأنبياء وأحلت بشرحه على تفسير سورة الأعراف، وسأذكره هناك إن شاء الله تعالى، وقوله في أول هذا الإسناد "حدثنا محمد" لم يقع منسوبا إلا في رواية أبي علي بن السكن عن الفربري فقال: "محمد بن سلام" ويحتمل عندي أن يكون محمد بن يحيى الذهلي، فإنه يروى عن عبد الرحمن بن مهدي

(8/164)


أيضا، وأما أبو على الجياني فقال: الأشبه أنه محمد بن بشار.

(8/165)


باب قوله {من كان عدوا لجبريل}
...
6- باب {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ}
وَقَالَ عِكْرِمَةُ جَبْرَ وَمِيكَ وَسَرَافِ عَبْدٌ إِيلْ اللَّهُ
4480- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهْوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاَثٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ نَبِيٌّ فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا قَالَ جِبْرِيلُ قَالَ نَعَمْ قَالَ ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلاَمِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ يَبْهَتُونِي فَجَاءَتْ الْيَهُودُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ قَالُوا خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا قَالَ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فَقَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَانْتَقَصُوهُ قَالَ فَهَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ"
قوله: "باب {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} كذا لأبي ذر ولغيره. قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} قيل سبب عداوة اليهود لجبريل أنه أمر باستمرار النبوة فيهم فنقلها لغيرهم، وقيل لكونه يطلع على أسرارهم. قلت: وأصح منهما ما سيأتي بعد قليل لكونه الذي ينزل عليهم بالعذاب. قوله: "قال عكرمة: جبر وميك وسراف: عبد، إيل: الله" وصله الطبري في طريق عاصم عنه قال: جبريل عبد الله، وميكائيل عبد الله، إيل: الله. ومن وجه آخر عن عكرمة: جبر عبد، وميك عبد، وإيل الله. ومن طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس نحو الأول وزاد: وكل اسم فيه إيل فهو الله. ومن طريق عبد الله بن الحارث البصري أحد التابعين قال. أيل الله بالعبرانية. ومن طريق علي بن الحسين قال: اسم جبريل عبد الله وميكائيل عبيد الله يعني بالتصغير وإسرافيل عبد الرحمن وكل اسم فيه إيل فهو معبد لله. وذكر عكس هذا وهو أن إيل معناه عبد وما قبله معناه اسم لله كما تقول عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم فلفظ عبد لا يتغير وما بعده يتغير لفظه وإن كان المعنى واحدا، ويؤيده أن الاسم المضاف في لغة غير العرب غالبا يتقدم فيه المضاف إليه على المضاف. وقال الطبري وغيره: في جبريل لغات، فأهل الحجاز يقولون بكسر الجيم بغير همز وعلى ذلك عامة القراء وبنو أسد مثله لكن آخره نون، وبعض أهل نجد وتميم وقيس

(8/165)


يقولون جبرئيل بفتح الجيم والراء بعدها همزة وهي قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر وخلف واختيار أبي عبيد، وقراءة يحيى بن وثاب وعلقمة مثله لكن بزيادة ألف، وقراءة يحيى بن آدم مثله لكن بغير ياء، وذكر عن الحسن وابن كثير أنهما قرآ كالأول لكن بفتح الجيم، وهذا الوزن ليس في كلام العرب فزعم بعضهم أنه اسم أعجمي وعن يحيى بن يعمر جبرئيل بفتح الجيم والراء بعدها همزة مكسورة وتشديد اللام. ثم ذكر حديث أنس في قصة عبد الله بن سلام وقد تقدمت قبيل كتاب المغازي، وتقدم معظم شرحها هناك. وقوله ذاك عدو اليهود في الملائكة فقرأ هذه الآية {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} ظاهر السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قرأ الآية ردا لقول اليهود. ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ وهذا هو المعتمد، فقد روى أحمد والترمذي والنسائي في سبب نزول الآية قصة غير قصة عبد الله بن سلام، فأخرجوا من طريق بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم. إنا نسألك عن خمسة أشياء. فإن أنبأتنا بها عرفنا أنك نبي واتبعناك - فذكر الحديث وفيه - أنهم سألوه عما حرم إسرائيل على نفسه، وعن علامة النبوة، وعن الرعد وصوته وكيف تذكر المرأة وتؤنث، وعمن يأتيه بالخبر من السماء فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه" وفي رواية لأحمد والطبري من طريق شهر بن حوشب عن ابن عباس "عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتبايعني؟ فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق" فذكر الحديث لكن ليس فيه السؤال عن الرعد. وفي رواية شهر بن حوشب " لما سألوه عمن يأتيه من الملائكة قال: جبريل، قال: ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. فقالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة لبايعناك وصدقناك. قال فما منعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا، فنزلت" وفي رواية بكير بن شهاب" قالوا جبريل ينزل بالحرب والقتل والعذاب، لو كان ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر" فنزلت وروى الطبري من طريق الشعبي "أن عمر كان يأتي اليهود فيسمع من التوراة فيتعجب كيف تصدق ما في القرآن، قال فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نشدتكم بالله أتعلمون أنه رسول الله؟ فقال له عالمهم: نعم نعلم أنه رسول الله. قال: فلم لا تتبعونه؟ قالوا: إن لنا عدوا من الملائكة وسلما، وإنه قرن بنبوته من الملائكة عدونا" فذكر الحديث وأنه لحق النبي صلى الله عليه وسلم فتلا عليه الآية. وأورده. من طريق قتادة عن عمر نحوه. وأورد ابن أبي حاتم والطبري أيضا من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى "أن يهوديا لقي عمر فقال: إن جبريل الذي يذكره صاحبكم عدو لنا. فقال عمر: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين. فنزلت على وفق ما قال:"وهذه طرق يقوى بعضها بعضا، ويدل على أن سبب نزول الآية قول اليهودي المذكور لا قصة عبد الله ابن سلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عبد الله بن سلام: إن جبريل عدو اليهود، تلا عليه الآية مذكرا له سبب نزولها والله أعلم. وحكى الثعلبي من ابن عباس أن سبب عداوة اليهود لجبريل أن نبيهم أخبرهم أن بختنصر سيخرب بيت المقدس، فبعثوا رجلا ليقتله فوجده شابا ضعيفا فمنعه جبريل من قتله وقال له: إن كان الله أراد هلاككم على يده فلن تسلط عليه. وإن كان غيره فعلى أي حق تقتله؟ فتركه، فكبر بختنصر وغزا بيت المقدس فقتلهم وخربه، فصاروا يكرهون جبريل لذلك، وذكر أن الذي خاطب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هو عبد الله بن صوريا. وقوله: "أما أول أشراط الساعة فنار " يأتي شرح ذلك في أواخر كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. وقوله: "أما أول أشراط الساعة فنار " يأتي شرح ذلك في أواخر كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(8/166)


7- باب قَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِأهَا}
4481- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ وَأَقْضَانَا عَلِيٌّ وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبَيٍّ وَذَاكَ أَنَّ أُبَيًّا يَقُولُ لاَ أَدَعُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِأهَا} " .
[الحديث 4481- طرفه في: 5005]
قوله: "باب قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} كذا لأبي ذر ننسها بضم أوله كسر السين بغير همز، ولغيره: "ننسأها" والأول قراءة الأكثر واختارها أبو عبيدة وعليه أكثر المفسرين، والثانية قراءة ابن كثير وأبي عمرو وطائفة، وسأذكر توجيههما، وفيها قراءات أخرى في الشواذ. قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان، وسفيان هو الثوري. قوله: "عن حبيب" هو ابن أبي ثابت، وورد منسوبا في رواية صدقة ابن الفضل عن يحيى القطان في فضائل القرآن. وفي رواية الإسماعيلي من طريق ابن خلاد "عن يحيى بن سعيد عن سفيان حدثنا حبيب" . قوله: "قال عمر أقرؤنا أبي وأقضانا علي" كذا أخرجه موقوفا، وقد أخرجه الترمذي وغيره من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعا في ذكر أبي وفيه ذكر جماعة وأوله "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر - وفيه - وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب" الحديث وصححه، لكن قال غيره: إن الصواب إرساله، وأما قوله: "وأقضانا علي" فورد في حديث مرفوع أيضا عن أنس رفعه: "أقضي أمتي على بن أبي طالب" أخرجه البغوي، وعن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأقضاهم علي" الحديث ورويناه موصولا في "فوائد أبي بكر محمد بن العباس بن نجيح" من حديث أبي سعيد الخدري مثله، وروى البزار من حديث ابن مسعود قال: "كنا نتحدث أن أقضي أهل المدينة على بن أبي طالب رضي الله عنه. قوله: "وإنا لندع من قول أبي" في رواية صدقة "من لحن أبي" واللحن اللغة. وفي رواية ابن خلاد "وإنا لنترك كثيرا من قراءة أبي" . قوله: "سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية صدقة "أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتركه لشيء" لأنه بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يحصل له العلم القطعي به، فإذا أخبره غيره عنه بخلافه لم ينتهض معارضا له حتى يتصل إلى درجة العلم القطعي، وقد لا يحصل ذلك غالبا. "تنبيه" هذا الإسناد فيه ثلاثة من الصحابة في نسق: ابن عباس عن عمر عن أبي بن كعب. قوله: "وقد قال الله تعالى إلخ" هو مقول عمر محتجا به على أبي بن كعب ومشيرا إلى أنه ربما قرأ ما نسخت تلاوته لكونه لم يبلغه النسخ، واحتج عمر لجواز وقوع ذلك بهذه الآية. وقد أخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "خطبنا عمر فقال: إن الله يقول: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِأهَا} أي نؤخرها" وهذا يرجح رواية من قرأ بفتح أوله وبالهمز، وأما قراءة من قرأ بضم أوله فمن النسيان، وكذلك كان سعيد بن المسيب يقرؤها فأنكر عليه سعد بن أبي وقاص أخرجه النسائي وصححه الحاكم، وكانت قراءة سعد "أو ننساها" بفتح المثناة خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم واستدل بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} وروى ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: "ربما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل ونسيه بالنهار فنزلت واستدل بالآية المذكورة على وقوع النسخ خلافا لمن شذ فمنعه، وتعقب بأنها قضية شرطية لا تستلزم الوقوع، وأجيب بأن السياق وسبب

(8/167)


النزول كان في ذلك لأنها نزلت جوابا لمن أنكر ذلك.

(8/168)


8- باب {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ}
4482- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا"
قوله: "باب وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه" كذا للجميع وهي قراءة الجمهور، وقرأ ابن عامر "قالوا" بحذف الواو، واتفقوا على أن الآية نزلت فيمن زعم أن لله ولدا من يهود خيبر ونصارى نجران ومن قال من مشركي العرب الملائكة بنات الله فرد الله تعالى عليهم. قوله: "قال الله تعالى" هذا من الأحاديث القدسية. قوله: " وأما شتمه إياي فقوله لي ولد" إنما سماه شتما لما فيه من التنقيص لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله ثم تضعه ويستلزم ذلك سبق النكاح، والنكاح يستدعى باعثا له على ذلك. والله سبحانه منزه عن جميع ذلك، ويأتي شرحه في تفسير سورة الإخلاص.

(8/168)


9- باب قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} {مَثَابَةً} يَثُوبُونَ: يَرْجِعُونَ
4483- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ: "عُمَرُ وَافَقْتُ اللَّهَ فِي ثَلاَثٍ أَوْ وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلاَثٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْتَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ قَالَ وَبَلَغَنِي مُعَاتَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ نِسَائِهِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ قُلْتُ إِنْ انْتَهَيْتُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا مِنْكُنَّ حَتَّى أَتَيْتُ إِحْدَى نِسَائِهِ قَالَتْ يَا عُمَرُ أَمَا فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} الآيَة"
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ عُمَر"
قوله: "باب {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} كذا لهم، والجمهور على كسر الخاء من قوله: "واتخذوا" بصيغة الأمر، وقرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء بصيغة الخبر، والمراد في اتبع إبراهيم. وهو معطوف على قوله: "جعلنا" فالكلام جملة واحدة، وقيل على "وإذ جعلنا" فيحتاج إلى تقدير "إذ" ويكون الكلام جملتين، وقيل على محذوف تقديره فثابوا أي رجعوا واتخذوا، وتوجيه قراءة الجمهور أنه معطوف على ما تضمنه قوله: "مثابة" كأنه قال ثوبوا واتخذوا، أو معمول لمحذوف أي وقلنا اتخذوا، ويحتمل أن يكون الواو للاستئناف. قوله: {مَثَابَةً}

(8/168)


10- باب قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الْقَوَاعِدُ أَسَاسُهُ وَاحِدَتُهَا قَاعِدَةٌ وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ وَاحِدُهَا قَاعِدٌ

(8/169)


4484- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أَلَمْ تَرَيْ أَنْ قَوْمَكِ بَنَوْا الْكَعْبَةَ وَاقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ" فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيم"
قوله: "باب {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} ساق إلى - العليم. قوله: "القواعد أساسه. واحدتها قاعدة" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} قال: قواعده أساسه. وقال الفراء: يقال القواعد أساس البيت. قال الطبري: اختلفوا في القواعد التي رفعها إبراهيم وإسماعيل أهما أحدثاها أم كانت قبلهما ثم روى بسند صحيح عن ابن عباس قال: "كانت قواعد البيت قبل ذلك" ومن طريق عطاء قال: قال آدم أي رب لا أسمع أصوات الملائكة، قال: ابن لي بيتا ثم أحفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل حتى بناه إبراهيم بعد، وقد تقدم بزيادة فيه في قصة إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قوله: "والقواعد من النساء واحدتها قاعد" أراد الإشارة إلى أن لفظ الجمع مشترك، وتظهر التفرقة بالواحد، فجمع النساء اللواتي قعدن عن الحيض والاستمتاع قاعد بلا هاء ولولا تخصيصهن بذلك لثبت الهاء نحو قاعدة من القعود المعروف. ثم ذكر المصنف حديث عائشة في بناء قريش البيت، وقد سبق بسطه في كتاب الحج. حديث عائشة في بناء قريش البيت، وقد سبق بسطه في كتاب الحج.

(8/170)


باب {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا}
...
11- باب قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}
4485- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الْآيَةَ
[الحديث 4485- طرفاه في: 7262، 7542]
قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} "سقط لفظ: "باب" لغير أبي ذر. قوله: "كان أهل الكتاب" أي اليهود. قوله: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملا لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه. أو كذبا فتصدقوه فتقعوا في الحرج. ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد بخلافه. ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفائه. نبه على ذلك الشافعي رحمه الله ويؤخذ من هذا الحديث التوقف عن الخوض في المشكلات والجزم فيها بما يقع في الظن، وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف من ذلك. قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية" زاد في الاعتصام { وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} وزاد الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن محمد بن المثنى

(8/170)


عن عثمان بن عمر بهذا الإسناد "وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون".

(8/171)


باب {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}
...
12- باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة 142]
4486- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ سَمِعَ زُهَيْرًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ وَأَنَّهُ صَلَّى أَوْ صَلاَهَا صَلاَةَ الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ قَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيم} "
قوله: "باب قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} الآية كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: " {مُسْتَقِيمٍ} والسفهاء جمع سفيه وهو خفيف العقل، وأصله من قولهم ثوب سفيه أي خفيف النسج، واختلف في المراد بالسفهاء فقال البراء في حديث الباب وابن عباس ومجاهد: هم اليهود. وأخرج ذلك الطبري عنهم بأسانيد صحيحة، وروي من طريق السدي قال: هم المنافقون، والمراد بالسفهاء الكفار وأهل النفاق واليهود، أما الكفار فقالوا لما حولت القبلة: رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا فإنه علم أنا على الحق، وأما أهل النفاق فقالوا، إن كان أولا على الحق فالذي انتقل إليه باطل وكذلك بالعكس، وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء ولو كان نبيا لما خالف، فلما كثرت أقاويل هؤلاء السفهاء أنزلت هذه الآيات من قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} إلى قوله تعالى:َ {فلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} الآية. قوله: "ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا" تقدم الكلام عليه وعلى شرح الحديث في كتاب الإيمان.

(8/171)


باب {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}
...
13- باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}
4487- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ وَأَبُو أُسَامَةَ وَاللَّفْظُ لِجَرِيرٍ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ فَيَقُولُ هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا

(8/171)


باب {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ...}
...
14- باب قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [143 البقرة]
4488- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ إِذْ جَاءَ جَاءٍ فَقَالَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنًا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا فَتَوَجَّهُوا إِلَى الْكَعْبَة"
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} حديث ابن عمر في تحويل القبلة، أورده مختصرا، وقد تقدم شرحه في أوائل الصلاة مستوفى.

(8/173)


15- باب: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ- إِلَى- عَمَّا تَعْمَلُونَ }
4489- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "لَمْ يَبْقَ مِمَّنْ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ غَيْرِي"
قوله: "باب قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية" وفي رواية كريمة إلى {عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
قوله: "عن أنس" صرح في رواية الإسماعيلي وأبي نعيم بسماع سليمان له من أنس. قوله: "لم يبق ممن صلى القبلتين غيري" يعني الصلاة إلى بيت المقدس وإلى الكعبة، وفي هذا إشارة إلى أن أنسا آخر من مات ممن صلى إلى القبلتين، والظاهر أن أنسا قال ذلك وبعض الصحابة ممن تأخر إسلامه موجود، ثم تأخر أنس إلى أن كان آخر من مات بالبصرة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله علي بن المديني والبزار وغيرهما. بل قال ابن عبد البر: هو آخر الصحابة موتا مطلقا، لم يبق بعده غيره أبي الطفيل، كذا قال وقيه نظر، فقد ثبت لجماعة ممن سكن البوادي من الصحابة تأخرهم عن أنس وكانت وفاة أنس سنة تسعين أو إحدى أو ثلاث وهو أصح ما قيل، وله مائة وثلاث سنين على الأصح أيضا، وقيل أكثر من ذلك، وقيل أقل. وقوله تعالى: { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} هي الكعبة وروى الحاكم من حديث ابن عمر في قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قال: نحو ميزاب الكعبة، وإنما قال ذلك لأن تلك الجهة قبلة أهل المدينة.

(8/173)


16- باب - {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ - إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ}
4490- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "بَيْنَمَا النَّاسُ فِي الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ جَاءَهُمْ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَأُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ أَلاَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَ وَجْهُ النَّاسِ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا بِوُجُوهِهِمْ إِلَى الْكَعْبَة"
قوله: "باب {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} الآية" كذا لأبي ذر، ولغيره إلى "لمن الظالمين" ذكر فيه حديث ابن عمر المشار إليه قبل باب من وجه آخر.

(8/174)


17- باب- {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ- إِلَى قَوْلِهِ- فَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ}
4491- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَة"
قوله: باب {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} كذا لأبي ذر ولغيره: "إلى آخر الآية" وساق فيه حديث ابن عمر المذكور من وجه آخر.

(8/174)


18- باب - {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
4492- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ صَرَفَهُ نَحْوَ الْقِبْلَة"
قوله: "باب {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} الآية كذا لأبي ذر، ولغيره:"إلى {كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} . قوله: "صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم صرفه نحو القبلة" في رواية الكشميهني: "ثم صرفوا" وهذا طرف من حديث البراء المشار إليه قريبا.

(8/174)


19- باب- {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} شَطْرُهُ تِلْقَاؤُهُ

(8/174)


20- باب- {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ -إِلَى قَوْلِهِ- وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
4494- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ "بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْقِبْلَة"
قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية" كذا لأبي ذر ولغيره إلى {عَمَّا تَعْمَلُونَ} . قوله: "شطره تلقاؤه" قال الفراء في قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} يريد نحوه، قال: وفي بعض القراءات "تلقاءه" وروى الطبري من طريق أبي العالية قال: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} تلقاءه "ومن طريق قتادة نحوه. ثم ذكر حديث ابن عمر من طريق أخرى.

(8/175)


باب قوله {إن الصفا والمروة من شعائر الله...}
...
21- باب- قَوْلِه:ِ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}
شَعَائِرُ عَلاَمَاتٌ وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الصَّفْوَانُ الْحَجَرُ وَيُقَالُ الْحِجَارَةُ الْمُلْسُ الَّتِي لاَ تُنْبِتُ شَيْئًا وَالْوَاحِدَةُ صَفْوَانَةٌ بِمَعْنَى الصَّفَا وَالصَّفَا لِلْجَمِيعِ.
4495- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: "قُلْتُ لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَمَا أُرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا أَنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَلاَ لَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ كَانَتْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} "

(8/175)


22- باب: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} أضدادا، واحدها ند
4497- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ وَهْوَ لاَ يَدْعُو لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ الْجَنَّة"
قوله: "باب قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} يعني أضدادا واحدها ند" قد تقدم تفسير الأنداد في أوائل هذه السورة، وتفسير الأنداد بالأضداد لأبي عبيدة وهو تفسير باللازم، وذكر هنا أيضا حديث ابن مسعود "من مات وهو يجعل لله ندا" وقد مضى شرحه في أوائل كتاب الجنائز، ويأتي الإلمام بشيء منه الأيمان والنذور. حديث ابن مسعود "من مات وهو يجعل لله ندا" قد مضى شرحه في أوائل كتاب الجنائز، ويأتي الإلمام بشيء منه الأيمان والنذور.

(8/176)


23- باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} إِلَى قَوْلِهِ {عَذَابٌ أَلِيمٌ} عُفِيَ تُرِكَ
4498- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يَتَّبِعُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُؤَدِّي بِإِحْسَانٍ { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ

(8/176)


24- باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
4501- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كَانَ عَاشُورَاءُ يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ قَالَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْه" .
4502- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ عَاشُورَاءُ يُصَامُ قَبْلَ رَمَضَانَ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ قَالَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَر"

(8/177)


4503- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "دَخَلَ عَلَيْهِ الأَشْعَثُ وَهْوَ يَطْعَمُ فَقَالَ الْيَوْمُ عَاشُورَاءُ فَقَالَ كَانَ يُصَامُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَمَضَانُ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ تُرِكَ فَادْنُ فَكُل"
4504- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ رَمَضَانُ الْفَرِيضَةَ وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْه"
قوله: "باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أما قوله:"كتب" فمعناه فرض، والمراد بالمكتوب فيه اللوح المحفوظ، وأما قوله: "كما" فاختلف في التشبيه الذي دلت عليه الكاف هل هو على الحقيقة فيكون صيام رمضان قد كتب على الذين من قبلنا؟ أو المراد مطلق الصيام دون وقته وقدره؟ فيه قولان. وورد في أول حديث مرفوع عن عمر أورده ابن أبي حاتم بإسناد فيه مجهول ولفظه: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم" وبهذا قال الحسن البصري والسدي وله شاهد آخر أخرجه الترمذي في طريق معقل النسابة وهو من المخضرمين ولم يثبت له صحبة، ونحوه عن الشعبي وقتادة. والقول الثاني أن التشبيه واقع على نفس الصوم وهو قول الجمهور، وأسنده ابن أبي حاتم والطبري عن معاذ وابن مسعود وغيرهما في الصحابة والتابعين، وزاد الضحاك "ولم يزل الصوم مشروعا من زمن نوح" وفي قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إشارة إلى أن من قبلنا كان فرض الصوم عليهم من قبيل الآصار والأثقال التي كلفوا بها، وأما هذه الأمة فتكليفها بالصوم ليكون سببا لاتقاء المعاصي وحائلا بينهم وبينها، فعلى هذا المفعول المحذوف يقدر بالمعاصي أو بالمنهيات. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: حديث ابن عمر تقدم في كتاب الصيام من وجه آخر مع شرحه حديث عائشة أورده من وجهين عن عروة عنها وقد تقدم شرحه كذلك قوله: "حدثني محمود" هو ابن غيلان وثبت كذلك في رواية كذا قال أبو علي الجياني، وقد وقع في نسخة الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني "حدثنا محمد" بدل "محمود" وقد ذكر الكلاباذي أن البخاري روى عن محمود ابن غيلان وعن محمد وهو ابن يحيى الذهلي عن عبيد الله بن موسى، قال أبو علي الجياني: لكن هنا الاعتماد على ما قال الجماعة عن محمود بن غيلان المروزي. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود. قوله: "قال: دخل عليه الأشعث وهو يطعم" أي يأكل وفي رواية مسلم من وجه آخر عن إسرائيل بسنده المذكور إلى علقمة قال: "دخل الأشعث بن قيس على ابن مسعود وهو يأكل" وهو ظاهر في أن علقمة حضر القصة، ويحتمل أن يكون لم يحضرها وحملها عن ابن مسعود كما دل عليه سياق رواية الباب. ولمسلم أيضا من طريق عبد الرحمن بن يزيد قال: "دخل الأشعث بن قيس على عبد الله وهو يتغذى". قوله: "فقال: اليوم عاشوراء" كذا وقع مختصرا، وتمامه في رواية مسلم بلفظ: "فقال - أي الأشعث - يا أبا عبد الرحمن" وهي كنية ابن مسعود وأوضح في ذلك رواية عبد الرحمن بن يزيد المذكورة "فقال - أي ابن مسعود - يا أبا محمد" وهي كنية الأشعث "أدن إلى الغداء فقال: أو ليس اليوم يوم عاشوراء" . قوله: "كان يصام

(8/178)


قبل أن ينزل رمضان" في رواية عبد الرحمن بن يزيد "إنما هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل شهر رمضان. قوله: "فلما نزل رمضان ترك" زاد مسلم في روايته فإن كنت مفطرا فأطعم، للنسائي من طريق عبد الرحمن بن يزيد عند عبد الله "كنا نصوم عاشوراء، فلما نزل رمضان لم نؤمر به ولم ننه عنه، وكنا نفعله" ولمسلم من حديث جابر بن سمرة نحو هذه الرواية واستدل بهذا الحديث على أن صيام عاشوراء كان مفترضا قبل أن ينزل فرض رمضان ثم نسخ، وقد تقدم القول فيه مبسوطا في أواخر كتاب الصيام، وإيراد هذا الحديث في هذه الترجمة يشعر بأن المصنف كان يميل إلى ترجيح القول الثاني، ووجهه أن رمضان لو كان مشروعا قبلنا لصامه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصم عاشوراء أولا، والظاهر أن صيامه عاشوراء ما كان إلا عن توقيف ولا يضرنا في هذه المسألة اختلافهم هل كان صومه فرضا أو نفلا.

(8/179)


25- باب {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
وَقَالَ عَطَاءٌ يُفْطِرُ مِنْ الْمَرَضِ كُلِّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فِي الْمُرْضِعِ أَوْ الْحَامِلِ إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدِهِمَا تُفْطِرَانِ ثُمَّ تَقْضِيَانِ وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ إِذَا لَمْ يُطِقْ الصِّيَامَ فَقَدْ أَطْعَمَ أَنَسٌ بَعْدَ مَا كَبِرَ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا خُبْزًا وَلَحْمًا وَأَفْطَرَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ يُطِيقُونَهُ وَهْوَ أَكْثَر.
4505- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فَلاَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لاَ يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا"
قوله: "باب قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله: { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ساق الآية كلها، وانتصب "أياما" بفعل مقدر يدل عليه سياق الكلام كصوموا أو صاموا، وللزمخشري في إعرابه كلام متعقب ليس هذا موضعه. قوله: "وقال عطاء: يفطر من المرض كله كما قال الله تعالى" وصله عبد الرزاق عن ابن جريح قال: قلت لعطاء من أي وجع أفطر في رمضان؟ قال: في المرض كله، قلت: يصوم فإذا غلب عليه أفطر؟ قال: نعم. وللبخاري في هذا الأثر قصة مع شيخه إسحاق بن راهويه ذكرتها في ترجمة البخاري من "تعليق التعليق" وقد اختلف السلف في الحد الذي إذا وجده المكلف جاز له الفطر، والذي عليه الجمهور أنه المرض الذي يبيح له التيمم مع وجود الماء، وهو ما إذا خاف على نفسه لو تمادى على الصوم أو على عضو من أعضائه أو زيادة في المرض الذي بدأ به أو تماديه. وعن ابن سيرين: متى حصل للإنسان حال يستحق بها اسم المرض فله الفطر، وهو نحو قول عطاء، وعن الحسن والنخعي: إذا لم يقدر على الصلاة قائما يفطر. قوله: "وقال الحسن وإبراهيم في المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أو ولدهما تفطران ثم تقضيان" كذا وقع لأبي ذر، وللأصيلي بلفظ: "أو الحامل" ولغيرهما: "والحامل" بالواو وهو أظهر. وأما أثر الحسن فوصله عبد بن حميد من طريق يونس بن حميد

(8/179)


عن الحسن هو البصري قال: المرضع إذا خافت على ولدها أفطرت وأطعمت والحامل إذا خافت على نفسها أفطرت وقضت، وهي بمنزلة المريض. ومن طريق قتادة عن الحسن: تفطران وتقضيان. وأما قول إبراهيم وهو النخعي فوصله عبد بن حميد أيضا من طريق أبي معشر عن النخعي قال: الحامل والمرضع إذا خافتا أفطرنا وقضتا صوما. قوله: "وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بن مالك بعدما كبر عاما أو عامين كل يوم مسكينا خبزا ولحما وأفطر" وروى عبد حميد في طريق النضر بن أنس عن أنس أنه أفطر في رمضان وكان قد كبر، فأطعم مسكينا كان يوم. ورويناه في "فوائد محمد بن هشام بن ملاس" عن مروان عن معاوية عن حميد قال: ضعف أنس عن الصوم عام توفى، فسألت ابنه عمر بن أنس: أطاق الصوم؟ قال: لا، فلما عرف أنه لا يطيق القضاء أمر بجفان من خبز ولحم فأطعم العدة أو أكثر. "تنبيه" قوله: "أطعم" الفاء جواب الدليل الدال على جواز الفطر وتقدير الكلام وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فإنه يجوز له أن يفطر ويطعم، فقد أطعم إلخ. وقوله: "كبر" بفتح الكاف وكسر الموحدة أي أسن، وكان أنس حينئذ في عشر المائة كما تقدم التنبيه عليه قريبا. قوله: "قراءة العامة يطيقونه وهو أكثر" يعني من أطاق يطيق، وسأذكر ما خالف ذلك في الذي بعده. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه، وروح بفتح الراء هو ابن عبادة. قوله: "سمع ابن عباس يقول" في رواية الكشميهني: "يقرا" . قوله: {يُطِيقُونَهُ} بفتح الطاء بشديد الواو مبنيا للمفعول مخفف الطاء من طوق بضم أوله بوزن قطع، وهذه قراءة ابن مسعود أيضا، وقد وقع عند النسائي من طريق ابن أبي نجيح عن عمرو بن دينار: يطوقونه يكلفونه، وهو تفسير حسن أي يكلفون إطاقته. و قوله: {طَعَامُ مِسْكِينٍ} زاد في رواية النسائي: "واحد" وقوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} زاد في رواية النسائي: "فزاد مسكين آخر" . قوله: "قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة" هذا مذهب ابن عباس، وخالفه الأكثر، وفي هذا الحديث الذي بعده ما يدل على أنها منسوخة. وهذه القراءة تضعف تأويل من زعم أن "لا" محذوفة من القراءة المشهورة، وأن المعنى: وعلى الذين لا يطيقونه فدية، وأنه كقول الشاعر "فقلت يمين الله أبرح قاعدا" أي لا أبرح قاعدا، ورد بدلالة القسم على النفي بخلاف الآية، ويثبت هذا التأويل أن الأكثر على أن الضمير في قوله: {يُطِيقُونَهُ} للصيام فيصير تقدير الكلام وعلى الذين يطيقون الصيام فدية، والفدية لا تجب على المطيق وإنما تجب على غيره، والجواب عن ذلك أن في الكلام حذفا تقديره: وعلى الذين يطيقون الصيام إذا أفطروا فدية، وكان هذا في أول الأمر عند الأكثر، ثم نسخ وصارت الفدية للعاجز إذا أفطر، وقد تقدم في الصيام حديث ابن أبي ليلى قال: "حدثنا أصحاب محمد لما نزل رمضان شق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك فنسختها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وأما على قراءة ابن عباس فلا نسخ لأنه يجعل الفدية على من تكلف الصوم وهو لا يقدر عليه فيفطر ويكفر، وهذا الحكم باق. وفي الحديث حجة لقول الشافعي ومن وافقه أن الشيخ الكبير ومن ذكر معه إذا شق عليهم الصوم فأفطروا فعليهم الفدية خلافا لمالك ومن وافقه. واختلف في الحامل والمرضع ومن أفطر لكبر ثم قوى على القضاء بعد فقال الشافعي وأحمد: يقضون ويطعمون. وقال الأوزاعي والكوفيون: لا إطعام.

(8/180)


26- باب {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
4506- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ

(8/180)


عَنْهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَة"
4507- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ "لَمَّا نَزَلَتْ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ حَتَّى نَزَلَتْ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ مَاتَ بُكَيْرٌ قَبْلَ يَزِيدَ"
قوله: "باب {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ذكر فيه حديث ابن عمر أنه قرأ: {فِدْيَةٌ طَعَامُ} بالإضافة و "مساكين" بلفظ الجمع وهي قراءة نافع وابن ذكوان، والباقون بتنوين "فدية" وتوحيد {مِسْكِينٍ} وطعام بالرفع على البدلية، وأما الإضافة فهي من إضافة الشيء إلى نفسه، والمقصود به البيان مثل خاتم حديد وثوب حرير، لأن الفدية تكون طعاما وغيره، ومن جمع مساكين فلمقابلة الجمع بالجمع ومن أفراد فمعناه فعلى كل واحد ممن يطيق الصوم، ويستفاد من الإفراد أن الحكم لكل يوم يفطر فيه إطعام مسكين، ولا يفهم ذلك من الجمع، والمراد بالطعام الإطعام. الحديث: قوله: "قال هي منسوخة" هو صريح في دعوى النسخ ورجحه ابن المنذر من جهة قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال لأنها لو كانت في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام لم يناسب أن يقال له {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} مع أنه لا يطيق الصيام. قوله في حديث ابن الأكوع "لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} إلخ" هذا أيضا صريح في دعوى النسخ وأصرح منه ما تقدم من حديث ابن أبي ليلى، ويمكن إن كانت القراءة بتشديد الواو ثابتة أن يكون الوجهان ثابتين بحسب مدلول القرائن. والله أعلم. قوله: "مات أبو عبد الله" هو المصنف، وثبت هذا الكلام في رواية المستملى وحده. قوله: "مات بكير قبل يزيد" أي مات بكير بن عبد الله بن الأشج الراوي عن يزيد وهو ابن أبي عبيد قبل شيخه يزيد، وكانت وفاته سنة عشرين ومائة وقيل قبلها أو بعدها، ومات يزيد سنة ست أو سبع وأربعين ومائة.

(8/181)


27- باب {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}
4508- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ ح و حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَانُوا لاَ يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}
قوله: "باب: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة الآية كلها. قوله: "لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء" قد تقدم في كتاب الصيام من حديث البراء أيضا أنهم كانوا لا يأكلون ولا يشربون إذا ناموا، وأن الآية نزلت في ذلك، وبينت هناك أن الآية نزلت في الأمرين معا، وظاهر سياق حديث الباب أن الجماع كان ممنوعا في جميع الليل والنهار، بخلاف الأكل

(8/181)


والشرب فكان مأذونا فيه ليلا ما لم يحصل النوم، لكن بقية الأحاديث الواردة في هذا المعنى تدل على عدم الفرق كما سأذكرها بعد، فيحمل قوله: "كانوا لا يقربون النساء" على الغالب جمعا بين الأخبار. قوله: "وكان رجال يخونون أنفسهم" سمي من هؤلاء عمر وكعب بن مالك رضي الله عنهما فروى أحمد وأبو داود والحاكم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: "أحل الصيام ثلاثة أحوال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء. ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل عليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فذكر الحديث إلى أن قال: "وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا. ثم إن رجلا من الأنصار صلى العشاء ثم نام فأصبح مجهودا، وكان عمر أصاب من النساء بعدما نام، فأنزل الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وهذا الحديث مشهور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، لكنه لم يسمع من معاذ، وقد جاء عنه فيه: "حدثنا أصحاب محمد" كما تقدم التنبيه عليه قريبا، فكأنه سمعه من غير معاذ أيضا، وله شواهد: منها ما أخرجه ابن مردويه من طريق كريب عن ابن عباس قال: "بلغنا" ومن طريق عطاء عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه قال: "كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده، فأراد امرأته، فقالت: إني قد نمت، قال: ما نمت، ووقع عليها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك. فنزلت: وروى ابن جرير من طريق ابن عباس نحوه، ومن طريق أصحاب مجاهد وعطاء وعكرمة وغير واحد من غيرهم كالسدي وقتادة وثابت نحو هذا الحديث، لكن لم يزد واحد منهم في القصة على تسمية عمر إلا في حديث كعب بن مالك، والله أعلم.

