مج 9 من فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم ثم يوم الأضحى بعد الصلاة فقال من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فإنه قبل الصلاة ولا نسك له فقال أبو بردة بن نيار خال البراء يا رسول الله فإني نسكت شاتي قبل الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي فذبحت شاتي وتغديت قبل أن آتي الصلاة قال شاتك شاة لحم قال يا رسول الله فإن عندنا عناقا لنا جذعة هي أحب إلي من شاتين أفتجزي عني قال نعم ولن تجزي عن أحد بعدك قوله: "باب الأكل يوم النحر" قال الزين بن المنير ما محصله: لم يقيد المصنف الأكل يوم النحر بوقت معين كما قيده في الفطر، ووجه ذلك من حديث أنس قول الرجل " هذا يوم يشتهي فيه اللحم " وقوله في حديث البراء " أن اليوم يوم أكل وشرب " ولم يقيد ذلك بوقت. انتهى. ولعل المصنف أراد الإشارة إلى تضعيف ما ورد في بعض طرق الحديث الذي قبله من مغايرة يوم الفطر ليوم النحر من استحباب البداءة بالصلاة يوم النحر قبل الأكل، لأن في حديث البراء أن أبا بردة أكل قبل الصلاة يوم النحر، فبين له صلى الله عليه وسلم أن التي ذبحها لا تجزئ عن الأضحية وأقره على الأكل منها، وأما ما ورد في الترمذي والحاكم من حديث بريدة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي " ونحوه عند البزار عن جابر بن سمرة، وروى الطبراني والدار قطني من حديث ابن عباس قال: "من السنة أن لا يخرج يوم الفطر حتى يخرج الصدقة ويطعم شيئا قبل أن يخرج " وفي كل من الأسانيد الثلاثة مقال، وقد أخذ أكثر الفقهاء بما دلت عليه، قال الزين بن المنير: وقع أكله صلى الله عليه وسلم في كل من العيدين في الوقت المشروع لإخراج صدقتهما الخاصة بهما فإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها فاجتمعا من جهة وافترقا من جهة أخرى، واختار بعضهم تفصيلا آخر فقال: من كان له ذبح استحب له أن يبدأ بالأكل يوم النحر منه، ومن لم يكن له ذبح تخير. وسيأتي الكلام على حديثي أنس والبراء المذكورين في هذا الباب في كتاب الأضاحي إن شاء الله تعالى. قوله في حديث البراء " ومن نسك قبل الصلاة فإنه قبل الصلاة ولا نسك له " كذا في الأصول بإثبات الواو، وحذفها النسائي وهو أوجه، ويمكن توجيه إثباتها بتقدير لا يجزئ ولا نسك له، وهو قريب من حديث: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله " وقد أخرجه مسلم عن عثمان ابن أبي شيبة هذا وإسحاق بن إبراهيم جميعا عن جرير بلفظه، وأخرجه الإسماعيلي من طريق أبي خيثمة ويوسف بن موسى وعثمان هذا ثلاثتهم عن جرير بلفظ: "ومن نسك قبل الصلاة فشاته شاة لحم " وذكر أن معناهم واحد، وقد أخرجه أبو يعلى عن أبي خيثمة بهذا اللفظ، وأظن التصرف فيه من عثمان رواه بالمعنى والله أعلم. وفي حديثي أنس والبراء من الفوائد تأكيد أمر الأضحية، وأن المقصود منها طيب اللحم وإيثار الجار على غيره، وأن المفتي إذا ظهرت له من المستفتي أمارة الصدق كان له أن يسهل عليه، حتى لو استفتاه اثنان في قضية واحدة جاز أن يفتي كلا منهما بما يناسب حاله، وجواز إخبار المرء عن نفسه بما يستحق الثناء به عليه بقدر الحاجة.
(2/448)
6 - باب الْخُرُوجِ
إِلَى الْمُصَلَّى بِغَيْرِ مِنْبَرٍ
956- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ
(2/448)
أَبِي سَرْحٍ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى فَأَوَّلُ
شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلاَةُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ
وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ
فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ
أَمَرَ بِهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ عَلَى
ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِي أَضْحًى
أَوْ فِطْرٍ فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ
الصَّلْتِ فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ
فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ فَجَبَذَنِي فَارْتَفَعَ فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلاَةِ
فَقُلْتُ لَهُ غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ فَقَالَ أَبَا سَعِيدٍ قَدْ ذَهَبَ مَا
تَعْلَمُ فَقُلْتُ مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لاَ أَعْلَمُ فَقَالَ
إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَجَعَلْتُهَا
قَبْلَ الصَّلاَةِ
قوله: "باب الخروج إلى المصلى بغير منبر" يشير إلى ما ورد في بعض طرق
حديث أبي سعيد الذي ساقه في هذا الباب، وهو ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من
طريق الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال: "أخرج مروان المنبر يوم عيد
وبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام إليه رجل فقال: يا مروان خالفت السنة "
الحديث. قوله: "حدثنا محمد بن جعفر" أي ابن أبي كثير المدني، وعياض بن
عبد الله أي ابن سعد بن أبي سرح القرشي المدني، ورجاله كلهم مدنيون. قوله:
"عن أبي سعيد" في رواية عبد الرزاق عن داود بن قيس عن عياض قال: سمعت
أبا سعيد، وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق ابن وهب عن داود. قوله: "إلى
المصلى" هو موضع بالمدينة معروف بينه وبين باب المسجد ألف ذراع قاله عمر بن
شبة في " أخبار المدينة " عن أبي غسان الكناني صاحب مالك. قوله:
"ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس" في رواية ابن حبان من طريق داود بن قيس عن
عياض " فينصرف إلى الناس قائما في مصلاه " ولابن خزيمة في رواية مختصرة
" خطب يوم عيد على رجليه " وهذا مشعر بأنه لم يكن بالمصلى في زمانه صلى
الله عليه وسلم منبر، ويدل على ذلك قول أبي سعيد " فلم يزل الناس على ذلك حتى
خرجت مع مروان " ومقتضى ذلك أن أول من اتخذه مروان، وقد وقع في المدونة لمالك
ورواه عمر بن شبة عن أبي غسان عنه قال: "أول من خطب الناس في المصلى على
المنبر عثمان بن عفان كلمهم على منبر من طين بناه كثير بن الصلت، وهذا معضل، وما
في الصحيحين أصح فقد رواه مسلم من طريق داود بن قيس عن عياض نحو رواية البخاري،
ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى أعاده مروان ولم يطلع على ذلك أبو
سعيد، وإنما اختص كثير بن الصلت ببناء المنبر بالمصلى لأن داره كانت مجاورة
للمصلى، كما سيأتي في حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أتى في يوم العيد إلى
العلم الذي عند دار كثير بن الصلت، قال ابن سعد: كانت دار كثير بن الصلت قبلة
المصلي في العيدين وهي تطل على بطن بطحان الوادي الذي في وسط المدينة، انتهى.
وإنما بنى كثير بن الصلت داره بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة، لكنها لما صارت
شهيرة في تلك البقعة وصف المصلى بمجاورتها. وكثير المذكور هو ابن الصلت ابن معاوية
الكندي، تابعي كبير ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم المدينة هو وأخويه
بعده فسكنها وحالف بني جمح، وروى ابن سعد بإسناد صحيح إلى نافع قال: كان اسم كثير
بن الصلت قليلا فسماه عمر كثيرا. ورواه أبو عوانة فوصله بذكر ابن عمر ورفعه بذكر
النبي صلى الله عليه وسلم والأول أصح، وقد صح سماع كثير من عمر فمن بعده، وكان له
شرف وذكر، وهو ابن أخي جمد بفتح الجيم وسكون الميم أو فتحها
(2/449)
أحد ملوك كندة الذين قتلوا في الردة، وقد ذكر أبوه في الصحابة لابن منده وفي صحة ذلك نظر. قوله: "فإن كان يريد أن يقطع بعثا" أي يخرج طائفة من الجيش إلى جهة من الجهات. قوله: "خرجت مع مروان" زاد عبد الرزاق عن داود بن قيس " وهو بيني وبين أبي مسعود " يعني عقبة بن عمرو الأنصاري. قوله: "فجبذته بثوبه" أي ليبدأ بالصلاة قبل الخطبة على العادة، وقوله: "فقلت له غيرتم والله " صريح في أن أبا سعيد هو الذي أنكر، ووقع عند مسلم من طريق طارق بن شهاب قال: "أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان. فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه " وهذا ظاهر في أنه غير أبي سعيد، وكذا في رواية رجاء عن أبي سعيد التي تقدمت في أول الباب، فيحتمل أن يكون هو أبا مسعود الذي وقع في رواية عبد الرزاق أنه كان معهما، ويحتمل أن تكون القصة تعددت " ويدل على ذلك المغايرة الواقعة بين روايتي عياض ورجاء، ففي رواية عياض أن المنبر بنى بالمصلى. وفي رواية رجاء أن مروان أخرج المنبر معه، فلعل مروان لما أنكروا عليه إخراج المنبر ترك إخراجه بعد وأمر ببنائه من لبن وطين بالمصلى، ولا بعد في أن ينكر عليه تقديم الخطبة على الصلاة مرة بعد أخرى، ويدل على التغاير أيضا أن إنكار أبي سعيد وقع بينه وبينه، وإنكار الآخر وقع على رءوس الناس. قوله: "إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها" أي الخطبة "قبل الصلاة" وهذا يشعر بأن مروان فعل ذلك باجتهاد منه، وسيأتي في الباب الذي بعده أن عثمان فعل ذلك أيضا لكن لعلة أخرى، وفي هذا الحديث من الفوائد بنيان المنبر، قال الزين بن المنير: وإنما اختاروا أن يكون باللبن لا من الخشب لكونه يترك الصحراء في غير حرز فيؤمن عليه النقل، بخلاف خشب منبر الجامع. وفيه أن الخطبة على الأرض عن قيام في المصلى أولى من القيام على المنبر، والفرق بينه وبين المسجد أن المصلى يكون بمكان فيه فضاء فيتمكن من رؤيته كل من حضر، بخلاف المسجد فإنه يكون في مكان محصور فقد لا يراه بعضهم، وفيه الخروج إلى المصلى في العيد، وأن صلاتها في المسجد لا تكون إلا عن ضرورة، وفيه إنكار العلماء على الأمراء إذا صنعوا ما يخالف السنة، وفيه حلف العالم على صدق ما يخبر به، والمباحثة في الأحكام، وجواز عمل العالم بخلاف الأولى إذا لم يوافقه الحاكم على الأولى لأن أبا سعيد حضر الخطبة ولم ينصرف، فيستدل به على أن المبداءة بالصلاة فيها ليس بشرط في صحتها والله أعلم. قال ابن المنير في الحاشية: حمل أبو سعيد فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك على التعيين، وحمله مروان على الأولوية، واعتذر عن ترك الأولى بما ذكره من تغير حال الناس، فرأى أن المحافظة على أصل السنة - وهو إسماع الخطبة - أولى من المحافظة على هيئة فيها ليست من شرطها والله أعلم. واستدل به على استحباب الخروج إلى الصحراء لصلاة العيد وأن ذلك أفضل من صلاتها في المسجد، لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مع فضل مسجده. وقال الشافعي في الأم: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وكذا من بعده إلا من عذر مطر ونحوه، وكذلك عامة أهل البلدان إلا أهل مكة. ثم أشار إلى أن سبب ذلك سعة المسجد وضيق أطراف مكة قال: فلو عمر بلد فكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أر أن يخرجوا منه، فإن كان لا يسعهم كرهت الصلاة فيه ولا إعادة. ومقتضى هذا أن العلة تدور على الضيق والسعة، لا لذات الخروج إلى الصحراء، لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أفضليته كان أولى.
(2/450)
باب المشي والركوب
إلى العيد بغير أذان ولا إقامة
...
7 - باب الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ إِلَى الْعِيدِ وَالصَّلاَةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ
بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ
957- حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا أنس عن عبيد الله عن نافع عن عبد الله بن
عمر ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الأضحى والفطر ثم يخطب بعد
الصلاة "
[الحديث957-طرفه في:963]
958- حدثنا إبراهيم بن موسى قال أخبرنا هشام أن بن جريج أخبرهم قال أخبرني عطاء عن
جابر بن عبد الله قال سمعته يقول ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر
فبدأ بالصلاة قبل الخطبة
[الحديث958-طرفاه في:978.961]
959- قَالَ وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ فِي أَوَّلِ مَا بُويِعَ لَهُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ
بِالصَّلاَةِ يَوْمَ الْفِطْرِ إِنَّمَا الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلاَةِ
وأخبرني عطاء عن بن عباس وعن جابر بن عبد الله قالا ثم "لم يكن يؤذن يوم
الفطر ولا يوم الأضحى "
961- وعن جابر بن عبد الله قال سمعته يقول ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قام
فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس بعد فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم نزل فأتى
النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء صدقة قلت
لعطاء أترى حقا على الإمام الآن أن يأتي النساء فيذكرهن حين يخلو قال إن ذلك لحق
عليهم وما لهم أن لا يفعلوا ؟
قوله: "باب المشي والركوب إلى العيد، والصلاة قبل الخطبة، وبغير أذان ولا
إقامة" في هذه الترجمة ثلاثة أحكام: صفة التوجه وتأخير الخطبة عن الصلاة وترك
النداء فيها. فأما الأول فقد اعترض عليه ابن التين فقال: ليس فيما ذكره من
الأحاديث ما يدل على مشي ولا ركوب. وأجاب الزين بن المنير بأن عدم ذلك مشعر بتسويغ
كل منهما وألا مزية لأحدهما على الآخر، ولعله أشار بذلك إلى تضعيف ما ورد في الندب
إلى المشي، ففي الترمذي عن علي قال: "من السنة أن يخرج إلى العيد
ماشيا". وفي ابن ماجه عن سعد القرظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يأتي العيد ماشيا " وفيه عن أبي رافع نحوه، وأسانيد الثلاثة ضعاف. وقال
الشافعي في الأم: بلغنا عن الزهري قال: ما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في
عيد ولا جنازة قط. ويحتمل أن يكون البخاري استنبط من قوله في حديث جابر " وهو
يتوكأ على يد بلال " مشروعية الركوب لمن احتاج إليه، وكأنه يقول: الأولى
المشي حتى يحتاج إلى الركوب، كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم قائما على رجليه
فلما تعب من الوقوف توكأ على بلال. والجامع بين الركوب والتوكؤ الارتفاق بكل
منهما، أشار إلى ذلك ابن المرابط، وأما الحكم الثاني فظاهر من أحاديث الباب،
وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده. واختلف في أول من غير ذلك، فرواية طارق بن
شهاب عن أبي سعيد عند مسلم صريحة في أنه مروان كما تقدم في الباب قبله، وقيل بل
سبقه إلى ذلك عثمان، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الحسن البصري
(2/451)
قال: "أول من
خطب قبل الصلاة عثمان، صلى بالناس ثم خطبهم - يعني على العادة - فرأى ناسا لم
يدركوا الصلاة، ففعل ذلك " أي صار يخطب قبل الصلاة. وهذه العلة غير التي اعتل
بها مروان. لأن عثمان رأى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة، وأما مروان فراعى
مصلحتهم في إسماعهم الخطبة، لكن قيل: إنهم كانوا في زمن مروان يتعمدون ترك سماع
خطبته لما فيها من سب من لا يستحق السب والإفراط في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما
راعى مصلحة نفسه، ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحيانا، بخلاف مروان فواظب عليه،
فلذلك نسب إليه. وقد روى عن عمر مثل فعل عثمان، قال عياض ومن تبعه: لا يصح عنه،
وفيما قالوه نظر، لأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة روياه جميعا عن ابن عيينة عن يحيى
بن سعيد الأنصاري عن يوسف بن عبد الله بن سلام، وهذا إسناد صحيح، لكن يعارضه حديث
ابن عباس المذكور في الباب الذي بعده، وكذا حديث ابن عمر، فإن جمع بوقوع ذلك منه
نادرا وإلا فما في الصحيحين أصح، وقد أخرج الشافعي عن عبد الله بن يزيد نحو حديث
ابن عباس وزاد: "حتى قدم معاوية فقدم الخطبة " فهذا يشير إلى أن مروان
إنما فعل ذلك تبعا لمعاوية لأنه كان أمير المدينة من جهته، وروى عبد الرزاق عن ابن
جريج عن الزهري قال: "أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية "
وروى ابن المنذر عن ابن سيرين أن أول من فعل ذلك زياد بالبصرة. قال عياض: ولا
مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان، لأن كلا من مروان وزياد كان عاملا لمعاوية
فيحمل على أنه ابتدأ ذلك وتبعه عماله، والله أعلم. وأما الحكم الثالث فليس في
أحاديث الباب ما يدل عليه إلا حديث ابن عباس في ترك الأذان، وكذا أحد طريقي جابر.
وقد وجهه بعضهم بأنه يؤخذ من كون الصلاة قبل الخطبة بخلاف الجمعة فتخالفها أيضا في
الأذان والإقامة ولا يخفى بعده. والذي يظهر أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرق
الأحاديث التي ذكرها، أما حديث ابن عمر ففي رواية النسائي: "خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم في يوم عيد فصلى بغير أذان ولا إقامة " الحديث. وأما حديث
ابن عباس وجابر ففي رواية عبد الملك ابن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عند مسلم:
"فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة " وعنده من طريق عبد
الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن جابر قال: "لا أذان للصلاة يوم العيد ولا إقامة
ولا شيء " وفي رواية يحيى القطان عن ابن جريج عن عطاء أن ابن عباس قال لابن
الزبير " لا تؤذن لها ولا تقم " أخرجه ابن أبي شيبة عنه، ولأبي داود من
طريق طاوس عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العيد بلا أذان
ولا إقامة " إسناده صحيح، وفي الحديث عن جابر بن سمرة عند مسلم وعن سعد بن
أبي وقاص عند البزار وعن البراء عند الطبراني في الأوسط. وقال مالك في الموطأ سمعت
غير واحد من علمائنا يقول: "لم يكن في الفطر ولا في الأضحى نداء ولا إقامة
منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم " وتلك السنة التي لا اختلاف
فيها عندنا. وعرف بهذا توجيه أحاديث الباب ومطابقتها للترجمة، واستدل بقول جابر
" ولا إقامة ولا شيء " على أنه لا يقال أمام صلاتها شيء من الكلام، لكن
روى الشافعي عن الثقة عن الزهري قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر
المؤذن في العيدين أن يقول: الصلاة جامعة " وهذا مرسل يعضده القياس على صلاة
الكسوف لثبوت ذلك فيها كما سيأتي، قال الشافعي: أحب أن يقول: الصلاة، أو الصلاة
جامعة، فإن قال: هلموا إلى الصلاة لم أكرهه، فإن قال: حي على الصلاة أو غيرها من
ألفاظ الأذان أو غيرها
ـــــــ
(1)مراسيل الزهرى ضعيفة عند أهلالعلم , والقياس لايصح اعتباره مع وجود النص الثابت
الدال على أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العيد أذان ولا إقامة
ولا شيء , ومن هنا يعلم أن النداء للعيد بدعة بأي لفظ كان , والله أعلم
(2/452)
كرهت له ذلك. واختلف في أول من أحدث الأذان فيها أيضا فروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب أنه معاوية، وروى الشافعي عن الثقة عن الزهري مثله وزاد: فأخذ به الحجاج حين أمر على المدينة. وروى ابن المنذر عن حصين بن عبد الرحمن قال: أول من أحدثه زياد بالبصرة. وقال الداودي: أول من أحدثه مروان. وكل هذا لا ينافي أن معاوية أحدثه كما تقدم في البداءة بالخطبة. وقال ابن حبيب: أول من أحدثه هشام. وروى ابن المنذر عن أبي قلابة قال: أول من أحدثه عبد الله بن الزبير. وقد وقع في حديث الباب أن ابن عباس أخبره أنه لم يكن يؤذن لها، لكن في رواية يحيى القطان أنه لما ساء ما بينهما أذن - يعني ابن الزبير - وأقام. وقوله يؤذن بفتح الذال على البناء للمجهول والضمير ضمير الشأن، وهشام المذكور في الإسناد الثاني هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "قال وأخبرني عطاء" القائل هو ابن جريج في الموضعين وهو معطوف على الإسناد المذكور، وكذا قوله: "وعن جابر بن عبد الله " معطوف أيضا، والمراد بقوله لم يكن يؤذن، أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مصير من البخاري إلى أن هذه الصيغة حكم الرفع. قوله: "أول ما بويع له" أي لابن الزبير بالخلافة، وكان ذلك في سنة أربع وستين عقب موت يزيد بن معاوية. قوله: "وإنما الخطبة بعد الصلاة " كذا للأكثر وهو الصواب. وفي رواية المستملي: "وأما " بدل وإنما، وهو تصحيف. وسيأتي الكلام على بقية فوائد حديث جابر بعد عشرة أبواب إن شاء الله تعالى.
(2/453)
8 - باب
الْخُطْبَةِ بَعْدَ الْعِيدِ
962- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ
أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكُلُّهُمْ كَانُوا
يُصَلُّونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ"
963- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبيد الله عن نافع عن
بن عمر قال ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما
يصلون العيدين قبل الخطبة
964- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ
بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ
يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ
فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ تُلْقِي الْمَرْأَةُ خُرْصَهَا
وَسِخَابَهَا "
965- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا زُبَيْدٌ قَالَ
سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه
وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ
نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا وَمَنْ
نَحَرَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ
مِنْ النُّسْكِ فِي شَيْءٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو
بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْتُ وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ
مِنْ مُسِنَّةٍ فَقَالَ اجْعَلْهُ مَكَانَهُ وَلَنْ تُوفِيَ أَوْ تَجْزِيَ عَنْ
أَحَدٍ بَعْدَكَ "
(2/453)
قوله: "باب الخطبة بعد العيد" أي بعد صلاة العيد، وهذا مما يرجح رواية الذين أسقطوا قوله: "والصلاة قبل الخطبة " من الترجمة التي قبل هذه وهم الأكثر. وقال ابن رشيد: أعاد هذه الترجمة لأنه أراد أن يخص هذا الحكم بترجمة اعتناء به لكونه وقع في التي قبلها بطريق التبع ا هـ. حديث ابن عباس صريح فيما ترجم له، وسيأتي في أواخر العيدين أتم مما هنا وحديث ابن عمر أيضا صريح فيه. أما حديث ابن عباس فمن جهة أن أمره للنساء بالصدقة كان من تتمة الخطبة كما يرشد إلى ذلك حديث جابر الذي في الباب قبله، ويحتمل أن يكون ذكره لتعلقه بصلاة العيدين في الجملة فهو كالتتمة للفائدة. وقوله فيه: "خرصها " بضم المعجمة وحكى كسرها وسكون الراء بعدها صاد مهملة هو الحلقة من الذهب أو الفضة، وقيل هو القرط إذا كان بحبة واحدة. وقوله: "وسخا بها " بكسر المهملة ثم معجمة ثم موحدة هو قلادة من عنبر أو قرنفل أو غيره ولا يكون فيه خرز، وقيل هو خيط فيه خرز، وسمي سخابا لصوت خرزه عند الحركة مأخوذ من السخب وهو اختلاط الأصوات، يقال بالصاد والسين. وسيأتي الكلام على بقية فوائده عند الكلام على حديث جابر بعد عشرة أبواب، ويأتي الكلام على التنفل يوم العيد بعد ذلك بستة أبواب. أما حديث البراء فظاهره يخالف الترجمة، لأن قوله: "أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر " مشعر بأن هذا الكلام وقع قبل إيقاع الصلاة فيستلزم تقديم الخطبة على الصلاة بناء على أن هذا الكلام من الخطبة، ولأنه عقب الصلاة بالنحر، والجواب أن المراد أنه صلى الله عليه وسلم صلى العيد ثم خطب فقال هذا الكلام، وأراد بقوله: "إن أول ما نبدأ به " أي في يوم العيد تقديم الصلاة في أي عيد كان. والتعقيب بثم لا يستلزم عدم تخلل أمر آخر بين الأمرين. قال ابن بطال: غلط النسائي فترجم بحديث البراء فقال: "باب الخطبة قبل الصلاة " قال: وخفي عليه أن العرب قد تضع الفعل المستقبل مكان الماضي، وكأنه قال عليه الصلاة والسلام: أول ما يكون به الابتداء في هذا اليوم الصلاة التي قدمنا فعلها. قال: وهو مثل قوله تعالى:{وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا" أي الإيمان المتقدم منهم ا هـ. والمعتمد في صحة ما تأولناه رواية محمد بن طلحة عن زبيد الآتية بعد ثمانية أبواب في هذا الحديث بعينه بلفظ: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أضحى إلى البقيع فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وقال: إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ثم نرجع فننحر " الحديث، فتبين أن ذلك الكلام وقع منه بعد الصلاة. وقال الكرماني: المستفاد من حديث البراء أن الخطبة مقدمة على الصلاة، ثم قال في موضع آخر: فإن قلت فما دلالته على الترجمة؟ قلت: لو قدم الخطبة على الصلاة لم تكن الصلاة أول ما بدئ به، ولا يلزم من كون هذا الكلام وقع قبل الصلاة أن تكون الخطبة وقعت قبلها ا هـ. وحاصله أنه يجعل الكلام المذكور سابقا على الصلاة، ويمنع كونه من الخطبة. لكن قد بينت رواية محمد بن طلحة عن زبيد المذكورة أن الصلاة لم يتقدمها شيء، لأنه عقب الخروج إليها بالفاء. وصرح منصور في روايته عن الشعبي في هذا الحديث بأن الكلام المذكور وقع في الخطبة، ولفظه: "عن البراء بن عازب قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة فقال: "فذكر الحديث. وقد تقدم قبل بابين ويأتي أيضا في أواخر العيد، فيتعين التأويل الذي قدمناه. والله أعلم.
(2/454)
9- باب مَا
يُكْرَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلاَحِ فِي الْعِيدِ وَالْحَرَمِ
وَقَالَ الْحَسَنُ نُهُوا أَنْ يَحْمِلُوا السِّلاَحَ يَوْمَ عِيدٍ إِلاَّ أَنْ
يَخَافُوا عَدُوًّا
(2/454)
قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج بالسلاح يوم العيد " وروى ابن ماجه بإسناد ضعيف عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس السلاح في بلاد الإسلام في العيدين، إلا أن يكونوا بحضرة العدو " وهذا كله في العيد، وأما في الحرم فروى مسلم من طريق معقل بن عبيد عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمل السلاح بمكة" . قوله: "أبو السكين" بالمهملة والكاف مصغرا، والمحاربي هو عبد الرحمن بن محمد لا ابنه عبد الرحيم، ومحمد بن سوقة بضم السين المهملة وبالقاف تابعي صغير من أجلاء الناس. قوله: "أخمص قدمه" الأخمص بإسكان الخاء المعجمة وفتح الميم بعدها مهملة: باطن القدم وما رق من أسفلها، وقيل هو خصر باطنها الذي لا يصيب الأرض عند المشي. قوله: "بالركاب" أي وهي في راحلته. قوله: "فنزعتها" ذكر الضمير مؤنثا مع أنه أعاده على السنان وهو مذكر لأنه أراد الحديدة، ويحتمل أنه أراد القدم. قوله: "فبلغ الحجاج" أي ابن يوسف الثقفي وكان إذ ذاك أميرا على الحجاز وذلك بعد قتل عبد الله ابن الزبير. قوله: "فجعل يعوده" في رواية المستملي: "فجاء"، ويؤيده رواية الإسماعيلي: "فأتاه". قوله: "لو نعلم من أصابك" في رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي: "ما أصابك " وحذف الجواب لدلالة السياق عليه، أو هي للتمني فلا محذوف، ويرجح الأول أن ابن سعد أخرجه عن أبي نعيم عن إسحاق ابن سعيد فقال فيه: "لو نعلم من أصابك عاقبناه " وهو يرجح رواية
(2/455)
الأكثر أيضا، وله من وجه آخر قال: "لو أعلم الذي أصابك لضربت عنقه". قوله: "أنت أصبتني" فيه نسبة الفعل إلى الآمر بشيء يتسبب منه ذلك الفعل وإن لم يعن الآمر ذلك، لكن حكى الزبير في الأنساب أن عبد الملك لما كتب إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر شق عليه فأمر رجلا معه حربة يقال إنها كانت مسمومة فلصق ذلك الرجل به فأمر الحربة على قدمه فمرض منها أياما ثم مات، وذلك في سنة أربع وسبعين. فعلى هذا ففيه نسبة الفعل إلى الآمر به فقط وهو كثير. وفي هذه القصة تعقب على المهلب حيث استدل به على سد الذرائع لأن ذلك مبني على أن الحجاج لم يقصد ذلك. قوله: "حملت السلاح" أي فتبعك أصحابك في حمله، أو المراد بقوله حملت أي أمرت بحمله. قوله: "في يوم لم يكن يحمل فيه" هذا موضع الترجمة، وهو مصير من البخاري إلى أن قول الصحابي كان يفعل كذا على البناء لما لم يسم فاعله يحكم برفعه. قوله: "أصابني من أمر" هذا فيه تعريض بالحجاج، ورواية سعيد بن جبير التي قبلها مصرحة بأنه الذي فعل ذلك، ويجمع بينهما بتعدد الواقعة أو السؤال، فلعله عرض به أولا، فلما أعاد عليه السؤال صرح. وقد روى ابن سعد من وجه آخر رجاله لا بأس بهم أن الحجاج دخل على ابن عمر يعوده لما أصيبت رجله فقال له: يا أبا عبد الرحمن هل تدري من أصاب رجلك؟ قال: لا. قال: أما والله لو علمت من أصابك لقتلته. قال فأطرق ابن عمر فجعل لا يكلمه ولا يلتفت إليه، فوثب كالمغضب. وهذا محمول على أمر ثالث كأنه عرض به، ثم عاوده فصرح، ثم عاوده فأعرض عنه. قوله: "يعني الحجاج" بالنصب على المفعولية وفاعله القائل وهو ابن عمر، زاد الإسماعيلي في هذه الطريق " قال لو عرفناه لعاقبناه " قال: وذلك لأن الناس نفروا عشية ورجل من أصحاب الحجاج عارض حربته فضرب ظهر قدم ابن عمر فأصبح وهنا منها حتى مات. "تنبيه": وقع في الأطراف للمزي في ترجمة سعيد بن جبير عن ابن عمر في هذا الحديث: البخاري عن أحمد بن يعقوب عن إسحاق بن سعيد، وعن أبي السكين عن المحاربي كلاهما عن محمد بن سوقة عنه به. ووهم في ذلك فإن إسحاق بن سعيد إذا رواه عن أبيه عن ابن عمر لا عن محمد بن سوقة. وقد ذكره هو بعد ذلك في ترجمة سعيد عن ابن عمر على الصواب.
(2/456)
10 - باب
التَّبْكِيرِ إِلَى الْعِيدِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ إِنْ كُنَّا فَرَغْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ
وَذَلِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ
968- حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن زبيد عن الشعبي عن البراء قال خطبنا
النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر قال إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي
ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم عجله
لأهله ليس من النسك في شيء فقام خالي أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله أنا ذبحت
قبل أن أصلي وعندي جذعة خير من مسنة قال اجعلها مكانها أو قال اذبحها ولن تجزي
جذعة عن أحد بعدك "
قوله: "باب التبكير للعيد" كذا للأكثر بتقديم الموحدة من البكور، وعلى
ذلك جرى شارحوه ومن استخرج عليه. ووقع للمستملي التكبير بتقديم الكاف وهو تحريف.
قوله: "وقال عبد الله بن بسر" يعني المازني الصحابي ابن الصحابي، وأبوه
بضم الموحدة وسكون المهملة. قوله: "إن كنا فرغنا في هذه الساعة" إن هي
المخففة من الثقيلة
(2/456)
وهذا التعليق وصله أحمد وصرح برفعه وسياقه، ثم أخرجه من طريق يزيد بن خمير وهو بالمعجمة مصغر قال: "خرج عبد الله بن بسر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر إبطاء الإمام وقال: "إن كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد فرغنا ساعتنا هذه " وكذا رواه أبو داود عن أحمد والحاكم من طريق أحمد أيضا وصححه. قوله: "وذلك حين التسبيح" أي وقت صلاة السبحة وهي النافلة، وذلك إذا مضى وقت الكراهة. وفي رواية صحيحة للطبراني وذلك حين تسبيح الضحى، قال ابن بطال: أجمع الفقهاء على أن العيد لا تصلي قبل طلوع الشمس ولا عند طلوعها، وإنما تجوز عند جواز النافلة. ويعكر عليه إطلاق من أطلق أن أول وقتها عند طلوع الشمس، واختلفوا هل يمتد وقتها إلى الزوال أو لا، واستدل ابن بطال على المنع بحديث عبد الله بن بسر هذا، وليس دلالته على ذلك بظاهرة. ثم أورد المصنف حديث البراء " إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي " وهو دال على أنه لا ينبغي الاشتغال في يوم العيد بشيء غير التأهب للصلاة والخروج إليها، ومن لازمه أن لا يفعل قبلها شيء غيرها فاقتضى ذلك التبكير إليها.
(2/457)
11 - باب فَضْلِ
الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ أَيَّامُ
الْعَشْرِ وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَكَانَ ابْنُ
عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ
يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ
969- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
سُلَيْمَانَ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَا
الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ قَالُوا وَلاَ الْجِهَادُ
قَالَ وَلاَ الْجِهَادُ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ
فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ "
قوله: "باب فضل العمل في أيام التشريق" مقتضى كلام أهل اللغة والفقه أن
أيام التشريق ما بعد يوم النحر، على اختلافهم هل هي ثلاثة أو يومان، لكن ما ذكروه
من سبب تسميتها بذلك يقتضي دخول يوم العيد فيها. وقد حكى أو عبيد أن فيه قولين:
أحدهما لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي، أي يقددونها ويبرزونها للشمس.
ثانيهما لأنها كلها أيام تشريق لصلاة يوم النحر فصارت تبعا ليوم النحر. قال: وهذا
أعجب القولين إلي، وأظنه أراد ما حكاه غيره أن أيام التشريق سميت بذلك لأن صلاة
العيد إنما تصلى بعد أن تشرق الشمس. وعن ابن الأعرابي قال: سميت بذلك لأن الهدايا
والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس، وعن يعقوب بن السكيت قال: هو من قول الجاهلية:
أشرق ثبير كيما نغير، أي ندفع لننحر. انتهى. وأظنهم أخرجوا يوم العيد منها لشهرته
بلقب يخصه وهو يوم العيد، وإلا فهي في الحقيقة تبع له في التسمية كما تبين من
كلامهم. ومن ذلك حديث علي " لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع " أخرجه
أبو عبيد بإسناد صحيح إليه موقوفا، ومعناه لا صلاة جمعة ولا صلاة عيد. قال: وكان
أبو حنيفة يذهب بالتشريق في هذا إلى التكبير في دبر الصلاة يقول: لا تكبير إلا على
أهل الأمصار. قال: وهذا لم نجد أحدا يعرفه، ولا وافقه عليه صاحباه ولا غيرهما.
انتهى. ومن ذلك حديث: "من ذبح قبل التشريق أي قبل صلاة العيد - فليعد "
رواه أبو عبيد من مرسل الشعبي ورجاله ثقات، وهذا كله يدل على أن يوم العيد من أيام
(2/457)
12 - باب
التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى
فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأَسْوَاقِ
حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ
الأَيَّامَ وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ
وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الأَيَّامَ جَمِيعًا وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ
تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ وَكُنَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ
عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ
الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ
970- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ وَنَحْنُ غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ عَنْ التَّلْبِيَةِ
كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي لاَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ
الْمُكَبِّرُ فَلاَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ
[الحديث 970- طرفه في :"1659]
971- حَدَّثَنَا محمد حدثنا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ
عَاصِمٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ "كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ
نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا حَتَّى
نُخْرِجَ الْحُيَّضَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ
وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ
"
قوله: "باب التكبير أيام منى" أي يوم العيد والثلاثة بعده، و قوله:
"وإذا غدا إلى عرفة" أي صبح يوم التاسع، قال الخطابي: حكمة التكبير في
هذه الأيام أن الجاهلية كانوا يذبحون لطواغيتهم فيها فشرع التكبير فيها إشارة إلى
(2/461)
تخصيص الذبح له وعلى اسمه عز وجل. قوله: "وكان عمر يكبر في قبته بمنى الخ" وصله سعيد بن منصور من رواية عبيد بن عمير قال: "كان عمر يكبر في قبته بمنى، ويكبر أهل المسجد ويكبر أهل السوق، حتى ترتج منى تكبيرا " ووصله أبو عبيد من وجه آخر بلفظ التعليق، ومن طريقه البيهقي. وقوله: "ترتج " بتثقيل الجيم أي تضطرب وتتحرك، وهي مبالغة في اجتماع رفع الأصوات. قوله: "وكان ابن عمر الخ" وصله ابن المنذر والفاكهي في " أخبار مكة " من طريق ابن جريج " أخبرني نافع أن ابن عمر " فذكره سواء. والفسطاط بضم الفاء ويجوز كسرها ويجوز ذلك بالمثناة بدل الطاء وبإدغامها في السين فتلك ست لغات، وقوله فيه: "وتلك الأيام جميعا " أراد بذلك التأكيد، ووقع في رواية أبي ذر بدون واو على أنها ظرف لما تقدم ذكره. قوله: "وكانت ميمونة" أي بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أقف على أثرها هذا موصولا. قوله: "وكان النساء" في رواية غير أبي ذر " وكن النساء " وهي على اللغة القليلة، وأبان المذكور هو ابن عثمان بن عفان، وكان أميرا على المدينة في زمن ابن عم أبيه عبد الملك بن مروان، وقد وصل هذا الأثر أبو بكر بن أبي الدنيا في " كتاب العيدين " وحديث أم عطية في الباب سلفهن في ذلك، وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير في تلك الأيام عقب الصلوات وغير ذلك من الأحوال. وفيه اختلاف بين العلماء في مواضع: فمنهم من قصر التكبير على أعقاب الصلوات، ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل، ومنهم من خصه بالرجال دون النساء، وبالجماعة دون المنفرد، وبالمؤداة دون المقضية، وبالمقيم دون المسافر، وبساكن المصر دون القرية. وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع، والآثار التي ذكرها تساعده. وللعلماء اختلاف أيضا في ابتدائه وانتهائه فقيل: من صبح يوم عرفة، وقيل من ظهره، وقيل من عصره، وقيل من صبح يوم النحر، وقيل من ظهره. وقيل في الانتهاء إلى ظهر يوم النحر، وقيل إلى عصره، وقيل إلى ظهر ثانيه، وقيل إلى صبح آخر أيام التشريق، وقيل إلى ظهره، وقيل إلى عصره. حكى هذه الأقوال كلها النووي إلا الثاني من الانتهاء. وقد رواه البيهقي عن أصحاب ابن مسعود ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود إنه من صبح يوم عرفة آخر أيام منى أخرجه ابن المنذر وغيره والله أعلم. وأما صيغة التكبير فأصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال: "كبروا الله، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر كبيرا " ونقل عن سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه جعفر الفريابي في " كتاب العيدين " من طريق يزيد بن أبي زياد عنهم وهو قول الشافعي وزاد: "ولله الحمد"، وقيل يكبر ثلاثا ويزيد " لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ"، وقيل يكبر ثنتين بعدهما " لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد " جاء ذلك عن عمر، وعن ابن مسعود نحوه وبه قال أحمد وإسحاق، وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها. قوله: "سألت أنسا" في رواية أبي ذر سألت أنس بن مالك. قوله: "ويكبر المكبر فلا ينكر عليه" هذا موضع الترجمة، وهو متعلق بقوله فيها " وإذا غدا إلى عرفة " وظاهره أن أنسا احتج به على جواز التكبير في موضع التلبية. ويحتمل أن يكون من كبر أضاف التكبير إلى التلبية، وسيأتي بسط الكلام عليه في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا محمد حدثنا عمر بن حفص" كذا في بعض النسخ عن أبي ذر وكذا لكريمة وأبي الوقت " حدثنا محمد " غير منسوب، وسقط من رواية ابن سبويه وابن السكن وأبي زيد المروزي وأبي أحمد الجرجاني، ووقع في رواية الأصيلي عن بعض مشايخه " حدثنا محمد البخاري " فعلى هذا لا واسطة بين البخاري وبين عمر بن حفص فيه، وقد حدث البخاري
(2/462)
عنه بالكثير بغير واسطة، وربما أدخل بينه وبينه الواسطة أحيانا، والراجح سقوط الواسطة بينهما في هذا الإسناد، وبذلك جزم أبو نعيم في المستخرج. ووقع في حاشية بعض النسخ لأبي ذر: محمد هذا يشبه أن يكون هو الذهلي فالله أعلم. وعاصم المذكور في الإسناد هو ابن سليمان، وحفصة هي بنت سيرين، وسيأتي الكلام على المتن بعد سبعة أبواب. سبق بعضه في كتاب الحيض. وموضع الترجمة منه قوله: "ويكبرن تكبيرهم " لأن ذلك في يوم العيد وهو من أيام منى، ويلتحق به بقية الأيام لجامع ما بينهما من كونهن أياما معدودات وقد ورد الأمر بالذكر فيهن. قوله: "كنا نؤمر" كذا في هذه، وسيأتي قريبا بلفظ: "أمرنا نبينا". قوله: "حتى نخرج" بضم النون وحتى للغاية، والتي بعدها للمبالغة. قوله: "من خدرها" بكسر المعجمة أي سترها. وفي رواية الكشميهني: "من خدرتها " بالتأنيث. وقوله في آخره: "وطهرته " بضم الطاء المهملة وسكون الهاء لغة في الطهارة، والمراد بها التطهر من الذنوب. قوله: "فيكبرن بتكبيرهم" ذكر التكبير في حديث أم عطية من هذا الوجه من غرائب الصحيح، وقد أخرجه مسلم أيضا.
(2/463)
13 - باب
الصَّلاَةِ إِلَى الْحَرْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ
972- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ
قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تُرْكَزُ الْحَرْبَةُ
قُدَّامَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ ثُمَّ يُصَلِّي "
قوله: "باب الصلاة إلى الحربة" زاد الكشمهيني " يوم العيد "
وقد تقدمت هذه الترجمة بهذا الحديث دون زيادة الكشميهني في أبواب السترة. عبد
الوهاب المذكور هنا هو ابن عبد المجيد الثقفي
(2/463)
14 - باب حَمْلِ
الْعَنَزَةِ أَوْ الْحَرْبَةِ بَيْنَ يَدَيْ الإِمَامِ يَوْمَ الْعِيدِ
973- حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا الوليد قال حدثنا أبو عمرو قال أخبرني
نافع عن بن عمر قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو إلى المصلى والعنزة
بين يديه تحمل وتنصب بالمصلي بين يديه فيصلي إليها "
قوله: "باب حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام" أورد فيه حديث ابن عمر
المذكور من وجه آخر، وكأنه أفرد له ترجمة ليشعر بمغايرة الحكم، لأن الأولى تبين أن
سترة المصلى لا يشترط فيها أن توارى جسده، والثانية تثبت مشروعية المشي بين يدي
الإمام بآلة من السلاح، ولا يعارض ذلك ما تقدم من النهي عن حمل السلاح يوم العيد
لأن ذلك إنما هو عند خشية التأذي كما تقدم قريبا. والوليد المذكور هنا هو ابن
مسلم، وقد صرح بتحديث الأوزاعي له وبتحديث نافع للأوزاعي فأمن تدليس الوليد
وتسويته، وليس للأوزاعي عن نافع عن ابن عمر موصولا في الصحيح غير هذا الحديث، أشار
إلى ذلك الحميدي وقد تقدم الكلام على المتن في " باب سترة الإمام "
مستوفي بحمد الله تعالى.
(2/463)
15 - باب خُرُوجِ
النِّسَاءِ وَالْحُيَّضِ إِلَى الْمُصَلَّى
974- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ
"أَمَرَنَا
(2/463)
16 - باب خُرُوجِ
الصِّبْيَانِ إِلَى الْمُصَلَّى
975- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ
عَبَّاسٍ قَالَ "خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ
فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ "
قوله: "باب خروج الصبيان إلى المصلى" أي في الأعياد، وإن لم يصلوا. قال
الزين بن المنير: آثر المصنف في الترجمة قوله: "إلى المصلى " على قوله
صلاة العيد ليعم من يتأتى منه الصلاة ومن لا يتأتى. قوله: "عن عبد الرحمن ابن
عباس" بموحدة مكسورة ثم مهملة، وصرح يحيى القطان عن الثوري بأن عبد الرحمن
المذكور حدثه كما سيأتي بعد باب. قوله: "خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم
يوم فطر أو أضحى" ليس في هذا السياق بيان كونه كان صبيا حينئذ ليطابق
الترجمة، لكن جرى المصنف على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الذي
يورده، فسيأتي بعد باب بلفظ: "ولولا مكاني من الصغر ما شهدته " ويأتي
بقية الكلام عليه في الباب المذكور إن شاء الله تعالى. وقوله: "يوم فطر أو
أضحى " شك من الراوي عن ابن عباس، وسيأتي بعد بابين من وجه آخر عن ابن عباس
الجزم بأنه يوم الفطر.
(2/464)
17 - باب
اسْتِقْبَالِ الإِمَامِ النَّاسَ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُقَابِلَ النَّاسِ
976- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ
زُبَيْدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أَضْحًى إِلَى الْبَقِيعِ فَصَلَّى
رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَقَالَ إِنَّ أَوَّلَ
نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَبْدَأَ بِالصَّلاَةِ ثُمَّ نَرْجِعَ
فَنَنْحَرَ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقَ سُنَّتَنَا وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ
ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي
شَيْءٍ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ذَبَحْتُ وَعِنْدِي
جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ قَالَ اذْبَحْهَا وَلاَ تَفِي عَنْ أَحَدٍ
بَعْدَكَ "
قوله: "باب استقبال الإمام الناس في خطبة العيد" قال الزين بن المنير ما
حاصله: إن إعادة هذه الترجمة بعد أن تقدم نظيرها في الجمعة لرفع احتمال من يتوهم
أن العيد يخالف الجمعة في ذلك، وأن استقبال الإمام في الجمعة يكون ضروريا لكونه
يخطب على المنبر، بخلاف العيد فإنه يخطب فيه على رجليه كما تقدم في " باب
خطبة العيد"، فأراد أن يبين أن الاستقبال سنة على كل حال. قوله: "قال
أبو سعيد: قام النبي صلى الله عليه وسلم مقابل الناس" هو طرف من حديث وصله
المصنف في " باب الخروج إلى المصلى " وقد تقدم قبل عشرة أبواب بلفظ:
"ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس " وفي رواية مسلم: "قام فأقبل على الناس
" الحديث. قوله في حديث البراء "فإنه شيء عجله لأهله" في رواية
المستملى " فإنما هو شيء " وقوله فيه: "ولا تفي عن أحد بعدك "
كذا للمستملي والحموي بفاء، وللكشميهني والباقين " ولا تغني " بالغين
المعجمة والنون وضم أوله، والمعنى متقارب. وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب
الأضاحي إن شاء الله تعالى. وموضع الترجمة منه قوله: "ثم أقبل علينا
بوجهه".
(2/465)
باب العلم الذي
للمصلي
...
18 - باب الْعَلَمِ الَّذِي بِالْمُصَلَّى
977- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ
عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "نَعَمْ وَلَوْلاَ مَكَانِي مِنْ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ
حَتَّى أَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ فَصَلَّى
ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَوَعَظَهُنَّ
وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ
بِأَيْدِيهِنَّ يَقْذِفْنَهُ فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَبِلاَلٌ
إِلَى بَيْتِهِ "
قوله: "باب العلم الذي بالمصلى" تقدم في " باب الخروج إلى المصلى
بغير منبر " التعريف بمكان المصلى، وأن تعريفه بكونه عند دار كثير بن الصلت
على سبيل التقريب للسامع، وإلا فدار كثير بن الصلت محدثة بعد النبي صلى الله عليه
وسلم. وظهر من هذا الحديث أنهم جعلوا لمصلاه شيئا يعرف به وهو المراد بالعلم، وهو
بفتحتين: الشيء الشاخص. قوله: "ولولا مكاني من الصغر ما شهدته" أي
حضرته، وهذا مفسر للمراد من قوله في " باب وضوء الصبيان ": ولولا مكاني
منه ما شهدته، فدل هذا على أن الضمير في قوله: "منه " يعود على غير
مذكور وهو الصغر، ومشى بعضهم
(2/465)
على ظاهر ذلك السياق فقال: إن الضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى ولولا منزلتي من النبي صلى الله عليه وسلم ما شهدت معه العيد، وهو متجه لكن هذا السياق يخالفه، وفيه نظر لأن الغالب أن الصغر في مثل هذا يكون مانعا لا مقتضيا، فلعل فيه تقديما وتأخيرا، ويكون قوله من الصغر متعلقا بما بعده فيكون المعنى لولا منزلتي من النبي صلى الله عليه وسلم ما حضرت لأجل صغري، ويمكن حمله على ظاهره وأراد: بشهود ما وقع من وعظه للنساء، لأن الصغر يقتضي أن يغتفر له الحضور معهن بخلاف الكبر، قال ابن بطال: خروج الصبيان للمصلى إنما هو إذا كان الصبي ممن يضبط نفسه عن اللعب ويعقل الصلاة ويتحفظ مما يفسدها، ألا ترى إلى ضبط ابن عباس القصة ا هـ. وفيه نظر لأن مشروعية إخراج الصبيان إلى المصلى إنما هو للتبرك وإظهار شعار الإسلام بكثرة من يحضر منهم، ولذلك شرع للحيض كما سيأتي، فهو شامل لمن تقع منهم الصلاة أو لا. وعلى هذا إنما يحتاج أن يكون مع الصبيان من يضبطهم عما ذكر من اللعب ونحوه سواء صلوا أم لا. وأما ضبط ابن عباس القصة فلعله كان لفرط ذكائه، والله أعلم. قوله: "حتى أتى العلم" كذا وقع في هذه الرواية ذكر الغاية بغير ابتداء، والمعنى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شهدت الخروج معه حتى أتى، وكأنه حذف لدلالة السياق عليه. قوله: "ثم أتى النساء" يشعر بأن النساء كن على حدة من الرجال غير مختلطات بهم. قوله: "ومعه بلال" فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهد ونحوه، لأن بلالا كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم ومتولي قبض الصدقة، وأما ابن عباس فقد تقدم أن ذلك اغتفر له بسبب صغره. قوله: "يهوين" بضم أوله أي يلقين، و قوله: "يقذفنه" أي يلقين الذي يهوين به، وقد فسره في الباب الذي يليه من طريق أخرى من حديث ابن عباس أيضا وسياقه أتم. "تنبيه": وقع في رواية أبي علي الكشاني عقب هذا الحديث قال محمد بن كثير: العلم. انتهى. وقد وصل المؤلف طريق ابن كثير هذا في كتاب الاعتصام فقال: "حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان " فذكره. ولما أخرج البيهقي طريق ابن كثير هذا في العيدين قال: أخرجه البخاري فقال: وقال ابن كثير، فكأنه أشار إلى هذه الرواية ولم يستحضر الطريق التي في الاعتصام.
(2/466)
باب موعضة الإمام
النساء يوم العيد
...
