الجمعة، 6 مايو 2022

كتاب 22 و:23- فتح الباري المؤلف : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

   كتاب :22  فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
 =الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ" وَعَنْ الأَعْمَشِ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ فَإِنَّ الْبَرَاءَ يَقُولُ اهْتَزَّ السَّرِيرُ فَقَالَ إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ ضَغَائِنُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ"
3804-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أُنَاسًا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا إِلَى خَيْرِكُمْ أَوْ سَيِّدِكُمْ فَقَالَ يَا سَعْدُ إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ قَالَ فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ قَالَ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ أَوْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ"
قوله: "باب مناقب سعد بن معاذ" أي ابن النعمان بن امرئ القيس بن عبد الأشهل، وهو كبير الأوس، كما أن سعد بن عبادة كبير الخزرج، وإياهما أراد الشاعر بقوله:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف
قوله: "أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير" الذي أهداها له أكيدر دومة، كما بينه أنس في حديثه المتقدم في كتاب الهبة.قوله: "رواه قتادة والزهري سمعا أنسا عن النبي صلى الله عليه وسلم" أما رواية قتادة فوصلها المؤلف في الهبة، وأما رواية الزهري فوصلها في اللباس، ويأتي ما يتعلق بها هناك إن شاء الله تعالى.قوله: "حدثنا فضل بن مساور "بضم الميم وتخفيف المهملة، هو بصري يكنى أبا المساور، وكان ختن أبي عوانة، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع.قوله: "ختن أبي عوانة" بفتح المعجمة والمثناة أي صهره زوج ابنته، والختن يطلق على كل من كان من أقارب المرأة.قوله: "وعن الأعمش" هو معطوف على الإسناد الذي قبله، وهذا من شأن البخاري في حديث أبي سفيان طلحة بن نافع صاحب جابر لا يخرج له إلا مقرونا بغيره أو استشهادا.قوله: "فقال رجل لجابر" لم أقف على اسمه.قوله: "فإن البراء يقول: اهتز السرير" أي الذي حمل عليه.قوله: "إنه كان بين هذين الحيين" أي الأوس والخزرج. قوله: "ضغائن" بالضاد والغين المعجمتين جمع ضغينة وهي الحقد، قال الخطابي: إنما قال جابر ذلك لأن سعدا كان من الأوس والبراء خزرجي والخزرج لا تقر للأوس بفضل، كذا قال وهو خطأ فاحش، فإن البراء أيضا أوسي لأنه ابن عازب بن الحارث بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، يجتمع مع سعد بن معاذ في الحارث بن الخزرج، والخزرج والد الحارث بن الخزرج، وليس هو الخزرج الذي يقابل الأوس وإنما هي على اسمه.نعم الذي من الخزرج الذين هم مقابلو الأوس جابر؛ وإنما قال جابر ذلك إظهارا للحق واعترافا بالفضل لأهله، فكأنه تعجب من البراء كيف قال ذلك مع أنه أوسي، ثم قال: أنا وإن كنت خزرجيا وكان بين الأوس والخزرج ما كان، لا يمنعني ذلك أن أقول الحق، فذكر الحديث.والعذر للبراء أنه لم يقصد تغطية فضل سعد بن معاذ، وإنما فهم ذلك فجزم به، هذا الذي يليق أن يظن به، وهو دال على عدم تعصبه.ولما جزم الخطابي بما تقدم احتاج هو ومن تبعه إلى الاعتذار عما صدر من جابر في حق البراء وقالوا في ذلك ما محصله: إن البراء معذور لأنه لم يقل ذلك على سبيل العداوة لسعد، وإنما فهم شيئا محتملا فحمل الحديث عليه، والعذر لجابر أنه ظن أن

(7/123)


البراء أراد الغض من سعد فساغ له أن ينتصر له، والله أعلم. وقد أنكر ابن عمر ما أنكره البراء فقال: إن العرش لا يهتز لأحد، ثم رجع عن ذلك وجزم بأنه اهتز له عرش الرحمن، أخرج ذلك ابن حبان من طريق مجاهد عنه، والراد باهتزاز العرش استبشاره وسروره بقدوم روحه، يقال لكل من فرح بقدوم قادم عليه اهتز له، ومنه اهتزت الأرض بالنبات إذا اخضرت وحسنت، ووقع ذلك من حديث ابن عمر عند الحاكم بلفظ: "اهتز العرش فرحا به" لكنه تأوله كما تأوله البراء بن عازب فقال: اهتز العرش فرحا بلقاء الله سعدا حتى تفسخت أعواده على عواتقنا، قال ابن عمر: يعني عرش سعد الذي حمل عليه، وهذا من رواية عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عمر، وفي حديث عطاء مقال لأنه ممن اختلط في آخر عمره، ويعارض روايته أيضا ما صححه الترمذي من حديث أنس قال: "لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة كانت تحمله " قال الحاكم: الأحاديث التي تصرح باهتزاز عرش الرحمن مخرجة في الصحيحين. وليس لمعارضها في الصحيح ذكر، انتهى. وقيل: المراد باهتزاز العرش اهتزاز حملة العرش، ويؤيده حديث: "إن جبريل قال: من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واستبشر به أهلها" أخرجه الحاكم، وقيل: هي علامة نصبها الله لموت من يموت من أوليائه ليشعر ملائكته بفضله. وقال الحربي: إذا عظموا الأمر نسبوه إلى عظيم كما يقولون قامت لموت فلان القيامة وأظلمت الدنيا ونحو ذلك، وفي هذه منقبة عظيمة لسعد، وأما تأويل البراء على أنه أراد بالعرش السرير الذي حمله عليه فلا يستلزم ذلك فضلا له لأنه يشركه في ذلك كل ميت، إلا أنه يريد اهتز حملة السرير فرحا بقدومه على ربه فيتجه. ووقع لمالك نحو ما وقع لابن عمر أولا، فذكر صاحب "العتبية" فيها أن مالكا سئل عن هذا الحديث فقال: أنهاك أن تقوله، وما يدعو المرء أن يتكلم بهذا وما يدري ما فيه من الغرور. قال أبو الوليد بن رشد في "شرح العتبية" إنما نهى مالك لئلا يسبق إلى وهم الجاهل أن العرش إذا تحرك يتحرك الله بحركته كما يقع للجالس منا على كرسيه، وليس العرش بموضع استقرار الله، تبارك الله وتنزه عن مشابهة خلقه. انتهى ملخصا. والذي يظهر أن مالكا ما نهى عنه لهذا، إذ لو خشي من هذا لما أسند في "الموطأ" حديث: "ينزل الله إلى سماء الدنيا" لأنه أصرح في الحركة من اهتزاز العرش، ومع ذلك فمعتقد سلف الأئمة وعلماء السنة من الخلف أن الله منزه عن الحركة والتحول والحلول ليس كمثله شيء، ويحتمل الفرق بأن حديث سعد ما ثبت عنده فأمر بالكف عن التحدث به بخلاف حديث النزول فإنه ثابت فرواه ووكل أمره إلى فهم أولي العلم الذين يسمعون في القرآن استوى على العرش، ونحو ذلك. وقد جاء حديث اهتزاز العرش لسعد بن معاذ عن عشرة من الصحابة أو أكثر وثبت في الصحيحين، فلا معنى لإنكاره. قوله: "أن أناسا نزلوا على حكم سعد" هم بنو قريظة، وسيأتي شرح ذلك في المغازي. وقوله في هذه الرواية: "فلما بلغ قريبا من المسجد" أي الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم أيام محاصرته لبني قريظة للصلاة فيه. وأخطأ من زعم أنه غلط من الراوي لظنه أنه أراد بالمسجد المسجد النبوي بالمدينة وقال إن الصواب ما وقع عند أبي داود من طريق شعبة أيضا بهذا الإسناد بلفظ: "فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم: "انتهى، وإذا حمل على ما قررته لم يكن بين اللفظين تناف وقد أخرجه مسلم كما أخرجه البخاري كذلك.

(7/124)


13 - باب مَنْقَبَةُ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
2805-حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلاَلٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(7/124)


أَنَّ رَجُلَيْنِ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَإِذَا نُورٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى تَفَرَّقَا فَتَفَرَّقَ النُّورُ مَعَهُمَا وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ "إِنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَرَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ" وَقَالَ حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ "كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب منقبة أسيد بن حضير وعباد بن بشر" هو أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري الأوسي الأشهلي، يكنى أبا يحيى وقيل: غير ذلك، ومات في سنة عشرين في خلافة عمر على الأصح. وعباد بن بشر هو ابن وقش كما سأبينه، وفي تاريخ البخاري ومسند أبي يعلى وصححه الحاكم من طريق ابن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أبيه عن عائشة قالت: "ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتد عليهم فضلا كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر". قوله: "أن رجلين" ظهر من رواية معمر أن أسيد بن حضير أحدهما، ومن رواية حماد أن الثاني عباد بن بشر ولذلك جزم به المؤلف في الترجمة وأشار إلى حديثهما، فأما رواية معمر فوصلها عبد الرزاق في مصنفه عنه، ومن طريقه الإسماعيلي بلفظ: "أن أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار تحدثا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ذهب من الليل ساعة في ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل منهما عصية، فأضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر فمشى كل منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله" وأما رواية حماد بن سلمة فوصلها أحمد والحاكم في "المستدرك" بلفظ: "أن أسيد بن حضير وعباد بن بشر كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء حندس، فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما فمشيا في ضوئها، فلما افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر". قوله: "عباد بن بشر" كذا للأكثر بكسر الموحدة وسكون المعجمة. وفي رواية أبي الحسن القابسي "بشير" بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية وهو غلط، وفي الصحابة عباد بن بشر بن قيظي، وعباد بن بشر بن نهيك، وعباد بن بشر بن وقش، وصاحب هذه القصة هو هذا الثالث، ووهم من زعم خلاف ذلك.

(7/125)


3 - باب مَنَاقِبُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3806-حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن عمرو عن أبراهيم عن مسروق عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "استقرئو القرآن من أربعة: من ابن مسعود, وسالم مولى أبي حذيفة وأبي, ومعاذ بن جبل"
قوله: "مناقب معاذ بن جبل" أي ابن عمرو بن أوس، من بني أسد بن شاردة بن يزيد بفتح المثناة الفوقانية ابن جشم بن الخزرج الخزرجي، يكنى أبا عبد الرحمن، شهد بدرا والعقبة، وكان أميرا للنبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، ورجع بعده إلى المدينة، ثم خرج إلى الشام مجاهدا فمات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة. ذكر فيه حديث عبد الله بن عمرو"استقرئوا القرآن" وقد تقدم شرحه قريبا، وقد أخرج ابن حبان والترمذي من حديث أبي هريرة رفعه: "نعم الرجل معاذ بن جبل" كان عقبيا بدريا من فقهاء الصحابة، وقد أخرج الترمذي وابن ماجه عن أنس رفعه:

(7/125)


"أرحم أمتي أبو بكر - وفيه - وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ" ورجاله ثقات، وصح عن عمر أنه قال: "من أراد الفقه فليأت معاذا"، وسيأتي له ذكر في تفسير سورة النحل، وعاش معاذ ثلاثا وثلاثين سنة على الصحيح.

(7/126)


15 - باب مَنْقَبَةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا
3807- حدثنا إسحاق حدثنا عبد الصمد حدثنا شعبة حدثنا قتادة قال سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال أبو أسيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير دور الأنصار بنو النجار, ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحارث بن الخزرج, ثم بنو ساعدة, وفي كل دور الأنصار خير" . فقال سعد بن عبادة- وكان ذا قدم في الإسلام -:أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فضل علينا. فقيل له: قد فضلكم على ناس كثير"
قوله: "منقبة سعد بن عبادة" أي ابن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة يكنى أبا ثابت، وهو والد قيس بن سعد أحد مشاهير الصحابة، وكان سعد كبير الخزرج وأحد المشهورين بالجود، ومات بحوران من أرض الشام سنة أربع عشرة أو خمس عشرة في خلافة عمر. ثم ذكر فيه حديث أبي أسيد في دور الأنصار وقد تقدم قريبا، وأورده هنا لقوله في هذه الطريق" وكان ذا قدم في الإسلام".قوله: "وقالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلا صالحا" هذا طرف من حديث الإفك الطويل، وسيأتي بتمامه في تفسير سورة النور إن شاء الله تعالى، وذكرت عائشة فيه ما دار بين سعد بن عبادة وأسيد بن حضير حيث قال: "وإن كان من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك، فقال له سعد بن عبادة: لا تستطيع قتله" فثار بينهم الكلام إلى أن أسكتهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأشارت عائشة إلى أن سعد بن عبادة كان قبل أن يقول تلك المقالة رجلا صالحا، ولا يلزم من ذلك أن يكون خرج عن هذه الصفة إذ ليس في الخبر تعرض لما بعد تلك المقالة، والظاهر استمرار ثبوت تلك الصفة له لأنه معذور في تلك المقالة لأنه كان فيها متأولا، فلذلك أوردها المصنف في مناقبه، ولم يبد منه ما يعاب به قبل هذه المقالة، وعذر سعد فيها ظاهر، لأنه تخيل أن الأوسي أراد الغض من قبيلة الخزرج لما كان بين الطائفتين فرد عليه، ثم لم يقع من سعد بعد ذلك شيء يعاب به إلا أنه امتنع من بيعة أبي بكر فيما يقال وتوجه إلى الشام فمات بها، والعذر له في ذلك أنه تأول أن للأنصار في الخلافة استحقاقا فبنى على ذلك، وهو معذور وإن كان ما اعتقده من ذلك خطأ.

(7/126)


16 - باب مَنَاقِبُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3808- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن إبراهيمعن مسروق قال "ذكر عبد الله بن مسعود عند عبد الله بن عمرو فقال: ذاك رجل لاأزال أحبه, سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خذو القرآن من أربعة,من عبد الله بن مسعود –فبدأ به- وسالم مولى أبي حذيفة,ومعاذ بن جبل, وأبي بن كعب" .