(8/182)


باب وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ....}
...
28- باب {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} إِلَى قَوْلِهِ {يَتَّقُونَ} الْعَاكِفُ الْمُقِيمُ
4509- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيٍّ قَالَ أَخَذَ عَدِيٌّ عِقَالاً أَبْيَضَ وَعِقَالاً أَسْوَدَ حَتَّى كَانَ بَعْضُ اللَّيْلِ نَظَرَ فَلَمْ يَسْتَبِينَا فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلْتُ تَحْتَ وِسَادِي عِقَالَيْنِ قَالَ: "إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ أَنْ كَانَ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِك"
4510- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ أَهُمَا الْخَيْطَانِ قَالَ إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا إِنْ أَبْصَرْتَ الْخَيْطَيْنِ ثُمَّ قَالَ لاَ بَلْ هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَار"
4511- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ

(8/182)


قَالَ وَأُنْزِلَتْ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} وَلَمْ يُنْزَلْ مِنْ الْفَجْرِ وَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأَسْوَدَ وَلاَ يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهُ {مِنْ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ مِنْ النَّهَار"
قوله: "باب وكلوا وأشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" الآية. العاكف المقيم" ثبت هذا التفسير في رواية المستملى وحده، وهو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {سَوَاءً العَاكفُ فِيهِ وَالبَادِ} أي المقيم والذي لا يقيم. حديث عدي بن حاتم من وجهين في تفسير الخيط الأبيض والأسود، وحديث سهل بن سعد في ذلك، وقد تقدما في الصيام مع شرحهما. حديث عدي بن حاتم من وجهين في تفسير الخيط الأبيض والأسود، وحديث سهل بن سعد في ذلك، وقد تقدما في الصيام مع شرحهما. حديث عدي بن حاتم من وجهين في تفسير الخيط الأبيض والأسود، وحديث سهل بن سعد في ذلك، وقد تقدما في الصيام مع شرحهما.

(8/183)


29- باب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
4512- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَتَوْا الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} "
قوله باب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى} الآية" كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى آخرها، ثم ذكر حديث البراء في سبب نزولها، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج. قوله باب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى} الآية" كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى آخرها، ثم ذكر حديث البراء في سبب نزولها، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج.

(8/183)


30– باب {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} .
4513- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَتَاهُ رَجُلاَنِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ فَقَالَ يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي فَقَالاَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} فَقَالَ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّه"
4514- وَزَادَ عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي فُلاَنٌ وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو الْمَعَافِرِيِّ أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَحُجَّ عَامًا وَتَعْتَمِرَ عَامًا وَتَتْرُكَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ اللَّهُ فِيهِ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي

(8/183)


باب {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا والله يحب المحسنين}
...
31-باب {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} التَّهْلُكَةُ وَالْهَلاَكُ وَاحِدٌ
4516- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قَالَ نَزَلَتْ فِي النَّفَقَة"
قوله: "باب قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} "وساق إلى آخر الآية. قوله: "التهلكة والهلاك واحد" هو تفسير أبي عبيدة وزاد: والهلاك والهلك يعني بفتح الهاء وبضمها واللام ساكنة فيهما، وكل هذه مصادر هلك بلفظ الفعل الماضي، وقيل: التهلكة ما أمكن التحرز منه، والهلاك بخلافه. وقيل التهلكة نفس الشيء المهلك. وقيل ما تضر عاقبته، والمشهور الأول.
قوله باب قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وساق إلى آخر الآية قوله: {التَّهْلُكَةِ } والهلاك واحد هو تفسير أبي عبيدة وزاد والهلاك والهلك يعني بفتح الهاء وبضمها واللام ساكنة فيهما وكل هذه مصادر هلك بلفظ الفعل الماضي وقيل التهلكة ما أمكن التحرز منه والهلاك بخلافه وقيل التهلكة نفس الشيء المهلك وقيل ما تضر عاقبته والمشهور الأول ثم ذكر المصنف حديث حذيفة في هذه الآية قال: نزلت في النفقة، أي في ترك النفقة في سبيل الله عز وجل، وهذا الذي قاله حذيفة جاء مفسرا في حديث أبي أيوب الذي أخرجه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من طريق أسلم بن عمران قال: "كنا بالقسطنطينية، فخرج صف عظيم من الروم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، ثم رجع مقبلا. فصاح الناس: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار: إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا بيننا سرا: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله هذه الآية، فكانت التهلكة الإقامة التي أردناها. وصح عن ابن عباس وجماعة من التابعين نحو ذلك في تأويل الآية. وروى ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم أنها كانت نزلت في ناس كانوا يغزون بغير نفقة، فيلزم على قوله اختلاف المأمورين، فالذين قيل لهم {أنفقوا، وأحسنوا} أصحاب الأموال، والذين قيل لهم {وَلا تُلْقُوا} الغزاة بغير نفقة، ولا يخفى ما فيه. ومن طريق الضحاك بن أبي جبيرة" كان الأنصار يتصدقون، فأصابتهم سنة فأمسكوا، فنزلت: {وروى ابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح عن مدرك بن عوف قال: "إني لعند عمر، فقلت: إن لي جارا رمى بنفسه في الحرب فقتل، فقال ناس: ألقي بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كذبوا، لكنه اشترى الآخرة بالدنيا" وجاء عن البراء بن عازب في الآية تأويل آخر أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه بإسناد صحيح عن أبي إسحاق قال: "قلت للبراء: أرأيت قول الله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} هو الرجل يحمل على الكتيبة فيها ألف؟ قال: لا، ولكنه الرجل يذنب فيلقى بيده فيقول لا توبة لي" وعن النعمان بن بشير نحوه، والأول أظهر لتصدير الآية بذكر النفقة فهو المعتمد في نزولها، وأما قصرها عليه ففيه نظر، لأن العبرة بعموم اللفظ، على أن أحمد أخرج الحديث المذكور من طريق أبي بكر - وهو ابن عياش - عن أبي إسحاق بلفظ آخر قال: "قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا، لأن الله تعالى قد بعث محمدا فقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} فإنما ذلك في النفقة" فإن كان محفوظا فلعل للبراء فيه جوابين، والأول من رواية الثوري وإسرائيل وأبي الأحوص ونحوهم وكل منهم أتقن من أبي بكر فكيف مع اجتماعهم وانفراده ا هـ. وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة

(8/185)


فهو حسن، ومتى. كان مجرد تهور فممنوع، ولا سيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين، والله أعلم.

(8/186)


باب {فمن كان مريضا أو به أذى من رأسه}
...
32- باب {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ}
4517- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ "قَعَدْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ الْكُوفَةِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ فَقَالَ حُمِلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: " مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ قَدْ بَلَغَ بِكَ هَذَا أَمَا تَجِدُ شَاةً قُلْتُ لاَ قَالَ صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ وَاحْلِقْ رَأْسَكَ" فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهْيَ لَكُمْ عَامَّة"
قوله: "باب قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} حديث كعب بن عجرة في سبب نزول هذه الآية، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج.

(8/186)


33- باب {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}
4518- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْزَلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاء"
قوله: باب {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} ذكر فيه حديث عمران بن حصين "أنزلت آية المتعة في كتاب الله" يعني متعة الحج. تقدم شرحه وأن المراد بالرجل في قوله هنا "قال رجل برأيه ما شاء" هو عمر.

(8/186)


34- باب {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}
4519- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَتْ عُكَاظُ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْمَوَاسِمِ فَنَزَلَتْ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الْحَج"
قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} ذكر فيه حديث ابن عباس، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج.

(8/186)


35- باب {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}
4520- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ

(8/186)


36-بَاب {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
4522- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(8/187)


اللَّهُمَّ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}"
[الحديث 4522- طرفه في: 6389]
قوله: باب ومنهم من يقول {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} الآية ذكر فيه حديث أنس في قوله ذلك، وسيأتي بأتم من هذا في الكتاب الدعوات. وعبد العزيز الراوي عنه هو ابن صهيب

(8/188)


37- باب {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وَقَالَ عَطَاءٌ: النَّسْلُ الْحَيَوَانُ
4523- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ تَرْفَعُهُ قَالَ: "أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ" وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: باب {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} ألد أفعل تفضيل من اللدد وهو من شدة الخصومة، والخصام جمع خصم وزن كلب وكلاب، والمعنى وهو أشد المخاصمين مخاصمة، ويحتمل أن يكون مصدرا تقول خاصم خصاما كقاتل قتالا، والتقدير وخاصمه أشد الخصام مخاصمة، وقيل أفعل هنا ليست بالتفضيل بل بمعنى الفاعل أي وهو لديه الخصام أي شدة المخاصمة فيكون من إضافة الصفة المشبهة. قوله: "وقال عطاء: النسل الحيوان" وصله الطبري من طريق ابن جرير" قلت لعطاء في قوله تعالى: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} قال: الحرث الزرع، النسل من الناس والأنعام" وزعم مغلطاي أن ابن أبي حاتم أخرجه من طريق العوفي عن عطاء، ووهم في ذلك، وإنما هو عند ابن أبي حاتم وغيره رواه عن العوفي عن ابن عباس. قوله: "عن عائشة ترفعه" أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "الألد الخصم" بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد أي الشديد اللدد الكثير الخصومة، وسيأتي شرح الحديث في كتاب الأحكام. قوله: "وقال عبد الله" هو ابن الوليد العدني، وسفيان هو الثوري. وأورده لتصريحه برفع الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو موصول بالإسناد في "جامع سفيان الثوري" من رواية عبد الله بن الوليد هذا، ويحتمل أن يكون عبد الله هو الجعفي شيخ البخاري، وسفيان هو ابن عيينة، فقد أخرج الحديث المذكور الترمذي وغيره من رواية ابن علية، لكن بالأول جزم خلف والمزي، وقد تقدم هذا الحديث في كتاب المظالم.

(8/188)


38- باب {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} إِلَى {قَرِيبٌ}
4524- حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن بن جريج قال سمعت بن أبي مليكة يقول: "قال ابن عباس رضي الله عنهما: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} خفيفة ذهب بها هناك وتلا {حتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فلقيت عروة بن الزبير فذكرت له ذلك"
4525- "فقال قالت عائشة معاذ الله والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن

(8/188)


باب {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدم لأنفسكم}
...
39- باب {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} الآيَةَ
4526- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَانٍ قَالَ تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ قُلْتُ لاَ قَالَ أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا ثُمَّ مَضَى"
[الحدبث 4526- طرفه في: 4527]
4527- وَعَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قَالَ يَأْتِيهَا فِي. رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَر"
4528- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا جَامَعَهَا مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَنَزَلَتْ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} "
قوله: باب {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} اختلف في معنى {أَنَّى} فقيل كيف، وقيل حيث، وقيل متى، ويحسب هذا الاختلاف جاء الاختلاف في تأويل الآية. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه. قوله: "فأخذت عليه يوما" أي أمسكت المصحف وهو يقرأ عن ظهر قلب، وجاء ذلك صريحا في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع قال: "قال لي ابن عمر أمسك علي المصحف يا نافع، فقرأ: {أخرجه الدار قطني في "غرائب مالك" . قوله: "حتى انتهى إلى مكان قال: تدري فيما أنزلت؟ قلت: لا. قال: أنزلت في كذا وكذا ثم مضى" هكذا أورده مبهما لمكان الآية والتفسير، وسأذكر ما فيه بعد. قوله: "وعن عبد الصمد" هو معطوف على قوله: "أخبرنا النضر بن شميل" وهو عند المصنف أيضا عن إسحاق بن راهويه عن عبد الصمد وهو ابن عبد الوارث بن سعيد، وقد أخرج أبو نعيم في "المستخرج" هذا الحديث من طريق إسحاق بن راهويه عن النضر بن شميل بسنده، وعن عبد الصمد بسنده. قوله: "يأتيها في" هكذا وقع في جميع النسخ لم يذكر ما بعد الظرف وهو المجرور، ووقع في "الجمع بين الصحيحين للحميدي" يأتيها في الفرج، وهو من عنده بحسب ما فهمه. ثم وقفت على سلفه فيه وهو البرقاني فرأيت في نسخة الصغاني "زاد البرقاني يعني الفرج" وليس مطابقا لما في نفس الرواية عن ابن عمر لما سأذكره، وقد قال أبو بكر بن العربي في "سراج المريدين" : أورد البخاري هذا الحديث في التفسير فقال: "يأتيها في" وترك بياضا، والمسألة مشهورة صنف فيها محمد بن سحنون جزءا، وصنف فيها ابن شعبان كتابا، وبين أن حديث ابن عمر في

(8/189)


إتيان المرأة في دبرها. قوله: "رواه محمد بن يحيى بن سعيد" أي القطان" عن أبيه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر" هكذا أعاد الضمير على الذي قبله، والذي قبله قد اختصره كما ترى، فأما الرواية الأولى وهي رواية ابن عون فقد أخرجها إسحاق بن راهويه في مسنده وفي تفسيره بالإسناد المذكور. وقال بدل قوله حتى انتهى إلى مكان" حتى انتهى إلى قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال: أتدرون فيما أنزلت هذه الآية؟ قلت لا. قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. وهكذا أورده ابن جرير من طريق إسماعيل بن علية عن ابن عون مثله، ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي عن ابن عون نحوه، أخرجه أبو عبيدة في "فضائل القرآن" عن معاذ عن ابن عون فأبهمه فقال في كذا وكذا. وأما رواية عبد الصمد فأخرجها ابن جرير في التفسير عن أبي قلابة الرقاشي عن عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي فذكره بلفظ يأتيها في الدبر، وهو يؤيد قول ابن العربي ويرد قول الحميدي. وهذا الذي استعمله البخاري نوع من أنواع البديع يسمى الاكتفاء، ولا بد له من نكتة يحس بسببها استعماله. وأما رواية محمد بن يحيى بن سعيد القطان فوصلها الطبراني في "الأوسط" من طريق أبي بكر الأعين عن محمد بن يحيى المذكور بالسند المذكور إلى ابن عمر قال: "إنما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} رخصة في إتيان الدبر، قال الطبراني: لم يروه عن عبد الله ابن عمر إلا يحيى بن سعيد، تفرد به ابنه محمد، كذا قال، ولم يتفرد به يحيى ابن سعيد فقد رواه عبد العزيز الدراوردي عن عبيد الله بن عمر أيضا كما سأذكره بعد، وقد روي هذا الحديث عن نافع أيضا جماعة غير ما ذكرنا ورواياتهم بذلك ثابتة عند ابن مردويه في تفسيره وفي "فوائد الأصبهانيين لأبي الشيخ" و "تاريخ نيسابور للحاكم" و "غرائب مالك للدار قطني" وغيرها. وقد عاب الإسماعيلي صنيع البخاري فقال: جميع ما أخرج عن ابن عمر مبهم لا فائدة فيه، وقد رويناه عن عبد العزيز - يعني الدراوردي - عن مالك وعبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب ثلاثتهم عن نافع بالتفسير، وعن مالك من عدة أوجه ا هـ. كلامه. ورواية الدراوردي المذكورة قد أخرجها الدار قطني في "غرائب مالك" من طريقه عن الثلاثة عن نافع نحو رواية ابن عون عنه ولفظه: "نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فأعظم الناس في ذلك فنزلت. قال فقلت له من دبرها في قبلها، فقال: لا إلا في دبرها" . وتابع نافعا في ذلك على زيد بن أسلم عن ابن عمر وروايته عند النسائي بإسناد صحيح. وتكلم الأزدي في بعض رواته ورد عليه ابن عبد البر فأصاب قال: ورواية ابن عمر لهذا المعنى صحيحة مشهورة من رواية نافع عنه يغير نكير أن يرويها عنه زيد بن أسلم. قلت: وقد رواه عن عبد الله بن عمر أيضا ابنه عبد الله أخرجه النسائي أيضا وسعيد بن يسار وسالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه مثل ما قال نافع، وروايتهما عنه عند النسائي وابن جرير ولفظه: "عن عبد الرحمن بن القاسم قلت لمالك: إن ناسا يروون عن سالم: كذب العبد على أبي، فقال مالك: أشهد على زيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه مثل ما قال نافع، فقلت له: إن الحارث بن يعقوب يروي عن سعيد بن يسار عن ابن عمر أنه قال أف، أو يقول ذلك مسلم؟ فقال مالك: أشهد على ربيعة لأخبرني عن سعيد بن يسار عن ابن عمر مثل ما قال نافع، وأخرجه الدار قطني من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك وقال: هذا محفوظ عن مالك صحيح اهـ. وروى الخطيب في "الرواة عن مالك" من طريق إسرائيل بن روح قال: سألت مالكا عن ذلك فقال: ما أنتم قوم عرب؟ هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟ وعلى هذه القصة اعتمد المتأخرون من المالكية، فلعل مالكا رجع عن قوله الأول، أو كان يرى أن العمل على خلاف حديث ابن

(8/190)


عمر فلم يعمل به، وإن كانت الرواية فيه صحيحة على قاعدته. ولم ينفرد ابن عمر بسبب هذا النزول، فقد أخرج أبو يعلى وابن مردويه وابن جرير والطحاوي من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخضري "أن رجلا أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا: نعيرها، فأنزل الله عز وجل هذه الآية" وعلقه النسائي عن هشام بن سعيد عن زيد، وهذا السبب في نزول هذه الآية مشهور، وكأن حديث أبي سعيد لم يبلغ ابن عباس وبلغه حديث ابن عمر فوهمه فيه، فروى أبو داود من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: "إن ابن عمر وهم والله يغفر له، إنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب فكانوا يأخذون بكثير من فعلهم، وكان أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فأخذ ذلك الأنصار عنهم، وكان هذا الحي من قريش يتلذذون بنسائهم مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار فذهب يفعل فيها ذلك فامتنعت، فسرى أمرهما حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} مقبلات ومدبرات ومستلقيات، في الفرج" أخرجه أحمد والترمذي من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال: "جاء عمر فقال: يا رسول الله هلكت. حولت رحلي البارحة، فأنزلت هذه الآية، {نسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أقبل وأدبر، واتق الدبر والحيضة" وهذا الذي حمل عليه الآية موافق لحديث جابر المذكور في الباب في سبب نزول الآية كما سأذكر عند الكلام عليه. وروى الربيع في "الأم" عن الشافعي قال: احتملت الآية معنيين أحدهما أن تؤتى المرأة حيث شاء زوجها، لأن "أنى" بمعنى أين شئتم، واحتملت أن يراد بالحرث موضع النبات، والموضع الذي يراد به الولد هو الفرج دون ما سواه، قال فاختلف أصحابنا في ذلك، وأحسب أن كلا من الفريقين تأول ما وصفت من احتمال الآية، قال فطلبنا الدلالة فوجدنا حديثين: أحدهما ثابت وهو حديث خزيمة بن ثابت في التحريم، فقوى عنده التحريم. وروى الحاكم في "مناقب الشافعي" من طريق ابن عبد الحكم أنه حكى عن الشافعي مناظرة جرت بينه وبين محمد الحسن في ذلك، وأن ابن الحسن احتج عليه بأن الحرث إنما يكون في الفرج، فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرما، فالتزمه. فقال أرأيت لو وطئها بين ساقها أو في أعكانها أنى ذلك حرث؟ قال: لا. قال أفيحرم؟ قال لا. قال: فكيف تحتج بما لا تقول به. قال الحاكم: لعل الشافعي كان يقول ذلك في القديم، وأما في الجديد فصرح بالتحريم اهـ. ويحتمل أن يكون ألزم محمدا بطريق المناظرة وإن كان لا يقول بذلك، وإنما انتصر لأصحابه المدنيين، والحجة عنده في التحريم غير المسلك الذي سلكه محمد كما يشير إليه كلامه في "الأم" . وقال المازري: اختلف الناس في هذه المسألة وتعلق في قال بالحل بهذه الآية، وانفصل عنها من قال يحرم بأنها نزلت بالسبب الوارد في حديث جابر في الرد على اليهود، يعنى كما في حديث الباب الآتي. قال: والعموم إذا خرج على سبب قصر عليه عند بعض الأصوليين، وعند الأكثر العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا يقتضى أن تكون الآية حجة في الجواز، لكن وردت أحاديث كثيرة بالمنع فتكون مخصصة لعموم الآية، وفي تخصيص عموم القرآن ببعض خبر الآحاد خلاف ا هـ. وذهب جماعة من أئمة الحديث - كالبخاري والذهلي والبزار والنسائي وأبي علي النيسابوري - إلى أنه لا يثبت فيه شيء. قلت: لكن طرقها كثيرة فمجموعها صالح للاحتجاج به، ويؤيد القول بالتحريم أنا لو قدمنا أحاديث الإباحة للزم أنه أبيح بعد أن حرم والأصل عدمه، فمن الأحاديث الصالحة الإسناد حديث خزيمة بن ثابت أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه

(8/191)


وصححه ابن حبان، وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان أيضا، وحديث ابن عباس وقد تقدمت إشارة إليه. وأخرجه الترمذي من وجه آخر بلفظ: " لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر" وصححه ابن حبان أيضا، وإذا كان ذلك صلح أن يخصص عموم الآية ويحمل على الإتيان في غير هذا المحل بناء على أن معنى "أنى" حيث وهو المتبادر إلى السياق، ويغني ذلك عن حملها على معنى آخر غير المتبادر، والله أعلم. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري قوله: "كانت اليهود إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت" هذا السياق قد يوهم أنه مطابق لحديث ابن عمر، وليس كذلك، فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق يحيى بن أبي زائدة عن سفيان الثوري بلفظ: "باركة مدبرة في فرجها من ورائها" وكذا أخرجه مسلم من طريق سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر بلفظ: "إذا أتيت امرأة من دبرها في قبلها" ومن طريق أبي حازم عن ابن منكدر بلفظ: "إذا أتيت المرأة من دبرها فحملت" وقوله: "فحملت" يدل على أن مراده أن الإتيان في الفرج لا في الدبر، وهذا كله يؤيد تأويل ابن عباس الذي رد به على ابن عمر، وقد أكذب الله اليهود في زعمهم وأباح للرجال أن يتمتعوا بنسائهم كيف شاءوا، وإذا تعارض المجمل والمفسر قدم المفسر، وحديث جابر مفسر فهو أولى أن يعمل به من حديث ابن عمر، والله أعلم. وأخرج مسلم أيضا من حديث جابر زيادة في طريق الزهري عن ابن المنكدر بلفظ: "إن شاء محبية وإن شاء غير محبية غير أن ذلك في صمام واحد" وهذه الزيادة يشبه أن تكون من تفسير الزهري لخلوها من رواية غيره من أصحاب ابن المنكدر مع كثرتهم. وقوله: "محبية" بميم ثم موحدة أي باركة وقوله: "صمام" بكسر المهملة والتخفيف هو المنفذ.

(8/192)


باب {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تضلوهن أن ينكحن أزواجهن}
...
40- باب {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}
4529- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ: "كَانَتْ لِي أُخْتٌ تُخْطَبُ إِلَيَّ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ ح حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ أُخْتَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فَتَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَخَطَبَهَا فَأَبَى مَعْقِلٌ فَنَزَلَتْ {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} "
[الحديث 4529- أطرافه في: 5130، 5330، 5331]
قوله: باب {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} اتفق أهل التفسير على أن المخاطب بذلك الأولياء، ذكره ابن جرير وغيره. وروى ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هي في الرجل يطلق امرأته فتقضى عدتها، فيبدو له أن يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعه وليها. ثم ذكر المصنف حديث معقل بن يسار في سبب نزول الآية، لكنه ساقه مختصرا، وقد أورده في النكاح بتمامه وسيأتي شرحه، وكذا ما جاء في تسمية أخت معقل واسم زوجها هناك إن شاء الله تعالى. و قوله: "وقال إبراهيم عن يونس عن الحسن حدثني معقل" أراد بهذا التعليق بيان تصريح الحسن بالتحديث عن معقل، ورواية إبراهيم هذا وهو ابن طهمان وصلها المؤلف في النكاح كما سيأتي، وقد صرح الحسن بتحديث معقل له أيضا في رواية عباد بن راشد كما سيأتي أيضا.

(8/192)


باب {والذين يتوفون ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرا وعشرا ...}
...
41- باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ـ إلى ـ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يَعْفُونَ يَهَبْنَ
4530- حَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا أَوْ تَدَعُهَا قَالَ يَا ابْنَ أَخِي لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِه"
4531- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} قَالَ جَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ وَهْوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَالْعِدَّةُ كَمَا هِيَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا زَعَمَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَالَ عَطَاءٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَهْوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قَالَ عَطَاءٌ إِنْ شَاءَتْ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهِ وَسَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ} قَالَ عَطَاءٌ ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَلاَ سُكْنَى لَهَا وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا وَعَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا فِي أَهْلِهَا فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} نَحْوَه"
[الحديث 4531- طرفه في: 5344]
4532- حَدَّثَنَا حِبَّانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: "جَلَسْتُ إِلَى مَجْلِسٍ فِيهِ عُظْمٌ مِنْ الأَنْصَارِ وَفِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى فَذَكَرْتُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ فِي شَأْنِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَلَكِنَّ عَمَّهُ كَانَ لاَ يَقُولُ ذَلِكَ فَقُلْتُ إِنِّي لَجَرِيءٌ إِنْ كَذَبْتُ عَلَى رَجُلٍ فِي جَانِبِ الْكُوفَةِ وَرَفَعَ صَوْتَهُ قَالَ ثُمَّ خَرَجْتُ فَلَقِيتُ مَالِكَ بْنَ عَامِرٍ أَوْ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ قُلْتُ كَيْفَ كَانَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهْيَ حَامِلٌ فَقَالَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلاَ تَجْعَلُونَ لَهَا الرُّخْصَةَ لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى"

(8/193)


وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ لَقِيتُ أَبَا عَطِيَّةَ مَالِكَ بْنَ عَامِر"
[الحديث 4532- طرفه في: 4910]
قوله: "باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} ساق الآية إلى قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . قوله: "يعفون يهبن" ثبت هذا هنا في نسخة الصغاني، وهو تفسير أبو عبيدة قال: يعفون يتركن يهبن، وهو على رأي الحميدي خلافا لمحمد بن كعب فإنه قال المراد عفو الرجال، وهذه اللفظة ونظائرها مشتركة بين الجمع والمذكر والمؤنث، لكن في الرجال النون علامة الرفع، وفي النساء النون ضمير لهن، ووزن جمع المذكر يعفون وجمع المؤنث يفعلن. قوله: "عن حبيب" هو ابن الشهيد كما سيأتي بعد بابين. قوله: "عن ابن أبي مليكة" في رواية الإسماعيلي من طريق علي بن المديني عن يزيد بن زريع "حدثنا حبيب بن الشهيد حدثني عبد الله بن أبي مليكة" . قوله: "قال ابن الزبير" في رواية بن المديني المذكورة" عن عبد الله الزبير" وله من وجه آخر" عن يزيد بن زريع بسنده أن عبد الله ابن الزبير قال قلت لعثمان" . قوله: "فلم تكتبها أو تدعها" كذا في الأصول بصيغة الاستفهام الإنكاري كأنه قال لم تكتبها وقد عرفت أنها منسوخة، أو قال لم تدعها أي تتركها مكتوبة، وهو شك من الراوي أي اللفظين قال. ووقع في الرواية الآتية بعد بابين "فلم تكتبها؟ قال تدعها يا ابن أخي" وفي رواية الإسماعيلي: "لم تكتبها وقد نسخها الآية الأخرى" وهو يؤيد التقدير الذي ذكرته. وله من رواية أخرى "قلت لعثمان: هذه الآية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قال: نسختها الآية الأخرى. قلت: تكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغير منها شيئا عن مكانه" . وهذا السياق أولى من الذي قبله. وأو للتخيير لا للشك. وفي جواب عثمان هذا دليل على أن ترتيب الآي توقيفي. وكأن عبد الله بن الزبير ظن أن الذي ينسخ حكمه لا يكتب، فأجابه عثمان بأن ذلك ليس بلازم والمتبع فيه التوقف، وله فوائد: منها ثواب التلاوة، والامتثال على أن من السلف من ذهب إلى أنها ليست منسوخة وإنما خص من الحول بعضه وبقي البعض وصية لها إن شاءت أقامت كما في الباب عن مجاهد، لكن الجمهور على خلافه. وهذا الموضع مما وقع فيه الناسخ مقدما في ترتيب التلاوة على المنسوخ. وقد قيل إنه لم يقع نظير ذلك إلا هنا وفي الأحزاب على قول من قال أن إحلال جميع النساء هو الناسخ، وسيأتي البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى. وقد ظفرت بمواضع أخرى منها في البقرة أيضا قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فإنها محكمة في التطوع مخصصة لعموم قوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} كونها مقدمة في التلاوة، ومنها في البقرة أيضا قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} على قول من قال إن سبب نزولها أن اليهود طعنوا في تحويل القبلة، فإنه يقتضي أن تكون مقدمة في التلاوة متأخرة في النزول، وقد تتبعت من ذلك شيئا كثيرا ذكرته في غير هذا الموضع، ويكفي هنا الإشارة إلى هذا القدر. قوله وقول عثمان لعبد الله "يا ابن أخي" يريد في الإيمان أو بالنسبة إلى السن، وزاد الكرماني: أو على عادة مخاطبة العرب. ويمكن أن يتحد مع الذي قبله. قال أو لأنهما يجتمعان في قصي. قال: إلا أن عثمان وعبد الله في العدد إلى قصي سواء بين كل منهما وبينه أربعة آباء فلو أراد ذلك لقال يا أخي. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه. وروح هو ابن عبادة، وشبل هو ابن عباد، وابن أبي نجيح هو عبد الله. قوله: "زعم ذلك عن مجاهد" قائل ذلك هو شبل، وفاعل زعم هو ابن أبي نجيح، وبهذا جزم الحميدي في جمعه: وقوله: "وقال عطاء" هو عطف على قوله مجاهد، وهو من رواية ابن أبي نجيح عن

(8/194)


عطاء، ووهم من زعم أنه معلق، وقد أبدى المصنف ما نبهت عليه برواية ورقاء التي ذكرها بعد هذه، وقوله: "عن محمد بن يوسف" هو معطوف على قوله: "أنبأنا روح" وقد أورد أبو نعيم في "المستخرج" هذا الحديث من طريق محمد بن عبد الملك بن زنجويه عن محمد بن يوسف هو الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وعن عطاء بتمامه وقال: ذكره البخاري عن الفريابي، هذا يدل على أنه فهم أن البخاري علقه عن شيخه والله أعلم. ثم ذكر المصنف حديث ابن مسعود "أنزلت صورة النساء القصرى بعد الطولى" وسيأتي شرحه في تفسير سورة الطلاق، وقوله: "وقال أيوب" وصله هناك بتمامه.