19 - باب مَوْعِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ يَوْمَ الْعِيدِ
978- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَصَلَّى فَبَدَأَ بِالصَّلاَةِ
ثُمَّ خَطَبَ فَلَمَّا فَرَغَ نَزَلَ فَأَتَى النِّسَاءَ فَذَكَّرَهُنَّ وَهُوَ
يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلاَلٍ وَبِلاَلٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ يُلْقِي فِيهِ
النِّسَاءُ الصَّدَقَةَ قُلْتُ لِعَطَاءٍ زَكَاةَ يَوْمِ الْفِطْرِ قَالَ لاَ
وَلَكِنْ صَدَقَةً يَتَصَدَّقْنَ حِينَئِذٍ تُلْقِي فَتَخَهَا وَيُلْقِينَ قُلْتُ
أَتُرَى حَقًّا عَلَى الإِمَامِ ذَلِكَ وَيُذَكِّرُهُنَّ قَالَ إِنَّهُ لَحَقٌّ
عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَهُ
979- قال بن جريج وأخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس عن بن عباس رضي الله عنهما قال ثم
شهدت الفطر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم
يصلونها قبل الخطبة ثم يخطب بعد خرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين
يجلس بيده ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء معه بلال فقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
إِذَا
(2/466)
جَاءَكَ
الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} الآية ثم قال حين فرغ منها آنتن على ذلك قالت امرأة
واحدة منهن لم يجبه غيرها نعم لا يدري حسن من هي قال فتصدقن فبسط بلال ثوبه ثم قال
هلم لكن فداء أبي وأمي فيلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال قال عبد الرزاق الفتخ
الخواتيم العظام كانت في الجاهلية
قوله: "باب موعظة الإمام النساء يوم العيد" أي إذا لم يسمعن الخطبة مع
الرجال. قوله: "حدثني إسحاق بن إبراهيم بن نصر" نسب في رواية الأصيلي
إلى جده فقال إسحاق بن نصر. قوله: "ثم خطب، فلما فرغ نزل" فيه إشعار
بأنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على مكان مرتفع لما يقتضيه قوله: "نزل
" وقد تقدم في " باب الخروج إلى المصلى " أنه صلى الله عليه وسلم
كان يخطب في المصلى على الأرض، فلعل الراوي ضمن النزول معنى الانتقال. وزعم عياض
أن وعظه للنساء كان في أثناء الخطبة وأن ذلك كان في أول الإسلام وأنه خاص به صلى
الله عليه وسلم، وتعقبه النووي بهذه المصرحة بأن ذلك كان بعد الخطبة وهو قوله:
"فلما فرغ نزل فأتى النساء " والخصائص لا تثبت بالاحتمال. قوله:
"قلت لعطاء" القائل هو ابن جريج، وهو موصول بالإسناد المذكور، وقد تقدم
الحديث من وجه آخر عن ابن جريج في " باب المشي " بدون هذه الزيادة. ودل
هذا السؤال على أن ابن جريج فهم من قوله: "الصدقة " أنها صدقة الفطر
بقرينة كونها يوم الفطر وأخذ من قوله: "وبلال باسط ثوبه " لأنه يشعر بأن
الذي يلقى فيه بشيء يحتاج إلى ضم فهو لائق بصدقة الفطر المقدرة بالكيل، لكن بين له
عطاء أنها كانت صدقة تطوع، وأنها كانت مما لا يجزئ في صدقة الفطر من خاتم ونحوه.
قوله: "تلقى" أي المرأة، والمراد جنس النساء، ولذلك عطف عليه بصيغة
الجمع فقال: "ويلقين " أو المعنى تلقى الواحدة، وكذلك الباقيات يلقين.
قوله: "فتخها" بفتح الفاء والمثناة من فوق وبالخاء المعجمة كذا للأكثر،
وللمستملي والحموي " فتخها " بالتأنيث، وسيأتي تفسيره قريبا، وحذف مفعول
يلقين اكتفاء، وكرر الفعل المذكور في رواية مسلم إشارة إلى التنويع، وسيأتي في
حديث ابن عباس بلفظ: "فيلقين الفتخ والخواتم". قوله: "قلت"
القائل أيضا ابن جريج، والمسئول عطاء. وقوله: "أنه لحق عليهم " ظاهره أن
عطاء كان يرى وجوب ذلك، ولهذا قال عياض: لم يقل بذلك غيره. أما النووي فحمله على
الاستحباب. وقال: لا مانع من القول به، إذا لم يترتب على ذلك مفسدة. قوله:
"قال ابن جريج وأخبرني الحسن بن مسلم" هو معطوف على الإسناد الأول وقد
أفرد مسلم الحديث من طريق عبد الرزاق، وساق الثاني قبل الأول فقدم حديث ابن عباس
على حديث جابر، وقد تقدم من وجه آخر عن ابن جريج مختصرا في " باب
الخطبة". قوله: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم" كذا فيه بغير أداة
عطف، وسيأتي في " باب تفسير الممتحنة " من وجه آخر عن ابن جريج بلفظ:
"فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم"، وكذا لمسلم من طريق عبد الرزاق
هذه، وقوله: "ثم يخطب " بضم أوله على البناء للمجهول. قوله: "حين
يجلس" بتشديد اللام المكسورة، وحذف مفعوله، وهو ثابت في رواية مسلم بلفظ:
"يجلس الرجال بيده"، وكأنهم لما انتقل عن مكان خطبته أرادوا الانصراف
فأمرهم بالجلوس حتى يفرغ من حاجته ثم ينصرفوا جميعا، أو لعلهم أرادوا أن يتبعوه
فمنعهم فيقوى البحث الماضي في آخر الباب الذي قبله. قوله: "فقالت امرأة واحدة
منهن لم يجبه غيرها: نعم" زاد مسلم: "يا نبي الله " وفيه دلالة على
الاكتفاء في الجواب بنعم وتنزيلها منزلة الإقرار، وأن جواب الواحد عن الجماعة كاف
إذا لم ينكروا ولم يمنع مانع من إنكارهم. قوله: "لا يدري حسن من هي" حسن
هو الراوي له عن طاوس
(2/467)
ووقع في مسلم وحده
" لا يدري حينئذ " وجزم جمع من الحفاظ بأنه تصحيف، ووجهه النووي بأمر محتمل
لكن اتحاد المخرج دال على ترجيح رواية الجماعة ولا سيما وجود هذا الموضع في مصنف
عبد الرزاق الذي أخرجناه صلى الله عليه وسلم من طريقه في البخاري موافقا لرواية
الجماعة. والفرق بين الروايتين أن في رواية الجماعة تعيين الذي لم يدر من المرأة،
بخلاف رواية مسلم. ولم أقف على تسمية هذه المرأة، إلا أنه يختلج في خاطري أنها
أسماء بنت يزيد ابن السكن التي تعرف بخطيبة النساء، فإنها روت أصل هذه القصة في
حديث أخرجه البيهقي والطبراني وغيرهما من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى النساء وأنا معهن فقال: يا معشر
النساء إنكن أكثر حطب جهنم. فناديت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت عليه جريئة:
لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن "، وتكفرن العشير " الحديث،
فلا يبعد أن تكون هي التي أجابته أولا بنعم، فإن القصة واحدة، فلعل بعض الرواة ذكر
ما لم يذكره الآخر كما في نظائره والله أعلم. وقد روى الطبراني من وجه آخر عن أم
سلمة الأنصارية - وهي أسماء المذكورة - أنها كانت في النسوة اللاتي أخذ عليهن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما أخذ الحديث، ولابن سعد من حديثها " أخذ علينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق. الآية". قوله:
"قال فتصدقن" هو فعل أمر لهن بالصدقة والفاء سببية أو داخلة على جواب
شرط محذوف تقديره إن كنتن على ذلك فتصدقن، ومناسبته للآية من قوله: "ولا
يعصينك في معروف " فإن ذلك من جملة المعروف الذي أمرن به. قوله: "ثم قال
هلم" القائل هو بلال، وهو على اللغة الفصحى في التعبير بها للمفرد والجمع.
قوله: "لكن" بضم الكاف وتشديد النون، وقوله: "فدا " بكسر
الفاء والقصر. قوله: "قال عبد الرزاق: الفتخ الخواتيم العظام كانت في
الجاهلية" لم يذكر عبد الرزاق في أي شيء كانت تلبس، وقد ذكر ثعلب أنهن
يلبسنها في أصابع الأرجل ا هـ. ولهذا عطف عليها الخواتيم لأنها عند الإطلاق تنصرف
إلى ما يلبس في الأيدي، وقد وقع في بعض طرقه عند مسلم هنا ذكر الخلاخيل، وحكى عن
الأصمعي أن الفتخ الخواتيم التي لا فصوص لها، فعلى هذا هو من عطف الأعم على الأخص.
وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام
وتذكيرهن بما يجب عليهن، ويستحب حثهن على الصدقة وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد،
ومحل ذلك كله إذا أمن الفتنة والمفسدة. وفيه خروج النساء إلى المصلى كما سيأتي في
الباب الذي بعده. وفيه جواز التفدية بالأب والأم، وملاطفة العامل على الصدقة بمن
يدفعها إليه. واستدل به على جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها
أو على مقدار معين من مالها كالثلث خلافا لبعض المالكية ووجه الدلالة من القصة ترك
الاستفصال عن ذلك كله. قال القرطبي: ولا يقال في هذا إن أزواجهن كانوا حضورا لأن
ذلك لم ينقل ولو نقل فليس فيه تسليم أزواجهن لهن ذلك لأن من ثبت له الحق فالأصل
بقاؤه حتى يصرح بإسقاطه ولم ينقل أن القوم صرحوا بذلك ا هـ: وأما كونه من الثلث
فما دونه فإن ثبت أنهن لا يجوز لهن التصرف فيما زاد على الثلث لم يكن في هذه القصة
ما يدل على جواز الزيادة، وفيه أن الصدقة من دوافع العذاب لأنه أمرهن بالصدقة ثم
علل بأنهن أكثر أهل النار لما يقع منهن من كفران النعم وغير ذلك كما تقدم في كتاب
الحيض من حديث أبي سعيد. ووقع نحوه عند مسلم من وجه آخر في حديث جابر، وعند
البيهقي من حديث أسماء بنت يزيد كما تقدمت الإشارة إليه. وفيه بذل النصيحة
والإغلاظ بها لمن احتيج في حقه إلى ذلك، والعناية بذكر ما يحتاج إليه لتلاوة آية
ـــــــ
(1)في المخطوطة" أخرجاه"
(2/468)
الممتحنة لكونها خاصة بالنساء. وفيه جواز طلب الصدقة من الأغنياء للمحتاجين ولو كان الطالب غير محتاج، وأخذ منه الصوفية جواز ما اصطلحوا عليه من الطلب، ولا يخفى ما يشترط فيه من أن المطلوب له أيكون غير قادر على التكسب مطلقا أو لما لا بد له منه. وفي مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يعز عليهن من حليهن مع ضيق الحال في ذلك الوقت دلالة على رفيع مقامهن في الدين وحرصهن على امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن، وقد تقدمت بقية فوائد هذا الحديث في كتاب الحيض.
(2/469)
20 - باب إِذَا
لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ فِي الْعِيدِ
980- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ قَالَتْ كُنَّا نَمْنَعُ
جَوَارِيَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ يَوْمَ الْعِيدِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ
قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فَأَتَيْتُهَا فَحَدَّثَتْ أَنَّ زَوْجَ أُخْتِهَا غَزَا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً
فَكَانَتْ أُخْتُهَا مَعَهُ فِي سِتِّ غَزَوَاتٍ فَقَالَتْ فَكُنَّا نَقُومُ عَلَى
الْمَرْضَى وَنُدَاوِي الْكَلْمَى فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَى
إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لاَ تَخْرُجَ فَقَالَ
لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا فَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ
وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ حَفْصَةُ فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ
أَتَيْتُهَا فَسَأَلْتُهَا أَسَمِعْتِ فِي كَذَا وَكَذَا قَالَتْ نَعَمْ بِأَبِي
وَقَلَّمَا ذَكَرَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ قَالَتْ
بِأَبِي قَالَ لِيَخْرُجْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوْ قَالَ
الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ شَكَّ أَيُّوبُ وَالْحُيَّضُ وَيَعْتَزِلُ
الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ
قَالَتْ فَقُلْتُ لَهَا الْحُيَّضُ قَالَتْ نَعَمْ أَلَيْسَ الْحَائِضُ تَشْهَدُ
عَرَفَاتٍ وَتَشْهَدُ كَذَا وَتَشْهَدُ كَذَا ؟"
قوله: "باب إذا لم يكن لها جلباب" بكسر الجيم وسكون اللام وموحدتين،
تقدم تفسيره في كتاب الحيض في " باب شهود الحائض العيدين " قال الزين بن
المنير: لم يذكر جواب الشرط في الترجمة حوالة على ما ورد في الخبر ا هـ. والذي
يظهر لي أنه حذفه لما فيه من الاحتمال، فقد تقدم في الباب المذكور أنه يحتمل أن
يكون للجنس، أي تعيرها من جنس ثيابها، ويؤيده رواية ابن خزيمة: "من جلابيبها
" وللترمذي " فلتعرها أختها من جلابيبها " والمراد بالأخت الصاحبة،
ويحتمل أن يكون المراد تشركها معها في ثوبها، ويؤيده رواية أبي داود " تلبسها
صاحبتها طائفة من ثوبها " يعني إذا كان واسعا، ويحتمل أن يكون المراد بقوله:
"ثوبها " جنس الثياب فيرجع للأول. ويؤخذ منه جواز اشتمال المرأتين في
ثوب واحد عند التستر، وقيل: إنه ذكر على سبيل المبالغة، أي يخرجن على كل حال ولو
اثنتين في جلباب. قوله: "قالت نعم بأبا" بموحدتين بينهما همزة مفتوحة
والثانية خفيفة. وفي رواية كريمة وأبي الوقت " بأبي " بكسر الثانية على
الأصل، أي أفديه بأبي، وقد تقدم في الباب المذكور بلفظ: "بيبى " بإبدال
الهمزة ياء تحتانية، ووقع عند أحمد من طريق حفصة عن أم عطية قالت: "أمرنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي". قوله: "لتخرج العواتق ذوات
الخدور" كذا للأكثر على أنه صفته وللكشميهني "أو قال: العواتق وذوات
الخدور، شك أيوب" يعني هل هو بواو العطف أو لا، وقد تقدم نحوه في الباب
المذكور. قوله: "فقلت لها" القائلة المرأة
(2/20)
21 - باب
اعْتِزَالِ الْحُيَّضِ الْمُصَلَّى
981- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ
عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ " أُمِرْنَا
أَنْ نَخْرُجَ فَنُخْرِجَ الْحُيَّضَ وَالْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ قَالَ
ابْنُ عَوْنٍ أَوْ الْعَوَاتِقَ ذَوَاتِ الْخُدُورِ فَأَمَّا الْحُيَّضُ
فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ وَيَعْتَزِلْنَ مُصَلاَهُمْ
"
قوله: "باب اعتزال الحيض المصلى" مضمون هذه الترجمة بعض ما تضمنه الحديث
الذي في الباب الماضي، وكأنه أعاد هذا الحكم للاهتمام به، وقد تقدم مضموما إلى
الباب المذكور في كتاب الحيض. قوله: "عن ابن عون" هو عبد الله، ومحمد هو
ابن سيرين، وقد شك ابن عون في العواتق كما شك أيوب في الذي قبله، ووقع في رواية
منصور بن زاذان عن ابن سيرين عند الترمذي " تخرج الأبكار والعواتق وذوات
الخدور". وفي هذا الحديث من الفوائد جواز مداواة المرأة للرجال الأجانب إذا
كانت بإحضار الدواء مثلا والمعالجة بغير مباشرة، إلا إن احتيج إليها عند أمن
الفتنة. وفيه أن من شأن العواتق والمخدرات عدم البروز إلا فيما أذن لهن فيه. وفيه
استحباب إعداد الجلباب للمرأة، ومشروعية عارية الثياب. واستدل به على وجوب صلاة
العيد، وفيه نظر لأن من جملة من أمر بذلك من ليس بمكلف، فظهر أن القصد منه إظهار
شعار الإسلام بالمبالغة في الاجتماع ولتعم الجميع البركة، والله أعلم. وفيه
استحباب خروج النساء إلى شهود العيدين سواء كن شواب أم لا وذوات هيآت أم لا، وقد
اختلف فيه السلف، ونقل عياض وجوبه عن أبي بكر وعلي وابن عمر، والذي وقع لنا عن أبي
بكر وعلي ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنهما فالأحق على كل ذات نطاق الخروج إلى
العيدين، وقد ورد هذا مرفوعا بإسناد لا بأس به أخرجه أحمد وأبو يعلى وابن المنذر
من طريق امرأة من عبد القيس عن أخت عبد الله بن رواحة به والمرأة لم تسم، والأخت
اسمها عمرة صحابية. وقوله: "حق " يحتمل الوجوب ويحتمل تأكد الاستحباب،
روى ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عمر أنه كان يخرج إلى العيدين من استطاع من أهله،
وهذا ليس صريحا في الوجوب أيضا، بل قد روى عن ابن عمر المنع فيحتمل أن يحمل على
حالين، ومنهم من حمله على الندب وجزم بذلك الجرجاني من الشافعية وابن حامد من الحنابلة،
ولكن نص الشافعي في الأم يقتضي استثناء ذوات الهيآت قال: وأحب شهود العجائز وغير
ذوات الهيئة الصلاة، وإنا لشهودهن الأعياد أشد استحبابا. وقد سقطت واو العطف من
رواية المزني في المختصر فصارت غير ذوات الهيئة صفة للعجائز فمشى على ذلك صاحب
النهاية ومن تبعه وفيه ما فيه، بل قد روى البيهقي في المعرفة عن الربيع قال قال
الشافعي: قد روى حديث فيه أن النساء يتركن إلى العيدين، فإن كان ثابتا قلت به، قال
البيهقي: قد ثبت وأخرجه الشيخان - يعني حديث
(2/470)
أم عطية هذا - فيلزم الشافعية القول به، ونقله ابن الرفعة عن البندنيجي وقال: إنه ظاهر كلام التنبيه، وقد ادعى بعضهم النسخ فيه، قال الطحاوي: وأمره عليه السلام بخروج الحيض وذوات الخدور إلى العيد يحتمل أن يكون في أول الإسلام والمسلمون قليل فأريد التكثير بحضورهن إرهابا للعدو، وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك. وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. قال الكرماني: تاريخ الوقت لا يعرف قلت: بل هو معروف بدلالة حديث ابن عباس أنه شهده وهو صغير وكان ذلك بعد فتح مكة فلم يتم مراد الطحاوي، وقد صرح في حديث أم عطية بعلة الحكم وهو شهودهن الخير ودعوة المسلمين ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أم عطية بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة كما في هذا الحديث ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك، وأما قول عائشة " لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد " فلا يعارض ذلك لندوره إن سلمنا أن فيه دلالة على أنها أفتت بخلافه، مع أن الدلالة منه بأن عائشة أفتت بالمنع ليست صريحة. وفي قوله: "إرهابا للعدو " نظر لأن الاستنصار بالنساء والتكثر بهن في الحرب دال على الضعف، والأولى أن يخص ذلك بمن يؤمن عليها وبها الفتنة ولا يترتب على حضورها محذور ولا تزاحم الرجال في الطرق ولا في المجامع، وقد تقدمت بقية فوائد هذا الحديث في الباب المشار إليه من كتاب الحيض.
(2/471)
22 - باب النَّحْرِ
وَالذَّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْمُصَلَّى
982- حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا الليث قال حدثني كثير بن فرقد عن نافع عن
بن عمر ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينحر أو يذبح بالمصلى "
[الحديث982-أطرافه في: 5552.5551.1711.1710]
قوله: "باب النحر والذبح بالمصلى يوم النحر" أورد فيه حديث ابن عمر في
ذلك، قال الزين بن المنير: عطف الذبح على النحر في الترجمة وإن كان حديث الباب ورد
بأو المقتضية للتردد إشارة إلى أنه لا يمتنع أن يجمع يوم النحر بين نسكين أحدهما
مما ينحر والآخر مما يذبح، وليفهم اشتراكهما في الحكم انتهى. ويحتمل أن يكون أشار
إلى أنه ورد في بعض طرقه بواو الجمع كما سيأتي في كتاب الأضاحي، ويأتي الكلام هناك
على فوائده إن شاء الله تعالى.
(2/471)
23 - باب كَلاَمِ
الإِمَامِ وَالنَّاسِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ
وَإِذَا سُئِلَ الإِمَامُ عَنْ شَيْءٍ وَهُوَ يَخْطُبُ
983- حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا منصور عن الشعبي عن البراء بن
عازب ثم قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة فقال من صلى
صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم فقام أبو بردة
بن نيار فقال يا رسول الله والله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة وعرفت أن اليوم
يوم أكل وشرب فتعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
تلك شاة لحم قال فإن عندي عناق جذعة هي خير من شاتي لحم فهل تجزي عني قال نعم ولن
تجزي عن أحد بعدك "
984- حدثنا حامد بن عمر عن حماد بن زيد عن أيوب عن محمد أن أنس بن مالك قال ثم إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم النحر ثم خطب فأمر من ذبح قبل الصلاة أن
يعيد ذبحه فقام رجل من الأنصار فقال يا رسول الله جيران لي إما قال بهم خصاصة وإما
قال فقر وإني ذبحت قبل الصلاة وعندي عناق لي
(2/471)
24- باب مَنْ
خَالَفَ الطَّرِيقَ إِذَا رَجَعَ يَوْمَ الْعِيدِ
986- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنُ
وَاضِحٍ عَنْ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ
"
تَابَعَهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ فُلَيْحٍ وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَصَحُّ
قوله: "باب من خالف الطريق" أي التي توجه منها إلى المصلى. قوله:
"حدثنا محمد" كذا للأكثر غير منسوب وفي رواية أبي علي بن السكن حدثنا
محمد بن سلام، وكذا للحفصي وجزم به الكلاباذي وغيره، وفي نسخة من أطراف خلف أنه
وجد في حاشية أنه محمد بن مقاتل. انتهى. وكذا هو في رواية أبي علي بن شبويه،
والأول هو المعتمد، وقد رواه عن أبي تميلة أيضا - ممن اسمه محمد - محمد بن حميد
الرازي لكنه خالف في اسم صحابيه كما سيأتي، وليس هو ممن خرج عنهم البخاري في
صحيحه، وأبو تميلة بالمثناة مصغرا مروزي قيل إن البخاري ذكره في الضعفاء لكن لم
يوجد ذلك في التصنيف المذكور قاله الذهبي، ثم إنه لم ينفرد به كما سيأتي. نعم تفرد
به شيخه فليح وهو مضعف عند ابن معين والنسائي وأبي داود ووثقه آخرون فحديثه من
قبيل الحسن، لكن له شواهد من حديث ابن عمر وسعد القرظ وأبي رافع وعثمان بن عبيد الله
التيمي وغيرهم يعضد بعضها بعضا، فعلى هذا هو من القسم الثاني من قسمي الصحيح.
قوله: "عن سعيد بن الحارث" هو ابن أبي سعيد بن المعلى الأنصاري. قوله:
"إذا كان يوم عيد خالف الطريق" كان تامة، أي إذا وقع. وفي رواية
الإسماعيلي: "كان إذا خرج إلى العيد رجع من غير الطريق الذي ذهب فيه:
"قال الترمذي: أخذ بهذا بعض أهل العلم فاستحبه للإمام، وبه يقول الشافعي.
انتهى. والذي في " الأم " أنه يستحب للإمام والمأموم، وبه قال أكثر
الشافعية. وقال الرافعي: لم يتعرض في الوجيز إلا للإمام ا هـ.
(2/472)
وبالتعميم قال أكثر أهل العلم، ومنهم من قال إن علم المعنى وبقيت العلة بقي الحكم وإلا انتفى بانتفائها، وإن لم يعلم المعنى بقي الاقتداء. وقال الأكثر يبقى الحكم ولو انتفت العلة للاقتداء كما في الرملي وغيره، وقد اختلف في معنى ذلك على أقوال كثيرة اجتمع لي منها أكثر من عشرين، وقد لخصتها وبينت الواهي منها، قال القاضي عبد الوهاب المالكي: ذكر في ذلك فوائد بعضها قريب وأكثرها دعاوى فارغة. انتهى. فمن ذلك أنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان وقيل سكانهما من الجن والإنس، وقيل ليسوى بينهما في مزية الفضل بمروره أو في التبرك به أو ليشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها لأنه كان معروفا بذلك، وقيل لأن طريقه للمصلى كانت على اليمين فلو رجع منها لرجع على جهة الشمال فرجع من غيرها وهذا يحتاج إلى دليل، وقيل لإظهار شعار الإسلام فيهما، وقيل لإظهار ذكر الله، وقيل ليغيظ المنافقين أو اليهود، وقيل ليرهبهم بكثرة من معه ورجحه ابن بطال، وقيل حذرا من كيد الطائفتين أو إحداهما، وفيه نظر لأنه لو كان كذلك لم يكرره قاله ابن التين، وتعقب بأنه لا يلزم من مواظبته على مخالفة الطريق المواظبة على طريق منها معين، لكن في رواية الشافعي من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الأعظم ويرجع من الطريق الأخرى " وهذا لو ثبت لقوى بحث ابن التين، وقيل فعل ذلك ليعمهم في السرور به أو التبرك بمروره وبرؤيته والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء أو التعلم والاقتداء والاسترشاد أو الصدقة أو السلام عليهم وغير ذلك، وقيل ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل ليصل رحمه، وقيل ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة والرضا، وقيل كان في ذهابه يتصدق فإذا رجع لم يبق معه شيء فيرجع في طريق أخرى لئلا يرد من يسأله وهذا ضعيف جدا مع احتياجه إلى الدليل، وقيل فعل ذلك لتخفيف الزحام وهذا رجحه الشيخ أبو حامد وأيده المحب الطبري بما رواه البيهقي في حديث ابن عمر فقال فيه ليسع الناس، وتعقب بأنه ضعيف وبأن قوله ليسع الناس يحتمل أن يفسر ببركته وفضله وهذا الذي رجحه ابن التين، وقيل كان طريقه التي يتوجه منها أبعد من التي فيها فأراد تكثير الأجر بتكثير الخطأ في الذهاب وأما في الرجوع فليسرع إلى منزله وهذا اختيار الرافعي، وتعقب بأنه يحتاج إلى دليل وبأن أجر الخطأ يكتب في الرجوع أيضا كما ثبت في حديث أبي بن كعب عند الترمذي وغيره، فلو عكس ما قال لكان له اتجاه ويكون سلوك الطريق القريب للمبادرة إلى فعل الطاعة وإدراك فضيلة أول الوقت، وقيل لأن الملائكة تقف في الطرقات فأراد أن يشهد له فريقان منهم. وقال ابن أبي جمرة: هو في معنى قول يعقوب لبنيه "لا تدخلوا من باب واحد" فأشار إلى أنه فعل ذلك حذر إصابة العين وأشار صاحب الهدي إلى أنه فعل ذلك لجميع ما ذكر من الأشياء المحتملة القريبة والله أعلم. قوله: "تابعه يونس بن محمد عن فليح وحديث جابر أصح" كذا عند جمهور رواة البخاري عن طريق الفربري، وهو مشكل لأن قوله: "أصح " يباين قوله: "تابعه " إذ لو تابعه لساواه فكيف تتجه الأصحية الدالة على عدم المساواة. وذكر أبو علي الجياني أنه سقط قوله: "وحديث جابر أصح " من رواية إبراهيم ابن معقل النسفي عن البخاري فلا إشكال فيها قال: ووقع في رواية ابن السكن " تابعه يونس بن محمد عن فليح عن سعيد عن أبي هريرة " وفي هذا توجيه قوله أصح، ويبقي الإشكال في قوله تابعه فإنه لم يتابعه بل خالفه، وقد أزال هذا الأشكال أبو نعيم في المستخرج فقال: "أخرجه البخاري عن محمد عن أبي تميلة وقال: تابعه يونس بن محمد عن فليح. وقال محمد بن الصلت: عن فليح عن سعيد عن أبي هريرة، وحديث جابر أصح". وبهذا جزم أبو مسعود في الأطراف، وكذا أشار إليه البرقاني. وقال البيهقي:
(2/473)
إنه وقع كذلك في بعض النسخ وكأنها رواية حماد بن شاكر عن الب ثم راجعت رواية النسفي فلم يذكر قوله وحديث جابر من الإشكال وهو مقتضى قول الترمذي رواه أبو تميلة ويونس بن محمد عن فليح عن سعيد عن جابر فعلى هذا يكون سقط من رواية الفربري قوله وقال محمد بن الصلت عن فليح فقط وبقي ما عدا ذلك هذا على رواية أبي على بن الموطأ وقد وقع كذلك في نسختى من رواية أبي ذر عن مشايخه وأما على رواية الباقين فيكون سقط إسناد محمد بن الصلت كله وقال أبو على الصدفي في حاشية نسخته التي بخطه من البخاري لا يظهر معناه من ظاهر الكتاب وإنما هي إشارة إلى أن أبا تميلة ويونس المتابع له خولفا في سند الحديث وروايتهما أصح ومخالفهما وهو محمد بن الصلت رواه عن فليح شيخهما فخالفهما في صحابيه فقال عن أبي هريرة قلت فيكون معنى قوله وحديث جابر أصح أي من حديث من قال فيه عن أبي هريرة وقد اعترض أبو مسعود في الأطراف على قوله تابعه يونس اعتراضا آخر فقال إنما رواه يونس بن محمد عن فليح عن سعيد عن أبي هريرة لا جابر وأجيب بمنع الحصر فإنه ثابت عن يونس بن محمد كما قال البخاري أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن يونس وكذا هو في مسنده ومصنفه نعم رواه بن خزيمة والحاكم والبيهقي من طريق أخرى عن يونس بن محمد كما قال أبو مسعود وكأنه اختلف عليه فيه وكذا اختلف فيه على أبي تميلة فأخرجه البيهقي من وجه آخر عنه فقال عنه أبي هريرة وأما رواية محمد بن الصلت المشار إليها فوصلها الدارمي وسمويه كلاهما عنه والترمذي وابن الموطأ والعقيلى كلهم من طريقه بلفظ كان إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره وذكر أبو مسعود أن الهيثم بن جميل رواه عن فليح كما قال بن الصلت عن أبي هريرة والذي يغلب على الظن أن الاختلاف فيه من فليح فلعل شيخه سمعه من جابر ومن أبي هريرة ويقوى ذلك اختلاف اللفظين وقد رجح البخاري أنه عن جابر وخالفه أبو مسعود والبيهقي فرجحا أنه عن أبي هريرة ولم يظهر لي في ذلك ترجيح والله أعلم
(2/474)
25- باب إذا فاته
العيد يصلي ركعتين
وكذلك النساء ومن كان في البيوت والقرى لقول النبي صلى الله عليه وسلم "هذا
عيدنا أهل الإسلام"
وأمر أنس بن مالك مولاهم بن أبي عتبة بالزاوية فجمع أهله وبنيه وصلى كصلاة أهل
المصر وتكبيرهم وقال عكرمة يجتمعون في العيد يصلون ركعتين كما يصنع الإمام
وقال عطاء إذا فاته العيد صلى ركعتين
987- حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب عن عروة عن عائشة ثم
أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان
والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى الله عليه
وسلم عن وجهه فقال دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد وتلك الأيام أيام منى وقالت
عائشة رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في
المسجد فزجرهم عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعهم أمنا بني أرفدة يعني من
الأمن
قوله: "باب إذا فاته العيد" أي مع الإمام "يصلي ركعتين". في
هذه الترجمة حكمان: مشروعية استدراك صلاة
(2/474)
العيد إذا فاتت مع الجماعة سواء كان بالاضطرار أو بالاختيار، وكونها تقضي ركعتين كأصلها، وخالف في الأول جماعة منهم المزني فقال: لا تقضي، وفي الثاني الثوري وأحمد قالا: إن صلاها وحده صلى أربعا، ولهما في ذلك سلف: قال ابن مسعود " من فاته العيد مع الإمام فليصل أربعا " أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح. وقال إسحاق: إن صلاها في الجماعة فركعتين وإلا فأربعا. قال الزين بن المنير: كأنهم قاسوها على الجمعة، لكن الفرق ظاهر لأن من فاتته الجمعة يعود لفرضه من الظهر، بخلاف العيد. انتهى. وقال أبو حنيفة: يتخير بين القضاء والترك وبين الثنتين والأربع. وأورد البخاري في هذا حديث عائشة في قصة الجاريتين المغنيتين، وأشكلت مطابقته للترجمة على جماعة. وأجاب ابن المنير بأن ذلك يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها أيام العيد " فأضاف نسبة العيد إلى اليوم فيستوي في إقامتها الفذ والجماعة والنساء والرجال، قال ابن رشد: وتتمته أن يقال إنها أيام عيد أي لأهل الإسلام بدليل قوله في الحديث الآخر " عيدنا أهل الإسلام " ولهذا ذكره البخاري في صدر الباب، وأهل الإسلام شامل لجميعهم أفرادا وجمعا، وهذا يستفاد منه الحكم الثاني لا مشروعية القضاء، قال: والذي يظهر لي أنه أخذ مشروعية القضاء من قوله: "فإنها أيام عيد " أي أيام منى، فلما سماها أيام عيد كانت محلا لأداء هذه الصلاة، لأنها شرعت ليوم العيد فيستفاد من ذلك أنها تقع أداء وأن لوقت الأداء آخرا وهو آخر أيام منى. قال: ووجدت بخط أبي القاسم بن الورد: لما سوغ صلى الله عليه وسلم للنساء راحة العيد المباحة كان آكد أن يندبهن إلى صلاته في بيوتهن قوله في الترجمة " وكذلك النساء " مع قوله في الحديث: "دعهما فإنها أيام عيد". قوله: "ومن كان في البيوت والقرى" يشير إلى مخالفة ما روى عن علي " لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع " وقد تقدم في " باب فضل العمل في أيام التشريق " عن الزهري " ليس على المسافر صلاة عيد " ووجه مخالفته كون عموم الحديث المذكور يخالف ذلك. قوله: "لقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا عيدنا أهل الإسلام" هذا الحديث لم أره هكذا، وإنما أوله في حديث عائشة في قصة المغنيتين، وقد تقدم في ثالث الترجمة من كتاب العيدين بلفظ: "إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا " وأما باقيه فلعله مأخوذ من حديث عقبة بن عامر مرفوعا: "أيام منى عيدنا أهل الإسلام " وهو في السنن وصححه ابن خزيمة، وقوله: "أهل الإسلام " بالنصب على أنه منادى مضاف حذف منه حرف النداء، أو بإضمار أعني أو أخص، وجوز فيه أبو البقاء في إعراب المسند الجر على أنه بدل من الضمير في قوله عيدنا. قوله: "وأمر أنس بن مالك مولاه" في رواية المستملي: "مولاهم". قوله: "ابن أبي غنية" كذا لأبي ذر بالمعجمة والنون بعدها تحتانية مثقلة، وللأكثر بضم المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة وهو الراجح. قوله: "بالزاوية" بالزاي موضع على فرسخين من البصرة كان به لأنس قصر وأرض وكان يقيم هناك كثيرا وكانت بالزاوية وقعة عظيمة بين الحجاج وابن الأشعث. وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة: "عن ابن علية عن يونس هو ابن عبيد حدثني بعض آل أنس أن أنسا كان ربما جمع أهله وحشمه يوم العيد فيصلي بهم عبد الله بن أبي عتبة مولاه ركعتين " والمراد بالبعض المذكور عبد الله بن أبي بكر بن أنس، روى البيهقي من طريقه قال: "كان أنس إذا فاته العيد مع الإمام جمع أهله فصلى بهم مثل صلاة الإمام في العيد". قوله: "وقال عكرمة" وصله ابن أبي شيبة من طريق قتادة عنه قال في القوم يكونون في السواد وفي السفر في يوم عيد فطر أو أضحى قال: يجتمعون ويؤمهم أحدهم. قوله: "وقال عطاء" في رواية الكشميهني: "وكان عطاء " والأول أصح، فقد رواه الفريابي في مصنفه عن الثوري عن ابن جريج عن عطاء قال: "من فاته العيد فليصل ركعتين " وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن جريج
(2/475)
وزاد: "ويكبر"، وهذه الزيادة تشير إلى أنها تقضي كهيئتها لا أن الركعتين مطلق نفل. وأما حديث عائشة فتقدم الكلام عليه مستوفي في أوائل كتاب العيدين، وقوله فيه: "وقالت عائشة " معطوف على الإسناد المذكور كما تقدم بيانه، وقوله: "فزجرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعهم " كذا في الأصول بحذف فاعل زجرهم، ووقع في رواية كريمة: "فزجرهم عمر " كذا هنا، وسيأتي بهذا الإسناد في أوائل المناقب بحذفه أيضا للجميع، وضبب النسفي بين زجرهم وبين فقال إشارة إلى الحذف، وقد ثبت بلفظ عمر في طرق أخرى كما تقدم في أوائل العيدين، وقول فيه: "أمنا " بسكون الميم "يعني من الأمن" يشير إلى أن المعنى اتركهم من جهة إنا آمناهم أمنا، أو أراد أنه مشتق من الأمن لا من الأمان الذي للكفار، والله أعلم.
(2/476)
26 - باب
الصَّلاَةِ قَبْلَ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا
وَقَالَ أَبُو الْمُعَلَّى سَمِعْتُ سَعِيدًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَرِهَ
الصَّلاَةَ قَبْلَ الْعِيدِ
989- حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة قال حدثني عدي بن ثابت قال سمعت سعيد بن
جبير عن بن عباس ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل
قبلها ولا بعدها ومعه بلال "
قوله: "باب الصلاة قبل العيد وبعدها" أورد فيه أثر ابن عباس أنه كره
الصلاة قبل العيد وحديثه المرفوع في ترك الصلاة قبلها وبعدها ولم يجزم بحكم ذلك
لأن الأثر يحتمل أن يراد به منع التنفل أو نفي الراتبة، وعلى المنع فهل هو لكونه
وقت كراهة أو لأعم من ذلك. ويؤيد الأول الاقتصار على القبل، وأما الحديث فليس فيه
ما يدل على المواظبة فيحتمل اختصاصه بالإمام دون المأموم أو بالمصلى دون البيت،
وقد اختلف السلف في جميع ذلك فذكر ابن المنذر عن أحمد أنه قال: الكوفيون يصلون
بعدها لا قبلها، والبصريون يصلون قبلها لا بعدها، والمدنيون لا قبلها ولا بعدها.
وبالأول قال الأوزاعي والثوري والحنفية، وبالثاني قال الحسن البصري وجماعة،
وبالثالث قال الزهري وابن جريج وأحمد. وأما مالك فمنعه في المصلى، وعنه في المسجد
روايتان. وقال الشافعي في الأم - ونقله البيهقي عنه في المعرفة بعد أن روى حديث
ابن عباس حديث الباب - ما نصه: وهكذا يحب للإمام أن لا يتنفل قبلها ولا بعدها،
وأما المأموم فمخالف له في ذلك. ثم بسط الكلام في ذلك. وقال الرافعي: يكره للإمام
التنفل قبل العيد وبعدها، وقيده في البويطي بالمصلى، وجرى على ذلك الصيمري فقال:
لا بأس بالنافلة قبلها وبعدها مطلقا إلا للإمام في موضع الصلاة، وأما النووي في
شرح مسلم فقال: قال الشافعي وجماعة من السلف لا كراهة في الصلاة قبلها ولا بعدها،
فإن حمل كلامه على المأموم وإلا فهو مخالف لنص الشافعي المذكور، ويؤيد ما في
البويطي حديث أبي سعيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل العيد
شيئا، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين " أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن، وقد صححه
الحاكم، وبهذا قال إسحاق، ونقل بعض المالكية الإجماع على أن الإمام لا يتنفل في
المصلى. وقال ابن العربي: التنفل في المصلى لو فعل لنقل، ومن أجازه رأى أنه وقت
مطلق للصلاة، ومن تركه رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ومن اقتدى فقد
اهتدى انتهى. والحاصل أن صلاة العيد لم يثبت لها سنة قبلها ولا بعدها خلافا لمن
قاسها على الجمعة، وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص إلا إن كان ذلك في
وقت الكراهة الذي في جميع الأيام، والله أعلم. قوله: "وقال أبو المعلى"
بضم الميم وتشديد اللام المفتوحة اسمه يحيى بن ميمون العطار الكوفي،
(2/476)
وليس له عند البخاري سوى هذا الموضع، ولم أقف على أثره هذا موصولا. وقد تقدم حديث ابن عباس المرفوع بأتم من هذا السياق في " باب الخطبة بعد العيد". "خاتمة": اشتمل كتاب العيدين من الأحاديث المرفوعة على خمسة وأربعين حديثا، المعلق منها أربعة والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ستة وعشرون والبقية خالصة، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أنس في أكل التمر قبل صلاة عيد الفطر، وحديث ابن عمر في قصته مع الحجاج، وحديث ابن عباس في العمل في ذي الحجة، حديث ابن عمر في الذبح بالمصلى. وحديث جابر في مخالفة الطريق، وأما حديث عقبة بن عامر المشار إليه في الباب الماضي فإن كان مرادا زادت العدة واحدا معلقا، وليس هو في مسلم، وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين ثلاثة وعشرون أثرا معلقة إلا أثر أبي بكر وعمر وعثمان في الصلاة قبل الخطبة فإنها موصولة في حديث ابن عباس. والله الهادي إلى الصواب.
(2/477)
كتاب الوتر
باب ما جاء في الوتر
...
14- كتاب الوتر
1 - باب مَا جَاءَ فِي الْوِتْرِ
990- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَم صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى
فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا
قَدْ صَلَّى
991- وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ
الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ فِي الْوِتْرِ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ
حَاجَتِهِ"
992- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ
مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ
أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَهِيَ خَالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ
وِسَادَةٍ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ
فَاسْتَيْقَظَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ
آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي
فَصَنَعْتُ مِثْلَهُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبهِ فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى
رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي يَفْتِلُهَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ
رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ
رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ
فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ "
993- حدثنا يحيى بن سليمان قال حدثني بن وهب قال أخبرني عمرو أن عبد الرحمن بن
القاسم
(2/477)
حدثه عن أبيه عن
عبد الله بن عمر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم صلاة الليل مثنى مثنى فإذا
أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت قال القاسم ورأينا أناسا منذ أدركنا
يوترون بثلاث وإن كلا لواسع أرجو أن لا يكون بشيء منه بأس "
994- حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري عن عروة أن عائشة أخبرته ثم
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته
تعني بالليل فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه
ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة
"
"أبواب الوتر" كذا عند المستملي، وعن الباقين " باب ما جاء في
الوتر " وسقطت البسملة عند ابن شبويه والأصيلي وكريمة. والوتر بالكسر الفرد،
وبالفتح الثأر، وفي لغة مترادفان. ولم يتعرض البخاري لحكمه لكن إفراده بترجمة عن
أبواب التهجد والتطوع يقتضي أنه غير ملحق بها عنده، ولولا أنه أورد الحديث الذي
فيه إيقاعه على الدابة إلا المكتوبة لكان في ذلك إشارة إلى أنه يقول بوجوبه. أورد
البخاري فيه ثلاثة أحاديث مرفوعة: حديث ابن عمر من وجهين، وحديث ابن عباس، وحديث
عائشة. فأما حديث ابن عمر فأخرجه من الموطأ ولم يختلف على مالك في إسناده إلا أن
في رواية مكي بن إبراهيم عن مالك أن نافعا وعبد الله بن دينار أخبراه كذا في
الموطآت للدار قطني، وأورده الباقون بالعنعنة. "فائدة": قال ابن التين:
اختلف في الوتر في سبعة أشياء: في وجوبه، وعدده، واشتراط النية فيه، واختصاص
بقراءة، واشتراط شفع قبله، وفي آخر وقته، وصلاته في السفر على الدابة. قلت: وفي
قضائه، والقنوت فيه، وفي محل القنوت منه، وفيما يقال فيه، وفي فصله ووصله، وهل تسن
ركعتان بعده، وفي صلاته من قعود. لكن هذا الأخير ينبني على كونه مندوبا أو لا. وقد
اختلفوا في أول وقته أيضا، وفي كونه أفضل صلاة التطوع، أو الرواتب أفضل منه، أو
خصوص ركعتي الفجر. وقد ترجم البخاري لبعض ما ذكرناه، ويأتي الكلام على ما لم يترجم
له أثناء الكلام على أحاديث الباب وما بعدها. قوله: "أن رجلا" لم أقف
على اسمه، ووقع في المعجم الصغير للطبراني أن السائل هو ابن عمر، لكن يعكر عليه
رواية عبد الله بن شقيق عن ابن عمر " أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم
وأنا بينه وبين السائل " فذكر الحديث، وفيه: "ثم سأله رجل على رأس الحول
وأنا بذلك المكان منه " قال: "فما أدري أهو ذلك الرجل أو غيره:
"وعند النسائي من هذا الوجه أن السائل المذكور من أهل البادية، وعند محمد بن
نصر في " كتاب أحكام الوتر " وهو كتاب نفيس في مجلدة من رواية عطية عن
ابن عمر أن أعرابيا سأل، فيحتمل أن يجمع بتعدد من سأل، وقد سبق في " باب
الحلق في المسجد " أن السؤال المذكور وقع في المسجد والنبي صلى الله عليه
وسلم على المنبر. قوله: "عن صلاة الليل" في رواية أيوب عن نافع "
في باب الحلق في المسجد ": "أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وهو يخطب فقال: كيف صلاة الليل " ونحوه في رواية سالم عن أبيه في أبواب
التطوع، وقد تبين من الجواب أن السؤال وقع عن عددها أو عن الفصل والوصل. وفي رواية
محمد بن نصر من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: "قال رجل: يا رسول الله
كيف
(2/478)
تأمرنا أن نصلي من
الليل " وأما قول ابن بزيزة جوابه بقوله مثنى يدل على أنه فهم من السائل طلب
كيفية العدد لا مطلق الكيفية ففيه نظر، وأولى ما فسر به الحديث من الحديث، واستدل
بمفهومه على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعا وهو عن الحنفية وإسحاق، وتعقب
بأنه مفهوم لقب وليس بحجة على الراجح، وعلى تقدير الأخذ به فليس بمنحصر في أربع،
وبأنه خرج جوابا للسؤال عن صلاة الليل فقيد الجواب بذلك مطابقة للسؤال، وبأنه قد
تبين عن رواية أخرى أن حكم المسكوت عنه حكم المنطوق به، ففي السنن وصححه ابن خزيمة
وغيره من طريق على الأزدي عن ابن عمر مرفوعا: "صلاة وقد صح النبي صلى الله
عليه وسلم الليل والنهار مثنى مثنى " وقد تعقب هذا الأخير بأن أكثر أئمة
الحديث أعلوا هذه الزيادة وهي قوله: "والنهار " بأن الحفاظ من أصحاب ابن
عمر لم يذكروها عنه وحكم النسائي على راويها بأنه أخطأ فيها. وقال يحيى بن معين:
عن علي الأزدي حتى أقبل منه؟ وادعى يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع أن ابن عمر كان
يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن، ولو كان حديث الأزدي صحيحا لما خالفه ابن عمر،
يعني مع شدة اتباعه رواه عنه محمد بن نصر في سؤالاته، لكن روى ابن وهب بإسناد قوي
عن ابن عمر قال: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى " موقوف أخرجه ابن عبد
البر من طريقه، فلعل الأزدي اختلط عليه الموقوف بالمرفوع فلا تكون هذه الزيادة
صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذا، وقد روى ابن أبي شيبة عن وجه
آخر عن ابن عمر أنه كان يصلي بالنهار أربعا أربعا وهذا موافق لما نقله ابن معين
صلى الله عليه وسلم. قوله: "مثنى مثنى" أي اثنين اثنين، وهو غير منصرف
لتكرار العدل فيه قاله صاحب الكشاف. وقال آخرون: للعدل والوصف، وأما إعادة مثنى
فللمبالغة في التأكيد، وقد فسره ابن عمر راوي الحديث فعند مسلم عن طريق عقبة بن
حريث قال قلت لابن عمر: ما معني مثنى مثنى؟ قال: تسلم من كل ركعتين. وفيه رد على
من زعم من الحنفية أن معنى مثنى أن يتشهد بين كل ركعتين لأن راوي الحديث أعلم
بالمراد به، وما فسره به هو المتبادر إلى الفهم لأنه لا يقال في الرباعية مثلا
إنها مثنى، واستدل بهذا على تعين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل، قال ابن دقيق
العيد: وهو ظاهر السياق لحصر المبتدأ في الخبر، وحمله الجمهور على أنه لبيان
الأفضل لما صح من فعله صلى الله عليه وسلم بخلافه، ولم يتعين أيضا كونه لذلك، بل
يحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف، إذ السلام بين كل ركعتين أخف على المصلى من
الأربع فما فوقها لما فيه من الراحة غالبا وقضاء ما يعرض من أمر مهم، ولو كان
الوصل لبيان الجواز فقط لم يواظب عليه صلى الله عليه وسلم، ومن ادعى اختصاصه به
فعليه البيان، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الفصل كما صح عنه الوصل، فعند أبي
داود ومحمد بن نصر من طريقي الأوزاعي وابن أبي ذئب كلاهما عن الزهري عن عروة عن
عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ما بين أن يفرغ من العشاء إلى
الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين " وإسنادهما على شرط الشيخين، واستدل
به أيضا على عدم النقصان عن ركعتين في النافلة ما عدا الوتر، قال ابن دقيق العيد:
والاستدلال به أقوى من الاستدلال بامتناع قصر الصبح في السفر إلى ركعة، يشير بذلك
إلى الطحاوي فإنه استدل على منع التنفل بركعة بذلك، واستدل بعض الشافعية للجواز
بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة خير موضوع، فمن شاء استكثر ومن شاء
استقل " صححه ابن حبان. وقد اختلف السلف في الفصل والوصل في صلاة الليل أيهما
أفضل. وقال الأثرم عن أحمد: الذي اختاره في صلاة الليل مثنى مثنى، فإن صلى بالنهار
أربعا فلا بأس. وقال محمد بن نصر نحوه في صلاة الليل قال: وقد صح عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه
ـــــــ
(1) كذا في الاصلين وصوابه " لما نقله يحي بن سعيد " كما تقدم قريبا.
والله أعلم
(2/479)
أوتر بخمس لم يجلس
إلا في آخرها إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على الوصل، إلا أنا نختار أن يسلم من
كل ركعتين لكونه أجاب به السائل ولكون أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقا، وقد تضمن
كلامه الرد على الداودي الشارح ومن تبعه في دعواهم أنه لم يثبت عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه صلى النافلة أكثر من ركعتين ركعتين. قوله: "فإذا خشي أحدكم
الصبح" استدل به على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر، وأصرح منه ما رواه أبو داود
والنسائي وصححه أبو عوانة وغيره من طريق سليمان بن موسى عن نافع أنه حدثه أن ابن
عمر كان يقول: "من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وترا فإن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يأمر بذلك، فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر
" وفي صحيح ابن خزيمة من طريق قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا:
"من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له " وهذا محمول على التعمد أو على
أنه لا يقع أداء، لما رواه من حديث أبي سعيد أيضا مرفوعا: "من نسى الوتر أو
نام عنه فليصله إذا ذكره " وقيل معنى قوله: "إذا خشي أحدكم الصبح - أي
وهو في شفع - فلينصرف على وتر " وهذا ينبني على أن الوتر لا يفتقر إلى نية.
وحكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري ويبقى وقت
الضرورة إلى قيام صلاة الصبح، وحكاه القرطبي عن مالك والشافعي وأحمد، وإنما قاله
الشافعي في القديم. وقال ابن قدامة: لا ينبغي لأحد أن يتعمد ترك الوتر حتى يصبح،
واختلف السلف في مشروعية قضائه فنفاه الأكثر، وفي مسلم وغيره عن عائشة " أنه
صلى الله عليه وسلم كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من
النهار ثنتي عشرة ركعة " وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبي صلى الله عليه
وسلم في شيء من الأخبار أنه قضى الوتر ولا أمر بقضائه، ومن زعم أنه صلى الله عليه
وسلم في ليلة نومهم عن الصبح في الوادي قضى الوتر فلم يصب. وعن عطاء والأوزاعي:
يقضي ولو طلعت الشمس، وهو وجه عند الشافعية حكاه النووي في شرح مسلم، وعن سعيد بن
جبير: يقضي من القابلة، وعن الشافعية: يقضي مطلقا، ويستدل لهم بحديث أبي سعيد
المتقدم والله أعلم. "فائدة": يؤخذ من سياق هذا الحديث أن ما بين طلوع
الفجر وطلوع الشمس من النهار شرعا، وقد روى ابن دريد في أماليه بسند جيد أن الخليل
بن أحمد سئل عن حد النهار فقال: من الفجر المستطير إلى بداءة الشفق. وحكى عن
الشعبي أنه وقت منفرد لا من الليل ولا من النهار صلى الله عليه وسلم. قوله:
"صلى ركعة واحدة" في رواية الشافعي وعبد الله بن وهب ومكي بن إبراهيم
ثلاثتهم عن مالك " فليصل ركعة " أخرجه الدار قطني في الموطآت هكذا بصيغة
الأمر، وسيأتي بصيغة الأمر أيضا من طريق ابن عمر الثانية في هذا الباب، ولمسلم من
طريق عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه مرفوعا نحوه، واستدل بهذا على أنه لا
صلاة بعد الوتر، وقد اختلف السلف في ذلك في موضعين: أحدهما في مشروعية ركعتين بعد
الوتر عن جلوس، والثاني فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل في الليل هل يكتفي بوتره الأول
وليتنفل ما شاء أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل ثم إذا فعل ذلك هل يحتاج إلى وتر آخر
أو لا؟ فأما الأول فوقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة أنه صلى الله عليه
وسلم: "كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس " وقد ذهب إليه بعض أهل
العلم وجعلوا الأمر في قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وترا " مختصا
بمن أوتر آخر الليل. وأجاب من لم يقل بذلك بأن الركعتين المذكورتين هما ركعتا
الفجر، وحمله النووي على أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر
وجواز التنفل جالسا. وأما الثاني فذهب
ـــــــ
(1) هذا القول عن الشعبي باطل , لأن الأدلة الشرعيه دالة على أنه من النهار في حكم
الشرع , أعني بذلك ما بعد طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس . والله أعلم
(2/480)
الأكثر إلى أنه يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض وتره عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وتران في ليلة" ، وهو حديث حسن أخرجه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث طلق بن على. وإنما يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر، وقد تقدم ما فيه. وروى محمد بن نصر من طريق سعيد بن الحارث أنه سأل ابن عمر عن ذلك فقال: إذا كنت لا تخاف الصبح ولا النوم فاشفع ثم صلي ما بدا لك ثم أوتر، وإلا فصل وترك على الذي كنت أوترت. ومن طريق أخرى عن ابن عمر أنه سئل عن ذلك فقال: أما أنا فأصلي مثنى، فإذا انصرفت ركعت ركعة واحدة. فقيل: أرأيت أن أوترت قبل أن أنام ثم قمت من الليل فشفعت حتى أصبح؟ قال: ليس بذلك بأس. واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "صل ركعة واحدة " على أن فصل الوتر أفضل من وصله، وتعقب بأنه ليس صريحا في الفصل، فيحتمل أن يريد بقوله: "صل ركعة واحدة " أي مضافة إلى ركعتين مما مضى. واحتج بعض الحنفية لما ذهب إليه من تعيين الوصل والاقتصار على ثلاث بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز، واختلفوا فيما عداه، قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه وتركنا ما اختلفوا فيه. وتعقبه محمد بن نصر المروزي بما رواه من طريق عراك ابن مالك عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا " لا توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب " وقد صححه الحاكم من طريق عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة والأعرج عن أبي هريرة مرفوعا نحوه، وإسناده على شرط الشيخين، وقد صححه ابن حبان والحاكم، ومن طريق مقسم عن ابن عباس وعائشة كراهية الوتر بثلاث، وأخرجه النسائي أيضا. وعن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث في الوتر وقال: لا يشبه التطوع الفريضة فهذه الآثار تقدح في الإجماع الذي نقله. وأما قول محمد بن نصر: لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا ثابتا صريحا أنه أوتر بثلاث موصولة، نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاث، لكن لم يبين الراوي هل هي موصولة أو مفصولة. انتهى. فيرد عليه ما رواه الحاكم من حديث عائشة أنه كان صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن. وروى النسائي من حديث أبي بن كعب نحوه ولفظه: "يوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ولا يسلم إلا في آخرهن " وبين في عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات، ويجاب عنه باحتمال أنهما لم يثبتا عنده، والجمع بين هذا وبين ما تقدم من النهي عن التشبه بصلاة المغرب أن يحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف أيضا، فروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير، ومن طريق المسور بن مخرمة أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن، ومن طريق ابن طاوس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن، ومن طريق قيس بن سعد عن عطاء وحماد بن زيد عن أيوب مثله، وروى محمد بن نصر عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاث كالمغرب، وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور. وسيأتي في هذا الباب قول القاسم بن محمد في تجويز الثلاث، ولكن النزاع في تعين ذلك فإن الأخبار الصحيحة تأباه. قوله: "توتر له ما قد صلى" استدل به على أن الركعة الأخيرة هي الوتر وأن كل ما تقدمها شفع، وادعى بعض الحنفية أن هذا إنما يشرع لمن طرقه الفجر قبل أن يوتر فيكتفي بواحدة لقوله: "فإذا خشي الصبح " فيحتاج إلى دليل تعين الثلاث، وسنذكر ما فيه من رواية القاسم الآتية. واستدل به على تعين الشفع قبل الوتر وهو عن المالكية بناء على أن قوله: "ما قد صلى " أي من النفل. وحمله من لا يشترط سبق الشفع على ما هو أعم من النفل والفرض وقالوا: إن سبق الشفع شرط في الكمال لا في الصحة، ويؤيده حديث أبي أيوب مرفوعا: "الوتر حق، فمن شاء أوتر بخمس ومن شاء بثلاث ومن شاء بواحدة " أخرجه
(2/481)
أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم، وصح عن جماعة من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة من غير تقدم نفل قبلها، ففي كتاب محمد بن نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد أن عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها، وسيأتي في المغازي حديث عبد الله بن ثعلبة أن سعدا أوتر بركعة، وسيأتي في المناقب عن معاوية أنه أوتر بركعة وأن ابن عباس استصوبه، وفي كل ذلك رد على ابن التين في قوله: إن الفقهاء لم يأخذوا بعمل معاوية في ذلك، وكأنه أراد فقهاءهم. قوله: "وعن نافع" هو معطوف على الإسناد الأول، وهو في الموطأ كذلك إلا أنه ليس مقرونا في سياق واحد بل بين المرفوع والموقوف عدة أحاديث، ولهذا فصله البخاري عنه. قوله: "أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته" ظاهره أنه كان يصلي الوتر موصولا فإن عرضت له حاجة فصل ثم بنى على ما مضى، وفي هذا دفع لقول من قال: لا يصح الوتر إلا مفصولا. وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المزني قال: صلى ابن عمر ركعتين ثم قال يا غلام أرحل لنا، ثم قام فأوتر بركعة. وروى الطحاوي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله، وإسناده قوي. ولم يعتذر الطحاوي عنه إلا باحتمال أن يكون المراد بقوله بتسليمة أي التسليمة التي في التشهد ولا يخفى بعد هذا التأويل والله أعلم. وأما حديث ابن عباس فقد تقدم في عدة مواضع في العلم والطهارة والمساجد والإمامة وأحلت بشرحه على ما هنا. وقد رواه عن ابن عباس جماعة منهم كريب وسعيد بن جبير وعلي بن عبد الله بن عباس وعطاء وطاوس والشعبي وطلحة بن نافع ويحيى بن الجزار وأبو جمرة وغيرهم مطولا ومختصرا، وسأذكر ما في طرقه من الفوائد ناسبا كل رواية إلى مخرجها إن شاء الله تعالى. قوله: "أنه بات عند ميمونة" زاد شريك بن أبي نمر عن كريب عند مسلم: "فرقبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي " زاد أبو عوانة في صحيحه من هذا الوجه " بالليل"، ولمسلم من طريق عطاء عن ابن عباس قال: "بعثني العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "زاد النسائي من طريق حبيب بن أبي ثابت عن كريب " في إبل أعطاه إياها من الصدقة " ولأبي عوانة من طريق علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه " أن العباس بعثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، قال: فوجدته جالسا في المسجد فلم أستطع أن أكلمه، فلما صلى المغرب قام فركع حتى أذن بصلاة العشاء " ولابن خزيمة من طريق طلحة بن نافع عنه " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد العباس ذودا من الإبل، فبعثني إليه بعد العشاء وكان في بيت ميمونة " وهذا يخالف ما قبله، ويجمع بأنه لما لم يكلمه في المسجد أعاده إليه بعد العشاء إلى بيت ميمونة، ولمحمد بن نصر في كتاب قيام الليل من طريق محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب عن الزيادة " فقال لي: يا بني بت الليلة عندنا " وفي رواية حبيب المذكورة " فقلت: لا أنام حتى أنظر ما يصنع في صلاة الليل " وفي رواية مسلم من طريق الضحاك بن عثمان عن مخرمة " فقلت لميمونة: إذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظني " وكان عزم في نفسه على السهر ليطلع على الكيفية التي أرادها، ثم خشي أن يغلب النوم فوصى ميمونة أن توقظه. قوله: "في عرض وسادة" في رواية محمد بن الوليد المذكورة " وسادة من أدم حشوها ليف " وفي رواية طلحة بن نافع المذكورة " ثم دخل مع امرأته في فراشها " وزاد أنها " كانت ليلتئذ حائضا " وفي رواية شريك بن أبي نمر عن كريب في التفسير " فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله سماعة " وقد سبقت الإشارة إليه في كتاب العلم، وتقدم الكلام على الاضطجاع والعرض ومسح النوم والعشر الآيات في " باب قراءة القرآن بعد الحدث " وكذا على الشن. قوله: "حتى انتصف الليل أو قريبا منه" جزم
(2/482)
شريك بن أبي نمر في روايته المذكورة " بثلث الليل الأخير " ويجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين: ففي الأولى نطر إلى السماء ثم تلا الآيات ثم عاد لمضجعه فنام، وفي الثانية أعاد ذلك ثم توضأ وصلى، وقد بين ذلك محمد بن الوليد في روايته المذكورة. وفي رواية الثوري عن سلمة بن كهيل عن كريب في الصحيحين " فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فأتى حاجته ثم غسل وجهه ويديه ثم نام، ثم قام فأتى القرية " الحديث. وفي رواية سعيد بن مسروق عن سلمة عند مسلم: "ثم قام قومة أخرى " وعنده من رواية شعبة عن سلمة " فبال " بدل فأتى حاجته. قوله: "ثم قام إلى شن" زاد محمد بن الوليد " ثم استفرغ من الشن في إناء ثم توضأ". قوله: "فأحسن الوضوء" في رواية محمد بن الوليد وطلحة بن نافع جميعا " فأسبغ الوضوء " وفي رواية عمرو بن دينار عن كريب " فتوضأ وضوءا خفيفا " وقد تقدمت في " باب تخفيف الوضوء " ويجمع بين هاتين الروايتين برواية الثوري فإن لفظه: "فتوضأ وضوءا بين وضوءين لم يكثر وقد أبلغ " ولمسلم من طريق عياض عن مخرمة " فأسبغ الوضوء ولم يمس من الماء إلا قليلا " وزاد فيها " فتسوك " وكذا لشريك عن كريب " فاستن " كما تقدمت الإشارة إليه قبيل كتاب الغسل. قوله: "ثم قام يصلي" في رواية محمد بن الوليد ثم أخذ بردا له حضرميا فتوشحه ثم دخل البيت فقام يصلي. قوله: "فصنعت مثله" يقتضي أنه صنع جميع ما ذكر من القول والنظر والوضوء والسواك والتوشح، ويحتمل أن يحمل على الأغلب، وزاد سلمة عن كريب في الدعوات في أوله " فقمت فتمطيت كراهية أن يرى أني كنت أرقبه " وكأنه خشي أن يترك بعض عمله لما جرى من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك بعض العمل خشية أن يفرض على أمته. قوله: "وقمت إلى جنبه" تقدم الكلام عليه في أبواب الإمامة مستوفي. قوله: "وأخذ بأذني" زاد محمد بن الوليد في روايته: "فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني بيده في ظلمة الليل " وفي رواية الضحاك عن عثمان " فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني " وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان في حالة إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكا برواية سلمة بن كهيل الآتية في التفسير حيث قال: "فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه " لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لما ذكره من تأنيسه وإيقاظه لأن حاله كانت تقتضي ذلك لصغر سنه. قوله: "فصلى ركعتين ثم ركعتين" كذا في هذه الرواية، وظاهره أنه فصل بين كل ركعتين، ووقع التصريح بذلك في رواية طلحة بن نافع حيث قال فيها " يسلم من كل ركعتين " ولمسلم من رواية علي بن عبد الله بن عباس التصريح بالفصل أيضا وأنه استاك بين كل ركعتين إلى غير ذلك. ثم إن رواية الباب فيها التصريح بذكر الركعتين ست مرات ثم قال: "ثم أوتر"، ومقتضاه أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، وصرح بذلك في رواية سلمة الآتية في الدعوات حيث قال: "فتتامت " ولمسلم: "فتكاملت صلاته ثلاث عشرة ركعة". وفي رواية عبد ربه بن سعيد الماضية في الإمامة عن كريب فصلى ثلاث عشرة ركعة. وفي رواية محمد بن الوليد المذكورة مثله وزاد: "وركعتين بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح " وهي موافقة لرواية الباب لأنه قال بعد قوله: "ثم أوتر: فقام فصلى ركعتين " فاتفق هؤلاء على الثلاث عشرة، وصرح بعضهم بأن ركعتي الفجر من غيرها، لكن رواية شريك بن أبي نمر الآتية في التفسير عن كريب تخالف ذلك ولفظه: "فصلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج " فهذا ما في رواية كريب من الاختلاف، وقد عرف أن الأكثر خالفوا شريكا فيها، وروايتهم مقدمة على روايته لما معهم من الزيادة ولكونهم أحفظ منه، وقد حمل بعضهم هذه الزيادة على سنة العشاء، ولا يخفى بعده ولا سيما في رواية مخرمة في حديث الباب، إلا إن حمل على أنه أخر سنة العشاء حتى استيقظ، لكن يعكر
(2/483)
عليه رواية المنهال الآتية قريبا، وقد اختلف على سعيد جبير أيضا: ففي التفسير من طريق شعبة عن الحكم عنه " فصلى أربع ركعات ثم نام ثم صلى خمس ركعات " وقد حمل محمد بن نصر هذه الأربع على أنها سنة العشاء لكونها وقعت قبل النوم، لكن يعكر عليه ما رواه هو من طريق المنهال بن عمرو عن علي بن عبد الله بن عباس فإن فيه: "فصلى العشاء ثم صلى أربع ركعات بعدها حتى لم يبق في المسجد غيره ثم انصرف " فإنه يقتضي أن يكون صلى الأربع في المسجد لا في البيت، ورواية سعيد بن جبير أيضا تقتضي الاقتصار على خمس ركعات بعد النوم وفيه نظر، وقد رواها أبو داود من وجه آخر عن الحكم وفيه: "فصلى سبعا أو خمسا أوتر بهن لم يسلم إلا في آخرهن". وقد ظهر لي من رواية أخرى عن سعيد بن جبير ما يرفع هذا الإشكال ويوضح أن رواية الحكم وقع فيها تقصير، فعند النسائي من طريق يحيى بن عباد بن سعيد بن جبير " فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثمان ركعات ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن"، فبهذا يجمع بين رواية سعيد ورواية كريب، وأما ما وقع في رواية عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عند أبي داود " فصلى ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر " فهو نظير ما تقدم من الاختلاف في رواية كريب، وأما ما في روايتهما من الفصل والوصل فرواية سعيد صريحة في الوصل، ورواية كريب محتملة فتحمل على رواية سعيد. وأما قوله في رواية طلحة بن نافع " يسلم من كل ركعتين " فيحتمل تخصيصه بالثمان فيوافق رواية سعيد، ويؤيده رواية يحيى بن الجزار الآتية، ولم أر في شيء طرق حديث ابن عباس ما يخالف ذلك لأن أكثر الرواة عنه لم يذكروا عددا، ومن ذكر العدد منهم لم يزد على ثلاث عشرة ولم ينقص عن إحدى عشرة، إلا أن في رواية علي بن عبد الله بن عباس عند مسلم ما يخالفهم فإن فيه: "فصلى ركعتين أطال فيهما ثم انصرف فنام حتى نفخ، ففعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات - يعني آخر آل عمران - ثم أوتر بثلاث فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة " انتهى. فزاد على الرواة تكرار الوضوء وما معه ونقص عنهم ركعتين أو أربعا ولم يذكر ركعتي الفجر أيضا، وأظن ذلك من الراوي عنه حبيب بن أبي ثابت فإن فيه مقالا، وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه اختلافا تقدم ذكر بعضه، ويحتمل أن يكون لم يذكر الأربع الأول كما لم يذكر الحكم الثمان كما تقدم، وأما سنة الفجر فقد ثبت ذكرها في طريق أخرى عن علي بن عبد الله عند أبي داود. والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن عدم تعددها، فلهذا ينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها، ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم ولا سيما إن زاد أو نقص، والمحقق من عدد صلاته في تلك الليلة إحدى عشرة، وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن يكون منها سنة العشاء، ووافق ذلك رواية أبي جمرة عن ابن عباس الآتية في صلاة الليل بلفظ: "كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة " يعني بالليل، ولم يبين هل سنة الفجر منها أو لا، وبينها يحيى بن الجزار عن ابن عباس عند النسائي بلفظ: "كان يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح " ولا يعكر على هذا الجمع إلا ظاهر سياق الباب فيمكن أن يجمل قوله: "صلى ركعتين ثم ركعتين " أي قبل أن ينام، ويكون منها سنة العشاء. وقوله: "ثم ركعتين الخ " أي بعد أن قام. وسيأتي نحو هذا الجمع في حديث عائشة في أبواب صلاة الليل إن شاء الله تعالى، وجمع الكرماني بين ما اختلف من روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن يكون بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به فيه وفصله عما لم يقتد به فيه، وبعضهم ذكر الجميع مجملا والله أعلم. قوله: "ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين" تقدمت تسمية المؤذن قريبا، وسيأتي بيان الاختلاف في الاضطجاع هل كان قبل ركعتي الفجر أو بعدها في أوائل أبواب التطوع. قوله: "ثم خرج" أي إلى المسجد
(2/484)
"فصلى
الصبح" أي بالجماعة، وزاد سلمة بن كهيل عن كريب هنا كما سيأتي في الدعوات
" وكان من دعائه: اللهم اجعل في قلبي نورا " الحديث. وسيأتي الكلام عليه
في أول أبواب صلاة الليل إن شاء الله تعالى. وفي حديث ابن عباس من الفوائد غير ما
تقدم جواز إعطاء بني هاشم من الصدقة، وهو محمول على التطوع، ويحتمل أن يكون إعطاؤه
العباس ليتولى صرفه في مصالح غيره ممن يحل له أخذ ذلك. وفيه جواز تقاضي الوعد وإن
كان من وعد به مقطوعا بوفائه. وفيه الملاطفة بالصغير والقريب والضيف، وحسن
المعاشرة للأهل، والرد على من يؤثر دوام الانقباض. وفيه مبيت الصغير عند محرمه وإن
كان زوجها عندها، وجواز الاضطجاع مع المرأة الحائض، وترك الاحتشام في ذلك بحضرة
الصغير وإن كان مميزا بل مراهقا. وفيه صحة صلاة الصبي وجواز فتل أذنه لتأنيسه
وإيقاظه، وقد قيل إن المتعلم إذ تعوهد بفتل أذنه كان أذكى لفهمه وفيه حمل أفعاله
صلى الله عليه وسلم على الاقتداء به ومشروعية التنفل بين المغرب والعشاء، وفضل
صلاة الليل ولا سيما في النصف الثاني، والبداءة بالسواك واستحبابه عند كل وضوء
وعند كل صلاة، وتلاوة آخر آل عمران عند القيام إلى صلاة الليل، واستحباب غسل الوجه
واليدين لمن أراد النوم وهو محدث، ولعله المراد بالوضوء للجنب صلى الله عليه وسلم.
وفيه جواز الاعتراف من الماء القليل لأن الإناء المذكور كان قصعة أو صحفة،
واستحباب التقليل من الماء في التطهير مع حصول الإسباغ، وجواز التصغير والذكر
بالصفة كما تقدم في باب السمر في العلم حيث قال: "نام الغليم" ، وبيان
فضل ابن عباس وقوة فهمه وحرصه على تعلم أمر الدين وحسن تأتيه في ذلك. وفيه اتخاذ
مؤذن راتب للمسجد، وإعلام المؤذن الإمام بحضور وقت الصلاة، واستدعاؤه لها،
والاستعانة باليد في الصلاة وتكرار ذلك كما سيأتي البحث فيه في أواخر كتاب الصلاة.
وفيه مشروعية الجماعة في النافلة، والائتمام بمن لم ينو الإمامة، وبيان موقف
الإمام والمأموم، وقد تقدم كل ذلك في أبواب الإمامة والله المستعان. واستدل به على
أن الأحاديث الواردة في كراهية القرآن على غير وضوء ليست على العموم في جميع
الأحوال، وأجيب بأن نومه كان لا ينقض وضوءه فلا يتم الاستدلال به إلا أن يثبت أنه
قرأ الآيات بين قضاء الحاجة والوضوء والله أعلم. انتهى الكلام على حديث ابن عباس.
وأما طريق ابن عمر الثانية فالقاسم المذكور في إسناده هو ابن محمد بن أبي بكر
الصديق، وقوله فيه: "فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة " فيه دفع لقول من
ادعى أن الوتر بواحدة مختص بمن خشي طلوع الفجر لأنه علقه بإرادة الانصراف وهو أعم
من أن يكون لخشية طلوع الفجر أو غير ذلك، وقوله فيه: "قال القاسم " هو
بالإسناد المذكور، كذلك أخرجه أبو نعيم في مستخرجه، ووهم من زعم أنه معلق. وقوله
فيه: "منذ أدركنا " أي بلغنا الحلم أو عقلنا، وقوله: "يوترون بثلاث
وأن كلا لواسع " يقتضي أن القاسم فهم من قوله: "فاركع ركعة " أي
منفردة منفصلة، ودل ذلك على أنه لا فرق عنده بين الوصل والفصل في الوتر والله
أعلم. وأما حديث عائشة فقد أعاده المصنف إسنادا ومتنا في كتاب صلاة الليل، ويأتي
الكلام عليه إن شاء الله تعالى، وكأنه أراد بإيراده هنا أن لا معارضة بينه وبين
حديث ابن عباس، إذ ظاهر حديث ابن عباس فصل الوتر وهذا محتمل الأمرين، وقد بين
القاسم أن كلا من الأمرين واسع فشمل
ـــــــ
(1) هذا الترجي ليس بجيد , لصحة الأحاديث وصراحتها في أن الوضوء الذي أمر به الجنب
قبل أن ينام وهو وضوء الصلاة فتنبه, والله أعلم
(2/485)
الفصل والوصل والاقتصار على واحدة وأكثر. قال الكرماني: قوله: "وأن كلا " أي وأن كل واحدة من الركعة والثلاث والخمس والسبع وغيرها جائز، وأما تعيين الثلاث موصولة ومفصولة فلم يشمله كلامه لأن المخالف من الحنفية يحمل كل ما ورد من الثلاث على الوصل، مع أن كثيرا من الأحاديث ظاهر في الفصل كحديث عائشة " يسلم من كل ركعتين " فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة فهو كالنص في موضع النزاع، وحمل الطحاوي هذا ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يوتر بواحدة فردة ليس قبلها شيء، وهو أعم من أن يكون الوصل أو الفصل، وصرح كثير منهم أن الفصل يقطعهما عن أن يكونا من جملة الوتر، ومن خالفهم يقول إنهما منه بالنية. وبالله التوفيق والله أعلم.
(2/486)
2 - باب سَاعَاتِ
الْوِتْرِ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَوْصَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ
995- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ
حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ أَرَأَيْتَ
الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ أُطِيلُ فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ فَقَالَ
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ
مَثْنَى مَثْنَى وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ وَيُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ
الْغَدَاةِ وَكَأَنَّ الأَذَانَ بِأُذُنَيْهِ قَالَ حَمَّادٌ أَيْ سُرْعَةً "
996- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا
الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ
" كُلَّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ "
قوله: "باب ساعات الوتر" أي أوقاته. ومحصل ما ذكره أن الليل كله وقت
للوتر، لكن أجمعوا على أن ابتداءه مغيب الشفق بعد صلاة العشاء، كذا نقله ابن
المنذر. لكن أطلق بعضهم أنه يدخل بدخول العشاء، قالوا: ويظهر أثر الخلاف فيمن صلى
العشاء وبأن أنه كان بغير طهارة ثم صلى الوتر متطهرا أو ظن أنه صلى العشاء فصلى
الوتر فإنه يجزئ على هذا القول دون الأول، ولا معارضة بين وصية أبي هريرة بالوتر
قبل النوم وبين قول عائشة " وانتهى وتره إلى السحر " لأن الأول لإرادة
الاحتياط، والآخر لمن علم من نفسه قوة، كما ورد في حديث جابر عند مسلم ولفظه:
"من طمع منكم أن يقوم آخر الليل فليوتر من آخره، فإن صلاة آخر الليل مشهودة.
وذلك أفضل. ومن خاف منكم أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله" . قوله:
"وقال أبو هريرة" هو طرف من حديث أورده المصنف من طريق أبي عثمان عن أبي
هريرة بلفظ: "وإن أوتر قبل أن أنام" ، وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده
من هذا الوجه بلفظ التعليق، وكذا أخرجه أحمد من طريق أخرى عن أبي هريرة. قوله:
"أرأيت" أي أخبرني. قوله: "نطيل" كذا للأكثر بنون الجمع،
وللكشميهني أطيل بالإفراد، وجوز الكرماني في " أطيل " أن يكون بلفظ
مجهول الماضي ومعروف المضارع، وفي الأول بعد. قوله: "كان النبي صلى الله عليه
وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى" استدل به على فضل الفصل لكونه أمر بذلك وفعله،
وأما الوصل فورد من فعله فقط. قوله: "ويوتر بركعة" لم يعين وقتها، وبينت
عائشة أنه فعل ذلك في جميع أجزاء الليل، والسبب في ذلك ما سيذكر في الباب الذي
بعده.
(2/486)
قوله: "وكأن" بتشديد النون. قوله: "بأذنيه" أي لقرب صلاته من الأذان، والمراد به هنا الإقامة، فالمعنى أنه كان يسرع بركعتي الفجر إسراع من يسمع إقامة الصلاة خشية فوات أول الوقت، ومقتضى ذلك تخفيف القراءة فيهما، فيحصل به الجواب عن سؤال أنس بن سيرين عن قدر القراءة فيهما. ووقع في رواية مسلم: "أن أنسا قال لابن عمر: إني لست عن هذا أسألك، قال: إنك لضخم ألا تدعني أستقرئ لك " الحديث. ويستفاد من هذا جواب السائل بأكثر مما سأل عنه إذا كان مما يحتاج إليه، ومن قوله: "إنك لضخم " أن السمين في الغالب يكون قليل الفهم. قوله: "قال حماد" أي ابن زيد الراوي، وهو بالإسناد المذكور. قوله: "بسرعة" كذا لأبي ذر وأبي الوقت وابن شبويه، ولغيرهم " سرعة " بغير موحدة، وهو تفسير من الراوي لقوله: "كان الأذان بأذنيه " وهو موافق لما تقدم. قوله: "حدثنا أبي" هو حفص بن غياث، ومسلم هو أبو الضحى لا ابن كيسان. قوله: "كل الليل" بنصب " كل " على الظرفية. وبالرفع على أنه مبتدأ والجملة خبره، والتقدير أوتر فيه. ولمسلم من طريق يحيى بن وثاب عن مسروق " من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أول الليل وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر " والمراد بأوله بعد صلاة العشاء كما تقدم. قوله: "إلى السحر" زاد أبو داود والترمذي " حين مات " ويحتمل أن يكون اختلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال، فحيث أوتر في أوله لعله كان وجعا، وحيث أوتر وسطه لعله كان مسافرا، وأما وتره في آخره فكأنه كان غالب أحواله، لما عرف من مواظبته على الصلاة في أكثر الليل والله أعلم. والسحر قبيل الصبح، وحكى الماوردي أنه السدس الأخير، وقيل أوله الفجر الأول. وفي رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس عند ابن خزيمة: "فلما انفجر الفجر قام فأوتر بركعة " قال ابن خزيمة المراد به الفجر الأول، وروى أحمد من حديث معاذ مرفوعا: "زادني ربي صلاة وهي الوتر، وقتها من العشاء إلى طلوع الفجر " وفي إسناده ضعف، وكذا في حديث خارجة بن حذافة في السنن، وهو الذي احتج به من قال بوجوب الوتر، وليس صريحا في الوجوب والله أعلم. وأما حديث بريدة رفعه: "الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا وأعاد ذلك ثلاثا " ففي سنده أبو المنيب وفيه ضعف، وعلى تقدير قبوله فيحتاج من احتج به إلى أن يثبت أن لفظ: "حق " بمعنى واجب في عرف الشارع، وأن لفظ واجب بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد.
(2/487)
3 - باب إِيقَاظِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَهُ بِالْوِتْرِ
قوله: "باب إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم أهله بالوتر" في رواية
الكشميهني: "للوتر".
997- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ
قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةً عَلَى فِرَاشِهِ
فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ
قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان، وهشام هو ابن عروة. قوله: "وأنا
راقدة معترضة" تقدم الكلام عليه في سترة المصلى. قوله: "أيقظني
فأوترت" أي فقمت فتوضأت فأوترت، واستدل به على استحباب جعل الوتر آخر الليل
سواء المتهجد وغيره، ومحله إذا وثق أن يستيقظ بنفسه أو بإيقاظ غيره، واستدل به على
وجوب الوتر لكونه صلى الله عليه وسلم سلك به مسلك الواجب حيث لم يدعها نائمة للوتر
وأبقاها للتهجد. وتعقب بأنه لا يلزم من ذلك الوجوب، نعم يدل على تأكد أمر الوتر
وأنه فوق غيره من النوافل الليلية، وفيه استحباب إيقاظ النائم لإدراك الصلاة، ولا
يختص ذلك بالمفروضة ولا بخشية
(2/487)
خروج الوقت بل يشرع ذلك لإدراك الجماعة وإدراك أول الوقت وغير ذلك من المندوبات، قال القرطبي: ولا يبعد أن يقال إنه واجب في الواجب مندوب في المندوب، لأن النائم وإن لم يكن مكلفا لكن مانعه سريع الزوال، فهو كالغافل، وتنبيه الغافل واجب.
(2/488)
4 - باب لِيَجْعَلْ
آخِرَ صَلاَتِهِ وِتْرًا
998- حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن عبد الله عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا باب الوتر على
الدابةقوله: "باب ليجعل آخر صلاته وترا" أي بالليل، وقد تقدم الكلام على
حديث الباب في أثناء الحديث الأول وقد استدل به بعض من قال بوجوبه، وتعقب بأن صلاة
الليل ليست واجبة فكذا آخره، وبأن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليله.
(2/488)
5 - باب الْوِتْرِ
عَلَى الدَّابَّةِ
999- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَقَالَ سَعِيدٌ فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ نَزَلْتُ
فَأَوْتَرْتُ ثُمَّ لَحِقْتُهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَيْنَ كُنْتَ
فَقُلْتُ خَشِيتُ الصُّبْحَ فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِسْوَةٌ
حَسَنَةٌ فَقُلْتُ بَلَى وَاللَّهِ قَالَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ "
قوله: "باب الوتر على الدابة" لما كان حديث عائشة في إيقاظها للوتر
وحديث ابن عمر في الأمر بالوتر آخر الليل قد تمسك بهما بعض من ادعى وجوب الوتر
عقبهما المصنف بحديث ابن عمر الدال على أنه ليس بواجب، فذكره في ترجمتين. إحداهما
تدل على كونه نفلا، والثانية تدل على أنه آكد من غيره. قوله: "عن أبي بكر بن
عمر" لا يعرف اسمه، وهو ثقة ليس له في الصحيحين غير هذا الحديث الواحد. قوله:
"أما لك في رسول الله أسوة" فيه إرشاد العالم لرفيقه ما قد يخفى عليه من
السنن. قوله: "بلى والله" فيه الحلف على الأمر الذي يراد تأكيده. قوله:
"كان يوتر على البعير" قال الزين بن المنير: ترجم بالدابة تنبيها على أن
لا فرق بينها وبين البعير في الحكم، والجامع بينهما أن الفرض لا يجزئ على واحدة
منهما. انتهى. ولعل البخاري أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، فسيأتي في أبواب تقصير
الصلاة من طريق سالم عن أبيه أنه كان يصلي من الليل على دابته وهو مسافر "
وروى محمد بن نصر من طريق ابن جريج " قال حدثنا نافع أن ابن عمر كان يوتر على
دابته". قال ابن جريج " وأخبرني موسى بن عقبة عن نافع أن ابن عمر كان
يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك". "فائدة": قال الطحاوي
ذكر عن الكوفيين أن الوتر لا يصلى على الراحلة، وهو خلاف السنة الثابتة، واستدل
بعضهم برواية مجاهد أنه رأى ابن عمر نزل فأوتر، وليس ذلك بمعارض لكونه أوتر على
الراحلة لأنه لا نزاع أن صلاته على الأرض أفضل، وروى
(2/488)
6 - باب الْوِتْرِ
فِي السَّفَرِ
1000- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ
أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ
بِهِ يُومِئُ إِيمَاءً صَلاَةَ اللَّيْلِ إِلاَّ الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى
رَاحِلَتِهِ "
قوله: "باب الوتر في السفر" أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من قال: إنه
لا يسن في السفر، وهو منقول عن الضحاك. وأما قول ابن عمر " لو كنت مسبحا في
السفر لأتممت " كما أخرجه مسلم وأبو داود من طريق حفص بن عاصم عنه فإنما أراد
به راتبة المكتوبة لا النافلة المقصودة كالوتر، وذلك بين من سياق الحديث المذكور،
فقد رواه الترمذي من وجه آخر بلفظ: "سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي
بكر وعمر وعثمان فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين لا يصلون قبلها ولا بعدها،
فلو كنت مصليا قبلها أو بعدها لأتممت " ويحتمل أن تكون التفرقة بين نوافل
النهار ونوافل الليل، فإن ابن عمر كان يتنفل على راحلته وعلى دابته في الليل وهو
مسافر، وقد قال مع ذلك ما قال. قوله: "إلا الفرائض" أي لكن الفرائض
بخلاف ذلك، فكان لا يصليها على الراحلة. واستدل به على أن الوتر ليس بفرض، وعلى
أنه ليس من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الوتر عليه لكونه أوقعه على
الراحلة، وأما قول بعضهم إنه كان من خصائصه أيضا أن يوقعه على الراحلة مع كونه
واجبا عليه فهي دعوى لا دليل عليها لأنه لم يثبت دليل وجوبه عليه حتى يحتاج إلى
تكلف هذا الجمع، واستدل به على أن الفريضة لا تصلى على الراحلة، قال ابن دقيق
العيد: وليس ذلك بقوى، لأن الترك لا يدل على المنع إلا أن يقال إن دخول وقت
الفريضة مما يكثر على المسافر فترك الصلاة لها على الراحلة دائما يشعر بالفرق
بينها وبين النافلة في الجواز وعدمه. وأجاب من ادعى وجوب الوتر من الحنفية بأن
الفرض عندهم غير الواجب، فلا يلزم من نفي الفرض نفي الواجب، وهذا يتوقف على أن ابن
عمر كان يفرق بين الفرض والواجب، وقد بالغ الشيخ أبو حامد فادعى أن أبا حنيفة
انفرد بوجوب الوتر ولم يوافقه صاحباه، مع أن ابن شيبة أخرج عن سعيد بن المسيب وأبي
عبيدة بن عبد الله بن مسعود والضحاك ما يدل على وجوبه عندهم، وعنده عن مجاهد الوتر
واجب ولم يثبت، ونقله ابن العربي عن أصبغ من المالكية ووافقه سحنون، وكأنه أخذه من
قول مالك: من تركه أدب، وكان جرحة في شهادته.
(2/489)
7 - باب الْقُنُوتِ
قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ
1001- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَقَنَتَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصُّبْحِ قَالَ نَعَمْ فَقِيلَ
لَهُ أَوَ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ قَالَ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا "
[الحديث1001- أطرافه في:
7341.6394.4096.4095.4094.4092.4091.4090.4098.4088.3170.3064.2814.2801.1300.1003.1002]
1002- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ
قَالَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ الْقُنُوتِ
فَقَالَ قَدْ كَانَ الْقُنُوتُ قُلْتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ قَالَ
قَبْلَهُ قَالَ فَإِنَّ فُلاَنًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ
(2/489)
كتاب الاستسقاء
باب الاستسقاء وخروج النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء
...
بسم الله الرحمن الرحيم
15- كتاب الإستسقاء
3 - باب الِاسْتِسْقَاءِ وَخُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1005- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ خَرَجَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ
[الحديث1005- أطرافه في:
6343.1028.1027.1026.1025.1024.1023.1012.1011]"
"باب الاستسقاء وخروج النبي صلى الله عليه وسلم" كذا للمستملي دون
البسملة، وسقط ما قبل باب من رواية الحموي والكشميهني، وللأصيلي كتاب الاستسقاء
فقط، وثبتت البسملة في رواية ابن شبويه. والاستسقاء لغة طلب سقي الماء من الغير
للنفس أو الغير، وشرعا طلبه من الله عند حصول الجدب على وجه مخصوص. قوله: "عن
عبد الله بن أبي بكر" أي ابن محمد بن عمرو بن حزم قاضي المدينة، وسيأتي في
" باب تحويل الرداء " التصريح بسماع عبد الله له من عباد. قوله:
"عن عمه" هو عبد الله بن زيد بن عاصم، كما سيأتي صريحا في الباب المذكور
وسياقه أتم. قوله: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم" أي إلى المصلى كما
سيأتي التصريح به أيضا فيه، ويأتي الكلام فيه على كيفية تحويل الرداء وزاد فيه:
"وصلى ركعتين". وقد اتفق فقهاء الأمصار على مشروعية صلاة الاستسقاء
وأنها ركعتان إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: يبرزون للدعاء والتضرع، وإن خطب
لهم فحسن. ولم يعرف الصلاة، هذا هو المشهور عنه. ونقل أبو بكر الرازي عنه التخيير
بين الفعل والترك، وحكى ابن عبد البر الإجماع على استحباب الخروج إلى الاستسقاء،
والبروز إلى ظاهر المصر، لكن حكى القرطبي عن أبي حنيفة أيضا أنه لا يستحب الخروج،
وكأنه أشتبه عليه بقوله في الصلاة.
(2/492)
باب دعاء النبي صلى
الله عليه وسلم (اجعلها عليهم سنين كسني يوسف)
...
عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مِنْ النَّاسِ إِدْبَارًا قَالَ اللَّهُمَّ سَبْعٌ
كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا
الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ
فَيَرَى الدُّخَانَ مِنْ الْجُوعِ فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ يَا
مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ
قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إِلَى قَوْلِهِ
{إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا
مُنْتَقِمُونَ} فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ مَضَتْ الدُّخَانُ
وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَآيَةُ الرُّومِ
[الحديث1007- أطرافه في:
4825.4824.4823.4822.4821.48204809.4774.4767.4693.1020]
قوله: "باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلها سنين كسني يوسف" أورد
فيه حديث أبي هريرة في الدعاء في القنوت للمؤمنين، والدعاء على الكافرين، وفيه
معنى الترجمة. ووجه إدخاله في أبواب الاستسقاء التنبيه على أنه كما شرع الدعاء
بالاستسقاء للمؤمنين كذلك شرع الدعاء بالقحط على الكافرين لما فيه من نفع الفريقين
بإضعاف عدو المؤمنين ورقة قلوبهم ليذلوا للمؤمنين. وقد ظهر من ثمرة ذلك التجاؤهم
إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم برفع القحط، كما في الحديث الثاني.
ويمكن أن يقال: إن المراد أن مشروعية الدعاء على الكافرين في الصلاة تقتضي مشروعية
الدعاء للمؤمنين فيها، فثبت بذلك صلاة الاستسقاء خلافا لمن أنكرها. والمراد بسني
يوسف ما وقع في زمانه عليه السلام من القحط في السنين السبع كما وقع في التنزيل،
وقد بين ذلك في الحديث الثاني حيث قال: "سبعا كسبع يوسف " وأضيفت إليه
لكونه الذي أنذر بها، أو لكونه الذي قام بأمور الناس فيها. قوله: "حدثنا
مغيرة بن عبد الرحمن" هو الحزامي بالمهملة والزاي لا المخزوي، وهما مدنيان من
طبقة واحدة لكن الحزامي معروف بالرواية عن أبي الزناد دون المخزومي، وقد بينه ابن
معين والنسائي، لكنه لم ينفرد بهذا الحديث فسيأتي في الجهاد من رواية الثوري، وفي
أحاديث الأنبياء من رواية شعيب، وأخرجه الإسماعيلي من رواية موسى بن عقبة كلهم عن
أبي الزناد. قوله: "اللهم اجعلها سنين" في الرواية الماضية في "
باب يهوى بالتكبير من صفة الصلاة ": "اللهم اجعلها علهم " والضمير
في قوله: "اجعلها " يعود على المدة التي تقع فيها الشدة المعبر عنها
بالوطأة، وزاد بعد قوله فيها كسني يوسف " وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون
له " وسيأتي الكلام على هذا الحديث مستوفي في تفسير آل عمران إن شاء الله
تعالى. قوله: "وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: غفار غفر الله لها
الخ" هذا حديث آخر، وهو عند المصنف بالإسناد المذكور وكأنه سمعه هكذا فأورده
كما سمعه. وقد أخرجه أحمد عن قتيبة كما أخرجه البخاري، ويحتمل أن يكون له تعلق
بالترجمة من جهة أن الدعاء على المشركين بالقحط ينبغي أن يخص بمن كان محاربا دون
من كان مسالما. قوله: "غفار غفر الله لها" فيه الدعاء بما يشتق من الاسم
كأن يقول لأحمد: أحمد الله عاقبتك، ولعلى: أعلاك الله. وهو من جناس الاشتقاق، ولا
يختص بالدعاء بل يأتي مثله في الخبر، ومنه قوله تعالى:{وأسلمت مع سليمان"
وسيأتي في المغازي حديث: "عصية عصت الله ورسوله " وإنما اختصت القبيلتان
بهذا الدعاء لأن غفارا أسلموا قديما، وأسلم سالموا النبي صلى الله عليه وسلم كما
سيأتي بيان ذلك في أوائل المناقب إن شاء الله تعالى.
قوله: "قال ابن أبي الزناد عن أبيه: هذا كله في الصبح" يعني أن عبد
الرحمن بن أبي الزناد روى هذا الحديث عن أبيه بهذا الإسناد، فبين أن الدعاء
المذكور كان في الصبح، وقد تقدم بعض بيان الاختلاف في ذلك في أثناء صفة الصلاة.
قوله: "كنا عند عبد الله" يعني ابن
(2/493)
مسعود، وسيأتي في تفسير الدخان سبب تحديث عبد الله بن مسعود بهذا الحديث. قوله: "لما رأى من الناس إدبارا" أي من الإسلام، وسيأتي في تفسير الدخان أن قريشا لما أبطئوا عن الإسلام. قوله: "فأخذتهم سنة" بفتح المهملة بعدها نون خفيفة أي أصابهم القحط، وقوله: "حصت " بفتح الحاء والصاد المهملتين أي استأصلت النبات حتى خلت الأرض منه. قوله: "حتى أكلنا" في رواية المستملي والحموي " حتى أكلوا " وهو الوجه، وكذا قوله: "ينظر أحدكم " عند الأكثر " ينظر أحدهم " وهو الصواب. وسيأتي بقية الكلام عليه بعد تسعة أبواب.
(2/494)
3 - باب سُؤَالِ
النَّاسِ الإِمَامَ الِاسْتِسْقَاءَ إِذَا قَحَطُوا
1008- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أَبِي طَالِبٍ
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ
لِلْأَرَامِلِ
[الحديث1008-طرفه في:1009]
1009- وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ رُبَّمَا
ذَكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ كُلُّ
مِيزَابٍ
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ
لِلْأَرَامِلِ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ "
1010- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُثَنَّى عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا
قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ
إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا
نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا قَالَ فَيُسْقَوْنَ "
[الحديث1010- طرفه في: 371]
قوله: "باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا" قال ابن رشيد: لو
أدخل تحت هذه الترجمة حديث ابن مسعود الذي قبله لكان أوضح مما ذكر. انتهى. ويظهر
لي أنه لما كان من سأل قد يكون مسلما وقد يكون مشركا وقد يكون من الفريقين، وكان
في حديث ابن مسعود المذكور أن الذي سأل قد يكون مشركا، ناسب أن يذكر في الذي بعده
ما يدل على ما إذا كان الطلب من الفريقين كما سأبينه، ولذلك ذكر لفظ الترجمة عاما
لقوله: "سؤال الناس " وذلك أن المصنف أورد في هذا الباب تمثل ابن عمر
بشعر أبي طالب وقول أنس " إن عمر كان إذا قحطوا استسقى بالعباس " وقد
اعترضه الإسماعيلي فقال: حديث ابن عمر خارج عن الترجمة، إذ ليس فيه أن أحدا سأله
أن يستسقى له ولا في قصة العباس التي أوردها أيضا. وأجاب ابن المنير عن حديث ابن
عمر بأن المناسبة تؤخذ من قوله فيه: "يستسقى الغمام " لأن فاعله محذوف
وهم الناس، وعن حديث أنس بأن في قول عمر " كنا نتوسل إليك بنبيك " دلالة
على أن للإمام مدخلا في الاستسقاء. وتعقب بأنه لا يلزم من كون فاعل " يستسقى
" هو الناس أن يكونوا سألوا الإمام
(2/494)
أن يستسقى لهم كما
في الترجمة، وكذا ليس في قول عمر أنهم كانوا يتوسلون به دلالة على أنهم سألوه أن
يستسقى لهم، إذ يحتمل أن يكونوا في الحالين طلبوا السقيا من الله مستشفعين به صلى
الله عليه وسلم. وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكون أراد بالترجمة الاستدلال بطريق
الأولى لأنهم إذا كانوا يسألون الله به فيسقيهم فأحرى أن يقدموه للسؤال. انتهى.
وهو حسن ويمكن أن يكون أراد من حديث ابن عمر سياق الطريق الثانية عنه، وأن يبين أن
الطريق الأولى مختصرة منها، وذلك أن لفظ الثانية " ربما ذكرت قول الشاعر وأنا
أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقى فدل ذلك على أنه هو الذي باشر الطلب
صلى الله عليه وسلم، وأن ابن عمر أشار إلى قصة وقعت في الإسلام حضرها هو لا مجرد
ما دل عليه شعر أبي طالب. وقد علم من بقية الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم إنما
استسقى إجابة لسؤال من سأله في ذلك كما في حديث ابن مسعود الماضي وفي حديث أنس الآتي
وغيرهما من الأحاديث، وأوضح من ذلك ما أخرجه البيهقي في " الدلائل " من
رواية مسلم الملائي عن أنس قال: "جاء رجل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: يا رسول الله، أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبي يغط.
ثم أنشده شعرا يقول فيه:
وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام يجر رداءه حتى صعد المنبر فقال: "اللهم اسقنا " الحديث وفيه:
"ثم قال صلى الله عليه وسلم: لو كان أبو طالب حيا لقرت عيناه. من ينشدنا
قوله؟ فقام علي فقال: يا رسول الله، كأنك أردت قوله: "وأبيض يستسقى الغمام
بوجهه " الأبيات، فظهرت بذلك مناسبة حديث ابن عمر للترجمة، وإسناد حديث أنس
وإن كان فيه ضعف لكنه يصلح للمتابعة، وقد ذكره ابن هشام في زوائده في السيرة
تعليقا عمن يثق به. وقوله: "يئط " بفتح أوله وكسر الهمزة وكذا "
يغط " بالمعجمة، والأطيط صوت البعير المثقل، والغطيط صوت النائم كذلك، وكني
بذلك عن شدة الجوع، لأنهما إنما يقعان غالبا عند الشبع. وأما حديث أنس عن عمر
فأشار به أيضا إلى ما ورد في بعض طرقه، وهو عند الإسماعيلي من رواية محمد بن
المثنى عن الأنصاري بإسناد البخاري إلى أنس قال: "كانوا إذا قحطوا على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا به، فيستسقى لهم فيسقون فلما كان في إمارة عمر
" فذكر الحديث. وقد أشار إلى ذلك الإسماعيلي فقال: هذا الذي رويته يحتمل
المعنى الذي ترجمه، بخلاف ما أورده هو: قلت: وليس ذلك بمبتدع، لما عرف بالاستقراء
من عادته من الاكتفاء بالإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الذي يورده. وقد روى
عبد الرزاق من حديث ابن عباس " أن عمر استسقى بالمصلى، فقال للعباس: قم
فأستسق، فقام العباس " فذكر الحديث، فتبين بهذا أن في القصة المذكورة أن
العباس كان مسئولا وأنه ينزل منزلة الإمام إذا أمره الإمام بذلك. وروى ابن أبي
شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الداري - وكان خازن عمر - قال:
"أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم صلى
الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل في
المنام فقيل
ـــــــ
(1) هذا الأثر – على فرض صحته كما قال الشارح – ليس بحجة على جواز الاستسقاء
بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته , لأن السائل مجهول , ولأن عمل الصحابه رضي
الله عنهم على خلافه , وهم أعلم الناس بالشرع , ولم يأت أحد منهم إلى قبره يسأله
السقيا ولا غيرها , بل عدل عمر عنه لما وقع الجدب إلى الإستسقاء بالعباس , ولم
ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة , فعلم أن ذلك هو الحق , وأن ما فعله هذا الرجل منكر
ووسيلة الى الشرك , بل قد جعله بعض أهل العلم من أنواع الشرك , وأما تسمية السائل
في رواية سيف المذكورة " بلال بن حارثة " ففي صحة ذلك نظر , ولم يذكر
الشارح سند سيف في ذلك , وعلى تقدير صحته عنه لا حجة فيه , لأن عمل كبار الصحبة
يخالفه , وهم اعلم بالرسول صلى الله عليه وسلم والله أعلم
(2/495)
له: ائت عمر "
الحديث. وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث
المزني أحد الصحابة، وظهر بهذا كله مناسبة الترجمة لأصل هذه القصة أيضا والله
الموفق. قوله: "يتمثل" أي ينشد شعر غيره.