(7/126)


17- باب مَنَاقِبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3810- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنْ الأَنْصَارِ أُبَيٌّ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَبُو زَيْدٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قُلْتُ لِأَنَسٍ مَنْ أَبُو زَيْدٍ قَالَ أَحَدُ عُمُومَتِي"
[الحديث 3810- أطرافه في 5004,5003,3996]
قوله: "باب مناقب زيد بن ثابت" أي ابن الضحاك بن زيد بن لوذان، من بني مالك بن النجار، كاتب الوحي وأحد فقهاء الصحابة.مات سنة خمس وأربعين.قوله: "جمع القرآن" أي استظهره حفظا. قوله: "وأبو زيد. ثم قال أنس: هو أحد عمومتي" ذكر علي بن المديني أن اسمه أوس، وعن يحيى بن معين هو ثابت بن زيد، وقيل

(7/127)


هو سعد بن عبيد بن النعمان وبذلك جزم الطبراني عن شيخه أبي بكر بن صدقة قال: وهو الذي كان يقال له القارئ وكان على القادسية واستشهد بها، وهو والد عمير بن سعد. وعن الواقدي: هو قيس بن السكن بن قيس بن زعور بن حرام الأنصاري النجاري، ويرجحه قول أنس" أحد عمومتي" فإنه من قبيلة بني حرام، وليس في هذا ما يعارض حديث عبد الله بن عمرو "استقرئوا القرآن من أربعة" فذكر اثنين من الأربعة ولم يذكر اثنين، لأنه إما أن يقال لا يلزم من الأمر بأخذ القراءة عنهم أن يكونوا كلهم استظهروه جميعه، وإما أن لا يؤخذ بمفهوم حديث أنس لأنه لا يلزم من قوله: "جمعه أربعة" أن لا يكون جمعه غيرهم، فلعله أراد أنه لم يقع جمعه لأربعة من قبيلة واحدة إلا لهذه القبيلة وهي الأنصار، وسيأتي الكلام على جمع القرآن في كتاب فضائل القرآن.

(7/128)


3 - باب مَنَاقِبُ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3811- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ بِهِ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ الْقِدِّ يَكْسِرُ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الْجَعْبَةُ مِنْ النَّبْلِ فَيَقُولُ انْشُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ فَأَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لاَ تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تُنْقِزَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلاَنِهَا ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ وَإِمَّا ثَلاَثًا
قوله: "باب مناقب أبي طلحة" هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري الخزرجي النجاري، هو زوج أم سليم والدة أنس، وقد تقدم بيان وفاته وتاريخها في الجهاد. قوله: "مجوب" بفتح الجيم وكسر الواو المشددة أي مترس عليه يقيه بها، ويقال للترس جوبة، والحجفة بمهملة ثم جيم مفتوحتين الترس. قوله: "شديد القد يكسر" كذا للأكثر بنصب"شديدا" وبعدها "لقد" بلام ثم قد، ولبعضهم بالإضافة "شديد القد" بسكون اللام وكسر القاف، والقد سير من جلد غير مدبوغ، ويريد أنه شديد وتر القوس، وبهذا جزم الخطابي وتبعه ابن التين، وقد روي بالميم المفتوحة بدل القاف. وسيأتي بقية ما يتعلق بهذا الحديث في المغازي إن شاء الله تعالى.

(7/128)


باب مناقب عبدالله بن سلام رضي الله عنه
...
19 - باب مَنَاقِبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3812- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكًا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلاَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ قَالَ وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} الْآيَةَ قَالَ لاَ أَدْرِي قَالَ مَالِكٌ الْآيَةَ أَوْ فِي الحديث".

(7/128)


20 - باب تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ وَفَضْلِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
3815- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"حَدَّثَنِي صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ" .
3816- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلاَئِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ".
[الحديث 3816- أطرافه في: 7484,6004,5229,3818,3817]
3817- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا قَالَتْ وَتَزَوَّجَنِي بَعْدَهَا بِثَلاَثِ سِنِينَ وَأَمَرَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ"
3818- حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَنٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلاَّ خَدِيجَةُ فَيَقُولُ إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ "
3819- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَشَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ "قَالَ نَعَمْ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ"
3820- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ

(7/133)


عَنْهُ قَالَ "أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ"
[الحديث 3820- طرفه في 7497]
3821- وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاعَ لِذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَالَةَ قَالَتْ فَغِرْتُ فَقُلْتُ مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا"
قوله: "باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها" كذا في النسخ" تزويج" وتفعيل قد يجيء بمعنى تفعل وهو المراد هنا، أو فيه حذف تقديره تزويجه من نفسه. قوله: "خديجة" هي أول من تزوجها صلى الله عليه وسلم، وهي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي، وهي من أقرب نسائه إليه في النسب؛ ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة، وتزوجها سنة خمس وعشرين من مولده في قول الجمهور، زوجه إياها أبوها خويلد ذكره البيهقي من حديث الزهري بإسناده عن عمار بن ياسر، وقيل: عمها عمرو بن أسد ذكره الكلبي، وقيل: أخوها عمرو بن خويلد ذكره ابن إسحاق، وكانت قبله عند أبي هالة بن النباش بن زرارة التميمي حليف بني عبد الدار، واختلف في اسم هالة فقيل مالك قاله الزبير، وقيل: زرارة حكاه ابن منده، وقيل: هند جزم به العسكري، وقيل: اسمه النباش جزم به أبو عبيد، وابنه هند روى عنه الحسن بن علي فقال: "حدثني خالي" لأنه أخو فاطمة لأمها، ولهند هذا ولد اسمه هند ذكره الدولابي وغيره، فعلى قول العسكري فهو ممن اشترك مع أبيه وجده في الاسم، ومات أبو هالة في الجاهلية، وكانت خديجة قبله عند عتيق بن عائذ المخزومي. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة قد سافر في مالها مقارضا إلى الشام، فرأى منه ميسرة غلامها ما رغبها في تزوجه، قال الزبير: وكانت خديجة تدعى في الجاهلية الطاهرة، وماتت على الصحيح بعد المبعث بعشر سنين في شهر رمضان، وقيل: بثمان، وقيل: بسبع، فأقامت معه صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة على الصحيح. وقال ابن عبد البر أربعا وعشرين سنة وأربعة أشهر، وسيأتي من حديث عائشة ما يؤيد الصحيح في أن موتها قبل الهجرة بثلاث سنين، وذلك بعد المبعث على الصواب بعشر سنين، وقد تقدم في أبواب بدء الوحي بيان تصديقها للنبي صلى الله عليه وسلم في أول وهلة، ومن ثباتها في الأمر ما يدل على قوة يقينها ووفور عقلها وصحة عزمها، لا جرم كانت أفضل نسائه على الراجح، وقد تقدم في ذكر مريم من أحاديث الأنبياء بيان شيء من هذا. وروى الفاكهي في "كتاب مكة" عن أنس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب، فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة فأذن له، وبعث بعده جارية له يقال لها نبعة فقال لها: انظري ما تقول له خديجة؟ قالت نبعة: فرأيت عجبا، ما هو إلا أن سمعت به خديجة فخرجت إلى الباب فأخذت بيدها فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت: بأبي وأمي، والله ما أفعل هذا لشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستبعث، فإن

(7/134)


تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الذي يبعثك لي. قالت: فقال لها: والله لئن كنت أنا هو قد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا " ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث لا تصريح فيها بما في الترجمة، إلا أن ذلك يؤخذ بطريق اللزوم من قول عائشة" ما غرت على امرأة" من قوله صلى الله عليه وسلم: "وكان لي منها ولد" وغير ذلك. قوله: "حدثني محمد" هو ابن سلام كما جزم به ابن السكن، وعبدة هو ابن سليمان. قوله: "سمعت عبد الله بن جعفر" هو ابن أبي طالب، ووقع عند عبد الرزاق عن ابن جريج" عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن جعفر" وهو من المزيد في متصل الأسانيد لتصريح عبدة في هذه الرواية بسماع عروة عن عبد الله بن جعفر: "سمعت علي بن أبي طالب" زاد مسلم من رواية أبي أسامة عن هشام" بالكوفة" واتفق أصحاب هشام على ذكر علي فيه"، وقصر به محمد بن إسحاق فرواه عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم لكن بلفظ مغاير لهذا اللفظ، فالظاهر أنهما حديثان، وفي الإسناد رواية تابعي عن تابعي هشام عن أبيه وصحابي عن صحابي عبد الله بن جعفر عن عمه. قوله: "خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة" قال القرطبي: الضمير عائد على غير مذكور، لكنه يفسره الحال والمشاهدة، يعني به الدنيا. وقال الطيبي: الضمير الأول يعود على الأمة التي كانت فيها مريم والثاني على هذه الأمة. قال ولهذا كرر الكلام تنبيها على أن حكم كل واحدة منها غير حكم الأخرى. قلت: ووقع عند مسلم من رواية وكيع عن هشام في هذا الحديث: "وأشار وكيع إلى السماء والأرض" فكأنه أراد أن يبين أن المراد نساء الدنيا، وأن الضميرين يرجعان إلى الدنيا. وبهذا جزم القرطبي أيضا. وقال الطيبي: أراد أنهما خير من تحت السماء وفوق الأرض من النساء، قال: ولا يستقيم أن يكون تفسيرا لقوله نسائها لأن هذا الضمير لا يصلح أن يعود إلى السماء. كذا قال. ويحتمل أن يريد أن الضمير الأول يرجع إلى السماء والثاني إلى الأرض إن ثبت أن ذلك صدر في حياة خديجة وتكون النكتة في ذلك أن مريم ماتت فعرج بروحها إلى السماء، فلما ذكرها أشار إلى السماء، وكانت خديجة إذ ذاك في الحياة فكانت في الأرض فلما ذكرها أشار إلى الأرض، وعلى تقدير أن يكون بعد موت خديجة فالمراد أنهما خير من صعد بروحهن إلى السماء وخير من دفن جسدهن في الأرض، وتكون الإشارة عند ذكر كل واحدة منهما. والذي يظهر لي أن قوله: "خير نسائها" خبر مقدم والضمير لمريم فكأنه قال مريم خير نسائها أي نساء زمانها، وكذا في خديجة. وقد جزم كثير من الشراح أن المراد نساء زمانها لما تقدم في أحاديث الأنبياء في قصة موسى وذكر آسية من حديث أبي موسى رفعه: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية" فقد أثبت في هذا الحديث الكمال لآسية كما أثبته لمريم، فامتنع حمل الخيرية في حديث الباب على الإطلاق، وجاء ما يفسر المراد صريحا، فروى البزار والطبراني من حديث عمار بن ياسر رفعه: "لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين" وهو حديث حسن الإسناد، واستدل بهذا الحديث على أن خديجة أفضل من عائشة. قال ابن التين: ويحتمل أن لا تكون عائشة دخلت في ذلك لأنها كان لها عند موت خديجة ثلاث سنين، فلعل المراد النساء البوالغ. كذا قال، وهو ضعيف، فإن المراد بلفظ النساء أعم من البوالغ، ومن لم تبلغ أعم ممن كان موجودة وممن ستوجد. وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية" وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل، قال القرطبي:

(7/135)


لم يثبت في حق واحدة من الأربع أنها نبية إلا مريم. وقد أورد ابن عبد البر من وجه آخر عن ابن عباس رفعه: "سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية" قال: وهذا حديث حسن يرفع الإشكال، قال: ومن قال إن مريم ليست بنبية أول هذا الحديث وغيره بأن" من" وإن لم تذكر في الخبر فهي مرادة. قلت الحديث الثاني الدال على الترتيب ليس بثابت، وأصله عند أبي داود والحاكم بغير صيغة ترتيب، وقد يتمسك بحديث الباب من يقول إن مريم ليست بنبية لتسويتها في حديث الباب بخديجة، وليست خديجة بنبية بالاتفاق. والجواب أنه لا يلزم من التسوية في الخيرية التسوية في جميع الصفات، وقد تقدم ما قيل في مريم في ترجمتها من أحاديث الأنبياء والله أعلم. قوله: "حدثنا الليث قال: كتب إلى هشام بن عروة" وقع عند الإسماعيلي من وجه آخر عن الليث" حدثني هشام بن عروة" فلعل الليث لقي هشام بعد أن كتب به إليه فحدثه به، أو كان من مذهبه إطلاق" حدثنا" في الكتابة، وقد نقل الخطيب ذلك عنه في علوم الحديث. قوله: "ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم" فيه ثبوت الغيرة وأنها غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء فضلا عمن دونهن، وأن عائشة كانت تغار من نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكن كانت تغار من خديجة أكثر، وقد بينت سبب ذلك وأنه لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إياها. ووقع في الرواية التي تلي هذه بأبين من هذا حيث قال فيها: "من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها" وأصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة. وقال القرطبي: مرادها بالذكر لها مدحها والثناء عليها. قلت: وقع عند النسائي من رواية النضر بن شميل عن هشام" من كثرة ذكره إياها وثنائه عليها" فعطف الثناء على الذكر من عطف الخاص على العام، وهو يقتضي حمل الحديث على أعم مما قاله القرطبي. قوله: "هلكت قبل أن يتزوجني" ذكر في الحديث الذي بعده قدر المدة، وسيأتي البحث فيه، وأشارت بذلك إلى أنها لو كانت موجودة في زمانها لكانت غيرتها منها أشد. قوله: "وأمره الله أن يبشرها إلخ" سيأتي شرحه بعد هذا، وهو أيضا من جملة أسباب الغيرة، لأن اختصاص خديجة بهذه البشرى مشعر بمزيد محبة من النبي صلى الله عليه وسلم فيها. ووقع عند الإسماعيلي من رواية الفضل بن موسى عن هشام بن عروة بلفظ: "ما حسدت امرأة قط ما حسدت خديجة حين بشرها النبي صلى الله عليه وسلم ببيت من قصب" قوله: "وإن كان ليذبح الشاة إلخ" إن مخففة من الثقيلة ويراد بها تأكيد الكلام، ولهذا أتت باللام في قولها" ليذبح". قوله: "في خلائلها" بالخاء المعجمة جمع خليلة أي صديقة، وهي أيضا من أسباب الغيرة لما فيه من الإشعار باستمرار حبه لها حتى كان يتعاهد صواحباتها.قوله: "منها" أي من الشاة. قوله: "ما يسعهن" أي ما يكفيهن كذا للأكثر.وفي رواية المستملي والحموي" ما يتسعهن" أي يتسع لهن. وفي رواية النسفي" يشبعهن" من الشبع بكسر المعجمة وفتح الموحدة وليس في روايته: "ما". قوله: "حدثنا حميد بن عبد الرحمن" هو الرؤاسي بضم الراء وعلى الواو همزة وبعد الألف مهملة. ثقة باتفاق، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الحدود. قوله: "وتزوجني بعدها بثلاث سنين" قال النووي: أرادت بذلك زمن دخولها عليه، وأما العقد فتقدم على ذلك بمدة سنة ونصف أو نحو ذلك، كذا قال، وسيأتي في "باب تزويج عائشة" ما يوضح أن المدة بين العقد عليها والدخول كان أكثر من ذلك. قوله: "وأمره ربه عز وجل أو جبريل" هو شك من الراوي، وسيأتي في حديث أبي هريرة في هذا الباب أن البشارة بذلك من الله كانت على لسان جبريل عليه السلام. قوله: "حدثني عمر بن محمد بن الحسن حدثنا أبي" هو الأسدي الذي يعرف بالتل بالمثناة وتشديد اللام، واسم والد الحسن الزبير، وعمر كوفي