(8/195)


42- باب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى}
4533- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم ح. و حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: " حَبَسُونَا عَنْ صَلاَةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ مَلاَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ أَوْ أَجْوَافَهُمْ شَكَّ يَحْيَى نَارًا"
قوله: "باب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" هي تأنيث الأوسط والأوسط الأعدل من كل شيء، وليس المراد به التوسط بين الشيئين لأن فعلى معناها التفضيل، ولا ينبني للتفضيل إلا ما يقبل الزيادة والنقص، والوسط بمعنى الخيار، والعدل يقبلهما، بخلاف المتوسط فلا يقبلهما فلا يبني منه أفعل تفضيل. قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي ويزيد هو ابن هارون وهشام هو ابن حسان ومحمد هو ابن سيرين وعبيدة بفتح العين هو ابن عمرو، وعبد الرحمن في الطريق الثانية هو ابن بشر بن الحكم ويحيى بن سعيد هو القطان. قوله: "حبسونا عن صلاة الوسطى" أي منعونا عن الصلاة الوسطى أي عن إيقاعها، زاد مسلم من طريق شتير بن شكل عن علي "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وزاد في آخره: "ثم صلاها بين المغرب والعشاء" ولمسلم عن ابن مسعود نحو حديث علي، وللترمذي والنسائي من طريق زر بن حبيش عن على مثله، ولمسلم أيضا من طريق أبي حسان الأعرج عن عبيدة السلماني عن علي فذكر الحديث بلفظ: "كما حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس" يعني العصر، وروى أحمد والترمذي من حديث سمرة رفعه قال: "صلاة الوسطى صلاة العصر" وروى ابن جرير من حديث أبي هريرة رفعه: "الصلاة الوسطى صلاة العصر" ومن طريق كهيل بن حرملة "سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال. اختلفنا فيها ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفينا أبو هاشم بن عتبة فقال: أنا أعلم لكم، فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلينا فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر" ومن طريق عبد العزيز بن مروان أنه أرسل إلى رجل فقال: أي شيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى؟ فقال أرسلني أبو بكر وعمر أسأله وأنا غلام صغير فقال: هي العصر، ومن حديث أبي مالك الأشعري رفعه: "الصلاة الوسطى صلاة العصر" وروى الترمذي وابن حبان من حديث ابن مسعود مثله، وروى ابن جرير من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر" وروى ابن المنذر من طريق مقسم عن ابن عباس قال: "شغل الأحزاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غربت الشمس فقال: شغلونا عن الصلاة

(8/195)


الوسطى" وأخرج أحمد من حديث أم سلمة وأبي أيوب وأبي سعيد وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عباس من قولهم إنها صلاة العصر، وقد اختلف السلف في المراد بالصلاة الوسطى، وجمع الدمياطي في ذلك جزءا مشهورا سماه "كشف الغطا عن الصلاة الوسطى". فبلغ تسعة عشر قولا: أحدها الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو جميع الصلوات، فالأول قول أبي أمامة وأنس وجابر وأبي العالية وعبيد بن عمير وعطاء وعكرمة ومجاهد وغيرهم نقله ابن أبي حاتم عنهم وهو أحد قولي ابن عمر وابن عباس ونقله مالك والترمذي عنهما ونقله مالك بلاغا عن علي والمعروف عنه خلافه، وروى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي قال: "صليت خلف ابن عباس الصبح فقنت فيها ورفع يديه ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين" وأخرجه أيضا من وجه آخر عنه وعن ابن عمرو من طريق أبي العالية "صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر صلاة الغداة فقلت لهم: ما الصلاة الوسطى؟ قال هي هذه الصلاة. وهو قول مالك والشافعي فيما نص عليه في "الأم" واحتجوا له بأن فيها القنوت، وقد قال الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وبأنها لا تقصر في السفر، وبأنها بين صلاتي جهر وصلاتي سر. والثاني قول زيد بن ثابت أخرجه أبو داود من حديثه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية" وجاء عن أبي سعيد وعائشة القول بأنها الظهر أخرجه ابن المنذر وغيره، وروى مالك في "الموطا" عن زيد بن ثابت الجزم بأنها الظهر وبه قال أبو حنيفة في رواية، وروى الطيالسي من طريق زهرة بن معبد قال: "كنا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة فسألوه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر" ورواه أحمد من وجه آخر وزاد: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم، فنزلت" . والثالث قول علي بن أبي طالب فقد روى الترمذي والنسائي من طريق زر بن حبيش قال: "قلنا لعبيدة سل عليا عن الصلاة الوسطى، فسأله فقال: كنا نرى أنها الصبح، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" انتهى. وهذه الرواية تدفع دعوى من زعم أن قوله صلاة العصر مدرج من تفسير بعض الرواة وهي نص في أن كونها العصر من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأن شبهة من قال إنها الصبح قوية، لكن كونها العصر هو المعتمد، وبه قال ابن مسعود وأبو هريرة، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة وقول أحمد والذي صار إليه معظم الشافعية لصحة الحديث فيه، قال الترمذي: هو قول أكثر علماء الصحابة. وقال الماوردي: هو قول جمهور التابعين. قال ابن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر، وبه قال من المالكية ابن حبيب وابن العربي وابن عطية، ويؤيده أيضا ما روى مسلم عن البراء بن عازب "نزل حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخت فنزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} فقال رجل: فهي إذن صلاة العصر، فقال: أخبرتك كيف نزلت" . والرابع نقله ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس قال: "صلاة الوسطى هي المغرب، وبه قال قبيصة بن ذؤيب أخرجه أبو جرير، حجه وحجتهم أنها معتدلة في عدد الركعات وأنها لا تقصر في الأسفار وأن العمل مضى على المبادرة إليها والتعجيل لها في أول ما تغرب الشمس وأن قبلها صلاتا سر وبعدها صلاتا جهر. والخامس وهو آخر ما صححه ابن أبي حاتم أخرجه أيضا بإسناد حسن عن نافع قال: "سئل ابن عمر فقال: هي كلهن، فحافظوا عليهن" وبه قال معاذ بن جبل، واحتج له بأن قوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} يتناول الفرائض

(8/196)


والنوافل، فعطف عليه الوسطى وأريد بها كل الفرائص تأكيدا لها، واختار هذا القول ابن عبد البر. وأما بقية الأقوال فالسادس أنها الجمعة، ذكره ابن حبيب من المالكية واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة، وصححه القاضي حسين في صلاة الخوف من تعليقه، ورجحه أبو شامة. السابع الظهر في الأيام والجمعة يوم الجمعة. الثامن العشاء نقله ابن التين والقرطبي واحتج له بأنها بين صلاتين لا تقصران ولأنها تقع عند النوم فلذلك أمر بالمحافظة عليها واختاره الواحدي. التاسع الصبح والعشاء للحديث الصحيح في أنهما أثقل الصلاة على المنافقين، وبه قال الأبهري من المالكية. العاشر الصبح والعصر لقوة الأدلة في أن كلا منهما قيل إنه الوسطى، فظاهر القرآن الصبح ونص السنة العصر. الحادي عشر صلاة الجماعة. الثاني عشر الوتر وصنف فيه علم الدين السخاوي جزءا ورجحه القاضي تقي الدين الأخنائي واحتج له في جزء رأيته بخطه. الثالث عشر صلاة الخوف. الرابع عشر صلاة عيد الأضحى. الخامس عشر صلاة عيد الفطر. السادس عشر صلاة الضحى. السابع عشر واحدة من الخمس غير معينة قاله الربيع بن خثيم وسعيد بن جبير وشريح القاضي وهو اختيار إمام الحرمين من الشافعية ذكره في النهاية قال كما أخفيت ليلة القدر. الثامن عشر أنها الصبح أو العصر على الترديد وهو غير القول المتقدم الجازم بأن كلا منهما يقال له الصلاة الوسطى. التاسع عشر التوقف فقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه. العشرون صلاة الليل وجدته عندي وذهلت الآن عن معرفة قائله، وأقوى شبهة لمن زعم أنها غير العصر مع صحة الحديث حديث البراء الذي ذكرته عند مسلم فإنه يشعر بأنها أبهمت بعدما عينت كذا قاله القرطبي، قال وصار إلى أنها أبهمت جماعة من العلماء المتأخرين، قال: وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح. وفي دعوى أنها أبهمت ثم عينت من حديث البراء نظر، بل فيه أنها عينت ثم وصفت، ولهذا قال الرجل فهي إذن العصر ولم ينكر عليه البراء، نعم جواب البراء يشعر بالتوقف لما نظر فيه من الاحتمال، وهذا لا يدفع التصريح بها في حديث علي، ومن حجتهم أيضا ما روى مسلم وأحمد من طريق أبي يونس عن عائشة أنها أمرته أن يكتب لها مصحفا، فلما بلغت {حافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} قال فأملت على "وصلاة العصر" قالت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى مالك عن عمرو ابن رافع قال كنت أكتب مصحفا لحفصة فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني، فأملت على "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" وأخرجه ابن جرير من وجه آخر حسن عن عمرو ابن رافع، وروى ابن المنذر من طريق عبيد الله ابن رافع "أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفا" فذكر مثل حديث عمرو ابن رافع سواء، ومن طريق سالم ابن عبد الله بن عمر أن حفصة أمرت إنسانا أن يكتب لها مصحفا نحوه ومن طريق نافع أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا فذكر مثله وزاد: "كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها" قال نافع فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو فتمسك قوم بأن العطف يقتضي المغايرة فتكون صلاة العصر غير الوسطى. وأجيب بأن حديث علي ومن وافقه أصح إسنادا وأصرح وبأن حديث عائشة قد عورض برواية عروة أنه كان في مصحفها "وهي العصر" فيحتمل أن تكون الواو زائدة، ويؤيده ما رواه أبو عبيدة بإسناد صحيح عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر" بغير واو أو هي عاطفة لكن عطف صفة لا عطف ذات، وبأن قوله والصلاة الوسطى والعصر لم يقرأ بها أحد، ولعل أصل ذلك ما في حديث البراء أنها نزلت أولا والعصر ثم نزلت ثانيا بدلها والصلاة الوسطى، فجمع الراوي بينهما، ومع وجود

(8/197)


الاحتمال لا ينهض الاستدلال، فكيف يكون مقدما على النص الصريح بأنها صلاة العصر، قال شيخ شيوخنا الحافظ صلاح الدين العلائي: حاصل أدلة من قال إنها غير العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع: أحدها تنصيص بعض الصحابة وهو معارض بمثله ممن قال منهم إنها العصر، ويترجح قول العصر بالنص الصريح المرفوع، وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره فتبقى حجة المرفوع قائمة. ثانيها معارضة المرفوع بورود التأكيد على فعل غيرها كالحث على المواظبة على الصبح والعشاء وقد تقدم في كتاب الصلاة، وهو معارض بما هو أقوى منه وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك صلاة العصر، وقد تقدم أيضا. ثالثها ما جاء عن عائشة وحفصة من قراءة "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" فإن العطف يقتضي المغايرة، وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو ممتنع، وكونه ينزل منزلة خبر الواحد مختلف فيه، سلمنا لكن لا يصلح معارضا للمنصوص صريحا، وأيضا فليس العطف صريحا في اقتضاء المغايرة لوروده في نسق الصفات كقوله تعالى: {الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} انتهى ملخصا. وقد تقدم شرح أحوال يوم الخندق في المغازي وما يتعلق بقضاء الفائتة في المواقيت من كتاب الصلاة. قوله: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم - أو أجوافهم - نارا شك يحيى" هو القطان راوي الحديث، وأشعر هذا بأنه ساق المتن على لفظه، وأمل لفظ يزيد بن هارون فأخرجه أحمد عنه بلفظ: "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا" ولم يشك، وهو لفظ روح بن عبادة كما مضى في المغازي وعيسى بن يونس كما مضى في الجهاد، ولمسلم مثله عن أبي أسامة عن هشام، وكذا له في رواية أبي حسان الأعرج عن عبيدة بن عمرو، ومن طريق شتير ابن شكل عن على مثله، وله من رواية يحيى بن الجزار عن على "قبورهم وبيوتهم - أو قال - قبورهم وبطونهم" ومن حديث بن مسعود " ملأ الله أجوافهم - أو قبورهم - نارا، أو حشى الله أجوافهم وقبورهم نارا" ولا بن حبان من حديث حذيفة "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا أو قلوبهم " وهذه الروايات التي وقع فيها الشك مرجوحة بالنسبة إلى التي لا شك فيها. وفي هذا الحديث جواز الدعاء على المشركين بمثل ذلك. قال ابن دقيق العيد: تردد الراوي في قوله: " ملأ الله" أو "حشى" يشرط بأن شرط الرواية بالمعنى أن يتفق المعنى في اللفظين، وملأ ليس مرادفا لحشى، فإن حشى يقتضي التراكم وكثرة أجزاء المحشو بخلاف ملأ، فلا يكون في ذلك متمسك لمن منع الرواية بالمعنى، وقد استشكل هذا الحديث بأنه تضمن دعاء صدر من النبي صلى الله عليه وسلم على من يستحقه وهو من مات منهم مشركا، ولم يقع أحد الشقين وهو البيوت أما القبور فوقع في حق من مات منهم مشركا لا محالة. ويجاب بأن يحمل على سكانها وبه يتبين رجحان الرواية بلفظ قلوبهم أو أجوافهم.

(8/198)


43- باب {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أَيْ مُطِيعِينَ
4534- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال: "كنا نتكلم في الصلاة يكلم أحدنا أخاه في حاجته حتى نزلت هذه الآية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} فأمرنا بالسكوت
قوله: "باب {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، أي مطيعين" هو تفسير ابن مسعود أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد صحيح، ونقله أيضا عن ابن عباس وجماعة من التابعين. وذكر من وجه آخر عن ابن عباس قال: قانتين أي مصلين. وعن

(8/198)


مجاهد قال: من القنوت الركوع والخشوع وطول القيام وغض البصر وخفض الجناح والرهبة لله. وأصح ما دل عليه حديث الباب - وهو حديث زيد بن أرقم - في أن المراد بالقنوت في الآية السكوت، وقد تقدم شرحه في أبواب. العمل في الصلاة من أواخر كتاب الصلاة، والمراد به السكوت عن كلام الناس لا مطلق الصمت، لأن الصلاة لا صمت فيها بل جميعها قرآن وذكر، والله أعلم.

(8/199)


44- باب {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ كُرْسِيُّهُ عِلْمُهُ يُقَالُ بَسْطَةً زِيَادَةً وَفَضْلاً أَفْرِغْ أَنْزِلْ وَلاَ يَئُودُهُ لاَ يُثْقِلُهُ آدَنِي أَثْقَلَنِي وَالْآدُ وَالأَيْدُ الْقُوَّةُ السِّنَةُ نُعَاسٌ يَتَسَنَّهْ يَتَغَيَّرْ فَبُهِتَ ذَهَبَتْ حُجَّتُهُ خَاوِيَةٌ لاَ أَنِيسَ فِيهَا عُرُوشُهَا أَبْنِيَتُهَا نُنْشِرُهَا نُخْرِجُهَا إِعْصَارٌ رِيحٌ عَاصِفٌ تَهُبُّ مِنْ الأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ كَعَمُودٍ فِيهِ نَارٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ صَلْدًا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَابِلٌ مَطَرٌ شَدِيدٌ الطَّلُّ النَّدَى وَهَذَا مَثَلُ عَمَلِ الْمُؤْمِنِ يَتَسَنَّهْ يَتَغَيَّر"
4535- حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا مالك عن نافع "أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم الإمام ركعة وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو لم يصلوا فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين فيقوم كل واحد من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة مستقبليها" قال مالك قال نافع لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"
قوله: "باب قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ} الآية" ذكر فيه حديث بن عمر في صلاة الخوف، وقد تقدم البحث فيه في أبواب صلاة الخوف مبسوطا. قوله: "وقال ابن جبير: كرسيه علمه" وصله سفيان الثوري في تفسيره في رواية أبي حذيفة عنه بإسناد صحيح، وأخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من وجه آخر عن سعيد بن جبير فزاد فيه: "عن ابن عباس" وأخرجه العقيلي من وجه آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عند الطبراني في "كتاب السنة" من هذا الوجه مرفوعا، وكذا رويناه في "فوائد أبي الحسن علي بن عمر الحربي" مرفوعا والموقوف أشبه. وقال العقيلي: إن رفعه خطأ، ثم هذا التفسير غريب، وقد روى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أن الكرسي موضوع القدمين. وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن أبي موسى مثله، وأخرجا عن السدي أن الكرسي بين يدي العرش، وليس ذلك مغايرا لما قبله، والله أعلم. قوله يقال: "بسطة زيادة وفضلا" هكذا ثبت لغير أبي ذر، وهو تفسير أبي عبيدة قال في قوله: {بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} أي زيادة وفضلا وكثرة، وجاء عن ابن عباس نحوه، وذكره ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك عن

(8/199)


ابن عباس قال في قوله: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} يقول: فضيلة. قوله: "أفرغ: أنزل" ثبت هذا أيضا لغير أبي ذر، وهو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} أي أنزع علينا. قوله: "ولا يئوده: لا يثقله" هو تفسير ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وذكر مثله عن جماعة من التابعين، ولسقوط ما قبله من رواية أبي ذر صار كأنه من كلام سعيد ابن جبير لعطفه على تفسير الكرسي، ولم أره منقولا عنه. قوله: "آدني: أثقلني، والآد والأيد القوة" هو كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {ولا يئوده} أي لا يثقله، تقول آدنى هذا الأمر أثقلني، وتقول ما آدك فهو لي آيد أي ما أثقلك فهو لي مثقل. وقال في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} أي ذا القوة. قوله: "السنة النعاس" أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: " لمْ يَتَسَنَّهْ} لم يتغير" أخرجه ابن أبي حاتم من وجهين عن ابن عباس، وعن السدي مثله قال: لم يحمض التين والعنب ولم يختمر العصير بل هما حلوان كما هما، وعي هذا فالهاء فيه أصلية، وقيل هي هاء السكت، وقيل أصله يتسنن مأخوذ من الحمأ المسنون أي المستن، وفي قراءة يعقوب "لم يتسن" بتشديد النون بلا هاء أي لم تمضي عليه السنون الماضية كأنه ابن ليلة. قوله: "فبهت: ذهبت حجته" هو كلام أبي عبيدة قاله في قوله: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} قال: انقطع وذهبت حجته. قوله: "خاوية لا أنيس فيها" ذكره ابن أبي حاتم بنحوه من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: "وهي خاوية" قال: ليس فيها أحد. قوله: "عروشها: أبنيتها" ثبت هذا والذي بعده لغير أبي ذر، وقد ذكره ابن أبي حاتم من طريق الضحاك والسدي بمعناه. قوله: "ننشرها: نخرجها" أخرجه ابن أبي حاتم من طريق السدي بمعناه في قوله: {كَيْفَ نُنْشِزُهَا} يقول نخرجها، قال: فبعث الله ريحا فحملت عظامه من كل مكان ذهب به الطير والسباع فاجتمعت، فركب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار عظما كله لا لحم له ولا دم. "تنبيه" : أخرج ابن أبي حاتم من حديث علي أن هذه القصة وقعت لعزيز، وهو قول عكرمة وقتادة والسدي والضحاك وغيرهم، وذكر بعضهم قصة في ذلك، وأن القرية بيت القدس، وأن ذلك لما خربه بختنصر. وقال وهب بن منبه ومن تبعه: هي أرمياء، وساق ابن إسحاق قصة في المبتدأ.
" تكملة " : استدل بهذه الآية بعض أئمة الأصول على مشروعية القياس بأنها تضمنت قياس إحياء هذه القرية وأهلها وعمارتها لما فيها من الرزق بعد خرابها على إحياء هذا المار وإحياء حماره بعد موتهما بما كان مع المار من الرزق. قوله: "إعصار: ريح عاصف تهب من الأرض إلى السماء كعمود نار" ثبت هذا لأبي ذر عن الحموي وحده، وهو كلام أبي عبيدة، قال في قوله: {إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} قال: الإعصار ريح عاصف إلخ، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الإعصار ريح فيها سموم شديدة. قوله: "وقال ابن عباس صلدا: ليس عليه شيء" سقط من هنا إلى آخر الباب من رواية أبي ذر، وتفسير قوله: "صلدا" وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عباس قال: فتركه يابسا لا ينبت شيئا. قوله: "قال عكرمة وابل: مطر شديد، الطل الندى، وهذا مثل عمل المؤمن" وصله عبد بن حميد عن روح بن عبادة عن عثمان بن غياث سمعت عكرمة بهذا، وسيأتي شرح حديث ابن عباس مع عمر في ذلك قريبا. قوله: "يتسنه يتغير" تقدم تفسيره عن ابن عباس، وأما عن عكرمة فذكره ابن أبي حاتم من روايته.

(8/200)


45- باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}
4536- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ الأَسْوَدِ وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالاَ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: "قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إِلَى قَوْلِهِ {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قَدْ نَسَخَتْهَا الأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا قَالَ تَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ قَالَ حُمَيْدٌ أَوْ نَحْوَ هَذَا"
قوله: "باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} "حديث ابن الزبير مع عثمان، وقد تقدم قبل بابين، وسقطت الترجمة لغير أبي ذر فصار من الباب الذي قبله عندهم.

(8/201)


باب {وإذ قال إبراهيم ربي أرني كيف تحيي الموتى}
...
46- باب {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}
4537- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
قوله: "باب {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} فصرهن: قطعهن" ثبت هذا لأبي ذر وحده، وقد أخرجه ابن أبي حاتم من وجهين عن ابن عباس، ومن طريق جماعة من التابعين، ومن وجه آخر عن ابن عباس قال: صرهن أي أو ثقهن ثم اذبحهن. وقد اختلف نقلة القراءات في ضبط هذه اللفظة عن ابن عباس فقيل: بكسر أوله كقراءة حمزة، وقيل بضمه كقراءة الجمهور، وقيل بتشديد الراء مع ضم أوله وكسره من صره يصره إذا جمعه ونقل أبو البقاء تثليث الراء في هذه القراءة وهي شاذة، قال عياض تفسير صرهن بقطعهن غريب والمعروف أن معناها أملهن، يقال صاره يصيره ويصوره إذا أماله، قال ابن التين: صرهن بضم الصاد معناها ضمهن، وبكسرها قطعهن. قلت: ونقل أبو علي الفارسي أنهما بمعنى واحد، وعن الفراء الضم مشترك والكسر القطع فقط، وعنه أيضا هي مقلوبة من قوله صراه عن كذا أي قطعه، يقال صرت الشيء فانصار أي انقطع، وهذا يدفع قول من قال: يتعين حمل تفسير ابن عباس بالقطع على قراءة كسر الصاد، وذكر صاحب "المغرب" أن هذه اللفظة بالسريانية وقيل بالنبطية، لكن المنقول أولا يدل على أنها بالعربية، والعلم عند الله تعالى. حديث أبي هريرة "نحن أحق بالشك من إبراهيم" وقد تقدم شرحه مستوفى في أحاديث الأنبياء.

(8/201)


باب قوله {أيود أحدكم أن تكون له جنة ...}
...
47- باب ـ قَوْلِهِ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ إِلَى قَوْلِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}
4538- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وَسَمِعْتُ أَخَاهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: "قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا

(8/201)


48- باب {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}
يُقَالُ أَلْحَفَ عَلَيَّ وَأَلَحَّ عَلَيَّ وَأَحْفَانِي بِالْمَسْأَلَةِ فَيُحْفِكُمْ يُجْهِدْكُمْ
4539- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ الأَنْصَارِيَّ قَالاَ سَمِعْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلاَ اللُّقْمَةُ وَلاَ اللُّقْمَتَانِ إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ يَعْنِي قَوْلَهُ : {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}
قوله: "باب {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} يقال ألحف علي، وألح، وأحفاني بالمسألة" زاد في نسخة الصغاني

(8/202)


"فيحفكم يجهدكم" هو تفسير أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} يقال أحفاني بالمسألة وألحف علي وألح علي بمعنى واحد، واشتقاق ألحف من اللحاف لأنه يشتمل على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف في التغطية. وقال أبو عبيدة في قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} قال: إلحاحا انتهى. وانتصب "إلحافا" على أنه مصدر في موضع الحال أي لا يسألون في حال الإلحاف، أو مفعول لأجله أي لا يسألون لأجل الإلحاف، وهل المراد نفي المسألة فلا يسألون أصلا، أو نفي السؤال بالإلحاف خاصة فلا ينتفي السؤال بغير إلحاف فيه احتمال، والثاني أكثر في الاستعمال. ويحتمل أن يكون المراد لو سألوا لم يسألوا إلحافا فلا يستلزم الوقوع. ثم ذكر المصنف حديث أبي هريرة "ليس المسكين الذي ترده التمرة" الحديث، وقد تقدم شرحه في كتاب الزكاة، وقوله: "اقرءوا إن شئتم، يعني قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ووقع عند الإسماعيلي بيان قائل "يعني" فإنه أخرجه عن الحسن بن سفيان عن حميد بن زنجويه عن سعيد بن أبي مريم بسنده وقال في آخره: "قلت لسعيد بن أبي مريم: ما تقرأ؟ قال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية" فيستفاد منه أن قائل يعني هو سعيد بن أبي مريم شيخ البخاري فيه. وقد أخرج مسلم والإسماعيلي هذا الحديث من طريق إسماعيل بن جعفر عن شريك بن أبي نمر بلفظ: اقرءوا إن شئتم {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} فدل على صحة ما فسرها به سعيد بن أبي مريم. وكذا أخرجه الطبري من طريق صالح بن سويد عن أبي هريرة، لكنه لم يرفعه. وروى أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه مرفوعا: "من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف" وفي رواية ابن خزيمة: "فهو ملحف" والأوقية أربعون درهما. لأحمد من حديث عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد رفعه: "من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا" ولأحمد والنسائي من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "من سأل وله أربعون درهما فهو ملحف" .

(8/203)


49- باب {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الْمَسُّ الْجُنُونُ
4540- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "لَمَّا نَزَلَتْ الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْر"
قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} إلى آخر الآية. قوله: "المس الجنون" هو تفسير الفراء، قال في قوله تعالى: {لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} أي لا يقوم في الآخرة، قال: والمس الجنون، والعرب تقول ممسوس أي مجنون انتهى. وقال أبو عبيدة: المس اللمم من الجن. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا" ومن طريق ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه "أنه كان يقرأ: {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} يوم القيامة" وقوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} يحتمل أن يكون من تمام اعتراض الكفار حيث قالوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} أي فلم أحل هذا وحرم هذا؟ ويحتمل أن يكون ردا عليهم ويكون اعتراضهم بحكم العقل والرد عليهم بحكم الشرع الذي لا معقب لحكمه، وعلى الثاني أكثر المفسرين، واستبعد بعض الحذاق الأول، وليس ببعيد إلا من جهة أن جوابهم بقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} إلى

(8/203)


آخره يحتاج إلى تقدير، والأصل عدمه. قوله: "فقرأها" أي الآيات. وفي رواية شعبة التي بعد هذه "في المسجد" وقد مضى ما يتعلق به في المساجد من كتاب الصلاة، واقتضى صنيع المصنف في هذه التراجم أن المراد بالآيات آيات الربا كلها إلى آية الدين. قوله: "ثم حرم التجارة في الخمر" تقدم توجيهه في البيوع، وأن تحريم التجارة في الربا وقع بعد تحريم الخمر بمدة فيحصل به جواب من استشكل الحديث بأن آيات الربا من آخر ما نزل من القرآن، وتحريم الخمر تقدم قبل ذلك بمدة.

(8/204)


50- باب {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} يُذْهِبُهُ
4541- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ سَمِعْتُ أَبَا الضُّحَى يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "لَمَّا أُنْزِلَتْ الْآيَاتُ الأَوَاخِرُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلاَهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْر"
قوله: "باب : {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} : يذهبه" هو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} أي يذهبه. وأخرج أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: "أن الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قلة" . حديث عائشة المذكور قبله من وجه آخر عن الأعمش، ومراده الإشارة إلى أن هذه الآية من جملة الآيات التي ذكرتها عائشة.

(8/204)


51- باب {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَاعْلَمُوا}
4542- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "لَمَّا أُنْزِلَتْ الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَرَأَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَسْجِدِ وَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْر"
قوله: "باب {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} : فاعلموا" هو تفسير "فَأْذَنُوا" على القراءة المشهورة بإسكان الهمزة وفتح الذال، قال أبو عبيدة: معنى قوله: "فأذنوا" أيقنوا، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم "فآذنوا" بالمد وكسر الذال أي آذنوا غيركم وأعلموهم، والأول أوضح في مراد السياق. حديث عائشة عن شيخ له آخر.

(8/204)


52- باب {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
4543- وَ قَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ وَالأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا أُنْزِلَتْ الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُنَّ عَلَيْنَا ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْر"
قوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الآية "كذا لأبي ذر، وساق غيره بقية الآية، وهي خبر بمعنى

(8/204)


53- باب {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}
4544- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةُ الرِّبَا"
قوله: "باب {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} قرأ الجمهور بضم التاء من ترجعون مبنيا للمجهول، وقرأ أبو عمرو وحده بفتحها مبنيا للفاعل. قوله: "سفيان" هو الثوري، وعاصم هو ابن سليمان الأحول. قوله: "عن ابن عباس" كذا قال عاصم عن الشعبي، وخالفه داود بن أبي هند عن الشعبي فقال: "عن عمر" أخرجه الطبري بلفظ: "كان من آخر ما نزل من القرآن آيات الربا" وهو منقطع فإن الشعبي لم يلق عمر. قوله: "آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا" كذا ترجم المصنف بقوله: "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" وأخرج هذا الحديث بهذا اللفظ، ولعله أراد أن يجمع بين قولي ابن عباس فإنه جاء عنه ذلك من هذا الوجه، وجاء عنه من وجه آخر: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} وأخرجه الطبري من طرق عنه، وكذا أخرجه من طرق جماعة من التابعين وزاد عن ابن جريج قال: "يقولون إنه مكث بعدها تسع ليال" ونحوه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وروي عن غيره أقل من ذلك وأكثر فقيل إحدى وعشرين، وقيل سبعا، وطريق الجمع بين هذين القولين أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا إذ هي معطوفة عليهن، وأما ما سيأتي في آخر سورة النساء من حديث البراء "آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" فيجمع بينه وبين قول ابن عباس بأن الآيتين نزلتا جميعا، فيصدق أن كلا منهما آخر بالنسبة لما عداهما، ويحتمل أن تكون الآخرية في آية النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث مثلا، بخلاف آية البقرة، ويحتمل عكسه، والأول أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول، وحكى ابن عبد السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزول الآية المذكورة إحدى وعشرين يوما، وقيل سبعا، وأما ما ورد في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} أنها آخر سورة نزلت فسأذكر ما يتعلق به في تفسيرها إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
" تنبيه " المراد بالآخرية في الربا تأخر نزول الآيات المتعلقة به من سورة البقرة، وأما حكم تحريم الربا فنزوله سابق لذلك بمدة طويلة على ما يدل عليه قوله تعالى في آل عمران في أثناء قصة أحد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} الآية.

(8/205)


54- باب {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
4545- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ حَدَّثَنَا مِسْكِينٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهْوَ ابْنُ عُمَرَ "أَنَّهَا قَدْ نُسِخَتْ {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} الآيَة"

(8/205)


55- باب {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِصْرًا عَهْدًا وَيُقَالُ غُفْرَانَكَ مَغْفِرَتَكَ فَاغْفِرْ لَنَا"

(8/206)


4546- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَحْسِبُهُ ابْنَ عُمَرَ {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} قَالَ نَسَخَتْهَا الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا"
قوله: "باب {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} أي إلى آخر السورة. قوله: "وقال ابن عباس: إصرا عهدا" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} أي عهدا، وأصل الإصر الشيء الثقيل، ويطلق على الشديد، وتفسيره بالعهد تفسير باللازم لأن الوفاء بالعهد شديد. وروى الطبري من طريق ابن جريج في قوله: {إِصْراً} قال: عهدا لا نطيق القيام به. قوله: "ويقال غفرانك مغفرتك فاغفر لنا" هو تفسير أبي عبيدة قال في قوله غفرانك أي مغفرتك أي اغفر لنا. وقال الفراء: غفرانك مصدر وقع في موضع أمر فنصب. وقال سيبوبه التقدير اغفر غفرانك، وقيل يحتمل أن يقدر جملة خبرية أي نستغفرك غفرانك والله أعلم. قوله: "نسختها الآية التي بعدها" قد عرف بيانه من حديثي ابن عباس وأبي هريرة والمراد بقوله نسختها أي أزالت ما تضمنته من الشدة وبينت أنه وإن وقعت المحاسبة به لكنها لا تقع المؤاخذة به أشار إلى ذلك الطبري فرارا من إثبات دخول النسخ في الأخبار. وأجيب بأنه وإن كان خبرا لكنه يتضمن حكما ومهما كان من الأخبار يتضمن الأحكام أمكن دخول النسخ فيه كسائر الأحكام وإنما الذي لا يدخله النسخ من الأخبار ما كان خبرا محضا لا يتضمن حكما كالإخبار عما مضى من أحاديث الأمم ونحو ذلك ويحتمل أن يكون المراد بالنسخ في الحديث التخصيص فإن المتقدمين يطلقون لفظ النسخ عليه كثيرا، والمراد بالمحاسبة بما يخفى الإنسان ما يصمم عليه ويشرع فيه دون ما يخطر له ولا يستمر عليه، والله أعلم.

(8/207)


3- سورة آلِ عِمْرَانَ
تُقَاةٌ وَتَقِيَّةٌ وَاحِدَةٌ صِرٌّ بَرْدٌ شَفَا حُفْرَةٍ مِثْلُ شَفَا الرَّكِيَّةِ وَهْوَ حَرْفُهَا تُبَوِّئُ تَتَّخِذُ مُعَسْكَرًا الْمُسَوَّمُ الَّذِي لَهُ سِيمَاءٌ بِعَلاَمَةٍ أَوْ بِصُوفَةٍ أَوْ بِمَا كَانَ رِبِّيُّونَ الْجَمِيعُ وَالْوَاحِدُ رِبِّيٌّ تَحُسُّونَهُمْ تَسْتَأْصِلُونَهُمْ قَتْلًا غُزًّا وَاحِدُهَا غَازٍ سَنَكْتُبُ سَنَحْفَظُ نُزُلاً ثَوَابًا وَيَجُوزُ وَمُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَقَوْلِكَ أَنْزَلْتُهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْخَيْلُ الْمُسَوَّمَةُ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى الرَّاعِيَةُ الْمُسَوَّمَةُ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَحَصُورًا لاَ يَأْتِي النِّسَاءَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ مِنْ فَوْرِهِمْ مِنْ غَضَبِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ مِنْ النُّطْفَةِ تَخْرُجُ مَيِّتَةً وَيُخْرِجُ مِنْهَا الْحَيَّ الإِبْكَارُ أَوَّلُ الْفَجْرِ وَالْعَشِيُّ مَيْلُ الشَّمْسِ أُرَاهُ إِلَى أَنْ تَغْرُب"
قوله: "سورة آل عمران - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر ولم أر البسملة لغيره. قوله: "صر: برد" هو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} : الصر شدة البرد. قوله: "شفا حفرة مثل شفا الركية" بفتح الراء كسر الكاف وتشديد التحتانية "وهو حرفها" كذا للأكثر بفتح المهملة وسكون الراء وللنسفي بضم

(8/207)


الجيم والراء والأول الصوب، والجرف الذي أضيف إليه شفا في الآية الأخرى غير شفا هنا، وقد قال أبو عبيدة في قوله تعالى:{شَفَا حُفْرَةٍ} شفا جرف، وهو يقتضي التسوية بينهما في الإضافة وإلا فمدلول جرف غير مدلول حفرة، فإن لفظ شفا يضاف إلى أعلى الشيء ومنه قوله: {شَفَا جُرُفٍ} وإلى أسفل الشيء منه "شفا حفرة" ويطلق شفا أيضا على القليل تقول ما بقي منه شيء غير شفا أي غير قليل، ويستعمل في القرب ومنه أشفى على كذا أي قرب منه. قوله: {تُبَوِّئُ} : تتخذ معسكرا "هو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله: { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أي تتخذ لهم مصاف ومعسكرا. وقال غيره: تبوئ تنزل، بوأه أنزله، وأصله من المباءة وهي المرجع. والمقاعد جمع مقعد وهو مكان القعود، وقد تقدم شيء من ذلك في غزوة أحد. قوله: "ربيون: الجموع، واحدها ربي" هو تفسير أبي عبيدة قال في قوله: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} قال: الربيون الجماعة الكثيرة، واحدها ربي، وهو بكسر الراء في الواحد، والجمع قراءة الجمهور. وعن على وجماعة بضم الراء وهو من تغيير النسب في القراءتين إن كانت النسب إلى رب، وعليها قراءة ابن عباس ربيون بفتح الراء وقيل بل هو منسوب إلى الربة أي الجماعة وهو بضم الراء وبكسرها، فإن كان كذلك فلا تغيير والله أعلم. قوله: "تحسونهم: تستأصلونهم قتلا" وقع هذا بعد قوله: "واحدها ربي" وهو تفسير أبي عبيدة أيضا بلفظه وزاد: يقال حسسناهم من عند آخرهم أي استأصلناهم، وقد تقدم بيان ذلك في غزوة أحد. قوله: "غزا واحدها غاز: هو تفسير أبي عبيدة أيضا، قال في قوله: {أو كانوا غزاً} لا يدخلها رفع ولا جر لأن واحدها غاز، فخرجت مخرج قائل وقول انتهى. وقرأ الجمهور "غزا" بالتشديد جمع غاز وقياسه غزاة، لكن حملوا المعتل على الصحيح كما قال أبو عبيدة، وقرأ الحسن وغيره: "غزا" بالتخفيف فقيل خفف الزاي كراهية التثقيل، وقيل أصله غزاة وحذف الهاء. قوله: "سنكتب ما قالوا: سنحفظ" هو تفسير أبي عبيدة أيضا، لكنه ذكره بضم الياء التحتانية على البناء للمجهول وهي قراءة حمزة، وكذلك قرأ: {وقتلهم} بالرفع عطفا على الموصول لأنه منصوب المحل، وقراءة الجمهور بالنون للمتكلم العظيم، وقتلهم بالنصب على الموصول لأنه منصوب المحل، وتفسير الكتابة بالحفظ تفسير باللازم، وقد كثر ذلك في كلامهم كما مضى ويأتي. قوله: "نزلا: ثوابا: ويجوز ومنزل من عند الله كقولك أنزلته" هو قول أبي عبيدة أيضا بنصه، والنزل ما يهيأ للنزيل وهو الضيف، ثم اتسع فيه حتى سمى به الغداء وإن لم يكن للضيف. وفي نزل قولان: أحدهما مصدر والآخر أنه جمع نازل كقول الأعشى "أو تنزلون فإنا معشر نزل" أي نزول، وفي نصب نزلا في الآية أقوال: منها أنه منصوب على المصدر المؤكد لأنه معنى "لهم جنات" ننزلهم جنات نزلا، وعلى هذا يتخرج التأويل الأول لأن تقديره ينزلهم جنات رزقا وعطاء من عند الله. ومنها أنه حال من الضمير في "فيها" أي منزلة على أن نزلا مصدر بمعنى المفعول، وعليه يتخرج التأويل الثاني. قوله: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} : المسوم الذي له سيماء بعلامة، أو بصوفة، أو بما كان. وقال مجاهد: الخيل المسومة المطهمة الحسان. وقال سعيد بن جبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي: المسومة الراعية "أما التفسير الأول فقال أبو عبيدة: الخيل المسومة المعلمة بالسيماء. وقال أيضا في قوله: {مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} أي معلمين. والمسموم الذي له سيماء بعلامة أو بصوفة أو بما كان. وأما قول مجاهد فرويناه في تفسير الثوري رواية أبي حذيفة عنه بإسناد صحيح، وكذا أخرجه عبد الرزاق عن الثوري. وأما قول ابن جبير فوصله أبو حذيفة أيضا بإسناد صحيح إليه. وأما قول

(8/208)


ابن أبزي فوصله الطبري من طريقه، وأورد مثله عن ابن عباس من طريق للعوفي عنه. وقال أبو عبيدة أيضا يجوز أن يكون معنى {مُسَوَّمَةً} مرعاة، من أسمتها فصارت سائمة. قوله: "وقال سعيد جبير: وحصورا لا يأتي النساء" وقع هذا بعد ذكر المسومة، وصله الثوري في تفسيره عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير به، وأصل الحصر الحبس والمنع، يقال لمن لا يأتي النساء أعم من أن يكون ذلك بطبعة كالعنين أو بمجاهدة نفسه، وهو الممدوح والمراد في وصف السيد يحيى عليه السلام. قوله: "وقال عكرمة: من فورهم غضبهم يوم بدر" وصله الطبري من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة في قوله: {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} قال: فورهم ذلك كان يوم أحد غضبوا ليوم بدر بما لقوا، وأخرجه عبد بن حميد من وجه آخر عن عكرمة في قولهم "من فورهم هذا" قال من وجوههم هذا، وأصل الفور العجلة والسرعة، ومنه فارت القدر، يعبر به عن الغضب لأن الغضبان يسارع إلى البطش. قوله: "وقال مجاهد: يخرج الحي من الميت" النطفة تخرج ميتة ويخرج منها الحي" وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} قال: الناس الأحياء من النطف الميتة والنطف الميتة من الناس الأحياء. قوله: "الإبكار أول الفجر، والعشي ميل الشمس إلى أن تغرب" وقع هذا أيضا عند غير أبي ذر، وقد تقدم شرحه في بدء الخلق