قوله: "وأبيض" بفتح الضاد وهو مجرور برب مقدرة أو منصوب بإضمار أعني أو
أخص، والراجح أنه بالنصب عطفا على قوله: "سيدا " في البيت الذي قبله.
قوله: "ثمال" بكسر المثلثة وتخفيف الميم هو العماد والملجأ والمطعم
والمغيث والمعين والكافي، قد أطلق على كل من ذلك.
وقوله: "عصمة للأرامل " أي يمنعهم مما يضرهم، والأرامل جمع أرملة وهي
الفقيرة التي لا زوج لها، وقد يستعمل في الرجل أيضا مجازا، ومن ثم لو أوصى للأرامل
خص النساء دون الرجال.
وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها، وهي
أكثر من ثمانين بيتا، قالها لما تمالأت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم ونفروا
عنه من يريد الإسلام، أولها:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرا والوسائل
وقد جاهرونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
يقول فيها:
أعبد مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا في أمركم كل واغل
فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم ... تكونوا كما كانت أحاديث وائل
يقول فيها:
أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق لبر في حراء ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكة ... وبالله أن الله ليس بغافل
يقول فيها:
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن حوله ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
يقول فيها:
وما ترك قوم لا أبالك سيدا ... يحوط الذمار بين بكر بن وائل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل
قال السهيلي: فإن قيل كيف قال أبو طالب " يستسقى الغمام بوجهه " ولم يره
قط استسقى، إنما كان ذلك منه بعد الهجرة! وأجاب بما حاصله: أن أبا طالب أشار إلى
ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي صلى الله عليه وسلم معه غلام.
انتهى. ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه وإن لم يشاهد
وقوعه، وسيأتي في الكلام على حديث ابن مسعود ما يشعر بأن سؤال أبي سفيان للنبي صلى
الله عليه وسلم في الاستسقاء وقع بمكة. وذكر ابن التين أن في شعر أبي طالب هذا
دلالة على أنه كان يعرف نبوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث لما أخبره به
بحيرا أو غيره من شأنه، وفيه نظر لما تقدم عن ابن إسحاق أن إنشاء أبي طالب لهذا
الشعر كان بعد المبعث، ومعرفة أبي طالب بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت
في كثير من الأخبار، وتمسك بها الشيعة في أنه كان مسلما. ورأيت لعلي بن حمزة
البصري جزءا جمع فيه شعر أبي طالب وزعم في أوله أنه كان مسلما وأنه مات على
الإسلام وأن الحشوية تزعم أنه مات على الكفر وأنهم لذلك يستجيزون لعنه، ثم بالغ في
سبهم والرد عليهم، واستدل لدعواه بما لا دلالة فيه.
(2/496)
وقد بينت فساد ذلك كله في ترجمة أبي طالب من كتاب الإصابة، وسيأتي بعضه في ترجمة أبي طالب من كتاب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقال عمر بن حمزة" أي ابن عبد الله بن عمر، وسالم شيخه هو عمه، وعمر مختلف في الاحتجاج به وكذلك عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار المذكور في الطريق الموصولة، فاعتضدت إحدى الطريقين بالأخرى، وهو من أمثلة أحد قسمي الصحيح كما تقرر في علوم الحديث، وطريق عمر المعلقة وصلها أحمد وابن ماجة والإسماعيلي من رواية أبي عقيل عبد الله بن عقيل الثقفي عنه، وعقيل فيهما بفتح العين. قوله: "يستسقى" بفتح أوله زاد ابن ماجة في روايته: "على المنبر " وفي روايته أيضا: "في المدينة". قوله: "يجيش" بفتح أوله وكسر الجيم وآخره معجمة يقال: جاش الوادي إذا زخر بالماء، وجاشت القدر إذا غلت، وجاش الشيء إذا تحرك. وهو كناية عن كثرة المطر. قوله: "كل ميزاب" بكسر الميم وبالزاي معروف، وهو ما يسيل منه الماء من موضع عال. ووقع في رواية الحموي " حتى يجيش لك " بتقديم اللام على الكاف وهو تصحيف. قوله: "حدثني الحسن بن محمد" هو الزعفراني والأنصاري شيخه يروي عنه البخاري كثيرا وربما أدخل بينهما واسطة كهذا الموضع، ووهم من زعم أن البخاري أخرج هذا الحديث عن الأنصاري نفسه. قوله: "أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا" بضم القاف وكسر المهملة أي أصابهم القحط، وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث. فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس " وأخرج أيضا من طريق داود عن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: "استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب " فذكر الحديث وفيه: "فخطب الناس عمر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله " وفيه: "فما برحوا حتى سقاهم الله " وأخرجه البلاذري من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم فقال: "عن أبيه " بدل ابن عمر، فيحتمل أن يكون لزيد فيه شيخان، وذكر ابن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة ثمان عشرة، وكان ابتداؤه مصدر الحاج منها ودام تسعة أشهر، والرمادة بفتح الراء وتخفيف الميم، سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب فاغبرت الأرض جدا من عدم المطر، وقد تقدم من رواية الإسماعيلي رفع حديث أنس المذكور في قصة عمر والعباس، وكذلك أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق محمد بن المثنى بالإسناد المذكور. ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيه فضل العباس وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه.
(2/497)
4 - باب تَحْوِيلِ
الرِّدَاءِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1011- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ
أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ
تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى فَقَلَبَ رِدَاءَهُ "
1012- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ
(2/497)
يُحَدِّثُ أَبَاهُ
عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى فَاسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ
كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ هُوَ صَاحِبُ الأَذَانِ وَلَكِنَّهُ وَهْمٌ
لِأَنَّ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيُّ مَازِنُ
الأَنْصَارِ
قوله: "باب تحويل الرداء في الاستسقاء" ترجم لمشروعيته خلافا لمن نفاه،
ثم ترجم بعد ذلك لكيفيته كما سيأتي. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن راهويه
كما جزم به أبو نعيم في المستخرج وأخرجه من طريقه. قوله: "عن محمد بن أبي
بكر" أي ابن محمد بن عمرو بن حزم، وهو أخو عبد الله بن أبي بكر المذكور في
الطريق الثانية من هذا الباب، وقد حدث به عن عباد أبوهما أبو بكر بن محمد بن عمرو
كما سيأتي بعد خمسة عشر بابا. قوله: "استسقى فقلب رداءه" ذكر الواقدي أن
طول ردائه صلى الله عليه وسلم كان ستة أذرع في ثلاثة أذرع وطول إزاره أربعة أذرع
وشبرين في ذراعين وشبر، كان يلبسهما في الجمعة والعيدين. ووقع في " شرح
الأحكام لابن بزيزة " ذرع الرداء كالذي ذكره الواقدي في فرع الإزار، والأول
أولى. قال الزين بن المنير: ترجم بلفظ التحويل، والذي وقع في الطريقين اللذين
ساقهما لفظ القلب، وكأنه أراد أنهما بمعنى واحد. انتهى. ولم تتفق الرواة في الطريق
الثانية على لفظ القلب، فإن رواية أبي ذر " حول " وكذا هو في أول حديث
في الاستسقاء، وكذلك أخرجه مسلم من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر، وقد وقع بيان
المراد من ذلك في " باب الاستسقاء بالمصلى " في زيادة سفيان عن المسعودي
عن أبي بكر ابن محمد، ولفظه: "قلب رداءه جعل اليمين على الشمال " وزاد
فيه ابن ماجة وابن خزيمة من هذا الوجه " والشمال على اليمين " والمسعودي
ليس من شرط الكتاب وإنما ذكر زيادته استطرادا، وسيأتي بيان كون زيادته موصولة أو
معلقة في الباب المذكور إن شاء الله تعالى. وله شاهد أخرجه أبو داود من طريق
الزبيدي عن الزهري عن عباد بلفظ: "فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر،
وعطافه الأيسر على عاتقه الأيمن " وله من طريق عمارة بن غزية عن عباد "
استسقى وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه
قلبها على عاتقه " وقد استحب الشافعي في الجديد فعل ما هم به صلى الله عليه
وسلم من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف، وزعم القرطبي كغيره أن الشافعي اختار في
الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذي في " الأم " ما ذكرته. والجمهور
على استحباب التحويل فقط، ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط صلى الله عليه
وسلم. وعن أبي حنيفة وبعض المالكية لا يستحب شيء من ذلك، واستحب الجمهور أيضا أن
يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق أخرى عن عباد في هذا
الحديث بلفظ: "وحول الناس معه " وقال الليث وأبو يوسف: يحول الإمام
وحده. واستثنى ابن الماجشون النساء فقال: لا يستحب في حقهن. ثم إن ظاهر قوله:
"فقلب رداءه " أن التحويل وقع بعد فراغ الاستسقاء، وليس كذلك، بل المعنى
فقلب رداءه في أثناء الاستسقاء. وقد بينه مالك في روايته المذكورة ولفظه:
"حول رداءه حين استقبل القبلة " ولمسلم من رواية يحيى بن سعيد عن أبي
بكر بن محمد " وإنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه " وأصله
للمصنف كما سيأتي بعد أبواب، وله من رواية الزهري عن عباد "
فقام فدعا الله قائما، ثم توجه قبل القبلة وحول
ـــــــ
(1) ليس الأمر كما قاله الشارح , بل الأولى والأحوط هو التحويل يجعل ما على الأيسر
وعكسه , لأن الحديث بذلك اصح أصرح , ولأن فعله أيسر وأسهل . والله أعلم
(2/498)
رداءه"، فعرف بذلك أن التحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء. واختلف في حكمة هذا التحويل: فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه، وتعقبه ابن العربي بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه. قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه، قيل له حول رداءك ليتحول حالك. وتعقب بأن الذي جزم به يحتاج إلى نقل، والذي رده ورد فيه حديث رجاله ثقات أخرجه الدار قطني والحاكم من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر، ورجح الدار قطني إرساله. وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن. وقال بعضهم: إنما حول رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع يديه في الدعاء فلا يكون سنة في كل حال. وأجيب بأن التحويل من جهة إلى جهة لا يقتضي الثبوت على العاتق، فالحمل على المعنى الأول أولى، فإن الاتباع أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص، والله أعلم. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "قال عبد الله بن أبي بكر" أي قال قال، ويجوز أن يكون ابن عيينة حذف الصيغة مرة، وجرت عادتهم بحذف إحداهما من الخط، وفي حذفها من اللفظ بحث. ووقع عند الحموي والمستملي بلفظ: "عن عبد الله " وصرح ابن خزيمة في روايته بتحديث عبد الله به لابن عيينة. قوله: "أنه سمع عباد بن تميم يحدث أباه" الضمير في قوله: "أباه " يعود على عبد الله بن أبي بكر لا على عباد، وضبطه الكرماني بضم الهمزة وراء بدل الموحدة، أي أظنه. ولم أر ذلك في شيء من الروايات التي اتصلت لنا. ومقتضاه أن الراوي لم يجزم بأن رواية عباد له عن عمه. ووقع في بعض النسخ من ابن ماجة عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن أبيه عن عبد الله بن زيد، وقوله: "عن أبيه " زيادة وهي وهم، والصواب ما وقع في النسخ المعتمدة من ابن ماجة عن محمد بن الصباح، وكذا لابن خزيمة عن عبد الجبار بن العلاء كلاهما عن سفيان قال: "حدثنا المسعودي ويحيى هو ابن سعيد عن أبي بكر أي ابن محمد بن عمرو بن حزم، قال سفيان فقلت لعبد الله - أي ابن أبي بكر - حديث حدثناه يحيى والمسعودي عن أبيك عن عباد بن تميم، فقال عبد الله بن أبي بكر: "سمعته أنا من عباد يحدث أبي عن عبد الله بن زيد ابن أبي بكر " فذكر الحديث 0 قوله: "خرج إلى المصلى فاستسقى" في رواية الزهري المذكورة " فخرج بالناس يستسقى"، ولم أقف في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد على سبب ذلك ولا صفته صلى الله عليه وسلم حال الذهاب إلى المصلى وعلى وقت ذهابه، وقد وقع ذلك في حديث عائشة عند أبي داود وابن حبان قالت: "شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحط المطر، فأمر بمنبر فوضع له بالمصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر " الحديث. وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأصحاب السنن " خرج النبي صلى الله عليه وسلم متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى فرقى المنبر " وفي حديث أبي الدرداء عند البزار والطبراني " قحط المطر، فسألنا نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقى لنا، فغدا نبي الله صلى الله عليه وسلم: "الحديث. وقد حكى ابن المنذر الاختلاف في وقتها، والراجح أنه لا وقت لها معين، وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها تخالفه بأنها لا تختص بيوم معين، وهل تصنع بالليل؟ استنبط بعضهم من كونه صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة فيها بالنهار أنها نهارية كالعيد، وإلا فلو كانت تصلي بالليل لأسر فيها بالنهار وجهر بالليل كمطلق النوافل. ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلي في وقت الكراهة، وأفاد ابن حبان أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة. قوله: "فاستقبل القبلة وحول رداءه" تقدم ما فيه قريبا. قوله: "وصلى ركعتين" في رواية يحيى بن سعيد المذكورة عند ابن خزيمة: "وصلى بالناس ركعتين " وفي رواية الزهري الآتية في " باب كيف حول ظهره ": "ثم صلى لنا ركعتين واستدل به على أن الخطبة
(2/499)
في الاستسقاء قبل
الصلاة، وهو مقتضى حديث عائشة وابن عباس المذكورين، لكن وقع عند أحمد في حديث عبد
الله بن زيد التصريح بأنه بدا بالصلاة قبل الخطبة، وكذا في حديث أبي هريرة عند ابن
ماجة حيث قال: "فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة صلى الله عليه وسلم: "والمرجح
عند الشافعية والمالكية الثاني، وعن أحمد رواية كذلك، ورواية: "يخير"،
ولم يقع في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة ولا ما يقرأ
فيها، وقد أخرج الدار قطني من حديث ابن عباس أنه يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد،
وأنه يقرأ فيهما بسبح وهل أتاك، وفي إسناده مقال، لكن أصله في السنن بلفظ:
"ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد " فأخذ بظاهره الشافعي فقال: يكبر
فيهما. ونقل الفاكهي شيخ شيوخنا عن الشافعي استحباب التكبير حال الخروج إليها كما
في العيد، وهو غلط منه عليه، ويمكن الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك بأنه
صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعاء ثم صلى ركعتين ثم خطب، فاقتصر بعض الرواة على شيء
وبعضهم على شيء، وعبر بعضهم عن الدعاء بالخطبة فلذلك وقع الاختلاف. وأما قول ابن
بطال: إن رواية أبي بكر بن محمد دالة على تقديم الصلاة على الخطبة وهو أضبط من
ولديه عبد الله ومحمد فليس ذلك بالبين من سياق البخاري ولا مسلم والله أعلم. وقال
القرطبي: يعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة لمشابهتها بالعيد، وكذا ما تقرر من
تقديم الصلاة أمام الحاجة. وقد ترجم المصنف لهذا الحديث أيضا: "الدعاء في
الاستسقاء قائما واستقبال القبلة فيه: "وحمله ابن العربي على حال الصلاة ثم
قال: يحتمل أن يكون ذلك خاصا بدعاء الاستسقاء، ولا يخفى ما فيه، وقد ترجم له
المصنف في الدعوات بالدعاء مستقبل القبلة من غير قيد بالاستسقاء، وكأنه ألحقه به،
لأن الأصل عدم الاختصاص: وترجم أيضا لكونها ركعتين وهو إجماع عند من قال بها،
ولكونها في المصلى، وقد استثنى الخفاف من الشافعية مسجد مكة كالعيد، وبالجهر
بالقراءة في الاستسقاء، وبتحويل الظهر إلى الناس عند الدعاء وهو من لازم استقبال
القبلة. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف، وقوله: "كان ابن
عيينة الخ" يحتمل أن يكون تعليقا، ويحتمل أن يكون سمع ذلك من شيخه علي بن عبد
الله المذكور، ويرجح الثاني أن الإسماعيلي أخرجه عن جعفر الفريابي عن علي بن عبد
الله بهذا الإسناد فقال: عن عبد الله بن زيد الذي أرى النداء، وكذا أخرجه النسائي
عن محمد بن منصور عن سفيان، وتعقبه بأن ابن عيينة غلط فيه. قوله: "لأن
هذا" يعني راوي حديث الاستسقاء "عبد الله" أي هو عبد الله
"ابن زيد بن عاصم" فالتقدير لأن هذا أي عبد الله بن زيد هو عبد الله بن
زيد بن عاصم. قوله: "مازن الأنصار" احتراز عن مازن تميم، وهو مازن بن
مالك بن عمرو بن تميم، أو مازن قيس وهو مازن بن منصور بن الحارث بن خصفة بمعجمة ثم
مهملة مفتوحتين ابن قيس بن عيلان، ومازن ابن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن،
ومازن ضبة وهو مازن بن كعب بن ربيعة بن ثعلبة بن سعد ابن ضبة، ومازن شيبان وهو
مازن بن ذهل بن ثعلبة بن شيبان وغيرهم. قال الرشاطي: مازن في القبائل كثير،
والمازن في اللغة بيض النمل وقد حذف البخاري مقابله والتقدير: وذاك أي عبد الله بن
زيد رائي الأذان عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وقد اتفقا في الاسم واسم الأب
والنسبة إلى الأنصاري ثم إلى الخزرج والصحبة والرواية، وافترقا في الجد والبطن
الذي من الخزرج لأن حفيد عاصم من مازن وحفيد عبد ربه من بلحارث ابن الخزرج، والله
أعلم.
ـــــــ
(1) أخرج أحمد رحمه الله حديث أبي هريرة المذكور باسناد حسن , وصرح فيه بأنه خطب
بعد الصلاة , ويجمع بين هذين الحديثين بجواز الأمرين . والله أعلم
(2/500)
5- باب انتقام الرب
جلّ وعز من خلقه بالقحط اذا انتهكت محارم الله
قوله "باب انتقام الرب عز وجل من خلقه بالقحط إذا انتهكت محارمه "هكذا
وقعت هذه الترجمة في رواية الحموي وحده خالية من حديث ومن أثر قال بن رشيد كأنها
كانت في رقعة مفردة فاهملها الباقون وكأنه وضعها ليدخل تحتها حديثا وأليق شيء بها
حديث عبد الله بن مسعود يعني المذكور في ثاني باب من الاستسقاء وأخر ذلك ليقع له
التغيير في بعض سنده كما جرت به عادته غالبا فعاقه عن ذلك عائق والله أعلم
(2/501)
6 - باب
الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ
1013- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ
قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ
كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ
يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَائِمًا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتْ
السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا قَالَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اسْقِنَا اللَّهُمَّ
اسْقِنَا اللَّهُمَّ اسْقِنَا قَالَ أَنَسُ وَلاَ وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي
السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ قَزَعَةً وَلاَ شَيْئًا وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ
سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ قَالَ فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ
التُّرْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ قَالَ
وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ
الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ
يُمْسِكْهَا قَالَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى
الْآكَامِ وَالْجِبَالِ وَالْآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ
الشَّجَرِ قَالَ فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ قَالَ شَرِيكٌ
فَسَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ قَالَ لاَ أَدْرِي
"
قوله: "باب الاستسقاء في المسجد الجامع" أشار بهذه الترجمة إلى أن
الخروج إلى المصلى ليس بشرط في الاستسقاء لأن الملحوظ في الخروج المبالغة في
اجتماع الناس، وذلك حاصل في المسجد الأعظم بناء على المعهود في ذلك الزمان من عدم
تعدد الجامع، بخلاف ما حدث في هذه الأعصار في بلاد مصر والشام والله المستعان. وقد
ترجم له المصنف بعد ذلك " من اكتفى بصلاة الجمعة في خطبة الاستسقاء "
وترجم له أيضا: "الاستسقاء في خطبة الجمعة " فأشار بذلك إلى أنه إن اتفق
وقوع ذلك يوم الجمعة اندرجت خطبة الاستسقاء وصلاتها في الجمعة، ومدار الطرق
الثلاثة على شريك: فالأولى عن أبي ضمرة، والثانية عن مالك، والثالثة عن إسماعيل بن
جعفر ثلاثتهم عن شريك. وأخرجه أيضا من طرق أخرى عن أنس سنشير إليها عند النقل
لزوائدها إن شاء الله تعالى. قوله: "أن رجلا" لم أقف على تسميته في حديث
أنس، وروى الإمام أحمد من حديث كعب بن مرة ما يمكن أن يفسر هذا المبهم بأنه كعب
المذكور وسأذكر بعض سياقه بعد قليل، وروى البيهقي في الدلائل من طريق مرسلة ما
يمكن أن يفسر بأنه خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، ولكن رواه ابن ماجة من
طريق شرحبيل بن السمط أنه " قال لكعب بن مرة: يا كعب حدثنا عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم واحذر، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا
رسول الله استسق الله عز
(2/501)
وجل، فرفع يديه فقال: اللهم اسقنا " الحديث. ففي هذا أنه غير كعب، وسيأتي بعد أبواب في هذه القصة " فأتاه أبو سفيان " ومن ثم زعم بعضهم أنه أبو سفيان بن حرب، وهو وهم لأنه جاء في واقعة أخرى كما سنوضحه إن شاء الله تعالى في " باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين " وقد تقدم في الجمعة من رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس " أصاب الناس سنة - أي جدب - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قام أعرابي " وسيأتي من رواية يحيى بن سعيد عن أنس " أتى رجل أعرابي من أهل البدو " وأما قوله في رواية ثابت الآتية في " باب الدعاء إذا كثر المطر " عن أنس " فقام الناس فصاحوا " فلا يعارض ذلك، لأنه يحتمل أن يكونوا سألوه بعد أن سأل، ويحتمل أنه نسب ذلك إليهم لموافقة سؤال السائل ما كانوا يريدونه من طلب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وقد وقع في رواية ثابت أيضا عند أحمد " إذ قال بعض أهل المسجد " وهي ترجح الاحتمال الأول. قوله: "من باب كان وجاه المنبر" بكسر واو وجاه ويجوز ضمها أي مواجهة، ووقع في شرح ابن التين أن معناه مستدبر القبلة، وهو وهم، وكأنه ظن أن الباب المذكور كان مقابل ظهر المنبر، وليس الأمر كذلك. ووقع في رواية إسماعيل بن جعفر " من باب كان نحو دار القضاء " وفسر بعضهم دار القضاء بأنها دار الإمارة، وليس كذلك وإنما هي دار عمر بن الخطاب، وسميت دار القضاء لأنها بيعت في قضاء دينه فكان يقال لها دار قضاء دين عمر، ثم طال ذلك فقيل لها دار القضاء ذكره الزبير بن بكار بسنده إلى ابن عمر، وذكر عمر بن شبة في " أخبار المدينة " عن أبي غسان المدني: سمعت ابن أبي فديك عن عمه كانت دار القضاء لعمر، فأمر عبد الله وحفصة أن يبيعاها عند وفاته في دين كان عليه، فباعوها من معاوية، وكانت تسمى دار القضاء. قال ابن أبي فديك سمعت عمي يقول: إن كانت لتسمى دار قضاء الدين. قال وأخبرني عمي أن الخوخة الشارعة في دار القضاء غربي المسجد هي خوخة أبو بكر الصديق التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر " وقد صارت بعد ذلك إلى مروان وهو أمير المدينة، فلعلها شبهة من قال إنها دار الإمارة فلا يكون غلطا كما قال صاحب المطالع وغيره، وجاء في تسميتها دار القضاء قول آخر رواه عمر بن شبة في " أحبار المدينة " عن أبي غسان المدني أيضا عن عبد العزيز بن عمران عن راشد بن حفص عن أم الحكم بنت عبد الله عن عمتها سهلة بنت عاصم قالت: كانت دار القضاء لعبد الرحمن بن عوف وإنما سميت دار القضاء لأن عبد الرحمن بن عوف اعتزل فيها ليالي الشورى حتى قضي الأمر فيها فباعها بنو عبد الرحمن من معاوية بن أبي سفيان. قال عبد العزيز: فكانت فيها الدواوين وبيت المال، ثم صيرها السفاح رحبة للمسجد. وزاد أحمد في رواية ثابت عن أنس " إني لقائم عند المنبر " فأفاد بذلك قوة ضبطه للقصة لقربه، ومن ثم لم يرد هذا الحديث بهذا السياق كله إلا من روايته. قوله: "قائم يخطب" زاد في رواية قتادة في الأدب " بالمدينة". قوله: "فقال يا رسول الله" هذا يدل على أن السائل كان مسلما فانتفى أن يكون أبا سفيان فإنه حين سؤاله لذلك كان لم يسلم كما سيأتي في حديث عبد الله بن مسعود قريبا. قوله: "هلكت الأموال" في رواية كريمة وأبي ذر جميعا عن الكشميهني: "المواشي " وهو المراد بالأموال هنا لا الصامت، وقد تقدم في كتاب الجمعة بلفظ: "هلك الكراع " وهو بضم الكاف يطلق على الخيل وغيرها. وفي رواية يحيى بن سعيد الآتية " هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس " وهو من ذكر العام بعد الخاص، والمراد بهلاكهم عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر. قوله: "وانقطعت السبل" في رواية الأصيلي: "وتقطعت " بمثناة وتشديد الطاء، والمراد بذلك أن الإبل ضعفت
(2/502)
- لقلة القوت - عن
السفر، أو لكونها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يقيم أودها، وقيل المراد نفاد ما
عند الناس من الطعام أو قلته قلا يجدون ما يحملونه يجلبونه إلى الأسواق. ووقع في
رواية قتادة الآتية عن أنس " قحط المطر " أي قل، وهو بفتح القاف والطاء
صلى الله عليه وسلم وحكي بضم ثم كسر، وزاد في رواية ثابت الآتية عن أنس "
واحمرت الشجر " واحمرارها كناية عن يبس، ورقها لعدم شربها الماء، أو لانتثاره
فتصير الشجر أعوادا بغير ورق. ووقع لأحمد في رواية قتادة " وأمحلت الأرض
" وهذه الألفاظ يحتمل أن يكون الرجل قال كلها، ويحتمل أن يكون بعض الرواة روى
شيئا مما قاله بالمعنى لأنها متقاربة فلا تكون غلطا كما قال صاحب المطالع وغيره.
قوله: "فادع الله يغيثنا" أي فهو يغيثنا، وهذه رواية الأكثر، ولأبي ذر
" أن يغيثنا " وفي رواية إسماعيل بن جعفر الآتية للكشميهني: "يغثنا
" بالجزم، ويجوز الضم في يغيثنا على أنه من الإغاثة وبالفتح على أنه من
الغيث، ويرجح الأول قوله في رواية إسماعيل بن جعفر " فقال اللهم أغثنا "
ووقع في رواية قتادة " فادع الله أن يسقينا " وله في الأدب "
فاستسق ربك " قال قاسم بن ثابت رواه لنا موسى بن هارون " اللهم أغثتا
" وجائز أن يكون من الغوث أو من الغيث، والمعروف في كلام العرب غثنا لأنه من
الغوث. وقال ابن القطاع: غاث الله عباده غيثا وغياثا سقاهم المطر، وأغاثهم أجاب
دعاءهم، ويقال غاث وأغاث بمعنى، والرباعي أعلى. وقال ابن دريد: الأصل غاثه الله
يغوثه غوثا فأغيث، واستعمل أغاثه، ومن فتح أوله فمن الغيث ويحتمل أن يكون معنى
أغثنا أعطنا غوثا وغيثا. قوله: "فرفع يديه" زاد النسائي في رواية سعيد
عن يحيى بن سعيد " ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون
" وزاد في رواية شريك " حذاء وجهه " ولابن خزيمة من رواية حميد عن
أنس " حتى رأيت بياض إبطيه " وتقدم في الجمعة بلفظ: "فمد يديه ودعا
" زاد في رواية قتادة في الأدب " فنظر إلى السماء". قوله:
"فقال: اللهم اسقنا" أعاده ثلاثا في هذه الرواية، ووقع في رواية ثابت
الآتية عن أنس " اللهم اسقنا " مرتين، والأخذ بالزيادة أولى، ويرجحها ما
تقدم في العلم أنه صلى الله عليه وسلم: "كان إذا دعا دعا ثلاثا" . قوله:
"ولا والله" كذا للأكثر بالواو، ولأبي ذر بالفاء. وفي رواية ثابت
المذكورة " وأيم الله". قوله: "من سحاب" أي مجتمع "ولا
قزعة" بفتح القاف والزاي بعدها مهملة أي سحاب متفرق، قال ابن سيده. القزع قطع
من السحاب رقاق، زاد أبو عبيد: وأكثر ما يجيء في الخريف. قوله: "ولا
شيئا" بالنصب عطفا على موضع الجار والمجرور أي ما نرى شيئا، والمراد نفي
علامات المطر من ريح وغيره. قوله: "وما بيننا وبين سلع" بفتح المهملة
وسكون اللام جبل معروف بالمدينة، وقد حكي أنه بفتح اللام. قوله: "من بيت ولا
دار" أي يحجبنا عن رؤيته، وأشار بذلك إلى أن السحاب كان مفقودا لا مستترا
ببيت ولا غيره. ووقع في رواية ثابت في علامات النبوة قال: "قال أنس: وإن
السماء لفي مثل الزجاجة " أى لشدة صفائها، وذلك مشعر بعدم السحاب أيضا. قوله:
"فطلعت" أي ظهرت "من ورائه" أي سلع، وكأنها نشأت من جهة البحر
لأن وضع سلع يقتضي ذلك. قوله: "مثل الترس" أي مستديرة، ولم يرد أنها
مثله في القدر لأن في رواية حفص بن عبيد الله عند أبي عوانة " فنشأت سحابة
مثل رجل الطائر وأنا أنظر إليها " فهذا يشعر بأنها كانت صغيرة. وفي رواية
ثابت المذكورة " فهاجت ريح أنشأت سحابا ثم اجتمع " وفي رواية قتادة في
الأدب " فنشأ السحاب بعضه إلى بعض " وفي رواية إسحاق الآتية " حتى
ثار السحاب أمثال الجبال " أي لكثرته، وفيه: "ثم لم ينزل عن منبره
ـــــــ
(1) كذا في الأصلين , ولعله بفتح القاف والحاء , كما يعلم من القاموس وغيره
(2/503)
حتى رأينا المطر
يتحادر على لحيته " وهذا يدل على أن السقف وكف لكونه كان من جريد النخل.
قوله: "فلما توسطت السماء انتشرت" هذا يشعر بأنها استمرت مستديرة حتى
انتهت إلى الأفق فانبسطت حينئذ، وكأن فائدته تعميم الأرض بالمطر. قوله: "ما
رأينا الشمس سبتا" كناية عن استمرار الغيم الماطر، وهذا في الغالب، وإلا فقد
يستمر المطر والشمس بادية، وقد تحجب الشمس بغير مطر. وأصرح من ذلك رواية إسحاق
الآتية بلفظ: "فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد والذي يليه حتى الجمعة
الأخرى". وأما قوله: "سبتا " فوقع للأكثر بلفظ السبت - يعني أحد
الأيام - والمراد به الأسبوع، وهو من تسمية الشيء باسم بعضه كما يقال جمعة قاله
صاحب النهاية. قال: ويقال أراد قطعة من الزمان. وقال الزين بن المنير: قوله:
"سبتا " أي من السبت إلى السبت، أي جمعة. وقال المحب الطبري مثله وزاد
أن فيه تجوزا لأن السبت لم يكن مبدأ ولا الثاني منتهى، وإنما عبر أنس بذلك لأنه
كان من الأنصار وكانوا قد جاوروا اليهود فأخذوا بكثير من اصطلاحهم، وإنما سموا
الأسبوع سبتا لأنه أعظم الأيام عند اليهود، كما أن الجمعة عند المسلمين كذلك. وحكى
النووي تبعا لغيره كثابت في الدلائل أن المراد بقوله سبتا قطعة من الزمان، ولفظ
ثابت: الناس يقولون معناه من سبت إلى سبت وإنما السبت قطعة من الزمان. وأن الداودي
رواه بلفظ: "ستا " وهو تصحيف. وتعقب بأن الداودي لم ينفرد بذلك فقد وقع
في رواية الحموي والمستملي هنا ستا، وكذا رواه سعيد بن منصور عن الدراوردي عن
شريك، ووافقه أحمد من رواية ثابت عن أنس، وكأن من ادعى أنه تصحيف استبعد اجتماع
قوله ستا مع قوله في رواية إسماعيل بن جعفر الآتية سبعا، وليس بمستبعد لأن من قال
ستا أراد ستة أيام تامة، ومن قال سبعا أضاف أيضا يوما ملفقا من الجمعتين. وقد وقع
في رواية مالك عن شريك " فمطرنا من جمعة إلى جمعة " وفي رواية للنسفي
" فدامت جمعة " وفي رواية عبدوس والقابسي فيما حكاه عياض " سبتنا
" كما يقال جمعتنا، ووهم من عزا هذه الرواية لأبي ذر. وفي رواية قتادة الآتية
" فمطرنا فما كدنا نصل إلى منازلنا " أي من كثرة المطر، وقد تقدم للمصنف
في الجمعة من وجه آخر بلفظ: "فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا " ولمسلم
في رواية ثابت " فأمطرنا حتى رأيت الرجل تهمه نفسه أن يأتي أهله " ولابن
خزيمة في رواية حميد " حتى أهم الشاب القريب الدار الرجوع إلى أهله "
وللمصنف في الأدب من طريق قتادة " حتى سالت مثاعب المدينة " ومثاعب جمع
مثعب بالمثلثة وآخره موحده مسيل الماء. قوله: "ثم دخل رجل من ذلك الباب في
الجملة المقبلة" ظاهره أنه غير الأول، لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد،
وقد قال شريك في آخر هذا الحديث هنا " سألت أنسا: أهو الرجل الأول؟ قال: لا
أدري " وهذا يقتضي أنه لم يجزم بالتغاير، فالظاهر أن القاعدة المذكورة محمولة
على الغالب لأن أنسا من أهل اللسان وقد تعددت. وسيأتي في رواية إسحاق عن أنس
" فقام ذلك الرجل أو غيره: "وكذا لقتادة في الأدب، وتقدم في الجمعة من
وجه آخر كذلك، وهذا يقتضي أنه كان يشك فيه، وسيأتي من رواية يحيى بن سعيد فأتى
الرجل فقال: يا رسول الله". ومثله لأبي عوانة من طريق حفص عن أنس بلفظ:
"فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك الأعرابي في الجمعة الأخرى " وأصله في مسلم،
وهذا يقتضي الجزم بكونه واحدا، فلعل أنسا تذكره بعد أن نسيه، أو نسيه بعد أن كان
تذكره، ويؤيد ذلك رواية البيهقي في " الدلائل " من طريق يزيد أن عبيدا
السلمي صلى الله عليه وسلم قال: "لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من،
غزوة تبوك أتاه وفد بني فزارة وفيه خارجة بن
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض" يزيد بن عبيد"
(2/504)
حصن أخو عيينة قدموا على إبل عجاف فقالوا: يا رسول الله ادع لنا ربك أن بغيثنا " فذكر الحديث وفيه: "فقال: اللهم اسق بلدك وبهيمك، وانشر بركتك. اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا طبقا واسعا عاجلا غير آجل نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء " وفيه: "قال فلا والله ما نرى في السماء من قزعة ولا سحاب، وما بين المسجد وسلع من بناء " فذكر نحو حديث أنس بتمامه وفيه: "قال الرجل - يعني الذي سأله أن يستسقى لهم - هلكت الأموال " الحديث كذا في الأصل، والظاهر أن السائل هو خارجة المذكور لكونه كان كبير الوفد ولذلك سمي من بينهم والله أعلم. وأفادت هذه الرواية صفة الدعاء المذكور، والوقت الذي وقع فيه. قوله: "هلكت الأموال وانقطعت السبل" أي بسبب غير السبب الأول، والمراد أن كثرة الماء انقطع المرعى بسببها فهلكت المواشي من عدم الرعي، أو لعدم ما يكنها من المطر، ويدل على ذلك قوله في رواية سعيد عن شريك عند النسائي: "من كثرة الماء " وأما انقطاع السبل فلتعذر سلوك الطرق من كثرة الماء. وفي رواية حميد عند ابن خزيمة: "واحتبس الركبان " وفي رواية مالك عن شريك " تهدمت البيوت " وفي رواية إسحاق الآتية " هدم البناء وغرق المال". قوله: "فادع الله يمسكها" يجوز في يمسكها الضم والسكون، وللكشميهني هنا " أن يمسكها " والضمير يعود على الأمطار أو على السحاب أو على السماء، والعرب تطلق على المطر سماء، ووقع في رواية سعيد عن شريك " أن يمسك عنا الماء " وفي رواية أحمد من طريق ثابت " أن يرفعها عنا " وفي رواية قتادة في الأدب " فادع ربك أن يحبسها عنا. فضحك " وفي رواية ثابت " فتبسم " زاد في رواية حميد " لسرعة ملال ابن آدم". قوله: "فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه" تقدم الكلام عليه قريبا. قوله: "اللهم حوالينا" بفتح اللام وفيه حذف تقديره اجعل أو أمطر، والمراد به صرف المطر عن الأبنية والدور. قوله: "ولا علينا" فيه بيان للمراد بقوله: "حوالينا " لأنها تشمل الطرق التي حولهم فأراد إخراجها بقوله: "ولا علينا". قال الطيبي: في إدخال الواو هنا معنى لطيف، وذلك أنه لو أسقطها لكان مستسقيا للآكام وما معها فقط، ودخول الواو يقتضي أن طلب المطر على المذكورات ليس مقصودا لعينه ولكن ليكون وقاية من أذى المطر، فليست الواو مخلصة للعطف ولكنها للتعليل، وهو كقولهم تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، فإن الجوع ليس مقصودا لعينه ولكن لكونه مانعا عن الرضاع بأجرة إذ كانوا يكرهون ذلك أنفا اهـ. قوله: "اللهم على الآكام" فيه بيان المراد بقوله: "حوالينا " والإكام بكسر الهمزة وقد تفتح وتمد: جمع أكمة بفتحات، قال ابن البرقي: هو التراب المجتمع. وقال الداودي: هي أكبر من الكدية. وقال القزاز: هي التي من حجر واحد وهو قول الخليل. وقال الخطابي: هي الهضبة الضخمة، وقيل الجبل الصغير، وقيل ما ارتفع من الأرض. وقال الثعالبي: الأكمة أعلى من الرابية وقيل دونها. قوله: "والظراب" بكسر المعجمة وآخره موحدة جمع ظرب بكسر الراء وقد تسكن. وقال القزاز: هو الجبل المنبسط ليس بالعالي. وقال الجوهري: الرابية الصغيرة. قوله: "والأودية" في رواية مالك " بطون الأودية " والمراد بها ما يتحصل فيه الماء لينتفع به، قالوا: ولم تسمع أفعلة جمع فاعل إلا الأودية جمع واد وفيه نظر، وزاد مالك في روايته ورءوس الجبال. قوله: "فانقطعت" أي السماء أو السحابة الماطرة، والمعنى أنها أمسكت عن المطر على المدينة. وفي رواية مالك " فانجابت عن المدينة انجياب الثوب " أي خرجت عنها كما يخرج الثوب عن لابسه. وفي رواية سعيد عن شريك " فما هو إلا أن تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك تمزق السحاب حتى ما نرى منه شيئا " والمراد بقوله: "ما نرى منه شيئا " أي في
(2/505)
المدينة، ولمسلم في
رواية حفص " فلقد رأيت السحاب يتمزق كأنه الملا حين تطوى " والملا بضم
الميم والقصر وقد يمد جمع ملاءة وهو ثوب معروف. وفي رواية قتادة عند المصنف "
فلقد رأيت السحاب ينقطع يمينا وشمالا يمطرون - أي أهل النواحي - ولا يمطر أهل
المدينة " وله في الأدب " فجعل السحاب يتصدع عن المدينة - وزاد فيه -
يريهم الله كرامة نبيه وإجابة دعوته " وله في رواية ثابت عن أنس "
فتكشطت - أي تكشفت - فجعلت تمطر حول المدينة ولا تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى
المدينة وأنها لمثل الإكليل صلى الله عليه وسلم: "ولأحمد من هذا الوجه "
فتقور ما فوق رءوسنا من السحاب حتى كأنا في إكليل " والإكليل بكسر الهمزة
وسكون الكاف كل شيء دار من جوانبه، واشتهر لما يوضع على الرأس فيحيط به، وهو من
ملابس الملوك كالتاج. وفي رواية إسحاق عن أنس " فما يشير بيده إلى ناحية من
السحاب إلا تفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوبة " والجوبة بفتح الجيم ثم
الموحدة وهي الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا الفرجة في السحاب. وقال
الخطابي: المراد بالجوبة هنا الترس، وضبطها الزين بن المنير تبعا لغيره بنون بدل
الموحدة، ثم فسره بالشمس إذ ظهرت في خلال السحاب. لكن جزم عياض بأن من قاله بالنون
فقد صحف. وفي رواية إسحاق من الزيادة أيضا: "وسال الوادي - وادي قناة - شهرا،
وقناة بفتح القاف والنون الخفيفة علم على أرض ذات مزارع بناحية أحد، وواديها أحد
أودية المدينة المشهورة قاله الحازمي. وذكر محمد بن الحسن المخزومي في "
أخبار المدينة " بإسناد له أن أول من سماه وادي قناة تبع اليماني لما قدم
يثرب قبل الإسلام. وفي رواية له أن تبعا بعث رائدا ينظر إلى مزارع المدينة فقال:
نظرت فإذا قناة حب ولا تبن، والجرف حب وتبن، والحرار - يعني جمع حرة بمهملتين - لا
حب ولا تبن اهـ. وتقدم في الجمعة من هذا الوجه " وسال الوادي قناة "
وأعرب بالضم على البدل على أن قناة اسم الوادي ولعله من تسمية الشيء باسم ما
جاوره. وقرأت بخط الرضى الشاطبي قال: الفقهاء تقوله بالنصب والتنوين يتوهمونه قناة
من القنوات، وليس كذلك اهـ. وهذا الذي ذكره قد جزم به بعض الشراح وقال: هو على
التشبيه. أي سال مثل القناة. وقوله في الرواية المذكورة " إلا حدث بالجود "
هو بفتح الجيم المطر الغزير، وهذا يدل على أن المطر استمر فيما سوى المدينة، فقد
يشكل بأنه يستلزم أن قول السائل " هلكت الأموال وانقطعت السبل " لم
يرتفع الإهلاك ولا القطع وهو خلاف مطلوبه، ويمكن الجواب بأن المراد أن المطر استمر
حول المدينة من الإكام والظراب وبطون الأودية لا في الطرق المسلوكة، ووقوع المطر
في بقعة دون بقعة كثير ولو كانت تجاورها، وإذا جاز ذلك جاز أن يوجد للماشية أماكن
تكنها وترعى فيها بحيث لا يضرها المطر فيزول الإشكال. وفي هذا الحديث من الفوائد
غير ما تقدم جواز مكالمة الإمام في الخطبة للحاجة، وفيه القيام في الخطبة وأنها لا
تنقطع بالكلام ولا تنقطع بالمطر، وفيه قيام الواحد بأمر الجماعة، وإنما لم يباشر
ذلك بعض أكابر الصحابة لأنهم كانوا يسلكون الأدب بالتسليم وترك الابتداء بالسؤال،
ومنه قول أنس، " كان يعجبنا أن يجيء الرجل من البادية فيسأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "وسؤال الدعاء من أهل الخير ومن يرجى منه القبول وإجابتهم لذلك،
ومن أدبه بث الحال لهم قبل الطلب لتحصيل الرقة المقتضية لصحة التوجه فترجى الإجابة
عنده، وفيه تكرار الدعاء ثلاثا، وإدخال دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء به
على
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض " لفي مثل الإكليل"
(2/506)
المنبر ولا تحويل فيه ولا استقبال، والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء، وليس في السياق ما يدل على أنه نواها مع الجمعة، وفيه علم من أعلام النبوة في إجابة الله دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام عقبه أو معه ابتداء في الاستسقاء وانتهاء في الاستصحاء وامتثال السحاب أمره بمجرد الإشارة، وفيه الأدب في الدعاء حيث لم يدع برفع المطر مطلقا لاحتمال الاحتياج إلى استمراره فاحترز فيه بما يقتضي رفع الضرر وبقاء النفع، ويستنبط منه أن من أنعم الله عليه بنعمة لا ينبغي له أن يتسخطها لعارض يعرض فيها، بل يسأل الله رفع ذلك العارض وإبقاء النعمة. وفيه أن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكل وإن كان مقام الأفضل التفويض صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بما وقع لهم من الجدب، وأخر السؤال في ذلك تفويضا لربه، ثم أجابهم إلى الدعاء لما سألوه في ذلك بيانا للجواز وتقرير السنة في هذه العبادة الخاصة، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة نفع الله به. وفيه جواز تبسم الخطيب على المنبر تعجبا من أحوال الناس، وجواز الصياح في المسجد بسبب الحاجة المقتضية لذلك. وفيه اليمين لتأكيد الكلام، ويحتمل أن يكون ذلك جرى على لسان أنس بغير قصد اليمين، واستدل به على جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، وعلى أن الاستسقاء لا تشرع فيه صلاة، فأما الأول فقال به الشافعي وكرهه سفيان الثوري، وأما الثاني فقال به أبو حنيفة كما تقدم، وتعقب بأن الذي وقع في هذه القصة مجرد دعاء لا ينافي مشروعية الصلاة لها، وقد بينت في واقعة أخرى كما تقدم، واستدل به على الاكتفاء بدعاء الإمام في الاستسقاء قاله ابن بطال، وتعقب بما سيأتي في رواية يحيى بن سعيد " ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون " وقد استدل به المصنف في الدعوات على رفع اليدين في كل دعاء. وفي الباب عدة أحاديث جمعها المنذري في جزء مفرد وأورد منها النووي في صفة الصلاة في شرح المهذب قدر ثلاثين حديثا، وسنذكر وجه الجمع بينها وبين قول أنس " كان لا يرفع يديه إلا في الاستسقاء " بعد أربعة عشر بابا إن شاء الله تعالى. وفيه جواز الدعاء بالاستصحاء للحاجة، وقد ترجم له البخاري بعد ذلك.
(2/507)
7 - باب
الِاسْتِسْقَاءِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ
1014- حدثنا قتيبة بن سعد قال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن شريك عن أنس بن مالك ثم أن
رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه
وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال يا رسول الله
هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يديه ثم قال اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا قال أنس ولا والله ما نرى في
السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال فطلعت من ورائه
سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت فلا والله ما رأينا الشمس ستا
ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة يعني الثانية ورسول الله صلى الله عليه وسلم
قائم يخطب
ـــــــ
(1) في هذا نظر . والصواب أن أخذ بالأسباب والبدار بالدعاء والاستعانة عند الحاجة
أولى وأفضل من التفويض , وسيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم ,
ولعله إنما أخر الدعاء لأسباب اقتضت ذلك غير التفويض , فلما ساله هذا السائل بادر
باجابته , وذلك عن إذن الله سبحانه وتشريعه , لأنه صلى الله عليه وسلم لاينطق عن
الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} , والله أعلم
(2/507)
فاستقبله قائما
فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله قال فرفع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يديه ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب
وبطون الأودية ومنابت الشجر قال فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس قال شريك سألت أنس بن
مالك أهو الرجل الأول فقال ما أدري
قوله: "باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة" أورد فيه حديث
أنس المذكور من طريق إسماعيل بن جعفر عن شريك المذكور، وقد تقدمت فوائده في الذي
قبله قوله فيه: "يوم الجمعة " في رواية كريمة: "يوم جمعة "
بالتنكير.
(2/508)
8 - باب
الِاسْتِسْقَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ
1015- حدثنا مسدد قال حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس قال ثم بينما رسول الله صلى
الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله قحط المطر فادع
الله أن يسقينا فدعا فمطرنا فما كدنا أن يصرفه عنا نصل إلى منازلنا فما زلنا نمطر
إلى الجمعة المقبلة قال فقام ذلك الرجل أو غيره فقال يا رسول الله ادع الله أن
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم حوالينا ولا علينا قال فلقد رأيت السحاب
يتقطع يمينا وشمالا يمطرون ولا يمطر أهل المدينة "
قوله: "باب الاستسقاء على المنبر" أورد فيه الحديث المذكور أيضا من
رواية قتادة عن أنس، وقد تقدمت فوائده أيضا.
(2/508)
9 - باب مَنْ
اكْتَفَى بِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1016- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن شريك بن عبد الله عن أنس قال جاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ثم هلكت المواشي وتقطعت السبل فدعا فمطرنا من
الجمعة إلى الجمعة ثم جاء فقال تهدمت البيوت وتقطعت السبل وهلكت المواشي فادع الله
يمسكها فقام صلى الله عليه وسلم فقال اللهم على الآكام والظراب والأودية ومنابت
الشجر فانجابت عن المدينة انجياب الثوب
قوله: "باب من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء" أورد فيه الحديث
المذكور أيضا من طريق مالك عن شريك وقد تقدم ما فيه أيضا، وقوله فيه: "فدعا
فمطرنا " في رواية الأصيلي: "فادع الله " بدل فدعا، وكل من اللفظين
مقدر فيما لم يذكر فيه، وفيه تعقب على من استدل به لمن يقول: لا تشرع الصلاة
للاستسقاء، لأن الظاهر ما تضمنته الترجمة.
(2/508)
10 - باب
الدُّعَاءِ إِذَا تَقَطَّعَتْ السُّبُلُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَطَرِ
1017- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن
مالك
(2/508)
11 - باب مَا قِيلَ
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَوِّلْ رِدَاءَهُ فِي
الِاسْتِسْقَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
1018- حدثنا الحسن بن بشر قال حدثنا معافى بن عمران عن الأوزاعي عن إسحاق بن عبد
الله عن أنس بن مالك أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم هلاك المال وجهد
العيال فدعا الله يستسقي ولم يذكر أنه حول رداءه ولا استقبل القبلة "
قوله: "باب ما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحول رداءه الخ" إنما
عبر عنه بلفظ: "قيل " مع صحة الخبر لأن الذي قال في الحديث: "ولم
يذكر أنه حول رداءه " يحتمل أن يكون هو الراوي عن أنس أو من دونه فلأجل هذا
التردد لم يجزم بالحكم، وأيضا فسكوت الراوي عن ذلك لا يقتضي نفي الوقوع. وأما
تقييده بقوله: "يوم الجمعة " فليبين أن قوله فيما مضى " باب تحويل
الرداء في الاستسقاء " أي الذي يقام في المصلى. وهذا السياق الذي أورده
المصنف لهذا الحديث في هذا الباب مختصر جدا، وسيأتي مطولا من الوجه المذكور بعد
اثني عشر بابا، وفيه: "يخطب على المنبر يوم الجمعة".