(7/136)


ما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الزكاة، وهو من صغار شيوخه. وقد نزل البخاري في هذا الإسناد بالنسبة لحديث حفص بن غياث درجة، فإنه يروي الكثير عن ولده عمر بن حفص وغيره من أصحاب حفص، وهنا لم يصل لحفص إلا باثنين، وبالنسبة لرواية هشام بن عروة درجتين فإنه قد سمع من بعض أصحابه وأخرج هذا في الصحيح في كتاب العتق منه" حدثنا عبيد بن موسى عن هشام بن عروة من مسند أبي ذر"، والسبب في اختياره إيراد هذه الطريق النازلة ما اشتملت عليه من الزيادة على رواية غيره كما سأنبه عليه. قوله: "وما رأيتها" في رواية مسلم من هذا الوجه"ولم أدركها" ولم أر هذه اللفظة إلا في هذه الطريق، نعم أخرجها مسلم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة بلفظ: "وما رأيتها قط" ورؤية عائشة لخديجة كانت ممكنة، وأما إدراكها لها فلا نزاع فيه لأنه كان لها عند موتها ست سنين، كأنها أرادت بنفي الرؤية والإدراك النفي بقيد اجتماعهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، أي لم أرها وأنا عنده ولا أدركتها كذلك. وقد وقع في بعض طرقه عند أبي عوانة "ولقد هلكت قبل أن يتزوجني". قوله: "ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها" في رواية عبد الله البهي عن عائشة عند الطبراني "وكان إذا ذكر خديجة لم يسأم من ثناء عليها واستغفار لها". قوله: "فربما قلت إلخ" هذا كله زائد في هذه الرواية، فقد أخرج الحديث مسلم وأبو عوانة والإسماعيلي وأبو نعيم من طريق سهل بن عثمان والترمذي عن أبي هشام الرفاعي كلهم عن حفص بن غياث بدونها. قوله: "كأنه لم يكن" في رواية الكشميهني: "كأن لم" بحذف الهاء من كأنه. قوله: "إنها كانت وكانت" أي كانت فاضلة وكانت عاقلة ونحو ذلك، وعند أحمد من حديث مسروق عن عائشة "آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء". قوله: "وكان لي منها ولد" وكان جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة، إلا إبراهيم فإنه كان من جاريته مارية، والمتفق علبه من أولاده منها القاسم وبه كان يكنى، مات صغيرا قبل المبعث أو بعده، وبناته الأربع: زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة، وقيل: كانت أم كلثوم أصغر من فاطمة، وعبد الله ولد بعد المبعث فكان يقال له الطاهر والطيب، ويقال هما أخوان له، وماتت الذكور صغارا باتفاق، ووقع عند مسلم من طريق حفص بن غياث هذه في آخر الحديث: "قالت عائشة: فأغضبته يوما فقلت خديجة، فقال: إني رزقت حبها" قال القرطبي كان حبه صلى الله عليه وسلم لها لما تقدم ذكره من الأسباب، وهي كثيرة كل منها كان سببا في إيجاد المحبة. ومما كافأ النبي صلى الله عليه وسلم به خديجة في الدنيا أنه لم يتزوج في حياتها غيرها، فروى مسلم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت" وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار، وفيه دليل على عظم قدرها عنده وعلى مزيد فضلها لأنها أغنته عن غيرها واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين، لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاما انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاما وهي نحو الثلثين من المجموع، ومع طول المدة فصان قلبها فيها من الغيرة ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك، وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها. ومما اختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان، فسنت ذلك لكل من آمنت بعدها، فيكون لها مثل أجرهن، لما ثبت" أن من سن سنة حسنة" وقد شاركها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة إلى الرجال، ولا يعرف قدر ما لكل منهما من الثواب بسبب ذلك إلا الله عز وجل. وقال النووي: في هذه الأحاديث دلالة لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حيا وميتا، وإكرام معارف ذلك

(7/137)


الصاحب. الحديث الخامس قوله: "عن إسماعيل" هو ابن أبي خالد. قوله: "قلت لعبد الله بن أبي أوفى إلخ" هذا مما حمله التابعي عن الصحابي عرضا، وليس هذا من التلقين، لأن التلقين لا استفهام فيه وإنما يقول الطالب للشيخ قل حدثنا فلان بكذا فيحدث به من غير أن يكون عارفا به حديثه ولا بعدالة الطالب فلا يؤمن أن لا يكون ذلك الطالب ضابطا لذلك القدر فيدل على تساهل الشيخ، فلذلك عابوه على من فعله. قوله: "بشر النبي صلى الله عليه وسلم" هو استفهام محذوف الأداة. قوله: "قال نعم" في رواية مسلم: "بشر خديجة ببيت من قصب، قال نعم إلخ" ووقع في رواية جرير عن إسماعيل أنهم قالوا لعبد الله بن أبي أوفى" حدثنا ما قال لخديجة: قال: قال: بشروا خديجة" فذكر الحديث، هكذا تقدم في أبواب العمرة من البخاري. قوله: "من قصب" بفتح القاف والمهملة بعدها موحدة، قال ابن التين: المراد به لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف. قلت: عند الطبراني في"الأوسط" من طريق أخرى عن ابن أبي أوفى "يعني قصب اللؤلؤ"، وعنده في" الكبير" من حديث أبي هريرة"بيت من لؤلؤة مجوفة" وأصله في مسلم، وعنده في الأوسط" من حديث فاطمة قالت: قلت يا رسول الله أين أمي خديجة؟ قال: في بيت من قصب، قلت أمن هذا القصب؟ قال: لا من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت" قال السهيلي: النكتة في قوله: "من قصب" ولم يقل من لؤلؤ أن في لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها، ولذا وقعت هذه المناسبة في جميع هذا الحديث انتهى. وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه، وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها، إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن، ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها. وأما قوله: "ببيت" فقال أبو بكر الإسكاف في"فوائد الأخبار": المراد به بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها، ولهذا قال: "لا نصب فيه": أي لم تتعب بسببه. قال السهيلي: لذكر البيت معنى لطيف لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث ثم صارت ربة بيت في الإسلام منفردة به، فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بيت إسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضا غيرها. قال: وجزاء الفعل يذكر غالبا بلفظه وإن كان أشرف منه، فلهذا جاء في الحديث بلفظ البيت دون لفظ القصر انتهى. وفي ذكر البيت معنى آخر، لأن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها، لما ثبت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قالت أم سلمة"لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليا والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي" الحديث أخرجه الترمذي وغيره، ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة، لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها، وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها، فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها.
قوله: "لا صخب فيه ولا نصب" الصخب بفتح المهملة والمعجمة بعدها موحدة: الصياح والمنازعة برفع الصوت، والنصب بفتح النون والمهملة بعدها موحدة التعب. وأغرب الداودي فقال: الصخب العيب، والنصب العوج. وهو تفسير لا تساعد عليه اللغة. وقال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين - أعني المنازعة والتعب - أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعا فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها. قوله: "عن عمارة" هو ابن القعقاع. قوله: "عن أبي هريرة" في رواية مسلم عن ابن نمير عن ابن فضيل بهذا الإسناد" سمعت أبا هريرة". قوله: "أتى جبريل" في رواية سعيد بن كثير عند الطبراني

(7/138)


أن ذلك كان وهو بحراء. قوله: "هذه خديجة قد أتت" في رواية مسلم: "قد أتتك" ومعناه توجهت إليك، وأما قوله ثانيا،"فإذا هي أتتك" فمعناه وصلت إليك. قوله: "إناء فيه إدام أو طعام أو شراب" شك من الراوي، وكذا عند مسلم. وفي رواية الإسماعيلي: "فيه إدام أو طعام وشراب" وفي رواية سعيد بن كثير المذكور عند الطبراني أنه كان حيسا. قوله: "فاقرأ عليها السلام من ربها ومني" زاد الطبراني في الرواية المذكورة" فقالت: هو السلام ومنه والسلام وعلى جبريل السلام" وللنسائي من حديث أنس قال: "قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله يقرئ خديجة السلام" يعني فأخبرها" فقالت: إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته" زاد ابن السني من وجه آخر "وعلى من سمع السلام، إلا الشيطان"، قال العلماء في هذا القصة دليل على وفور فقهها، لأنها لم تقل "وعليه السلام" كما وقع لبعض الصحابة حيث كانوا يقولون في التشهد" السلام على الله فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن الله هو السلام، فقولوا التحيات لله" فعرفت خديجة لصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين، لأن السلام اسم من أسماء الله، وهو أيضا دعاء بالسلامة، وكلاها لا يصلح أن يرد به على الله فكأنها قالت: كيف أقول عليه السلام والسلام اسمه، ومنه يطلب، ومنه يحصل. فيستفاد منه أنه لا يليق بالله إلا الثناء عليه فجعلت مكان رد السلام عليه الثناء عليه، ثم غايرت بين ما يليق بالله وما يليق بغيره فقالت: "وعلى جبريل السلام" ثم قالت: "وعليك السلام" ويستفاد منه رد السلام على من أرسل السلام وعلى من بلغه. والذي يظهر أن جبريل كان حاضرا عند جوابها فردت عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بالتخصيص ومرة بالتعميم، ثم أخرجت الشيطان ممن سمع لأنه لا يستحق الدعاء بذلك. قيل: إنما بلغها جبريل عليه السلام من ربها بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم احتراما للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك وقع له لما سلم على عائشة لم يواجهها بالسلام بل راسلها مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقد واجه مريم بالخطاب، فقيل لأنها نبية، وقيل: لأنها لم يكن معها زوج يحترم معه مخاطبتها. قال السهيلي: استدل بهذه القصة أبو بكر بن داود على أن خديجة أفضل من عائشة لأن عائشة سلم عليها جبريل من قبل نفسه، وخديجة أبلغها السلام من ربها. وزعم ابن العربي أنه لا خلاف في أن خديجة أفضل من عائشة، ورد بأن الخلاف ثابت قديما وإن كان الراجح أفضلية خديجة بهذا وبما تقدم. قلت: ومن صريح ما جاء في تفضيل خديجة ما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث ابن عباس رفعه: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد" قال السبكي الكبير كما تقدم: لعائشة من الفضائل ما لا يحصى، ولكن الذي نختاره وندين الله به أن فاطمة أفضل ثم خديجة ثم عائشة. واستدل لفضل فاطمة بما تقدم في ترجمتها أنها سيدة نساء المؤمنين. قلت: وقال بعض من أدركناه: الذي يظهر أن الجمع بين الحديثين أولى، وأن لا نفضل إحداهما على الأخرى. وسئل السبكي: هل قال أحد إن أحدا من نساء النبي صلى الله عليه وسلم غير خديجة وعائشة أفضل من فاطمة؟ فقال: قال به من لا يعتد بقوله: وهو من فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الصحابة لأنهن في درجته في الجنة. قال: وهو قول ساقط مردود انتهى. وقائله هو أبو محمد بن حزم وفساده ظاهر. قال السبكي: ونساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وعائشة متساويات في الفضل، وهن أفضل النساء لقول الله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} الآية، ولا يستثنى من ذلك إلا من قيل إنها نبية كمريم، والله أعلم. ومما نبه عليه أنه وقع عند الطبراني من رواية أبي يونس عن عائشة أنها وقع لها نظير ما وقع لخديجة من السلام والجواب، وهي رواية شاذة، والعلم عند الله تعالى. قوله: "وقال إسماعيل بن

(7/139)