(8/209)


1- باب {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْحَلاَلُ وَالْحَرَامُ {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} وَكَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} وَكَقَوْلِهِ {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} {زَيْغٌ} شَكٌّ {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} الْمُشْتَبِهَاتِ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يَعْلَمُونَ تأويله {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}
4547- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُم"
قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قال مجاهد: الحلال والحرام {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يصدق بعضها بعضا، كقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} وكقوله: "ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون" وكقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} هكذا وقع فيه، وفيه تغيير وبتحريره يستقيم الكلام. وقد أخرجه عبد بن حميد بالإسناد الذي ذكرته قريبا إلى مجاهد، قال في قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قال ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضا، هو مثل قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} إلى آخر ما ذكره. قوله: {زَيْغٌ} شك {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} المشتبهات "هو تفسير مجاهد أيضا وصله عبد بن حميد بهذا الإسناد كذلك ولفظه: وأما

(8/209)


{الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: شك {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} المشتبهات، الباب الذي ضلوا منه وبه هلكوا. قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعلمون و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} الآية" وصله عبد بن حميد من الطريق المذكور عن مجاهد في قوله: "والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به" ومن طريق قتادة قال: "قال الراسخون كما يسمعون آمنا به كل من عند ربنا المتشابه والمحكم، فآمنوا بمتشابهه وعملوا بمحكمه فأصابوا" وهذا الذي ذهب إليه مجاهد من تفسير الآية يقتضي أن تكون الواو والراسخون عاطفة على معمول الاستثناء، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} ، ويقول الراسخون في العلم آمنا به فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة لكن أقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذلك على من دونه، ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه لوصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة، وصرح بوفق ذلك حديث الباب، ودلت الآية على مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب. وحكى الفراء أن في قراءة أبي بن كعب مثل ذلك أعني ويقول الراسخون في العلم آمنا به.
" تنبيه " : سقط جميع هذه الآثار من أول السورة إلى هنا لأبي ذر عن السرخسي، وثبت عند أبي ذر عن شيخه قبل قوله منه آيات محكمات "باب" بغير ترجمة، ووقع عند أبي ذر آثار أخري: ففي أول السورة قوله: "تقاة وتقية واحد" هو تفسير أبي عبيده أي أنهما مصدران بمعنى واحد وقد قرأ عاصم في رواية عنه "إلا أن تتقوا منهم تقية" . قوله: "التستري" بضم المثناة وسكون المهملة وفتح المثناة. قوله: "عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة" قد سمع ابن أبي مليكة من عائشة كثيرا وكثيرا أيضا ما يدخل بينها وبينه واسطة، وقد اختلف عليه في هذا الحديث فأخرجه الترمذي من طريق أبي عامر الجزار عن ابن أبي مليكة عن عائشة، ومن طريق زيد بن إبراهيم كما في الباب بزيادة القاسم، ثم قال: روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي ملكية عن عائشة ولم يذكروا القاسم، وإنما ذكره يزيد بن إبراهيم انتهى. وقد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي الوليد الطيالسي عن يزيد بن إبراهيم وحماد بن سلمة جميعا عن أبي مليكة عن القاسم، فلم ينفرد يزيد بزيادة القاسم: وممن رواه عن ابن أبي مليكة بغير ذكر القاسم أيوب أخرجه ابن ماجه من طريقه، ونافع بن عمر، وابن جريج وغيرهما. قوله: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي قرأ: هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} . قال أبو البقاء: أصل المتشابه أن يكون بين اثنين، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل منها مشابها للآخر فصح وصفها بأنها متشابهة، وليس المراد أن الآية وحدها متشابهة في نفسها. وحاصله أنه ليس من شرط صحة الوصف في الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات، وإن كان الأصل ذلك. قوله: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه" قال الطبري قبل إن هذه الآية نزلت في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى، وقيل في أمر مدة هذه الأمة، والثاني أولى لأن أمر عيسى قد بينه الله لنبيه فهو معلوم لأمته، بخلاف أمر هذه الأمة فإن علمه خفي عن العباد. وقال غيره: المحكم من القرآن ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه. وسمى المحكم بذلك لوضوح مفردات كلامه وإتقان تركيبه، بخلاف المتشابه. وقيل المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل في تفسير المحكم والمتشابه أقوال أخرى غير هذه نحو العشرة ليس هذا موضع بسطها، وما ذكرته أشهرها وأقربها إلى الصواب

(8/210)


وذكر الأستاذ أبو منصور البغدادي أن الأخير هو الصحيح عندنا، وابن السمعاني أنه أحسن الأقوال والمختار على طريقة أهل السنة، وعلى القول الأول جرى المتأخرون والله أعلم. وقال الطيبي: المراد بالمحكم ما اتضح معناه، والمتشابه بخلافه، لأن اللفظ الذي يقبل معنى إما أن يقبل غيره أو لا، الثاني النص، والأول إما أن تكون دلالته على ذلك المعنى راجحة أو لا، والأول هو الظاهر، والثاني إما أن يكون مساويه أو لا، والأول هو المجمل، والثاني المؤول. فالمشترك هو النص، والظاهر هو المحكم، والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه. ويؤيد هذا التقسيم أنه سبحانه وتعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه، فالواجب أن يفسر المحكم بما يقابله، ويؤيد ذلك أسلوب الآية وهو الجمع مع التقسيم لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أراد أن يضيف إلى كل منهما ما شاء منهما من الحكم فقال أولا { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} - إلى أن قال – {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وكان يمكن أن يقال: وأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك الراسخون في العلم لإتيان لفظ الرسوخ لأنه لا يحصل إلا بعد التتبع التام والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على طريق الرشاد ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق، وكفى بدعاء الراسخين في العلم {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} إلخ شاهدا على أن {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مقابل لقوله : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} وفيه إشارة على أن الوقف على قوله: {إلاَّ الله} تام وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى، وأن من حاول معرفته هو الذي أشار إليه في الحديث بقوله: "فاحذروهم" وقال بعضهم: العقل مبتلي باعتقاد حقيقة المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادة، كالحكيم إذا صنف كتابا أجمل فيه أحيانا ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سر وقيل: لو لم يقبل العقل الذي هو أشرف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد، فبذلك يستأنس إلى التذلل بعز العبودية، والمتشابه هو موضع خضوع العقول لباريها استسلاما واعترافا بقصورها، وفي ختم الآية بقوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ} تعريض بالزائغين ومدح للراسخين، يعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه فليس من أولى العقول، ومن ثم قال الراسخون {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} إلى آخر الآية، فخضعوا لباريهم لاشترك العلم اللدني بعد أن استعاذوا به من الزيغ النفساني وبالله التوفيق. وقال غيره. دلت الآية على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه، ولا يعارض ذلك قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} ولا قوله: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} حتى زعم بعضهم أن كله محكم، وعكس آخرون، لأن المراد بالإحكام في قوله: {أُحْكِمَتْ} الإتقان في النظم وأن كلها حق من عند الله، والمراد بالمتشابه كونه يشبه بعضه بعضا في حسن السياق والنظم أيضا، وليس المراد اشتباه معناه على سامعه. وحاصل الجواب أن المحكم ورد بإزاء معنيين، والمتشابه ورد بإزاء معنيين، والله أعلم. قوله: "فهم الذين سمى الله فاحذروهم" في رواية الكشميهني فاحذرهم "بالإقراد والأولى أولى، والمراد التحذير من الإصغار إلى الذين يتبعون المتشابه من القرآن، وأول ما ظهر ذلك من اليهود كما ذكره ابن إسحاق في تأويلهم الحروف المقطعة وأن عددها بالجمل مقدار مدة هذه الأمة، ثم أول ما ظهر في الإسلام من الخوارج حتى جاء ابن عباس أنه فسر بهم الآية، وقصة عمر في إنكاره على ضبيع لما بلغه أنه يتبع المتشابه فضربه على رأسه حتى أدماه، أخرجها الدارمي وغيره. وقال الخطابي: المتشابه على ضربين: أحدهما ما إذا رد إلى المحكم واعتبر به عرف معناه، والآخر ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ

(8/211)


فيطلبون تأويله، ولا يبلغون كنهه، فيرتابون فيه فيفتنون، والله أعلم.

(8/212)


2- باب {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
4548- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلاَّ مَرْيَمَ وَابْنَهَا" ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
قوله: "باب {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} أورد فيه حديث أبي هريرة" ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه" الحديث، وقد تقدم الكلام على شرحه واختلاف ألفاظه في أحاديث الأنبياء. وقد طعن صاحب "الكشاف" في معنى هذا الحديث وتوقف في صحته فقال: إن صح هذا الحديث فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك من كان في صفتهما، لقوله تعالى :{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قال: واستهلال الصبي صارخا من مس الشيطان تخييل لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول هذا ممن أغويه. وأما صفة النخس كما يتوهمه أهل الحشو فلا، ولو ملك إبليس على الناس نخسهم لامتلأت الدنيا صراخا انتهى. وكلامه متعقب من وجوه، والذي يقتضيه لفظ الحديث لا إشكال في معناه، ولا مخالفة لما ثبت من عصمة الأنبياء بل ظاهر الخبر أن إبليس ممكن من مس كل مولود عند ولادته، لكن من عباد الله المخلصين لم يضره ذلك المس أصلا، واستثنى من المخلصين مريم وابنها فإنه ذهب يمس على عادته فحيل بينه وبين ذلك، فهذا وجه الاختصاص، ولا يلزم منه تسلطه على غيرهما من المخلصين. وأما قوله: "لو ملك إبليس إلخ" فلا يلزم من كونه جعل له ذلك عند ابتداء الوضع أن يستمر ذلك في حق كل أحد، وقد أورد الفخر الرازي هذا الإشكال وبالغ في تقريره على عادته وأجمل الجواب فما زاد على تقريره أن الحديث خبر واحد ورد على خلاف الدليل، لأن الشيطان إنما يغوي من يعرف الخير والشر، والمولود بخلاف ذلك، وأنه لو مكن من هذا القدر لفعل أكثر من ذلك من إهلاك وإفساد، وأنه لا اختصاص لمريم وعيسى بذلك دون غيرهما، إلى آخر كلام "الكشاف" . ثم أجاب بأن هذه الوجوه محتملة، ومع الاحتمال لا يجوز دفع الخبر انتهى وقد فتح الله تعالى بالجواب كما تقدم، والجواب عن إشكال الإغواء يعرف مما تقدم أيضا، وحاصله أن ذلك جعل علامة في الابتداء على من يتمكن من إغوائه، والله أعلم.

(8/212)


3- باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ} لَهُمْ لاَ خَيْرَ {أَلِيمٌ} مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ مِنْ الأَلَمِ وَهْوَ فِي مَوْضِعِ مُفْعِلٍ
4549، 4550- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ يَمِينَ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ

(8/212)


4- باب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} سَوَاءٍ قَصْدٍ
4553- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ مَعْمَرٍ ح و حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ "حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ قَالَ انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّأْمِ إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ قَالَ وَكَانَ دَحْيَةُ الْكَلْبِيُّ جَاءَ بِهِ فَدَفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى هِرَقْلَ قَالَ فَقَالَ هِرَقْلُ هَلْ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالُوا نَعَمْ قَالَ فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ فَأُجْلِسْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ أَنَا فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَايْمُ اللَّهِ لَوْلاَ أَنْ يُؤْثِرُوا عَلَيَّ الْكَذِبَ لَكَذَبْتُ ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ قَالَ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قَالَ قُلْتُ لاَ قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ قُلْتُ لاَ قَالَ أَيَتَّبِعُهُ أَشْرَافُ النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ قُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ قَالَ قُلْتُ لاَ بَلْ يَزِيدُونَ قَالَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ قَالَ قُلْتُ لاَ قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ قَالَ قُلْتُ تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالاً يُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْهُ قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قَالَ قُلْتُ لاَ وَنَحْنُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا قَالَ وَاللَّهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ

(8/214)


أَحَدٌ قَبْلَهُ قُلْتُ لاَ ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ فَقُلْتُ لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ أَضُعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشْرَافُهُمْ فَقُلْتَ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يُزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ قَاتَلْتُمُوهُ فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لاَ يَغْدِرُ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ فَقُلْتُ لَوْ كَانَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ قُلْتُ رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ قَالَ ثُمَّ قَالَ بِمَ يَأْمُرُكُمْ قَالَ قُلْتُ يَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ قَالَ إِنْ يَكُ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ وَلَمْ أَكُ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لاَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ قَالَ ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلاَمٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ- إِلَى قَوْلِهِ- اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ ارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ عِنْدَهُ وَكَثُرَ اللَّغَطُ وَأُمِرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا قَالَ فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ خَرَجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ قَالَ الزُّهْرِيُّ فَدَعَا هِرَقْلُ عُظَمَاءَ الرُّومِ فَجَمَعَهُمْ فِي دَارٍ لَهُ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلاَحِ وَالرَّشَدِ آخِرَ الأَبَدِ وَأَنْ يَثْبُتَ لَكُمْ مُلْكُكُمْ قَالَ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ فَقَالَ عَلَيَّ بِهِمْ فَدَعَا بِهِمْ فَقَالَ إِنِّي إِنَّمَا اخْتَبَرْتُ شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمْ الَّذِي أَحْبَبْتُ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْه"

(8/215)


قوله: "باب قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} كذا للأكثر، ولأبي ذر "وبينكم الآية" . قوله: "سواء قصدا" كذا لأبي ذر بالنصب، ولغيره بالجر فيهما وهو أظهر على الحكاية، لأنه يفسر قوله: {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} وقد قرئ في الشواذ بالنصب وهي قراءة الحسن البصري قال الحوفي: أنتصب على المصدر، أي استوت استواء. والقصد بفتح القاف وسكون المهملة: الوسط المعتدل. قال أبو عبيدة في قوله: {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} أي عدل. وكذا أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس. وأخرج الطبري عن قتادة مثله، ونسبها الفراء إلى قراءة ابن مسعود. وأخرج عن أبي العالية أن المراد بالكلمة لا إله إلا الله، وعلى ذلك يدل سياق الآية الذي تضمنه قوله: "أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" فإن جميع ذلك داخل تحت كلمة الحق وهي لا إله إلا الله، والكلمة على هذا بمعنى الكلام، وذلك سائغ في اللغة، فتطلق الكلمة على الكلمات لأن بعضها ارتبط ببعض فصارت في قوة الكلمة الواحدة، بخلاف اصطلاح النحاة في تفريقهم بين الكلمة والكلام. ثم ذكر المصنف حديث أبي سفيان في قصة هرقل بطوله، وقد شرحته في بدء الوحي، وأحلت بقية شرحه على الجهاد فلم يقدر إيراده هناك. فأوردته هنا. وهشام في أول الإسناد هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "حدثني أبو سفيان من فيه إلى في" إنما لم يقل إلى أذني يشير إلى أنه كان متمكنا من الإصغاء إليه بحيث يجيبه إذا احتاج إلى الجواب، فلذلك جعل التحديث متعلقا بفمه، وهو في الحقيقة إنما يتعلق بأذنه. واتفق أكثر الروايات على أن الحديث كله من رواية ابن عباس عن أبي سفيان إلا ما وقع من رواية صالح بن كيسان عن الزهري في الجهاد فإنه ذكر أول الحديث عن ابن عباس إلى قوله: "فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه التمسوا لي هاهنا أحدا من قومه لأسألهم عنه، قال ابن عباس فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشام" الحديث. كذا وقع عند أبي يعلى من رواية الوليد بن محمد عن الزهري، وهذه الرواية المفصلة تشعر بأن فاعل "قال:"الذي وقع هنا من قوله: "قال وكان دحية إلخ" هو ابن عباس لا أبو سفيان، وفاعل "قال وقال هرقل هل هنا أحد" هو أبو سفيان. قوله: "هرقل" بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف على المشهور في الروايات، وحكى الجوهري وغير واحد من أهل اللغة سكون الراء وكسر القاف، وهو اسم غير عربي فلا ينصرف للعلمية والعجمة. قوله: "فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل" فيه حذف تقديره: فجاءنا رسوله، فتوجهنا معه، فاستأذن لنا فأذن فدخلنا. وهذه الفاء تسمى الفصيحة، وهي الدالة على محذوف قبلها هو سبب لما بعدها، سميت فصيحة لإفصاحها عما قبلها. وقيل لأنها تدل على فصاحة المتكلم بها فوصفت بالفصاحة على الإسناد المجازي، ولهذا لا تقع إلا في كلام بليغ. ثم إن ظاهر السياق أن هرقل أرسل إليه بعينه، وليس كذلك، وإنما كان المطلوب من يوجد من قريش. ووقع في الجهاد "قال أبو سفيان: فوجدنا رسول قيصر ببعض الشام، فانطلق بي وبأصحابي حتى قدمنا إلى إيلياء" وتقدم في بدء الوحي أن المراد بالبعض غزة، وقيصر هو هرقل وهرقل اسمه وقيصر لقبه. قوله: "فدخلنا على هرقل" تقدم في بدء الوحي بلفظ: "فأتوه وهو بإيلياء. وفي رواية هناك" وهم بإيلياء "واستشكلت ووجهت أن المراد الروم مع ملكهم، والأول أصوب. قوله: "فأجلسنا بين يديه فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت أنا. فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا بترجمانه" وهذا يقتضي أن هرقل خاطبهم أولا بغير ترجمان، ثم دعا بالترجمان،

(8/216)


لكن وقع في الجهاد بلفظ: "فقال لترجمانه: سلهم أيهم أقرب نسبا إلخ" فيجمع بين هذا الاختلاف بأن قوله: "ثم دعا بترجمانه" أي فأجلسه إلى جنب أبي سفيان، لا أن المراد أنه كان غائبا فأرسل في طلبه فحضر، وكأن الترجمان كان واقفا في المجلس كما جرت به عادة ملوك الأعاجم، فخاطبهم هرقل بالسؤال الأول، فلما تحرر له حال الذي أراد أن يخاطبه من بين الجماعة أمر الترجمان بالجلوس إليه ليعبر عنه بما أراد، والترجمان من يفسر لغة بلغة فعلى هذا لا يقال ذلك لمن فسر كلمة غريبة بكلمة واضحة، فإن اقتضى معنى الترجمان ذلك فليعرف أنه الذي يفسر لفظا بلفظ. وقد اختلف هل هو عربي أو معرب؟ والثاني أشهر، وعلى الأول فنونه زائدة اتفاقا. ثم قيل هو من ترجيم الظن، وقيل من الرجم، فعلى الثاني تكون التاء أيضا زائدة، ويوجب كونه من الرجم أن الذي يلقي الكلام كأنه يرجم الذي يلقيه إليه. قوله: "أقرب نسبا من هذا الرجل" من كأنها ابتدائية والتقدير "أيكم أقرب نسبا مبدؤه من هذا الرجل" أو هي بمعنى الباء ويؤيده أن في الرواية التي في بدء الوحي "بهذا الرجل" وفي رواية الجهاد "إلى هذا الرجل" ولا إشكال فيه فإن أقرب يتعدى بإلى، قال الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} والمفضل عليه محذوف تقديره من غيره، ويحتمل أن يكون في رواية الباب بمعنى الغاية فقد ثبت ورودها للغاية مع قلة. قوله: "وأجلسوا أصحابي خلفي" في رواية الجهاد "عند كتفي" وهي أخص، وعند الواقدي "فقال لترجمانه: قل لأصحابه إنما جعلتكم عن كتفيه لتردوا عليه كذبا إن قاله. قوله:"عن هذا الرجل "أشار إليه إشارة القرب لقرب العهد بذكره، أو لأنه معهود في أذهانهم لاشتراك الجميع في معاداته. ووقع عند ابن إسحاق من الزيادة في هذه القصة" قال أبو سفيان: فجعلت أزهده في شأنه وأصغر أمره وأقول: إن شأنه دون ما بلغك، فجعل لا يلتفت إلى ذلك" . قوله: "فإن كذبني" بالتخفيف "فكذبوه" بالتشديد، أي قال لترجمانه: يقول لكم ذلك. ولما جرت العادة أن مجالس الأكابر لا يواجه أحد فيها بالتكذيب احتراما لهم، أذن لهم هرقل في ذلك للمصلحة التي أرادها. قال محمد بن إسماعيل التيمي: كذب بالتخفيف يتعدى إلى مفعولين مثل صدق، تقول كذبني الحديث وصدقني الحديث، قال الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} وكذب بالتشديد يتعدى إلى مفعول واحد، وهما من غرائب الألفاظ لمخالفتهما الغالب لأن الزيادة تناسب الزيادة وبالعكس، والأمر هنا بالعكس. قوله: "وأيم الله" بالهمزة وبغير الهمزة وفيها لغات أخرى تقدمت. قوله: "يؤثر" بفتح المثلثة أي ينقل. قوله: "كيف حسبه" كذا هنا، وفي غيرها "كيف نسبه"؟ والنسب الوجه الذي يحصل به الأدلاء من جهة الآباء، والحسب ما يعده المرء من مفاخر آبائه وقوله: "هو فينا ذو حسب" في غيرها "ذو نسب" واستشكل الجواب لأنه لم يزد على ما في السؤال لأن السؤال تضمن أن له نسبا أو حسبا، والجواب كذلك. وأجيب بأن التنوين يدل على التعظيم كأنه قال: هو فينا ذو نسب كبير أو حسب رفيع. ووقع في رواية ابن إسحاق "كيف نسبه فيكم؟ قال في الذروة" وهي بكسر المعجمة وسكون الراء أعلى ما في البعير من السنام، فكأنه قال هو من أعلانا نسبا. وفي حديث دحية عند البزار "حدثني عن هذا الذي خرج بأرضكم ما هو؟ قال: شاب. قال: كيف حسبه فيكم؟ قال هو في حسب ما لا يفضل عليه أحد. قال: هذه آية" . قوله: "هل كان في آبائه ملك" في رواية الكشميهني: "من آبائه" وملك هنا بالتنوين وهي تؤيد أن الرواية السابقة في بدء الوحي بلفظ: "من ملك" ليست بلفظ الفعل الماضي. قوله: "قال يزيدون أم ينقصون" كذا فيه بإسقاط همزة الاستفهام، وقد جزم ابن مالك بجوازه مطلقا خلافا لمن خصه بالشعر. قوله: "قال هل يرتد إلخ" إنما لم

(8/217)


يستغن هرقل بقوله بل يزيدون عن هذا السؤال لأنه لا ملازمة بين الارتداد والنقص، فقد يرتد بعضهم ولا يظهر فيهم النقص باعتبار كثرة من يدخل وقلة من يرتد مثلا. قوله: "سخطة له" يريد أن من دخل في الشيء على بصيرة يبعد رجوعه عنه، بخلاف من لم يكن ذلك من صميم قلبه فإنه يتزلزل بسرعة، وعلى هذا يحمل حال من ارتد من قريش، ولهذا لم يعرج أبو سفيان على ذكرهم، وفيهم صهره زوج ابنته أم حبيبة وهو عبيد الله بن جحش، فإنه كان أسلم وهاجر إلى الحبشة بزوجته ثم تنصر بالحبشة ومات على نصرانيته، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بعده، وكأنه ممن لم يكن دخل في الإسلام على بصيرة، وكان أبو سفيان وغيره من قريش يعرفون ذلك منه ولذلك لم يعرج عليه خشية أن يكذبوه، ويحتمل أن يكونوا عرفوه بما وقع له من التنصر وفيه بعد، أو المراد بالارتداد الرجوع إلى الدين الأول، ولم يقع ذلك لعبيد الله بن جحش، ولم يطلع أبو سفيان على من وقع له ذلك. زاد في حديث دحية "أرأيت من خرج من أصحابه إليكم هل يرجعون إليه؟ قال نعم" . قوله: "فهل قاتلتموه" نسب ابتداء القتال إليهم ولم يقل قاتلكم فينسب ابتداء القتال إليه محافظة على احترامه، أو لاطلاعه على أن النبي لا يبدأ قومه بالقتال حتى يقاتلوه، أو لما عرفه من العادة من حمية من يدعي إلى الرجوع عن دينه. وفي حديث دحية "هل ينكب إذا قاتلكم؟ قال: قد قاتله قوم فهزمهم وهزموه هذه آية" . قوله: "يصيب منا ونصيب منه" وقعت المقاتلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش قبل هذه القصة في ثلاثة مواطن: بدر واحد والخندق، فأصاب المسلمون من المشركين في بدر وعكسه في أحد، وأصيب من الطائفتين ناس قليل في الخندق، فصح قول أبي سفيان يصيب منا ونصيب منه، ولم يصب من تعقب كلامه وأن فيه دسيسة لم ينبه عليها كما نبه على قوله: "ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها" والحق أنه لم يدس في هذه القصة شيئا وقد ثبت مثل كلامه هذا من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كما أشرت إليه في بدء الوحي. قوله: "إني سألتك عن حسبه فيكم" ذكر الأسئلة والأجوبة على ترتيب ما وقعت، وأجاب عن كل جواب بما يقتضيه الحال، وحاصل الجميع ثبوت علامات النبوة في الجميع: فالبعض مما تلقفه من الكتب، والبعض مما استقرأه بالعادة، ووقع في بدء الوحي إعادة الأجوبة مشوشة الترتيب، وهو من الراوي، بدليل أنه حذف منها واحدة وهي قوله: "هل قاتلتموه إلخ" ووقع في رواية الجهاد شيء خالفت فيه ما في الموضعين، فإنه أضاف قوله: "بم يأمركم" إلى بقية الأسئلة فكملت بها عشرة، وأما هنا فإنه أخر قوله: "بم يأمركم" إلى ما بعد إعادة الأسئلة والأجوبة وما رتب عليها وقوله: "قال لترجمانه قل له - أي قل لأبي سفيان - إني سألتك" أي قل له حاكيا عن هرقل إني سألتك، أو المراد إني سألتك على لسان هرقل، لأن الترجمان يعيد كلام هرقل ويعيد لهرقل كلام أبي سفيان، ولا يبعد أن يكون هرقل كان يفقه بالعربية ويأنف من التكلم بغير لسان قومه كما جرت به عادة الملوك من الأعاجم. قوله: "قلت لو كان من آبائه" أي قلت في نفسي، وأطلق على حديث النفس قولا. قوله: "ملك أبيه" أفرده ليكون أعذر في طلب الملك، بخلاف ما لو قال ملك آبائه، أو المراد بالأب ما هو أعم من حقيقته ومجازه. قوله: "وكذلك الإيمان إذا خالط" يرجح أن الرواية التي في بدء الوحي بلفظ: "حتى يخالط" وهم والصواب "حين" كما للأكثر. قوله: "قلت يأمرنا بالصلاة إلخ" في بدء الوحي "فقلت يقول اعبدوا الله إلخ" واستدل به على إطلاق الأمر على صيغة افعل وعلى عكسه، وفيه نظر لأن الظاهر أنه من تصرف الرواة، ويستفاد منه أن المأمورات كلها كانت معروفة عند هرقل ولهذا لم يستفسره عن حقائقها. قوله: "إن يك ما تقول فيه حقا فإنه نبي" وقع في رواية الجهاد "وهذه صفة نبي"

(8/218)


وفي مرسل سعيد بن المسيب عند ابن أبي شيبة: "فقال هو نبي" ووقع في "أمالي المحاملي" رواية الأصبهانيين من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن أبي سفيان أن صاحب بصري أخذه وناسا معه وهم في تجارة فذكر القصة مختصرة دون الكتاب وما فيه وزاد في آخرها "قال فأخبرني هل تعرف صورته إذا رأيتها؟ قلت: نعم، فأدخلت كنيسة لهم فيها الصور فلم أره، ثم أدخلت أخرى فإذا أنا بصورة محمد وصورة أبي بكر إلا أنه دونه. وفي دلائل النبوة لأبي نعيم" بإسناد ضعيف "إن هرقل أخرج لهم سفطا من ذهب عليه قفل من ذهب فأخرج منه حريرة مطوية فيها صور فعرضها عليهم إلى أن كان آخرها صورة محمد، فقلنا بأجمعنا: هذه صورة محمد، فذكر لهم أنها صور الأنبياء وأنه خاتمهم صلى الله عليه وسلم. أرادها. قال: قوله: "وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أك أظنه منكم" أي أعلم أن نبيا سيبعث في هذا الزمان، لكن لم أعلم تعيين جنسه. وزعم بعض الشراح أنه كان يظن أنه من بني إسرائيل لكثرة الأنبياء فيهم، وفيه نظر لأن اعتماد هرقل في ذلك كان على ما اطلع عليه من الإسرائيليات، وهي طافحة بأن النبي الذي في آخر الزمان من ولد إسماعيل، فيحمل قوله: "لم أكن أظن أنه منكم" أي من قريش. قوله: "لأحببت لقاءه" في بدء الوحي "لتجشمت" بجيم ومعجمة أي تكلفت، ورجحها عياض لكن نسبها لرواية مسلم خاصة، وهي عند البخاري أيضا. وقال النووي: قوله: "لتجشمت لقاءه" أي تكلفت الوصول إليه وارتكبت المشقة في ذلك، ولكني أخاف أن أقتطع دونه. قال ولا عذر له في هذا لأنه عرف صفة النبي، لكنه شح بملكه ورغب في بقاء رياسته فآثرها. وقد جاء مصرحا به في صحيح البخاري، قال شيخنا شيخ الإسلام: كذا قال، ولم أر في شيء من طرق الحديث في البخاري ما يدل على ذلك. قلت: والذي يظهر لي أن النووي عنى ما وقع في آخر الحديث عند البخاري دون مسلم من القصة التي حكاها ابن الناطور، وأن في آخرها في بدء الوحي أن هرقل قال: "إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت" وزاد في آخر حديث الباب: "فقد رأيت الذي أحببت" فكأن النووي أشار إلى هذا والله أعلم. وقد وقع التعبير بقوله: "شح بملكه" في الحديث الذي أخرجه. قوله: "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه" ظاهره أن هرقل هو الذي قرأ الكتاب، ويحتمل أن يكون الترجمان قرأه ونسبت قراءته إلى هرقل مجازا لكونه الآمر به، وقد تقدم في رواية الجهاد بلفظ: "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ"وفي مرسل محمد بن كعب القرظي عند الواقدي في هذه القصة" فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية فقرأه" ووقع في رواية الجهاد ما ظاهره أن قراءة الكتاب وقعت مرتين، فإن في أوله "فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه: التمسوا لي هاهنا أحدا من قومه لأسألهم عنه، قال ابن عباس: فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشام في رجال من قريش" فذكر القصة إلى أن قال: "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ"والذي يظهر لي أن هرقل قرأه بنفسه أولا ثم لما جمع قومه وأحضر أبا سفيان ومن معه وسأله وأجابه أمر بقراءة الكتاب على الجميع، ويحتمل أن يكون المراد بقوله أولا "فقال حين قرأه" أي قرأ عنوان الكتاب لأن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كان مختوما بختمه وختمه محمد رسول الله، ولهذا قال إنه يسأل عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، ويؤيد هذا الاحتمال أن من جملة الأسئلة قول هرقل "بم يأمركم؟ فقال أبو سفيان: يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا" وهذا بعينه في الكتاب، فلو كان هرقل قرأه أولا ما احتاج إلى السؤال عنه ثانيا، نعم يحتمل أن يكون سأل عن ثانيا مبالغة في تقريره، قال النووي: في هذه القصة فوائد، منها جواز مكاتبة الكفار ودعاؤهم إلى الإسلام قبل القتال، وفيه

(8/219)


تفصيل: فمن بلغته الدعوة وجب إنذارهم قبل قتالهم، وإلا استحب. ومنها وجوب العمل بخبر الواحد وإلا لم يكن في بعث الكتاب مع دحية وحده فائدة. ومنها وجوب العمل بالخط إذا قامت القرائن بصدقه. قوله: "فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم" قال النووي: فيه استحباب تصدير الكتب ببسم الله الرحمن الرحيم وإن كان المبعوث إليه كافرا، ويحمل قوله في حديث أبي هريرة "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع " أي بذكر الله كما جاء في رواية أخرى فإنه روى على أوجه بذكر الله ببسم الله بحمد الله. قال: وهذا الكتاب كان ذا بال من المهمات العظام ولم يبدأ فيه بلفظ الحمد بل بالبسملة انتهى والحديث الذي أشار إليه أخرجه أبو عوانة في صحيحه وصححه ابن حبان أيضا وفي إسناده مقال وعلى تقدير صحته فالرواية المشهورة فيه بلفظ حمد الله، وما عدا ذلك من الألفاظ التي ذكرها النووي وردت في بعض طرق الحديث بأسانيد واهية. ثم اللفظ وإن كان عاما لكن أريد به الخصوص وهي الأمور التي تحتاج إلى تقدم الخطبة، وأما المراسلات فلم تجر العادة الشرعية ولا العرفية بابتدائها بذلك، وهو نظير الحديث الذي أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة أيضا بلفظ: " كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء" فالابتداء بالحمد واشتراط التشهد خاص بالخطبة، بخلاف بقية الأمور المهمة فبعضها يبدأ فيه بالبسملة تامة كالمراسلات، وبعضها ببسم الله فقط كما في أول الجماع والذبيحة، وبعضها بلفظ من الذكر مخصوص كالتكبير، وقد جمعت كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد بل بالبسملة، وهو يؤيد ما قررته والله أعلم. وقد تقدم في الحيض استدلال المصنف بهذا الكتاب على جواز قراءة الجنب القرآن وما يرد عليه، وكذا في الجهاد الاستدلال به على جواز السفر بالقرآن إلى أرض العدو وما يرد عليه بما أغنى عن الإعادة ووقع في مرسل سعيد بن المسيب عند ابن أبي شيبة: "أن هرقل لما قرأ الكتاب قال: هذا كتاب لم أسمعه بعد سليمان عليه السلام كأنه يريد الابتداء ببسم الله الرحمن الرحيم، وهذا يؤيد ما قدمناه أنه كان عالما بأخبار أهل الكتاب. قوله: "من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقع في بدء الوحي وفي الجهاد "من محمد بن عبد الله ورسوله" وفيه إشارة إلى أن رسل الله وإن كانوا أكرم الخلق على الله فهم مع ذلك مقرون بأنهم عبيد الله، وكأن فيه إشارة إلى بطلان ما تدعيه النصارى في عيسى عليه السلام. وذكر المدائني أن القارئ لما قرأ من محمد رسول الله إلى عظيم الروم غضب أخو هرقل واجتذب الكتاب، فقال له هرقل: مالك؟ فقال: بدأ بنفسه وسماك صاحب الروم فقال هرقل: إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتاب قبل أن أعلم ما فيه؟ لئن كان رسول الله إنه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكهم. وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده من طريق عبد الله بن شداد عن دحية "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى هرقل، فقدمت عليه فأعطيته الكتاب" وعنده ابن أخ له أحمر أزرق سبط الرأس، فلما قرأ الكتاب نخر ابن أخيه نخرة فقال: لا تقرأ، فقال قيصر: لم؟ قال: لأنه بدأ بنفسه وقال: صاحب الروم ولم يقل ملك الروم. قال: اقرأ فقرأ الكتاب" . قوله: "إلى هرقل عظيم الروم" عظيم بالجر على البدل ويجوز الرفع على القطع والنصب على الاختصاص، والمراد من تعظمه الروم وتقدمه للرياسة عليها. قوله: "أما بعد" تقدم في كتاب الجمعة في "باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد" الإشارة إلى عدد من روى من الصحابة هذه الكلمة وتوجيهها، ونقلت هناك أن سيبويه قال: إن معنى أما بعد مهما يكن من شيء. وأقول هنا: سيبويه لا يخص ذلك بقولنا أما بعد بل كل كلام أوله أما وفيه معنى الجزاء، قاله في مثل عبد الله فمنطلق، والفاء لازمة في أكثر الكلام،

(8/220)