(2/509)
12 - باب إِذَا
اسْتَشْفَعُوا إِلَى الإِمَامِ لِيَسْتَسْقِيَ لَهُمْ لَمْ يَرُدَّهُمْ
1019- حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن
أنس بن مالك أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هلكت
المواشي وتقطعت السبل فادع الله فدعا الله فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة فجاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله تهدمت البيوت وتقطعت السبل وهلكت
المواشي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم على ظهور الجبال والآكام وبطون
الأودية ومنابت الشجر فانجابت عن المدينة انجياب الثوب
قوله: "باب إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقى ثم لم يردهم" أورد فيه
الحديث المذكور من وجه آخر عن مالك
(2/509)
13 - باب إِذَا
اسْتَشْفَعَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْقَحْطِ
1020- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ
وَالأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ أَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ
فَقَالَ إِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا عَنْ الإِسْلاَمِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى
هَلَكُوا فِيهَا وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ
فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ جِئْتَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ
هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ فَقَرَأَ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ
بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ثُمَّ عَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ
أَبُو عَبْد اللَّهِ وَزَادَ أَسْبَاطٌ عَنْ مَنْصُورٍ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُقُوا الْغَيْثَ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ
سَبْعًا وَشَكَا النَّاسُ كَثْرَةَ الْمَطَرِ قَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ
عَلَيْنَا فَانْحَدَرَتْ السَّحَابَةُ عَنْ رَأْسِهِ فَسُقُوا النَّاسُ حَوْلَهُمْ
"
قوله: "باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط" قال الزين بن
المنير: ظاهر هذه الترجمة منع أهل الذمة من الاستبداد بالاستسقاء، كذا قال، ولا
يظهر وجه المنع من هذا اللفظ. واستشكل بعض شيوخنا مطابقة حديث ابن مسعود للترجمة،
لأن الاستشفاع إنما وقع عقب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بالقحط، ثم سئل
أن يدعو برفع ذلك ففعل، فنظيره أن يكون إمام المسلمين هو الذي دعا على الكفار
بالجدب فأجيب، فجاءه الكفار يسألونه الدعاء بالسقيا. انتهى. ومحصلة أن الترجمة أعم
من الحديث، ويمكن أن يقال، هي مطابقة لما وردت فيه، ويلحق بها بقية الصور، إذ لا
يظهر الفرق بين ما إذا استشفعوا بسبب دعائه أو بابتلاء الله لهم بذلك، فإن الجامع
بينهما ظهور الخضوع منهم والذلة للمؤمنين في التماسهم منهم الدعاء لهم، وذلك من
مطالب الشرع. ويحتمل أن يكون ما ذكره شيخنا هو السبب في حذف المصنف جواب "
إذا " من الترجمة ويكون التقدير في الجواب مثلا: أجابهم مطلقا، أو أجابهم
بشرط أن يكون هو الذي دعا عليهم، أو لم يجبهم إلى ذلك أصلا. ولا دلالة فيما وقع من
النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة على مشروعية ذلك لغيره، إذ الظاهر أن ذلك
من خصائصه لاطلاعه على المصلحة في ذلك بخلاف من بعده من الأئمة، ولعله حذف جواب
" إذا " لوجود هذه الاحتمالات. ويمكن أن يقال: إذا رجا إمام المسلمين
رجوعهم عن الباطل أو وجود نفع عام للمسلمين شرع دعاؤه لهم والله أعلم. قوله:
"عن مسروق قال: أتيت ابن مسعود" سيأتي في تفسير الروم بالإسناد المذكور
في أوله " بينما رجل يحدث في كندة فقال يجيء دخان يوم القيامة " فذكر
القصة وفيها " ففزعنا فأتيت ابن مسعود " الحديث. قوله: "فقال: إن
قريشا أبطئوا" سيأتي في الطريق المذكورة إنكار ابن مسعود لما قاله القاص
المذكور، وسنذكر في تفسير سورة الدخان ما وقع لنا في تسمية القاص المذكور وأقوال
العلماء في المراد بقوله تعالى: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ
بِدُخَانٍ مُبِينٍ } مع بقية شرح هذا الحديث، ونقتصر في هذا الباب على ما يتعلق
بالاستسقاء ابتداء وانتهاء. قوله: "فدعا عليهم" تقدم في أوائل الاستسقاء
صفة ما دعا به عليهم وهو قوله: "اللهم سبعا كسبع يوسف " وهو منصوب بفعل
تقديره أسألك، أو سلط عليهم. وسيأتي في تفسير
(2/510)
سورة يوسف بلفظ: "اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف " وفي سورة الدخان " اللهم أعني عليهم الخ " وأفاد الدمياطي أن ابتداء دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بذلك كان عقب طرحهم على ظهره سلى الجزور الذي تقدمت قصته في الطهارة وكان ذلك بمكة قبل الهجرة، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بذلك بعدها بالمدينة في القنوت كما تقدم أوائل الاستسقاء من حديث أبي هريرة، ولا يلزم من ذلك اتحاد هذه القصص إذ لا مانع أن يدعو بذلك عليهم مرارا، والله أعلم. قوله: "فجاءه أبو سفيان" يعني الأموي والد معاوية، والظاهر أن مجيئه كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود " ثم عادوا، فذلك قوله: "يوم نبطش البطشة الكبرى" يوم بدر " ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر، وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك فلذلك قال: "وأبيض يستسقى الغمام بوجهه " البيت، لكن سيأتي بعد هذا بقليل ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل جدا والله المستعان. قوله: "جئت تأمر بصلة الرحم" يعني والذين هلكوا بدعائك من ذوي رحمك فينبغي أن تصل رحمك بالدعاء لهم، ولم يقع في هذا السياق التصريح بأنه دعا لهم، وسيأتي هذا الحديث في تفسير سورة "ص" بلفظ: "فكشف عنهم ثم عادوا " وفي سورة الدخان من وجه آخر بلفظ: "فاستسقى لهم فسقوا " ونحوه في رواية أسباط المعلقة. قوله: "بدخان مبين الآية" سقط قوله الآية لغير أبي ذر، وسيأتي ذكر بقية اختلاف الرواية في تفسير سورة الدخان. قوله: "يوم نبطش البطشة الكبرى" زاد الأصيلي بقية الآية. قوله: "وزاد أسباط" هو ابن نصر، ووهم من زعم أنه أسباط بن محمد. قوله: "عن منصور" يعني بإسناده المذكور قبله إلى ابن مسعود وقد وصله الجوزقي والبيهقي من رواية علي بن ثابت عن أسباط بن نصر عن منصور وهو ابن المعتمر عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود قال: "لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدبارا " فذكر نحو الذي قبله وزاد: "فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث " الحديث. وقد أشاروا بقولهم " بعثت رحمة " إلى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ". قوله: "فسقوا الناس حولهم" كذا في جميع الروايات في الصحيح بضم السين والقاف وهو على لغة بني الحارث. وفي رواية البيهقي المذكورة " فأسقى الناس حولهم " وزاد بعد هذا " فقال - يعني ابن مسعود - لقد مرت آية الدخان وهو الجوع الخ " وقد تعقب الداودي وغيره هذه الزيادة ونسبوا أسباط بن نصر إلى الغلط في قوله: "وشكا الناس كثرة المطر الخ " وزعموا أنه أدخل حديثا في حديث، وأن الحديث الذي فيه شكوى كثرة المطر وقوله: "اللهم حوالينا ولا علينا " لم يكن في قصة قريش وإنما هو في القصة التي رواها أنس، وليس هذا التعقب عندي بجيد إذ لا مانع أن يقع ذلك مرتين، والدليل على أن أسباط بن نصر لم يغلط ما سيأتي في تفسير الدخان من رواية أبي معاوية عن الأعمش عن أبي الضحى في هذا الحديث: "فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر، فإنها قد هلكت. قال: لمضر؟ إنك لجريء. فاستسقى فسقوا " اهـ. والقائل " فقيل " يظهر لي أنه أبو سفيان لما ثبت في كثير من طرق هذا الحديث في الصحيحين " فجاءه أبو سفيان " ثم وجدت في الدلائل للبيهقي من طريق شبابة عن شعبة عن عمرو بن مرة عن سالم عن أبي الجعد عن شرحبيل بن السمط عن كعب بن مرة - أو مرة بن كعب - قال: "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم. على مضر، فأتاه أبو سفيان فقال: ادع الله لقومك فإنهم قد هلكوا " ورواه أحمد وابن ماجة من رواية الأعمش عن عمرو بن مرة بهذا الإسناد عن كعب بن مرة ولم يشك، فأبهم أبا سفيان قال: "جاءه رجل فقال استسق الله
(2/511)
لمضر، فقال: إنك لجريء، ألمضر؟ قال: يا رسول الله استنصرت الله فنصرك، ودعوت الله فأجابك، فرفع يديه فقال: اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا مريئا طبقا عاجلا غير رائث نافعا غير ضار، قال فأجيبوا، فما لبثوا أن أتوه فشكوا إليه كثرة المطر فقالوا: قد تهدمت البيوت، فرفع يديه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا، فجعل السحاب يتقطع يمينا وشمالا " فظهر بذلك أن هذا الرجل المبهم المقول له " إنك لجريء " هو أبو سفيان، لكن يظهر لي أن فاعل " قال يا رسول الله استنصرت الله الخ " هو كعب ابن مرة راوي هذا الخبر لما أخرجه أحمد أيضا والحاكم من طريق شعبة أيضا عن عمرو بن مرة بهذا الإسناد إلى كعب قال: "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر. فأتيته فقلت: يا رسول الله، إن الله قد نصرك وأعطاك واستجاب لك، وإن قومك قد هلكوا " الحديث، فعلى هذا كأن أبا سفيان وكعبا حضرا جميعا، فكلمه أبو سفيان بشيء وكعب بشيء، فدل ذلك على اتحاد قصتهما، وقد ثبت في هذه ما ثبت في تلك من قوله إنك لجريء، ومن قوله: "فقال: اللهم حوالينا ولا علينا " وغير ذلك. وظهر بذلك أن أسباط بن نصر لم يغلط في الزيادة المذكورة ولم ينتقل من حديث إلى حديث، وسياق كعب بن مرة يشعر بأن ذلك وقع في المدينة بقوله: "استنصرت الله فنصرك " لأن كلا منهما كان بالمدينة بعد الهجرة، لكن لا يلزم من ذلك اتحاد هذه القصة مع قصة أنس، بل قصة أنس واقعة أخرى لأن في رواية أنس " فلم يزل على المنبر حتى مطروا " وفي هذه " فما كان إلا جمعة أو نحوها حتى مطروا " والسائل في هذه القصة غير السائل في تلك فهما قصتان وقع في كل منهما طلب الدعاء بالاستسقاء ثم طلب الدعاء بالاستصحاء، وإن ثبت أن كعب بن مرة أسلم قبل الهجرة حمل قوله: "استنصرت الله فنصرك " على النصر بإجابة دعائه عليهم، وزال الإشكال المتقدم والله أعلم. وإني ليكثر تعجبي من كثرة إقدام الدمياطي على تغليط ما في الصحيح بمجرد التوهم، مع إمكان التصويب بمزيد التأمل، والتنقيب عن الطرق، وجمع ما ورد في الباب من اختلاف الألفاظ، فلله الحمد على ما علم وأنعم.
(2/512)
14 - باب
الدُّعَاءِ إِذَا كَثُرَ الْمَطَرُ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا
1021- حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا الفاء عن عبيد الله عن ثابت عن أنس قال ثم كان
النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم جمعة فقام الناس فصاحوا فقالوا يا رسول الله
قحط المطر واحمرت الشجر وهلكت البهائم فادع الله أن يسقينا فقال اللهم اسقنا مرتين
وأيم الله ما نرى في السماء قزعة من سحاب فنشأت سحابة وأمطرت ونزل عن المنبر فصلى
فلما انصرف لم تزل تمطر إلى الجمعة التي تليها فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم
يخطب صاحوا إليه تهدمت البيوت وانقطعت السبل فادع الله فتبسم النبي صلى الله عليه
وسلم ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا فكشطت المدينة فجعلت تمطر حولها ولا تمطر
بالمدينة قطرة فنظرت إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل "
قوله: "باب الدعاء إذا كثر المطر: حوالينا ولا علينا" كان التقدير أن
يقول حوالينا، وتكلف له الكرماني إعرابا آخر، وأورد فيه حديث أنس من طريق ثابت
عنه، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى، إنما اختار لهذه الترجمة رواية ثابت لقوله فيها
" وما تمطر بالمدينة قطرة " لأن ذلك أبلغ في انكشاف المطر، وهذه اللفظة
لم تقع إلا في
(2/512)
هذه الرواية، وقوله فيها " وانكشطت " كذا للأكثر، ولكريمة: "فكشطت " على البناء للمجهول.
(2/513)
15 - باب
الدُّعَاءِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ قَائِمًا
1022- وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ خَرَجَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الأَنْصَارِيُّ وَخَرَجَ مَعَهُ الْبَرَاءُ بْنُ
عَازِبٍ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَاسْتَسْقَى فَقَامَ
بِهِمْ عَلَى رِجْلَيْهِ عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ فَاسْتَغْفَرَ ثُمَّ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ وَلَمْ يُؤَذِّنْ وَلَمْ يُقِمْ قَالَ أَبُو
إِسْحَاقَ وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الأَنْصَارِيُّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
قوله: "باب الدعاء في الاستسقاء قائما" أي في الخطبة وغيرها، قال ابن
بطال: الحكمة فيه كونه حال خشوع وإنابة فيناسبه القيام. وقال غيره: القيام شعار
الاعتناء والاهتمام، والدعاء أهم أعمال الاستسقاء فناسبه القيام، ويحتمل أن يكون
قام ليراه الناس فيقتدوا بما يصنع. قوله: "وقال لنا أبو نعيم" قال
الكرماني تبعا لغيره: الفرق بين " قال لنا " و " حدثنا " أن
القول يستعمل فيما يسمع من الشيخ في مقام المذاكرة، والتحديث فيما يسمع في مقام
التحمل اهـ. لكن ليس استعمال البخاري لذلك منحصرا في المذاكرة فإنه يستعمله فيما
يكون ظاهره الوقف، وفيما يصلح للمتابعات، لتخلص صيغة التحديث لما وضع الكتاب لأجله
من الأصول المرفوعة. والدليل على ذلك وجود كثير من الأحاديث التي عبر فيها في
الجامع بصيغة القول معبرا فيها بصيغة التحديث في تصانيفه الخارجة عن الجامع. قوله:
"عن زهير" هو ابن معاوية أبو خيثمة الجعفي، وأبو إسحاق هو السبيعي.
قوله: "خرج عبد الله بن يزيد الأنصاري" يعني إلى الصحراء يستسقى، وذلك
حيث كان أميرا على الكوفة من جهة عبد الله بن الزبير في سنة أربع وستين قبل غلبة
المختار بن أبي عبيد عليها، ذكر ذلك ابن سعد وغيره، وقد روى هذا الحديث قبيصة عن
الثوري عن أبي إسحاق قال: "بعث ابن الزبير إلى عبد الله ابن يزيد الخطمي أن
استسق بالناس، فخرج وخرج الناس معه وفيهم زيد بن أرقم والبراء بن عازب "
أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه وخالفه عبد الرزاق عن الثوري فقال فيه: "إن
ابن الزبير خرج يستسقى بالناس " الحديث، وقوله إن ابن الزبير هو الذي فعل ذلك
وهم، وإنما الذي فعله هو عبد الله بن يزيد بأمر ابن الزبير، وقد وافق قبيصة عبد
الرحمن بن مهدي عن الثوري على ذلك. قوله: "فقام بهم" في رواية أبي الوقت
وأبي ذر " لهم". قوله: "فاستشقى" في رواية أبي الوقت "
فاستغفر". "فائدة": أورد الحميدي في " الجمع " هذا
الحديث فيما انفرد به البخاري ووهم في ذلك، وسببه أن رواية مسلم وقعت في المغازي
ضمن حديث لزيد بن أرقم. قوله: "ثم صلى ركعتين" ظاهره أنه أخر الصلاة عن
الخطبة، وصرح بذلك الثوري في رواية وخالفه شعبة فقال في روايته عن أبي إسحاق
" أن عبد الله بن يزيد خرج يستسقى بالناس فصلى ركعتين ثم استسقى " أخرجه
مسلم، وقد تقدم في أوائل الاستسقاء ذكر الاختلاف في ذلك وأن الجمهور ذهبوا إلى
تقديم الصلاة، وممن اختار تقديم الخطبة ابن المنذر، وصرح الشيخ أبو حامد وغيره بأن
هذا الخلاف في الاستحباب لا في الجواز.
(2/513)
قوله: "ولم يؤذن ولم يقم" قال ابن بطال: اجمعوا على أن لا أذان ولا إقامة للاستسقاء والله أعلم. قوله: "قال أبو إسحاق ورأى عبد الله بن يزيد النبي صلى الله عليه وسلم" كذا للأكثر، وللحموي وحده " وروى عبد الله بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم وجدته كذلك في نسخة الصغاني، فإن كانت روايته محفوظة احتمل أن يكون المراد أنه روى هذا الحديث بعينه، والأظهر أن مراده أنه روى في الجملة فيوافق قوله رأى لأن كلا منهما يثبت له الصحبة، أما سماع هذا الحديث فلا. وقوله: "قال أبو إسحاق " هو موصول، وقد رواه الإسماعيلي من رواية أحمد بن يونس وعلى بن الجعدي عن زهير وصرحا باتصاله إلى أبي إسحاق، وكأن السر في إيراد هذا الموقوف هنا كونه يفسر المراد بقوله في الرواية المرفوعة بعده " فدعا الله قائما " أي كان على رجليه لا على المنبر، والله أعلم.
(2/514)
16 - باب الْجَهْرِ
بِالْقِرَاءَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1024- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ
عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي فَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو وَحَوَّلَ
رِدَاءَهُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ "قوله:
"باب الجهر بالقراءة في الاستسقاء" أي في صلاتها، ونقل ابن بطال أيضا
الإجماع عليه.
قوله: "ثم صلى ركعتين يجهر" في رواية كريمة والأصيلي: "جهر "
بلفظ الماضي.
(2/514)
باب كيف حول النبي
صلى الله عليه ظهره إلى الناس
...
17 - باب كَيْفَ حَوَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهْرَهُ
إِلَى النَّاسِ
1025- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ
عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي قَالَ فَحَوَّلَ إِلَى
النَّاسِ ظَهْرَهُ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ
ثُمَّ صَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ "
قوله: "باب كيف حول النبي صلى الله عليه وسلم ظهره إلى الناس" أورد فيه
الحديث المذكور وفيه: "فحول إلى الناس ظهره " وقد استشكل لأن الترجمة
لكيفية التحويل والحديث دال على وقوع التحويل فقط، وأجاب الكرماني بأن معناه حوله
حال كونه داعيا، وحمل الزين بن المنير قوله: "كيف " على الاستفهام فقال:
لما كان التحويل المذكور لم يتبين كونه من ناحية اليمين أو اليسار احتاج إلى
الاستفهام عنه اهـ، والظاهر أنه لما لم يتبين من الخبر ذلك كأنه يقول هو على
التخيير، لكن المستفاد من خارج أنه التفت بجانبه الأيمن لما ثبت أنه كان يعجبه
التيمن في شأنه كله، ثم إن محل هذا التحويل بعد فراغ الموعظة وإرادة الدعاء. قوله:
"ثم حول رداءه" ظاهره أن الاستقبال وقع سابقا لتحويل الرداء، وهو ظاهر
كلام الشافعي، ووقع في كلام كثير من الشافعية أنه يحوله حال الاستقبال، والفرق بين
تحويل الظهر والاستقبال أنه في ابتداء التحويل وأوسطه يكون منحرفا حتى يبلغ
الانحراف غايته فيصير مستقبلا.
(2/514)
18 - باب صَلاَةِ
الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ
1026- حدثنا قتيببة قال حدثنا سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن
عمه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فصلى ركعتين وقلب رداءه" .
(2/514)
20 - باب
الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْمُصَلَّى
1027- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ سَمِعَ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ
قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُصَلَّى
يَسْتَسْقِي وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ
قَالَ سُفْيَانُ فَأَخْبَرَنِي المَسْعُودِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ جَعَلَ الْيَمِينَ
عَلَى الشِّمَالِ "
قوله: "باب الاستسقاء في المصلى" هذه الترجمة أخص من الترجمة المتقدمة
أول الأبواب وهي " باب الخروج إلى الاستسقاء " لأنه أعم من أن يكون إلى
المصلى، ووقع في رواية هذا الباب تعيين الخروج إلى الاستسقاء إلى المصلى، بخلاف
تلك فناسب كل رواية ترجمتها. قوله: "قال سفيان" هو ابن عيينة، وهو متصل
بالإسناد الأول، ووهم من زعم أنه معلق كالمزي حيث علم على المسعودي في التهذيب
علامة التعليق، فإنه عند ابن ماجة من وجه آخر عن سفيان عن المسعودي، وكذا قول ابن
القطان لا ندري عمن أخذه البخاري قال: ولهذا لا يعد أحد المسعودي في رجاله، وقد
تعقبه ابن آلموا بأن الظاهر أنه أخذه عن عبد الله بن محمد شيخه فيه، ولا يلزم من
كونهم لم يعدوا المسعودي في رحاله أن لا يكون وصل هذا الموضع عنه لأنه لم يقصد
الرواية عنه، وإنما ذكر الزيادة التي زادها استطرادا، وهو كما قال. قوله: "عن
أبي بكر" يعني ابن محمد بن عمرو بن حزم بإسناده وهو عن عباد بن تميم عن عمه،
وزعم ابن القطان أيضا أنه لا يدري عمن أخذ أبو بكر هذه الزيادة اهـ. وقد بين ذلك
ما أخرجه ابن ماجة وابن خزيمة من طريق سفيان بن عيينة وفيه بيان كون أبي بكر رواها
عن عباد بن تميم عن عمه، وكذا أخرجه الحميدي في مسنده عن سفيان بن عيينة مبينا.
قال ابن بطال: حديث أبي بكر يدل على أن الصلاة قبل الخطبة لأنه ذكر أنه صلى قبل
قلب ردائه، قال: وهو أضبط للقصة من ولده عبد الله بن أبي بكر حيث ذكر الخطبة قبل
الصلاة.
(2/515)
20 - باب
اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1028- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ
قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
مُحَمَّدٍ أَنَّ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ
الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى يُصَلِّي وَأَنَّهُ لَمَّا دَعَا أَوْ أَرَادَ أَنْ
يَدْعُوَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ هَذَا مَازِنِيٌّ وَالأَوَّلُ كُوفِيٌّ هُوَ ابْنُ
يَزِيدَ "
قوله: "باب استقبال القبلة في الاستسقاء" أي في أثناء الخطبة التي تقع
من أجله في المصلى. قوله: "حدثنا محمد" بين أبو ذر في روايته أنه ابن
سلام. قوله: "حدثنا عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي. قوله:
"خرج إلى المصلى يصلي" في رواية المستملي: "يدعو". قوله:
"وأنه لما دعا أو أراد أن يدعو" الشك من الراوي ويحتمل أنه يحيى بن سعيد
فقد رواه السراج من طريق يحيى بن أيوب عنه بالشك أيضا ورواه مسلم من رواية سليمان
بن بلال عنه فلم يشك
(2/515)
21 - باب رَفْعِ
النَّاسِ أَيْدِيَهُمْ مَعَ الإِمَامِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1029- قَالَ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
أُوَيْسٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ أَتَى رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْمَاشِيَةُ هَلَكَ الْعِيَالُ هَلَكَ النَّاسُ
فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ يَدْعُو
وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ مَعَهُ يَدْعُونَ قَالَ فَمَا خَرَجْنَا مِنْ
الْمَسْجِدِ حَتَّى مُطِرْنَا فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ حَتَّى كَانَتْ الْجُمُعَةُ
الأُخْرَى فَأَتَى الرَّجُلُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَشِقَ الْمُسَافِرُ وَمُنِعَ الطَّرِيقُ
"
وَقَالَ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ وَشَرِيكٍ سَمِعَا أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ "
قوله: "باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء" تضمنت هذه الترجمة
الرد على من زعم أنه يكتفي بدعاء الإمام في الاستسقاء، وقد أشرنا إليه قريبا.
قوله: "وقال أيوب بن سليمان" أي ابن بلال، وهو من شيوخ البخاري، إلا أنه
ذكر هذه الطريق عنه بصيغة التعلق، وقد وصلها الإسماعيلي وأبو نعيم والبيهقي من
طريق أبي إسماعيل الترمذي عن أيوب، وقد تقدم الكلام على بقية المتن في " باب
تحويل الرداء". قوله: "فأتى الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله بشق المسافر" كذا للأكثر بفتح الموحدة وكسر المعجمة بعدها
قاف، واختلف في معناه فوقع في البخاري بشق أي مل، وحكى الخطابي أنه وقع فيه بشق
اشتد أي اشتد عليه الضرر. وقال الخطابي: بشق ليس بشيء، وإنما هو " لثق "
يعني بلام ومثلثة بدل الموحدة والشين يقال: لثق الطريق أي صار ذا وحل ولثق الثوب
إذا أصابه ندى المطر. قلت وهو رواية أبي إسماعيل التي ذكرناها. قال الخطابي:
ويحتمل أن يكون مشق بالميم بدل الموحدة أي صارت الطريق زلقة، ومنه مشق الخط والميم
والباء متقاربتان. وقال ابن بطال: لم أجد لبشق في اللغة معنى. وفي نوادر اللحياني:
نشق بالنون أي نشب، انتهى. وفي النون والقاف من مجمل اللغة لابن فارس وكذا في
الصحاح: نشق الظبي في الحبالة أي علق فيها، ورجل نشق إذا كان ممن يدخل في أمور لا
يتخلص منها. ومقتضى كلام هؤلاء أن الذي وقع في رواية البخاري تصحيف، وليس كذلك بل
له وجه في اللغة لا كما قالوا، ففي " المنضد " لكراع
(2/516)
بشق بفتح الموحدة تأخر ولم يتقدم، فعلى هذا فمعنى بشق هنا ضعف عن السفر وعجز عنه كضعف الباشق وعجزه عن الصيد لأنه ينفر الصيد ولا يصيد. وقال أبو موسى في ذيل الغريبين صلى الله عليه وسلم الباشق طائر معروف، فلو اشتق منه فعل فقيل بشق لما امتنع، قال: ويقال بشق الثوب وبشكه قطعه في خقة، فعلى هذا يكون معنى بشق أي قطع به من السير، انتهى كلامه. وأما ما وقع في بعض الروايات بثق بموحدة ومثلثة فلم أره في شيء مما اتصل بنا، وهو تصحيف، فإن البثق الانفجار ولا معنى له هنا. قوله: "وقال الأويسي" هو عبد العزيز بن عبد الله، ومحمد بن جعفر هو ابن أبي كثير المدني أخو إسماعيل. وهذا التعليق ثبت هنا للمستملي وثبت لأبي الوقت وكريمة في آخر الباب الذي بعده، وسقط للباقين رأسا لأنه مذكور عند الجميع في كتاب الدعوات، وقد وصله أبو نعيم في المستخرج كما سيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى.
(2/517)
22 - باب رَفْعِ
الإِمَامِ يَدَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ
1031- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى وَابْنُ أَبِي
عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ
مِنْ دُعَائِهِ إِلاَّ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَإِنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى
بَيَاضُ إِبْطَيْهِ "
قوله: "باب رفع الإمام يده في الاستسقاء" ثبتت هذه الترجمة في رواية
الحموي والمستملي، قال ابن رشيد: مقصوده بتكرير رفع الإمام يده - وإن كانت الترجمة
التي قبلها تضمنته - لتفيد فائدة زائدة وهي أنه لم يكن يفعل ذلك إلا في الاستسقاء،
قال: ويحتمل أن يكون قصد التنصيص بالقصد الأول على رفع الإمام يده كما قصد التنصيص
في الترجمة الأولى بالقصد الأول على رفع الناس، وإن اندرج معه رفع الإمام. قال:
ويجوز أن يكون قصد بهذه كيفية رفع الإمام يده لقوله: "حتى يرى بياض إبطيه
" انتهى. وقال الزين بن المنير ما محصله: لا تكرار في هاتين الترجمتين، لأن
الأولى لبيان اتباع المأمومين الإمام في رفع اليدين، والثانية لإثبات رفع اليدين
للإمام في الاستسقاء. قوله: "عن سعيد" هو ابن أبي عروبة. قوله: "عن
قتادة عن أنس" في رواية يزيد بن زريع عن سعيد " عن قتادة أن أنسا حدثهم
" كما سيأتي في صفة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "إلا في
الاستسقاء" ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة
بالرفع في غير الاستسقاء وقد تقدم أنها كثيرة، وقد أفردها المصنف بترجمة في كتاب
الدعوات وساق فيها عدة أحاديث، فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى، وحمل حديث أنس
على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي روية غيره. وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس
المذكور لأجل الجمع بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة إما الرفع البليغ فيدل عليه
قوله: "حتى يرى بياض إبطيه " ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع
اليدين في الدعاء إنما المراد به مد اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند
الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهة حتى حادتاه وبه حينئذ يرى بياض إبطيه،
وأما صفة اليدين في ذلك فلما رواه مسلم من رواية ثابت عن أنس " أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء " ولأبي داود من حديث
ـــــــ
(1)في الأصل " الغريب" من مخطوطة الرياض " والمراد بالغريبيين غريب
القرآن وغريب الحديث, وأبو موسى هو الحافظ محمد بن أبي بكر الاصفهاني المتوفي سنة
581 مؤلف الذيل على الجمع بين الغربيين لأبي عبيد أحمد بن محمد الهروي المتوفى سنة
401 المطبعة
(2/517)
أنس أيضا: "كان يستسقى هكذا ومد يديه - وجعل بطونهما مما يلي الأرض - حتى رأيت بياض إبطيه " قال النووي: قال العلماء: السنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلا ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء. انتهى. وقال غيره: الحكمة في الإشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره للتفاؤل بتقلب الحال ظهرا لبطن كما قيل في تحويل الرداء، أو هو إشارة إلى صفة المسئول وهو نزول السحاب إلى الأرض.
(2/518)
باب ما يقال إذا
أمطرت
...
23 - باب مَا يُقَالُ إِذَا مَطَرَتْ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَصَيِّبٍ الْمَطَرُ وَقَالَ غَيْرُهُ صَابَ وَأَصَابَ
يَصُوبُ
1032- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ
قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ
نَافِعٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ " أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ قَالَ
اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا "
تَابَعَهُ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَرَوَاهُ
الأَوْزَاعِيُّ وَعُقَيْلٌ عَنْ نَافِعٍ
قوله: "باب ما يقال" يحتمل أن تكون " ما " موصولة أو موصوفة
أو استفهامية. قوله: "إذا مطرت" كذا لأبي ذر من الثلاثي وللباقين "
أمطرت " من رباعي وهما بمعنى عند الجمهور، وقيل: يقال مطر في الخير وأمطر في
الشر. قوله: "وقال ابن عباس: كصيب المطر" وصله الطبري من طريق علي بن
أبي طلحة عنه بذلك وهو قول الجمهور. وقال بعضهم: الصيب السحاب، ولعله أطلق ذلك
مجازا. قال ابن المنير: مناسبة أثر ابن عباس لحديث عائشة لما وقع في حديث الباب
المرفوع قوله: "صيبا " قدم المصنف تفسيره في الترجمة، وهذا يقع له
كثيرا. وقال أخوه الزين: وجه المناسبة أن الصيب لما جرى ذكره في القرآن قرن بأحوال
مكروهة، ولما ذكر في الحديث وصف بالنفع فأراد أن يبين بقول ابن عباس أنه المطر وأنه
ينقسم إلى نافع وضار. قوله: "وقال غيره: صاب وأصاب يصوب" كذا وقع في
جميع الروايات، وقد استشكل من حيث أن يصوب مضارع صاب، وأما أصاب فمضارعه يصيب، قال
أبو عبيدة الصيب تقديره من الفعل سيد وهو من صاب يصوب فلعله كان في الأصل وانصاب
كما حكاه صاحب المحكم فسقطت النون كما سقطت ينصاب بعد يصوب، أو المراد ما حكاه
صاحب الأفعال صاب المطر يصوب إذا نزل فأصاب الأرض فوقع فيه تقديم وتأخير. قوله:
"حدثنا محمد" هو ابن مقاتل، وعبد الله هو ابن المبارك، وعبيد الله هو
ابن عمر العمري، ونافع مولى ابن عمر، والقاسم بن محمد، أي ابن أبي بكر الصديق، وقد
سمع نافع من عائشة ونزل في هذه الرواية عنها، وكذا سمع عبيد الله من القاسم ونزل
في هذه الرواية عنه، مع أن معمرا قد رواه عن عبيد الله بن عمر عن القاسم نفسه
بإسقاط نافع من السند أخرجه عبد الرزاق عنه. قوله: "اللهم صيبا نافعا"
كذا في رواية المستملي وسقط اللهم لغيرهما. وصيبا منصوب بفعل مقدر أي اجعله،
ونافعا صفة للصيب وكأنه احترز بها عن الصيب الضار. وهذا الحديث من هذا الوجه
مختصر، وقد أخرجه مسلم من رواية عطاء عن عائشة تاما ولفظه: "كان إذا كان يوم
ريح عرف ذلك في وجهه ويقول إذا رأى المطر رحمة " وأخرجه أبو داود والنسائي من
طريق شريح بن هانئ عن عائشة أوضح منه ولفظه: "كان إذا رأى ناشئا في أفق
السماء ترك العمل، فإن كشف حمد الله فإن أمطرت قال: اللهم صيبا نافعا "
وسيأتي للمصنف في أوائل بدء الخلق من رواية عطاء أيضا عن عائشة
(2/518)
مقتصرا على معنى الشق الأول وفيه: "أقبل وأدبر وتغير وجهه " وفيه: "وما أدري لعله كما قال قوم عاد "هذا عارض" الآية " وعرف برواية شريح أن الدعاء المذكور يستحب بعد نزول المطر للازدياد من الخير والبركة مقيدا بدفع ما يحذر من ضرر. قوله: "تابعه القاسم بن يحيى" أي ابن عطاء بن مقدم المقدمي عن عبيد الله بن عمر المذكور بإسناده ولم أقف على هذه الرواية موصولة. وقد أخرج البخاري في التوحيد عن مقدم بن محمد عن عمه القاسم ابن يحيى بهذا الإسناد حديثا غير هذا، وزعم مغلطاي أن الدار قطني وصل هذه المتابعة في غرائب الأفراد من رواية يحيى عن عبيد الله. قلت: ليس ذلك مطابقا إلا إن كان نسخته سقط منها من متن البخاري لفظ القاسم بن يحيى. قوله: "ورواه الأوزاعي وعقيل عن نافع" يعني كذلك، فأما رواية الأوزاعي فأخرجها النسائي في " عمل يوم وليلة " عن محمود بن خالد عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي بهذا ولفظه: "هنيئا " بدل نافعا، ورويناها في " الغيلانيات " من طريق دحيم عن الوليد وشعيب هو ابن إسحاق قالا حدثنا الأوزاعي حدثني نافع فذكره، وكذلك وقع في رواية ابن أبي العشرين عن الأوزاعي حدثني نافع أخرجه ابن ماجة، وزال بهذا ما كان يخشى من تدليس الوليد وتسويته، وقد اختلف فيه على الأوزاعي اختلافا كثيرا ذكره الدار قطني في العلل وأرجحها هذه الرواية، ويستفاد من رواية دحيم صحة سماع الأوزاعي عن نافع، خلافا لمن نفاه. وأما رواية عقيل فذكرها الدار قطني أيضا. قال الكرماني: قال أولا تابعه القاسم ثم قال ورواه الأوزاعي، فكان تغير الأسلوب لإفادة العموم في الثاني، لأن الرواية أعم من أن تكون على سبيل المتابعة أم لا، فيحتمل أن يكونا روياه عن نافع كما رواه عبيد الله، ويحتمل أن يكونا روياه على صفة أخرى، انتهى. وما أدري لم ترك احتمال أنه صنع ذلك للتفنن في العبارة مع أنه الواقع في نفس الأمر لما بينا من أن رواية الجميع متفقة لأن الخلاف الذي ذكره الدار قطني إنما يرجع إلى إدخال واسطة بين الأوزاعي ونافع أو لا، والبخاري قد قيد رواية الأوزاعي بكونها عن نافع، والرواة لم يختلفوا في أن نافعا رواه عن القاسم عن عائشة، فظهر بهذا كونها متابعة لا مخالفة، وكذلك رواية عقيل، لكن لما كانت متابعة القاسم أقرب من متابعتهما لأنه تابع في عبيد الله وهما تابعا في شيخه حسن أن يفردها منهما ولما أفردها تفنن في العبارة.
(2/519)
24 - باب مَنْ
تَمَطَّرَ فِي الْمَطَرِ حَتَّى يَتَحَادَرَ عَلَى لِحْيَتِهِ
1033- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ قَالَ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ قَالَ أَصَابَتْ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَامَ أَعْرَابِيٌّ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ فَادْعُ اللَّهَ
لَنَا أَنْ يَسْقِيَنَا قَالَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ قَالَ فَثَارَ سَحَابٌ
أَمْثَالُ الْجِبَالِ ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ
الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ قَالَ فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ وَفِي
الْغَدِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ وَالَّذِي يَلِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى
فَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ أَوْ رَجُلٌ غَيْرُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ وَغَرِقَ الْمَالُ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا فَرَفَعَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ
حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا قَالَ فَمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ السَّمَاءِ إِلاَّ
تَفَرَّجَتْ
(2/519)
حَتَّى صَارَتْ
الْمَدِينَةُ فِي مِثْلِ الْجَوْبَةِ حَتَّى سَالَ الْوَادِي وَادِي قَنَاةَ
شَهْرًا قَالَ فَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلاَّ حَدَّثَ بِالْجَوْدِ
"
قوله: "باب من تمطر" بتشديد الطاء أي تعرض لوقوع المطر، وتفعل يأتي
لمعان أليقها هنا أنه بمعنى مواصلة العمل في مهلة نحو تفكر، ولعله أشار إلى ما
أخرجه مسلم من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: "حسر رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه المطر وقال لأنه حديث عهد بربه " قال العلماء:
معناه قريب العهد بتكوين ربه، وكأن المصنف أراد أن يبين أن تحادر المطر على، لحيته
صلى الله عليه وسلم لم يكن اتفاقا وإنما كان قصدا فلذلك ترجم بقوله من تمطر "
أي قصد نزول المطر عليه، لأنه لو لم يكن باختياره لنزل عن المنبر أول ما وكف
السقف، لكنه تمادى في خطبته حتى كثر نزوله بحيث تحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم.
قد مضى الكلام على حديث أنس مستوفى في " باب تحويل الرداء".
(2/520)
25 - باب إِذَا
هَبَّتْ الرِّيحُ
1034- حدثنا سعيد بن أبي مريم قال أخبرنا محمد بن جعفر قال أخبرني حميد أنه سمع
أنسا يقول كانت الريح الشديدة إذا هبت عرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: "باب إذا هبت الريح" أي ما يصنع من قول أو فعل. قيل وجه دخول هذه
الترجمة في أبواب الاستسقاء أن المطلوب بالاستسقاء نزول المطر، والريح في الغالب
تعقبه، وقد سبق قريبا التنبيه على إيضاح ما يصنع عند هبوبها. ووقع في حديث عائشة
الآتي في بدء الخلق ووقع عند أبي يعلى بإسناد صحيح عن قتادة عن أنس أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا هاجت ريح شديدة قال: "اللهم إني أسألك من خير ما أمرت
به، وأعوذ بك من شر ما أمرت به " وهذه زيادة على رواية حميد يجب قبولها لثقة
رواتها وفي الباب عن عائشة عند الترمذي، وعن أبي هريرة عند أبي داود والنسائي، وعن
ابن عباس عند الطبراني وعن غيرهم. والتعبير في هذه الرواية في وصف الريح بالشديدة
يخرج الريح الخفيفة والله أعلم. وفيه الاستعداد بالمراقبة لله، والالتجاء إليه عند
اختلاف الأحوال وحدوث ما يخاف بسببه.
(2/520)
26 - باب قَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُصِرْتُ بِالصَّبَا
1035- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ
مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ "نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ
"
[ الحديث4105.3343.3205]
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا" قال الزين بن
المنير: في هذه الترجمة إشارة إلى تخصيص حديث أنس الذي قبله بما سوى الصبا من جميع
أنواع الريح لأن قضية نصرها له أن يكون مما يسر بها دون غيرها، ويحتمل أن يكون
حديث أنس على عمومه إما بأن يكون نصرها له متأخرا عن ذلك لأن ذلك وقع في غزوة
الأحزاب وهو المراد بقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً
لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} كما جزم به مجاهد
وغيره وإما بأن يكون نصرها له بسبب إهلاك أعدائه
(2/520)
27 - باب مَا قِيلَ
فِي الزَّلاَزِلِ وَالْآيَاتِ
1036- حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب قال أخبرنا أبو الزناد عن عبد الرحمن
الأعرج عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم " لا تقوم الساعة
حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل
القتل حتى المال فيفيض "
1037- حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا حسين بن الحسن قال حدثنا بن عون عن نافع عن
بن عمر قال ثم اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا قال قالوا وفي نجدنا قال قال
اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا قال قالوا وفي نجدنا قال قال هناك الزلازل
والفتن وبها يطلع قرن الشيطان "
[الحديث1037-طرفه في:7094]
قوله: "باب ما قيل في الزلازل والآيات" قيل لما كان هبوب الريح الشديدة
يوجب التخوف المفضي إلى الخشوع والإنابة كانت الزلزلة ونحوها من الآيات أولى بذلك،
لا سيما وقد نص في الخبر على أن أكثر الزلازل من أشراط الساعة. وقال الزين بن
المنبر: وجه إدخال هذه الترجمة في أبواب الاستسقاء أن وجود الزلزلة ونحوها يقع
غالبا مع نزول المطر، وقد تقدم لنزول المطر دعاء يخصه فأراد المصنف أن يبين أنه لم
يثبت على شرطه في القول عند الزلازل ونحوها شيء، وهل يصلي عند وجودها؟ حكى ابن
المنذر فيه الاختلاف، وبه قال أحمد وإسحاق وجماعة، وعلق الشافعي القول به على صحة
الحديث عن علي، وصح ذلك عن ابن عباس أخرجه عبد الرزاق وغيره. وروى ابن حبان في
صحيحه من طريق عبيد بن عمير عن عائشة مرفوعا: "صلاة الآيات ست ركعات وأربع
سجدات " ثم أورد المصنف في هذا الباب حديثين: أحدهما حديث أبي هريرة من طريق
أبي الزناد عن عبد الرحمن وهو ابن هرمز الأعرج عنه مرفوعا: "لا تقوم الساعة
حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل " الحديث، وسيأتي الكلام عليه مستوفى
(2/521)
في كتاب الفتن فإنه أخرج هذا الحديث هناك مطولا، وذكر منه قطعا هنا وفي الزكاة وفي الرقاق. واختلف في قوله: "يتقارب الزمان " فقيل على ظاهره فلا يظهر التفاوت في الليل والنهار بالقصر والطول، وقيل المراد قرب يوم القيامة. ، وقيل تذهب البركة فيذهب اليوم والليلة بسرعة، وقيل المراد يتقارب أهل ذلك الزمان في الشر وعدم الخير وقيل تتقارب صدور الدول وتطول صلى الله عليه وسلم مدة أحد لكثرة الفتن. وقال النووي في شرح قوله: "حتى يقترب الزمان " معناه حتى تقرب القيامة، ووهاه الكرماني وقال هو من تحصيل الحاصل، وليس كما قال بل معناه قرب الزمان العام من الزمان الخاص وهو يوم القيامة، وعند قربه يقع ما ذكر من الأمور المنكرة صلى الله عليه وسلم. الحديث الثاني حديث ابن عمر " اللهم بارك لنا في شامنا " الحديث وفيه: "قالوا وفي نجدنا. قال: هناك الزلازل والفتن " هكذا وقع في هذه الروايات التي اتصلت لنا بصورة الموقوف عن ابن عمر قال: "اللهم بارك " لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم. وقال القابسي: سقط ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من النسخة، ولا بد منه لأن مثله لا يقال بالرأي، انتهى. وهو من رواية الحسين بن الحسن البصري من آل مالك بن يسار عن عبد الله بن عون عن نافع، ورواه أزهر السمان عن ابن عون مصرحا فيه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في كتاب الفتن، ويأتي الكلام عليه أيضا هناك، ونذكر فيه من وافق أزهر على التصريح برفعه إن شاء الله تعالى وقوله فيه: "قالوا وفي نجدنا " قائل ذلك بعض من حضر من الصحابة كما في الحديث الآخر عند الدعاء للمحلقين " قالوا والمقصرين".
(2/522)
28 - باب قَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:شُكْرَكُمْ
1038- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ
زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى
إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ
مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَصْبَحَ مِنْ
عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ
وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ
بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ "
قوله: "باب قول الله تعالى: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ } قال ابن عباس شكركم" يحتمل أن يكون مراده أن ابن عباس قرأها
كذلك، ويشهد له ما رواه سعيد بن منصور " عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس أنه كان يقرأ وتجعلون شكركم أنكم تكذبون " وهذا إسناد صحيح، ومن
هذا الوجه أخرجه ابن مردويه في التفسير المسند، وروى مسلم من طريق أبي زميل عن ابن
عباس قال: "مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذكر نحو
حديث زيد بن خالد في الباب وفي آخره: "فأنزلت هذه الآية: { فَلا أُقْسِمُ
بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، إلى قوله:
ـــــــ
(1) بهامش طبعة بولاق : كذا بالنسخ , ولعل"لا "سقطت أي " ولا
تطول"
(2) الأقرب تفسير التقارب المذكور في الحديث بما وقع في هذا العصر تقارب ما بين
المدن والأقاليم وقصر زمن المسافه بينهما بسبب اختراع الطائرات والسيارات والإذاعة
وما إلى ذلك والله أعلم
(2/522)
{ تُكَذِّبُونَ} وعرف بهذا مناسبة الترجمة وأثر ابن عباس لحديث زيد بن خالد، وقد روى نحو أثر ابن عباس المعلق مرفوعا من حديث علي لكن سياقه يدل على التفسير لا على القراءة، أخرجه عبد بن حميد من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن علي مرفوعا: "وتجعلون رزقكم، قال: تجعلون شكركم، تقولون مطرنا بنوء كذا " وقد قيل في القراءة المشهورة حذف تقديره وتجعلون شكر رزقكم. وقال الطبري: المعنى وتجعلون الرزق الذي وجب عليكم به الشكر تكذيبكم به، وقيل بل الرزق بمعنى الشكر في لغة أزد شنوءة نقله الطبري عن الهيثم بن عدي. قوله: "عن زيد ين خالد الجهني" هكذا يقول صالح بن كيسان لم يختلف عليه في ذلك، وخالفه الزهري فرواه عن شيخهما عبيد الله فقال: عن أبي هريرة أخرجه مسلم عقب رواية صالح فصحح الطريقين، لأن عبيد الله سمع من زيد بن خالد وأبي هريرة جميعا عدة أحاديث منها حديث العسيف وحديث الأمة إذا زنت، فلعله سمع هذا منهما فحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وإنما لم يجمعهما لاختلاف لفظهما كما سنشير إليه. وقد صرح صالح بسماعه له من عبيد الله عن أبي عوانة، وروى صالح عن عبيد الله بواسطة الزهري عدة أحاديث منها حديث ابن عباس في شاة ميمونة كما تقدم في الطهارة، وحديثه عنه في قصة هرقل كما تقدم في بدء الوحي. قوله: "صلى لنا" أي لأجلنا، أو اللام بمعنى الباء أي صلى بنا، وفيه جواز إطلاق ذلك مجازا وإنما الصلاة لله تعالى. قوله: "بالحديبية" بالمهملة والتصغير وتخفف ياؤها وتثقل، يقال سميت بشجرة حدباء هناك. قوله: "على إثر" بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهور وهو ما يعقب الشيء. قوله: "سماء" أي مطر وأطلق عليه سماء لكونه ينزل من جهة السماء وكل جهة علو تسمى سماء. قوله: "كانت من الليل" كذا للأكثر، وللمستملي والحموي " من الليلة " بالإفراد. قوله: "فلما انصرف" أي من صلاته أو من مكانه. قوله: "هل تدرون" لفظ استفهام معناه التنبيه، ووقع في رواية سفيان عن صالح عند النسائي: "ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة " وهذا من الأحاديث الإلهية وهي تحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخذها عن الله بلا واسطة أو بواسطة. قوله: "أصبح من عبادي" هذه إضافة عموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر بخلاف مثل قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} فإنها إضافة تشريف. قوله: "مؤمن بي وكافر" يحتمل أن يكون المراد بالكفر هنا كفر الشرك بقرينة مقابلته بالإيمان، ولأحمد من رواية نصر بن عاصم الليثي عن معاوية الليثي مرفوعا: "يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقا من السماء من رزقه فيصبحون مشركين يقولون: مطرنا بنوء كذا " ويحتمل أن يكون المراد به كفر النعمة، ويرشد إليه قوله في رواية معمر عن صالح عن سفيان " فأما من حمدني على سقياي وأثنى عليه فذلك آمن بي " وفي رواية سفيان عند النسائي والإسماعيلي نحوه. وقال في آخره: "وكفر بي " أو قال: "كفر نعمتي " وفي رواية أبي هريرة عند مسلم: "قال الله: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم كافرين بها " وله في حديث ابن عباس " أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر " وعلى الأول حمله كثير من أهل العلم، وأعلى ما وقفت عليه من ذلك كلام الشافعي، قال في " الأم ": من قال مطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه مطر نوء كذا فذلك كفر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن النوء وقت والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا، ومن قال مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا في وقت كذا فلا يكون كفرا، وغيره من الكلام أحب إلي منه، يعني حسما للمادة، وعلى ذلك يحمل إطلاق الحديث، وحكى ابن قتيبة في " كتاب الأنواء " أن العرب كانت في ذلك على مذهبين على نحو ما ذكر الشافعي، قال: ومعنى النوء سقوط نجم في المغرب من النجوم الثمانية والعشرين التي هي منازل القمر
(2/523)
قال: وهو مأخوذ من ناء إذا سقط. وقال آخرون: بل النوء طلوع نجم منها، وهو مأخوذ من ناء إذا نهض، ولا تخالف بين القولين في الوقت لأن كل نجم منها إذا طلع في المشرق وقع حال طلوعه آخر في المغرب لا يزال ذلك مستمرا إلى أن تنتهي الثمانية والعشرون بانتهاء السنة، فإن لكل واحد منها ثلاثة عشر يوما تقريبا، قال: وكانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النوء إما بصنعه على زعمهم وإما بعلامته، فأبطل الشرع قولهم وجعله كفرا، فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعا في ذلك فكفره كفر تشريك، وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة فليس بشرك لكن يجوز إطلاق الكفر عليه وإرادة كفر النعمة لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشرك واسطة، فيحمل الكفر فيه على المعنيين لتناول الأمرين، والله أعلم. ولا يرد الساكت، لأن المعتقد قد يشكر بقلبه أو يكفر، وعلى هذا فالقول في قوله: "فأما من قال: "لما هو أعم من النطق والاعتقاد، كما أن الكفر فيه لما هو أعم من كفر الشرك وكفر النعمة، والله أعلم بالصواب. قوله: "مطرنا بنوء كذا وكذا" في حديث أبي سعيد عند النسائي: "مطرنا بنوء المجدح " بكسر الميم وسكون الجيم وفتح الدال بعدها مهملة ويقال بضم أوله هو الدبران بفتح المهملة والموحدة بعدها، وقيل سمي بذلك لاستدباره الثريا، وهو نجم أحمر صغير منير. قال ابن قتيبة: كل النجوم المذكورة له نوء غير أن بعضها أحمر وأغزر من بعض، ونوء الدبران غير محمود عندهم، انتهى. وكأن ذلك ورد في الحديث تنبيها على مبالغتهم في نسبة المطر إلى النوء ولو لم يكن محمودا، أو اتفق وقوع ذلك المطر في ذلك الوقت إن كانت القصة واحدة. وفي مغازي الواقدي أن الذي قال في ذلك الوقت " مطرنا بنوء الشعري " هو عبد الله بن أبي المعروف بابن سلول أخرجه من حديث أبي قتادة. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم طرح الإمام المسألة على أصحابه وإن كانت لا تدرك إلا بدقة النظر. ويستنبط منه أن للولي المتمكن من النظر في الإشارة صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها عبارات ينسبها إلى الله تعالى صلى الله عليه وسلم كذا قرأت بخط بعض شيوخنا، وكأنه أخذه من استنطاق النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عما قال ربهم وحمل الاستفهام فيه على الحقيقة، لكنهم رضي الله عنهم فهموا خلاف ذلك، ولهذا لم يجيبوا إلا بتفويض الأمر إلى الله ورسوله.