خليل" كذا في جميع النسخ التي اتصلت إلينا بصيغة التعليق، لكن صنيع المزي يقتضي أنه أخرجه موصولا، وقد أخرجه أبو عوانة عن محمد بن يحيى الذهلي عن إسماعيل المذكور، وأخرجه مسلم عن سويد بن سعيد والإسماعيلي من طريق الوليد بن شجاع كلاهما عن علي بن مسهر. قوله: "استأذنت هالة بنت خويلد" هي أخت خديجة، وكانت زوج الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس والد أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكروها في الصحابة وهو ظاهر هذا الحديث، وقد هاجرت إلى المدينة لأن دخولها كان بها أي بالمدينة، ويحتمل أن تكون دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حيث كانت عائشة معه في بعض سفراته، ووقع عند المستغفري من طريق حماد بن سلمة عن هشام بهذا السند" قدم ابن لخديجة يقال له هالة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم في قائلته كلام هالة، فانتبه وقال: هالة هالة" قال المستغفري: الصواب هالة أخت خديجة انتهى. وروى الطبراني في "الأوسط" من طريق تميم بن زيد بن هالة عن أبي هالة عن أبيه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو راقد فاستيقظ فضمه إلى صدره وقال: "هالة هالة" وذكر ابن حبان وابن عبد البر في الصحابة هالة بن أبي هالة التميمي، فلعله كان لخديجة أيضا ابن اسمه هالة والله أعلم. قوله: "فعرف استئذان خديجة" أي صفته لشبه صوتها بصوت أختها فتذكر خديجة بذلك، وقوله: "ارتاع" من الروع بفتح الراء أي فزع، والمراد من الفزع لازمه وهو التغير. ووقع في بعض الروايات "ارتاح" بالحاء المهملة أي اهتز لذلك سرورا، وقوله: "اللهم هالة" فيه حذف تقديره اجعلها هالة، فعلى هذا فهو منصوب، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه هالة وعلى هذا هو مرفوع، وفي الحديث أن من أحب شيئا أحب محبوباته وما يشبهه وما يتعلق به. قوله: "حمراء الشدقين" بالجر، قال أبو البقاء: يجوز في حمراء الرفع على القطع والنصب على الصفة أو الحال، ثم الموجود في جميع النسخ وفي مسلم: "حمراء" بالمهملتين، وحكى ابن التين أنه روي بالجيم والزاي ولم يذكر له معنى، وهو تصحيف والله أعلم. قال القرطبي: قيل: معنى حمراء الشدقين بيضاء الشدقين، والعرب تطلق على الأبيض الأحمر كراهة اسم البياض لكونه يشبه البرص، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة يا حميراء. ثم استبعد القرطبي هذا لكون عائشة أوردت هذه المقالة مورد التنقيص، فلو كان الأمر كما قيل لنصت على البياض لأنه كان يكون أبلغ في مرادها. قال: والذي عندي أن المراد بذلك نسبتها إلى كبر السن، لأن من دخل في سن الشيخوخة مع قوة في بدنه يغلب على لونه غالبا الحمرة المائلة إلى السمرة، كذا قال، والذي يتبادر أن المراد بالشدقين ما في باطن الفم فكنت بذلك عن سقوط أسنانها حتى لا يبقى داخل فمها إلا اللحم الأحمر من اللثة وغيرها، وبهذا جزم النووي وغيره. قوله: "قد أبدلك الله خيرا منها" قال ابن التين: في سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المقالة دليل على أفضلية عائشة على خديجة إلا أن يكون المراد بالخيرية هنا حسن الصورة وصغر السن انتهى. ولا يلزم من كونه لم ينقل في هذه الطريق أنه صلى الله عليه وسلم رد عليها عدم ذلك، بل الواقع أنه صدر منه رد لهذه المقالة، ففي رواية أبي نجيح عن عائشة عند أحمد والطبراني في هذه القصة" قالت عائشة فقلت أبدلك الله بكبيرة السن حديثة السن، فغضب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير" وهذا يؤيد ما تأوله ابن التين في الخيرية المذكورة، والحديث يفسر بعضه بعضا. وروى أحمد أيضا والطبراني من طريق مسروق عن عائشة في نحو هذه القصة" فقال صلى الله عليه وسلم: ما أبدلني الله خيرا منها آمنت بي إذ كفر بي الناس" الحديث، قال عياض قال الطبري وغيره من العلماء الغيرة مسامح للنساء ما يقع فيها ولا عقوبة عليهن في تلك الحالة لما جبلن عليه منها، ولهذا لم يزجر النبي صلى الله عليه وسلم

(7/140)


عائشة عن ذلك. وتعقبه عياض بأن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها وأول شبيبتها، فلعلها لم تكن بلغت حينئذ. قلت: وهو محتمل مع ما فيه من نظر، قال القرطبي: لا تدل قصة عائشة هذه على أن الغيرة لا تؤاخذ بما يصدر منها، لأن الغيرة هنا جزء سبب، وذلك أن عائشة اجتمع فيها حينئذ الغيرة وصغر السن والإدلال، قال فإحالة الصفح عنها على الغيرة وحدها تحكم، نعم الحامل لها على ما قالت الغيرة لأنها هي التي نصت عليها بقولها "فغرت" وأما الصفح فيحتمل أن يكون لأجل الغيرة وحدها، ويحتمل أن يكون لها ولغيرها من الشباب والإدلال. قلت: الغيرة محققة بتنصيصها، والشباب محتاج إلى دليل، فإنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي بنت تسع وذلك في أول زمن البلوغ، فمن أين له أن ذلك القول وقع في أوائل دخوله عليها وهي بنت تسع. وأما إدلال المحبة فليس موجبا للصفح عن حق الغير، بخلاف الغيرة فإنما يقع الصفح بها لأن من يحصل لها الغيرة لا تكون في كمال عقلها، فلهذا تصدر منها أمور لا تصدر منها في حال عدم الغيرة، والله أعلم.

(7/141)


باب ذكر جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه
...
21- باب ذِكْرُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3822- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ بَيَانٍ عَنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِي إِلاَّ ضَحِكَ"
3823- وَعَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْخَلَصَةِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَةُ أَوْ الْكَعْبَةُ الشَّأْمِيَّةُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَنْتَ مُرِيحِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ قَالَ فَنَفَرْتُ إِلَيْهِ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ قَالَ فَكَسَرْنَا وَقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ فَأَتَيْنَاهُ فَأَخْبَرْنَاهُ فَدَعَا لَنَا وَلِأَحْمَسَ"

(7/131)


قوله: "باب ذكر جرير بن عبد الله البجلي" أي ابن جابر بن مالك من بني أنمار بن أراش، نسبوا إلى أمهم بجيلة، يكنى أبا عمرو على المشهور، واختلف في إسلامه والصحيح أنه في سنة الوفود سنة تسع، ووهم من قال إنه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما لما ثبت في الصحيح" إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له استنصت الناس "في حجة الوداع وذلك قبل موته صلى الله عليه وسلم بأكثر من ثمانين يوما، وكان موت جرير سنة خمسين وقيل: بعدها. قوله: "ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي ما منعني من الدخول إليه إذا كان في بيته فاستأذنت عليه، وليس كما حمله بعضهم على إطلاقه فقال كيف جاز له أن يدخل على محرم بغير حجاب؟ ثم تكلف في الجواب أن المراد مجلسه المختص بالرجال، أو أن المراد بالحجاب منع ما يطلبه منه. قلت: وقوله: "ما حجبني" يتناول الجميع مع بعد إرادة الأخير. قوله: "ولا رآني إلا ضحك" في رواية الحميدي عن إسماعيل "إلا تبسم في وجهي" وروى أحمد وابن حبان من طريق المغيرة بن شبيل عن جرير قال: "لما دنوت من المدينة أنخت ثم لبست حلتي فدخلت، فرماني الناس بالحدق، فقلت: هل ذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: نعم، ذكرك بأحسن ذكر فقال: يدخل عليكم رجل من خير ذي يمن، على وجهه مسحة ملك". قوله: "وعن قيس" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "ذو الخلصة" بفتح المعجمة واللام والصاد المهملة وحكي إسكان اللام. وقوله: "اليمانية" بتخفيف الياء وحكي تشديدها، وقوله: "أو الكعبة الشامية" استشكل الجمع بين هذين الوصفين، وسيأتي جوابه مع شرح هذه القصة في أواخر المغازي مع الكلام على قوله الكعبة اليمانية أو الكعبة الشامية إن شاء الله تعالى.

(7/132)


22 - باب ذِكْرُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ الْعَبْسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3724-حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ رَجَاءٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ هَزِيمَةً بَيِّنَةً فَصَاحَ إِبْلِيسُ أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ أُخْرَاهُمْ فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ فَنَادَى أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أَبِي أَبِي فَقَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ أَبِي فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ"
قوله: "باب ذكر حذيفة بن اليمان العبسي" بالموحدة، واسم اليمان حسل بمهملتين وكسر أوله وسكون ثانيه ثم لام ابن جابر له ولأبيه صحبة. قوله: "لما هزم"1 بضم أوله، وقوله: "وأخراكم" أي اقبلوا أخراكم أو احذروا أخراكم أو انصروا أخراكم، وقوله: "احتجزوا" أي انفصلوا من القتال وامتنع بعضهم من بعض، وسيأتي بقية شرح هذه القصة في كتاب المغازي. قوله: "قال أبي" القائل هو هشام بن عروة، نقله عن أبيه عروة وفصله من حديث عائشة فصار مرسلا، وقوله: "ما زالت في حذيفة منها" أي من هذه الكلمة أي بسببها، وقوله: "بقية خير" يؤخذ منه أن فعل الخير تعود بركته على صاحبه في طول حياته. "تنبيه": وقع ذكر جرير وحذيفة مؤخرا عن
ـــــــ
1 قال مصحح طبعة بولاق: هكذا بالنسخ, ورواية الصحيح الذي بايدينا "لما كان يوم احد هزم الخ"

(7/132)


ذكر خديجة عليها السلام، وفي بعضها مقدما وهو أليق، فإن الذي يظهر أنه أخر ذكر خديجة عمدا لكون غالب أحوالها متعلقة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث فوقع له في ذلك حسن التخلص من المناقب التي استطرد من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فلما فرغ منها رجع إلى بقية سيرته ومغازيه، والله أعلم.

(7/133)


23 - باب ذِكْرُ هِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
3825- وَقَالَ عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ قَالَتْ وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا قَالَ لاَ أُرَاهُ إِلاَّ بِالْمَعْرُوفِ".
قوله: "باب ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة" أي ابن عبد شمس، وهي والدة معاوية، قتل أبوها ببدر كما سيأتي في المغازي، وشهدت مع زوجها أبي سفيان أحدا، وحرضت على قتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم لكونه قتل عمها شيبة وشرك في قتل أبيها عتبة فقتله وحشي بن حرب كما سيأتي بيان ذلك في حديث وحشي، ثم أسلمت هند يوم الفتح، وكانت من عقلاء النساء، وكانت قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة المخزومي ثم طلقها في قصة جرت، فتزوجها أبو سفيان فأنتجت عنده، وهي القائلة للنبي صلى الله عليه وسلم لما شرط على النساء المبايعة ولا يسرقن ولا يزنين" وهل تزني الحرة "؟ وماتت هند في خلافة عمر. قوله: "وقال عبدان" كذا للجميع بصيغة التعليق، وكلام أبي نعيم في "المستخرج" يقتضي أن البخاري أخرجه موصولا عن عبدان، وقد وصله البيهقي أيضا من طريق أبي الموجه عن عبدان. قوله: "خباء" بكسر المعجمة وتخفيف الموحدة مع المد هي خيمة من وبر أو صوف، ثم أطلقت على البيت كيف ما كان. قوله: "قال وأيضا والذي نفسي بيده" قال ابن التين: فيه تصديق لها فيما ذكرته، كأنه رأى أن المعنى: وأنا أيضا بالنسبة إليك مثل ذلك. تعقب من جهة طرفي البغض والحب، فقد كان في المشركين من كان أشد أذى للنبي صلى الله عليه وسلم من هند وأهلها، وكان في المسلمين بعد أن أسلمت من هو أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منها ومن أهلها، فلا يمكن حمل الخبر على ظاهره. وقال غيره: المعنى بقوله: "وأيضا"ستزيدين في المحبة كلما تمكن الإيمان من قلبك وترجعين عن البغض المذكور حتى لا يبقى له أثر، فأيضا خاص بما يتعلق بها لا أن المراد بها أني كنت في حقك كما

(7/141)


ذكرت في البغض ثم صرت على خلافه في الحب بل ساكت عن ذلك، ولا يعكر على هذا قوله في بعض الروايات"وأنا" إن ثبتت الرواية بذلك. قوله: "إن أبا سفيان رجل مسيك" سيأتي شرحه في كتاب النفقات إن شاء الله تعالى، وفي الحديث دلالة على وفور عقل هند وحسن تأتيها في المخاطبة، ويؤخذ منه أن صاحب الحاجة يستحب له أن يقدم بين يدي نحواه اعتذارا إذا كان في نفس الذي يخاطبه عليه موجدة، وأن المعتذر يستحب له أن يقدم ما يتأكد به صدقه عند من يعتذر إليه، لأن هندا قدمت الاعتراف بذكر ما كانت عليه من البغض ليعلم صدقها فيما ادعته من المحبة، وقد كانت هند في منزلة أمهات نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأن أم حبيبة إحدى زوجاته بنت زوجها أبي سفيان.