وقد تحذف وهو نادر. قال الكرماني: "فإن قلت أم التفصيل فأين القسيم؟ ثم أجاب بأن التقدير أما الابتداء فهو بسم الله، وأما المكتوب فهو من محمد إلخ، وأما المكتوب به فهو ما ذكر في الحديث. وهو توجيه مقبول، لكنه لا يطرد في كل موضع، ومعناها الفصل بين الكلامين. واختلف في أول من قالها فقيل: داود عليه السلام، وقبل يعرب بن قحطان، وقيل كعب بن لؤي، وقيل قس بن ساعدة، وقيل سحبان. وفي "غرائب مالك للدار قطني" أن يعقوب عليه السلام قالها، فإن ثبت وقلنا إن قحطان من ذرية إسماعيل فيعقوب أول من قالها مطلقا، وإن قلنا إن قحطان قبل إبراهيم عليه السلام فيعرب أول من قالها، والله أعلم. قوله: "أسلم تسلم" فيه بشارة لمن دخل في الإسلام أنه يسلم من الآفات اعتبارا بأن ذلك لا يختص بهرقل، كما أنه لا يختص بالحكم الآخر وهو قوله أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، لأن ذلك عام في حق من كان مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. قوله: "وأسلم يؤتك" فيه تقوية لأحد الاحتمالين المتقدمين في بدء الوحي، وأنه أعاد أسلم تأكيدا، ويحتمل أن يكون قوله أسلم أولا أي لا تعتقد في المسيح ما تعتقده النصارى، وأسلم ثانيا أي ادخل في دين الإسلام، فلذلك قال بعد ذلك "يؤتك الله أجرك مرتين" .
" تنبيه " : لم يصرح في الكتاب بدعائه إلى الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لكن ذلك منطو في قوله: "والسلام على من اتبع الهدى" وفي قوله: "أدعوك بدعاية الإسلام" وفي قوله: "أسلم" فإن جميع ذلك يتضمن الإقرار بالشهادتين. قوله: "إثم الأريسيين" تقدم ضبطه وشرحه في بدء الوحي، ووجدته هناك في أصل معتمد بتشديد الراء، وحكى هذه الرواية أيضا صاحب "المشارق" وغيره، وفي أخرى "الأريسين" بتحتانية واحدة، قال ابن الأعرابي: أرس يأرس بالتخفيف فهو أريس، وأرس بالتشديد يؤرس فهو إريس. وقال الأزهري: بالتخفيف وبالتشديد الأكار لغة شامية، وكان أهل السواد أهل فلاحة وكانوا مجوسا، وأهل الروم أهل صناعة فأعلموا بأنهم وإن كانوا أهل كتاب فإن عليهم إن لم يؤمنوا من الإثم إثم المجوس انتهى. وهذا توجيه آخر لم يتقدم ذكره. وحكى غيره أن الأريسيين ينسبون إلى عبد الله بن أريس رجل كان تعظمه النصارى ابتدع في دينهم أشياء مخالفة لدين عيسى، وقيل إنه من قوم بعث إليهم نبي فقتلوه، فالتقدير على هذا: فإن عليك مثل إثم الأريسيين. وذكر ابن حزم أن أتباع عبد الله بن أريس كانوا أهل مملكة هرقل، ورده بعضهم بأن الأريسيين كانوا قليلا وما كانوا يظهرون رأيهم، فإنهم كانوا ينكرون التثليث. وما أظن قول ابن حزم إلا عن أصل، فإنه لا يجازف في النقل. ووقع في رواية الأصيلي اليريسين بتحتانية في أوله، وكأنه بتسهيل الهمزة. وقال ابن سيده في "المحكم" : الأريس الأكار عند ثعلب، والأمين عند كراع، فكأنه من الأضداد، أي يقال للتابع والمتبوع، والمعنى في الحديث صالح على الرأيين، فإن كان المراد التابع فالمعنى إن عليك مثل إثم التابع لك على ترك الدخول في الإسلام، وإن كان المراد المتبوع فكأنه قال فإن عليك إثم المتبوعين، وإثم المتبوعين يضاعف باعتبار ما وقع لهم من عدم الإذعان إلى الحق من إضلال أتباعهم. وقال النووي: نبه بذكر الفلاحين على بقية الرعية لأنهم الأغلب، ولأنهم أسرع انقيادا. وتعقب بأن من الرعايا غير الفلاحين من له صرامة وقوة وعشيرة، فلا يلزم من دخول الفلاحين في الإسلام دخول بقية الرعايا حتى يصح أنه نبه بذكرهم على الباقين، كذا تعقبه شيخنا شيخ الإسلام. والذي يظهر أن مراد النووي أنه نبه طائفة من الطوائف على بقية الطوائف كأنه يقول إذا امتنعت كان عليك إثم كل من امتنع بامتناعك وكان يطيع لو أطعت الفلاحين، فلا وجه للتعقب عليه. نعم قول أبي عبيد في "كتاب الأموال" ليس المراد

(8/221)


بالفلاحين الزراعين فقط بل المراد به جميع أهل المملكة، إن أراد به على التقرير الذي قررت به كلام النووي فلا اعتراض عليه، وإلا فهو معترض. وحكى أبو عبيد أيضا أن الأريسيين هم الخول والخدم، وهذا أخص من الذي قبله، إلا أن يريد بالخول ما هو أعم بالنسبة إلى من يحكم الملك عليه. وحكى الأزهري أيضا أن الأريسيين قوم من المجوس كانوا يعبدون النار ويحرمون الزنا وصناعتهم الحراثة ويخرجون العشر مما يزرعون، لكنهم يأكلون الموقوذة. وهذا أثبت فمعنى الحديث فإن عليك مثل إثم الأريسيين كما تقدم. قوله: "فلما فرغ" أي القارئ، ويحتمل أن يريد هرقل ونسب إليه ذلك مجازا لكونه الآمر به، ويؤيده قوله بعده "عنده" فإن الضمير فيه وفيما بعده لهرقل جزما. قوله: "ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط" ووقع في الجهاد "فلما أن قضى مقالته علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم وكثر لغطهم، فلا أدري ما قالوا" لكن يعرف من قرائن الحال أن اللغط كان لما فهموه من هرقل من ميله إلى التصديق. قوله: "لقد أمر ابن أبي كبشة" تقدم ضبطه في بدء الوحي وأن "أمر" الأول بفتح الهمزة وكسر الميم، والثاني بفتح الهمزة وسكون الميم، وحكى ابن التين أنه روى بكسر الميم أيضا. وقد قال كراع في "المجرد" ورع أمر بفتح ثم كسر أي كثير فحينئذ يصير المعنى لقد كثر كثير ابن أبي كبشة وفيه قلق، وفي كلام الزمخشري ما يشعر بأن الثاني بفتح الميم فإنه قال أمرة على وزن بركة الزيادة، ومنه قول أبي سفيان "لقد أمر أمر محمد" انتهى. هكذا أشار إليه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين في شرحه ورده، والذي يظهر لي أن الزمخشري إنما أراد تفسير اللفظة الأولى وهي أمر بفتح ثم كسر وأن مصدرها أمر بفتحتين والأمر بفتحتين الكثرة والعظم والزيادة، ولم يرد ضبط اللفظة الثانية والله أعلم. قوله: "قال الزهري فدعا هرقل عظماء الروم فجمعهم إلخ" هذه قطعة من الرواية التي وقعت في بدء الوحي عقب القصة التي حكاها ابن الناطور، وقد بين هناك أن هرقل دعاهم في دسكرة له بحمص وذلك بعد أن رجع هذا من بيت المقدس وكاتب صاحبه الذي برومية فجاءه جوابه يوافقه على خروج النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالفاء في قوله: "فدعا" فصيحة، والتقدير قال الزهري فسار هرقل إلى حمص فكتب إلى صاحبه برومية فجاءه جوابه فدعا الروم.
" تنبيه " : وقع في "سيرة ابن إسحاق" من روايته عن الزهري بإسناد حديث الباب إلى أبي سفيان بعض القصة التي حكاها الزهري عن ابن الناطور، والذي يظهر لي أنه دخل عليه حديث في حديث، ويؤيده أنه حكى قصة الكتاب عن الزهري قال: "حدثني أسقف من النصارى قد أدرك ذلك الزمان" قلت: وهذا هو ابن الناطور، وقصة الكتاب إنما ذكرها الزهري من طريق أبي سفيان، وقد فصل شعيب بن أبي حمزة عن الزهري الحديث تفصيلا واضحا، وهو أوثق من ابن إسحاق وأتقن، فروايته هي المحفوظة ورواية ابن إسحاق شاذة، ومحل هذا التنبيه أن يذكر في الكلام على الحديث في بدء الوحي، لكن فات ذكره هناك فاستدركته هنا. قوله: "فجمعهم في دار له فقال" تقدم في بدء الوحي أنه جمعهم في مكان وكان هو في أعلاه فاطلع وصنع ذلك خوفا على نفسه أن ينكروا مقالته فيبادروا إلى قتله. قوله: "آخر الأبد" أي يدوم ملككم إلى آخر الزمان. لأنه عرف من الكتب أن لا أمة بعد هذه الأمة ولا دين بعد دينها، وأن من دخل فيه آمن على نفسه فقال لهم ذلك. قوله: "فقال علي بهم، فدعا بهم فقال" فيه حذف تقديره فردوهم فقال. قوله: "فقد رأيت منكم الذي أحببت" يفسرها ما وقع مختصرا في بدء الوحي مقتصرا على قوله: "فقد رأيت" واكتفى بذلك عما بعده. قوله: "فسجدوا له ورضوا عنه" يشعر بأنه كان من عائدهم السجود لملوكهم، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى تقبيلهم الأرض حقيقة. فإن الذي

(8/222)


يفعل ذلك ربما صار غالبا كهيئة الساجد، وأطلق أنهم رضوا عنه بناء على رجوعهم عما كانوا هموا به عند تفرقهم عنه من الخروج والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: البداءة باسم الكاتب قبل المكتوب إليه، وقد أخرج أحمد وأبو داود عن العلاء بن الحضرمي أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان عامله على البحرين فبدأ بنفسه "من العلاء إلى محمد رسول الله" وقال ميمون: كانت عادة ملوك العجم إذا كتبوا إلى ملوكهم بدعوا باسم ملوكهم فتبعتهم بنو أمية. قلت: وسيأتي في الأحكام أن ابن عمر كتب إلى معاوية فبدأ باسم معاوية، وإلى عبد الملك كذلك، وكذا جاء عن يزيد بن ثابت إلى معاوية، عند البزار بسند ضعيف عن حنظلة الكاتب أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه عليا وخالد بن الوليد فكتب إليه خالد فبدأ بنفسه وكتب إليه علي فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب واحد منهما، وقد تقدم الكلام على "أما بعد" في كتاب الجمعة.

(8/223)


5- باب {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ـ إِلَى ـ {بِهِ عَلِيمٌ}
4554- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ نَخْلاً وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ" قَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي بَنِي عَمِّهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ مَالٌ رَايِح"
4555- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ وَأُبَيٍّ وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِي مِنْهَا شَيْئًا"
قوله: "باب {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} الآية" كذا لأبي ذر. ولغيره: إلى {بِهِ عَلِيمٌ} ثم ذكر المصنف حديث أنس في قصة بيرحاء، وقد تقدم ضبطها في الزكاة، وشرح الحديث في الوقف. قوله: "وقال عبد الله بن يوسف وروح بن عبادة عن مالك قال رابح" يعني أن المذكورين رويا الحديث عن مالك بإسناده فوافقا فيه إلا في هذه اللفظة، فأما رواية عبد الله بن يوسف فوصلها المؤلف في الوقف عنه، ووقع عند المزي أنه أوردها في التفسير موصولة عن عبد الله بن يوسف أيضا، وأما رواية روح بن عبادة فتقدم في الوكالة أن أحمد وصلها عنه، وذكرت هناك ما وقع للرواة عن مالك في ضبط هذه اللفظة وهل هي رايح بالموحدة أو التحتانية مع الشرح. قوله: "حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك رايح" كذا اختصره، وكان قد ساقه بتمامه من هذا الوجه في كتاب الوكالة.

(8/223)


" تنبيه " : وقع هنا لغير أبي ذر "حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثني أبي عن ثمامة عن أنس قال: فجعلها لحسان وأبي بن كعب، وأنا أقرب إليه منهما، ولم يجعل لي منها شيئا" وهذا طرف من الحديث، وقد تقدم بتمامه في الوقف مع شرحه، وأغفل المزي التنبيه على هذا الطريق هنا، وممن عمل بالآية ابن عمر فروى البزار من طريقه أنه قرأها، قال فلم أجد شيئا أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت: هي حرة لوجه الله، فلولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لتزوجتها.

(8/224)


6- باب {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
4556- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا فَقَالَ لَهُمْ: " كَيْفَ تَفْعَلُونَ بِمَنْ زَنَى مِنْكُمْ" قَالُوا نُحَمِّمُهُمَا وَنَضْرِبُهُمَا فَقَالَ: "لاَ تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ " فَقَالُوا لاَ نَجِدُ فِيهَا شَيْئًا فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ كَذَبْتُمْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَوَضَعَ مِدْرَاسُهَا الَّذِي يُدَرِّسُهَا مِنْهُمْ كَفَّهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَطَفِقَ يَقْرَأُ مَا دُونَ يَدِهِ وَمَا وَرَاءَهَا وَلاَ يَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ فَنَزَعَ يَدَهُ عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ فَقَالَ مَا هَذِهِ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا هِيَ آيَةُ الرَّجْمِ فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ مَوْضِعُ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ صَاحِبَهَا يَحْنِي عَلَيْهَا يَقِيهَا الْحِجَارَة"
قوله: "باب {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ذكر فيه حديث ابن عمر في قصة اليهوديين اللذين زنيا وسيأتي شرحه في الحدود. وقوله في هذه الرواية: "كيف تفعلون" في رواية الكشميهني: "كيف تعملون" وقوله: "نحممهما" بمهملة ثم ميم مثقلة أي نسكب عليهما الماء الحميم، وقيل نجعل في وجوهما الحمة بمهملة وميم خفيفة أي السواد، وسيأتي ما في ذلك عند شرح الحديث. وقوله: "فوضع مدراسها" بكسر أوله كذا للكشميهني. ولغيره: "مدارسها" بضم أوله وتقديم الألف بوزن المفاعلة من الدراسة، والأول أوجه. قوله: "فلما رأوا ذلك قالوا" في رواية الكشميهني بالإفراد فيهما. قوله: "يجنا" بجيم ساكنة ثم نون مفتوحة ثم همزة، وللكشميهني: "يجني" بالمهملة وكسر النون بغير همز

(8/224)


7- باب {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
4557- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قَالَ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلاَسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الإِسْلاَم"
قوله: "باب {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ذكر فيه حديث أبي هريرة في تفسيرها غير مرفوع، وقد تقدم في أواخر الجهاد من وجه آخر مرفوعا، وهو يرد قول من تعقب البخاري فقال: هذا موقوف لا معنى لإدخاله في

(8/224)


8- باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ}
4558- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "فِينَا نَزَلَتْ {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} قَالَ نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلِمَةَ وَمَا نُحِبُّ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً وَمَا يَسُرُّنِي أَنَّهَا لَمْ تُنْزَلْ لِقَوْلِ اللَّهِ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا"
قوله: "باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ} ذكر فيه حديث جابر، وقد تقدم مشروحا في غزوة أحد. وقوله: "والله وليهما" ذكر الفراء أن في قراءة ابن مسعود "والله وليهم" قال: وهو كقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} . ذكر الفراء أن في قراءة ابن مسعود "والله وليهم" قال: وهو كقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} .

(8/225)


9- باب {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ}
4559- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ

(8/225)


10- باب {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}
وَهْوَ تَأْنِيثُ آخِرِكُمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ فَتْحًا أَوْ شَهَادَةً
4561- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ وَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً"
قوله: "باب قوله تعالى: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} وهو تأنيث آخركم" كذا وقع فيه، وهو تابع لأبي عبيدة فإنه قال: أخراكم آخركم، وفيه نظر لأن أخرى تأنيث آخر بفتح الخاء لا كسرها، وقد حكى الفراء أن من العرب من يقول في أخراتكم بزيادة المثناة. قوله: "وقال ابن عباس: إحدى الحسنيين فتحا أو شهادة" كذا وقع هذا التعليق بهذه الصورة؛ ومحله في سورة براءة ولعله أورده هنا للإشارة إلى أن إحدى الحسنيين وقعت في أحد

(8/227)


وهي الشهادة، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس مثله. حديث البراء في قصة الرماة يوم أحد، وقد تقدم بتمامه مع شرحه في المغازي.

(8/228)


11- باب {أَمَنَةً نُعَاسًا}
4562- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ "أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ وَآخُذُه"
قوله: "باب قوله: {أَمَنَةً نُعَاسًا} قوله: "حدثني إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن أبو يعقوب "هو بغدادي لقبه لؤلؤ، ويقال يؤيؤ بتحتانيتين، وهو ابن عم أحمد بن منيع، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في كتاب الرقاق، وهو ثقة باتفاق، وعاش بعد البخاري ثلاث سنين، مات سنة تسع وخمسين. ثم ذكر حديث أبي طلحة في النعاس يوم أحد، وقد تقدم في المغازي من وجه آخر عن قتادة مع شرحه.

(8/228)


12- باب {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} الْقَرْحُ الْجِرَاحُ اسْتَجَابُوا أَجَابُوا يَسْتَجِيبُ يُجِيبُ
قوله:"باب قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ} ساق الآية إلى "عظيم" . قوله: "القرح الجراح" هو تفسير أبي عبيدة، وكذا أخرجه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير مثله، وروى سعيد بن منصور بإسناد جيد عن ابن مسعود أنه قرأ: {القرح} بالضم. قلت: وهي قراءة أهل الكوفة. وذكر أبو عبيد عن عائشة أنها قالت أقرأها بالفتح لا بالضم" قال الأخفش: القرح بالضم وبالفتح المصدر، فالضم لغة أهل الحجاز والفتح لغة غيرهم كالضعف والضعف، وحكى الفراء أنه بالضم الجرح وبالفتح ألمه. وقال الراغب: القرح بالفتح أثر الجراحة وبالضم أثرها من داخل. قوله: {اسْتَجَابُوا} أجابوا، ويستجيب يجيب" هو قول أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ} أي أجابهم، تقول العرب: استجبتك أي أجبتك، قال كعب الغنوي:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال في قوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي يجيب الذين آمنوا، وهذه في سورة الشورى وإنما أوردها المصنف استشهادا للآية الأخرى.
" تنبيه " : لم يسق البخاري في هذا الباب حديثا؛ وكأنه بيض له، واللائق به حديث عائشة أنها قالت لعروة في هذه الآية "يا ابن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر" وقد تقدم في المغازي مع شرحه. وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب ردفتم، بئسما صنعتم، فرجعوا، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد، فبلغ المشركين فقالوا: نرجع من قابل، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية" أخرجه النسائي وابن مردويه ورجاله رجال الصحيح، إلا أن المحفوظ إرساله عن عكرمة ليس فيه ابن عباس

(8/228)


13-باب {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} الْآيَةَ
4563- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ أُرَاهُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
[الحديث 4563- طرفه في: 4564]
4564- حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا إسرائيل عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: "كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار حسبي الله ونعم الوكيل"
قوله: "باب قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} في رواية أبي ذر" باب {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} وزاد غيره: "الآية" . قوله: "حدثنا أحمد بن يونس أراه قال حدثنا أبو بكر" كذا وقع، القائل "أراه" هو البخاري، وهو بضم الهمزة بمعنى أظنه، وكأنه عرض له شك في اسم شيخ شيخه، وقد أخرجه الحاكم من طريق أحمد بن إسحاق "عن أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر بن عياش" بإسناده المذكور بغير شك، لكن وهم الحاكم في استدراكه. قوله: "عن أبي حصين" بفتح المهملة واسمه عثمان بن عاصم، ولأبي بكر بن عياش في هذا الحديث إسناد آخر أخرجه ابن مردويه من وجه آخر عنه عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فنزلت هذه الآية" . قوله: "عن أبي الضحى" اسمه مسلم بن صبيح بالتصغير. قوله: "قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار" في الرواية التي بعدها" إن ذلك آخر ما قال: "وكذا وقع في رواية الحاكم المذكورة، ووقع عند النسائي من طريق يحيى بن أبي بكير عن أبي بكر كذلك، وعند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل بهذا الإسناد" أنها أول ما قال: "فيمكن أن يكون أول شيء وآخر شيء قال، والله أعلم. قوله: "حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم" فيه إشارة إلى ما أخرجه ابن إسحاق مطولا في هذه القصة، وأن أبا سفيان رجع بقريش بعد أن توجه من أحد فلقيه معبد الخزاعي فأخبره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في جمع كثير، وقد اجتمع معه من كان تخلف عن أحد وندموا، فثنى ذلك أبا سفيان وأصحابه فرجعوا، وأرسل أبو سفيان ناسا فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان وأصحابه يقصدونهم فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. ورواه الطبري من طريق السدي نحوه ولم يسم معبدا قال: "أعرابيا" ومن طريق ابن عباس موصولا لكن بإسناد لين قال: "استقبل أبو سفيان عيرا واردة المدينة" ومن طريق مجاهد أن ذلك كان من أبي سفيان في العام المقبل بعد أحد، وهي غزوة بدر الموعد، ورجح الطبري الأول. ويقال إن الرسول بذلك نعيم بن مسعود الأشجعي، ثم أسلم نعيم فحسن إسلامه. قيل إطلاق الناس على الواحد لكونه من جنسهم كما قال فلان يركب الخيل وليس له إذ ذاك إلا فرس واحد. قلت: وفي صحة هذا المثال نظر.

(8/229)


باب {ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله...}
...
14- باب {وَلاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} {سَيُطَوَّقُونَ} كَقَوْلِكَ طَوَّقْتُهُ بِطَوْقٍ
4565- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ" ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَلاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ"
قوله: {وَلاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية" ساق غير أبي ذر إلى قوله: "خبير" قال الواحدي: أجمع المفسرون على أنها نزلت في مانعي الزكاة، وفي صحة هذا النقل نظر، فقد قيل إنها نزلت في اليهود الذين كتموا صفة محمد، قاله ابن جريج، واختاره الزجاج: وقيل فيمن يبخل بالنفقة في الجهاد، وقيل على العيال وذي الرحم المحتاج، نعم الأول هو الراجح وإليه أشار البخاري. قوله: {سَيُطَوَّقُونَ} كقولك طوقته بطوق" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يلزمون، كقولك طوقته بالطوق. وروى عبد الرزاق وسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي بإسناد جيد في هذه الآية "سيطوقون" قال: بطوق من النار. ثم ذكر حديث أبي هريرة فيمن لم يؤد الزكاة، وقد تقدم مع شرحه في أوائل كتاب الزكاة، وكذا الاختلاف في التطويق المذكور هل يكون حسيا أو معنويا. وروى أحمد والترمذي والنسائي وصححه ابن خزيمة من طريق أبي وائل عن عبد الله مرفوعا: "لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاعا أقرع يطوق في عنقه" . ثم قرأ مصداقه في كتاب الله {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقد قيل إن الآية نزلت في اليهود الذين سئلوا أن يخبروا بصفة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم فبخلوا بذلك وكتموه، ومعنى قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا} أي بإثمه.

(8/230)


باب {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كبيرا}
...
15باب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا}
4566- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَالَ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّهُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَلاَ تُؤْذِنَا بِهِ

(8/230)


فِي مَجْلِسِنَا ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَة:َ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ" يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ عَنْهُ فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ لَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ فَلَمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} الْآيَةَ وَقَالَ اللَّهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَوَّلُ الْعَفْوَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ صَنَادِيدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ فَبَايَعُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَسْلَمُوا"
قوله: "باب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أنها نزلت في كعب بن الأشرف فيما كان يهجو به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الشعر، وقد تقدم في المغازي خبره، وفيه شرح حديث:"من لكعب بن الأشرف، فإنه آذى الله ورسوله" وروى ابن أبي حاتم وابن المنذر بإسناد حسن عن ابن عباس أنها نزلت فيما كان بين أبي بكر وبين فنحاص اليهودي في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} تعالى الله عن قوله، فغضب أبو بكر فنزلت. قوله: "على قطيفة فدكية" أي كساء غليظ منسوب إلى فدك بفتح الفاء والدال، وهي بلد مشهور على مرحلتين من المدينة. قوله: "يعود سعد بن عبادة" فيه عيادة الكبير بعض أتباعه في داره. و قوله: "في بني الحارث بن الخزرج" أي في منازل بني الحارث وهم قوم سعد بن عبادة. قوله: "قبل وقعة بدر" في رواية الكشميهني: "وقيعة" . قوله: "وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي" أي قبل الإسلام. قوله: "فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين" كذا فيه تكرار لفظ المسلمين آخرا بعد البداءة به، والأولى حذف أحدهما، وسقطت الثانية من رواية مسلم وغيره. وأما قوله: "عبدة الأوثان" فعلى البدل من المشركين، وقوله: "اليهود" يجوز أن يكون معطوفا على البدل أو على المبدل منه وهو أظهر لأن اليهود مقرون بالتوحيد، نعم من لازم قول من قال منهم عزيز ابن الله تعالى عن قولهم الإشراك، وعطفهم على أحد التقديرين تنويها بهم في الشر، ثم ظهر لي رجحان أن يكون عطفا على المبدل منه كأنه فسر المشركين بعبدة الأوثان وباليهود، ومنه يظهر توجيه إعادة لفظ المسلمين

(8/231)


كأنه فسر الأخلاط بشيئين المسلمين والمشركين، ثم لما فسر المشركين بشيئين رأى إعادة ذكر المسلمين تأكيدا، ولو كان قال: لا هن المسلمين والمشركين واليهود ما احتاج إلى إعادة، وإطلاق المشركين على الشهود لكونهم يضاهون قولهم ويرجحونهم على المسلمين ويوافقونهم في تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ومعاداته وقتاله بعدما تبين لهم الحق، ويؤيد ذلك أنه قال في آخر الحديث: "قال عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان" فعطف عبدة الأوثان على المشركين، وبالله التوفيق. قوله: "عجاجة" بفتح المهملة وجيمين الأولى خفيفة أي غبارها وقوله: "خمر" أي غطى، وقوله: "أنفه" في رواية الكشميهني: "وجهه" . قوله: "فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم" يؤخذ منه جواز السلام على المسلمين إذا كان معهم كفار وينوي حينئذ بالسلام المسلمين، ويحتمل أن يكون الذي سلم به عليهم صيغة عموم فيها تخصيص كقوله السلام على من اتبع الهدى. قوله: "ثم وقف فنزل" عبر عن انتهاء مسيره بالوقوف. قوله: "إنه لا أحسن مما تقول" بنصب أحسن وفتح أوله على أنه أفعل تفضيل، ويجوز في أحسن الرفع على أنه خير لا والاسم محذوف أي لا شيء أحسن من هذا، ووقع في رواية الكشميهني بضم أوله كسر السين وضم النون، ووقع في رواية أخرى لأحسن بحذف الألف لكن بفتح السين وضم النون على أنها لام القسم كأنه قال أحسن من هذا أن تقعد في بيتك، حكاه عياض عن أبي علي واستحسنه، وحكى ابن الجوزي تشديد السين المهملة بغير نون من الحس أي لا أعلم منه شيئا. قوله: "يتثاورون" بمثلثة أي يتواثبون، أي قاربوا أي يثب بعضهم على بعض فيقتتلوا، يقال ثار إذا قام بسرعة وانزعاج. قوله: "حتى سكنوا" بالنون كذا للأكثر، وعند الكشميهني بالمثناة، ووقع في حديث أنس أنه نزل في ذلك {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية، وقد قدمت ما فيه من الإشكال وجوابه عند شرح حديث أنس في كتاب الصلح. قوله: "أيا سعد" في رواية مسلم: "أي سعد". قوله: "أبو حباب" بضم المهملة وبموحدتين الأول خفيفة وهي كنية عبد الله بن أبي، وكناه النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة لكونه كان مشهورا بها أو لمصلحة التألف. قوله: "ولقد اصطلح" بثبوت الواو للأكثر وبحذفها لبعضهم. قوله: "أهل هذه البحرة" في رواية الحموي "البحيرة" بالتصغير، وهذا اللفظ يطلق على القرية وعلى البلد، والمراد به هنا المدينة النبوية، ونقل ياقوت أن البحرة من أسماء المدينة النبوية. قوله: "على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة" يعني يرئسوه عليهم ويسودوه، وسمى الرئيس معصبا لما يعصب برأسه من الأمور، أو لأنهم يعصبون رءوسهم بعصابة لا تنبغي لغيرهم يمتازون بها، ووقع في غير البخاري "فيعصبونه" والتقدير فهم يعصبونه أو فإذا هم يعصبونه؛ وعند ابن إسحاق لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه، فهذا تفسير المراد وهو أولى مما تقدم. قوله: "شرق بذلك" بفتح المعجمة وكسر الراء أي غص به، وهو كناية عن الحسد، يقال غص بالطعام وشجي بالعظم وشرق بالماء إذا اعترض شيء من ذلك في الحلق فمنعه الإساغة. قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب" هذا حديث آخر أفرده ابن حاتم في التفسير عن الذي قبله وإن كان الإسناد متحدا، وقد أخرج مسلم الحديث الذي قبله مقتصرا عليه ولم يخرج شيئا من هذا الحديث الآخر. قوله: "وقال الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية" ساق في رواية أبي نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن أبي اليمان بالإسناد المذكور الآية وبما بعدما ساقه المصنف منها تتبين المناسبة وهو قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} . قوله: "حتى أذن الله فيهم" أي في قتالهم، أي فترك العفو عنهم، وليس المراد أنه تركه أصلا بل بالنسبة إلى ترك القتال أولا وقوعه آخرا، وإلا فعفوه صلى الله عليه وسلم كثير من المشركين واليهود

(8/232)


بالمن والفداء وصفحه عن المنافقين مشهور في الأحاديث والسير. قوله: "صناديد" بالمهملة ثم نون خفيفة جمع صنديد بكسر ثم سكون وهو الكبير في قومه. قوله: "هذا أمر قد توجه" أي ظهر وجهه. قوله: "فبايعوا" بلفظ الماضي، ويحتمل أن يكون بلفظ الأمر. والله أعلم.

(8/233)


باب {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا}
...
16- باب {لاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}
4567- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رِجَالاً مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ لاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا الْآيَة"
4568- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَأَرَوْهُ أَنْ قَدْ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ { يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ح
حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ بِهَذَا"
قوله: "باب {لاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} سقط لفظ: "باب" لغير أبي ذر. قوله: "حدثنا محمد بن جعفر" أي ابن أبي كثير المدني، والإسناد كله مدنيون إلى شيخ البخاري. قوله: "إن رجالا من المنافقين" هكذا ذكره أبو سعيد الخدري في سبب نزول الآية وأن المراد من كان يعتذر عن التخلف من المنافقين، وفي حديث ابن عباس الذي بعده أن المراد من أجاب من اليهود بغير ما سئل عنه وكتموا ما عندهم من ذلك، ويمكن الجمع بأن تكون الآية نزلت في الفريقين معا، وبهذا أجاب القرطبي وغيره، وحكى الفراء أنها نزلت في قول اليهود نحن أهل الكتاب الأول والصلاة والطاعة، ومع ذلك لا يقرون بمحمد فنزلت: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} وروى ابن أبي حاتم من طرق أخرى عن جماعة من التابعين نحو ذلك ورجحه الطبري، ولا مانع أن تكون نزلت في كل ذلك، أو نزلت في أشياء خاصة وعمومها يتناول كل من أتى بحسنة ففرح بها فرح إعجاب وأحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بما ليس فيه، والله أعلم. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "عن ابن أبي مليكة" في رواية

(8/233)


عبد الرزاق عن ابن جريج "أخبرني ابن أبي مليكة" وسيأتي، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم من طريق محمد بن ثور عن ابن جريج. قوله: "أن علقمة بن وقاص" هو الليثي من كبار التابعين وقد قيل إن له صحبة. وهو راوي حديث الأعمال عن عمر. قوله: "إن مروان" هو ابن الحكم بن أبي العاص الذي ولي الخلافة. وكان يومئذ أمير المدينة من قبل معاوية. قوله: "قال لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل" رافع هذا لم أر له ذكرا في كتاب الرواة إلا بما جاء في هذا الحديث، والذي يظهر من سياق الحديث أنه توجه إلى ابن عباس فبلغه الرسالة ورجع إلى مروان بالجواب فلولا أنه معتمد عند مروان ما قنع برسالته، لكن قد ألزم الإسماعيلي البخاري أن يصحح حديث يسرة بن صفوان في نقض الوضوء من مس الذكر فإن عروة ومروان اختلفا في ذلك فبعث مروان حرسيه إلى يسرة فعاد إليه بالجواب عنها فضار الحديث من رواية عروة عن رسول مروان عن يسرة" ورسول مروان مجهول الحال فتوقف عن القول بصحة الحديث جماعة من الأئمة لذلك، فقال الإسماعيلي أن القصة التي في حديث الباب شبيهة بحديث يسرة، فإن كان رسول مروان معتمدا في هذه فليعتمد في الأخرى فإنه لا فرق بينهما. إلا أنه في هذه القصة سمى رافعا ولم يسم الحرسي، قال ومع هذا فاختلف على ابن جريج في شيخ شيخه فقال عبد الرزاق وهشام عنه عن ابن أبي مليكة عن علقمة. وقال حجاج بن محمد عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن حميد بن عبد الرحمن، ثم ساقه من رواية محمد بن عبد الملك بن جريج عن أبيه عن ابن أبي مليكة عن حميد بن عبد الرحمن، فصار لهشام متابع وهو عبد الرزاق ولحجاج بن محمد متابع وهو محمد، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق محمد بن ثور عن ابن جريج كما قال عبد الرزاق: والذي يتحصل لي من الجواب عن هذا الاحتمال أن يكون علقمة بن وقاص كان حاضرا عند ابن عباس لما أجاب، فالحديث من رواية علقمة عن ابن عباس، وإنما قص علقمة سبب تحديث ابن عباس بذلك فقط، وكذا أقول في حميد بن عبد الرحمن فكأن ابن أبي مليكة حمله عن كل منهما، وحدث به ابن جريج عن كل منهما، فحدث به ابن جريج تارة عن هذا وتارة عن هذا. وقد روى ابن مردويه في حديث أبي سعيد ما يدل على سبب إرساله لابن عباس فأخرج من طريق الليث عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: كان أبو سعيد وزيد بن ثابت ورافع بن خديج عند مروان فقال: يا أبا سعيد أرأيت قول الله - فذكر الآية - فقال: إن هذا ليس من ذاك، إنما ذاك أن ناسا من المنافقين - فذكر نحو حديث الباب وفيه - فإن كان لهم نصر وفتح حلفوا لهم على سرورهم بذلك ليحمدوهم على فرحهم وسرورهم، فكأن مروان توقف في ذلك، فقال أبو سعيد: هذا يعلم بهذا، فقال: أكذلك يا زبد؟ قال: نعم صدق. ومن طريق مالك عن زيد ابن أسلم عن رافع بن خديج أن مروان سأله عن ذلك فأجابه بنحو ما قال أبو سعيد فكأن مروان أراد زيادة الاستظهار، فأرسل بوابه رافعا إلى ابن عباس يسأله عن ذلك، والله أعلم. وأما قول البخاري عقب الحديث: تابعه عبد الرزاق عن ابن جريج، فيريد أنه تابع هشام بن يوسف على روايته إياه عن ابن جريج. عن ابن أبي مليكة عن علقمة، ورواية عبد الرزاق وصلها في التفسير وأخرجها الإسماعيلي والطبري وأبو نعيم وغيرهم من طريقه، وقد ساق البخاري إسناد حجاج عقب هذا ولم يسق المتن بل قال: عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه أخبره أن مروان بهذا، وساقه مسلم والإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: "أن مروان قال لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقال له" فذكر نحو حديث هشام. قوله: "لنعذبن أجمعون" في رواية حجاج بن محمد "لنعذبن أجمعين" . قوله: "إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهودا فسألهم عن شيء" في رواية حجاج بن محمد "إنما نزلت هذه الآية في أهل

(8/234)


الكتاب" . قوله: "فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم" في رواية حجاج بن محمد" فخرجوا قد أروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه" وهذا أوضح. قوله: {بِمَا أَتَوْا} كذا للأكثر بالقصر بمعنى جاءوا أي بالذي فعلوه، وللحموي "بما أوتوا" بضم الهمزة بعدها واو أي أعطوا، أي من العلم الذي كتموه، كما قال تعالى: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} والأول أولى لموافقته التلاوة المشهورة، على أن الأخرى قراءة السلمي وسعيد بن جبير، وموافقة المشهورة أولى مع موافقته لتفسير ابن عباس. قوله: "ثم قرأ ابن عباس وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب" فيه إشارة إلى أن الذين أخبر الله عنهم في الآية المسئول عنها هم المذكورون في الآية التي قبلها. وأن الله ذمهم بكتمان العلم الذي أمرهم أن لا يكتموه، وتوعدهم بالعذاب على ذلك ووقع في رواية محمد بن ثور المذكورة" فقال ابن عباس: قال الله جل ثناؤه في التوراة إن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده وإن محمدا رسول الله" .
" تنبيه " الشيء الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه اليهود لم أره مفسرا، وقد قيل إنه سألهم عن صفته عندهم بأمر واضح، فأخبروه عنه بأمر مجمل. وروى عبد الرزاق من طريق سعيد بن جبير في قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} قال: محمد: وفي قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} قال: بكتمانهم محمدا. وفي قوله: {أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} قال: قولهم نحن على دين إبراهيم.