(2/524)
29 - باب لاَ
يَدْرِي مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ إِلاَّ اللَّهُ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ
1039- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مِفْتَاحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ لاَ يَعْلَمُ
أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ وَلاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الأَرْحَامِ
وَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ "
[الحديث 1039- أطرافه في 7379.4778.4697.4627]
ـــــــ
(1) في مخطوطة الرياض"الاشارات"
(2) هذا خطأ بين , وقول على الله بغير علم , فلا يجوز لمسلم أن يتعاطى ذلك , بل
عليه أن يقول إذا سئل عما لايعلم:الله أعلم , كما فعل الصحابة رضي الله عنهم.
والله أعلم
(2/524)
قوله: "باب لا
يدري متى يجيء المطر إلا الله تعالى" عقب الترجمة الماضية بهذه لأن تلك تضمنت
أن المطر إنما ينزل بقضاء الله وأنه لا تأثير للكواكب في نزوله، وقضية ذلك أنه لا
يعلم أحد متى يجيء إلا هو. قوله: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
خمس لا يعلمهن إلا الله" هذا طرف من حديث وصله المؤلف في الإيمان وفي تفسير
لقمان من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة في سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام، لكن
لفظه: "في خمس لا يعلمهن إلا الله " ووقع في بعض الروايات في التفسير
بلفظ: "وخمس " وروى ابن مردويه في التفسير من طريق يحيى بن أيوب البجلي
عن جده عن أبي زرعة عن أبي هريرة رفعه: "خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله {إن
الله عنده علم الساعة} الآية". قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو
الفريابي، وسفيان هو الثوري. قوله: "مفتاح" في رواية الكشميهني: "مفاتح".
قوله: "وما يدري أحد متى يجيء المطر" زاد الإسماعيلي: "إلا الله
" أخرجه من طريق عبد الرحمن ابن مهدي عن الثوري، وفيه رد على من زعم أن لنزول
المطر وقتا معينا لا يتخلف عنه، وسيأتي الكلام على فوائد هذا الحديث في تفسير
لقمان إن شاء الله تعالى.
"خاتمة": اشتملت أبواب الاستسقاء من الأحاديث المرفوعة على أربعين
حديثا، المعلق منها تسعة والبقية موصولة، المكرر فيها وفيما مضى سبعة وعشرون
حديثا، والخالص ثلاثة عشر، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عمر الذي فيه شعر
أبي طالب وحديث أنس عن عمر في الاستسقاء بالعباس وحديث عبد الله بن زيد في
الاستسقاء على رجليه وحديث عبد الله بن زيد في صفة تحويل الرداء - وإن كان أخرج
أصله - وحديث عائشة في قوله صيبا نافعا وأصله أيضا فيه وحديث أنس " كان إذا
هبت الريح الشديدة " وسيأتي بيان ما انفرد به من حديث أبي هريرة في كتاب
الفتن إن شاء الله تعالى.
وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم أثران، والله أعلم.
(2/525)
كتاب الكسوف
باب الصلاة في كسوف الشمس
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
16- كتاب الكسوف
"أبواب الكسوف" ثبتت البسملة في رواية كريمة، والترجمة في رواية
المستملي، وفي بعض النسخ كتاب بدل أبواب، والكسوف لغة التغير إلى سواد ومنه كسف
وجهه وحاله، وكسفت الشمس اسودت وذهب شعاعها. واختلف في الكسوف والخسوف هل هما
مترادفان أو لا كما سيأتي قريبا.
1- أَبْوَابُ الْكُسُوف
1040- حدثنا عمرو بن عون قال حدثنا خالد عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة قال "
كنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وسلم
يجر رداءه حتى دخل المسجد فدخلنا فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس فقال صلى الله
عليه وسلم إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا حتى
يكشف ما بكم "
[الحديث 1040-أطرافه في 5785.1063.1062.1048]
1041- حدثنا شهاب بن عباد قال حدثنا إبراهيم بن حميد عن إسماعيل عن قيس قال سمعت
أبا مسعود يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الشمس والقمر لا ينكسفان
لموت أحد من الناس ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموهما فقوموا فصلوا "
[الحديث1041- طرفاه في:3204.1057]
1042- حدثنا أصبغ قال أخبرني بن وهب قال أخبرني عمرو عن عبد الرحمن بن القاسم حدثه
عن أبيه عن بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم إن
الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا
رأيتموهما فصلوا "
[الحديث1042-طرفه في:3201]
1043- حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا هاشم بن القاسم قال حدثنا شيبان أبو
معاوية عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال " كسفت الشمس على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم فقال الناس كسفت الشمس لموت إبراهيم فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته
فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله "
[الحديث1043- طرفاه في : 6199.1060]
(2/526)
قوله: "باب
الصلاة في كسوف الشمس" أي مشروعيتها، وهو أمر متفق عليه، لكن اختلف في الحكم
وفي الصفة، فالجمهور على أنها سنة مؤكدة، وصرح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها، ولم
أره لغيره إلا ما حكى عن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة. ونقل الزين بن المنير عن
أبي حنيفة أنه أوجبها، وكذا نقل بعض مصنفي الحنفية أنها واجبة، وسيأتي الكلام على
الصفة قريبا. قوله: "حدثنا خالد" هو ابن عبد الله الطحان، ويونس هو ابن
عبيد، والإسناد كله بصريون، وترجمة الحسن عن أبي بكرة متصلة عند البخاري منقطعة
عند أبي حاتم والدار قطني، وسيأتي التصريح بالإخبار فيه بعد أربعة أبواب وهو يؤيد
صنيع البخاري. قوله: "فانكسفت" يقال كسفت الشمس بفتح الكاف وانكسفت بمعنى،
وأنكر القزاز انكسفت وكذا الجوهري حيث نسبه للعامة والحديث يرد عليه، وحكى كسفت
بضم الكاف وهو نادر. قوله: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر
رداءه" زاد في اللباس من وجه آخر عن يونس " مستعجلا " وللنسائي من
رواية يزيد بن زريع عن يونس " من العجلة " ولمسلم من حديث أسماء "
كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففزع فأخطأ بدرع حتى أدرك بردائه
" يعني أنه أراد لبس ردائه فلبس الدرع من شغل خاطره بذلك، واستدل به على أن
جر الثوب لا يذم إلا ممن قصد به الخيلاء صلى الله عليه وسلم ووقع في حديث أبي موسى
بيان السبب في الفزع كما سيأتي. قوله: "فصلى بنا ركعتين" زاد النسائي:
"كما تصلون " واستدل به من قال إن صلاة الكسوف كصلاة النافلة، وحمله ابن
حيان والبيهقي على أن المعنى كما تصلون في الكسوف، لأن أبا بكرة خاطب بذلك أهل
البصرة، وقد كان ابن عباس علمهم أنها ركعتان في كل ركعة ركوعان كما روى ذلك
الشافعي وابن أبي شيبة وغيرهما، ويؤيد ذلك أن في رواية عبد الوارث عن يونس الآتية
في أواخر الكسوف أن ذلك وقع يوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت
في حديث جابر عند مسلم مثله وقال فيه: "إن في كل ركعة ركوعين " فدل ذلك
على اتحاد القصة، وظهر أن رواية أبي بكرة مطلقة. وفي رواية جابر زيادة بيان في صفة
الركوع، والأخذ بها أولى. ووقع في أكثر الطرق عن عائشة أيضا أن في كل ركعة ركوعين
" وعند ابن خزيمة من حديثها أيضا أن ذلك كان يوم مات إبراهيم عليه السلام.
قوله: "حتى انجلت" استدل به على إطالة الصلاة حتى يقع الانجلاء، وأجاب
الطحاوي بأنه قال فيه: "فصلوا وادعوا " فدل على أنه إن سلم من الصلاة
قبل الانجلاء يتشاغل بالدعاء حتى تنجلي، وقرره ابن دقيق العيد بأنه جعل الغاية
لمجموع الأمرين، ولا يلزم من ذلك أن يكون غاية لكل منهما على انفراده فجاز أن يكون
الدعاء ممتدا إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة، فيصير غاية للمجموع، ولا يلزم منه
تطويل الصلاة ولا تكريرها. وأما ما وقع عند النسائي من حديث النعمان بن بشير قال:
"كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يصلي ركعتين ركعتين
ويسأل عنها حتى انجلت " فإن كان محفوظا احتمل أن يكون معنى قوله ركعتين أي
ركوعين، وقد وقع التعبير عن الركوع بالركعة في حديث الحسن " خسف القمر وابن
عباس بالبصرة فصلى ركعتين في كل ركعة ركعتان " الحديث أخرجه الشافعي، وأن
يكون السؤال وقع بالإشارة فلا يلزم التكرار، وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن
أبي قلابة " أنه صلى الله عليه وسلم كان كلما ركع ركعة أرسل رجلا ينظر هل
انجلت " فتعين الاحتمال المذكور، وإن ثبت تعدد القصة زال الإشكال أصلا. قوله:
"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أن الشمس" زاد في رواية ابن خزيمة:
"فلما كشف عنا خطبنا فقال: "
ـــــــ
(1) لو قال : إذا كان من غير قصد الجر لكان أصح , لعموم الحديث الصحيح " ما
أسفل من الكعبين فهو في النار" والله أعلم .
(2/527)
واستدل به على أن الانجلاء لا يسقط الخطبة كما سيأتي. قوله: "لموت أحد" في رواية عبد الوارث الآتية بيان سبب هذا القول ولفظه: "وذلك أن ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم يقال له إبراهيم مات فقال الناس في ذلك " وفي رواية مبارك بن فضالة عند ابن حبان: "فقال الناس: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم"، ولأحمد والنسائي وابن ماجة وصححه ابن خزيمة وابن حبان من رواية أبي قلابة عن النعمان بن بشير قال: "انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فزعا يجر ثوبه حتى أتى المسجد، فلم يزل يصلي حتى انجلت، فلما انجلت قال: إن الناس يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء، وليس كذلك " الحديث. وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض، وهو نحو قوله في الحديث الماضي في الاستسقاء " يقولون مطرنا بنوء كذا " قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. وفيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الشفقة على أمته وشدة الخوف من ربه، وسيأتي لذلك مزيد بيان. قوله: "فإذا رأيتموها" في رواية كريمة: "رأيتموهما " بالتثنية، وسيأتي القول فيه إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا شهاب بن عباد" هو العبدي الكوفي من شيوخ البخاري ومسلم، ولهم شيخ آخر يقال له شهاب بن عباد العبدي لكنه بصري وهو أقدم من الكوفي يكون في طبقة شيوخ شيوخه أخرج له البخاري وحده في " الأدب المفرد " وإبراهيم بن حميد شيخه هو ابن عبد الرحمن الرؤاسي بضم الراء بعدها همزة خفيفة، وفي طبقته إبراهيم بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ولم يخرجوا له. وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وهذا الإسناد كله كوفيون. قوله: "آيتان" أي علامتان "من آيات الله" أي الدالة على وحدانية الله وعظيم قدرته أو على تخويف العباد من بأس الله وسطوته، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} وسيأتي قوله صلى الله عليه وسلم: "يخوف الله بهما عباده " في باب مفرد. قوله: "فإذا رأيتموها" أي الآية، وللكشميهني: "رأيتموهما " بالتثنية، وكذا في رواية الإسماعيلي والمعنى إذا رأيتم كسوف كل منهما لاستحالة وقوع ذلك فيهما معا في حالة واحدة عادة وإن كان ذلك جائزا في القدرة الإلهية. واستدل به على مشروعية الصلاة في كسوف القمر، وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد إن شاء الله تعالى. ووقع في رواية ابن المنذر " حتى ينجلي كسوف أيهما انكسف " وهو أصرح في المراد، وأفاد أبو عوانة أن في بعض الطرق أن ذلك كان يوم مات إبراهيم، وهو كذلك في مسند الشافعي، وهو يؤيد ما قدمناه من اتحاد القصة. قوله: "فقوموا فصلوا" استدل به على أنه لا وقت لصلاة الكسوف معين، لأن الصلاة علقت برؤيته، وهي ممكنة في كل وقت من النهار، وبهذا قال الشافعي ومن تبعه، واستثنى الحنفية أوقات الكراهة وهو مشهور مذهب أحمد، وعن المالكية وقتها من وقت حل النافلة إلى الزوال. وفي رواية إلى صلاة العصر، ورجح الأول بأن المقصود إيقاع هذه العبادة قبل الانجلاء. وقد اتفقوا على أنها لا تقضي بعد الانجلاء، فلو انحصرت في وقت لأمكن الانجلاء قبله فيفوت المقصود، ولم أقف في شيء من الطرق مع كثرتها على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها الأضحى لكن ذلك وقع اتفاقا ولا يدل على منع ما عدا واتفقت الطرق على أنه بادر إليها. قوله: "أخبرني عمرو" هو ابن الحارث المصري، وعبد الرحمن بن القاسم هو ابن أبي بكر الصديق، ونصف رجال هذا الإسناد الأعلى مدنيون ونصفه الأدنى مصريون. قوله: "لا يخسفان" بفتح أوله ويجوز الضم، وحكى ابن الصلاح منعه، وروى ابن
(2/528)
خزيمة والبزار من طريق نافع عن ابن عمر قال: "خسفت الشمس يوم مات إبراهيم " الحديث وفيه: "فافزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله وادعوا وتصدقوا" . قوله: "ولا لحياته" استشكلت هذه الزيادة لأن السياق إنما ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم ولم يذكروا الحياة. والجواب أن فائدة ذكر الحياة دفع توهم من يقول لا يلزم من نفي كونه سببا للفقد أن لا يكون سببا للإيجاد، فعمم الشارع النفي لدفع هذا التوهم. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو المسندي، وهاشم هو أبو النضر وشيبان هو النحوي. قوله: "يوم مات إبراهيم" يعني ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة، فقيل في ربيع الأول وقيل في رمضان وقيل في ذي الحجة، والأكثر على أنها وقعت في عاشر الشهر وقيل في رابع عشرة، ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذ ذاك بمكة في الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف، نعم قيل إنه مات سنة تسع فإن ثبت يصح، وجزم النووي بأنها كانت سنة الحديبية، ويجاب بأنه كان يومئذ بالحديبية ورجع منها في آخر الشهر، وفيه رد على أهل الهيئة لأنهم يزعمون أنه لا يقع في الأوقات المذكورة، وقد فرض الشافعي وقوع العيد والكسوف معا. واعترضه بعض من اعتمد على قول أهل الهيئة، وانتدب أصحاب الشافعي لدفع قول المعترض فأصابوا. قوله: "فإذا رأيتم" أي شيئا من ذلك. وفي رواية الإسماعيلي: "فإذا رأيتم ذلك " وسيأتي من وجه آخر بعد أبواب " فإذا رأيتموها" . "تنبيه": ابتدأ البخاري أبواب الكسوف بالأحاديث المطلقة في الصلاة بغير تقييد بصفة إشارة منه إلى أن ذلك يعطي أصل الامتثال، وإن كان إيقاعها على الصفة المخصوصة عنده أفضل، وبهذا قال أكثر العلماء. ووقع لبعض الشافعية كالبندنيجي أن صلاتها ركعتين كالنافلة لا يجزئ، والله أعلم.
(2/529)
باب الصدقة في
لكسوف
...
2 - باب الصَّدَقَةِ فِي الْكُسُوفِ
1044- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ خَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ فَقَامَ فَأَطَالَ
الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ
وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ وَهُوَ
دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ فَعَلَ فِي
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الأُولَى ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ
انْجَلَتْ الشَّمْسُ فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ
قَالَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لاَ يَخْسِفَانِ
لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ
وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا ثُمَّ قَالَ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ
مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ
أَمَتُهُ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ
لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا "
[الحديث 1044-أطرافه في :
6631.5221.4624.3203.1212.1066.1065.1064.1058.1056.1050.1047.1046]
قوله: "باب الصدقة في الكسوف" أورد فيه حديث عائشة من رواية هشام بن
عروة عن أبيه ثم عنها، أورده بعد باب من رواية ابن شهاب عن عروة، ثم بعد بابين من
رواية عمرة عن عائشة، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر وورد الأمر - في الأحاديث
التي أوردها في الكسوف - بالصلاة والصدقة والذكر والدعاء وغير ذلك، وقد قدم منها
الأهم فالأهم.
ووقع الأمر بالصدقة في رواية هشام دون غيرها فناسب أن يترجم بها، ولأن الصدقة
تالية للصلاة
(2/529)
فلذلك جعلها تلو ترجمة الصلاة في الكسوف. قوله: "خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى" استدل به على أنه صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على الوضوء فلهذا لم يحتج إلى الوضوء في تلك الحال، وفيه نظر لأن في السياق حذفا سيأتي في رواية ابن شهاب " خسفت الشمس فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه " وفي رواية عمرة " فخسفت فرجع ضحى فمر بين الحجر ثم قام يصلي " وإذا ثبتت هذه الأفعال جاز أن يكون حذف أيضا فتوضأ ثم قام يصلي فلا يكون نصا في أنه كان على وضوء. قوله: "فأطال القيام" في رواية ابن شهاب " فاقترأ قراءة طويلة " وفي أواخر الصلاة من وجه آخر عنه " فقرأ بسورة طويلة " وفي حديث ابن عباس بعد أربعة أبواب " فقرأ نحوا من سورة البقرة في الركعة الأولى " ونحوه لأبي داود من طريق سليمان بن يسار عن عروة وزاد فيه أنه " قرأ في القيام الأول من الركعة الثانية نحوا من آل عمران" . قوله: "ثم قام فأطال القيام" في رواية ابن شهاب " ثم قال سمع الله لمن حمده " وزاد من وجه آخر عنه في أواخر الكسوف " ربنا ولك الحمد " واستدل به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال في أول القيام الثاني من الركعة الأولى، واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه وإن كان محمد بن مسلمة المالكي خالف فيه، والجواب أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعله فيها كان مشروعا لأنها أصل برأسه، وبهذا المعنى رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة حتى منع من زيادة الركوع فيها. وقد أشار الطحاوي إلى أن قول أصحابه جرى على القياس في صلاة النوافل، لكن اعترض بأن القياس مع وجود النص يضمحل، وبأن صلاة الكسوف أشبه بصلاة العيد ونحوها مما يجمع فيه من مطلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيدين بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة واستدبار القبلة، فكذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالأخذ به جامع بين العمل بالنص والقياس بخلاف من لم يعمل به. قوله: "فأطال الركوع" لم أر في شيء من الطرق بيان ما قال فيه، إلا أن العلماء اتفقوا على أنه لا قراءة فيه، وإنما فيه الذكر من تسبيح وتكبير ونحوهما، ولم يقع في هذه الرواية ذكر تطويل الاعتدال الذي يقع فيه السجود بعده، ولا تطويل الجلوس بين السجدتين، وسيأتي البحث فيه في " باب طول السجود " قوله: "ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعله في الأولى" وقع ذلك مفسرا في رواية عمرة الآتية. قوله: "ثم انصرف" أي من الصلاة "وقد تجلت الشمس" في رواية ابن شهاب " انجلت الشمس قبل أن ينصرف " وللنسائي: "ثم تشهد وسلم" . قوله: "فخطب الناس" فيه مشروعية الخطبة للكسوف، والعجب أن مالكا روى حديث هشام هذا وفيه التصريح بالخطبة ولم يقل به أصحابه، وسيأتي البحث فيه بعد باب. واستدل به على أن الانجلاء لا يسقط الخطبة، بخلاف ما لو انجلت قبل أن يشرع في الصلاة فإنه يسقط الصلاة والخطبة، فلو انجلت في أثناء الصلاة أتمها على الهيئة المذكورة عند من قال بها، وسيأتي ذكر دليله، وعن أصبغ: يتمها على هيئة النوافل المعتادة. قوله: "فحمد الله وأثنى عليه" زاد النسائي في حديث سمرة " وشهد أنه عبد الله ورسوله" . قوله: "فاذكروا الله" في رواية الكشميهني: "فادعوا الله" .قوله: "والله ما من أحد" فيه القسم لتأكيد الخبر وإن كان السامع غير شاك فيه. قوله: "ما من أحد أغير" بالنصب على أنه الخبر وعلى أن " من " زائدة، ويجوز فيه الرفع على لغة تميم، أو " أغير " مخفوض صفة لأحد، والخبر محذوف تقديره موجود. قوله: "أغير" أفعل تفضيل من الغيرة بفتح الغين المعجمة وهي في اللغة تغير
(2/530)
يحصل من الحمية
والأنفة، وأصلها في الزوجين والأهلين وكل ذلك محال على الله تعالى صلى الله عليه
وسلم لأنه منزه عن كل تغير ونقص فيتعين حمله على المجاز، فقيل: لما كانت ثمرة
الغيرة صون الحريم ومنعهم وزجر من يقصد إليهم، أطلق عليه ذلك لكونه منع من فعل ذلك
وزجر فاعله وتوعده، فهو من باب تسمية الشيء بما يترتب عليه. وقال ابن فورك: المعنى
ما أحد أكثر زجرا عن الفواحش من الله. وقال: غيرة الله ما يغير من حال العاصي
بانتقامه منه في الدنيا والآخرة أو في إحداهما، ومنه قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ
لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } وقال ابن دقيق
العيد: أهل التنزيه في مثل هذا على قولين، إما ساكت، وإما مؤول على أن المراد
بالغيرة شدة المنع والحماية، فهو من مجاز الملازمة. وقال الطيبي وغيره: وجه اتصال
هذا المعنى بما قبله من قوله: "فاذكروا الله الخ " من جهة أنهم لما
أمروا باستدفاع البلاء بالذكر والدعاء والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي التي
هي من أسباب جلب البلاء، وخص منها الزنا لأنه أعظمها في ذلك. وقيل: لما كانت هذه
المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرا في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك
تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب الغيرة وخالقها سبحانه وتعالى. وقوله:
"يا أمة محمد " فيه معنى الإشفاق كما يخاطب الوالد ولده إذا أشفق عليه
بقوله: "يا بني " كذا قيل، وكان قضية ذلك أن يقول يا أمتي لكن لعدوله عن
المضمر إلى المظهر حكمة، وكأنها بسبب كون المقام مقام تحذير وتخويف لما في الإضافة
إلى الضمير من الإشعار بالتكريم، ومثله " يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من
الله شيئا " الحديث. وصدر صلى الله عليه وسلم كلامه باليمين لإرادة التأكيد
للخبر وإن كان لا يرتاب في صدقه، ولعل تخصيص العيد والأمة بالذكر رعاية لحسن الأدب
مع الله تعالى لتنزهه عن الزوجة والأهل ممن يتعلق بهم الغيرة غالبا. ويؤخذ من
قوله: "يا أمة محمد " أن الواعظ ينبغي له حال وعظه أن لا يأتي بكلام فيه
تفخيم لنفسه، بل يبالغ في التواضع لأنه أقرب إلى انتفاع من يسمعه. قوله: "لو
تعلمون ما أعلم" أي من عظيم قدرة الله وانتقامه من أهل الإجرام، وقيل معناه
لو دام علمكم كما دام علمي، لأن علمه متواصل بخلاف غيره، وقيل: معناه لو علمتم من
سعة رحمة الله وحلمه وغير ذلك ما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك. قوله:
"لضحكتم قليلا" قيل معنى القلة هنا العدم، والتقدير لتركتم الضحك ولم
يقع منكم إلا نادرا لغلبة الخوف واستيلاء الحزن. وحكى ابن بطال عن المهلب أن سبب
ذلك ما كان عليه الأنصار من محبة اللهو والغناء. وأطال في تقرير ذلك بما لا طائل
فيه ولا دليل عليه. ومن أين له أن المخاطب بذلك الأنصار دون غيرهم؟ والقصة كانت في
أواخر زمنه صلى الله عليه وسلم حيث امتلأت المدينة بأهل مكة ووفود العرب وقد بالغ
الزين بن المنير في الرد عليه والتشنيع بما يستغنى عن حكايته. وفي الحديث ترجيح
التخويف في الخطبة على التوسع في الترخيص لما في ذكر الرخص من ملاءمة النفوس لما
جبلت عليه من الشهوة، والطبيب الحاذق يقابل العلة بما يضادها لا بما يزيدها.
واستدل به على أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من التطويل الزائد على العادة في القيام
وغيره، ومن زيادة ركوع في كل ركعة. وقد وافق عائشة على رواية ذلك عبد الله بن عباس
وعبد الله بن عمرو متفق عليهما، ومثله عن أسماء بنت أبي بكر كما تقدم في صفة
الصلاة، وعن جابر عند مسلم، وعن علي عند أحمد، وعن أبي هريرة عند النسائي، وعن ابن
عمر عند البزار، وعن أم
ـــــــ
(1) المحال عليه سبحانه وتعالى وصفه بالغيرة المشابة لغيرة المخلوق, وأما الغيرة
اللائقة بجلاله سبحانه وتعالى فلا يستحيل وصفه بها كما دل عليه هذا الحديث وما جاء
في معناه , فهو سبحانه يوصف بالغيرة عند أهل السنة على وجه لايماثل فيه صفة
المخلوقين , ولا يعلم كمها وكيفيتها إلا هو سبحانه , كالقول في الإستواء والنزول
والرضا والغضب وغير ذلك من صفاته سبحانه . والله أعلم
(2/531)
سفيان عند الطبراني وفي رواياتهم زيادة رواها الحفاظ الثقات فالأخذ بها أولى من إلغائها وبذلك قال جمهور أهل العلم من أهل الفتيا، وقد وردت الزيادة في ذلك من طرق أخرى فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر أن في كل ركعة ثلاث ركوعات، وعنده من وجه آخر عن ابن عباس أن في كل ركعة أربع ركوعات، ولأبي داود من حديث أبي بن كعب، والبزار من حديث علي أن في كل ركعة خمس ركوعات، ولا يخلو إسناد منها عن علة وقد أوضح ذلك البيهقي وابن عبد البر، ونقل صاحب الهدى عن الشافعي وأحمد والبخاري أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك يوم مات إبراهيم عليه السلام وإذا اتحدت تعين الأخذ بالراجح، وجمع بعضهم بين هذه الأحاديث بتعدد الواقعة، وأن الكسوف وقع مرارا، فيكون كل من هذه الأوجه جائزا، وإلى ذلك نحا إسحاق لكن لم تثبت عنده الزيادة على أربع ركوعات. وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك وهو من الاختلاف المباح، وقواه النووي في شرح مسلم، وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة في الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء في أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعا، وحين زاد في الإبطاء زاد ثالثا وهكذا إلى غاية ما ورد في ذلك. وتعقبه النووي وغيره بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم في أول الحال ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه منوي من أول الحال. وأجيب باحتمال أن يكون الاعتماد على الركعة الأولى، وأما الثانية فهي تبع لها فمهما اتفق وقوعه في الأولى بسبب بطء الانجلاء يقع مثله في الثانية ليساوي بينهما، ومن ثم قال أصبغ كما تقدم: إذا وقع الانجلاء في أثنائها يصلي الثانية كالعادة. وعلى هذا فيدخل المصلي فيها على نية مطلق الصلاة، ويزيد في الركوع بحسب الكسوف، ولا مانع من ذلك. وأجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع بحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس هل انجلت أم لا؟ فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوعه ففعل ذلك مرة أو مرارا فظن بعض من رآه يفعل ذلك ركوعا زائدا. وتعقب بالأحاديث الصحيحة الصريحة في أنه أطال القيام بين الركوعين ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يحتج إلى تطويل، ولا سيما الأخبار الصريحة بأنه ذكر ذلك الاعتدال ثم شرع في القراءة فكل ذلك يرد هذا الحمل، ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج لفعل الرسول عن العبادة المشروعة أو لزم منه إثبات هيئة في الصلاة لا عهد بها وهو ما فر منه. وفي حديث عائشة من الفوائد غير ما تقدم المبادرة بالصلاة وسائر ما ذكر عند الكسوف، والزجر عن كثرة الضحك، والحث على كثرة البكاء، والتحقق بما سيصير إليه المرء من الموت والفناء والاعتبار بآيات الله. وفيه الرد على من زعم أن للكواكب تأثيرا في الأرض لانتفاء ذلك عن الشمس والقمر فكيف بما دونهما. وفيه تقديم الإمام في الموقف، وتعديل الصفوف، والتكبير بعد الوقوف في موضع الصلاة، وبيان ما يخشى اعتقاده على غير الصواب، واهتمام الصحابة بنقل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ليقتدى به فيها. ومن حكمة وقوع الكسوف تبيين أنموذج ما سيقع في القيامة، وصورة عقاب من لم يذنب، والتنبيه على سلوك طريق الخوف مع الرجاء لوقوع الكسوف بالكوكب ثم كشف ذلك عنه ليكون المؤمن من ربه على خوف ورجاء. وفي الكسوف إشارة إلى تقبيح رأي من يعبد الشمس أو القمر، وحمل بعضهم الأمر في قوله تعالى: { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ } على صلاة الكسوف لأنه الوقت الذي يناسب الإعراض عن عبادتهما لما
(2/532)
يظهر فيهما من التغيير والنقص المنزه عنه المعبود جل وعلا سبحانه وتعالى.
(2/533)
3 - باب النِّدَاءِ
بِالصَّلاَةُ جَامِعَةٌ فِي الْكُسُوفِ
1046- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ قَالَ
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَمِ بْنِ أَبِي سَلاَمٍ الْحَبَشِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي
أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا كَسَفَتْ الشَّمْسُ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُودِيَ إِنَّ
الصَّلاَةَ جَامِعَةٌ
قوله: "باب النداء بالصلاة جامعة" هو بالنصب فيهما على الحكاية، ونصب
" الصلاة " في الأصل على الإغراء، وجامعة على الحال، أي احضروا الصلاة
في حال كونها جامعة. وقيل برفعهما على أن الصلاة مبتدأ وجامعة خبره ومعناه ذات
جماعة، وقيل جامعة صفة والخبر محذوف تقديره فاحضروها. قوله: "حدثني إسحاق"
هو ابن منصور على رأي الجياني أو ابن راهويه على رأي أبي نعيم، ويحيى ابن صالح من
شيوخ البخاري وربما أخرج عنه بواسطة كهذا. قوله: "الحبشي" بفتح المهملة
والموحدة بعدها معجمة، ووهم من ضبطه بضم أوله وسكون ثانيه. قوله: "أخبرني أبو
سلمة عن عبد الله" في رواية حجاج الصواف عن يحيى " حدثنا أبو سلمة حدثني
عبد الله " أخرجه ابن خزيمة. قوله: "نودي" كذا فيه بلفظ البناء
للمفعول، وصرح الشيخان في حديث عائشة بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديا
فنادى بذلك. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث حجة لمن استحب ذلك، وقد اتفقوا على
أنه لا يؤذن لها ولا يقام. قوله: "أن الصلاة" بفتح الهمزة وتخفيف النون
وهي المفسرة، وروي بتشديد النون والخبر محذوف تقديره أن الصلاة ذات جماعة حاضرة
ويروى برفع جامعة على أنه الخبر. وفي رواية الكشميهني: "نودي بالصلاة جامعة
" وفيه ما تقدم في لفظ الترجمة. وعن بعض العلماء يجوز في الصلاة جامعة النصب
فيهما، والرفع فيهما، ويجوز رفع الأول ونصب الثاني، وبالعكس.
(2/533)
4 - باب خُطْبَةِ
الإِمَامِ فِي الْكُسُوفِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
1046- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ
عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا
عَنْبَسَةُ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ
عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ خَسَفَتْ
الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ
إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ فَكَبَّرَ فَاقْتَرَأَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً ثُمَّ كَبَّرَ
فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقَامَ
وَلَمْ يَسْجُدْ وَقَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ
الأُولَى ثُمَّ كَبَّرَ وَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ أَدْنَى مِنْ
الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ
الْحَمْدُ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِثْلَ ذَلِكَ
فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ وَانْجَلَتْ الشَّمْسُ
قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ ثُمَّ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ
ثُمَّ قَالَ هُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ
وَلاَ لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلاَةِ وَكَانَ
يُحَدِّثُ كَثِيرُ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ
(2/533)
5 - باب هَلْ
يَقُولُ كَسَفَتْ الشَّمْسُ أَوْ خَسَفَتْ
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَخَسَفَ الْقَمَرُ
1047- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي
عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ
عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ خَسَفَتْ
الشَّمْسُ فَقَامَ فَكَبَّرَ فَقَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا
طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَقَامَ
كَمَا هُوَ ثُمَّ قَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً وَهِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ
الأُولَى ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهِيَ أَدْنَى مِنْ الرَّكْعَةِ
الأُولَى ثُمَّ سَجَدَ سُجُودًا طَوِيلًا ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ
مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ سَلَّمَ وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ فَخَطَبَ النَّاسَ
فَقَالَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ
اللَّهِ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ فَإِذَا
رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلاَةِ "
قوله: "باب هل يقول كسفت الشمس أو خسفت" قال الزين بن المنير: أتى بلفظ
الاستفهام إشعارا منه بأنه لم يترجح عنده في ذلك شيء. قلت ولعله أشار إلى ما رواه
ابن عيينة عن الزهري عن عروة قال: "لا تقولوا كسفت الشمس ولكن قولوا خسفت
" وهذا موقوف صحيح رواه سعيد بن منصور عنه وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عنه
لكن الأحاديث الصحيحة تخالفه لثبوتها بلفظ الكسوف في الشمس من طرق كثيرة، والمشهور
في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر واختاره ثعلب، وذكر الجوهري أنه
أفصح، وقيل يتعين ذلك. وحكى عياض عن بعضهم عكسه وغلطه لثبوته بالخاء في القمر في
القرآن، وكأن هذا هو السر في استشهاد المؤلف به في الترجمة، وقيل: يقال بهما في كل
منهما وبه جاءت الأحاديث، ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف لأن الكسوف
التغير إلى السواد، والخسوف النقصان أو الذل، فإذا قيل في الشمس كسفت أو خسفت
لأنها تتغير ويلحقها النقص ساغ، وكذلك القمر، ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف
مترادفان. وقيل بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء وقيل بالكاف لذهاب جمع
الضوء وبالخاء لبعضه، وقيل بالخاء لذهاب كل لون وبالكاف لتغيره. قوله: "وقال
الله عز وجل: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} في إيراده لهذه الآية احتمالان، أحدهما: أن
يكون أراد أن يقال خسف
(2/535)
القمر كما جاء في القرآن ولا يقال كسف، وإذا اختص القمر بالخسوف أشعر باختصاص الشمس بالكسوف. والثاني أن يكون أراد أن الذي يتفق للشمس كالذي يتفق للقمر، وقد سمي في القرآن بالخاء في القمر فليكن الذي للشمس كذلك. ثم ساق المؤلف حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة بلفظ: "خسفت الشمس " وهذا موافق لما قال عروة، لكن روايات غيره بلفظ: "كسفت " كثيرة جدا. قوله فيه "ثم سجد سجودا طويلا" فيه رد على من زعم أنه لا يسن تطويل السجود في الكسوف، وسيأتي ذكره في باب مفرد.
(2/536)
6 - باب
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يُخَوِّفُ اللَّهُ
عِبَادَهُ بِالْكُسُوفِ" َقَالَه أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1048- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ
عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لاَ
يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ وَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ
الْوَارِثِ وَشُعْبَةُ وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ
عَنْ يُونُسَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ وَتَابَعَهُ أَشْعَثُ عَنْ
الْحَسَنِ وَتَابَعَهُ مُوسَى عَنْ مُبَارَكٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ أَخْبَرَنِي
أَبُو بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ "
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يخوف الله عباده بالكسوف، قاله أبو
موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم" سيأتي حديثه موصولا بعد سبعة أبواب. ثم
أورد المصنف حديث أبي بكرة من رواية حماد بن زيد عن يونس وفيه: "ولكن يخوف
الله بهما عباده " وفي رواية الكشميهني: "ولكن الله يخوف " وقد
تقدم الكلام عليه في أول الكسوف. قوله: "لم يذكر عبد الوارث وشعبة وخالد بن
عبد الله وحماد بن سلمة عن يونس: يخوف الله بهما عباده" أما رواية عبد الوارث
فأوردها المصنف بعد عشرة أبواب عن أبي معمر عنه وليس فيها ذلك، لكنه ثبت من رواية
عبد الوارث من وجه آخر أخرجه النسائي عن عمران بن موسى عن عبد الوارث وذكر فيه
يخوف الله بهما عباده. وقال البيهقي: لم يذكره أبو معمر، وذكره غيره عن عبد
الوارث. وأما رواية شعبة فوصلها المصنف في الباب المذكور وليس فيها ذلك، وأما
رواية خالد بن عبد الله فسبقت في أول الكسوف، وأما رواية حماد بن سلمة فوصلها
الطبراني من رواية حجاج بن منهال عنه بلفظ رواية خالد ومعناه وقال فيه: "فإذا
كسف واحد منهما فصلوا وادعوا" . قوله: "وتابعه أشعث" يعني ابن عبد
الملك الحمراني "عن الحسن" يعني في حذف قوله: "يخوف الله بهما
عباده " وقد وصل النسائي هذه الطريق وابن حبان وغيرهما من طرق عن أشعث عن
الحسن وليس فيها ذلك. قوله: "وتابعه موسى عن مبارك عن الحسن قال: أخبرني أبو
بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم يخوف الله بهما عباده" في رواية غير أبي ذر
" إن الله تعالى". وموسى هو ابن إسماعيل التبوذكي كما جزم به المزي.
وقال الدمياطي ومن تبعه: هو ابن داود الضبي، والأول أرجح لأن ابن إسماعيل معروف في
رجال البخاري دون ابن داود، ولم تقع لي هذه الرواية إلى الآن من طريق واحد منهما.
وقد أخرجه الطبراني من رواية أبي الوليد وابن حبان من رواية هدبة وقاسم بن أصبغ من
رواية سليمان بن حرب كلهم عن مبارك، وساق الحديث بتمامه، إلا أن رواية هدبة ليس
فيها " يخوف الله بهما عباده". "تنبيه": وقع قوله:
"تابعه أشعث " في رواية كريمة عقب متابعة موسى، والصواب تقديمه لما
بيناه من خلو رواية أشعث من قوله: "يخوف
(2/536)
الله بهما
عباده" . قوله: "يخوف" فيه رد على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف
أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف ويصير
بمنزلة الجزر والمد في البحر، وقد رد ذلك عليهم ابن العربي وغير واحد من أهل العلم
بما في حديث أبي موسى الآتي حيث قال: "فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة "
قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لم يكن للأمر بالعتق
والصدقة والصلاة والذكر معنى، فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كل ما
ذكر من أنواع الطاعة يرجى أن يدفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف. ومما نقص ابن
العربي وغيره أنهم يزعمون أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة، وإنما يحول القمر بينها
وبين أهل الأرض عند اجتماعهما في العقدتين فقال: هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر
في الجرم، فكيف يحجب الصغير الكبير إذا قابله، أم كيف يظلم الكثير بالقليل، ولا
سيما وهو من جنسه؟ وكيف تحجب الأرض نور الشمس وهي في زاوية منها لأنهم يزعمون أن
الشمس أكبر من الأرض بتسعين ضعفا. وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف
سبب آخر غير ما يزعمه أهل الهيئة وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة وصححه ابن
خزيمة والحاكم بلفظ: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته
ولكنهما آيتان من آيات الله، وأن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له " وقد
استشكل الغزالي هذه الزيادة وقال: إنها لم تثبت فيجب تكذيب ناقلها. قال: ولو صحت
لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلا من أصول الشريعة. قال ابن
بزيزة: هذا عجب منه، كيف يسلم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الشريعة مع أنها مبنية
على أن العالم كري الشكل وظاهر الشرع يعطي خلاف ذلك والثابت من قواعد الشريعة أن
الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق في هذين الجرمين النور متى
شاء والظلمة متى شاء من غير توقف على سبب أو ربط باقتراب. والحديث الذي رده
الغزالي قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضا، لأن
النورية والإضاءة من عالم الجمال الحسي، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار
لهيبته. ويؤيده قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ
دَكّاً} " ا هـ. ويؤيد هذا الحديث ما رويناه عن طاوس أنه نظر إلى الشمس وقد
انكسفت فبكى حتى كاد أن يموت وقال: هي أخوف لله منا. وقال ابن دقيق العيد: ربما
يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: "يخوف الله بهما عباده
" وليس بشيء صلى الله عليه وسلم لأن الله أفعالا على حسب العادة، وأفعالا
خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب
والمسببات بعضها عن بعض. وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته
على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك
الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله
خرقها. وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب حقا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفا
لعباد الله تعالى.
ـــــــ
(1) ماقاله ابن دقيق العيد هنا تحقيق جيد . وقد ذكر كثير من المحققين – كشيخ
الاسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم – مايوافق ذلك , وأن الله سبحانه وتعالى قد
أجرى العادة بخسوف الشمس والقمر لأسباب معلومة يعقلها أهل الحساب , والواقع شاهد
بذلك ولكن لايلزم من ذلك أن يصيب أهل الحساب في كل ما يقولون, بل قد يخطئون في
حسابهم , فلا ينبغي أن يصدقوا ولا أن يكذبوا , والتخويف بذلك حاصل على كل تقدير لمن
يؤمن بالله واليوم الأخر . والله أعلم
(2/537)
7 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الْكُسُوفِ
(2/537)
8 - باب طُولِ
السُّجُودِ فِي الْكُسُوفِ
1051- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ لَمَّا كَسَفَتْ
الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نُودِيَ إِنَّ الصَّلاَةَ جَامِعَةٌ فَرَكَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي
سَجْدَةٍ ثُمَّ جَلَسَ ثُمَّ جُلِّيَ عَنْ الشَّمْسِ قَالَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهَا
قوله: "باب طول السجود في الكسوف" أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من
أنكره، واستدل بعض المالكية عل ترك إطالته بأن الذي شرع فيه التطويل شرع تكراره
كالقيام والركوع ولم تشرع الزيادة في السجود فلا يشرع تطويله،
(2/538)
وهو قياس في مقابلة النص كما سيأتي بيانه فهو فاسد الاعتبار، وأبدى بعضهم في مناسبة التطويل في القيام والركوع دون السجود أن القائم والراكع يمكنه رؤية الانجلاء بخلاف الساجد فإن الآية علوية فناسب طول القيام لها بخلاف السجود، ولأن في تطويل السجود استرخاء الأعضاء فقد يفضي إلى النوم. وكل هذا مردود بثبوت الأحاديث الصحيحة في تطويله. ثم أورد المصنف حديث عبد الله بن عمرو بن العاص من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه، وقد تقدم من وجه آخر مختصرا، ووقع في رواية الكشميهني عبد الله بن عمر بضم أوله وفتح الميم بلا واو وهو وهم. قوله: "ركعتين في سجدة" المراد بالسجدة هنا الركعة بتمامها، وبالركعتين الركوعان، وهو موافق لروايتي عائشة وابن عباس المتقدمتين في أن في كل ركعة ركوعين وسجودين، ولو ترك على ظاهره لاستلزم تثنية الركوع وإفراد السجود ولم يصر إليه أحد. فتعين تأويله. قوله: "ثم جلس ثم جلى عن الشمس" أي بين جلوسه في التشهد والسلام، فتبين قوله في حديث عائشة " ثم انصرف وقد تجلت الشمس". قوله: "قال وقالت عائشة" القائل هو ابن سلمة في نقدي، ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمرو فيكون من رواية صحابي عن صحابية، ووهم من زعم أنه معلق فقد أخرجه مسلم وابن خزيمة وغيرهما من رواية أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو وفيه قول عائشة هذا. قوله: "ما سجدت سجودا قط كان أطول منها" كذا فيه. وفي رواية غيره: "منه " أي من السجود المذكور، زاد مسلم فيه: "ولا ركعت ركوعا قط كان أطول منه"، وتقدم في رواية عروة عن عائشة بلفظ: "ثم سجد فأطال السجود " وفي أوائل صفة الصلاة من حديث أسماء بنت أبي بكر مثله، وللنسائي من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو بلفظ: "ثم رفع رأسه فسجد وأطال السجود " ونحوه عنده عن أبي هريرة، وللشيخين من حديث أبي موسى " بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط " ولأبي داود والنسائي من حديث سمرة " كأطول ما سجد بنا في صلاة قط " وكل هذه الأحاديث ظاهرة في أن السجود في الكسوف يطول كما يطول القيام والركوع، وأبدى بعض المالكية فيه بحثا فقال: لا يلزم من كونه أطال أن يكون بلغ به حد الإطالة في الركوع، وكأنه غفل عما رواه مسلم في حديث جابر بلفظ: "وسجوده نحو من ركوعه " وهذا مذهب أحمد وإسحاق وأحد قولي الشافعي وبه جزم أهل العلم بالحديث من أصحابه واختاره ابن سريج ثم النووي، وتعقبه صاحب " المهذب " بأنه لم ينقل في خبر ولم يقل به الشافعي ا هـ. ورد عليه في الأمرين معا فإن الشافعي نص عليه في البويطي ولفظه: "ثم يسجد سجدتين طويلتين يقيم في كل سجدة نحوا مما قام في ركوعه". "تنبيه": وقع في حديث جابر الذي أشرت إليه عند مسلم تطويل الاعتدال الذي يليه السجود ولفظه: "ثم ركع فأطال، ثم سجد " وقال النووي: هي رواية شاذة مخالفة فلا يعمل بها أو المراد زيادة الطمأنينة في الاعتدال لا إطالته نحو الركوع، وتعقب بما رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمرو أيضا ففيه: "ثم ركع فأطال حتى قيل لا يرفع، ثم رفع فأطال حتى قيل لا يسجد، ثم سجد فأطال حتى قيل لا يرفع، ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل لا يسجد، ثم سجد " لفظ ابن خزيمة من طريق الثوري عن عطاء بن السائب عن أبيه عنه، والثوري سمع من عطاء قبل الاختلاط فالحديث صحيح، ولم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في هذا، وقد نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته، فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام، وإلا فهو محجوج بهذه الرواية.
(2/539)
9 - باب صَلاَةِ
الْكُسُوفِ جَمَاعَةً
وَصَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ فِي صُفَّةِ زَمْزَمَ وَجَمَعَ عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ
(2/539)
1052- حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ
عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ انْخَسَفَتْ الشَّمْسُ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا
مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ
فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ
رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ
قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا
طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا
طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا
وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتْ
الشَّمْسُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ
فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ
تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَعْكَعْتَ قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا
وَلَوْ أَصَبْتُهُ لاَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا وَأُرِيتُ النَّارَ
فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا
النِّسَاءَ قَالُوا بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ
يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ لَوْ
أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا
قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ "
قوله: "باب صلاة الكسوف جماعة" أي وإن لم يحضر الإمام الراتب فيؤم لهم
بعضهم وبه قال الجمهور وعن الثوري إن لم يحضر الإمام صلوا فرادى. قوله: "وصلى
لهم ابن عباس في صفة زمزم" وصله الشافعي وسعيد بن منصور جميعا عن سفيان ابن
عيينة عن سليمان الأحول سمعت طاوسا يقول: "كسفت الشمس فصلى بنا ابن عباس في
صفة زمزم ست ركعات في أربع سجدات " وهذا موقوف صحيح، إلا أن ابن عيينة خولف
فيه رواه ابن جريج عن سليمان فقال: "ركعتين في كل ركعة أربع ركعات "
أخرجه عبد الرزاق عنه، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عن غندر عن ابن جريج، لكن قال:
"سجدات " بدل ركعات، وهو وهم من غندر. وروى عبد الله بن أبي بكر بن حزم
عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: "رأيت ابن عباس صلى على ظهر زمزم في كسوف
الشمس ركعتين في كل ركعة ركعتين". قوله: "في صفة زمزم" كذا للأكثر
بضم الصاد المهملة وتشديد الفاء وهي معروفة. وقال الأزهري: الصفة موضع بهو مظلل.