(7/142)


24 - باب حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ
3826- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُفْرَةٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلاَ آكُلُ إِلاَّ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنْ السَّمَاءِ الْمَاءَ وَأَنْبَتَ لَهَا مِنْ الأَرْضِ ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ".
[الحديث 3826- طرفه في: 5499]
3827- قَالَ مُوسَى حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ تَحَدَّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ "أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ فَقَالَ إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي فَقَالَ لاَ تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ قَالَ زَيْدٌ مَا أَفِرُّ إِلاَّ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَلاَ أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا قَالَ زَيْدٌ وَمَا الْحَنِيفُ قَالَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلاَ يَعْبُدُ إِلاَّ اللَّهَ فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ قَالَ مَا أَفِرُّ إِلاَّ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلاَ أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلاَ مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا قَالَ وَمَا الْحَنِيفُ قَالَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلاَ يَعْبُدُ إِلاَّ اللَّهَ فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَم خَرَجَ فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ"

(7/142)


3828- وَقَالَ اللَّيْثُ كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ "رَأَيْتُ
زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ لاَ تَقْتُلْهَا أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا"
"باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل" هو ابن عم عمر بن الخطاب بن نفيل، وقد تقدم نسبه في ترجمته.
وهو والد سعيد بن زيد أحد العشرة؛ وكان ممن طلب التوحيد وخلع الأوثان وجانب الشرك، لكنه مات قبل المبعث، فروى محمد بن سعد والفاكهي من حديث عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب قال: "قال لي زيد بن عمرو: إني خالفت قومي، واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان، وكانا يصليان إلى هذه القبلة، وأنا أنتظر نبيا من بني إسماعيل يبعث، ولا أراني أدركه، وأنا أومن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، وإن طالت بك حياة فأقره مني السلام. قال عامر: فلما أسلمت أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم بخبره قال: فرد عليه السلام وترحم عليه، قال: ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولا" وروى البزار والطبراني من حديث سعيد بن زيد قال: "خرج زيد بن عمرو وورقة بن نوفل يطلبان الدين، حتى أتيا الشام، فتنصر ورقة وامتنع زيد، فأتى الموصل فلقي راهبا فعرض عليه النصرانية فامتنع" وذكر الحديث نحو حديث ابن عمر الآتي في ترجمته وفيه: "قال سعيد بن زيد فسألت أنا وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد فقال: غفر الله له ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم"، وروى الزبير بن بكار من طريق هشام بن عروة قال: "بلغنا أن زيدا كان بالشام، فبلغه مخرج النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأقبل يريده فقتل بمضيعة من أرض البلقاء" وقال ابن إسحاق: لما توسط بلاد لخم قتلوه، وقيل: إنه مات قبل المبعث بخمس سنين عند بناء قريش الكعبة. قوله: "بأسفل بلدح" هو مكان في طريق التنعيم بفتح الموحدة والمهملة بينهما لام ساكنة وآخره مهملة، ويقال هو واد. قوله: "فقدمت" بضم القاف. قوله: "إلى النبي صلى الله عليه وسلم" كذا للأكثر. وفي رواية الجرجاني" فقدم إليه النبي صلى الله عليه وسلم سفرة" قال عياض: الصواب الأول، قلت: رواية الإسماعيلي توافق رواية الجرجاني، وكذا أخرجه الزبير بن بكار والفاكهي وغيرهما. وقال ابن بطال: كانت السفرة لقريش قدموها للنبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأكل منها فقدمها النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن عمرو فأبى أن يأكل منها وقال مخاطبا لقريش الذين قدموها أولا: "إنا لا نأكل ما ذبح على أنصابكم" انتهى. وما قاله محتمل، لكن لا أدري من أين له الجزم بذلك، فإني لم أقف عليه في رواية أحد. وقد تبعه ابن المنير في ذلك وفيه ما فيه. قوله: "على أنصابكم" بالمهملة جمع نصب بضمتين وهي أحجار كانت حول الكعبة يذبحون عليها للأصنام، قال الخطابي: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل مما يذبحون عليها للأصنام، ويأكل ما عدا ذلك وإن كانوا لا يذكرون اسم الله عليه، لأن الشرع لم يكن نزل بعد، بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه إلا بعد المبعث بمدة طويلة. قلت: وهذا الجواب أولى مما ارتكبه ابن بطال، وعلى تقدير أن يكون حارثة ذبح على الحجر المذكور فإنما يحمل على أنه إنما ذبح عليه لغير الأصنام، وأما قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} فالمراد به ما ذبح عليها للأصنام، ثم قال الخطابي: وقيل: لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك شيء. قلت: وفيه نظر، لأنه كان قبل المبعث فهو من تحصيل الحاصل: وقد وقع في حديث سعيد بن زيد الذي قدمته وهو عند أحمد" وكان ابن

(7/143)


زيد يقول: عذت بما عاذ به إبراهيم، ثم يخر ساجدا للكعبة، قال: فمر بالنبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما فدعياه فقال: يا ابن أخي لا آكل مما ذبح على النصب، قال: فما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل مما ذبح على النصب من يومه ذلك". وفي حديث زيد بن حارثة عند أبي يعلى والبزار وغيرهما قال: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من مكة وهو مردفي، فذبحنا شاة على بعض الأنصاب فأنضجناها، فلقينا زيد بن عمرو" فذكر الحديث مطولا وفيه: "فقال زيد: إني لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه" قال الداودي: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث يجانب المشركين في عاداتهم، لكن لم يكن يعلم ما يتعلق بأمر الذبح، وكان زيد قد علم ذلك من أهل الكتاب الذين لقيهم. وقال السهيلي: فإن قيل فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أولى من زيد بهذه الفضيلة، فالجواب أنه ليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أكل منها، وعلى تقدير أن يكون أكل فزيد إنما كان يفعل ذلك برأي يراه لا بشرع بلغه، وإنما كان عند أهل الجاهلية بقايا من دين إبراهيم، وكان في شرع إبراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، وإنما نزل تحريم ذلك في الإسلام، والأصح أن الأشياء قبل الشرع لا توصف بحل ولا بحرمة، مع أن الذبائح لها أصل في تحليل الشرع، واستمر ذلك إلى نزول القرآن، ولم ينقل أن أحدا بعد المبعث كف عن الذبائح حتى نزلت الآية. قلت: وقوله إن زيدا فعل ذلك برأيه أولى من قول الداودي إنه تلقاه عن أهل الكتاب، فإن حديث الباب بين فيما قال السهيلي، وإن ذلك قاله زيد باجتهاد لا بنقل عن غيره، ولا سيما وزيد يصرح عن نفسه بأنه لم يتبع أحدا من أهل الكتابين. وقد قال القاضي عياض في الملة المشهورة في عصمة الأنبياء قبل النبوة إنها كالممتنع لأن النواهي إنما تكون بعد تقرير الشرع، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا قبل أن يوحى إليه بشرع من قبله على الصحيح، فعلى هذا فالنواهي إذا لم تكن موجودة فهي معتبرة في حقه والله أعلم. فإن فرعنا على القول الآخر فالجواب عن قوله: "ذبحنا شاة على بعض الأنصاب" يعني الحجارة التي ليست بأصنام ولا معبودة، إنما هي من آلات الجزار التي يذبح عليها، لأن النصب في الأصل حجر كبير، فمنها ما يكون عندهم من جملة الأصنام فيذبحون له وعلى اسمه، ومنها ما لا يعبد بل يكون من آلات الذبح فيذبح الذابح عليه لا للصنم، أو كان امتناع زيد منها حسما للمادة. قوله: "فإن زيد بن عمرو" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "قال موسى" هو ابن عقبة، والخبر موصول بالإسناد المذكور إليه، وقد شك فيه الإسماعيلي فقال: ما أدري هذه القصة الثانية من رواية الفضيل بن موسى أم لا.ثم ساقها مطولة من طريق عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة، وكذا أوردها الزبير بن بكار والفاكهي بالإسنادين معا. قوله: "لا أعلمه إلا يحدث به عن ابن عمر" قد ساق البخاري الحديث الأول في الذبائح من طريق عبد العزيز بن المختار عن موسى بغير شك، وساق الإسماعيلي هذا الثاني من رواية عبد العزيز المذكور بالشك أيضا فكان الشك فيه من موسى بن عقبة. قوله: "يسأل عن الدين" أي دين التوحيد. قوله: "ويتبعه" بتشديد المثناة بعدها موحدة. وللكشميهني بسكون الموحدة بعدها مثناة مفتوحة ثم عين معجمة أي يطلبه. قوله: "فلقي عالما من اليهود" لم أقف على اسمه، وفي حديث زيد بن حارثة المذكور" إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن عمرو: ما لي أرى قومك قد شنفوا عليك" أي أبغضوك، وهو بفتح الشين المعجمة وكسر النون بعدها فاء" قال خرجت أبتغي الدين فقدمت على الأحبار فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به". قوله: "فلقي عالما من النصارى" لم أقف على اسمه أيضا، ووقع في حديث زيد بن حارثة" قال لي شيخ من أحبار الشام: إنك لتسألني عن دين ما أعلم أحدا

(7/144)


يعبد الله به إلا شيخا بالجزيرة. قال فقدمت عليه فقال: إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك، وجميع من رأيتهم في ضلال" وفي رواية الطبراني من هذا الوجه" وقد خرج في أرضك نبي، أو هو خارج، فارجع وصدقه وآمن به. قال زيد: فلم أحس بشيء بعد". قلت: وهذا مع ما تقدم يدل على أن زيدا رجع إلى الشام فبعث النبي صلى الله عليه وسلم به فرجع ومات، والله أعلم. قوله: "وأنا أستطيع" أي والحال أن لي قدرة على عدم حمل ذلك، كذا للأكثر بتخفيف النون ضمير القائل. وفي رواية بتشديد النون بمعنى الاستبعاد، والمراد بغضب الله إرادة إيصال العقاب كما أن المراد بلعنة الله الإبعاد عن رحمته. قوله: "فلما برز" أي خارج أرضهم. قوله: "اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم" بكسر الهمزة الأولى وفتح الثانية. وفي حديث سعيد بن زيد" فانطلق زيد وهو يقول: لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا.ثم يخر فيسجد لله". قوله: "وقال الليث: كتب إلى هشام" أي ابن عروة، وهذا التعليق رويناه موصولا في حديث زغبة من رواية أبي بكر بن أبي داود عن عيسى بن حماد وهو المعروف بزغبة عن الليث. وأخرج ابن إسحاق عن هشام بن عروة هذا الحديث بتمامه، وأخرجه الفاكهي من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد والنسائي وأبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي أسامة كلهم عن هشام بن عروة. قوله: "ما منكم على دين إبراهيم غيري" زاد أبو أسامة في روايته: "وكان يقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم" وفي رواية ابن أبي الزناد" وكان قد ترك عبادة الأوثان، وترك أكل ما يذبح على النصب" في رواية ابن إسحاق" وكان يقول: اللهم لو أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك به، ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على الأرض براحته". قوله: "وكان يحيي الموءودة" هو مجاز، والمراد بإحيائها إبقاؤها. وقد فسره في الحديث. ووقع في رواية ابن أبي الزناد" وكان يفتدي الموءودة أن تقتل" والموءودة مفعولة من وأد الشيء إذا أثقل، وأطلق عليها اسم الوأد اعتبارا بما أريد بها وإن لم يقع. وكان أهل الجاهلية يدفنون البنات وهن بالحياة، ويقال كان أصلها من الغيرة عليهن لما وقع لبعض العرب حيث سبى بنت آخر فاستفرشها، فأراد أبوها أن يفتديها منه فخيرها فاختارت الذي سباها، فحلف أبوها ليقتلن كل بنت تولد له، فتبع على ذلك. وقد شرحت ذلك مطولا في كتابي في"الأوائل" وأكثر من كان يفعل ذلك منهم من الإملاق كما قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وقصة زيد هذه تدل على هذا المعنى الثاني، فيحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين كان سببا. قوله: "أكفيك مؤنتها" كذا لأبي ذر، ولغيره: "أكفيكها مؤنتها" زاد أبو أسامة في روايته: "وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن زيد فقال: يبعث يوم القيامة أمة وحده بيني وبين عيسى ابن مريم" وروى البغوي في "الصحابة" من حديث جابر نحو هذه الزيادة، وساق له ابن إسحاق أشعارا قالها في مجانبة الأوثان لا نطيل بذكرها.

(7/145)


25 - باب بُنْيَانُ الْكَعْبَةِ
3829- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "لَمَّا بُنِيَتْ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الْحِجَارَةَ فَقَالَ عَبَّاسٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ يَقِيكَ مِنْ الْحِجَارَةِ فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ

(7/145)