(8/235)


باب {إن في خلق السوات والأرض}
...
17- باب {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية
4569- حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر قال أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ} ثم قام فتوضأ واستن فصلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح"
قوله: "باب قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} ساق إلى "الألباب" وذكر حديث ابن عباس في بيت ميمونة أورده مختصرة، وقد تقدم شرحه مستوفى في أبواب الوتر. وورد في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "أتت قريش اليهود فقالوا أيما جاء به موسى؟ قالوا: العصا ويده" الحديث، إلى أن قال: "فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا الصفا ذهبا، فنزلت هذه الآية" ورجاله ثقات، إلا الحماني فإنه تكلم فيه. وقد خالفه الحسن بن موسى فرواه عن يعقوب عن جعفر عن سعيد مرسلا وهو أشبه، وعلى تقدير كونه محفوظا وصله ففيه إشكال من جهة أن هذه السورة مدنية وقريش من أهل مكة. قلت: ويحتمل أن يكون سؤالهم لذلك بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولا سيما في زمن الهدنة.

(8/235)


باب {الذين يذكرون الله قياما وقعودا ويتفكرون في خلق السماوات والأرض}
...
18- باب {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية

(8/235)


19- باب {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
4571- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا ينعقد بن عيسى حدثنا مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى عبد الله بن عباس أن عبد الله بن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته قال فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن الدفع ثم قام يصلي فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي وأخذ بيده اليمنى يفتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح"
قوله: "باب {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} "ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور، وليس فيه إلا تغيير شيخ شيخه فقط، وسياق الرواية في هذا الباب أتم من تلك. ووقع في رواية الأصلي هنا" وأخذ بيدي اليمنى" وهو وهم والصواب "بأذني" كما في سائر الروايات.

(8/236)


20- باب {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ} الْآيَةَ
4572- حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى بن عباس أن بن عباس رضي الله عنهما أخبره ثم أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته قال فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والحاصل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن الدفع ثم قام يصلي قال بن عباس فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح"
قوله: "باب {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ} الآية" ذكر فيه الحديث المذكور عن شيخ له آخر عن مالك، وساقه أيضا بتمامه.

(8/237)


4- سورة النِّسَاءِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَنْكِفُ يَسْتَكْبِرُ قِوَامًا قِوَامُكُمْ مِنْ مَعَايِشِكُمْ لَهُنَّ سَبِيلاً يَعْنِي الرَّجْمَ لِلثَّيِّبِ وَالْجَلْدَ لِلْبِكْرِ وَقَالَ غَيْرُهُ مَثْنَى وَثُلاَثَ يَعْنِي اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثًا وَأَرْبَعًا وَلاَ تُجَاوِزُ الْعَرَبُ رُبَاعَ
قوله: "سورة النساء - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "قال ابن عباس: يستنكف يستكبر" وقع هذا في رواية المستملي والكشميهني حسب، وقد وصله ابن أبي حاتم بإسناد صحيح من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} قال يستكبر، وهو عجيب، فإن في الآية عطف الاستكبار على الاستنكاف فالظاهر أنه غيره، ويمكن أن يحمل على التوكيد. وقال الطبري: معنى يستنكف يأنف، وأسند عن قتادة قال: يحتشم. وقال الزجاج: هو استفعال من النكف وهو الأنفة، والمراد دفع ذلك عنه، ومنه نكفت الدمع بالإصبع إذا منعته من الجري على الخد. قوله: "قواما قوامكم من معايشكم" هكذا وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ووصله الطبري من هذا الوجه بلفظ {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} يعني قوامكم من معايشكم، يقول لا تعمد إلى مالك الذي جعله الله لك معيشة فتعطيه امرأتك ونحوها، وقوله: {قِيَاماً} القراءة المشهورة بالتحتانية بدل الواو، لكنهما بمعنى، قال أبو عبيدة: يقال قيام أمركم وقوام أمركم، والأصل بالواو فأبدلوها ياء لكسرة القاف، قال بعض الشراح: فأورده المصنف على الأصل. قلت: ولا حاجة لذلك لأنه ناقل لها عن ابن عباس، وقد ورد عنه كلا الأمرين: وقيل إنها أيضا قراءة ابن عمر أعني بالواو، وقد قرئ في المشهور عن أهل المدينة أيضا: "قيما" بلا ألف، وفي

(8/237)


الشواذ قراءات أخرى. وقال أبو ذر الهروي قوله: "قوامكم" إنما قاله تفسيرا لقوله: {قِيَاماً} على القراءة الأخرى. قلت: ومن كلام أبي عبيدة يحصل جوابه. قوله: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} يعني اثنتين وثلاثا وأربعا، ولا تجاوز العرب رباع" كذا وقع لأبي ذر فأوهم أنه عن ابن عباس أيضا كالذي قبله، ووقع لغيره. وقال غيره مثنى إلخ" وهو الصواب فإن ذلك لم يرو عن ابن عباس وإنما هو تفسير أبي عبيدة قال: لا تنوين في مثنى لأنه مصروف عن حده، والحد أن يقولوا اثنين وكذلك ثلاث ورباع لأنه ثلاث وأربع، ثم أنشد شواهد لذلك ثم قال: ولا تجاوز العرب رباع غير أن الكميت قال:
فلم يستريثوك حتى رمي ... ت فوق الرجال خصالا عشارا
انتهى وقيل: بل يجوز إلى سداس، وقيل إلى عشار. قال الحريري في "درة الغواص" غلط المتنبي في قوله: "أحاد أم سداس في أحاد" لم يسمع في الفصيح إلا مثنى وثلاث ورباع، والخلاف في خماس إلى عشار. ويحكى عن خلف الأحمر أنه أنشد أبياتا من خماس إلى عشار. وقال غيره: في هذه الألفاظ المعدولة هل يقتصر فيها على السماع أو يقاس عليها؟ قولان أشهرهما الاقتصار، قال ابن الحاجب: هذا هو الأصح، ونص عليه البخاري في صحيحه. كذا قال. قلت: وعلى الثاني يحمل بيت الكميت، وكذا قول الآخر:
ضربت خماس ضربة عبشمي ... أراد سداس أن لا تستقيما
وهذه المعدولات لا تقع إلا أحوالا كهذه الآية، أو أوصافا كقوله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أو إخبارا كقوله عليه الصلاة والسلام الليل مثنى" ولا يقال فيها مثناة وثلاثة، بل تجري مجرى واحدا، وهل يقال موحد كما يقال مثنى؟ الفصيح لا. وقيل يجوز. وكذا مثلث إلخ. وقول أبي عبيدة إن معنى مثنى اثنتين فيه اختصار وإنما معناه اثنتين اثنتين وثلاث ثلاث، وكأنه ترك ذلك لشهرته، أو كان لا يرى التكرار فيه، وسيأتي ما يتعلق بعدد ما ينكح من النساء في أوائل النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: {لَهُنَّ سَبِيلاً} يعني الرجم للثيب والجلد للبكر" ثبت هذا أيضا في رواية المستملي والكشميهني حسب، وهو من تفسير ابن عباس أيضا وصله عبد بن حميد عنه بإسناد صحيح، وروى مسلم وأصحاب السنن من حديث عبادة بن الصامت "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" والمراد الإشارة إلى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} وقد روى الطبراني من حديث ابن عباس قال: فلما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حبس بعد سورة النساء" وسيأتي البحث في الجمع بين الجلد والرجم للثيب في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى.

(8/238)


1- باب {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}
4573- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ رَجُلاً كَانَتْ لَهُ يَتِيمَةٌ فَنَكَحَهَا وَكَانَ لَهَا عَذْقٌ وَكَانَ يُمْسِكُهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ فَنَزَلَتْ فِيهِ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أَحْسِبُهُ قَالَ كَانَتْ شَرِيكَتَهُ فِي ذَلِكَ الْعَذْقِ

(8/238)


وَفِي مَالِه"
4574- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ "أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} فَقَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا لَهُنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ فِي الصَّدَاقِ فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ وَإِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ قَالَتْ فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا عَنْ مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهِ وَجَمَالِهِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إِذَا كُنَّ قَلِيلاَتِ الْمَالِ وَالْجَمَال"
قوله: "باب {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر، ومعنى "خفتم" ظننتم، ومعنى "تقسطوا" تعدلوا، وهو من أقسط يقال قسط إذا جار وأقسط إذا عدل، وقيل الهمزة فيه للسلب أي أزال القسط، ورجحه ابن التين بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} لأن أفعل في أبنية المبالغة لا تكون في المشهور إلا من الثلاثي، نعم حكى السيرافي في جواز التعجب بالرباعي، وحكى غيره أن أقسط من الأضداد، والله أعلم. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف، وهذه الترجمة من لطائف أنواع الإسناد، وهي ابن جريج عن هشام، وهشام الأعلى هو ابن عروة والأدنى ابن يوسف. قوله: "إن رجلا كانت له يتيمة فنكحها" هكذا قال هشام عن ابن جريج فأوهم أنها نزلت في شخص معين، والمعروف عن هشام بن عروة التعميم، وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج ولفظه: "أنزلت في الرجل يكون عنده اليتيمة إلخ" وكذا هو عند المصنف في الرواية التي تلي هذه من طريق ابن شهاب عن عروة، وفيه شيء آخر نبه عليه الإسماعيلي وهو قوله: "فكان لها عذق فكان يمسكها عليه" فإن هذا نزل في التي يرغب عن نكاحها، وأما التي يرغب في نكاحها فهي التي يعجبه مالها وجمالها فلا يزوجها لغيره ويريد أن يتزوجها بدون صداق مثلها، وقد وقع في رواية ابن شهاب التي بعد هذه التنصيص على القصتين، ورواية حجاج بن محمد سالمة من هذا الاعتراض فإنه قال فيها "أنزلت في الرجل يكون عنده اليتيمة وهي ذات مال إلخ" وكذا أخرجه المصنف في أواخر هذه السورة من طريق أبي أسامة، وفي النكاح من طريق وكيع كلاهما عن هشام. قوله: "عذق" بفتح العين المهملة وسكون المعجمة: النخلة، وبالكسر الكباسة والقنو، وهو من النخلة كالعنقود من الكرمة، والمراد هنا الأول. وأغرب الداودي ففسر العذق في حديث عائشة هذا بالحائط. قوله: "وكان يمسكها عليه" أي لأجله. وفي رواية الكشميهني: "فيمسك بسببه" قوله: "أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق" هو شك من هشام بن يوسف، ووقع مبينا مجزوما به في رواية أبي أسامة ولفظه: "هو الرجل يكون

(8/239)


عنده اليتيمة هو وليها وشريكته في ماله حتى في العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله فيعضلها، فنهوا عن ذلك" ورواية ابن شهاب شاملة للقصتين، وقد تقدمت في الوصايا من رواية شعيب عنه. قوله: "اليتيمة" أي التي مات أبوها. قوله: "في حجر وليها" أي الذي يلي مالها. قوله: "بغير أن يقسط في صداقها" في النكاح من رواية عقيل عن ابن شهاب "ويريد أن ينتقص من صداقها" . قوله: "فيعطيها مثل ما يعطينها غيره" هو معطوف على معمول بغير أي يريد أن يتزوجها بغير أن يعطيها مثل ما يعطيها غيره، أي ممن يرغب في نكاحها سواه، ويدل على هذا قوله بعد ذلك "فنهول عن ذلك إلا أن يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق" وقد تقدم في الشركة من رواية يونس عن ابن شهاب بلفظ: "بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره" . قوله: "فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن" أي بأي مهر توافقوا عليه، وتأويل عائشة هذا جاء عن ابن عباس مثله أخرجه الطبري، وعن مجاهد مناسبة ترتب قوله: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" على قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} شيء آخر، قال في معنى قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أي إذا كنتم تخافون أن لا تعدلوا في مال اليتامى فتحرجتم أن لا تلوها فتحرجوا من الزنا وانكحوا ما طاب لكم من النساء، وعلى تأويل عائشة يكون المعنى وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح اليتامى. قوله: "قال عروة قالت عائشة" هو معطوف على الإسناد المذكور وإن كان بغير أداة عطف. وفي رواية عقيل وشعيب المذكورين "قالت عائشة فاستفتى الناس" إلخ. قوله: "بعد هذه الآية" أي بعد نزول هذه الآية بهذه القصة. وفي رواية عقيل "بعد ذلك" . قوله: "فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} قالت عائشة وقول الله تعالى في آية أخرى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} كذا وقع في رواية صالح وليس ذلك في آية أخرى وإنما هو في نفس الآية وهي قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} ووقع في رواية شعيب وعقيل" فأنزل الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ثم ظهر لي أنه سقط من رواية البخاري شيء اقتضى هذا الخطأ، ففي صحيح مسلم والإسماعيلي والنساء واللفظ له من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه بهذا الإسناد في هذا الموضع" فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فذكر الله أن يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى وهي قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم إلخ كذا أخرجه مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب، وتقدم للمصنف أيضا في الشركة من طريق يونس عن ابن شهاب مقرونا بطريق صالح بن كيسان المذكورة هنا، فوضح بهذا في رواية صالح أن في الباب اختصارا، وقد تكلف له بعض الشراح فقال: معنى قوله: "في آية أخرى" أي بعد قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} وما أوردناه أوضح والله أعلم.
" تنبيه " : أغفل المزي في الأطراف عزو هذه الطريق أي طريق صالح عن ابن شهاب إلى كتاب التفسير واقتصر على عزوها إلى كتاب الشركة. قوله: "وترغبون أن تنكحوهن، رغبة أحدكم عن يتيمته" فيه تعيين أحد الاحتمالين في قوله: "وترغبون" لأن رغب يتغير معناه بمتعلقه يقال رغب فيه إذا أراده ورغب عنه إذا لم يرده، لأنه يحتمل أن تحذف في وأن تحذف عن، وقد تأوله سعيد بن جبير على المعنيين فقال: نزلت في الغنية والمعدمة، والمروي هنا عن عائشة أوضح في أن الآية الأولى نزلت في الغنية، وهذه الآية نزلت في المعدمة. قوله: "فنهوا" أي نهوا

(8/240)


عن نكاح المرغوب فيها لجمالها ومالها لأجل زهدهم فيها إذا كانت قليلة المال والجمال، فينبغي أن يكون نكاح اليتيمتين على السواء في العدل، وفي الحديث اعتبار مهر المثل في المحجورات وأن غيرهن يجوز نكاحها بدون ذلك، وفيه أن للولي أن يتزوج من هي تحت حجره لكن يكون العاقد غيره، وسيأتي البحث فيه في النكاح، وفيه جواز تزويج اليتامى قبل البلوغ لأنهن بعد البلوغ لا يقال لهن يتيمات إلا أن يكون أطلق استصحابا لحالهن، وسيأتي البحث فيه أيضا في كتاب النكاح.

(8/241)


2- باب {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} الآية { وَبِدَارًا} مُبَادَرَةً {أَعْتَدْنَا} أَعْدَدْنَا أَفْعَلْنَا مِنْ الْعَتَادِ
4575- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَالِي الْيَتِيمِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ مَكَانَ قِيَامِهِ عَلَيْهِ بِمَعْرُوف"
قوله: "باب {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ساق إلى قوله: "حسيبا" . قوله: "وبدارا مبادرة" هو تفسير أول الآية المترجم بها. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً} : الإسراف الإفراط، وبدارا مبادرة، وكأنه فسر المصدر بأشهر منه، يقال بادرت بدارا ومبادرة. وأخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعني يأكل مال اليتيم ويبادر إلى أن يبلغ فيحول بينه وبين ماله. قوله: "أعتدنا أعددنا أفعلنا من العتاد" كذا للأكثر، وهو تفسير أبي عبيدة، ولأبي ذر عن الكشميهني اعتددنا: افتعلنا والأول هو الصواب، والمراد أن أعتدنا وأعددنا بمعنى واحد، لأن العتيد هو الشيء المعد.
" تنبيه " : وقعت هذه الكلمة في هذا الموضع سهوا من بعض نساخ الكتاب، ومحلها بعد هذا قبل "باب {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} . قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن راهويه، وأما أبو نعيم في "المستخرج" فأخرجه من طريق ابن راهويه ثم قال: أخرجه البخاري عن إسحاق بن منصور. قوله: "في مال اليتيم" في رواية الكشميهني: "في والي اليتيم" والمراد بوالي اليتيم المتصرف في ماله بالوصية ونحوها، والضمير في كان على الرواية الأولى ينصرف إلى مصرف المال بقرينة المقام، ووقع في البيوع من طريق عثمان ابن فرقد عن هشام بن عروة بلفظ: "أنزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلح ماله، إن كان فقيرا أكل منه بالمعروف" وفي الباب حديث مرفوع أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن الجارود وابن أبي حاتم من طريق حسين المكتب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "جاء جل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي يتيما له مال، وليس عندي شيء، أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف " وإسناده قوي. قوله: "إذا كان فقيرا" مصير منه إلى أن الذي يباح له الأجرة من مال اليتيم من اتصف بالفقر، وقد قدمت البحث في ذلك في كتاب الوصايا، وذكر الطبري من طريق السدي "أخبرني من سمع ابن عباس يقول في قوله: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوف} قال: بأطراف أصابعه. ومن طريق عكرمة" يأكل ولا يكتسى" ومن طريق إبراهيم النخعي "يأكل ما سد الجوعة ووارى العورة" وقد مضى بقية نقل الخلاف فيه في الوصايا. وقال الحسن بن حي: يأكل وصي الأب بالمعروف، وأما قيم الحاكم فله أجرة فلا يأكل شيئا. وأغرب ربيعة فقال:

(8/241)


المراد خطاب الوفي بما يصنع باليتيم إن كان غنيا وسع عليه، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره، وهذا أبعد الأقوال كلها.
" تنبيه " : وقع لبعض الشراح ما نصه: قوله: "فمن كان غنيا فليستعفف" التلاوة ومن كان بالواو انتهى، وأنا ما رأيته في النسخ التي وقفت عليها إلا بالواو.

(8/242)


3- باب {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} الآيَةَ
4576- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} قَالَ هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ تَابَعَهُ سَعِيدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاس"
قوله: "باب {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} الآية" سقط "باب" لغير أبي ذر. قوله: "حدثنا أحمد بن حميد" هو القرشي الكوفي صهر عبيد الله بن موسى قال له دار أم سلمة لقب بذلك لجمعه حديث أم سلمة وتتبعه لذلك. وقال ابن عدي: كان له اتصال بأم سلمة يعني زوج السفاح الخليفة فلقب بذلك، ووهم الحاكم فقال: يلقب جار أم سلمة، وثقه مطين وقال: كان يعد في حفاظ أهل الكوفة، ومات سنة عشرين ومائتين، ووهم من قال خلاف ذلك، وما له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد، وشيخه عبيد الله الأشجعي هو ابن عبيد الرحمن الكوفي، وأبوه فرد في الأسماء مشهور في أصحاب سفيان الثوري، والشيباني هو أبو إسحاق، والإسناد إلى عكرمة كوفيون. قوله: "هي محكمة وليست بمنسوخة" زاد الإسماعيلي من وجه آخر عن الأشجعي" وكان ابن عباس إذا ولى رضخ، وإذا كان في المال قلة اعتذر إليهم، فذلك القول بالمعروف" . وعند الحاكم من طريق عمرو بن أبي قيس عن الشيباني بالإسناد المذكور في هذه الآية قال: "ترضخ لهم وإن كان في المال تقصير اعتذر إليهم" . قوله: "تابعه سعيد بن جبير عن ابن عباس" وصله في الوصايا بلفظ: "إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت، ولا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون الناس بها، هما واليان: وال يرث وذلك الذي يرزق، ووال لا يرث وذلك الذي يقال له بالمعروف يقول: لا أملك لك أن أعطيك" وهذان الإسنادان الصحيحان عن ابن عباس هما المعتمدان، وجاءت عنه روايات من أوجه ضعيفة عند ابن أبي حاتم وابن مردويه أنها منسوخة، نسختها آية الميراث، وصح ذلك عن سعيد بن المسيب، وهو قول القاسم بن محمد وعكرمة وغير واحد، وبه قال الأئمة الأربعة وأصحابهم، وجاء عن ابن عباس قول آخر أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن القاسم بن محمد "أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن في حياة عائشة، فلم يدع في الدار ذا قرابة ولا مسكينا إلا أعطاه من ميراث أبيه" وتلا الآية قال القاسم فذكرته لابن عباس فقال: ما أصاب، ليس ذلك له، إنما ذلك إلى الوصي، وإنما ذلك في العصبة أي ندب للميت أن يوصى لهم. قلت: وهذا لا ينافي حديث الباب، وهو أن الآية محكمة وليست بمنسوخة. وقيل معنى الآية: وإذا حضر قسمة الميراث قرابة الميت ممن لا يرث واليتامى والمساكين فإن نفوسهم تتشوف إلى أخذ شيء منه، ولا سيما إن كان جزيلا، فأمر الله سبحانه أن يرضخ لهم بشيء على سبيل البر والإحسان. واختلف من قال بذلك هل الأمر فيه على الندب أو الوجوب؟ فقال مجاهد وطائفة: هي على الوجوب وهو قول ابن حزم أن على الوارث أن يعطي هذه الأصناف ما طابت به نفسه. ونقل ابن الجوزي عن أكثر أهل العلم أن المراد بأولى

(8/242)


القرابة من لا يرث، وأن معنى {فَارزُقُوهُمْ} أعطوهم من المال. وقال آخرون: أطعموهم، وأن ذلك على سبيل الاستحباب وهو المعتمد، لأنه لو كان على الوجوب لاقتضى استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث بجهة مجهولة فيفضي إلى التنازع والتقاطع، وعلى القول بالندب فقد قبل: يفعل ذلك ولي المحجور، وقيل لا بل يقول: ليس المال لي وإنما هو لليتيم، وأن هذا هو المراد بقوله: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} وعلى هذا فتكون الواو في قوله: { وَقُولُوا} للتقسيم وعن ابن سيرين وطائفة: المراد بقوله: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } اصنعوا لهم طعاما يأكلونه، وأنها على العموم في مال المحجور وغيره، والله أعلم

(8/243)


4- باب {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}
4577- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي بَنِي سَلِمَةَ مَاشِيَيْنِ فَوَجَدَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ أَعْقِلُ شَيْئًا فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَزَلَتْ {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}
قوله: "باب {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} سقط لغير أبي ذر "باب" و "في أولاكم" والمراد بالوصية هنا بيان قسمة الميراث. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف، وابن المنكدر هو محمد. قوله: "عن جابر" في رواية شعبة عن ابن المنكدر "سمعت جابرا" وتقدمت في الطهارة. قوله: "عادني النبي صلى الله عليه وسلم" سيأتي ما يتعلق بذلك في كتاب المرضى قبيل كتاب الطب. قوله: "في بني سلمة" بفتح المهملة وكسر اللام هم قوم جابر، وهم بطن من الخزرج. قوله: "لا أعقل" زاد الكشميهني: "شيئا" . قوله: "ثم رش على" بينت في الطهارة الرد على من زعم أنه رش عليه من الذي فضل، وسيأتي في الاعتصام التصريح بأنه صب عليه نفس الماء الذي توضأ به. قوله: "فقلت ما تأمرني أن أصنع في مالي" في رواية شعبة المذكورة "فقلت يا رسول الله لمن الميراث، إنما يرثني كلالة" وسيأتي بيان ذلك في الفرائض. قوله: {فنزلت يوصيكم الله في أولادكم" هكذا وقع في رواية ابن جريج، وقيل إنه وهم في ذلك وأن الصواب أن الآية التي نزلت في قصة جابر هذه الآية الأخيرة من النساء وهي {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} لأن جابرا يومئذ لم يكن له ولد ولا والد، والكلالة من لا ولد له ولا والد، وقد أخرجه مسلم عن عمرو الناقد، والنسائي عن محمد بن منصور كلاهما عن ابن عيينة عن ابن المنكدر فقال في هذا الحديث:"حتى نزلت عليه آية الميراث: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ولمسلم أيضا من طريق شعبة عن ابن المنكدر قال في آخر هذا الحديث: "فنزلت آية الميراث، فقلت لمحمد بن المنكدر: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ؟ قال: هكذا أنزلت: {وقد تفطن البخاري بذلك فترجم في أول الفرائض" قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} - إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} ثم ساق حديث جابر المذكور عن قتيبة عن ابن عيينة وفي آخره: "حتى نزلت آية الميراث" ولم يذكر ما زاده الناقد، فأشعر بأن الزيادة عنده مدرجة من كلام ابن عيينة. وقد أخرجه أحمد عن ابن عيينة مثل رواية الناقد وزاد في آخره: "كان ليس له ولد وله أخوات" وهذا من كلام ابن عيينة أيضا، وقد اضطرب فيه فأخرجه

(8/243)


ابن خزيمة عن عبد الجبار بن العلاء عنه بلفظ: "حتى نزلت آية الميراث: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} وقال مرة "حتى نزلت آية الكلالة" وأخرجه عبد بن حميد، الترمذي عنه عن يحيى بن آدم عن ابن عيينة بلفظ: "حتى نزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} وأخرجه الإسماعيلي من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عنه فقال في آخره:"حتى نزلت آية الميراث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} "فمراد البخاري بقوله في الترجمة" إلى قوله: {واللهُ عليم حليم} الإشارة إلى أن مراد جابر من آية الميراث قوله: "إن كان رجل يورث كلالة" وأما الآية الأخرى وهي قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} فسيأتي في آخر تفسير هذه السورة أنها من آخر ما نزل، فكأن الكلالة لما كانت مجملة في آية المواريث استفتوا عنها فنزلت الآية الأخيرة. ولم ينفرد ابن جريج بتعين الآية المذكورة، فقد ذكرها ابن عيينة أيضا على الاختلاف عنه، وكذا أخرجه الترمذي والحاكم من طريق عمرو بن أبي قيس عن ابن المنكدر، وفيه نزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} وقد أخرجه البخاري أيضا عن ابن المديني وعن الجعفي مثل رواية قتيبة بدون الزيادة وهو المحفوظ، كذا أخرجه مسلم من طريق سفيان الثوري عن ابن المنكدر بلفظ: "حتى نزلت آية الميراث" فالحاصل أن المحفوظ عن ابن المنكدر أنه قال: "آية الميراث أو آية الفرائض" والظاهر أنها "يوصيكم الله" كما صرح به في رواية ابن جريج ومن تابعه، وأما من قالها إنها "يستفتونك" فعمدته أن جابرا لم يكن له حينئذ ولد وإنما يورث كلالة فكان المناسب لقصته نزول الآية الأخيرة، لكن ليس ذلك بلازم، لأن الكلالة مختلف في تفسيرها: فقيل هي اسم المال الموروث، وقيل اسم الميت، قيل اسم الإرث، وقيل ما تقدم. فلما لم يعين تفسيرها بمن لا ولد له ولا والد لم يصح الاستدلال لما قدمته أنها نزلت في آخر الأمر وآية المواريث نزلت قبل ذلك كما أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: "جاءت امرأة سعد بن الربيع فقالت: " يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد، إن عمهما أخذ مالهما. قال: يقضي الله في ذلك" . فنزلت آية الميراث. فأرسل إلى عمها فقال: أعط ابنتا سعد الثلثين وأمهما الثمن فما بقي فهو لك" وهذا ظاهر في تقدم نزولها. نعم وبه احتج من قال إنها لم تنزل في قصة جابر إنما نزلت في قصة ابنتا سعد بن الربيع، وليس ذلك بلازم إذ لا مانع أن تنزل في الأمرين معا. ويحتمل أن يكون نزول أولها في قصة البنتين وآخرها وهي قوله: "وإن كان رجل يورث كلالة" في قصة جابر، ويكون مراد جابر فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أي ذكر الكلالة المتصل بهذه الآية والله أعلم. وإذا تقرر جميع ذلك ظهر أن ابن جريج لم يهم كما جزم به الدمياطي ومن تبعه، وأن من وهمه هو الواهم والله أعلم. وسيأتي بقية ما يتعلق بشرح هذا الحديث في الفرائض إن شاء الله تعالى

(8/244)


5- باب {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}
4578- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلَ لِلأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ وَالثُّلُثَ وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ وَللزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُع"

(8/244)


قوله: "باب قوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} سقط قوله: "باب" لغير أبي ذر، وثبت قوله: "قوله: "للمستملي فقط. قوله: "كان المال للولد" يشير إلى ما كانوا عليه قبل، وقد روى الطبري من وجه آخر عن ابن عباس أنها" لما نزلت قالوا يا رسول الله أنعطي الجارية الصغيرة نصف الميراث وهي لا تركب الفرس ولا تدافع العدو؟ قال وكانوا في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم" . قوله: "فنسخ الله من ذلك ما أحب" هذا يدل على أن الأمر الأول استمر إلى نزول الآية، وفيه رد على من أنكر النسخ، ولم ينقل ذلك عن أحد من المسلمين إلا عن أبي مسلم الأصبهاني صاحب التفسير فإنه أنكر النسخ مطلقا، ورد عليه بالإجماع على أن شريعة الإسلام ناسخة لجميع الشرائع، أجيب عنه بأنه يرى أن الشرائع الماضية مستقرة الحكم إلى ظهور هذه الشريعة، قال فسمي ذلك تخصيصا لا نسخا، ولهذا قال ابن السمعاني: إن كان أبو مسلم لا يعترف بوقوع الأشياء التي نسخت في هذه الشريعة فهو مكابر، وإن قال لا أسميه نسخا كان الخلاف لفظيا، والله أعلم. قوله: "وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث" قال الدمياطي: قوله والثلث زيادة هنا، وقد أخرج المصنف هذا الحديث بهذا الإسناد في كتاب الفرائض فلم يذكرها قلت: اختصرها هناك، ولكنها ثابتة في تفسير محمد بن يوسف الفريابي شيخه فيه، والمعنى أن لكل واحد منهما السدس في حال وللأم الثلث في حال، ووزان ذلك ما ذكره في بقية الحديث: "وللزوج النصف والربع" أي كل منهما في حال.

(8/245)


باب {لايحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن}
...
6- باب {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الْآيَةَ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {لاَ تَعْضُلُوهُنَّ} لاَ تَقْهَرُوهُنَّ {حُوبًا} إِثْمًا {تَعُولُوا} تَمِيلُوا {نِحْلَةً} النِّحْلَةُ الْمَهْرُ
4579- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الشَّيْبَانِيُّ وَذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ السُّوَائِيُّ وَلاَ أَظُنُّهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} قَالَ كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِك"
[الحديث 4579- طرفه في: 6948]
قوله: "باب قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية" سقط "باب" وما بعد "كرها" لغير أبي ذر، وقوله: "كرها" مصدر في موضع الحال، قرأها حمزة والكسائي بالضم والباقون بالفتح. قوله: "ويذكر عن ابن عباس: لا تعضلوهن لا تقهروهن" في رواية الكشميهني: "تنتهروهن" بنون بعدها مثناة من الانتهار، وهي رواية القابسي أيضا، وهذه الرواية وهم والصواب ما عند الجماعة. وهذا الأثر وصله الطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "لا تعضلوهن" لا تقهروهن {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} يعني الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي وأسند عن السدي والضحاك نحوه. وعن مجاهد أن المخاطب بذلك أولياء المرأة كالعضل المذكور

(8/245)


في سورة البقرة، ثم ضعف ذلك ورجح الأول. قوله: "حوبا إثما" وصله ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً} قال: إثما عظيما. ووصله الطبري من طريق مجاهد والسدي والحسن وقتادة مثله. والجمهور على ضم الحاء، وعن الحسن بفتحها. قوله: "تعولوا تميلوا" وصله سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: "ذلك أدنى أن لا تعولوا" قال أن لا تميلوا. ورويناه في "فوائد أبي بكر الآجري" بإسناد آخر صحيح إلى الشعبي عن ابن عباس، ووصله الطبري من طريق الحسن ومجاهد وعكرمة والنخعي والسدي وقتادة وغيرهم مثله، وأنشد في رواية عكرمة لأبي طالب من أبيات "بميزان صدق وزنه غير عائل" وجاء مثله مرفوعا صححه ابن حبان من حديث عائشة، وروى ابن المنذر عن الشافعي "أن لا تعولوا" أن لا يكثر عيالكم، وأنكره المبرد وابن داود والثعلبي وغيرهم، لكن قد جاء عن زيد بن أسلم نحو ما قال الشافعي أسنده الدار قطني، وإن كان الأول أشهر، واحتج من رده أيضا من حيث المعنى بأنه أحل من ملك اليمين ما شاء الرجل بلا عدد، ومن لازم ذلك كثرة العيال، وإنما ذكر النساء وما يحل منهن، فالجور والعدل يتعلق بهن. وأيضا فإنه لو كان المراد كثرة العيال لكان أعال يعيل من الرباعي. وأما تعولوا فمن الثلاثي، لكن نقل الثعلبي عن أبي عمرو الدوري قال وكان من أئمة اللغة قال: هي لغة حمير. ونقل عن طلحة ابن مصرف أنه قرأ: {أن لا تعيلوا}. قوله: "نحلة فالنحلة المهر" كذا لأبي ذر، ولغيره بغير فاء "قال الإسماعيلي: إن كان ذلك من تفسير البخاري ففيه نظر، فقد قيل فيه غير ذلك، وأقرب الوجوه أن النحلة ما يعطونه من غير عوض وقيل المراد نحلة ينتحلونها أي يتدينون بها ويعتقدون ذلك. قلت: والتفسير الذي ذكره البخاري قد وصله ابن أبي حاتم والطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قال: النحلة المهر. وروى الطبري عن قتادة قال: نحلة أي فريضة. ومن طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: النحلة في كلام العرب الواجب، قال: ليس ينبغي لأحد أن ينكح إلا بصداق. كذا قال. والنحلة في كلام العرب العطية لا كما قال ابن زيد، ثم قال الطبري: وقيل إن المخاطب بذلك أولياء النساء، كان الرجل إذا زوج امرأة أخذ صداقها دونها فنهوا عن ذلك. ثم أسنده إلى سيار عن أبي صالح بذلك، واختار الطبري القول الأول، واستدل له.
" تنبيه " : محل هذه التفاسير من قوله: "حوبا" إلى آخرها في أول السورة، وكأنه من بعض نساخ الكتاب كما قدمناه غير مرة، وليس هذا خاصا بهذا الموضع ففي التفسير في غالب السور أشباه هذا. قوله: "حدثنا أسباط بن محمد" هو بفتح الهمزة وسكون المهملة بعدها موحدة، كوفي ثقة، ليس له في البخاري سوى هذا الحديث. وأورده في كتاب الإكراه عن حسين بن منصور عنه أيضا. وقد قال الدوري عن ابن معين: كان يخطئ عن سفيان، فذكره لأجل ذلك ابن الجوزي في الضعفاء، لكن قال: كان ثبتا فيما يروى عن الشيباني ومطرف. وذكره العقيلي وقال: ربما وهم في الشيء. وقد أدركه البخاري بالسن لأنه مات في أول سنة مائتين. قوله: "قال الشيباني" سماه في كتاب الإكراه سليمان بن فيروز. قوله: "وذكره أبو الحسن السوائي، ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس" حاصله أن للشيباني فيه طريقين إحداهما موصولة وهي عكرمة عن ابن عباس، والأخرى مشكوك في وصلها وهي أبو الحسن السوائي عن ابن عباس. والشيباني هو أبو إسحاق، والسوائي بضم المهملة وتخفيف الواو ثم ألف ثم همزة واسمه عطاء، ولم أقف له على ذكر إلا في هذا الحديث. قوله: "كانوا إذا مات الرجل" في رواية السدي تقييد

(8/246)


ذلك بالجاهلية. وفي رواية الضحاك تخصيص ذلك بأهل المدينة، وكذلك أورده الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس، لكن لا يلزم من كونه في الجاهلية أن لا يكون استمر في أول الإسلام إلى أن نزلت الآية، فقد جزم الواحدي أن ذلك كان في الجاهلية وفي أول الإسلام، وساق القصة مطولة، وكأنه نقله من تفسير الشعبي، ونقل عن تفسير مقاتل نحوه إلا أنه خالف في اسم ابن أبي قيس فالأول قال قيس ومقاتل قال حصين، روى الطبري من طريق ابن جريح عن عكرمة أنها نزلت في قصة خاصة قال: نزلت في كبشة بنت معن بن عاصم من الأوس وكانت تحت أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها، فجنح عليها ابنه، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله لا أنا ورثت زوجي ولا تركت فأنكح، فنزلت هذه الآية. وبإسناد حسن عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: "لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان ذلك لهم في الجاهلية فأنزل الله هذه الآية" . قوله: "كان أولياؤه أحق بامرأته" في رواية أبي معاوية عن الشيباني عن عكرمة وحده عن ابن عباس في هذا الحديث تخصيص ذلك بمن مات زوجها قبل أن يدخل بها. قوله: "إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها وهم أحق بها من أهلها" في رواية أبي معاوية المذكورة "حبسها عصبته أن تنكح أحدا حتى تموت فيرثوها" قال الإسماعيلي: هذا مخالف لرواية أسباط. قلت ويمكن ردها إليها بأن يكون المراد أن تنكح إلا منهم أو بإذنهم، نعم هي مخالفة لها في التخصيص السابق، وقد روى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "كان الرجل إذا مات وترك امرأة ألقى عليها حميمه ثوبا فمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت ويرثها" وروى الطبري أيضا من طريق الحسن والسدي وغيرهما: "كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه الصداق" وزاد السدي "إن سبق الوارث فألقي عليها ثوبه كان أحق بها، وإن سبقت هي إلى أهلها فهي أحق بنفسها" .