وفي نسخة الصغاني بضاد معجمة مفتوحة ومكسورة وهي جانب النهر ولا معنى لها هنا إلا
بطريق التجوز. قوله: "وجمع علي بن عبد الله بن عباس" لم أقف على أثره
هذا موصولا. قوله: "وصلى ابن عمرو" يحتمل أن يكون بقية أثر على المذكور،
وقد أخرج ابن أبي شيبة معناه عن ابن عمر. قوله: "عن عطاء بن يسار عن عبد الله
بن عباس" كذا في الموطأ وفي جميع من أخرجه من طريق مالك، ووقع في رواية
اللؤلؤي في سنن أبي داود " عن أبي هريرة " بدل ابن عباس وهو غلط قوله:
"ثم سجد" أي سجدتين. قوله: "ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام
الأول" فيه أن الركعة الثانية أقصر من الأولى، وسيأتي ذلك في باب مفرد. قوله:
"قالوا يا رسول الله" في حديث جابر عند أحمد بإسناد حسن " فلما قضى
الصلاة قال له أبي بن كعب شيئا صنعته في الصلاة لم تكن تصنعه " فذكر نحو حديث
ابن عباس، إلا أن في حديث جابر أن ذلك كان في الظهر أو العصر، فإن كان محفوظا فهي
قصة أخرى، ولعلها القصة التي حكاها أنس
(2/540)
وذكر أنها وقعت في صلاة الظهر، وقد تقدم سياقه في " باب وقت الظهر إذا زالت الشمس " من كتاب المواقيت، لكن فيه: "عرضت علي الجنة والنار في عرض هذا الحائط حسب " وأما حديث جابر فهو شبيه بسياق ابن عباس في ذكر العنقود وذكر النساء، والله أعلم. قوله: "رأيناك تناولت" كذا للأكثر بصيغة الماضي. وفي رواية الكشميهني: "تناول " بصيغة المضارع بضم اللام وبحذف إحدى التاءين وأصله تتناول. قوله: "ثم رأيناك كعكعت" في رواية الكشميهني تكعكعت بزيادة تاء في أوله ومعناه تأخرت، يقال كع الرجل إذا نكص على عقبيه، قال الخطابي: أصله تكععت فاستثقلوا اجتماع ثلاث عينات فأبدلوا من إحداها حرفا مكررا. ووقع في رواية مسلم: "ثم رأيناك كففت " بفاءين خفيفتين. قوله: "إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا" ظاهره أنها رؤية عين فمنهم من حمله على أن الحجب كشفت له دونها فرآها على حقيقتها وطويت المسافة بينهما حتى أمكنه أن يتناول منها، وهذا أشبه بظاهر هذا الخبر، ويؤيده حديث أسماء الماضي في أوائل صفة الصلاة بلفظ: "دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطف من قطافها " ومنهم من حمله على أنها مثلت له في الحائط كما تنطبع الصورة في المرآة فرأى جميع ما فيها، ويؤيده حديث أنس الآتي في التوحيد " لقد عرضت على الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي " وفي رواية: "لقد مثلت " ولمسلم: "لقد صورت " ولا يرد على هذا أن الانطباع إنما هو في الأجسام الثقيلة لأنا نقول هو شرط عادي فيجوز أن تنخرق العادة خصوصا للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر ولا مانع أن يرى الجنة والنار مرتين بل مرارا على صور مختلفة. وأبعد من قال: إن المراد بالرؤية رؤية العلم. قال القرطبي: لا إحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها لا سيما على مذهب أهل السنة في أن الجنة والنار قد خلقتا ووجدتا، فيرجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه صلى الله عليه وسلم إدراكا خاصا به أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما. قوله: "ولو أصبته" في رواية مسلم ولو أخذته، واستشكل مع قوله: "تناولت " وأجيب بحمل التناول على تكلف الأخذ لا حقيقة الأخذ، وقيل المراد تناولت لنفسي ولو أخذته لكم حكاه الكرماني وليس يجيد وقيل: المراد بقوله تناولت أي وضعت يدي عليه بحيث كنت قادرا على تحويله لكن لم يقدر لي قطفه، ولو أصبته أي لو تمكنت من قطفه. ويدل عليه قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة: "أهوى بيده ليتناول شيئا " وللمصنف في حديث أسماء في أوائل الصلاة " حتى لو اجترأت عليها " وكأنه لم يؤذن له في ذلك فلم يجترئ عليه، وقيل الإرادة مقدرة، أي أردت أن أتناول ثم لم أفعل ويؤيده حديث جابر عند مسلم: "ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن آخذ لا أفعل " ومثله للمصنف من حديث عائشة كما سيأتي في آخر الصلاة بلفظ: "حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني جعلت أتقدم " ولعبد الرزاق من طريق مرسلة " أردت أن آخذ منها قطفا لأريكموه فلم يقدر " ولأحمد من حديث جابر " فحيل بيني وبينه " قال ابن بطال: لم يأخذ العنقود لأنه من طعام الجنة وهو لا يفنى، والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. وقيل لأنه لو رآه الناس لكان من إيمانهم بالشهادة لا بالغيب فيخشى أن يقع رفع التوبة فلا ينفع نفسا إيمانها. وقيل: لأن الجنة جزاء الأعمال، والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة. وحكى ابن العربي في " قانون التأويل " عن بعض شيوخه أنه قال: معنى قوله: "لأكلتم منه الخ " أن يخلق في نفس الآكل مثل الذي أكل دائما بحيث لا يغيب عن ذوقه. وتعقب بأنه رأى فلسفي مبني على أن دار الآخرة لا حقائق لها وإنما هي أمثال، والحق أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وإذا قطعت خلقت في الحال، فلا مانع أن يخلق الله مثل ذلك في الدنيا إذا شاء، والفرق
(2/541)
بين الدارين في وجوب الدوام وجوازه. "فائدة": بين سعيد بن منصور في روايته من وجه آخر عن زيد بن أسلم أن التناول المذكور كان حين قيامه الثاني من الركعة الثانية. قوله: "وأريت النار" في رواية غير أبي ذر " ورأيت " ووقع في رواية عبد الرزاق المذكورة أن رؤيته النار كانت قبل رؤيته الجنة وذلك أنه قال فيه: "عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم النار فتأخر عن مصلاه حتى أن الناس ليركب بعضهم بعضا، وإذا رجع عرضت عليه الجنة فذهب يمشي حتى وقف في مصلاه " ولمسلم من حديث جابر " لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها " وفيه: "ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي " وزاد فيه: "ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه" ، وفي حديث سمرة عند ابن خزيمة: "لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في دنياكم وآخرتكم" . قوله: "فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع" المراد باليوم الوقت الذي هو فيه، أي لم أر منظرا مثل منظر رأيته اليوم، فحذف المرئي وأدخل التشبيه على اليوم لبشاعة ما رأى فيه وبعده عن المنظر المألوف، وقيل: الكاف اسم والتقدير ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرا. ووقع في رواية المستملي والحموي " فلم أنظر كاليوم قط أفظع" . قوله: "ورأيت أكثر أهلها النساء" هذا يفسر وقت الرؤية في قوله لهن في خطبة العيد " تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار " وقد مضى ذلك في حديث أبي سعيد في كتاب الحيض، وقد تقدم في العيد الإلمام بتسمية القائل " أيكفرن". قوله: "يكفرن بالله؟ قال يكفرن العشير" كذا للجمهور عن مالك، وكذا أخرجه مسلم من رواية حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم، ووقع في موطأ يحيى بن يحيى الأندلسي قال: "ويكفرن العشير " بزيادة واو، واتفقوا على أن زيادة الواو غلط منه، فإن كان المراد من تغليطه كونه خالف غيره من الرواة فهو كذلك، وأطاق على الشذوذ غلطا، وإن كان المراد من تغليطه فساد المعنى فليس كذلك لأن الجواب طابق السؤال وزاد، وذلك أنه أطلق لفظ النساء فعم المؤمنة منهن والكافرة، فلما قيل " يكفرن بالله " فأجاب " ويكفرن العشير الخ " وكأنه قال: نعم يقع منهن الكفر بالله وغيره، لأن منهن من يكفر بالله منهن من يكفر الإحسان. وقال ابن عبد البر وجه رواية يحيى أن يكون الجواب لم يقع على وفق سؤال السائل، لإحاطة العلم بأن من النساء يكفر بالله فلم يحتج إلى جوابه لأن المقصود في الحديث خلافه. قوله: "يكفرن العشير" قال الكرماني: لم يعد كفر العشير بالباء كما عدى الكفر بالله لأن كفر العشير لا يتضمن معنى الاعتراف. قوله: "ويكفرن الإحسان" كأنه بيان لقوله: "يكفرن العشير " لأن المقصود كفر إحسان العشير لا كفر ذاته، وتقدم تفسير العشير في كتاب الإيمان، والمراد بكفر الإحسان تغطيته أو جحده، ويدل عليه آخر الحديث. قوله: "لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله" بيان للتغطية المذكورة، و " لو " هنا شرطية لا امتناعية. قال الكرماني: ويحتمل أن تكون امتناعية بأن يكون الحكم ثابتا على النقيضين والطرف المسكوت عنه أولى من المذكور، والدهر منصوب على الظرفية، والمراد منه مدة عمر الرجل أو الزمان كله مبالغة في كفرانهن، وليس المراد بقوله: "أحسنت " مخاطبة رجل بعينه، بل كل من يتأتى منه أن يكون مخاطبا، فهو خاص لفظا عام معنى. قوله: "شيئا" التنوين فيه للتقليل أي شيئا قليلا لا يوافق غرضها من أي نوع كان، ووقع في حديث جابر ما يدل على أن المرئي في النار من النساء من اتصف بصفات ذميمة ذكرت ولفظه: "وأكثر من رأيت فيها من النساء اللاتي إن ائتمن أفشين، وإن سئلن بخلن، وإن سألن ألحفن، وإن أعطين لم يشكرن " الحديث وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم المبادرة إلى الطاعة عند رؤية ما يحذر منه واستدفاع البلاء بذكر الله وأنواع
(2/542)
طاعته، ومعجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من نصح أمته، وتعليمهم ما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم، ومراجعة المتعلم للعالم فيما لا يدركه فهمه، وجواز الاستفهام عن علة الحكم، وبيان العالم ما يحتاج إليه تلميذه، وتحريم كفران الحقوق. ووجوب شكر المنعم. وفيه أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان اليوم، وجواز إطلاق الكفر على ما لا يخرج من الملة. وتعذيب أهل التوحيد على المعاصي، وجواز العمل في الصلاة إذا لم يكثر.
(2/543)
10 - باب صَلاَةِ
النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْكُسُوفِ
1053- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ
أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا قَالَتْ
أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ
تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا لِلنَّاسِ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى السَّمَاءِ
وَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَقُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ أَيْ نَعَمْ قَالَتْ
فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَنِي الْغَشْيُ فَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي الْمَاءَ
فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ
إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَلَقَدْ
أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ
فِتْنَةِ الدَّجَّالِ لاَ أَدْرِي أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ يُؤْتَى
أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ
أَوْ الْمُوقِنُ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا فَيُقَالُ لَهُ نَمْ صَالِحًا
فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ
لاَ أَدْرِي أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي سَمِعْتُ
النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ "
قوله: "باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف" أشار بهذه الترجمة إلى رد
قول من منع ذلك وقال: يصلين فرادى، وهو منقول عن الثوري وبعض الكوفيين. وفي
المدونة: تصلي المرأة في بيتها وتخرج المتجالة. وعن الشافعي يخرج الجميع إلا من
كانت بارعة الجمال. وقال القرطبي: روي عن مالك أن الكسوف إنما يخاطب به من يخاطب
بالجمعة، والمشهور عنه خلاف ذلك وهو إلحاق المصلي في حقهن بحكم المسجد. قوله:
"عن أسماء بنت أبي بكر" هي جدة فاطمة وهشام لأبويهما. قوله:
"فأشارت أي نعم" وفي رواية الكشميهني: "أن نعم " بنون بدل
التحتانية، وقد تقدمت فوائده في " باب من أجاب الفتيا بالإشارة " من كتاب
العلم وفي " باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل " من كتاب الطهارة،
ويأتي الكلام على ما يتعلق بالقبر في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى. قال الزين
بن المنير: استدل به ابن بطال على جواز خروج النساء إلى المسجد لصلاة الكسوف، وفيه
نظر لأن أسماء إنما صلت في حجرة عائشة، لكن يمكنه أن يتمسك بما ورد في بعض طرقه أن
نساء غير أسماء كن بعيدات عنها، فعلى هذا فقد كن في مؤخر المسجد كما جرت عادتهن في
سائر الصلوات.
(2/543)
باب من أحب العتافة
في كسوف الشمس
...
11 - باب مَنْ أَحَبَّ الْعَتَاقَةَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ
1054- حَدَّثَنَا رَبِيعُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ هِشَامٍ
عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ " لَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(2/543)
12 - باب صَلاَةِ
الْكُسُوفِ فِي الْمَسْجِدِ
1055- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن
عائشة رضي الله عنها أن يهودية جاءت تسألها فقالت أعاذك الله من عذاب القبر فسألت
عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعذب الناس في قبورهم فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم عائذا بالله من ذلك "
1056-" ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركبا فكسفت الشمس فرجع
ضحى فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الحجر ثم قام فصلى وقام الناس
وراءه فقام قياما طويلا ثم ركع ركوعا طويلا ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون
القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد سجودا طويلا ثم
قام فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع
الأول ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع
الأول ثم سجد وهو دون السجود الأول ثم انصرف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
شاء الله أن يقول ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر"
قوله: "باب صلاة الكسوف في المسجد" أورد فيه حديث عائشة من رواية عمرة
عنها وقد تقدم قبل أربعة أبواب من هذا الوجه، ولم يقع فيه التصريح بكونها في
المسجد، لكنه يؤخذ من قولها فيه: "فمر بين ظهراني الحجر " لأن الحجر
بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت لاصقة بالمسجد، وقد وقع التصريح بذلك
في رواية سليمان بن بلال عن يحيى سعيد عن عمرة عند مسلم ولفظه: "فخرجت في
نسوة بين ظهراني الحجر في المسجد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم من مركبه حتى أتى
إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه: "الحديث، والمركب الذي كان النبي صلى الله عليه
وسلم فيه بسبب موت ابنه إبراهيم كما تقدم في الباب الأول، فلما رجع النبي صلى الله
عليه وسلم أتى المسجد ولم يصلها ظاهرا، وصح أن السنة في صلاة الكسوف أن تصلى في
المسجد، ولولا ذلك لكانت صلاتها في الصحراء أجدر برؤية الانجلاء، والله أعلم.
(2/544)
13 - باب لاَ
تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ
رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ وَالْمُغِيرَةُ وَأَبُو مُوسَى وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
(2/544)
14 - باب الذِّكْرِ
فِي الْكُسُوفِ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
1059- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ
عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ
" خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى بِأَطْوَلِ
قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ وَقَالَ هَذِهِ
الْآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ لاَ تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ
لِحَيَاتِهِ وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ
"
قوله: "باب الذكر في الكسوف رواه ابن عباس" أي عن النبي صلى الله عليه
وسلم، وقد تقدم حديثه بلفظ: "فاذكروا الله" . قوله: "فقام النبي
صلى الله عليه وسلم فزعا" بكسر الزاي صفة مشبهة، ويجوز الفتح على أنه مصدر
بمعنى الصفة. قوله: "يخشى أن
(2/545)
تكون الساعة" بالضم على أن كان تامة أي يخشى أن تحضر الساعة، أو ناقصة والساعة اسمها والخبر محذوف، أو العكس. قيل وفيه جواز الإخبار بما يوجبه الظن من شاهد الحال، لأن سبب الفزع يخفى عن المشاهد لصورة الفزع فيحتمل أن يكون الفزع لغير ما ذكر، فعلى هذا فيشكل هذا الحديث من حيث أن للساعة مقدمات كثيرة لم تكن وقعت كفتح البلاد واستخلاف الخلفاء وخروج الخوارج. ثم الأشراط كطلوع الشمس من مغربها والدابة والدجال والدخان وغير ذلك. ويجاب عن هذا باحتمال أن تكون قصة الكسوف وقعت قبل إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه العلامات، أو لعله خشي أن يكون ذلك بعض المقدمات، أو أن الراوي ظن أن الخشية لذلك وكانت لغيره كعقوبة تحدث كما كان يخشى عند هبوب الريح. هذا حاصل ما ذكره النووي تبعا لغيره، وزاد بعضهم أن المراد بالساعة غير يوم القيامة، أي الساعة التي جعلت علامة على أمر من الأمور، كموته صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك، وفي الأول نظر لأن قصة الكسوف متأخرة جدا، فقد تقدم أن موت إبراهيم كان في العاشرة كما اتفق عليه أهل الأخبار، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بكثير من الأشراط والحوادث قبل ذلك.وأما الثالث فتحسين الظن بالصحابي يقتضي أنه لا يجزم بذلك إلا بتوقيف. وأما الرابع فلا يخفى بعده. وأقربها الثاني فلعله خشي أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلل بين الكسوف والطلوع المذكور أشياء مما ذكر وتقع متتالية بعضها إثر بعض مع استحضار قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} ، ثم ظهر لي أنه يحتمل أن يخرج على مسألة دخول النسخ في الأخبار فإذا قيل بجواز ذلك زال الإشكال. وقيل لعله قدر وقوع الممكن لولا ما أعلمه الله تعالى بأنه لا يقع قبل الأشراط تعظيما منه لأمر الكسوف ليتبين لمن يقع له من أمته ذلك كيف يخشى ويفزع لا سيما إذا وقع لهم ذلك بعد حصول الأشراط أو أكثرها. وقيل لعل حالة استحضار إمكان القدرة غلبت على استحضار ما تقدم من الشروط لاحتمال أن تكون تلك الأشراط كانت مشروطة بشرط لم يتقدم ذكره فيقع المخوف بغير أشراط لفقد الشرط، والله سبحانه وتعالى أعلم. قوله: "هذه الآيات التي يرسل الله" ثم قال: "ولكن يخوف الله بها عباده" موافق لقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} وموافق لما تقدم تقريره في الباب الأول، واستدل بذلك على أن الأمر بالمبادرة إلى الذكر والدعاء والاستغفار وغير ذلك لا يختص بالكسوفين لأن الآيات أعم من ذلك، وقد تقدم القول في ذلك في أواخر الاستسقاء. ولم يقع في هذه الرواية ذكر الصلاة، فلا حجة فيه لمن استحبها عند كل آية. قوله: "إلى ذكر الله" في رواية الكشميهني: "إلى ذكره " والضمير يعود على الله في قوله: "يخوف الله بها عباده"، وفيه الندب إلى الاستغفار عند الكسوف وغيره لأنه مما يدفع به البلاء.
(2/546)
15 - باب
الدُّعَاءِ فِي الْخُسُوفِ
قَالَهُ أَبُو مُوسَى وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1060- حدثنا أبو الوليد قال حدثنا زائدة قال حدثنا زيادة بن علاقة قال سمعت
المغيرة بن شعبة يقول انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم فقال الناس انكسفت لموت
إبراهيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا
ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي "
(2/546)
قوله: "باب الدعاء في الكسوف" في رواية كريمة وأبي الوقت " في الخسوف". قوله: "قاله أبو موسى وعائشة" يشير إلى حديث أبي موسى الذي قبله، وأما حديث عائشة فوقع الأمر فيه بالدعاء من طريق هشام عن أبيه وهو في الباب الثاني، وورد الأمر بالدعاء أيضا من حديث أبي بكرة وغيره، ومنهم من حمل الذكر والدعاء على الصلاة لكونهما من أجزائها، والأول أولى لأنه جمع بينهما في حديث أبي بكرة حيث قال: "فصلوا وادعوا" ، ووقع في حديث ابن عباس عند سعيد ابن منصور " فاذكروا الله وكبروه وسبحوه وهللوه " وهو من عطف الخاص على العام، وقد تقدم الكلام على حديث المغيرة في الباب الأول.
(2/547)
16 - باب قَوْلِ
الإِمَامِ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ أَمَّا بَعْدُ
1061- وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ
بِنْتُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ
بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ
قوله: "باب قول الإمام في خطبة الكسوف: أما بعد" ذكر فيه حديث أسماء
مختصرا معلقا فقال: "وقال أبو أسامة"، وقد تقدم مطولا من هذا الوجه في
كتاب الجمعة، ووقع فيه هنا في رواية أبي علي ابن السكن وهم نبه عليه أبي علي
الجياني وذلك أنه أدخل - بين هشام وفاطمة بنت المنذر - عروة بن الزبير والصواب
حذفه.قلت: لعله كان عنده " هشام بن عروة بن الزبير " فتصحفت " ابن
" فصارت " عن " وذلك من الناسخ، وإلا فابن السكن من الحفاظ الكبار.
وفيه تأييد لمن استحب لصلاة الكسوف خطبة كما تقدم في بابه.
(2/457)
17 - باب
الصَّلاَةِ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ
1062- حدثنا محمود قال حدثنا سعيد بن عامر عن شعبة عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة
رضي الله عنه قال ثم انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى
ركعتين "
1063- حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا يونس عن الحسن عن أبي بكرة
قال ثم خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يجر رداءه حتى انتهى
إلى المسجد وثاب الناس إليه فصلى بهم ركعتين فانجلت الشمس فقال إن الشمس والقمر
آيتان من آيات الله وإنهما لا يخسفان لموت أحد وإذا كان ذاك فصلوا وادعوا حتى يكشف
ما بكم وذاك أن ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم مات يقال له إبراهيم فقال الناس في
ذاك "
قوله: "باب الصلاة في كسوف القمر" أورد فيه حديث أبي بكرة من وجهين
مختصرا ومطولا، واعترض عليه بأن المختصر ليس فيه ذكر القمر لا بالتنصيص ولا
بالاحتمال، والجواب أنه أراد أن يبين أن المختصر بعض الحديث المطول، وأما المطول
فيؤخذ المقصود من قوله: "وإذا كان ذلك فصلوا " بعد قوله: "أن الشمس
والقمر " وقد وقع في بعض طرقه ما هو أصرح من ذلك، فعند ابن حبان من طريق نوح
بن قيس عن يونس بن عبيد في
(2/547)
هذا الحديث: "فإذا رأيتم شيئا من ذلك " وعنده في حديث عبد الله ابن عمرو " فإذا انكسف أحدهما " وقد تقدم حديث أبي مسعود بلفظ: "كسوف أيهما انكسف " وفي ذلك رد على من قال لا تندب الجماعة في كسوف القمر، وفرق بوجود المشقة في الليل غالبا دون النهار ووقع عند ابن حبان من وجه آخر أنه صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف القمر ولفظه من طريق النضر بن شميل عن أشعث بإسناده في هذا الحديث: "صلى في كسوف الشمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم"، وأخرجه الدار قطني أيضا، وفي هذا رد على من أطلق كابن رشيد أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل فيه، ومنهم من أول قوله: "صلى " أي أمر بالصلاة، جمعا بين الروايتين. وقال صاحب الهدى: لم ينقل أنه صلى في كسوف القمر في جماعة، لكن حكى ابن حبان في السيرة له " أن القمر خسف في السنة الخامسة فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الكسوف وكانت أول صلاة كسوف في الإسلام"، وهذا إن ثبت انتفى التأويل المذكور، وقد جزم به مغلطاي في سيرته المختصرة وتبعه شيخنا في نظمها. "تنبيه": حكى ابن التين أنه وقع في رواية الأصيلي في حديث أبي بكرة هذا " انكسف القمر " بدل الشمس، وهذا تغيير لا معنى له، وكأنه عسرت عليه مطابقة الحديث للترجمة فظن أن لفظه مغير فغيره هو إلى ما ظنه صوابا وليس كذلك.
(2/548)
18 - باب
الرَّكْعَةُ الأُولَى فِي الْكُسُوفِ أَطْوَلُ
1064- حَدَّثَنَا مَحْمُودُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ فِي كُسُوفِ
الشَّمْسِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي سَجْدَتَيْنِ الأَوَّلُ الأَوَّلُ أَطْوَلُ
"
قوله: "باب الركعة الأولى في الكسوف أطول" كذا وقع هنا للحموي
وللكشميهني، ووقع بدله للمستملي: "باب صب المرأة على رأسها الماء إذا أطال
الإمام القيام في الركعة الأولى " قال ابن رشيد وقع في هذا الموضع تخليط من
الرواة، وحديث عائشة المذكور مطابق للترجمة الأولى قطعا، وأما الثانية فحقها أن
تذكر في موضع آخر، وكأن المصنف ترجم بها وأخلى بياضا ليذكر لها حديثا أو طريقا كما
جرت عادته فلم يحصل غرضه فضم بعض الكتابة إلى بعض فنشأ هذا، والأليق بها حديث
أسماء المذكور قبل سبعة أبواب فهو نص فيه. انتهى. ويؤيد ما ذكره ما وقع في رواية
أبي علي بن شبويه عن الفربري فإنه ذكر " باب صب المرأة " أولا وقال في
الحاشية: ليس فيه حديث، ثم ذكر " باب الركعة الأولى أطول " وأورد فيه حديث
عائشة، وكذا صنع الإسماعيلي في مستخرجه. فعلى هذا فالذي وقع من صنيع شيوخ أبي ذر
من اقتصار بعضهم على إحدى الترجمتين ليس بجيد، أما من اقتصر على الأولى وهو
المستملي فخطأ محض، إذ لا تعلق لها بحديث عائشة، وأما الآخران فمن حيث أنهما حذفا
الترجمة أصلا، وكأنهما استشكلاها فحذفاها، ولهذا حذفت من رواية كريمة أيضا عن
الكشميهني، وكذا من رواية الأكثر. قوله: "حدثنا أبو أحمد" هو الزبيري،
وسفيان هو الثوري، وهذا المتن طرف من الحديث الطويل الماضي في " باب صلاة
الكسوف في المسجد " وكأنه مختصر منه بالمعنى فإنه قال فيه: "ثم قام
قياما طويلا وهو دون القيام الأول " وقال في هذا " أربع ركعات في سجدتين
الأولى أطول " وقد رواه الإسماعيلي بلفظ: "الأولى فالأولى أطول "
وفيه دليل لمن قال: إن القيام الأول من الركعة الثانية يكون دون القيام الثاني من
الركعة الأولى، وقد قال ابن بطال: إنه لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعيها
تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعيها. وقال النووي: اتفقوا على أن
(2/548)
القيام الثاني وركوعه فيهما أقصر من القيام الأول وركوعه فيهما، واختلفوا في القيام الأول من الثانية وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني من الأولى وركوعه أو يكونان سواء؟ قيل: وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله: "وهو دون القيام الأول " هل المراد به الأول من الثانية أو يرجع إلى الجميع فيكون كل قيام دون الذي قبله. ورواية الإسماعيلي تعين هذا الثاني، ويرجحه أيضا أنه لو كان المراد من قوله: "القيام الأول " أول قيام من الأولى فقط لكان القيام الثاني والثالث مسكوتا عن مقدارهما، فالأول أكثر فائدة، والله أعلم.
(2/549)
19 - باب الْجَهْرِ
بِالْقِرَاءَةِ فِي الْكُسُوفِ
1065- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ
مُسْلِمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ نَمِرٍ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا جَهَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي صَلاَةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ
كَبَّرَ فَرَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ مِنْ الرَّكْعَةِ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يُعَاوِدُ الْقِرَاءَةَ فِي صَلاَةِ
الْكُسُوفِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ "
1066- وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ عُرْوَةَ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ مُنَادِيًا بُ
الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ
وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَمِرٍ سَمِعَ ابْنَ
شِهَابٍ مِثْلَهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ فَقُلْتُ مَا صَنَعَ أَخُوكَ ذَلِكَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مَا صَلَّى إِلاَّ رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ الصُّبْحِ إِذْ
صَلَّى بِالْمَدِينَةِ قَالَ أَجَلْ إِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ تَابَعَهُ
سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي
الْجَهْرِ "
قوله: "باب الجهر بالقراءة في الكسوف" أي سواء كان للشمس أو القمر.
قوله: "أخبرنا ابن نمر" بفتح النون وكسر الميم، اسمه عبد الرحمن، وهو
دمشقي وثقه دحيم والذهلي وابن البرقي وآخرون، وضعفه ابن معين لأنه لم يرو عنه غير
الوليد وليس له في الصحيحين غير هذا الحديث، وقد تابعه عليه الأوزاعي وغيره. قوله:
"جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته" استدل به على
الجهر فيها بالنهار، وحمله جماعة ممن لم ير بذلك على كسوف القمر، وليس بجيد لأن
الإسماعيلي روى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد بلفظ: "كسفت الشمس في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذكر الحديث، وكذا رواية الأوزاعي التي بعده
صريحة في الشمس. قوله: "وقال الأوزاعي وغيره سمعت الزهري الخ" وصله مسلم
عن محمد بن مهران عن الوليد ابن مسلم حدثنا الأوزاعي وغيره فذكره، وأعاد الإسناد
إلى الوليد قال: أخبرنا عبد الرحمن بن نمر فذكره، وزاد فيه مسلم طريق كثير بن عباس
عن أخيه ولم يذكر قصة عبد الله بن الزبير، واستدل بعضهم على ضعف رواية عبد الرحمن
بن نمر في الجهر بأن الأوزاعي لم يذكره في روايته الجهر، وهذا ضعيف لأن من ذكر حجة
على من لم يذكر، لا سيما والذي لم يذكره لم يتعرض لنفيه، وقد ثبت الجهر في رواية
الأوزاعي عند أبي داود والحاكم من طريق الوليد بن مزيد عنه، ووافقه سليمان بن كثير
وغيره كما ترى. قوله: "قال أجل" أي نعم وزنا ومعنى. وفي رواية الكشميهني:
"من أجل " بسكون الجيم، وعلى الأول فقوله
(2/549)
"أنه أخطأ " بكسر همزة إنه وعلى الثاني بفتحها. قوله: "تابعه سليمان بن كثير وسفيان بن حسين عن الزهري في الجهر" يعني بإسناده المذكور، ورواية سليمان وصلها أحمد عن عبد الصمد بن عبد الوارث عنه بلفظ: "خسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكبر ثم كبر الناس ثم قرأ فجهر بالقراءة " الحديث، ورويناه في مسند أبي داود الطيالسي عن سليمان بن كثير بهذا الإسناد مختصرا " أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة الكسوف " وأما رواية سفيان بن حسين فوصلها الترمذي والطحاوي بلفظ: "صلى صلاة الكسوف وجهر بالقراءة فيها " وقد تابعهم على ذكر الجهر عن الزهري عقيل عند الطحاوي وإسحاق ابن راشد عند الدار قطني، وهذه طرق يعضد بعضها بعضا يفيد مجموعها الجزم بذلك فلا معنى لتعليل من أعله بتضعيف سفيان بن حسين وغيره، فلو لم يرد في ذلك إلا رواية الأوزاعي لكانت كافية، وقد ورد الجهر فيها عن على مرفوعا وموقوفا أخرجه ابن خزيمة وغيره. وقال به صاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وابن العربي من المالكية. وقال الطبري: يخير بين الجهر والإسرار. وقال الأئمة الثلاثة: يسر في الشمس ويجهر في القمر، واحتج الشافعي بقول ابن عباس " قرأ نحوا من سورة البقرة " لأنه لو جهر لم يحتج إلى تقدير، وتعقب باحتمال أن يكون بعيدا منه، لكن ذكر الشافعي تعليقا عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف فلم يسمع منه حرفا، ووصله البيهقي من ثلاثة طرق أسانيدها واهية، وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائدة فالأخذ به أولى، وإن ثبت العدد فيكون فعل ذلك لبيان الجواز، وهكذا الجواب عن حديث سمرة عند ابن خزيمة والترمذي " لم يسمع له صوتا " وأنه إن ثبت لا يدل على نفي الجهر، قال ابن العربي: الجهر عندي أولى لأنها صلاة جامعة ينادي لها ويخطب فأشبهت العيد والاستسقاء، والله أعلم. "خاتمة": اشتملت أبواب الكسوف على أربعين حديثا نصفها موصول ونصفها معلق، المكرر منها فيه وفيما مضى اثنان وثلاثون، والخالص ثمانية. وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي بكرة، وحديث أسماء في العتاقة، ورواية عمرة عن عائشة الأولى أطول لكنه أخرج أصله. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين خمسة آثار فيها أثر عبد الله بن الزبير، وفيها أثر عروة في تخطئته، وهما موصولان.
(2/550)
كتاب سجود القرآن
باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
17- كتاب سجود القرآن
1- باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها
1067- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الأَسْوَدَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ النَّجْمَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ
شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ
وَقَالَ يَكْفِينِي هَذَا فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا "
[الحديث1067-أطرافه في: 4863.3972.3853.1070]
قوله: "أبواب سجود القرآن" كذا للمستملي، ولغيره: "باب ما جاء في
سجود القرآن وسنتها " أي سنة سجود التلاوة، وللأصيلي: "وسنته".
وسيأتي ذكر من قال بوجوبها في آخر الأبواب. وسقطت البسملة لأبي ذر. وقد أجمع
العلماء على أنه يسجد وفي عشرة مواضع وهي متوالية إلا ثانية الحج و "ص"،
وأضاف مالك "ص" فقط، والشافعي في القديم ثانية الحج فقط، وفي الجديد هي
وما في المفصل وهو قول عطاء، وعن أحمد مثله في رواية، وفي أخرى مشهورة زيادة
"ص" وهو قول الليث وإسحاق وابن وهب وابن حبيب من المالكية وابن المنذر
وابن سريج من الشافعية، وعن أبي حنيفة مثله لكن نفي ثانية الحج وهو قول داود،
ووراء ذلك أقوال أخرى منها عن عطاء الخراساني الجميع إلا ثانية الحج والانشقاق،
وقيل بإسقاطهما وإسقاط "ص" أيضا، وقيل الجميع مشروع ولكن العزائم
الأعراف وسبحان وثلاث المفصل روي عن ابن مسعود، وعن ابن عباس الم تنزيل وحم تنزيل
والنجم واقرأ، وعن سعيد بن جبير مثله بإسقاط اقرأ، وعن عبيد بن عمير مثله لكن
بإسقاط النجم وإثبات الأعراف وسبحان، وعن علي ما ورد الأمر فيه بالسجود عزيمة،
وقيل يشرع السجود عند كل لفظ وقع فيه الأمر بالسجود أو الحث عليه والثناء على
فاعله أو سيق مساق المدح وهذا يبلغ عددا كثيرا وقد أشار إليه أبو محمد بن الخشاب
في قصيدته الإلغازية. قوله: "سمعت الأسود" هو ابن يزيد، وعبد الله هو
ابن مسعود. قوله: "وسجد من معه غير شيخ" سماه في تفسير سورة النجم من
طريق إسرائيل عن أبي إسحاق: أمية بن خلف، ووقع في سيرة ابن إسحاق أنه الوليد بن
المغيرة، وفيه نظر لأنه لم يقتل، وفي تفسير سنيد: الوليد بن المغيرة أو عتبة بن
ربيعة بالشك وفيه نظر لما أخرجه الطبراني من حديث مخرمة بن نوفل قال: "لما
أظهر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام أسلم أهل مكة حتى إنه كان ليقرأ السجدة
فيسجدون فلا يقدر بعضهم أن يسجد من الزحام، حتى قدم رؤساء قريش الوليد بن المغيرة
وأبو جهل، وغيرهما وكانوا بالطائف فرجعوا وقالوا: تدعون دين آبائكم " لكن في
ثبوت هذا نظر، لقول أبي سفيان في الحديث الطويل: "إنه لم يرتد أحد ممن أسلم
" ويمكن أن يجمع بأن النفي مقيد بمن ارتد سخطا لا بسبب مراعاة خاطر رؤسائه.
وروى الطبري من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير أن الذي رفع التراب فسجد عليه هو
سعيد بن العاص ابن أمية أبو أحيحة وتبعه النحاس، وذكر أبو حيان شيخ شيوخنا في
تفسيره أنه أبو لهب ولم يذكر مستنده، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي هريرة "
سجدوا في النجم إلا رجلين من قريش أرادا بذلك الشهرة". وللنسائي من حديث
المطلب بن أبي وداعة قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم، فسجد
وسجد
(2/551)
من معه، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد " ولم يكن المطلب يومئذ أسلم. ومهما ثبت من ذلك فلعل ابن مسعود لم يره أو خص واحدا بذكره لاختصاصه بأخذ الكف من التراب دون غيره. وأفاد المصنف في رواية إسرائيل أن النجم أول سورة أنزلت فيها سجدة، وهذا هو السر في بداءة المصنف في هذه الأبواب بهذا الحديث، واستشكل بأن "اقرأ باسم ربك" أول السور نزولا وفيها أيضا سجدة فهي سابقة على النجم، وأجيب بأن السابق من اقرأ أوائلها، وأما بقيتها فنزل بعد ذلك. بدليل قصة أبي جهل في نهيه للنبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، أو الأولية مقيدة بشيء محذوف بينته رواية زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عند ابن مردويه بلفظ: "أن أول سورة استعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والنجم " وله من رواية عبد الكبير صلى الله عليه وسلم بن دينار عن أبي إسحاق " أول سورة تلاها على المشركين " فذكره، فيجمع بين الروايات الثلاث بأن المراد أول سورة فيها سجدة تلاها جهرا على المشركين. وسيأتي بقية الكلام عليه في تفسير سورة النجم إن شاء الله تعالى.
(2/552)
2 - باب سَجْدَةِ
تَنْزِيلُ السَّجْدَةُ
1068- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمن عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة في صلاة
الفجر آلم تنزيل و هل أتى على الإنسان"
قوله: "باب سجدة تنزيل السجدة" قال ابن بطال: اجمعوا على السجود فيها،
وإنما اختلفوا في السجود بها في الصلاة. انتهى. وقد تقدم الكلام على ذلك وعلى حديث
أبي هريرة المذكور في الباب في كتاب الجمعة مستوفى.
(2/552)
2 - باب سَجْدَةِ
"ص"
1069- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو النُّعْمَانِ قَالاَ حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قال: "ص" لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وَقَدْ
رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا
[الحديث1069-طرفه في3422]
قوله: "باب سجدة "ص" أورد فيه حديث ابن عباس " ص ليس من عزائم
السجود " يعني السجود في "ص" إلى آخره، والمراد بالعزائم ما وردت
العزيمة على فعله كصيغة الأمر مثلا بناء على أن بعض المندوبات آكد من بعض عند من
لا يقول بالوجوب، وقد روى ابن المنذر وغيره عن علي بن أبي طالب بإسناد حسن: أن
العزائم حم والنجم واقرأ والم تنزيل. وكذا ثبت عن ابن عباس في الثلاثة الأخر،
وقيل: الأعراف وسبحان وحم والم، أخرجه ابن أبي شيبة. قوله: "وقد رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها" وقع في تفسير "ص" عند المصنف
من طريق مجاهد قال: "سألت ابن عباس من أين سجدت في ص؟ " ولابن خزيمة من
هذا الوجه " من أين أخذت سجدة ص " ثم اتفقا فقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } إلى قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ففي هذا أنه استنبط
مشروعية السجود فيها
(2/552)
4 - باب سَجْدَةِ
النَّجْمِ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1070- حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن عبد الله رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من
القوم إلا سجد فأخذ رجل من القوم كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال يكفيني
هذا فلقد رأيته بعد قتل كافرا " قوله: "باب سجدة النجم قاله ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه وسلم" يأتي موصولا في الذي يليه. والكلام على حديث ابن
مسعود يأتي في التفسير إن شاء الله تعالى. واستدل به على أن من وضع جبهته على كفه
ونحوه لا يعد ساجدا حتى يضعها بالأرض، وفيه نظر.
(2/553)
5 - باب سُجُودِ
الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ
1071- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا
أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ
مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ وَرَوَاهُ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ
(2/553)
6 - باب مَنْ قَرَأَ
السَّجْدَةَ وَلَمْ يَسْجُدْ
1072- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ قَالَ حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ ابْنِ
قُسَيْطٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ " أَنَّهُ سَأَلَ
زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا
"
[الحديث1072- طرفه في:1073]
1073- حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا بن أبي ذئب قال حدثنا يزيد بن عبد الله بن
قسيط عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت قال قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم
والنجم فلم يسجد فيها "
(2/554)
قوله: "باب من
قرأ السجدة ولم يسجد" يشير بذلك إلى الرد على من احتج بحديث الباب على أن
المفصل لا سجود فيه كالمالكية، أو أن النجم بخصوصهما لا سجود فيها كأبي ثور، لأن
ترك السجود فيها في هذه الحالة لا يدل على تركه مطبقا، لاحتمال أن يكون السبب في
الترك إذ ذاك إما لكونه كان بلا وضوء أو لكون الوقت كان وقت كراهة أو لكون القارئ
كان لم يسجد كما سيأتي تقريره بعد باب، أو ترك حينئذ لبيان الجواز، وهذا أرجح الاحتمالات
وبه جزم الشافعي، لأنه لو كان واجبا لأمره بالسجود ولو بعد ذلك. وأما ما رواه أبو
داود وغيره من طريق مطر الوراق عن عكرمة عن ابن عباس " أن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة " فقد ضعفه أهل
العلم بالحديث لضعف في بعض رواته واختلاف في إسناده. وعلى تقدير ثبوته، فرواية من
أثبت ذلك أرجح إذ المثبت مقدم على النافي، فسيأتي في الباب الذي يليه ثبوت السجود
في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وروى البزار والدار قطني من طريق هشام بن حسان
عن ابن سيرين عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في سورة النجم
وسجدنا معه " الحديث رجاله ثقات، وروى ابن مردويه في التفسير بإسناد حسن عن
العلاء بن عبد الرحمن وعن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه رأى أبا هريرة سجد
في خاتمة النجم فسأله فقال: إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها وأبو
هريرة إنما أسلم بالمدينة. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن الأسود ابن يزيد عن
عمرو أنه سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ومن طريق نافع ابن عمر أنه سجد
فيها، وفي هذا رد على من زعم أن عمل أهل المدينة استمر على ترك السجود في المفصل.
ويحتمل أن يكون المنفي المواظبة على ذلك لأن المفصل تكثر قرأته في الصلاة فترك
السجود فيه كثيرا لئلا تختلط الصلاة على من لم يفقه، أشار إلى هذه العلة مالك في
قوله بترك السجود في المفصل أصلا وقال ابن القصار: الأمر بالسجود في النجم ينصرف
إلى الصلاة، ورد بفعله صلى الله عليه وسلم كما تقدم قبل. وزعم بعضهم أن عمل أهل
المدينة استمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم على ترك السجود فيها، وفيه نظر لما
رواه الطبري بإسناد صحيح عن عبد الرحمن ابن أبزي عن عمر أنه قرأ النجم في الصلاة
فسجد فيها ثم قام فقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ} ، ومن طريق إسحاق بن سويد عن نافع عن
ابن عمر أنه سجد في النجم.
قوله: "حدثنا يزيد بن خصيفة" بالخاء المعجمة والصاد المهملة مصغر، وهو
يزيد بن عبد الله بن خصيفة نسب إلى جده، وشيخه ابن قسيط هو يزيد بن عبد الله بن
قسيط المذكور في الإسناد الثاني، ورجال الإسنادين معا مدنيون غير شيخي البخاري.
قوله: "أنه سأل زيد بن ثابت فزعم" حذف المسئول عنه، وظاهر السياق يوهم
أن المسئول عنه السجود في النجم وليس كذلك، وقد بينه مسلم عن علي بن حجر وغيره عن
إسماعيل بن جعفر بهذا الإسناد قال: "سألت زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام،
فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء، وزعم أنه قرأ النجم " الحديث.
فحذف المصنف الموقوف لأنه ليس من غرضه في هذا المكان ولأنه يخالف زيد بن ثابت في
ترك القراءة خلف الإمام وفاقا لمن أوجبها من كبار الصحابة تبعا للحديث الصحيح
الدال على ذلك كما تقدم في صفة الصلاة.
قوله: "فزعم" أراد أخبر، والزعم يطلق على المحقق قليلا كهذا وعلى
المشكوك كثيرا، قد تكرر ذلك، ومن شواهده قول الشاعر: على الله أرزاق العباد كما
زعم.
ويحتمل أن يكون زعم في هذا الشعر بمعنى ضمن ومنه الزعيم غارم أي الضامن.
واستنبط بعضهم من حديث زيد بن ثابت أن القارئ إذا تلا على الشيخ لا يندب له سجود
التلاوة ما لم يسجد الشيخ أدبا مع الشيخ وفيه نظر.
"فائدة": اتفق ابن أبي ذئب ويزيد بن خصيفة على هذا الإسناد على ابن
قسيط، وخالفهما أبو صخر فرواه عن ابن قسيط عن خارجة بن زيد عن أبيه أخرجه أبو
(2/555)
داود والطبراني فإن كان محفوظا حمل على أن لابن قسيط فيه شيخين، وزاد أبو صخر في روايته: "وصليت خلف عمر بن عبد العزيز وأبي بكر ابن حزم فلم يسجدا فيها".
(2/556)
7- باب سَجْدَةِ {
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
1074- حدثنا مسلم ومعاذ بن فضالة قالا أخبرنا هشام عن يحيى عن أبي سلمة قال رأيت
أبا هريرة رضي الله عنه قرأ إذا السماء انشقت فسجد بها فقلت يا أبا هريرة ألم أرك
تسجد قال لو لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يسجد لم أسجد "
قوله: "باب سجدة إذا السماء انشقت" أورد فيه حديث أبي هريرة في السجود
فيها. وهشام هو ابن أبي عبد الله الدستوائي ويحيى هو ابن أبي كثير. وقوله فسجد بها
في رواية الكشميهني فيها والباء للظرف. وقول أبي سلمة لم أرك تسجد قيل هو استفهام
إنكار من أبي سلمة يشعر بأن العمل استمر على خلاف ذلك ولذلك أنكره أبو رافع كما
سيأتي بعد ثلاثة أبواب، وهذا فيه نظر، وعلى التنزل فيمكن أن يتمسك به من لا يرى
السجود بها في الصلاة، أما تركها مطلقا فلا. ويدل على بطلان المدعي أن أبا سلمة
وأبا رافع لم ينازعا أبا هريرة بعد أن أعلمهما بالسنة في هذه المسألة ولا احتجا
عليه بالعمل على خلاف ذلك. قال ابن عبد البر: وأي عمل يدعي مع مخالفة النبي صلى
الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده؟.
(2/556)
8 - باب مَنْ
سَجَدَ لِسُجُودِ الْقَارِئِ
1075- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ
قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ
فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَوْضِعَ
جَبْهَتِهِ "
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِتَمِيمِ بْنِ حَذْلَمٍ وَهُوَ غُلاَمٌ فَقَرَأَ
عَلَيْهِ سَجْدَةً فَقَالَ اسْجُدْ فَإِنَّكَ إِمَامُنَا فِيهَا قوله: "باب
من سجد سجود القارئ" قال ابن بطال: أجمعوا على أن القارئ إذا سجد لزم المستمع
أن يسجد كذا أطلق، وسيأتي بعد باب قول من جعل ذلك مشروطا بقصد الاستماع. وفي
الترجمة إشارة إلى أن القارئ إذا لم يسجد لم يسجد السامع. ويتأيد بما سأذكره.
قوله: "وقال ابن مسعود لتميم بن حذلم" بفتح المهملة واللام بينهما معجمة
ساكنة. قوله: "إمامنا" زاد الحموي " فيها " وهذا الأثر وصله
سعيد بن منصور من رواية مغيرة عن إبراهيم قال: قال تميم بن حذلم: قرأت القرآن على
عبد الله وأنا غلام، فمررت بسجدة فقال عبد الله: أنت إمامنا فيها. وقد روى مرفوعا
أخرجه ابن أبي شيبة من رواية ابن عجلان عن زيد بن أسلم، أن غلاما قرأ عند النبي
صلى الله عليه وسلم السجدة، فانتظر الغلام النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد، فلما
لم يسجد قال: يا رسول الله أليس في هذه السجدة سجود؟ قال: "بلى، ولكنك كنت
إمامنا فيها، ولو سجدت لسجدنا " رجاله ثقات إلا أنه مرسل. وقد روى عن زيد بن
أسلم عن عطاء بن يسار قال: بلغني، فذكر نحوه. أخرجه البيهقي من رواية ابن وهب عن
هشام بن سعد وحفص بن ميسرة معا عن زيد بن أسلم
(2/556)
9 - باب ازْدِحَامِ
النَّاسِ إِذَا قَرَأَ الإِمَامُ السَّجْدَةَ
1076- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ قَالَ
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ وَنَحْنُ
عِنْدَهُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ فَنَزْدَحِمُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا
لِجَبْهَتِهِ مَوْضِعًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ "
قوله: "باب ازدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة" أي لضيق المكان وكثرة
الساجدين. قوله: "حدثنا بشر بن آدم" هو الضرير البغدادي، بصري الأصل،
ليس له في البخاري إلا هذا الموضع الواحد. وفي طبقته بشر بن آدم بن يزيد بصري أيضا
وهو ابن بنت أزهر السمان، وفي كل منهما مقال. ورجح ابن عدي أن شيخ البخاري هنا هو
ابن بنت أزهر، وعلى كل تقدير فلم يخرج له إلا في المتابعات، فسيأتي من طريق أخرى
بعد باب ويأتي الكلام عليه. ووافقه على هذه الرواية عن علي بن مسهر سويد بن سعيد،
أخرجه الإسماعيلي.
(2/557)
10 - باب مَنْ
رَأَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُوجِبْ السُّجُودَ
وَقِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ وَلَمْ
يَجْلِسْ لَهَا قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ قَعَدَ لَهَا كَأَنَّهُ لاَ يُوجِبُهُ
عَلَيْهِ وَقَالَ سَلْمَانُ مَا لِهَذَا غَدَوْنَا وَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ اسْتَمَعَهَا وَقَالَ
الزُّهْرِيُّ لاَ يَسْجُدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا فَإِذَا سَجَدْتَ
وَأَنْتَ فِي حَضَرٍ فَاسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا فَلاَ
عَلَيْكَ حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ وَكَانَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ لاَ يَسْجُدُ
لِسُجُودِ الْقَاصِّ
1077- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ
يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ
رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
وَكَانَ رَبِيعَةُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ عَمَّا حَضَرَ رَبِيعَةُ مِنْ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى
الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ
وَسَجَدَ النَّاسُ حَتَّى إِذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا
حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَمُرُّ
بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ إِثْمَ
عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَزَادَ نَافِعٌ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ السُّجُودَ
إِلاَّ أَنْ نَشَاءَ "
قوله: "باب من رأى أن الله لم يوجب السجود" أي وحمل الأمر في قوله
اسجدوا على الندب أو على أن المراد
(2/557)
11 - باب مَنْ
قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلاَةِ فَسَجَدَ بِهَا
1078- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي
قَالَ حَدَّثَنِي بَكْرٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي
هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فَسَجَدَ فَقُلْتُ
مَا هَذِهِ قَالَ سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلاَ أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ "
قوله: "باب من قرأ السجدة في الصلاة فسجد بها" أشار بهذه الترجمة إلى من
كره قراءة السجدة في الصلاة المفروضة، وهو منقول عن مالك، وعنه كراهته في السرية
دون الجهرية وهو قول بعض الحنفية أيضا وغيرهم،
(2/559)
وحديث أبي هريرة المحتج به في الباب تقدم الكلام عليه في " باب الجهر في العشاء " وبينا فيه أن في رواية أبي الأشعث عن معمر التصريح بأن سجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها كان داخل الصلاة، وكذا في رواية يزيد بن هارون عن سليمان التيمي في صحيح أبي عوانة وغيره، وفيه حجة على من كره ذلك. وقد تقدم النقل عمن زعم أنه لا سجود في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ولا غيرها من المفصل، وأن العمل استمر عليه بدليل إنكار أبي رافع، وكذا أنكره أبو سلمة، وبينا أن النقل عن علماء المدينة بخلاف ذلك كعمر وابن عمر وغيرهما من الصحابة والتابعين. قوله: "حدثني بكر" هو ابن عبد الله المزني.
(2/560)
باب من لم يجد
موضعا للسجود من الزحام
...
12 - باب مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ مَعَ الإِمَامِ مِنْ الزِّحَامِ
1079- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ السُّورَةَ
الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ حَتَّى مَا يَجِدُ
أَحَدُنَا مَكَانًا لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ "
قوله: "باب من لم يجد موضعا للسجود مع الإمام من الزحام" أي ماذا يفعل.
قال ابن بطال: لم أجد هذه المسالة إلا في سجود الفريضة، واختلف السلف، فقال عمر:
يسجد على ظهر أخيه وبه قال الكوفيون وأحمد وإسحاق. وقال عطاء والزهري: يؤخر حتى
يرفعوا وبه قال مالك والجمهور، وإذا كان هذا في سجود الفريضة فيجرى مثله في سجود
التلاوة، وظاهر صنيع البخاري أنه يذهب إلى أنه يسجد بقدر استطاعته ولو على ظهر
أخيه. قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها
السجدة" زاد على بن مسهر في روايته عن عبيد الله " ونحن عنده " وقد
مضى قبل بباب. قوله: "فيسجد فنسجد" زاد الكشميهني: "معه".
قوله: "لموضع جبهته" يعني من الزحام، زاد مسلم في رواية له " في
غير وقت صلاة " ولم يذكر ابن عمر ما كانوا يصنعون حينئذ، ولذلك وقع الاختلاف
كما مضى، ووقع في الطبراني من طريق مصعب ابن ثابت عن نافع في هذا الحديث أن ذلك
كان بمكة لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم، وزاد فيه: "حتى سجد الرجل
على ظهر الرجل " وهو يؤيد ما فهمناه عن المصنف. والذي يظهر أن هذا الكلام وقع
من ابن عمر على سبيل المبالغة في أنه لم يبق أحد إلا سجد، وسياق حديث الباب مشعر
بأن ذلك وقع مرارا، فيحتمل أن تكون رواية الطبراني بينت مبدأ ذلك، ويؤيده ما رواه
الطبراني أيضا من رواية المسور بن مخرمة عن أبيه قال: "أظهر أهل مكة الإسلام
يعني في أول الأمر - حتى إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقرأ السجدة فيسجد وما
يستطيع بعضهم أن يسجد من الزحام، حتى قدم رؤساء أهل مكة وكانوا بالطائف فرجعوهم
الإسلام " واستدل به البخاري على السجود لسجود القارئ كما مضى وعلى الازدحام
على ذلك. "خاتمة" اشتملت أبواب السجود على خمسة عشر حديثا، اثنان منها
معلقان، المكرر منها فيه وفيما مضى تسعة أحاديث، والخالص ستة وافقه مسلم على
تخريجها سوى حديثي ابن عباس في "ص" وفي النجم، وحديث عمر في التخيير في
السجود. وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم سبعة آثار، والله أعلم بالصواب.