أَفَاقَ فَقَالَ إِزَارِي إِزَارِي فَشَدَّ عَلَيْهِ إِزَارَهُ".
3830- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالاَ "لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ الْبَيْتِ حَائِطٌ كَانُوا يُصَلُّونَ حَوْلَ الْبَيْتِ حَتَّى كَانَ عُمَرُ فَبَنَى حَوْلَهُ حَائِطًا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ جَدْرُهُ قَصِيرٌ فَبَنَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ"
قوله: "باب بنيان الكعبة" أي على يد قريش في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، وقد تقدم ما يتعلق ببناء إبراهيم عليه السلام قبل بناء قريش، وما يتعلق ببناء عبد الله بن الزبير في الإسلام. وروى الفاكهي من طريق ابن جريج عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال: "كانت الكعبة فوق القامة، فأرادت قريش رفعها وتسقيفها" وسيأتي بيان ذلك في الباب الذي يليه. وروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح عن الزهري" أن امرأة جمرت الكعبة، فطارت شرارة في ثياب الكعبة فأحرقتها" فذكر قصة بناء قريش لها، وسيأتي في الحديث الثالث من الباب الذي يليه تتمة هذه القصة. وذكر ابن إسحاق وغيره أن قريشا لما بنت الكعبة كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة. وروى إسحاق بن راهويه من طريق خالد بن عرعرة عن علي في قصة بناء إبراهيم البيت قال: "فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته جرهم، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ شاب، فلما أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا: نحكم بيننا أول من يخرج من هذه السكة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من خرج منها، فحكم بينهم أن يجعلوه في ثوب ثم يرفعه من كل قبيلة رجل" وذكر أبو داود الطيالسي في هذا الحديث أنهم قالوا نحكم أول من يدخل من باب بني شيبة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من دخل منه، فأخبروه، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فرفعوه، ثم أخذه فوضعه بيده" وروى الفاكهي أن الذي أشار عليهم أن يحكموا أول داخل أبو أمية بن المغيرة المخزومي أخو الوليد، وقد تقدم في أوائل الحج من حديث أبي الطفيل قصة بناء قريش الكعبة مطولا فأغنى عن إعادته هنا. وعند موسى بن عقبة أن الذي أشار عليهم بذلك هو الوليد بن المغيرة المخزومي، وأنه قال لهم "لا تجعلوا فيها مالا أخذ غصبا، ولا قطعت فيه رحم، ولا انتهكت فيه ذمة" وعند ابن إسحاق أن الذي أشار عليهم أن لا يبنوها إلا من مال طيب هو أبو وهب بن عمرو بن عامر بن عمران بن مخزوم. قوله: في حديث جابر "لما بنيت الكعبة" هو من مراسيل الصحابة، ولعل جابرا سمعه من العباس بن عبد المطلب، وتقدم بيان ذلك واضحا في كتاب الحج. وقوله: "يقك من الحجارة فخر إلى الأرض" فيه حذف تقديره: ففعل ذلك فخر. وفي حديث أبي الطفيل المذكور آنفا" فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة معهم إذ انكشفت عورته، فنودي يا محمد غط عورتك، فذلك في أول ما نودي، فما رؤيت له عورة قبل ولا بعد" وقوله: "طمحت عيناه إلى السماء" أي ارتفعت. وذكر ابن إسحاق في المبعث "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لي يحدث عما كان الله يحفظه في صغره أنه قال: لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل حجارة لبعض مما تلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، إذ لكمني لاكم ما أراه، ثم قال: شد عليك إزارك، قال فشددته علي، ثم جعلت أحمل وإزاري علي من بين أصحابي" قال السهيلي: إنما وردت هذه القصة في بنيان الكعبة، فإن صح أن ذلك كان في صغره فهي قصة أخرى: مرة في الصغر ومرة في حال الاكتهال. قلت: وقد يطلق على الكبير

(7/146)


غلام إذا فعل فعل الغلمان فلا يستحيل اتحاد القصة اعتمادا على التصريح بالأولية في حديث أبي الطفيل. قوله: "قالا: لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حول البيت حائط" هذا مرسل، وقيل: منقطع، لأن عمرو بن دينار وعبيد الله بن أبي يزيد من أصاغر التابعين. وأما قوله: "حتى كان عمر" فمنقطع فإنهما لم يدركا عمر أيضا. وأما قوله: "قال عبيد الله جدره قصير" هو بفتح الجيم، والجدر والجدار بمعنى. وقوله: "فبناه ابن الزبير" هذا القدر هو الموصول من هذا الحديث، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق حماد بن زيد عن عبيد الله بن أبي يزيد بتمامه وقال فيه: "وكان أول من جعل الحائط على البيت عمر" قال عبيد الله وكان جدره قصيرا حتى كان زمن ابن الزبير فزاد فيه: "وذكر الفاكهي أن المسجد كان محاطا بالدور على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فضاق على الناس، فوسعه عمر واشترى دورا فهدمها، وأعطى من أبى أن يبيع ثمن داره، ثم أحاط عليه بجدار قصير دون القامة، ورفع المصابيح على الجدر" قال: "ثم كان عثمان فزاد في سعته من جهات أخر، ثم وسعه عبد الله بن الزبير، ثم أبو جعفر المنصور، ثم ولده المهدي" قال: "ويقال إن ابن الزبير سقفه أو سقف بعضه، ثم رفع عبد الملك بن مروان جدرانه وسقفه بالساج، وقيل: بل الذي صنع ذلك ولده الوليد وهو أثبت، وكان ذلك سنة ثمان وثمانين".

(7/147)


26 - باب أَيَّامُ الْجَاهِلِيَّةِ
3832- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لاَ يَصُومُهُ"
3832- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ الْفُجُورِ فِي الأَرْضِ وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَقُولُونَ إِذَا بَرَا الدَّبَرْ وَعَفَا الأَثَرْ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ قَالَ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَابِعَةً مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ وَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ قَالَ الْحِلُّ كُلُّهُ"
3833- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ كَانَ عَمْرٌو يَقُولُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ "جَاءَ سَيْلٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَسَا مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ قَالَ سُفْيَانُ وَيَقُولُ إِنَّ هَذَا لَحَدِيثٌ لَهُ شَأْنٌ"
3834- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ بَيَانٍ أَبِي بِشْرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ فَرَآهَا لاَ تَكَلَّمُ فَقَالَ مَا لَهَا لاَ تَكَلَّمُ قَالُوا حَجَّتْ مُصْمِتَةً قَالَ لَهَا تَكَلَّمِي فَإِنَّ هَذَا لاَ يَحِلُّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَكَلَّمَتْ فَقَالَتْ مَنْ أَنْتَ قَالَ امْرُؤٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَالَتْ أَيُّ الْمُهَاجِرِينَ قَالَ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَتْ مِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ أَنْتَ قَالَ إِنَّكِ لَسَئُولٌ أَنَا

(7/147)


أَبُو بَكْرٍ قَالَتْ مَا بَقَاؤُنَا عَلَى هَذَا الأَمْرِ الصَّالِحِ الَّذِي جَاءَ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ بَقَاؤُكُمْ عَلَيْهِ مَا اسْتَقَامَتْ بِكُمْ أَئِمَّتُكُمْ قَالَتْ وَمَا الأَئِمَّةُ قَالَ أَمَا كَانَ لِقَوْمِكِ رُءُوسٌ وَأَشْرَافٌ يَأْمُرُونَهُمْ فَيُطِيعُونَهُمْ قَالَتْ بَلَى قَالَ فَهُمْ أُولَئِكِ عَلَى النَّاسِ"
3835- حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ فِي الْمَسْجِدِ قَالَتْ فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ:
وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا ... أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي
فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ قَالَتْ خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ فَسَقَطَ مِنْهَا فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا وَهِيَ تَحْسِبُهُ لَحْمًا فَأَخَذَتْهُ فَاتَّهَمُونِي بِهِ فَعَذَّبُونِي حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي قُبُلِي فَبَيْنَاهُمْ حَوْلِي وَأَنَا فِي كَرْبِي إِذْ أَقْبَلَتْ الْحُدَيَّا حَتَّى وَازَتْ بِرُءُوسِنَا ثُمَّ أَلْقَتْهُ فَأَخَذُوهُ فَقُلْتُ لَهُمْ هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ"
3836- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلاَ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللَّهِ فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا فَقَالَ لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ"
3837- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ أَنَّ الْقَاسِمَ كَانَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ الْجَنَازَةِ وَلاَ يَقُومُ لَهَا وَيُخْبِرُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُومُونَ لَهَا يَقُولُونَ إِذَا رَأَوْهَا كُنْتِ فِي أَهْلِكِ مَا أَنْتِ مَرَّتَيْنِ"
3838- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لاَ يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ فَخَالَفَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ"
3839- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ حَدَّثَكُمْ يَحْيَى بْنُ الْمُهَلَّبِ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَكَأْسًا دِهَاقًا} قَالَ: مَلْأَى مُتَتَابِعَةً"

(7/148)


3840- قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ "اسْقِنَا كَأْسًا دِهَاقًا"
3841- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلٌ وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ"
[الحديث 3841- طرفاه في: 6489,6147]
3842- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ أَتَدْرِي مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا هُوَ قَالَ كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إِلاَّ أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ".
3843- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُونَ لُحُومَ الْجَزُورِ إِلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ قَالَ وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ تَحْمِلَ الَّتِي نُتِجَتْ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ"
3844- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ قَالَ غَيْلاَنُ بْنُ جَرِيرٍ "كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَيُحَدِّثُنَا عَنْ الأَنْصَارِ وَكَانَ يَقُولُ لِي فَعَلَ قَوْمُكَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَفَعَلَ قَوْمُكَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا"
قوله: "باب أيام الجاهلية" أي مما كان بين المولد النبوي والمبعث، هذا هو المراد به هنا، ويطلق غالبا على ما قبل البعثة ومنه {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} وقوله: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ومنه أكثر أحاديث الباب، وأما جزم النووي في عدة مواضع من شرح مسلم أن هذا هو المراد حيث أتى ففيه نظر فإن هذا اللفظ وهو "الجاهلية" يطلق على ما مضى والمراد ما قبل إسلامه، وضابط آخره غالبا فتح مكة، ومنه قول مسلم في مقدمة صحيحه "أن أبا عثمان وأبا رافع أدركا الجاهلية" وقول أبي رجاء العطاردي" رأيت في الجاهلية قردة زنت" وقول ابن عباس "سمعت أبي يقول في الجاهلية: اسقنا كأسا دهاقا" وابن عباس إنما ولد بعد البعثة، وأما قول عمر "نذرت في الجاهلية" فمحتمل، وقد نبه على ذلك شيخنا العراقي في الكلام على المخضرمين من علوم الحديث. وذكر فيه أحاديث: قوله: "كان عاشوراء" تقدم شرحه في كتاب الصيام، وذكرت هناك احتمالا أنهم أخذوا ذلك عن أهل الكتاب، ثم وجدت في بعض الأخبار أنهم كانوا أصابهم قحط ثم رفع عنهم

(7/149)


فصاموه شكرا.الثاني حديث ابن عباس قوله: "كانوا يرون" أي يعتقدون أن أشهر الحج لا ينسك فيها إلا بالحج وأن غيرها من الأشهر للعمرة، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الحج. قوله: "كان عمرو" هو ابن دينار. وفي رواية الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن بشر عن سفيان "حدثنا عمرو بن دينار". قوله: "عن جده" هو حزن بفتح المهملة وسكون الزاي وهو ابن أبي وهب الذي قدمنا أنه أشار على قريش بأن تكون النفقة في بناء الكعبة من مال طيب. قوله: "جاء سيل في الجاهلية فطبق ما بين الجبلين" أي ملأ ما بين الجبلين اللذين في جانبي الكعبة. قوله: "قال سفيان ويقول إن هذا الحديث له شأن" أي قصة، وذكر موسى بن عقبة أن السيل كان يأتي من فوق الردم الذي بأعلى مكة فيجريه، فتخوفوا أن يدخل الماء الكعبة فأرادوا تشييد بنيانها، وكان أول من طلعها وهدم منها شيئا الوليد بن المغيرة، وذكر القصة في بنيان الكعبة قبل المبعث النبوي. وأخرج الشافعي في "الأم" بسند له عن عبد الله بن الزبير أن كعبا قال له وهو يعمل بناء مكة اشدده وأوثقه، فإنا نجد في الكتب أن السيول ستعظم في آخر الزمان ا هـ. فكان الشأن المشار إليه أنهم استشعروا من ذلك السيل الذي لم يعهدوا مثله أنه مبدأ السيول المشار إليها. قوله: "دخل" أي أبو بكر الصديق. قوله: "على امرأة من أحمس" بمهملتين وزن أحمد، وهي قبيلة من بجيلة. وأغرب ابن التين فقال: المراد امرأة من الحمس وهي من قريش. قوله: "يقال لها زينب بنت المهاجر" روى حديثها محمد بن سعد في الطبقات من طريق عبد الله بن جابر الأحمسي عن عمته زينب بنت المهاجر قالت: "خرجت حاجة" فذكر الحديث، وذكر أبو موسى المديني في "ذيل الصحابة" أن ابن مندة ذكر في "تاريخ النساء" له أن زينب بنت جابر أدركت النبي صلى الله عليه وسلم وروت عن أبي بكر، وروى عنها عبد الله بن جابر وهي عمته قال: وقيل: هي بنت المهاجر بن جابر، وذكر الدار قطني في "العلل" أن في رواية شريك وغيره عن إسماعيل بن أبي خالد في حديث الباب أنها زينب بنت عوف، قال: وذكر ابن عيينة عن إسماعيل أنها جدة إبراهيم بن المهاجر، والجمع بين هذه الأقوال ممكن بأن من قال بنت المهاجر نسبها إلى أبيها أو بنت جابر نسبها إلى جدها الأدنى أو بنت عوف نسبها إلى جد لها أعلى، والله أعلم. قوله: "مصمتة" بضم الميم وسكون المهملة أي ساكته يقال أصمت وصمت بمعنى. قوله: "فإن هذا لا يحل" يعني ترك الكلام. ووقع عند الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي بكر الصديق أن المرأة قالت له: "كان بيننا وبين قومك في الجاهلية شر، فحلفت إن الله عافانا من ذلك أن لا أكلم أحدا حتى أحج، فقال: إن الإسلام يهدم ذلك، فتكلمي" وللفاكهي من طريق زيد بن وهب عن أبي بكر نحوه، وقد استدل بقول أبي بكر هذا من قال بأن من حلف أن لا يتكلم استحب له أن يتكلم ولا كفارة عليه، لأن أبا بكر لم يأمرها بالكفارة، وقياسه أن من نذر أن لا يتكلم لم ينعقد نذره، لأن أبا بكر أطلق أن ذلك لا يحل وأنه من فعل الجاهلية وأن الإسلام هدم ذلك ولا يقول أبو بكر مثل هذا إلا عن توقيف فيكون في حكم المرفوع، ويؤيد ذلك حديث ابن عباس في قصة أبي إسرائيل الذي نذر أن يمشي ولا يركب ولا يستظل ولا يتكلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يركب ويستظل ويتكلم، وحديث علي رفعه: "لا يتم بعد احتلام ولا صمت يوم إلى الليل" أخرجه أبو داود، قال الخطابي في شرحه: كان من نسك أهل الجاهلية الصمت، فكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة ويصمت، فنهوا عن ذلك وأمروا بالنطق بالخير، وقد تقدمت الإشارة إلى حديث ابن عباس في كتاب الحج، ويأتي الكلام عليه في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. وقال ابن قدامة في "المغني": ليس من شريعة الإسلام الصمت عن الكلام، وظاهر الأخبار تحريمه، واحتج