(8/247)


7- باب {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}
وَقَالَ مَعْمَرٌ: أَوْلِيَاءُ مَوَالِي وَأَوْلِيَاءُ وَرَثَةٌ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ هُوَ مَوْلَى الْيَمِينِ وَهْوَ الْحَلِيفُ وَالْمَوْلَى أَيْضًا ابْنُ الْعَمِّ وَالْمَوْلَى الْمُنْعِمُ الْمُعْتِقُ وَالْمَوْلَى الْمُعْتَقُ وَالْمَوْلَى الْمَلِيكُ وَالْمَوْلَى مَوْلًى فِي الدِّينِ
4580- حَدَّثَنِي الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ إِدْرِيسَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قَالَ وَرَثَةً {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسِخَتْ ثُمَّ قَالَ {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} مِنْ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصِي لَهُ سَمِعَ أَبُو أُسَامَةَ إِدْرِيسَ وَسَمِعَ إِدْرِيسُ طَلْحَة"
قوله: "باب {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} ساق إلى قوله: {شَهِيدًا} وسقط ذلك لغير أبي

(8/247)


ذر. قوله: "وقال معمر أولياء {مَوَالِيَ} أولياء ورثة" عاقدت أيمانكم "هو مولى اليمين وهو الحليف، والمولى أيضا ابن العم، والمولى المنعم المعق" أي بكسر المثناة "والمولى المعتق" أي بفتحها "والمولى المليك، والمولى مولى في الدين" انتهى. ومعمر هذا بسكون المهملة وكنت أظنه معمر بن راشد إلى أن رأيت الكلام المذكور في المجاز لأبي عبيدة واسمه معمر بن المثنى، ولم أره عن معمر بن راشد، وإنما أخرج عبد الرزاق عنه في قوله: "ولكل جعلنا موالي" قال: الموالي الأولياء، الأب والأخ والابن وغيرهم من العصبة. وكذا أخرجه إسماعيل القاضي في "الأحكام" من طريق محمد بن ثور عن معمر. وقال أبو عبيدة { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} أولياء ورثة "والذين عاقدت أيمانكم" فالمولى ابن العم. وساق ما ذكره البخاري، وأنشد في المولى ابن العم "مهلا بني عمنا مهلا موالينا" ومما لم يذكره وذكره غيره من أهل اللغة: المولى المحب، والمولى الجار، والمولى الناصر، والمولى الصهر، والمولى التابع، والمولى القرار، والمولى الولي، والمولى الموازي. وذكروا أيضا العم والعبد وابن الأخ والشريك والنديم، ويلتحق بهم معلم القرآن جاء فيه حديث مرفوع "من علم عبدا آية من كتاب الله فهو مولاه" الحديث أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة، ونحوه قول شعبة: من كتبت عنه حديثا فأنا له عبد. وقال أبو إسحاق الزجاج: كل من يليك أو والاك فهو مولى. قوله: "حدثنا الصلت بن محمد" تقدم هذا الحديث سندا ومتنا في الكفالة، وأحيل بشرحه على هذا الموضع. قوله: "عن إدريس" هو ابن يزيد الأودي بفتح الألف وسكون الواو والد عبد الله بن إدريس الفقيه الكوفي، وإدريس ثقة عندهم، وما له في البخاري سوى هذا الحديث. ووقع في رواية الطبري عن أبي كريب عن أبي أسامة "حدثنا إدريس بن يزيد". قوله: "عن طلحة بن مصرف" وقع في الفرائض "عن إسحاق بن إبراهيم عن أبي أسامة عن إدريس حدثنا طلحة" . قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: ورثة" هذا متفق عليه بين أهل التفسير من السلف، أسنده الطبري عن مجاهد وقادة والسدي وغيرهم، ثم قال: وتأويل الكلام ولكلكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والده وأقربوه من ميراثهم له. وذكر غيره الآية تقديرا غير ذلك فقيل: التقدير جعلنا لكل ميت ورثة ترث مما ترك الوالدان والأقربون. وقيل: التقدير ولكل مال مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا ورثة يجوزونه. فعلى هذا "كل" متعلقة بجعل و "مما ترك" صفة لكل و "الوالدان" فاعل ترك، ويلزم عليه الفصل بين الموصوف وصفته، وقد سمع كثيرا، وفي القرآن {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} فإن فاطر صفة الله اتفاقا، وقيل: التقدير ولكل قوم جعلناهم مولى أي ورثة نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم، وهذا يقتضي أن "لكل" خبر مقدم و "نصيب" مبتدأ مؤخر و "جعلناهم" صفة لقوم و "مما ترك" صفة للمبتدأ الذي حذف و "نصيب" صفته، وكذا حذف ما أضيفت إليه كل وبقيت صفته، وكذا حذف العائد على الموصوف، هذا حاصل ما ذكره المعربون، وذكروا غير ذلك مما ظاهره التكلف. وأوضح من ذلك أن الذي يضاف إليه كل هو ما تقدم في الآية التي قبلها وهو قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} ثم قال: "ولكل" أي من الرجال والنساء "جعلنا" أي قدرنا "نصيبا" أي ميراثا "مما ترك الوالدان والأقربون، والذين عاقدت أيمانكم" أي بالحلف أو الموالاة والمؤاخاة {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} خطاب لمن يتولى ذلك أي من ولي على ميراث أحد فليعط لكل من يرثه نصيبه، وعلى هذا المعنى المتضح ينبغي أن يقع الإعراب ويترك ما عداه من التعسف. قوله: "والذين عاقدت أيمانكم: كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري

(8/248)


الأنصاري دون من ذوي رحمه لأخوة" هكذا حملها ابن عباس على من آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، وحملها غيره على أعم من ذلك فأسند الطبري عنه قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهم نسب فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك. ومن طريق سعيد بن جبير قال: كان الرجل يعاقد الرجل فيرثه، وعاقد أبو بكر مولى فورثه. قوله: "فلما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت" هكذا وقع في هذه الرواية أن ناسخ ميراث الحليف هذه الآية. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "كان الرجل يعاقد الرجل، فإذا مات ورثه الأخر، فأنزل الله عز وجل: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} يقول إلا أن توصوا لأوليائكم الذين عاقدتم. ومن طريق قتادة: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول دمي دمك وترثني وأرثك، فلما جاء الإسلام أمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس، ثم نسخ بالميراث فقال: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، ومن طرق شتى عن جماعة من العلماء كذلك، وهذا هو المعتمد ويحتمل أن يكون النسخ وقع مرتين: الأولى حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة فنزلت: {وَلُِكلٍّ} وهي آية الباب فصاروا جميعا يرثون، وعلى هذا يتنزل حديث ابن عباس، ثم نسخ ذلك آية الأحزاب وخص الميراث بالعصبة وبقي للمعاقد النصر والأرفاد ونحوهما، وعلى هذا يتنزل بقية الآثار. وقد تعرض له ابن عباس في حديثه أيضا لكن لم يذكر الناسخ الثاني، ولا بد منه، والله أعلم. قوله:"ثم قال: "والذين عاقدت أيمانكم" من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصى له "كذا وقع فيه، وسقط منه شيء بينه الطبري في روايته عن أبي كريب عن أبي أسامة بهذا الإسناد ولفظه: ثم قال: { والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} من النصر إلخ، فقوله من النصر يتعلق بأتوهم لا بعاقدت ولا بأيمانكم، وهو وجه الكلام. والرفادة بكسر الراء بعدها فاء خفيفة الإعانة بالعطية. قوله: "سمع أبو أسامة إدريس وسمع إدريس طلحة" وقع هذا في رواية المستملي وحده، وقد قدمت التنبيه على من وقع عنده التصريح بالتحديث لأبي أسامة من إدريس ولإدريس من طلحة في هذا الحديث بعينه، وإلى ذلك أشار المصنف، والله أعلم.

(8/249)


8- باب {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يَعْنِي زِنَةَ ذَرَّةٍ
4581- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أُنَاسًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ ضَوْءٌ لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ قَالُوا لاَ قَالَ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ضَوْءٌ لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ قَالُوا لاَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ فَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ إِلاَّ يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ بَرٌّ أَوْ فَاجِرٌ وَغُبَّرَاتُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ مَنْ كُنْتُمْ

(8/249)


تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ فَمَاذَا تَبْغُونَ فَقَالُوا عَطِشْنَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا فَيُشَارُ أَلاَ تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ مَنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ فَيُقَالُ لَهُمْ مَاذَا تَبْغُونَ فَكَذَلِكَ مِثْلَ الأَوَّلِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنْ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا فَيُقَالُ مَاذَا تَنْتَظِرُونَ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ قَالُوا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَفْقَرِ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الَّذِي كُنَّا نَعْبُدُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ لاَ نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا"
قوله: "باب قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يَعْنِي زِنَةَ ذَرَّةٍيعني زنة ذرة" هو تفسير أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي زنة ذرة، ويقال هذا مثقال هذا أي وزنه وهو مفعال من الثقل والذرة النملة الصغيرة ويقال واحدة الهباء، والذرة يقال زنتها ربع ورقة نخالة وورقة النخالة وزن ربع خردلة وزنة الخردلة ربع سمسمة. ويقال الذرة لا وزن لها وإن شخصا ترك رغيفا حتى علاه الذر فوزنه فلم يزد شيئا حكاه الثعلبي. حديث أبي سعيد في الشفاعة وسيأتي شرحه مستوفي في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى مع حديث أبي هريرة المذكور هناك وهو بطوله في معناه، وقد وقع ذكرهما بتمامهما متواليين في كتاب التوحيد. وشيخه محمد بن عبد العزيز هو الرملي يعرف بابن الواسطي وثقه العجلي ولينه أبو زرعة وأبو حاتم، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الاعتصام. إن شخصا ترك رغيفا حتى علاه الذر فوزنه فلم يزد شيئا حكاه الثعلبي. ثم ذكر المصنف حديث أبي سعيد في الشفاعة وسيأتي شرحه مستوفي في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى مع حديث أبي هريرة المذكور هناك وهو بطوله في معناه، وقد وقع ذكرهما بتمامهما متواليين في كتاب التوحيد. وشيخه محمد بن عبد العزيز هو الرملي يعرف بابن الواسطي وثقه العجلي ولينه أبو زرعة وأبو حاتم، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الاعتصام.

(8/250)


9- باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا}
الْمُخْتَالُ وَالْخَتَّالُ وَاحِدٌ نَطْمِسَ وُجُوهًا نُسَوِّيَهَا حَتَّى تَعُودَ كَأَقْفَائِهِمْ طَمَسَ الْكِتَابَ مَحَاهُ جَهَنَّمَ سَعِيرًا وُقُودًا
4582- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ يَحْيَى بَعْضُ الْحَدِيثِ "عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ فَكَيْفَ {إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} قَالَ: أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَان"
[الحديث 4582- أطرافه في: 5049، 5050، 5055، 5056]
قوله: "باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} وقع في الباب تفاسير لا تتعلق بالآية، وقد قدمت الاعتذار عن ذلك. قوله: "المختال والختال واحد" كذا للأكثر بمثناة فوقانية ثقيلة. وفي رواية الأصيلي: "المختال والخال واحد" وصوبه ابن مالك، وكذلك هو في كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى :{مُخْتَالاً فَخُوراً} : المختال ذو الخيلاء والخال واحد. قال: ويجئ مصدرا قال العجاج" والخال ثوب من ثياب الجبال" . قلت: والخال يطلق لمعان كثيرة نظمها بعضهم في قصيدة فبلغ نحوا من العشرين، ويقال إنه وجدت قصيدة، تزيد على ذلك عشرين أخرى، وكلام عياض يقتضي أن الذي في رواية الأكثر بالمثناة التحتانية لا. الفوقانية

(8/250)


ولهذا قال كله صحيح، لكنه أورده في الخاء والتاء الفوقانية، والختال بمثناة فوقانية لا معنى له هنا كما قال ابن مالك وإنما هو فعال من الختل وهو العذر، ولأن عينه ياء تحتانية لا فوقانية، والاسم الخلاء، والمعنى أنه يختل في صورة من هو أعظم منه على سبيل التكبير والتعاظم. قوله: "نطمس وجوها نسويها حتى تعود كأقفائهم، طمس الكتاب محاه" هو مختصر من كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} أي نسويها حتى تعود كأقفائهم، يقال للريح طمست الآثار أي محتها، وطمس الكتاب أي محاه. وأسند الطبري عن قتادة: المراد أن تعود الأوجه في الأقفية. وقيل هو تمثيل وليس المراد حقيقته حسا. قوله: "بجهنم سعيرا وقودا" هو قول أبي عبيدة أيضا، قال في قوله تعالى: {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} أي وقودا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك مثله.
" تنبيه " : هذه التفاسير ليست لهذه الآية، وكأنه من النساخ كما نبهت عليه غير مرة. قوله: "حدثنا صدقة" هو ابن الفضل، ويحيى هو القطان، وسفيان هو الثوري، وسليمان هو الأعمش، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو، وعبد الله بن مسعود. والإسناد كله سوى شيخ البخاري وشيخه كوفيون، فيه ثلاثة من التابعين في نسق أولهم الأعمش. قوله: "قال يحيى" هو القطان، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "بعض الحديث عن عمرو بن مرة" أي من رواية الأعمش عن عمرو بن مرة عن إبراهيم، وقد ورد ذلك واضحا في فضائل القرآن حيث أخرجه المصنف عن مسدد عن يحيى القطان بالإسناد المذكور وقال بعده "قال الأعمش وبعض الحديث حدثني عمرو بن مرة عن إبراهيم" يعني بإسناده، ويأتي شرح الحديث هناك إن شاء الله تعالى. وقال الكرماني: إسناد عمرو مقطوع، وبعض الحديث مجهول. قلت: عبر عن المقتطع بالمقطوع لقلة اكتراثه بمراعاة الاصطلاح، وأما قوله مجهول فيزيد ما حدثه به عمرو بن مرة فكأنه ظن أنه أراد أن البعض عن هذا والبعض عن هذا، وليس كذلك وإنما هو عنده كله في الرواية الآتية، وبعضه في أثنائه أيضا

(8/251)


10- باب {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ}
{صَعِيدًا} وَجْهَ الأَرْضِ وَقَالَ جَابِرٌ كَانَتْ الطَّوَاغِيتُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا فِي جُهَيْنَةَ وَاحِدٌ وَفِي أَسْلَمَ وَاحِدٌ وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ كُهَّانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ وَقَالَ عُمَرُ الْجِبْتُ السِّحْرُ وَالطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ الْجِبْتُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ شَيْطَانٌ وَالطَّاغُوتُ الْكَاهِنُ
4583- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "هَلَكَتْ قِلاَدَةٌ لأَسْمَاءَ فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهَا رِجَالاً فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ وَلَيْسُوا عَلَى وُضُوءٍ وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً فَصَلَّوْا وَهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَعْنِي آيَةَ التَّيَمُّم"
قوله: "باب قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} هذا القدر مشترك في آيتي النساء والمائدة، وإيراد المصنف له في تفسير سورة النساء يشعر بأن آية النساء نزلت في قصة عائشة، وقد سبق ما فيه في كتاب التيمم. قوله: " {صَعِيداً} وجه الأرض" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} : تيمموا أي

(8/251)


تعمدوا. قال والصعيد وجه الأرض. قال الزجاج: لا أعلم خلافا بين أهل اللغة أن الصعيد وجه الأرض، سواء كان عليها تراب أم لا، ومنه قوله تعالى: {صَعِيداً} جرزا "و" صعيدا زلقا" وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد من الأرض. وقال الطبري بعد أن روى من طريق قتادة قال: الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات. ومن طريق عمرو بن قيس قال: الصعيد التراب. ومن طريق ابن زيد قال: الصعيد الأرض المستوية. الصواب أن الصعيد وجه الأرض المستوية الخالية من الغرس والنبات والبناء، وأما الطيب فهو الذي تمسك به من اشترط في التيمم التراب، لأن الطيب هو التراب المنبت، قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} وروى عبد الرزاق من طريق ابن عباس: الصعيد الطيب الحرث. قوله: "وقال جابر: كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها في جهينة واحد وفي أسلم واحد وفي كل حي واحد، كهان ينزل عليهم الشيطان" وصله ابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه قال: سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت فذكر مثله وزاد: "وفي هلال واحد" وقد تقدم نسب جهينة وأسلم في غزوة الفتح، وأما هلال فقبيلة ينتسبون إلى هلال بن عامر بن صعصعة، منهم ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين وجماعة من الصحابة وغيرهم. قوله: "الجبت السحر والطاغوت الشيطان" وصله عبد بن حميد في تفسيره ومسدد في مسنده وعبد الرحمن بن رستة في كتاب الإيمان كلهم من طريق أبي إسحاق عن حسان بن فائد عن عمر مثله وإسناده قوي، وقد وقع التصريح بسماع أبي إسحاق له من حسان وسماع حسان من عمر في رواية رستة وحسان بن فائد بالفاء عبسا بالموحدة، قال أبو حاتم شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات. وروى الطبري عن مجاهد مثل قول عمر وزاد: والطاغوت الشيطان له صورة إنسان يتحاكمون إليه، ومن طريق سعيد بن جبير وأبي العالية قال: الجبت الساحر، والطاغوت الكاهن. وهذا يمكن رده بالتأويل إلى الذي قبله. قوله: "وقال عكرمة: الجبت بلسان الحبشة شيطان، والطاغوت الكاهن" وصله عبد بن حميد بإسناد صحيح عنه، وروى الطبري من طريق قتادة مثله بغير ذكر الحبشة قال: كنا نتحدث أن الجبت الشيطان، والطاغوت الكاهن. ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: الجبت الأصنام، والطواغيت الذين كانوا يعبرون عن الأصنام بالكذب. قال: وزعم. رجال أن الجبت الكاهن، والطاغوت رجل من اليهود يدعى كعب بن الأشرف. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الجبت حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف. واختار الطبري أن المراد بالجبت والطاغوت جنس من كان يعبد من دون الله سواء كان صنما أو شيطانا جنيا أو آدميا، فيدخل فيه الساحر والكاهن، والله أعلم. وأما قول عكرمة إن الجبت بلسان الحبشة الشيطان فقد وافقه سعيد بن جبير على ذلك، لكن عبر عنه بالساحر، أخرجه الطبري بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال: الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن. وهذا مصير منهما إلى وقوع المعرب في القرآن، وهي مسألة اختلف فيها، فبالغ الشافعي وأبو عبيدة اللغوي وغيرهما في إنكار ذلك، فحملوا ما ورد من ذلك على توارد اللغتين، وأجاز ذلك جماعة واختاره ابن الحاجب واحتج له بوقوع أسماء الأعلام فيه كإبراهيم فلا مانع من وقوع أسماء الأجناس، وقد وقع في صحيح البخاري جملة من هذا، وتتبع القاضي تاج الدين السبكي ما وقع في القرآن من ذلك ونظمه في أبيات ذكرها في شرحه على المختصر، وعبر بقوله يجمعها هذه الأبيات فذكرها، وقد تتبعت بعده زيادة كثيرة على ذلك تقرب من عدة ما أورد، ونظمتها أيضا، وليس جميع ما أورده هو متفقا على أنه من ذلك، لكن اكتفى بإيراد ما نقل في الجملة فتبعته في ذلك، وقد رأيت إيراد الجميع للفائدة، فأول بيت منها من نظمي والخمسة التي تليه له وباقيها لي أيضا فقلت:

(8/252)


من المعرب عد التاج "كز: وقد ... ألحقت "كد" وضمتها الأساطير
السلسبيل وطه كورت بيع ... روم وطوبي وسجيل وكافور
والزنجيل ومشكاة سرادق مع ... استبرق صلوات سندس طور
كذا قراطيس ربانيهم وغسا ... ق ثم دينار القسطاس مشهور
كذاك كسورة واليم ناشئة ... ويؤت كفلين مذكور ومستور
له مقاليد فردوس يعد كذا فيما ... حكى ابن دريد منه تنور
وزدت حرم ومهل والسجل كذا ... السرى والأب ثم الجبت مذكور
وقطنا بناه ثم متكأ ... دارست يصهر منه فهو مصهور
وهيت والسكر الأواه مع حصب ... وأوبي معه والطاغوت منظور
صرهن أصرى وغيض الماء مع وزر ... ثم الرقيم مناص والسنا النور
والمراد بقولي "كز: أن عدة ما ذكره التاج سبعة وعشرون وبقولي "كد" أن عدة ما ذكرته أربعة وعشرون وأنا معترف أنني لم أستوعب ما يستدرك عليه، فقد ظفرت بعد نظمي هذا بأشياء تقدم منها في هذا الشرح الرحمن وراعنا، وقد عزمت أني إذا أتيت على آخر شرح هذا التفسير إن شاء الله تعالى ألحق ما وقفت عليه من زيادة في ذلك منظوما إن شاء الله تعالى. ثم أورد المصنف طرفا من حديث عائشة في سقوط عقدها ونزول آية التيمم، وقد مضى شرحه مستوفي في كتاب التيمم.

(8/253)


11- باب {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ذَوِي الأَمْرِ
4584- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} قَالَ "نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّة"
قوله: "باب {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ذوي الأمر" كذا لأبي ذر ولغيره: "أولي الأمر منكم ذوي الأمر" وهو تفسير أبي عبيدة قال ذلك في هذه الآية وزاد: والدليل على ذلك أن واحدها ذو أي واحد أولى لأنها لا واحد لها من لفظها. قوله: "حدثنا صدقة بن الفضل" كذا للأكثر. وفي رواية ابن السكن وحده عن الفربري عن البخاري "حدثنا سنيد" وهو ابن داود المصيصي واسمه الحسين وسنيد لقب، وهو من حفاظ الحديث وله تفسير مشهور، لكن ضعفه أبو حاتم والنسائي، وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع إن كان ابن السكن حفظه، ويحتمل أن يكون البخاري أخرج الحديث عنهما جميعا، واقتصر الأكثر على صدقة لإتقانه، واقتصر ابن السكن على سنيد بقرينة التفسير، وقد ذكر أحمد أن سنيدا ألزم حجاجا - يعني حجاج بن محمد شيخه في

(8/253)


هذا الحديث إلا أنه كان يحمله على تدليس التسوية، وعابه بذلك وكأن هذا هو السبب في تضعيف من ضعفه. والله أعلم. قوله: "عن يعلى بن مسلم" في رواية الإسماعيلي من طريق حجاج عن ابن جريج "أخبرني يعلى بن مسلم" . قوله: "نزلت في عبد الله بن حذافة" كذا ذكره مختصرا، والمعنى نزلت في قصة عبد الله بن حذافة أي المقصود منها في قصته قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} الآية، وقد غفل الداودي عن هذا المراد فقال: هذا وهم على بن عباس، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب فأوقدوا نارا وقال اقتحموها فامتنع بعض، وهم بعض أن يفعل. قال: فإن كانت الآية نزلت قبل فكيف يخص عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره، وإن كانت نزلت بعد فإنما قيل لهم إنما الطاعة في المعروف، وما قيل لهم لم لم تطيعوا؟ انتهى. وبالحمل الذي قدمته يظهر المراد، وينتفي الإشكال الذي أبداه، لأنهم تنازعوا في امتثال ما أمرهم به، وسببه أن الذين هموا أن يطيعوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة، والذين امتنعوا عارضه عندهم الفرار من النار، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع وهو الرد إلى الله وإلى رسوله، أي إن تنازعتم في جواز الشيء وعدم جوازه فارجعوا إلى الكتاب والسنة، والله أعلم. وقد روى الطبري أن هذه الآية في قصة جرت لعمار بن ياسر مع خالد بن الوليد وكان خالد أميرا فأجار عمار رجلا بغير أمره فتخاصما فنزلت، فالله أعلم. وقد تقدم شرح حال هذه السرية والاختلاف في اسم أميرها في المغازي بعد غزوة حنين بقليل. واختلف في المراد بأولى الأمر في الآية، فعن أبي هريرة قال: هم الأمراء أخرجه الطبري بإسناد صحيح. وأخرج عن ميمون بن مهران وغيره نحوه، وعن جابر بن عبد الله قال: هم أهل العلم والخير، وعن مجاهد وعطاء والحسن وأبي العالية: هم العلماء، ومن وجه آخر أصح منه عن مجاهد قال: هم الصحابة، وهذا أخص. وعن عكرمة قال: أبو بكر وعمر، وهذا أخص من الذي قبله، ورجح الشافعي الأول واحتج له بأن قريشا كانوا لا يعرفون الإمارة ولا ينقادون إلى أمير، فأمروا بالطاعة لمن ولي الأمر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من أطاع أميري فقد أطاعني" متفق عليه. واختار الطبري حملها على العموم وإن نزلت في سبب خاص، والله أعلم.

(8/254)


12- باب {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
4585- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: "خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ فِي شَرِيجٍ مِنْ الْحَرَّةِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ" وَاسْتَوْعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الأَنْصَارِيُّ كَانَ أَشَارَ عَلَيْهِمَا بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ قَالَ الزُّبَيْرُ فَمَا أَحْسِبُ هَذِهِ الآيَاتِ إِلاَّ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
قوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} سقط "باب" لغير أبي ذر وذكر فيه قصة الزبير مع الأنصاري الذي خاصمه في شراج الحرة، وقد تقدم شرحه مستوفي في كتاب الشرب، بينت هناك الاختلاف على

(8/254)


عروة في وصله وإرساله بحمد الله تعالى. وقوله هنا "أن كان ابن عمتك" بفتح أن للجميع أي من أجل، ووقع عند أبي ذر "وأن" بزيادة واو، وفي روايته عن الكشميهني: "آن" بزيادة همزة ممدودة وهي الاستفهام. وقوله هنا "أن كان ابن عمتك" بفتح أن للجميع أي من أجل، ووقع عند أبي ذر "وأن" بزيادة واو، وفي روايته عن الكشميهني: "آن" بزيادة همزة ممدودة وهي الاستفهام.

(8/255)


13- باب {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ}
4586- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلاَّ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ" وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّر"
قوله: "باب فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين" ذكر فيه حديث عائشة، وقد تقدم شرحه في الوفاة النبوية ولله الحمد. وقوله: "في شكواه الذي قبض فيه، في رواية الكشميهني: "التي قبض فيها" .

(8/255)


باب قوله {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ...}
...
14- باب {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - إلى - الظَّالِمِ أَهْلُهَا}
4587-حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنْ الْمُسْتَضْعَفِين"
4588- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تَلاَ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَصِرَتْ ضَاقَتْ تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ وَقَالَ غَيْرُهُ الْمُرَاغَمُ الْمُهَاجَرُ رَاغَمْتُ هَاجَرْتُ قَوْمِي مَوْقُوتًا مُوَقَّتًا وَقْتَهُ عَلَيْهِم"
قوله: "باب {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - إلى - الظَّالِمِ أَهْلُهَا} ولأبي ذر {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} الآية، والأظهر أن المستضعفين مجرور بالعطف على اسم الله أي وفي سبيل المستضعفين، أو على سبيل الله أي وفي خلاص المستضعفين، وجوز الزمخشري أن يكون منصوبا على الاختصاص. قوله:"عن عبيد الله" هو ابن أبي يزيد، وفي مسند أحمد عن سفيان. حدثني عبيد الله بن أبي يزيد". قوله: "كنت أنا وأمي من المستضعفين" كذا للأكثر، زاد أبو ذر {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} وأراد حكاية الآية، وإلا فهو الولدان وأمه من المستضعفين، ولم يذكر في هذا الحديث من الرجال أحدا، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق إسحاق بن موسى عن ابن عيينة بلفظ: "كنت أنا وأمي من المستضعفين: أنا من الولدان، وأمي من النساء" . قوله في الطريق الأخرى "أن ابن عباس تلا" في رواية المستملي: "عن ابن عباس أنه تلا" . قوله: "كنت أنا وأمي ممن عذر الله" أي في الآية المذكورة. وفي رواية لأبي نعيم في "المستخرج" من طريق محمد بن عبيد عن حماد بن زيد "كنت أنا وأمي من المستضعفين" قلت: واسم أمه لبابة بنت الحارث الهلالية أم الفضل أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم،

(8/255)


15- باب {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَدَّدَهُمْ فِئَةٌ جَمَاعَةٌ
4589- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالاَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ} فِئَتَيْنِ رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُحُدٍ وَكَانَ النَّاسُ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ فَرِيقٌ يَقُولُ اقْتُلْهُمْ وَفَرِيقٌ يَقُولُ لاَ فَنَزَلَتْ {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} وَقَالَ: "إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ" {أَذَاعُوا بِهِ} أَيْ أَفْشَوْهُ {يَسْتَنْبِطُونَهُ} يَسْتَخْرِجُونَهُ {حَسِيبًا} كَافِيًا {إِلاَّ إِنَاثًا} يَعْنِي الْمَوَاتَ حَجَرًا أَوْ مَدَرًا وَمَا أَشْبَهَهُ {مَرِيدًا} مُتَمَرِّدًا {فَلَيُبَتِّكُنَّ} بَتَّكَهُ قَطَّعَهُ قِيلاً ـ وَقَوْلاً وَاحِدٌ {طَبَعَ} خَتَم"
قوله: "باب {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} قال ابن عباس: بددهم" وصله الطبري من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} قال: بددهم. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أوقعهم. ومن طريق قتادة قال: أهلكهم، وهو تفسير باللازم، لأن الركس الرجوع، فكأنه

(8/256)


16- باب {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}
4590- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: "آيَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَرَحَلْتُ فِيهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيْء"

(8/257)


17- باب {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} السِّلْمُ وَالسَّلَمُ وَالسَّلاَمُ وَاحِدٌ
4591- حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تِلْكَ الْغُنَيْمَةُ قَالَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ السَّلاَم"
قوله: "باب {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} السلم والسلام والسلم واحد" يعني أن الأول بفتحتين والثالث بكسر ثم سكون، فالأول قراءة نافع وابن عامر وحمزة، والثاني قراءة الباقين، والثالث قراءة رويت عن عاصم بن أبي النجود. وروي عن عاصم الجحدري بفتح ثم سكون، فأما الثاني فمن التحية، وأما ما عداه فمن الانقياد. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. وفي رواية ابن أبي عمر عن سفيان "حدثنا عمرو بن دينار" كذا أخرجها أبو نعيم في مستخرجه من طريقه. قوله: "كان رجل في غنيمة" بالتصغير. وفي رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس عند أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه "مر رجل من بني سليم بنفر من الصحابة وهو يسوق غنما له فسلم عليهم" . قوله: "فقتلوه" زاد في رواية سماك "وقالوا ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا" . قوله: "وأخذوا غنيمته" في رواية سماك "وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. وروى البزار من طريق حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قصة أخرى قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف لك بلا إله إلا الله غدا . وأنزل الله هذه الآية "وهذه القصة يمكن الجمع بينها وبين التي قبلها، ويستفاد منها تسمية القاتل، وأما المقتول فروى الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وأخرجه عبد بن حميد من طريق قتادة نحوه واللفظ للكلبي، أن اسم المقتول مرداس بن نهيك من أهل فدك، وأن اسم القاتل أسامة بن زيد، وأن اسم أمير السرية غالب بن فضالة الليثي، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده وكان ألجأ غنمه بجبل، فلما لحقوه قال لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد، فلما رجعوا نزلت الآية" وكذا

(8/258)


أخرج الطبري من طريق السدي نحوه، وفي آخر رواية قتادة "لأن تحية المسلمين السلام بها يتعارفون" وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال: "أنزلت هذه الآية {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ} في مرداس" وهذا شاهد حسن. وورد في سبب نزولها عن غير ابن عباس شيء آخر، فروى ابن إسحاق في "المغازي" وأخرجه أحمد من طريقه عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة، فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم علينا، فحمل عليه محلم فقتله، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل القرآن" فذكر هذه الآية. وأخرجها ابن إسحاق من طريق ابن عمر أتم سياقا من هذا وزاد أنه كان بين عامر ومحلم عداوة في الجاهلية، وهذه عندي قصة أخرى، ولا مانع أن تنزل الآية في الأمرين معا. قوله في آخر الحديث "قال قرأ ابن عباس السلام" هو مقول عطاء، وهو موصول بالإسناد المذكور، وقد قدمت أنها قراءة الأكثر، وفي الآية دليل على أن من أظهر شيئا من علامات الإسلام لم يحل دمه حتى يختبر أمره، لأن السلام تحية المسلمين، وكانت تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك. فكانت هذه علامة. وأما على قراءة السلم على اختلاف ضبطه فالمراد به الانقياد وهو علامة الإسلام لأن معنى الإسلام في اللغة الانقياد، ولا يلزم من الذي ذكرته الحكم بإسلام من اقتصر على ذلك وإجراء أحكام المسلمين عليه، بل لا بد من التلفظ بالشهادتين على تفاصيل في ذلك بين أهل الكتاب وغيرهم، والله أعلم.