(2/560)
كتاب تقصير الصلاة
باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر
...
18- كتاب تقصير الصلاة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله: "أبواب التقصير" ثبتت هذه الترجمة للمستملى. وفي رواية أبي الوقت
" أبواب تقصير الصلاة"، وثبتت البسملة في رواية كريمة والأصيلي.
1- باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر
1080- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ
عَاصِمٍ وَحُصَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةَ عَشَرَ
يَقْصُرُ فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا وَإِنْ زِدْنَا
أَتْمَمْنَا "
[الحديث 1080-طرفاه في: 4299.4298]
1081- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ
خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ
إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى
الْمَدِينَةِ قُلْتُ أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا قَالَ أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا
"
[الحديث 1080-طرفه4297]
قوله: "باب ما جاء في التقصير" تقول: قصرت الصلاة بفتحتين مخففا قصرا،
وقصرتها بالتشديد تقصيرا، وأقصرتها إقصارا، والأول أشهر في الاستعمال. والمراد به
تخفيف الرباعية إلى ركعتين. ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن لا تقصير في
صلاة الصبح ولا في صلاة المغرب. وقال النووي: ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل
سفر مباح. وذهب بعض السلف إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر، وبعضهم كونه سفر
حج أو عمرة أو جهاد، وبعضهم كونه سفر طاعة، وعن أبي حنيفة والثوري في كل سفر سواء
كان طاعة أو معصية. قوله: "وكم يقيم حتى يقصر" في هذه الترجمة إشكال لأن
الإقامة ليست سببا للقصر، ولا القصر غاية للإقامة، قاله الكرماني وأجاب بأن عدد
الأيام المذكورة سبب لمعرفة جواز القصر فيها ومنع الزيادة عليها، وأجاب غيره بأن
المعنى وكم أقامته المغياة بالقصر؟ وحاصله كم يقيم مقصر؟ وقيل المراد كم يقصر حتى
يقيم؟ أي حتى يسمى مقيما فانقلب اللفظ، أو حتى هنا بمعنى حين أي كم يقيم حين يقصر؟
وقيل فاعل يقيم هو المسافر، والمراد إقامته في بلد ما غايتها التي إذا حصلت يقصر.
قوله: "عن عاصم" هو ابن سليمان، وحصين بالضم هو ابن عبد الرحمن. قوله:
"تسعة عشر" أي يوما بليلته، زاد في المغازي من وجه آخر عن عاصم وحده
" بمكة"، وكذا رواه ابن المنذر من طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن
عكرمة، وأخرجه أبو داود من هذا الوجه بلفظ: "سبعة عشر " بتقديم السين،
وكذا أخرجه من طريق حفص بن غياث عن عاصم قال وقال عباد ابن منصور عن عكرمة "
تسع عشرة " كذا ذكرها معلقة، وقد وصلها البيهقي. ولأبي داود أيضا من حديث
عمران بن حصين " غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح
(2/561)
فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين " وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس " أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمسة عشر يقصر الصلاة " وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج، ومن قال سبع عشرة حذفهما، ومن قال ثماني عشرة عد أحدهما. وأما رواية: "خمسة عشر " فضعفها النووي في الخلاصة، وليس يجيد لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق فقد أخرجها النسائي من رواية عراك مالك عن عبيد الله كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبعة عشر فحذف منها يومي الدخول والخروج فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر أرجح الروايات، وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة، وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمسة عشر لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقا. وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين لكن محله عنده فيمن لم يزمع الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في أول الحال على أربعة أيام أتم، على خلاف بين أصحابه في دخول يومي الدخول والخروج فيها أو لا، وحجته حديث أنس الذي يليه. قوله: "فنحن إذا سافرنا تسع عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا" ظاهره أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام وليس ذلك المراد، وقد صرح أبو يعلى عن شيبان عن أبي عوانة في هذا الحديث بالمراد ولفظه: "إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر " ويؤيده صدر الحديث وهو قوله: "أقام " وللترمذي من وجه آخر عن عاصم " فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا". قوله في حديث أنس " خرجنا من المدينة " في رواية شعبة عن يحيى بن أبي إسحاق عند مسلم: "إلى الحج". قوله: "فكان يصلي ركعتين ركعتين" في رواية البيهقي من طريق علي بن عاصم عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس " إلا في المغرب". قوله: "أقمنا بها عشرا" لا يعارض ذلك حديث ابن عباس المذكور، لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة وحديث أنس في حجة الوداع، وسيأتي بعد باب من حديث ابن عباس " قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة " الحديث، ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام. وقال أحمد: إحدى وعشرين صلاة. وأما قول ابن رشيد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس لأن إقامة عشر داخل في إقامة تسع عشرة - فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين - ففيه نظر لأن ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفان، فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة بل كان مترددا متى يتهيأ له فراغ حاجته يرحل، والمدة التي في حديث ابن أنس يستدل بها على من نوى الإقامة لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازما بالإقامة تلك المدة، ووجه الدلالة. حديث ابن عباس لما كان الأصل في المقيم الإتمام فلما لم يجيء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر، وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال كثيرة كما سيأتي، وفيه أن الإقامة في أثناء السفر تسمى إقامة، وإطلاق اسم البلد على ما جاورها وقرب منها لأن منى وعرفة ليسا من مكة، أما عرفة فلأنها خارج الحرم فليست من مكة قطعا، وأما منى ففيها احتمال، والظاهر إنها ليست من مكة إلا إن قلنا إن اسم مكة يشمل جميع الحرم، قال أحمد بن حنبل: ليس لحديث أنس وجه إلا أنه حسب أيام إقامته صلى الله عليه وسلم في حجته منذ دخل مكة إلى أن
(2/562)
خرج منها لا وجه له إلا هذا. وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة لأن هذه المواضع مواضع النسك وهي في حكم التابع لمكة لأنها المقصود بالأصالة لا يتجه سوى ذلك كما قال الإمام أحمد والله أعلم.وزعم الطحاوي أن الشافعي لم يسبق إلى أن المسافر يصير بنية إقامته أربعة أيام مقيما، وقد قال أحمد نحو ما قال الشافعي، وهي رواية عن مالك.
(2/563)
2 - باب الصَّلاَةِ
بِمِنًى
1082- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ
أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى
رَكْعَتَيْنِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ
ثُمَّ أَتَمَّهَا "
[الحديث10822- طرفه في: 1655]
1083- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنْبَأَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنَ مَا كَانَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ "
[الحديث 1083- طرفه في:1656]
1084-حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
زِيَادٍ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ
وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى
رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ
مُتَقَبَّلَتَانِ "
[الحديث 1084-طرفه في 1657]
قوله: "باب الصلاة بمنى" أي في أيام الرمي، ولم يذكر المصنف حكم
ا[لمسألة لقوة الخلاف فيها، وخص، منى بالذكر لأنها المحل الذي وقع فيها ذلك قديما.
واختلف السلف في المقيم بمنى هل يقصر أو يتم، بناء على أن القصر بها للسفر أو
للنسك؟ واختار الثاني مالك، وتعقبه الطحاوي بأنه لو كان كذلك لكان أهل منى يتمون
ولا قائل بذلك. وقال بعض المالكية: لو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال لهم النبي
صلى الله عليه وسلم أتموا، وليس بين مكة ومنى مسافة القصر، فدل على أنهم قصروا
للنسك. وأجيب بأن الترمذي روى من حديث عمران بن حصين " أنه صلى الله عليه
وسلم كان يصلي بمكة ركعتين ويقول: يا أهل مكة أتموا فإنا قوم سفر " وكأنه ترك
إعلامهم بذلك بمنى استغناء بما تقدم بمكة. قلت: وهذا ضعيف، لأن الحديث من رواية
علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، ولو صح فالقصة كانت في الفتح، وقصة منى في حجة
الوداع، وكان لا بد من بيان ذلك لبعد العهد. ولا يخفى أن أصل البحث مبني على تسليم
أن المسافة التي بين مكة ومنى لا يقصر فيها، وهو من محال الخلاف كما سيأتي بعد
باب. قوله: "بمنى" زاد مسلم في رواية سالم عن أبيه " بمنى
وغيره". قوله: "ثم أتمها" في رواية أبي أسامة عن عبيد الله عند
مسلم: "ثم إن عثمان
(2/563)
صلى أربعا فكان ابن عمر إذا صلى من الإمام صلى أربعا وإذا صلى وحده صلى ركعتين " وسيأتي ذكر السبب في إتمام عثمان بمنى في " باب يقصر إذا خرج من موضعه". قوله: "أنبأنا أبو إسحاق" كذا هو بلفظ الإنباء، وهو في عرف المتقدمين بمعنى الإخبار والتحديث وهذا منه. قوله: "سمعت حارثة بن وهب" زاد البرقاني في مستخرجه " رجلا من خزاعة " أخرجه من طريق أبي الوليد شيخ البخاري فيه. قوله: "آمن" أفعل تفضيل من الأمن. قوله: "ما كان" في رواية الكشميهني والحموي " كانت " أي حالة كونها آمن أوقاته. وفي رواية مسلم: "والناس أكثر ما كانوا " قوله شاهد من حديث ابن عباس عند الترمذي وصححه النسائي بلفظ، خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله، يصلي ركعتين " قال الطيبي: ما مصدرية، ومعناه الجمع، لأن ما أضيف إليه أفعل يكون جمعا، والمعنى صلى بنا والحال أنا أكثر أكواننا في سائر الأوقات أمنا. وسيأتي في " باب الصلاة بمنى " من كتاب الحج عن آدم عن شعبة بلفظ: "عن أبي إسحاق " وقال في روايته: "ونحن أكثر ما كنا قط وآمنه " وكلمة قط متعلقة بمحذوف تقديره ونحن ما كنا أكثر منا في ذلك الوقت ولا أكثر أمنا. وهذا يستدرك به علي ابن مالك حيث قال: استعمال قط غير مسبوقة بالنفي مما يخفى على كثير من النحويين، وقد جاء في هذا الحديث بدون النفي. وقال الكرماني: قوله: "وآمنه " بالرفع ويجوز النصب بأن يكون فعلا ماضيا وفاعله الله وضمير المفعول النبي صلى الله عليه وسلم، والتقدير وآمن الله نبيه حينئذ. ولا يخفى بعد هذا الإعراب. وفيه رد على من زعم أن القصر مختص بالخوف، والذي قال ذلك تمسك بقوله تعالى:{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" ولم يأخذ الجمهور بهذا المفهوم، فقيل لأن شرط مفهوم المخالفة أن لا يكون خرج مخرج الغالب، وقيل هو من الأشياء التي شرع الحكم فيها بسبب ثم زال السبب وبقي الحكم كالرمل، وقيل المراد بالقصر في الآية قصر الصلاة في الخوف إلى ركعة، وفيه نظر لما رواه مسلم من طريق يعلى بن أمية وله صحبة أنه سأل عمر عن قصر الصلاة في السفر فقال إنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم " فهذا ظاهر في أن الصحابة فهموا من ذلك قصر الصلاة في السفر مطلقا لا قصرها في الخوف خاصة. وفي جواب عمر إشارة إلى القول الثاني. وروى السراج من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي حنظلة وهو الحذاء لا يعرف اسمه. قال: سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال: ركعتان، فقلت إن الله عز وجل قال: "إن خفتم " ونحن آمنون، فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يرجح القول الثاني أيضا. قوله: "حدثنا إبراهيم" هو النخعي لا التيمي. قوله: "صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات" كان ذلك بعد رجوعه من أعمال الحج في حال إقامته بمنى للرمي كما سيأتي ذلك في رواية عباد بن عبد الله الزبير في قصة معاوية بعد بابين. قوله: "فقيل ذلك" في رواية أبي ذر والأصيلي: "فقيل في ذلك". قوله: "فاسترجع" أي فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. قوله: "ومع عمر ركعتين" زاد الثوري عن الأعمش ثم تفرقت بكم الطرق، أخرجه المصنف في الحج من طريقه. قوله: "فليت حظي من أربع ركعات ركعتان" لم يقل الأصيلي ركعات، ومن للبدلية مثل قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} وهذا يدل على أنه كان يرى الإتمام جائزا وإلا لما كان له حظ من الأربع ولا من غيرها فإنها كانت تكون فاسدة كلها، وإنما استرجح ابن مسعود لما وقع عنده من مخالفة الأولى. ويؤيده ما روى أبو داود " أن ابن مسعود صلى أربعا، فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعا. فقال: الخلاف شر " وفي رواية البيهقي " إني لأكره الخلاف " ولأحمد من حديث
(2/564)
أبي ذر مثل الأول، وهذا يدل على أنه لم يكن يعتقد أن القصر واجب كما قال الحنفية ووافقهم القاضي إسماعيل من المالكية وهي رواية عن مالك وعن أحمد. قال ابن قدامة: المشهور عن أحمد أنه على الاختيار والقصر عنده أفضل، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، واحتج الشافعي على عدم الوجوب بأن المسافر إذا دخل في صلاة المقيم صلى أربعا باتفاقهم، ولو كان فرضه القصر لم يأتم مسافر بمقيم. وقال الطحاوي: لما كان الفرض لا بد لمن هو عليه أن يأتي به ولا يتخير في الإتيان ببعضه وكان التخيير مختصا بالتطوع دل على أن المصلي لا يتخير في الاثنتين والأربع. وتعقبه ابن بطال بأنا وجدنا واجبا يتخير بين الإتيان بجميعه أو ببعضه وهو الإقامة بمنى ا هـ. ونقل الداودي عن ابن مسعود أنه كان يرى القصر فرضا، وفيه نظر لما ذكرته، ولو كان كذلك لما تعمد ترك الفرض حيث صلى أربعا وقال إن الخلاف شر، ويظهر أثر الخلاف فيما إذا قام إلى الثالثة عمدا فصلاته عند الجمهور صحيحة، وعند الحنفية فاسدة ما لم يكن جلس للتشهد، وسيأتي ذكر السبب في إتمام عثمان بعد بابين إن شاء الله تعالى.
(2/565)
3 - باب كَمْ
أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ
1085- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ يُلَبُّونَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ
أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ تَابَعَهُ عَطَاءٌ عَنْ
جَابِرٍ
[الحديث1085- أطرافه في : 3832.2505.1564]
قوله: "باب كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم في حجته" أي من يوم قدومه
إلى أن خرج منها، وقد تقدم بيان ذلك في الكلام على حديث أنس في الباب الذي قبله.
والمقصود بهذه الترجمة بيان ما تقدم من أن المحقق فيه نية الإقامة هي مدة المقام
بمكة قبل الخروج إلى منى ثم إلى عرفة وهي أربعة أيام ملفقة لأنه قدم في الرابع
وخرج في الثامن فصلى بها إحدى وعشرين صلاة من أول ظهر الرابع إلى آخر ظهر الثامن
صلى الله عليه وسلم، وقيل أراد مدة إقامته إلى أن توجه إلى المدينة وهي عشرة كما
في حديث أنس، وإن كان لم يصرح في حديث ابن عباس بغايتها فإنها تعرف من الواقع، فإن
بين دخوله وخروجه يوم النفر الثاني من منى إلى الأبطح عشرة أيام سواء. قوله:
"عن أبي العالية البراء" هو بتشديد الراء، كان يبري النبل، واسمه زياد
وقيل غير ذلك، وهو غير أبي العالية الرياحي، وقد اشتركا في الرواية عن أبي عباس،
وسيأتي الكلام على هذا الحديث وعلى متابعة عطاء عن جابر في كتاب الحج إن شاء الله
تعالى.
(2/565)
3 - باب فِي كَمْ
يَقْصُرُ الصَّلاَةَ وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمًا وَلَيْلَةً سَفَرًا
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقْصُرَانِ
وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا
الحديث:
1086- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ قَالَ قُلْتُ
لِأَبِي أُسَامَةَ حَدَّثَكُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ
ـــــــ
(1) فيما قاله الشارح هنا نظر " وسبق أنه صلى الظهر يوم الثامن بمنى , كما صح
ذلك من حديث جابر وغير , وعليه يكون المحفوظ أنه صلى بمكة قبل التوجه إلى منى
عشرين صلاة فقط أولها ظهر اليوم الرابع وآخرها فجر اليوم الرابع فقد اختلف فيه هل
صلاه بمكة أو في الطريق . والله أعلم
(2/565)
5 - باب يَقْصُرُ
إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ
وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَم فَقَصَرَ وَهُوَ يَرَى
الْبُيُوتَ فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ هَذِهِ الْكُوفَةُ قَالَ لاَ حَتَّى
نَدْخُلَهَا
1089- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ
وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ "
[الحديث 1089- أطرافه في:.1546، 1547، 1548، 1551، 1712، 1714، 1715، 2951، 2986]
1090- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ
الصَّلاَةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ
وَأُتِمَّتْ صَلاَةُ الْحَضَرِ قَالَ الزُّهْرِيُّ فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ مَا بَالُ
عَائِشَةَ تُتِمُّ قَالَ تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ
قوله: "باب يقصر إذا خرج من موضعه" يعني إذا قصد سفرا تقصر في مثله
الصلاة، وهي من المسائل المختلف فيها أيضا. قال ابن المنذر أجمعوا على أن لمن يريد
السفر أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت القرية التي يخرج منها، واختلفوا فيما قبل
الخروج عن البيوت: فذهب الجمهور إلى أنه لا بد من مفارقة جميع البيوت. وذهب بعض
الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين ولو كان في منزله. ومنهم من قال: إذا
ركب قصر إن شاء، ورجح ابن المنذر الأول بأنهم اتفقوا على أنه يقصر إذا فارق
البيوت، واختلفوا فيما قبل ذلك، فعليه الإتمام على أصل ما كان عليه حتى يثبت أن له
القصر، قال: ولا أعلم النبي صلى الله عليه وسلم قصر في شيء من أسفاره إلا بعد
خروجه عن المدينة. قوله: "وخرج علي فقصر وهو يرى البيوت، فلما رجع قيل له:
هذه الكوفة، قال لا، حتى ندخل" وصله الحاكم من رواية الثوري عن وقاء بن إياس
وهو بكسر الواو وبعدها قاف ثم مدة عن علي بن ربيعة قال: "خرجنا مع علي بن أبي
طالب فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت، ثم رجعنا فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت
" وأخرجه البيهقي
(2/569)
من طريق يزيد بن هارون عن وقاء بن إياس بلفظ: "خرجنا مع علي متوجهين هاهنا - وأشار بيده إلى الشام - فصلى ركعتين ركعتين، حتى إذا رجعنا ونظرنا إلى الكوفة حضرت الصلاة قالوا: يا أمير المؤمنين هذه الكوفة، أتم الصلاة. قال: لا، حتى ندخلها " وفهم ابن بطال من قوله في التعليق " لا، حتى ندخلها " أنه امتنع من الصلاة حتى يدخل الكوفة، قال لأنه لو صلى فقصر ساغ له ذلك، لكنه اختار أن يتم لاتساع الوقت ا ه. وقد تبين من سياق أثر على أن الأمر على خلاف ما فهمه ابن بطال، وأن المراد بقوله: "هذه الكوفة " أي فأتم الصلاة، فقال: "لا، حتى ندخلها " أي لا نزال نقصر حتى ندخلها، فإنا ما لم ندخلها في حكم المسافرين. "صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين" في رواية الكشميهني: "والعصر بذي الحليفة ركعتين " وهي ثابتة في رواية مسلم، وكذا في رواية أبي قلابة عن أنس عند المصنف في الحج، واستدل به على استباحة قصر الصلاة في السفر القصير لأن بين المدينة وذي الحليفة ستة أميال، وتعقب بأن ذا الحليفة لم تكن منتهى السفر وإنما خرج إليها حيث كان قاصدا إلى مكة فاتفق نزوله بها وكانت أول صلاة حضرت بها العصر فقصرها واستمر يقصر إلى أن رجع، ومناسبة أثر على الحديث أنس ثم لحديث عائشة أن حديث علي دال على أن القصر يشرع بفراق الحضر، وكونه صلى الله عليه وسلم لم يقصر حتى رأى ذا الحليفة إنما هو لكونه أول منزل نزله ولم يحضر قبله وقت صلاة، ويؤيده حديث عائشة ففيه تعليق الحكم بالسفر والحضر، فحيث وجد السفر شرع القصر، وحيث وجد الحضر شرع الإتمام. واستدل به على أن من أراد السفر لا يقصر حتى يبرز من البلد خلافا لمن قال من السلف يقصر ولو في بيته، وفيه حجة على مجاهد في قوله: لا يقصر حتى يدخل الليل. "الصلاة أول ما فرضت" في رواية الكشميهني: "الصلوات " بصيغة الجمع، وأول بالرفع على أنه بدل من الصلاة أو مبتدأ ثان، ويجوز النصب على أنه ظرف أي في أول. قوله: "ركعتين" في رواية كريمة: "ركعتين ركعتين". قوله: "فأقرت صلاة السفر" تقدم الكلام عليه في أول الصلاة، واستدل بقوله: "فرضت ركعتين " على أن صلاة المسافر لا تجوز إلا مقصورة، ورد بأنه معارض بقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} ولأنه دال على أن الأصل الإتمام، ومنهم من حمل قول عائشة " فرضت " أي قدرت. وقال الطبري: معناه أن المسافر إذا اختار القصر فهو فرضه، ومن أدل دليل على تعين تأويل حديث عائشة هذا كونها كانت تتم في السفر، ولذلك أورده الزهري عن عروة. قوله: "وتأولت ما تأول عثمان" هذا فيه رد على من زعم أن عثمان إنما أتم لكونه تأهل بمكة، أو لأنه أمير المؤمنين وكل موضع له دار، أو لأنه عزم على الإقامة بمكة، أو لأنه استجد له أرضا بمنى، أو لأنه كان يسبق الناس إلى مكة، لأن جميع ذلك منتف في حق عائشة وأكثره لا دليل عليه بل هي ظنون ممن قالها، ويرد الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر بزوجاته وقصر، والثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك، والثالث أن الإقامة بمكة على المهاجرين حرام كما سيأتي تقريره في الكلام حديث على حديث العلاء بن الحضرمي في كتاب المغازي، والرابع والخامس لم ينقلا فلا يكفي التخرص في ذلك، والأول وإن كان نقل وأخرجه أحمد والبيهقي من حديث عثمان وأنه لما صلى بمنى أربع ركعات أنكر الناس عليه فقال: إني تأهلت بمكة لما قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تأهل ببلدة فإنه يصلي صلاة مقيم " فهذا الحدث لا يصح لأنه منقطع، وفي رواته من لا يحتج به، ويرده قول عروة: إن عائشة تأولت ما تأول عثمان، ولا جائز أن تتأهل عائشة أصلا. فدل على وهن ذلك الخبر. ثم ظهر لي أنه يمكن أن يكون مراد
(2/570)
عروة بقوله: "كما تأول عثمان " التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل لا اتحاد تأويلهما، ويقويه أن الأسباب اختلفت في تأويل عثمان فتكاثرت، بخلاف تأويل عائشة. وقد أخرج ابن جرير في تفسير سورة النساء " إن عائشة كانت تصلي في السفر أربعا، فإذا احتجوا عليها تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حرب وكان يخاف، فهل تخافون أنتم "؟ وقد قيل في تأويل عائشة إنما أتمت في سفرها إلى البصرة إلى قتال علي والقصر عندها إنما يكون في سفر طاعة، وهذان القولان باطلان لا سيما الثاني، ولعل قول عائشة هذا هو السبب في حديث حارثة بن وهب الماضي قبل ببابين والمنقول أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا، وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم، والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجا صلى بنا الظهر ركعتين بمكة، ثم انصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا: لقد عبت أمر ابن عمك لأنه كان قد أتم الصلاة. قال: وكان عثمان حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعا أربعا، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة. وقال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدة ا هـ . وهذا رجحه جماعة من آخرهم القرطبي، لكن الوجه الذي قبله أولى لتصريح الراوي بالسبب، وأما ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن عثمان إنما أتم الصلاة لأنه نوى الإقامة بعد الحج فهو مرسل، وفيه نظر لأن الإقامة بمكة على المهاجرين حرام كما سيأتي في الكلام على حديث العلاء بن الحضرمي في المغازي، وصح عن عثمان أنه كان لا يودع النساء إلا على ظهر راحلته، ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته.وثبت عن عثمان أنه قال لما حاصروه - وقال له المغيرة: اركب رواحلك إلى مكة - قال: لن أفارق دار هجرتي. ومع هذا النظر في رواية معمر عن الزهري فقد روى أيوب عن الزهري ما يخالفه، فروى الطحاوي وغيره من هذا الوجه عن الزهري قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعا لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع، وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى ثم خطب فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولكنه حدث طغام - يعني بفتح الطاء والمعجمة - فخفت أن يستنوا. وعن ابن جريح أن أعرابيا ناداه في منى: يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين. وهذه طرق يقوي بعضها بعضا، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارض للوجه الذي اخترته بل يقويه من حيث أن حالة الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلقة عليها بخلاف السائر، وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان. وأما عائشة فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحا، وهو فيما أخرجه البيهقي من طريق هشام بن عروة عن أبيه " أنها كانت تصلى في السفر أربعا، فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي " إسناده صحيح، وهو دال على أنها تأولت أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل. ويدل على اختيار الجمهور ما رواه أبو يعلى والطبراني بإسناد جيد عن أبي هريرة أنه سافر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكلم كان يصلي ركعتين من حين يخرج من المدينة إلى مكة حتى يرجع إلى المدينة في السير وفي المقام بمكة. قال الكرماني ما ملخصه: تمسك الحنفية بحديث عائشة في أن الفرض في السفر أن يصلي الرباعية ركعتين، وتعقب بأنه لو كان على ظاهره لما أتمت عائشة، وعندهم العبرة بما رأى الراوي إذا عارض ما روى. ثم
(2/571)
ظاهر الحديث مخالف لظاهر القرآن لأنه يدل على أنها فرضت في الأصل ركعتين واستمرت في السفر، وظاهر القرآن أنها كانت أربعا فنقصت ثم إن قولها " الصلاة " تعم الخمس، وهو مخصوص بخروج المغرب مطلقا والصبح بعدم الزيادة فيها في الحضر قال: والعام إذا خص ضعفت دلالته حتى اختلف في بقاء الاحتجاج به.
(2/572)
6 - باب يُصَلِّي
الْمَغْرِبَ ثَلاَثًا فِي السَّفَرِ
1091- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ قَالَ سَالِمٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَفْعَلُهُ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ
[الحديث1091- أطرافه في: 3000.1805.1673.1668.1109.1106.1092]
1092- وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ
سَالِمٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ قَالَ سَالِمٌ" وَأَخَّرَ ابْنُ عُمَرَ
الْمَغْرِبَ وَكَانَ اسْتُصْرِخَ عَلَى امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي
عُبَيْدٍ فَقُلْتُ لَهُ الصَّلاَةَ فَقَالَ سِرْ فَقُلْتُ الصَّلاَةَ فَقَالَ سِرْ
حَتَّى سَارَ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ قَالَ هَكَذَا
رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِذَا أَعْجَلَهُ
السَّيْرُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ فَيُصَلِّيهَا
ثَلاَثًا ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ الْعِشَاءَ
فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَلاَ يُسَبِّحُ بَعْدَ الْعِشَاءِ
حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ "
قوله: "باب يصلي المغرب ثلاثا في السفر" أي ولا يدخل القصر فيها، ونقل
ابن المنذر وغيره فيه الإجماع وأراد المصنف أن الأحاديث المطلقة في قول الراوي
" كان يصلي في السفر ركعتين " محمولة على المقيدة بأن المغرب بخلاف ذلك،
وروى أحمد من طريق ثمامة بن شرحبيل قال: "خرجت إلى ابن عمر فقلت: ما صلاة
المسافر؟ قال ركعتين ركعتين، إلا صلاة المغرب ثلاثا". قوله: "إذا أعجله
السير في السفر" يخرج ما إذا أعجله السير في الحضر، كأن يكون خارج البلد في
بستان مثلا. قوله: "وزاد الليث حدثني يونس" وصله الإسماعيلي بطوله عن
القاسم بن زكريا عن ابن زنجويه عن إبراهيم بن هانئ عن الرمادي كلاهما عن أبي صالح
عن الليث به. قوله: "وأخر ابن عمر المغرب وكان استصرخ على صفية بنت أبي
عبيد" هي أخت المختار الثقفي، وقوله استصرخ بالضم أي استغيث بصوت مرتفع، وهو
من الصراخ بالخاء المعجمة، والمصرخ المغيث قال الله تعالى: {مَا أَنَا
بِمُصْرِخِكُمْ} . قوله: "فقلت له الصلاة" بالنصب على الإغراء. قوله:
"قلت له الصلاة" فيه ما كانوا عليه من مراعاة أوقات العبادة. وفي قوله: "سر
" جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. "تنبيه": ظاهر سياق المؤلف أن
جميع ما بعد قوله: "زاد الليث " ليس داخلا في رواية شعيب، وليس كذلك
فإنه أخرج رواية شعيب بعد ثمانية أبواب وفيها أكثر من ذلك، وإنما الزيادة في قصة
صفية وصنيع ابن عمر خاصة، وفي التصريح بقوله: "قال عبد الله رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقط. قوله: "حتى سار ميلين أو ثلاثة" أخرجه المصنف
في " باب السرعة في السير " من كتاب الجهاد من
(2/572)
رواية أسلم مولى عمر قال: "كنت مع عبد الله بن عمر بطريق مكة فبلغه عن صفية بنت أبي عبيد شدة وجع، فأسرع السير حتى إذا كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعتمة جمع بينهما " فأفادت هذه الرواية تعيين السفر المذكور ووقت انتهاء السير والتصريح بالجمع بين الصلاتين، وأفاد النسائي في رواية أنها كتبت إليه تعلمه بذلك، ولمسلم نحوه من رواية نافع عن ابن عمر. وفي رواية لأبي داود من هذا الوجه " فسار حتى غاب الشفق وتصوبت النجوم نزل فصلى الصلاتين جميعا " وللنسائي من هذا الوجه " حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلى المغرب ثم أقام العشاء وقد توارى الشفق فصلى بنا " فهذا محمول على أنها قصة أخرى، ويدل عليه أن في أوله " خرجت مع ابن عمر في سفر يريد أرضا له " وفي الأول أن ذلك كان بعد رجوعه من مكة، فدل على التعدد. قوله: "وقال عبد الله" أي ابن عمر "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير" يؤخذ منه تقييد جواز التأخير بمن كان على ظهر سير، وسيأتي الكلام عليه بعد ستة أبواب قوله: "يقيم المغرب" كذا للحموي والأكثر بالقاف، وهي موافقة للرواية الآتية، وللمستملى والكشميهني: "يعتم " بعين مهملة ساكنة بعدها مثناة فوقانية مكسورة أي يدل في العتمة، ولكريمة: "يؤخر"، وفي الباب عن عمران بن حصين قال: "ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صلى ركعتين، إلا المغرب صححه الترمذي، وعن علي " صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة السفر ركعتين إلا المغرب ثلاثا " أخرجه البزار، وفيه أيضا عن خزيمة بن ثابت وجابر وغيرهما وعن عائشة كما تقدم في أول الصلاة.
(2/573)
باب صلاة التطوع
على الدواب وحيثما نوجهت به
...
7 - باب صَلاَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّابَّةِ وَحَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ
1093- حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا عبد الأعلى قال حدثنا معمر عن الزهري عن
عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال ثم رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على
راحلته حيث توجهت به
[الحديث 1093- طرفاه في: 1104،1097]
1094- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ
وَهُوَ رَاكِبٌ فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ "
1095- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا وَيُخْبِرُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ "
قوله: "باب صلاة التطوع من الدابة" في رواية كريمة وأبي الوقت "
على الدواب " بصيغة الجمع، قال ابن رشيد: أورد فيه الصلاة على الراحلة فيمكن
أن يكون ترجم بأعم ليلحق الحكم بالقياس، ويمكن أن يستفاد ذلك من إطلاق حديث جابر
المذكور في الباب ا هـ. وقد تقدم في أبواب الوتر قول الزين ابن المنير: إنه ترجم
بالدابة تنبيها على أن فرق بينها وبين البعير في الحكم إلى آخر كلامه، وأشرنا هناك
إلى ما ورد هنا بعد باب بلفظ: "الدابة". قوله: "حدثنا عبد
الأعلى" هو ابن عبد الأعلى. قوله: "عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن
أبيه" هو العنزي بفتح المهملة والنون بعدها زاي حليف آل الخطاب، كان من
المهاجربن الأولين، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الجنائز وآخر علقه
في الصيام. وفي رواية عقيل عن ابن شهاب الآتية بعد باب أن عامر بن ربيعة أخبره.
قوله: "يصلي على راحلته" بين في رواية عقيل أن ذلك في غير المكتوبة،
وسيأتي بعد باب، وكذا
(2/573)
لمسلم من رواية يونس عن ابن شهاب بلفظ: "السبحة". قوله: "حيث توجهت به" هو أعم من قول جابر " في غير القبلة " قال ابن التين: قوله: "حيث توجهت به " مفهومه أنه يجلس عليها على هيئته التي يركبها عليها ويستقبل بوجهه ما استقبلته الراحلة، فتقديره يصلي على راحلته التي له حيث توجهت به، فعلى هذا يتعلق قوله: "توجهت به " بقوله: "يصلي"، ويحتمل أن يتعلق بقوله: "على راحلته"، لكن يؤيد الأول الرواية الآتية يعني رواية عقيل عن ابن شهاب بلفظ: "وهو على الراحلة يسبح قبل أي وجه توجهت". قوله: "حدثنا شيبان" هو النحوي، ويحيى هو ابن أبي كثير، ومحمد بن عبد الرحمن هو ابن ثوبان كما سنبينه بعد باب. قوله: "وهو راكب" في الرواية الآتية " على راحلته نحو المشرق " وزاد: "وإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة". وبين في المغازي من طريق عثمان بن عبد الله بن سراقة عن جابر أن ذلك كان في غزوة أنمار، وكان أرضهم قبل المشرق لمن يخرج من المدينة، فتكون القبلة على يسار القاصد إليهم. وزاد الترمذي من طريق أبي الزبير عن جابر بلفظ: "فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق السجود أخفض من الركوع". قوله: "كان ابن عمر يصلي على راحلته" يعني في السفر، وصرح به في حديث الباب الذي بعده. قوله: "ويوتر عليها" لا يعارض ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير " أن ابن عمر كان يصلي على الراحلة تطوعا، فإذا أراد أن يوتر نزل فأوتر على الأرض " لأنه محمول على أنه فعل كلا من الأمرين، ويؤيد رواية الباب ما تقدم في أبواب الوتر أنه أنكر على سعيد بن يسار نزوله الأرض ليوتر، وإنما أنكر عليه - مع كونه كان يفعله - لأنه أراد أن يبين له أن النزول بحتم، ويحتمل أن يتنزل فعل ابن عمر على حالين: فحيث أوتر على الراحلة كان مجدا في السير، وحيث نزل فأوتر على الأرض كان بخلاف ذلك.
(2/574)
8 - باب الإِيمَاءِ
عَلَى الدَّابَّةِ
1096- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى
رَاحِلَتِهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ يُومِئُ وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ "
قوله: "باب الإيماء على الدابة" أي للركوع والسجود لمن لم يتمكن من ذلك،
وبهذا قال الجمهور، وروى أشهب عن مالك أن الذي يصلي على الدابة لا يسجد بل يومئ.
قوله: "حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا عبد العزيز" تقدم هذا الحديث في
أبواب الوتر " باب الوتر في السفر " عن موسى هذا عن جويرية بن أسماء،
فكأن لموسى فيه شيخين، فإن الراوي عن ابن عمر في ذلك مغاير لهذا، وزاد في رواية
جويرية " يومئ إيماء إلا الفرائض " قال ابن دقيق العيد: الحديث يدل على
الإيماء مطلقا في الركوع والسجود معا، والفقهاء قالوا: يكون الإيماء في السجود أخفض
من الركوع ليكون البدل على وفق الأصل، وليس في لفظ الحديث ما يثبته ولا ينفيه.
قلت: إلا أنه وقع في حديث جابر عند الترمذي كما تقدم.
(2/574)
9 - باب يَنْزِلُ
لِلْمَكْتُوبَةِ
1097- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ
عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ
(2/574)
10 - باب صَلاَةِ
التَّطَوُّعِ عَلَى الْحِمَارِ
1100- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَبَّانُ قَالَ
حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ اسْتَقْبَلْنَا
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ قَدِمَ مِنْ الشَّأْمِ فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ
فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَوَجْهُهُ مِنْ ذَا الْجَانِبِ يَعْنِي عَنْ
يَسَارِ الْقِبْلَةِ فَقُلْتُ رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَقَالَ
لَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَعَلَهُ لَمْ أَفْعَلْهُ
رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب صلاة التطوع على الحمار" قال ابن رشيد مقصوده أنه لا يشترط
في التطوع على الدابة أن تكون الدابة طاهرة الفضلات، بل الباب في المركوبات واحد
بشرط أن لا يماس النجاسة. وقال ابن دقيق العيد: يؤخذ من هذا الحديث طهارة عرق
الحمار، لأن ملابسته مع التحرز منه متعذر لا سيما إذا طال الزمان في ركوبه واحتمل
العرق. قوله: "حدثنا حبان" بفتح المهملة وبالموحدة هو ابن هلال. قوله:
"استقبلنا أنس بن مالك" بسكون اللام. قوله: "حين قدم من
الشام" كان أنس قد توجه إلى الشام يشكو من الحجاج، وقد ذكرت طرفا من ذلك في
أوائل كتاب الصلاة، ووقع في رواية مسلم: "حين قدم الشام " وغلطوه لأن
أنس بن سيرين إنما تلقاه لما رجع من الشام فخرج ابن سيرين من البصرة ليتلقاه،
ويمكن توجيهه بأن يكون المراد بقوله حين قدم الشام مجرد ذكر الوقت الذي وقع له فيه
ذلك كما تقول فعلت كذا لما حججت، قال النووي: رواية مسلم صحيحة ومعناه تلقيناه في
رجوعه حين قدم الشام. قوله: "فلقيناه بعين التمر" هو موضع بطريق العراق
مما يلي الشام وكانت به وقعة شهيرة في آخر خلافة أبي بكر بين خالد بن الوليد
والأعاجم، ووجد بها غلمانا من العرب كانوا رهنا تحت يد كسرى منهم جد الكلبي المفسر
وحمران مولى عثمان وسيرين مولى أنس. قوله: "رأيتك تصلي لغير القبلة" فيه
إشعار بأنه لم ينكر الصلاة على الحمار ولا غير ذلك من هيئة أنس في ذلك، وإنما أنكر
عدم استقبال القبلة فقط، وفي قول أنس " لولا أني رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم يفعله " يعني ترك استقبال القبلة للمتنفل على الدابة، وهل يؤخذ منه أن
النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمار؟ فيه احتمال، وقد نازع في ذلك الإسماعيلي
فقال: خبر أنس إنما هو في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم راكبا تطوعا لغير القبلة،
فإفراد الترجمة في الحمار من جهة السنة لا وجه له عندي ا هـ. وقد روى السراج من
طريق يحيى بن سعيد عن أنس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو
ذاهب إلى خيبر إسناده حسن، وله شاهد عند مسلم من طريق عمرو بن يحيى المازني عن
سعيد بن يسار عن ابن عمر " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو
متوجه إلى خيبر " فهذا يرجح الاحتمال الذي أشار إليه البخاري.
"فائدة": لم يبين في هذه الرواية كيفية صلاة أنس، وذكره في الموطأ عن
يحيى بن سعيد قال: "رأيت أنسا وهو يصلي على حمار وهو متوجه إلى غير القبلة
يركع ويسجد إيماء من غير أن يضع
(2/576)
جبهته على شيء". قوله: "ورواه إبراهيم بن طهمان عن حجاج" يعني ابن حجاج الباهلي، ولم يسق المصنف المتن ولا وقفنا عليه موصولا من طريق إبراهيم، نعم وقع عند السراج من طريق عمرو بن عامر عن الحجاج ابن الحجاج بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي على ناقته حيث توجهت به " فعلى هذا كأن أنسا قاس الصلاة على الراحلة بالصلاة على الحمار، وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما مضى أن من صلى على موضع فيه نجاسة لا يباشرها بشيء منه أن صلاته صحيحة، لأن الدابة لا تخلو من نجاسة ولو على منفذها وفيه الرجوع إلى أفعاله كالرجوع إلى أقواله من غير عرضة للاعتراض عليه. وفيه تلقى المسافر، وسؤال التلميذ شيخه عن مستند فعله والجواب بالدليل، وفيه التلطف في السؤال، والعمل بالإشارة لقوله: "من ذا الجانب".
(2/577)
11 - باب مَنْ لَمْ
يَتَطَوَّعْ فِي السَّفَرِ دُبُرَ الصَّلاَةِ وَقَبْلَهَا
1101- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ حَدَّثَهُ قَالَ
سَافَرَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ صَحِبْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَرَهُ يُسَبِّحُ فِي السَّفَرِ وَقَالَ
اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ
حَسَنَةٌ} [الحديث1101طرفه في: 1102]
1102- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عِيسَى بْنِ حَفْصِ
بْنِ عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ
صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ لاَ يَزِيدُ
فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ "
قوله: "باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة" زاد الحموي في روايته:
"وقبلها " والأرجح رواية الأكثر لما سيأتي في الباب الذي بعده، وقد تقدم
شيء من مباحث هذا الباب في أبواب الوتر، والمقصود هنا بيان أن مطلق قول ابن عمر
" صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يسبح في السفر " أي يتنفل
الرواتب التي قبل الفريضة وبعدها، وذلك مستفاد من قوله في الرواية الثانية "
وكان لا يزيد في السفر على ركعتين " قال ابن دقيق العيد: وهذا اللفظ يحتمل أن
يريد أن لا يزيد في عدد ركعات الفرض فيكون كناية عن نفي الإتمام، والمراد به
الإخبار عن المداومة على القصر، ويحتمل أن يريد لا يزيد نفلا، ويمكن أن يريد ما هو
أعم من ذلك. قلت: ويدل على هذا الثاني رواية مسلم من الوجه الثاني الذي أخرجه
المصنف ولفظه: "صحبت ابن عمر في طريق مكة فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل
وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة فرأى ناسا قياما فقال: ما
يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبحا لأتممت " فذكر المرفوع كما ساقه
المصنف قال النووي: أجابوا عن قول ابن عمر هذا بأن الفريضة محتمة، فلو شرعت تامة
لتحتم إتمامها، وأما النافلة فهي إلى خيرة المصلي، فطريق الرفق به أن تكون مشروعة
ويخير فيها ا هـ. وتعقب بأن مراد ابن عمر بقوله: "لو كنت مسبحا لأتممت "
يعني أنه لو كان مخيرا بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه، لكنه فهم
من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلي الراتبة ولا يتم. قوله: "حدثني عمر بن
محمد" هو ابن زيد بن عبد الله بن عمر، وحفص هو ابن عاصم أي ابن عمر ابن
الخطاب،
(2/577)
ويحيى شيخ مسدد هو القطان. قوله: "وأبا بكر" معطوف على قوله: "صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "وعمر وعثمان" أي أنه "كذلك" صحبهم، وكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين، وفي ذكر عثمان إشكال لأنه كان في آخر أمره يتم الصلاة كما تقدم تقريبا، فيحمل على الغالب. أو المراد به أنه كان لا يتنفل في أول أمره ولا في آخره، وأنه إنما كان يتم إذا كان نازلا، وأما إذا كان سائرا فيقصر، فلذلك قيده في هذه الرواية بالسفر، وهذا أولى لما تقدم تقريره في الكلام على تأويل عثمان.
(2/578)
12 - باب مَنْ
تَطَوَّعَ فِي السَّفَرِ فِي غَيْرِ دُبُرِ الصَّلَوَاتِ وَقَبْلَهَا
وَرَكَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فِي
السَّفَرِ
1103- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ
مُرَّةَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ مَا أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ
هَانِئٍ ذَكَرَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهَا فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فَمَا
رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلاَةً أَخَفَّ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ
وَالسُّجُودَ "
[الحديث1103-طرفاه في:4292.1176]
1104- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ
رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى السُّبْحَةَ
بِاللَّيْلِ فِي السَّفَرِ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ
"
1105- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ "
قوله: "باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلاة" هذا مشعر بأن نفي
التطوع في السفر محمول على ما بعد الصلاة خاصة فلا يتناول ما قبلها ولا ما لا تعلق
له بها من النوافل المطلقة كالتهجد والوتر والضحى وغير ذلك، والفرق بين ما قبلها
وما بعدها أن التطوع قبلها لا يظن أنه منها لأنه ينفصل عنها بالإقامة وانتظار
الإمام غالبا ونحو ذلك، بخلاف ما بعدها فإنه في الغالب يتصل بها فقد يظن أنه
منها."فائدة" نقل النووي تبعا لغيره أن العلماء اختلفوا في التنفل في
السفر على ثلاثة أقوال: المنع مطلقا، والجواز مطلقا، والفرق بين الرواتب والمطلقة،
وهو مذهب ابن عمر كما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن مجاهد قال: "صحبت
ابن عمر من المدينة إلى مكة، وكان يصلي تطوعا على دابته حيثما توجهت به، فإذا كانت
الفريضة نزل فصلى".وأغفلوا قولا رابعا وهو الفرق بين الليل والنهار في
المطلقة، وخامسا وهو ما فرغنا من تقريره.قوله: "وركع النبي صلى الله عليه
وسلم في السفر ركعتي الفجر" قلت: ورد ذلك في حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة
النوم عن صلاة الصبح ففيه: "ثم صلى ركعتين قبل الصبح ثم صلى الصبح كما كان
يصلي " وله من حديث أبي هريرة في هذه القصة أيضا: "ثم دعا بماء فتوضأ ثم
صلى سجدتين - أي ركعتين - ثم أقيمت الصلاة فصلى صلاة الغداة " الحديث.ولابن
خزيمة والدار قطني من طريق سعيد بن المسيب عن بلال في هذه القصة
(2/578)
" فأمر بلالا فأذن، ثم توضأ فصلوا ركعتين، ثم صلوا الغداة " ونحوه للدار قطني من طريق الحسن عن عمران بن حصين، قال صاحب الهدى: لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها في السفر، إلا ما كان من سنة الفجر. قلت: ويرد على إطلاقه ما رواه أبو داود والترمذي من حديث البراء بن عازب قال: "سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفرا فلم أره ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر " وكأنه لم يثبت عنده، لكن الترمذي استغربه ونقل عن البخاري أنه رآه حسنا، وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر، والله أعلم. قوله: "ما أخبرنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى غير أم هانئ" هذا لا يدل على نفي الوقوع، لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى إنما نفى ذلك عن نفسه، وأما قول ابن بطال: لا حجة في قول ابن أبي ليلى، وترد عليه الأحاديث الواردة في أنه صلى الضحى وأمر بها، ثم ذكر منها جملة، فلا يرد على ابن أبي ليلى شيء منها، وسيأتي الكلام على صلاة الضحى في باب مفرد في أبواب التطوع، والمقصود هنا أنه صلى الله عليه وسلم صلاها يوم فتح مكة، وقد تقدم في حديث ابن عباس أنه كان حينئذ يقصر الصلاة المكتوبة، وكان حكمه حكم المسافر. قوله: "وقال الليث حدثني يونس" قد تقدم قبل ببابين موصولا من رواية الليث عن عقيل، ولكن لفظ الروايتين مختلف، ورواية يونس هذه وصلها الذهلي في الزهريات عن أبي صالح عنه. قوله: "يومئ برأسه" هو تفسير لقوله: "يسبح " أي يصلي إيماء، وقد تقدم في " باب الإيماء على الدابة " من وجه آخر عن ابن عمر، لكن هناك ذكره موقوفا ثم عقبه بالمرفوع، وهذا ذكر مرفوعا ثم عقبه بالموقوف، وفائدة ذلك مع أن الحجة قائمة بالمرفوع أن يبين أن العمل استمر على ذلك ولم يتطرق إليه نسخ ولا معارض ولا راجح، وقد اشتملت أحاديث الباب على أنواع ما يتطوع به سوى الراتبة التي بعد المكتوبة، فالأول لما قبل المكتوبة، والثاني لما له وقت مخصوص من النوافل كالضحى، والثالث لصلاة الليل، والرابع لمطلق النوافل. وقد جمع ابن بطال بين ما اختلف عن ابن عمر في ذلك بأنه كان يمنع التنفل على الأرض ويقول به على الدابة. وقال النووي تبعا لغيره: لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر، أو لعله تركها في بعض الأوقات لبيان الجواز ا هـ. وما جمعنا به تبعا للبخاري فيما يظهر أظهر، والله أعلم.
(2/579)
13 - باب الْجَمْعِ
فِي السَّفَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
1106- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ
سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إِذَا جَدَّ
بِهِ السَّيْرُ "
1107- وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ الْحُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ عَنْ يَحْيَى
بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ
صَلاَةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ وَيَجْمَعُ بَيْنَ
الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ "
1108- وَعَنْ حُسَيْنٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاَةِ
الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي السَّفَرِ "
(2/579)
وَتَابَعَهُ
عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ وَحَرْبٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ حَفْصٍ عَنْ أَنَسٍ جَمَعَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
[الحديث1108-طرفه في 1110]
قوله: "باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء" أورد فيه ثلاثة أحاديث:
حديث ابن عمر وهو مقيد بما إذا جد السير، وحديث ابن عباس وهو مقيد بما إذا كان
سائرا، وحديث أنس وهو مطلق. واستعمل المصنف الترجمة مطلقة إشارة إلى العمل بالمطلق
لأن المقيد فرد من أفراده، وكأنه رأى جواز الجمع بالسفر سواء كان سائرا أم لا،
وسواء كان سيره مجدا أم لا، وهذا مما وقع فيه الاختلاف بين أهل العلم، فقال
بالإطلاق كثير من الصحابة والتابعين ومن الفقهاء الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق
وأشهب. وقال قوم: لا يجوز الجمع مطلقا إلا بعرفة ومزدلفة وهو قول الحسن والنخعي
وأبي حنيفة وصاحبيه، ووقع عند النووي أن الصاحبين خالفه شيخهما، ورد عليه السروجي
في شرح الهداية وهو أعرف بمذهبه، وسيأتي الكلام على الجمع بعرفة في كتاب الحج إن
شاء الله تعالى. وأجابوا عما ورد من الأخبار في ذلك بأن الذي وقع جمع صوري، وهو
أنه أخر المغرب مثلا إلى آخر وقتها وعجل العشاء في أول وقتها. وتعقبه الخطابي
وغيره بأن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة
في وقتها، لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلا عن العامة.
ومن الدليل على أن الجمع رخصة