(7/150)


بحديث أبي بكر وبحديث علي المذكور قال: فإن نذر ذلك لم يلزمه الوفاء به، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا ا هـ. وكلام الشافعية يقتضي أن مسألة النذر ليست منقولة، فإن الرافعي ذكر في كتاب النذر أن في تفسير أبي نصر القشيري عن القفال قال من نذر أن لا يكلم الآدميين يحتمل أن يقال يلزمه لأنه مما يتقرب به. ويحتمل أن يقال لا، لما فيه من التضييق والتشديد وليس ذلك من شرعنا، كما لو نذر الوقوف في الشمس، قال أبو نصر: فعلى هذا يكون نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا، ذكره في تفسير سورة مريم عند قولها {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} وفي "التتمة" لأبي سعيد المتولي: من قال شرع من قبلنا شرع لنا جعل ذلك قربة. وقال ابن الرفعة في قول الشيخ أبي إسحاق في"التنبيه": ويكره له صمت يوم إلى الليل، قال في شرحه: إذ لم يؤثر ذلك بل جاء في حديث ابن عباس النهي عنه. ثم قال: نعم، قد ورد في شرع من قبلنا، فإن قلنا إنه شرع لنا لم يكره، إلا أنه لا يستحب قاله ابن يونس، قال: وفيه نظر، لأن الماوردي قال: روي عن ابن عمر مرفوعا صمت الصائم تسبيح، قال؛ فإن صح دل على مشروعية الصمت، وإلا فحديث ابن عباس أقل درجاته الكراهة. قال: وحيث قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا، فذاك إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه انتهى. وهو كما قال. وقد ورد النهي. والحديث المذكور لا يثبت. وقد أورده صاحب"مسند الفردوس" من حديث ابن عمر وفي إسناده الربيع بن بدر وهو ساقط، ولو ثبت لما أفاد المقصود لأن لفظه: "صمت الصائم تسبيح، ونومه عبادة، ودعاؤه مستجاب" فالحديث مساق في أن أفعال الصائم كلها محبوبة، لا أن الصمت بخصوصه مطلوب. وقد قال الروياني في"البحر" في آخر الصيام: فرع جرت عادة الناس بترك الكلام في رمضان، وليس له أصل في شرعنا بل في شرع من قبلنا، فيخرج جواز ذلك على الخلاف في المسألة انتهى. وليتعجب ممن نسب تخريج مسألة النذر إلى نفسه من المتأخرين، وأما الأحاديث الواردة في الصمت وفضله كحديث: "من صمت نجا" أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث: "أيسر العبادة الصمت" أخرجه ابن أبي الدنيا بسند مرسل رجاله ثقات، إلى غير ذلك، فلا يعارض ما جزم به الشيخ أبو إسحاق من الكراهة لاختلاف المقاصد في ذلك، فالصمت المرغب فيه ترك الكلام الباطل، وكذا المباح إن جر إلى شيء من ذلك، والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه، وكذا المباح المستوي الطرفين والله أعلم. قوله: "إنك" بكسر الكاف. قوله: "لسئول" أي كثيرة السؤال، وهذه الصيغة يستوي فيها المذكر والمؤنث. قوله: "ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح" أي دين الإسلام وما اشتمل عليه من العدل واجتماع الكلمة ونصر المظلوم ووضع كل شيء في محله. قوله: "ما استقامت بكم" في رواية الكشميهني: "لكم". قوله: "أئمتكم" أي لأن الناس على دين ملوكهم، فمن حاد من الأئمة عن الحال مال وأمال. حديث عائشة في قصة المرأة السوداء، لم أقف على اسمها، وذكر عمر بن شبة في طريق له أنها كانت بمكة وأنه لما وقع لها ذلك هاجرت إلى المدينة. قوله: "وكان لها حفش" بكسر المهملة وسكون الفاء بعدها معجمة هو البيت الضيق الصغير. وقال أبو عبيدة: الحفش هو الدرج في الأصل ثم سمي به البيت الصغير لشبهه به في الضيق. قوله: "وازت" أي قابلت، وقد تقدم شرح هذه القصة في أبواب المساجد من كتاب الصلاة، ووجه دخولها هنا من جهة ما كان عليه أهل الجاهلية من الجفاء في الفعل والقول. حديث ابن عمر في النهي عن الحلف بالآباء، وسيأتي شرحه في كتاب الأيمان والنذور. قوله: "أن القاسم" هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق. قوله: "ولا يقوم لها" أي الجنازة. قوله: "كان أهل الجاهلية يقومون لها" ظاهره أن عائشة

(7/151)


لم يبلغها أمر الشارع بالقيام لها، فرأت أن ذلك من الأمور التي كانت في الجاهلية وقد جاء الإسلام بمخالفتهم، وقد قدمت في الجنائز بيان الاختلاف في المسألة وهل نسخ هذا الحكم أم لا؟ وعلى القول بأنه نسخ هل نسخ الوجوب ويقي الاستحباب أم لا؟ أو مطلق الجواز؟ واختار بعض الشافعية الأخير، وأكثر الشافعية الكراهة، وادعى المحاملي فيه الاتفاق، وخالف المتولي فقال: يستحب، واختاره النووي وقال: هذا من جملة الأحكام التي استدركتها عائشة على الصحابة لكن كان جانبهم فيها أرجح. قوله: "كنت في أهلك ما أنت مرتين" أي يقولون ذلك مرتين وما موصولة وبعض الصلة محذوف والتقدير: كنت في أهلك الذي كنت فيه أي الذي أنت فيه الآن كنت في الحياة مثله، لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث بل كانوا يعتقدون أن الروح إذا خرجت تطير طيرا فإن كان ذلك من أهل الخير كان روحه من صالحي الطير إلا فبالعكس، ويحتمل أن يكون قولهم هذا دعاء للميت، ويحتمل أن تكون"ما" نافية ولفظ: "مرتين" من تمام الكلام أي لا تكوني في أهلك مرتين: المرة الواحد التي كنت فيهم انقضت وليست بعائدة إليهم مرة أخرى. ويحتمل أن تكون "ما" استفهامية أي كنت في أهلك شريفة فأي شيء أنت الآن؟ يقولون ذلك حزنا وتأسفا عليه. حديث عمر في قولهم "أشرق ثبير" وقد تقدم شرحه في كتاب الحج مستوفى، وقوله: "حتى تشرق الشمس" قال ابن التين: ضبط بفتح أوله وضم الراء، والمعروف بضم أوله وكسرها. قوله: "حدثكم يحيى بن المهلب" هو البجلي يكنى أبا كدينة بالتصغير والنون، وهو كوفي موثق ماله في البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "ملأى متتابعة" كذا جمع بينهما، وهما قولان لأهل اللغة تقول: أدهقت الكأس إذا ملأتها، وأدهقت له إذا تابعت له السقي، وقيل: أصل الدهق الضغط، والمعنى أنه ملأ اليد بالكأس حتى لم يبق فيها متسع لغيرها. قوله: "قال وقال ابن عباس" القائل هو عكرمة، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "سمعت أبي" هو العباس بن عبد المطلب. قوله: "في الجاهلية" أي وقع سماعي لذلك منه في الجاهلية، والمراد بها جاهلية نسبية لا المطلقة لأن ابن عباس لم يدرك ما قبل البعثة، بل لم يولد إلا بعد البعث بنحو عشر سنين، فكأنه أراد أنه سمع العباس يقول ذلك قبل أن يسلم. قوله: "اسقنا كأسا دهاقا" في رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن حصين عن عكرمة عن ابن عباس"سمعت أبي يقول لغلامه: ادهق لنا، أي املأ لنا، أو تابع لنا" انتهى. وهو بمعنى ما ساقه البخاري. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "عن عبد الملك" هو ابن عمير، ولأحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن الثوري "حدثنا عبد الملك بن عمير". ولمسلم من هذا الوجه عن عبد الملك "حدثنا أبو سلمة"، وله من طريق إسرائيل عن عبد الملك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن "سمعت أبا هريرة". قوله: "أصدق كلمة قالها الشاعر" يحتمل أن يريد بالكلمة البيت الذي ذكر شطره، ويحتمل أن يريد القصيدة كلها، ويؤيد الأول رواية مسلم من طريق شعبة وزائدة فرقهما عن عبد الملك بلفظ: "إن أصدق بيت قاله الشاعر" وليس في رواية شعبة "إن" ووقع عنده في رواية شريك عن عبد الملك بلفظ: "أشعر كلمة تكلمت بها العرب" فلولا أن في حفظ شريك مقالا لرفع هذا اللفظ الإشكال الذي أبداه السهيلي على لفظ رواية الصحيح بلفظ: "أصدق" إذ لا يلزم من لفظ: "أشعر" أن يكون أصدق، نعم السؤال باق في التعبير بوصف كل شيء بالبطلان مع اندراج الطاعات والعبادات في ذلك وهي حق لا محالة، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه بالليل "أنت الحق وقولك الحق والجنة حق والنار حق إلخ" وأجيب عن ذلك بأن المراد بقول الشاعر ما عدا الله أي ما عداه وعدا صفاته الذاتية

(7/152)


والفعلية من رحمته وعذابه وغير ذلك، فلذلك ذكر الجنة والنار، أو المراد في البيت بالبطلان الفناء لا الفساد، فكل شيء سوى الله جائز عليه الفناء لذاته حتى الجنة والنار، وإنما يبقيان بإبقاء الله لهما وخلق الدوام لأهلهما، والحق على الحقيقة من لا يجوز عليه الزوال، ولعل هذا هو السر في إثبات الألف واللام في قوله: "أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق" وحذفهما عند ذكر غيرهما والله أعلم. وفي إيراد البخاري هذا الحديث في هذا الباب تلميح بما وقع لعثمان بن مظعون بسبب هذا البيت مع ناظمه لبيد بن ربيعة قبل إسلامه، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة وقريش في غاية الأذية للمسلمين، فذكر ابن إسحاق عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عمن حدثه عن عثمان بن مظعون أنه "لما رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة دخل مكة في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى المشركين يؤذون المسلمين وهو آمن رد على الوليد جواره، فبينما هو في مجلس لقريش وقد وفد عليهم لبيد بن ربيعة فقعد ينشدهم من شعره فقال لبيد" ألا كل شيء ما خلا الله باطل"فقال عثمان بن مظعون: صدقت، فقال لبيد" وكل نعيم لا محالة زائل" فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول. فقال لبيد: متى كان يؤذي جليسكم يا معشر قريش؟ فقام رجل منهم فلطم عثمان فاخضرت عينه، فلامه الوليد على رد جواره فقال: قد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: إن عيني الأخرى لما أصاب أختها لفقيرة، فقال له الوليد: فعد إلى جوارك، فقال: بل أرضي بجوار الله تعالى. قلت: وقد أسلم لبيد بعد ذلك، وهو ابن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر العامري ثم الكلابي ثم الجعفري، يكنى أبا عقيل. وذكره في الصحابة البخاري وابن أبي خيثمة وغيرهما. وقال لعمر لما سأله عما قاله من الشعر في الإسلام: قد أبدلني الله بالشعر سورة البقرة. ثم سكن الكوفة ومات بها في خلافة عثمان، وعاش مائة وخمسين سنة وقيل: أكثر، وهو القائل:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس: كيف لبيد؟
وهذا يعكر على من قال إنه لم يقل شعرا منذ أسلم، إلا أن يريد القطع المطولة لا البيت والبيتين. والله أعلم. قوله: "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" اسم أبي الصلت ربيعة بن عوف بن عقدة بن غيرة - بكسر المعجمة وفتح التحتانية - ابن عوف بن ثقيف الثقفي، وقيل في نسبه غير ذلك، أبو عثمان. كان ممن طلب الدين ونظر في الكتب ويقال إنه ممن دخل في النصرانية، وأكثر في شعره من ذكر التوحيد والبعث يوم القيامة، وزعم الكلاباذي أنه كان يهوديا. وروى الطبراني من حديث معاوية بن أبي سفيان عن أبيه أنه سافر مع أمية، فذكر قصته وأنه سأله عن عتبة بن ربيعة وعن سنه ورياسته فأعلمه أنه متصف بذلك فقال: أزرى به ذلك، فغضب أبو سفيان، فأخبره أمية أنه نظر في الكتب أن نبيا يبعث من العرب أظل زمانه، قال: فرجوت أن أكونه قال: ثم نظرت فإذا هو من بني عبد مناف، فنظرت فيهم فلم أر مثل عتبة، فلما قلت لي إنه رئيس وإنه جاوز الأربعين عرفت أنه ليس هو، قال أبو سفيان: فما مضت الأيام حتى ظهر محمد صلى الله عليه وسلم فقلت لأمية، قال: نعم إنه لهو، قلت أفلا نتبعه؟ قال: أستحيي من نسيات ثقيف، إني كنت أقول لهن إنني أنا هو ثم أصير تابعا لغلام من بني عبد مناف. وذكر أبو الفرج الأصبهاني أنه قال عند موته: أنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد. وروى الفاكهي وابن منده من حديث ابن عباس "أن الفارعة بنت أبي الصلت أخت أمية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فأنشدته من شعره فقال:

(7/153)