(8/259)


18- باب {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ - وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
4592- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُ رَأَى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فِي الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْلَى عَلَيْهِ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ - وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهْوَ يُمِلُّهَا عَلَيَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ وَكَانَ أَعْمَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ} "
4593- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا فَكَتَبَهَا فَجَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَشَكَا ضَرَارَتَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ} "
4594- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ادْعُوا فُلاَنًا فَجَاءَهُ وَمَعَهُ الدَّوَاةُ وَاللَّوْحُ أَوْ الْكَتِفُ فَقَالَ اكْتُبْ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وَخَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ:

(8/259)


يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا ضَرِيرٌ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} "
4595- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ ح و حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ أَنَّ مِقْسَمًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَى بَدْر"
قوله: "باب {يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} الآية" كذا لأبي ذر، ولغيره: {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ} "واختلفت القراءة في {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بالرفع على البدل من القاعدون، وقرأ الأعمش بالجر على الصفة للمؤمنين، وقرأ الباقون بالنصب على الاستثناء. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان. قوله: "حدثني سهل بن سعد" كذا قال صالح، وتابعه عبد الرحمن بن إسحاق عن ابن شهاب عند الطبري، وخالفهما معمر فقال: "عن ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت" أخرجه أحمد. قوله: "أنه رأى مروان بن الحكم" أي ابن أبي العاص أمير المدينة الذي صار بعد ذلك خليفة. قوله: "فأقبلت حتى جلست إلى جنبه. فأخبرنا" قال الترمذي في هذا الحديث رواية رجل من الصحابة وهو سهل بن سعد عن رجل من التابعين وهو مروان بن الحكم، ولم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من التابعين. قلت: لا يلزم من عدم السماع عدم الصحة، والأولى ما قال فيه البخاري: لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره ابن عبد البر في الصحابة لأنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل عام أحد وقيل عام الخندق وثبت عن مروان أنه قال لما طلب الخلافة فذكروا له ابن عمر فقال: ليس ابن عمر بأفقه مني. ولكنه أسن مني وكانت له صحبة. فهذا اعتراف منه بعدم صحبته وإنما لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان سماعه منه ممكنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى أباه إلى الطائف فلم يرده إلا عثمان لما استخلف، وقد تقدمت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الشروط مقرونة بالمسور بن مخرمة، ونبهت هناك أيضا على أنها مرسلة، والله الموفق. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أملي عليه: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في رواية قبيصة المذكورة عن زيد بن ثابت" كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي رواية خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه" إني لقاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم إذ أوحى إليه وغشيته السكينة فوضع فخذه على فخذي قال زيد: فلا والله ما وجدت شيئا قط أثقل منها "وفي حديث البراء بن عازب الذي في الباب بعد هذا" لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لي فلانا، فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف" وفي الرواية الأخرى عنه في الباب أيضا: "دعا زيدا فكتبها" فيجمع بينهما بأن المراد بقوله: "لما نزلت" كادت أن تنزل لتصريح رواية خارجة بأن نزولها كان بحضرة زيد. قوله: "فجاءه ابن أم مكتوم "في رواية قبيصة المذكورة" فجاء عبد الله بن أم مكتوم "وعند الترمذي من طريق الثوري وسليمان التيمي كلاهما عن أبي إسحاق عن البراء" جاء عمرو بن أم مكتوم "وقد نبه الترمذي على أنه يقال له عبد الله وعمرو، وأن اسم أبيه زائدة وأن أم مكتوم أمه. قلت: واسمها عاتكة، وقد تقدم شيء من خبره في كتاب الأذان. قوله: "وهو يملها" بضم أوله وكسر الميم وتشديد اللام هو مثل يمليها، يملى ويملل بمعنى، ولعل الياء منقلبة من إحدى اللامين. قوله: "والله لو أستطيع الجهاد معك لجاهدت" أي لو استطعت، وعبر بالمضارع إشارة إلى الاستمرار واستحضارا

(8/260)


لصورة الحال، قال وكان أعمى، هذا يفسر ما في حديث البراء "فشكا ضرارته" وفي الرواية الأخرى عنه "فقال أنا ضرير" وفي رواية خارجة "فقام حين سمعها ابن أم مكتوم وكان أعمى فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى وأشباه ذلك" وفي رواية قبيصة "فقال إني أحب الجهاد في سبيل الله، ولكن بي من الزمانة ما ترى، ذهب بصري" . قوله: "أن ترض فخذي" أي تدقها. قوله: "ثم سرى" بضم المهملة وتشديد الراء أي كشف. قوله: "فأنزل الله: {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} في رواية قبيصة" ثم قال اكتب: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وزاد في رواية خارجة بن زيد "قال زيد بن ثابت: فوالله لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف. قوله في الحديث الثاني" عن أبي إسحاق" هو السبيعي. قوله: "عن البراء" في رواية محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي إسحاق "أنه سمع البراء" أخرجه أحمد عنه، ووقع في رواية الطبراني من طريق أبي سنان الشيباني عن أبي إسحاق عن زيد بن أرقم، وأبو سنان اسمه ضرار بن مرة، وهو ثقة إلا أن المحفوظ "عن أبي إسحاق عن البراء" كذا اتفق الشيخان عليه من طريق شعبة ومن طريق إسرائيل، وأخرجه الترمذي وأحمد من رواية سفيان الثوري، والترمذي أيضا والنسائي وابن حبان من رواية سليمان التيمي، وأحمد أيضا من رواية زهير، والنسائي أيضا من رواية أبي بكر بن عياش، وأبو عوانة من طريق زكريا بن أبي زائدة ومسعر ثمانيتهم عن أبي إسحاق. قوله: "ادعوا فلانا" كذا أبهمه إسرائيل في روايته وسماه غيره كما تقدم. قوله: "وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم" كذا في رواية إسرائيل. وفي رواية شعبة التي قبلها "دعا زيدا فكتبها فجاء ابن أم مكتوم" فيجمع بأن معنى قوله جاء أنه قام من مقامه خلف النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء مواجهه فخاطبه. قوله: "فنزلت مكانها" قال ابن التين: يقال إن جبريل هبط ورجع قبل أن يجف القلم. قوله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال ابن المنير: لم يقتصر الراوي في الحال الثاني على ذكر الكلمة الزائدة وهي {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فإن كان الوحي نزل بزيادة قوله: {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فقط فكأنه رأى إعادة الآية من أولها حتى يتصل الاستثناء بالمستثنى منه، وإن كان الوحي نزل بإعادة الآية بالزيادة بعد أن نزل بدونها فقد حكى الراوي صورة الحال. قلت: الأول أظهر، فإن في رواية سهل بن سعد" فأنزل الله {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وأوضح من ذلك رواية خارجة بن زيد عن أبيه ففيها: ثم سرى عنه فقال: اقرأ، فقرأت عليه "لا يستوي القاعدون من المؤمنين" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وفي حديث الفلتان - بفتح الفاء واللام وبمثناة فوقانية - ابن عاصم في هذه القصة "قال فقال الأعمى: ما ذنبنا؟ فأنزل الله، فقلنا له إنه يوحى إليه فخاف أن ينزل في أمره شيء، فجعل يقول: أتوب إلى الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"للكاتب أكتب {غيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} أخرجه البزار والطبراني وصححه ابن حبان، ووقع في غير هذا الحديث ما يؤيد الثاني وهو في حديث البراء بن عازب "فأنزلت هذه الآية: حافظوا على الصلوات وصلاة العصر، فقرأناها ما شاء الله، ثم نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} . قوله: "وحدثني إسحاق" جزم أبو نعيم في "المستخرج" وأبو مسعود في "الأطراف" بأنه إسحاق بن منصور وكنت أظن أنه ابن راهويه لقوله: "أخبرنا عبد الرزاق" ثم أريت في أصل النسفي "حدثني إسحاق حدثنا عبد الرزاق" فعرفت أنه ابن منصور، لأن ابن راهويه لا يقول في شيء من حديثه "حدثنا" . قوله: "أخبرني عبد الكريم" تقدم في غزوة بدر أنه الجزوي. قوله: "أن مقسما مولى عبد الله بن الحارث أخبره" أما مقسم فتقدم

(8/261)


ذكره في غزوة بدر، وأما عبد الله بن الحارث فهو ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، لأبيه ولجده صحبة وله هو رؤية، وكان يلقب ببة بموحدتين مفتوحتين الثانية ثقيلة. قوله: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر" كذا أورده مختصرا، وظن ابن التين أنه مغاير لحديثي سهل والبراء فقال: القرآن ينزل في الشيء ويشتمل على ما في معناه، وقد أخرجه الترمذي من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج بهذا مثله، وزاد: "لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم الأعميان: يا رسول الله هل لنا رخصة؟ فنزلت: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ} على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر، هكذا أورده سياقا واحدا، ومن قوله: "درجة إلخ" مدرج في الخبر من كلام ابن جريج، بينه الطبري، فأخرج من طريق حجاج نحو ما أخرجه الترمذي إلى قوله: "درجة" ووقع عنده "فقال عبد الله بن أم مكتوم وأبو أحمد بن جحش وهو الصواب في ابن جحش" فإن عبد الله أخوه، وأما هو فاسمه عبد بغير إضافة وهو مشهور بكنيته. ثم أخرجه بالسند المذكور عن ابن جريج قال: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ} قال: على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر "وحاصل تفسير ابن جريج أن المفضل عليه غير أولي الضرر، وأما أولو الضرر فملحقون في الفضل بأهل الجهاد إذا صدقت نياتهم كما تقدم في المغازي من حديث أنس" إن بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم حسبهم العذر" . ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة" أي من أولى الضرر وغيرهم، وقوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ} أي على القاعدين من غير أولي الضرر، ولا ينافي ذلك الحديث المذكور عن أنس، ولا ما دلت عليه الآية من استواء أولي الضرر مع المجاهدين لأنها استثنت أولي الضرر من عدم الاستواء فأفهمت إدخالهم في الاستواء، إذ لا واسطة بين الاستواء وعدمه، لأن المراد منه استواؤهم في أصل الثواب لا في المضاعفة لأنها تتعلق بالفعل. ويحتمل أن يلتحق بالجهاد في ذلك سائر الأعمال الصالحة. وفي أحاديث الباب من الفوائد أيضا اتخاذ الكاتب، وتقريبه، وتقييد العلم بالكتابة.

(8/262)


باب {الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض...}
...
19- باب {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} الآيَةَ
4596- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ وَغَيْرُهُ قَالاَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو الأَسْوَدِ قَالَ قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرْتُهُ فَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ ثُمَّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيَةَ رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ"
[الحديث 4596- طرفه في: 7085]

(8/262)


قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى {فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وليس عند الجميع لفظ: "باب" . قوله: "حدثنا حيوة" بفتح المهملة وسكون التحتانية وفتح الواو وهو ابن شريح المصري يكنى أبا زرعة. قوله: "وغيره" هو ابن لهيعة أخرجه الطبري، وقد أخرجه إسحاق بن راهويه عن المقرئ عن حيوة وحده، وكذا أخرجه النسائي عن زكريا بن يحيى عن إسحاق، والإسماعيلي من طريق يوسف بن موسى عن المقرئ كذلك. قوله: "قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن" هو أبو الأسود الأسدي يتيم عروة بن الزبير. قوله: "قطع" بضم أوله. قوله: "بعث" أي جيش، والمعنى أنهم ألزموا بإخراج جيش لقتال أهل الشام، وكان ذلك في خلافة عبد الله بن الزبير على مكة. قوله: "فاكتتبت" بضم المثناة الأولى وكسر الثانية بعدها موحدة ساكنة على البناء للمجهول. قوله: "أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين" سمي منهم في رواية أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة وعمرو بن أمية بن سفيان وعلي بن أمية بن خلف، وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا غر هؤلاء دينهم فقتلوا ببدر، أخرجه ابن مردويه. ولابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عكرمة نحوه وذكر فيهم الحارث بن زمعة بن الأسود والعاص بن منبه بن الحجاج وكذا ذكرهما ابن إسحاق. قوله: "يرمى به" بضم أوله على البناء المجهول. قوله: "فأنزل الله" هكذا جاء في سبب نزولها. وفي رواية عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس عند ابن المنذر والطبري، "كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت، فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنهم لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون ففتنوهم فرجعوا فنزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} فكتب إليهم المسلمون بذلك فحزنوا، فنزلت: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} الآية، فكتبوا إليهم بذلك، فخرجوا فلحقوهم، فنجا من نجا وقتل من قتل" . قوله: "رواه الليث عن أبي الأسود" وصله الإسماعيلي والطبراني في "الأوسط" من طريق أبي صالح كاتب الليث عن الليث عن أبي الأسود عن عكرمة فذكره بدون قصة أبي الأسود، قال الطبراني: لم يروه عن أبي الأسود إلا الليث وابن لهيعة. قلت: ورواية البخاري من طريق حيوة ترد على، ورواية ابن لهيعة أخرجها ابن أبي حاتم أيضا، وفي هذه القصة دلالة على براءة عكرمة مما ينسب إليه من رأى الخوارج لأنه بالغ في النهي عن قتال المسلمين وتكثير سواد من يقاتلهم. وغرض عكرمة أن الله ذم من كثر سواد المشركين مع أنهم كانوا لا يريدون بقلوبهم موافقتهم، قال فكذلك أنت لا تكثر سواد هذا الجيش وإن كنت لا تريد موافقتهم لأنهم لا يقاتلون في سبيل الله، وقوله: "فيم كنتم" سؤال توبيخ وتقريع، واستنبط سعيد بن جبير من هذه الآية وجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها بالمعصية.

(8/263)


20- باب {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}
4597- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ} قَالَ كَانَتْ أُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللَّه"

(8/263)


قوله: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} الآية" فيه معذرة من اتصف بالاستضعاف من المذكورين، وقد ذكروا في الآية الأخرى في سياق الحث على القتال عنهم. وتقدم حديث ابن عباس المذكور والكلام عليه قبل ستة أبواب.

(8/264)


21- باب {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}
4598- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ إِذْ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُف"
قوله: "باب قوله {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، ولغيره: "فعسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا" كذا وقع عند أبي نعيم في "المستخرج" وهو خطأ من النساخ بدليل وقوعه على الصواب في رواية أبي ذر "فأولئك عسى الله" وهي التلاوة. ووقع في "تنقيح الزركشي" هنا "وكان الله غفورا رحيما" قال وهو خطأ أيضا. قلت: لكن لم أقف عليه في رواية. حديث أبي هريرة في الدعاء للمستضعفين، وقد تقدم الكلام عليه في أول الاستسقاء.

(8/264)


22- باب {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ}
4599- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ جَرِيحًا"
قوله: "باب {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} الآية" كذا لأبي ذر، وله عن المستملي: "باب قوله ولا جناح إلخ" وسقط لغيره: "باب" وزادوا {أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} . قوله: "حجاج" هو ابن محمد، ويعلى هو ابن مسلم. قوله: {نْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قال عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا" في رواية: "كان" بغير واو، كذا وقع عنده مختصرا، ومقول ابن عباس ما ذكر عن عبد الرحمن، وقوله: "كان جريحا" أي فنزلت الآية فيه. وقال الكرماني: يحتمل هذا ويحتمل أن التقدير قال ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف يقول من كان جريحا فحكمه كذلك فكان عطف الجريح على المريض إلحاقا به على سبيل القياس، أو لأن الجرح نوع من المرض فيكون كله مقول عبد الرحمن وهو مروي عن ابن عباس. قلت: وسياق ما أورده غير البخاري يدفع هذا الاحتمال، فقد وقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري عن حجاج بن محمد قال: كان عبد الرحمن بن عوف جريحا" وهو ظاهر في أن فاعل قال هو ابن عباس، وأنه لا رواية لابن عباس في هذا عن عبد الرحمن. قوله في الآية الكريمة {أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} رخص لهم في وضع السلاح لثقلها عليهم

(8/264)


23- باب {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ}
4600- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قَالَتْ عَائِشَةُ هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ هُوَ وَلِيُّهَا وَوَارِثُهَا فَأَشْرَكَتْهُ فِي مَالِهِ حَتَّى فِي الْعَذْقِ فَيَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلًا فَيَشْرَكُهُ فِي مَالِهِ بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلُهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ
قوله: "باب {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} كذا لأبي ذر وله عن غير المستملي: "باب {وَيَسْتَفْتُونَكَ} وسقط لغيره: "باب" وقوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ} أي يطلبون الفتيا أو الفتوى وهما بمعنى واحد، أي جواب السؤال عن الحادثة التي تشكل على السائل وهي مشتقة من الفتى، ومنه الفتى وهو الشاب القوي. حديث عائشة في قصة الرجل يكون عنده اليتيمة فتشركه في ماله، وقد تقدم الكلام عليه في أوائل هذه السورة مستوفي، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: كان لجابر بنت عم دميمة ولها مال ورثته عن أبيها، وكان جابر يرغب عن نكاحها ولا ينكحها خشية أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت.

(8/265)


باب {وإن إمرأة خافت من بعلها نشورا أو إعراضا}
...
24- باب {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} َقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ شِقَاقٌ تَفَاسُدٌ {وَأُحْضِرَتْ الأَنْفُسُ الشُّحَّ} هَوَاهُ فِي الشَّيْءِ يَحْرِصُ عَلَيْهِ {كَالْمُعَلَّقَةِ} لاَ هِيَ أَيِّمٌ وَلاَ ذَاتُ زَوْجٍ {نُشُوزًا} بُغْضًا
4601- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا فَتَقُولُ أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِك"
قوله: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} كذا للجميع بغير باب. قوله: "وقال ابن عباس: شقاق تفاسد" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال غيره: الشقاق العداوة لأن كلا من المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه. قوله: "وأحضرت الأنفس الشح، قال هواه في الشيء يحرص عليه" وصله ابن أبي حاتم أيضا بهذا الإسناد عن ابن عباس. قوله: "كالمعلقة لا هي أيم ولا ذات زوج" وصله ابن أبي حاتم بإسناد صحيح من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} : قال لا هي أيم ولا ذات زوج انتهى، والأيم بفتح الهمزة وتشديد التحتانية هي التي لا زوج لها. قوله: {نُشُوزًا} بغضا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} قال يعني البغض.

(8/265)


25- باب {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّار}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْفَلَ النَّارِ نَفَقًا سَرَبًا
4602- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ كُنَّا فِي حَلْقَةِ عَبْدِ اللَّهِ فَجَاءَ حُذَيْفَةُ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ خَيْرٍ مِنْكُمْ قَالَ الأَسْوَدُ سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} فَتَبَسَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَجَلَسَ حُذَيْفَةُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ فَرَمَانِي بِالْحَصَا فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ عَجِبْتُ مِنْ ضَحِكِهِ وَقَدْ عَرَفَ مَا قُلْتُ لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ ثُمَّ تَابُوا فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِم"
قوله: "باب {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّار} كذا لأبي ذر، وسقط لغيره: "باب" . قوله: "قال ابن عباس أسفل النار" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الدرك الأسفل أسفل النار. قال العلماء: عذاب المنافق أشد من عذاب الكافر لاستهزائه بالدين. قوله: "نفقا سربا" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس به، وهذه الكلمة ليست من سورة النساء، وإنما هي من سورة الأنعام، ولعل مناسبة ذكرها هنا للإشارة إلى اشتقاق النفاق لأن النفاق إظهار غير ما يبطن، كذا وجهه الكرماني، وليس ببعيد مما قالوه في اشتقاق النفاق أنه من النافقاء وهو جحر اليربوع. وقيل هو من النفق وهو السرب حكاه في النهاية. قوله: "إبراهيم" هو النخعي، والأسود خاله وهو ابن يزيد النخعي. قوله: "كنا في حلقة عبد الله" يعني ابن مسعود. قوله: "فجاء حذيفة" هو ابن اليمان. قوله: "لقد أنزل النفاق على قوم خير منكم" أي ابتلوا به لأنهم كانوا من طبقة الصحابة فهم خير من طبقة التابعين، لكن الله ابتلاهم فارتدوا ونافقوا فذهبت الخيرية منهم، ومنهم من تاب فعادت له الخيرية، فكأن حذيفة حذر الذين خاطبهم وأشار لهم أن لا يغتروا فإن القلوب تتقلب، فحذرهم من

(8/266)


الخروج من الإيمان لأن الأعمال بالخاتمة، وبين لهم أنهم وإن كانوا في غاية الوثوق بإيمانهم فلا ينبغي لهم أن يأمنوا مكر الله، فإن الطبقة الذين من قبلهم وهم الصحابة كانوا خيرا منهم، ومع ذلك وجد بينهم من ارتد ونافق، فالطبقة التي هي من بعدهم أمكن من الوقوع في مثل ذلك. وقوله: "فتبسم عبد الله" كأنه تبسم تعجبا من صدق مقالته. قوله: "فرماني" أي حذيفة رمى الأسود يستدعيه إليه. قوله: "عجبت من ضحكه" أي من اقتصاره على ذلك، وقد عرف ما قلت أي فهم مرادي وعرف أنه الحق. قوله: "ثم تابوا فتاب الله عليهم" أي رجعوا عن النفاق. ويستفاد من حديث حذيفة أن الكفر والإيمان والإخلاص والنفاق كل بخلق الله تعالى وتقديره وإرادته، ويستفاد من قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} صحة توبة الزنديق وقبولها على ما عليه الجمهور، فإنها مستثناة من المنافقين من قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وقد استدل بذلك جماعة منهم أبو بكر الرازي في أحكام القرآن، والله أعلم.

(8/267)


26- باب {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} إِلَى قَوْلِهِ {وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ}
4603- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى"
4604- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَب"
قوله: "باب قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} إلى قوله: {وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} كذا لأبي ذر وزاد في رواية أبي الوقت "والنبيين من بعده" والباقي سواء لكن سقط لغير أبي ذر "باب" . قوله: "ما ينبغي لأحد" في رواية المستملي والحموي "لعبد" . قوله: "أن يقول أنا خير من يونس" يحتمل أن يكون المراد أن العبد القائل هو الذي لا ينبغي له أن يقول ذلك، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "أنا" رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله تواضعا، ودل حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب على أن الاحتمال الأول أولى. قوله: "فقد كذب" أي إذا قال ذلك بغير توقيف، وقد تقدم شرح هذا الحديث في أحاديث الأنبياء بما أغنى عن إعادته هنا، والله المستعان.

(8/267)


27- باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} وَالْكَلاَلَةُ مَنْ لَمْ يَرِثْهُ أَبٌ أَوْ ابْنٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ
4605- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةَ وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَكَ}
قوله: "باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} ساقوا الآية إلى قوله: {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} وسقط "باب" لغير أبي ذر، والمراد بقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ} أي عن مواريث الكلالة، وحذف لدلالة السياق عليه في قوله: {قُلْ

(8/267)


سورة المائدة: باب{حرم}
...
5- سورة الْمَائِدَةِ
1- باب {حُرُمٌ} وَاحِدُهَا حَرَامٌ {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} بِنَقْضِهِمْ {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ} جَعَلَ اللَّهُ {تَبُوءُ} تَحْمِلُ {دَائِرَةٌ} دَوْلَةٌ وَقَالَ غَيْرُهُ الإِغْرَاءُ التَّسْلِيطُ {أُجُورَهُنَّ} مُهُورَهُنَّ {الْمُهَيْمِنُ} الأَمِينُ الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ.
قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سورة المائدة" سقطت البسملة لأبي ذر، والمائدة فاعلة بمعنى مفعولة أي ميد بها صاحبها، وقيل على بابها، وسيأتي ذكر ذلك مبينا بعد. قوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} واحدها حرام" هو قول أبي عبيدة، وزاد: حرام بمعنى محرم. وقرأ الجمهور بضم الراء ويحيى بن وثاب بإسكانها وهي لغة كرسل ورسل. قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} بنقضهم" هو تفسير قتادة، أخرجه الطبري من طريقه، وكذا قال أبو عبيدة {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} أي فبنقضهم قال: والعرب تستعمل ما في كلامهم توكيدا، فإن كان الذي قبلها يجر أو يرفع أو ينصب

(8/268)


عمل فيما بعدها. قوله: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ} أي جعل الله، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي جعل الله لكم وقضى، وعن ابن إسحاق: كتب لكم أي وهب لكم أخرجه الطبري. وأخرج من طريق السدي أن معناه أمر، قال الطبري: والمراد أنه قدرها لسكنى بني إسرائيل في الجملة فلا يرد كون المخاطبين بذلك لم يسكنوها لأن المراد جنسهم بل قد سكنها بعض أولئك كيوشع وهو ممن خوطب بذلك قطعا. قوله: "تبوء تحمل" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي تحمل إثمي وإثمك. قال: وله تفسير آخر تبوء أي تقر، وليس مرادا هنا. وروى الطبري من طريق مجاهد قال: إني أريد أن تبوء أن تكون عليك خطيئتك ودمي، قال: والجمهور على أن المراد بقوله إثمي أي إثم قتلى، ويحتمل أن يكون على بابه من جهة أن القتل يمحو خطايا المقتول، وتحمل على القاتل إذا لم تكن له حسنات يوفي منها المقتول. قوله: "وقال غيره الإغراء التسليط" هكذا وقع في النسخ التي وقفت عليها، ولم أعرف الغير ولا من عاد عليه الضمير لأنه لم يفصح بنقل ما تقدم عن أحد، نعم سقط "وقال غيره:"من رواية النسفي، وكأنه أصوب، ويحتمل أن يكون المعنى: وقال غير من فسر ما تقدم ذكره. وفي رواية الإسماعيلي عن الفربري بالإجازة وقال ابن عباس: مخمصة مجاعة. وقال غيره: الإغراء التسليط. وهذا أوجه. تفسير المخمصة وقع في النسخ الأخرى بعد هذا، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذا فسره أبو عبيدة، والحاصل أن التقديم والتأخير في وضع هذه التفاسير وقع ممن نسخ كتاب البخاري كما قدمناه غير مرة، ولا يضر ذلك غالبا. تفسير الإغراء بالتسليط يلازم معنى الإغراء حقيقة الإغراء كما قال أبو عبيدة التهنيج للإفساد، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد في قوله: "وأغرينا" قال ألقينا، وهذا تفسير بما وقع في الآية الأخرى. قوله: "أجورهن مهورهن" هو تفسير أبي عبيدة. قوله: "المهيمن القرآن أمين على كل كتاب قبله" أورد ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} قال القرآن أمين على كل كتاب كان قبله. وروى عبد بن حميد من طريق أربدة التميمي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} قال: مؤتمنا عليه. وقال ابن قتيبة وتبعه جماعة "مهيمنا" مفيعل من أيمن قلبت همزته هاء، وقد أنكر ذلك ثعلب فبالغ حتى نسب قائله إلى الكفر لأن المهيمن من الأسماء الحسنى وأسماء الله تعالى لا تصغر، والحق أنه أصل بنفسه ليس مبدلا من شيء، وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب تقول: هيمن فلان على فلا إذا صار رقيبا عليه فهو مهيمن، قال أبو عبيدة. لم يجيء في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة ألفاظ: مبيطر ومسيطر ومهيمن ومبيقر. قوله: "وقال سفيان: ما في القرآن آية أشد علي من {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني أن من لم يعمل بما أنزل الله في كتابه فليس على شيء، ومقتضاه أن من أخل ببعض الفرائض فقد أخل بالجميع، ولأجل ذلك أطلق كونها أشد من غيرها، ويحتمل أن يكون هذا مما كان على أهل الكتاب من الإصر. وقد روى ابن أبي حاتم أن الآية نزلت في سبب خاص، فأخرج بإسناد حسن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "جاء مالك بن الصيف وجماعة من الأحبار فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم، تؤمن بما في التوراة، تشهد أنها حق؟ قال: بلى، ولكنكم كتمتم منها ما أمرتم ببيانه، فأنا أبرأ مما أحدثتموه. قالوا: فإنا نتمسك بما في أيدينا من الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا بما جئت به، فأنزل الله هذه الآية. وهذا يدل على أن المراد بما أنزل إليكم

(8/269)


من ربكم أي القرآن. ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى في الآية التي قبلها {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} - إلى قوله: {أَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} ا لآية
" تنبيه " : سفيان المذكور وقع في بعض النسخ أنه الثوري، ولم يقع لي إلى الآن موصولا. قوله: {مَنْ أحْيَاهَا} يعني من حرم قتلها إلا بحق حيا الناس منه جميعا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: "شرعة ومنهاجا سبيلا وسنة" وقد تقدم في الإيمان. وقال أبو عبيدة {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} أي سنة "ومنهاجا" أي سبيلا بينا واضحا. قوله: "عثر ظهر الأوليان وأحدهما أولى" أي أحق به طعامهم وذبائحهم، كذا ثبت في بعض النسخ هنا، وقد تقدم في الوصايا إلا الأخير فسيأتي في الذبائح.

(8/270)


2- باب {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وقال ابن عباس: مخمصة مجاعة
4604- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَتْ الْيَهُودُ لِعُمَرَ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ آيَةً لَوْ نَزَلَتْ فِينَا لاَتَّخَذْنَاهَا عِيدًا فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي لاَعْلَمُ حَيْثُ أُنْزِلَتْ وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ وَإِنَّا وَاللَّهِ بِعَرَفَةَ قَالَ سُفْيَانُ وَأَشُكُّ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لاَ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
قوله: "باب قوله {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} سقط "باب" لغير أبي ذر. قوله: "وقال ابن عباس: مخمصة مجاعة" كذا ثبت لغير أبي ذر هنا، وتقدم قريبا. قوله: "حدثنا عبد الرحمن" هو ابن مهدي. قوله: "عن قيس" هو ابن مسلم. قوله: "قالت اليهود" في رواية أبي العميس عن قيس في كتاب الإيمان "أن رجلا من اليهود" وقد تقدمت تسميته هناك وأنه كعب الأحبار، واحتمل أن يكون الراوي حيث أفرد السائل أراد تعيينه، وحيث جمع أراد باعتبار من كان معه على رأيه، وأطلق على كعب هذه الصفة إشارة إلى أن سؤاله عن ذلك وقع قبل إسلامه لأن إسلامه كان في خلافة عمر على المشهور، وأطلق عليه ذلك باعتبار ما مضى. قوله: "إني لأعلم" وقع في هذه الرواية اختصار، وقد تقدم في الإيمان من وجه آخر عن قيس بن مسلم: "فقال عمر أي آية إلخ" . قوله: "حيث أنزلت وأين أنزلت" في رواية أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي "حيث أنزلت وأي يوم أنزلت" . وبها يظهر أن لا تكرار في قوله حيث وأين، بل أراد بإحداهما المكان وبالأخرى الزمان. قوله: "وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت يوم عرفة" كذا لأبي ذر ولغيره: "حين" بدل حيث. وفي رواية أحمد "وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت، أنزلت يوم عرفه "بتكرار" أنزلت: وهي أوضح، وكذا لمسلم عن محمد بن المثنى عن عبد الرحمن في الموضعين. قوله: "وإنا والله بعرفة" كذا للجميع، وعند أحمد "ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة" وكذا لمسلم، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن بشار وبندار شيخ البخاري فيه. قوله: "قال سفيان وأشك كان يوم الجمعة أم لا" قد تقدم في الإيمان من وجه آخر عن قيس بن مسلم الجزم بأن ذلك كان يوم الجمعة، وسيأتي الجزم بذلك من رواية مسعر عن قيس في كتاب الاعتصام، وقد تقدم في كتاب الإيمان بيان مطابقة جواب عمر للسؤال لأنه سأله عن اتخاذه عيدا فأجاب بنزولها بعرفة يوم الجمعة، ومحصله أن في بعض الروايات "وكلاهما بحمد الله لنا عيد" قال الكرماني: أجاب بأن النزول كان يوم عرفة، ومن المشهور أن اليوم الذي بعد عرفة هو عيد للمسلمين، فكأنه قال:

(8/270)


جعلناه عيدا بعد إدراكنا استحقاق ذلك اليوم للتعبد فيه، قال: وإنما لم يجعله يوم النزول لأنه ثبت أن النزول كان بعد العصر، ولا يتحقق العيد إلا من أول النهار، ولهذا قال الفقهاء: إن رؤية الهلال نهارا تكون لليلة المستقبلة انتهى. والتنصيص على أن تسمية يوم عرفة يوم عيد يغني عن هذا التكلف. فإن العيد مشتق من العود وقيل له ذلك لأنه يعود في كل عام. وقد نقل الكرماني عن الزمخشري أن العيد هو السرور العائد وأقر ذلك، فالمعنى أن كل يوم شرع تعظيمه يسمى عيدا انتهى. ويمكن أن يقال هو عيد لبعض الناس دون بعض وهو للحجاج خاصة ولهذا يكره لهم صومه، بخلاف غيرهم فيستحب، ويوم العيد لا يصام. وقد تقدم في شرح هذا الحديث في كتاب الإيمان بيان من روى في حديث الباب أن الآية نزلت يوم عيد وأنه عند الترمذي من حديث ابن عباس، وأما تعليله لترك جعله عيدا بأن نزول الآية كان بعد العصر فلا يمنع أن يتخذ عيدا، ويعظم ذلك اليوم من أوله لوقوع موجب التعظيم في أثنائه، والتنظير الذي نظر به ليس بمستقيم، لأن مرجع ذلك من جهة سير الهلال، وإني لأتعجب من خفاء ذلك عليه. وفي الحديث بيان ضعف ما أخرجه الطبري بسند فيه ابن لهيعة عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت يوم الاثنين، وضعف ما أخرجه من طريق العوفي عن ابن عباس أن اليوم المذكور ليس بمعلوم، وعلى ما أخرجه البيهقي بسند منقطع أنها نزلت يوم التروية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة فأمر الناس أن يروحوا إلى منى وصلى الظهر بها، قال البيهقي: حديث عمر أولى، هو كما قال. واستدل بهذا الحديث على مزية الوقوف بعرفة يوم الجمعة على غيره من الأيام، لأن الله تعال إنما يختار لرسوله الأفضل، وأن الأعمال تشرف بشرف الأزمنة كالأمكنة، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة" الحديث، ولأن في يوم الجمعة الساعة المستجاب فيها الدعاء ولا سيما على قول من قال إنها بعد العصر، وأما ما ذكره رزين في جامعه مرفوعا: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم عرفة وافق يوم الجمعة، وهو أفضل من سبعين حجة من في غيرها" فهو حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من أخرجه بل أدرجه في حديث الموطأ الذي ذكره مرسلا عن طلحة بن عبد الله بن كريز، وليست الزيادة المذكورة في شيء من الموطآت فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة، وعلى كل منهما فثبتت المزية بذلك، والله أعلم

(8/271)


باب {فلم تجدوا فتيمموا صعيدا طيبا}
...
3- باب {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} تَيَمَّمُوا تَعَمَّدُوا آمِّينَ عَامِدِينَ
أَمَّمْتُ وَتَيَمَّمْتُ وَاحِدٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَسْتُمْ وَ تَمَسُّوهُنَّ وَ اللاَتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَالإِفْضَاءُ النِّكَاحُ
4607- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ قَالَتْ عَائِشَةُ فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ

(8/271)


يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي وَلاَ يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا الْعِقْدُ تَحْتَه"
4608- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَقَطَتْ قِلاَدَةٌ لِي بِالْبَيْدَاءِ وَنَحْنُ دَاخِلُونَ الْمَدِينَةَ فَأَنَاخَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَ فَثَنَى رَأْسَهُ فِي حَجْرِي رَاقِدًا أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَكَزَنِي لَكْزَةً شَدِيدَةً وَقَالَ حَبَسْتِ النَّاسَ فِي قِلاَدَةٍ فَبِي الْمَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَوْجَعَنِي ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَيْقَظَ وَحَضَرَتْ الصُّبْحُ فَالْتُمِسَ الْمَاءُ فَلَمْ يُوجَدْ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} الآيَةَ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِيكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَرَكَةٌ لَهُم"
قوله: "باب قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} كذا في الأصول، وزعم ابن التين وتبعه بعض الشراح المتأخرين أنه وقع هنا "فإن لم تجدوا ماء" ورد عليه بأن التلاوة "فلم تجدوا ماء" وهذا الذي أشار إليه إنما وقع في كتاب الطهارة، وهو في بعض الروايات دون بعض كما تقدم التنبيه عليه. قوله: "تيمموا تعمدوا، آمين عامدين، أممت وتيممت واحد" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} أي فتعمدوا. وقال في قوله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أي ولا عامدين، ويقال أممت، وبعضهم يقول تيممت، قال الشاعر:
إني كذاك إذا ما ساءني بلد ... يممت صدر بعيري غيره بلدا
" تنبيه " : قرأ الجمهور {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ} بإثبات النون، وقرأ الأعمش بحذف النون مضافا كقوله محلى الصيد. قوله: "وقال ابن عباس لمستم وتمسوهن، واللاتي دخلتم بهن، والإفصاء النكاح" أما قوله: "لمستم" فروى إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} قال: هو الجماع. وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير بإسناد صحيح، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن ابن عباس قال: هو الجماع، ولكن الله يعفو ويكنى. وأما قوله: { تَمَسُّوهُنَّ} فروى ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} أي تنكحوهن. وأما قوله: {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: { اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} قال: الدخول النكاح. وأما قوله: "والإفضاء" فروى ابن أبي حاتم من طريق بكر بن عبد الله المزني عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} قال: الإفضاء الجماع. وروى عبد بن حميد من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: الملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والغشيان والجماع كله النكاح، ولكن الله يكنى. وروى عبد الرزاق من طريق بكر المزني عن ابن عباس: إن الله حيي كريم يكنى عما شاء، فذكر مثله. لكن قال: "التغشي" بدل الغشيان، وإسناده صحيح. قال الإسماعيلي: أراد بالتغشي قوله تعالى :{فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} وسيأتي شيء من هذا في النكاح. والذي يتعلق

(8/272)


=

======

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............