آمن شعره وكفر قلبه" وروى مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: "ردفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل معك من شعر أمية؟ قلت: نعم، فأنشدته مائة بيت، فقال: لقد كاد أن يسلم في شعره " وروى ابن مردويه بإسناد قوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} قال: نزلت في أمية بن أم الصلت. وروي من أوجه أخرى أنها نزلت في بلعام الإسرائيلي وهو المشهور. وعاش أمية حتى أدرك وقعة بدر ورثى من قتل بها من الكفار كما سيأتي من ذلك في أبواب الهجرة، ومات أمية بعد ذلك سنة تسع، وقيل: مات سنة اثنتين ذكره سبط ابن الجوزي، واعتمد في ذلك ما نقله عن ابن هشام: أن أمية قدم من الشام على أن يأخذ ماله من الطائف ويهاجر إلى المدينة، فنزل في طريقه ببدر، قيل له: أتدري من في القليب؟ قال لا، قيل: فيه عتبة وشيبة وهما ابنا خالك وفلان وفلان، فشق ثيابه وجدع ناقته وبكى ورجع إلى الطائف فمات بها. قلت: ولا يلزم من قوله فمات بها أن يكون مات في تلك السنة. وأغرب الكلاباذي فقال: إنه مات في حصار الطائف. فإن كان محفوظا فذلك سنة ثمان، ولموته قصة طويلة أخرجها البخاري في تاريخه والطبراني وغيرهما. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وأخوه أبو بكر عبد الحميد، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، والإسناد كله مدنيون، وفيه رواية القرين عن القرين ورواية الأكبر سنا عن الأصغر منه يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم، وقد أخرجه البيهقي في "الشعب" من طريق جعفر الفريابي عن أحمد بن محمد المقدمي عن إسماعيل بن أبي أويس بهذا السند، لكن قال فيه عن عبيد بن عمر بدل عبد الرحمن بن القاسم، فلعل ليحيى بن سعيد فيه شيخين. قوله: "كان لأبي بكر غلام" لم أقف على اسمه، ووقع لأبي بكر مع النعيمان بن عمرو أحد الأحرار من الصحابة قصة ذكرها عبد الرزاق بإسناد صحيح" أنهم نزلوا بماء، فجعل النعيمان يقول لهم: يكون كذا، فيأتونه بالطعام فيرسله إلى أصحابه. فبلغ أبا بكر فقال: أراني آكل كهانة النعيمان منذ اليوم، ثم أدخل يده في حلقه فاستقاءه "وفي" الورع لأحمد "عن إسماعيل عن أيوب عن ابن سيرين" لم أعلم أحدا استقاء من طعام غير أبي بكر فإنه أتي بطعام فأكل ثم قيل له جاء به ابن النعيمان، قال فأطعمتموني كهانة ابن النعيمان، ثم استقاء" ورجاله ثقات لكنه مرسل، ولأبي بكر قصة أخرى في نحو هذا أخرجها يعقوب بن أبي شيبة في مسنده من طريق نبيح العنزي عن أبي سعيد قال: "كنا ننزل رفاقا، فنزلت في رفقه فيها أبو بكر على أهل أبيات فيهن امرأة حبلى ومعنا رجل، فقال لها: أبشرك أن تلدي ذكرا، قالت نعم، فسجع لها أسجاعا. فأعطته شاة فذبحها وجلسنا نأكل، فلما علم أبو بكر بالقصة قام فتقايأ كل شيء أكله". قوله: "يخرج له الخراج" أي يأتيه بما يكسبه، والخراج ما يقرره السيد على عبده من مال يحضره له من كسبه. قوله: "يأكل من خراجه" في رواية الإسماعيلي من وجه آخر من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم"كان لأبي بكر غلام، فكان يجيء بكسبه فلا يأكل منه حتى يسأله، فأتاه ليلة بكسبه فأكل منه ولم يسأله، ثم سأله". قوله: "كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية" لم أعرف اسمه ويحتمل أن يكون المرأة المذكورة في حديث أبي سعيد. قوله: "فأعطاني بذلك" أي عوض تكهني له، قال ابن التين: إنما استقاء أبو بكر تنزها لأن أمر الجاهلية وضع ولو كان في الإسلام لغرم مثل ما أكل أو قيمته ولم يكفه القيء، كذا قال، والذي يظهر أن أبا بكر إنما قاء لما ثبت عنده من النهي عن حلوان الكاهن، وحلوان الكاهن ما يأخذه على كهانته، والكاهن من يخبر بما سيكون عن غير دليل شرعي، وكان ذلك قد كثر في الجاهلية خصوصا قبل ظهور

(7/154)


النبي صلى الله عليه وسلم.الحديث الثاني عشر حديث ابن عمر في حبل الحبلة، وقد تقدم شرحه مستوفى في البيوع، والغرض منه قوله: "إنهم كانوا يتبايعونه في الجاهلية". حديث أنس الذي تقدم في أول مناقب الأنصار، وأدخله هنا لقوله: "فعل قومك كذا يوم كذا" لأنه يحتمل أن يشير به إلى وقائعهم في الجاهلية كما يحتمل أن يشير به إلى وقائعهم في الإسلام أو لما هو أعم من ذلك، وخاطب أنس غيلان بأن الأنصار قومه، وليس هو من الأنصار، لكن ذلك باعتبار النسبية الأعمية إلى الأزد فإنها تجمعهم، والله أعلم.

(7/155)


27- باب الْقَسَامَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
3845- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا قَطَنٌ أَبُو الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ الْمَدَنِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ إِنَّ أَوَّلَ قَسَامَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَفِينَا بَنِي هَاشِمٍ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ فَخِذٍ أُخْرَى فَانْطَلَقَ مَعَهُ فِي إِبِلِهِ فَمَرَّ رَجُلٌ بِهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ قَدْ انْقَطَعَتْ عُرْوَةُ جُوَالِقِهِ فَقَالَ أَغِثْنِي بِعِقَالٍ أَشُدُّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِي لاَ تَنْفِرُ الإِبِلُ فَأَعْطَاهُ عِقَالًا فَشَدَّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِهِ فَلَمَّا نَزَلُوا عُقِلَتْ الإِبِلُ إِلاَّ بَعِيرًا وَاحِدًا فَقَالَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ مَا شَأْنُ هَذَا الْبَعِيرِ لَمْ يُعْقَلْ مِنْ بَيْنِ الإِبِلِ قَالَ لَيْسَ لَهُ عِقَالٌ قَالَ فَأَيْنَ عِقَالُهُ قَالَ فَحَذَفَهُ بِعَصًا كَانَ فِيهَا أَجَلُهُ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ أَتَشْهَدُ الْمَوْسِمَ قَالَ مَا أَشْهَدُ وَرُبَّمَا شَهِدْتُهُ قَالَ هَلْ أَنْتَ مُبْلِغٌ عَنِّي رِسَالَةً مَرَّةً مِنْ الدَّهْرِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَكَتَبَ إِذَا أَنْتَ شَهِدْتَ الْمَوْسِمَ فَنَادِ يَا آلَ قُرَيْشٍ فَإِذَا أَجَابُوكَ فَنَادِ يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَسَلْ عَنْ أَبِي طَالِبٍ فَأَخْبِرْهُ أَنَّ فُلاَنًا قَتَلَنِي فِي عِقَالٍ وَمَاتَ الْمُسْتَأْجَرُ فَلَمَّا قَدِمَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ أَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ مَا فَعَلَ صَاحِبُنَا قَالَ مَرِضَ فَأَحْسَنْتُ الْقِيَامَ عَلَيْهِ فَوَلِيتُ دَفْنَهُ قَالَ قَدْ كَانَ أَهْلَ ذَاكَ مِنْكَ فَمَكُثَ حِينًا ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ يُبْلِغَ عَنْهُ وَافَى الْمَوْسِمَ فَقَالَ يَا آلَ قُرَيْشٍ قَالُوا هَذِهِ قُرَيْشٌ قَالَ يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ قَالُوا هَذِهِ بَنُو هَاشِمٍ قَالَ أَيْنَ أَبُو طَالِبٍ قَالُوا هَذَا أَبُو طَالِبٍ قَالَ أَمَرَنِي فُلاَنٌ أَنْ أُبْلِغَكَ رِسَالَةً أَنَّ فُلاَنًا قَتَلَهُ فِي عِقَالٍ فَأَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ اخْتَرْ مِنَّا إِحْدَى ثَلاَثٍ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَدِّيَ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ فَإِنَّكَ قَتَلْتَ صَاحِبَنَا وَإِنْ شِئْتَ حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْ قَوْمِكَ إِنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ فَإِنْ أَبَيْتَ قَتَلْنَاكَ بِهِ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالُوا نَحْلِفُ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ وَلَدَتْ لَهُ فَقَالَتْ يَا أَبَا طَالِبٍ أُحِبُّ أَنْ تُجِيزَ ابْنِي هَذَا بِرَجُلٍ مِنْ الْخَمْسِينَ وَلاَ تُصْبِرْ يَمِينَهُ حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ فَفَعَلَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَرَدْتَ خَمْسِينَ رَجُلًا أَنْ يَحْلِفُوا مَكَانَ مِائَةٍ مِنْ الإِبِلِ يُصِيبُ كُلَّ رَجُلٍ بَعِيرَانِ هَذَانِ بَعِيرَانِ فَاقْبَلْهُمَا عَنِّي

(7/155)


وَلاَ تُصْبِرْ يَمِينِي حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ فَقَبِلَهُمَا وَجَاءَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَحَلَفُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنْ الثَّمَانِيَةِ وَأَرْبَعِينَ عَيْنٌ تَطْرِفُ"
3846- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِّلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وَجُرِّحُوا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُخُولِهِمْ فِي الإِسْلاَمِ"
3847- وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ أَنَّ كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "لَيْسَ السَّعْيُ بِبَطْنِ الْوَادِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سُنَّةً إِنَّمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْعَوْنَهَا وَيَقُولُونَ لاَ نُجِيزُ الْبَطْحَاءَ إِلاَّ شَدًّا"
3848- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ سَمِعْتُ أَبَا السَّفَرِ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا مِنِّي مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأَسْمِعُونِي مَا تَقُولُونَ وَلاَ تَذْهَبُوا فَتَقُولُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَلْيَطُفْ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ وَلاَ تَقُولُوا الْحَطِيمُ فَإِنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ يَحْلِفُ فَيُلْقِي سَوْطَهُ أَوْ نَعْلَهُ أَوْ قَوْسَهُ"
3849- حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ "رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ"
3850- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "خِلاَلٌ مِنْ خِلاَلِ الْجَاهِلِيَّةِ الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ وَنَسِيَ الثَّالِثَةَ قَالَ سُفْيَانُ وَيَقُولُونَ إِنَّهَا الِاسْتِسْقَاءُ بِالأَنْوَاءِ"
الحديث الرابع عشر حديث القسامة في الجاهلية بطوله، وثبت عند أكثر الرواة عن الفربري هنا ترجمة "القسامة في الجاهلية"، ولم يقع عند النسفي وهو أوجه، لأن الجميع من ترجمة أيام الجاهلية، ويظهر ذلك من الأحاديث التي أوردها تلو هذا الحديث. قوله: "حدثنا قطن" بفتح القاف والمهملة ثم نون هو ابن كعب القطعي بضم القاف البصري، ثقة عندهم، وشيخه أبو يزيد المدني بصري أيضا ويقال له المديني بزيادة تحتانية، ولعل أصله كان من المدينة، ولكن لم يرو عنه أحد من أهل المدينة، وسئل عنه مالك فلم يعرفه ولا يعرف اسمه وقد وثقه ابن معين وغيره، ولا له ولا للراوي عنه في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: "إن أول قسامة" بفتح القاف وتخفيف المهملة اليمين، وهي في عرف الشرع حلف معين عند التهمة بالقتل على الإثبات أو النفي. وقيل: هي مأخوذة من قسمة الأيمان على الحالفين.

(7/156)


وسيأتي بيان الاختلاف في حكمها في كتاب الديات إن شاء الله تعالى. وقوله: "لفينا بني هاشم" اللام للتأكيد وبني هاشم مجرور على البدل من الضمير المجرور. ويحتمل أن يكون نصبا على التمييز، أو على النداء بحذف الأداة. قوله: "كان رجل من بني هاشم" هو عمرو بن علقمة بن المطلب بن عبد مناف، جزم بذلك الزبير بن بكار في هذه القصة فكأنه نسب هذه الرواية إلى بني هاشم مجازا لما كان بين بني هاشم وبني المطلب من المودة والمؤاخاة والمناصرة، وسماه ابن الكلبي عامرا. قوله: "استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى" كذا في رواية الأصيلي وأبي ذر، وكذا أخرجه الفاكهي من وجه آخر عن أبي معمر شيخ البخاري فيه. وفي رواية كريمة وغيرها "استأجر رجلا من قريش" وهو مقلوب، والأول هو الصواب. والفخذ بكسر المعجمة وقد تسكن. وجزم الزبير بن بكار بأن استأجر المذكور هو خداش - بمعجمتين ودال مهملة - ابن عبد الله بن أبي قيس العامري. قوله: "فمر به" أي بالأجير "رجل من بني هاشم" لم أقف على اسمه. وقوله: "عروة جوالقه" بضم الجيم وفتح اللام الوعاء من جلود وثياب وغيرها، فارسي معرب، وأصله كواله: وجمعه جواليق وحكي جوالق بحذف التحتانية، والعقال الحبل. قوله: "فأين عقاله؟ قال فحذفه" كذا في النسخ وفيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد بينته رواية الفاكهي" فقال مر بي رجل من بني هاشم قد انقطع عروة: جوالقه، واستغاث بي فأعطيته، فحذفه" أي رماه. قوله: "كان فيها أجله" أي أصاب مقتله. وقوله: "فمات" أي أشرف على الموت، بدليل قوله: "فمر به رجل من أهل اليمن قبل أن يقضي1 ولم أقف على اسم هذا المار أيضا. قوله: "أتشهد الموسم" أي موسم الحج. قوله: "فكتب" بالمثناة ثم الموحدة ولغير أبي ذر والأصيلي بضم الكاف وسكون النون ثم المثناة والأول أوجه. وفي رواية الزبير بن بكار" فكتب إلى أبي طالب يخبره بذلك ومات منها" وفي ذلك يقول أبو طالب:
أفي فضل حبل لا أبالك ضربه ... بمنسأة، قد جاء حبل أو أحبل
قوله: "يا آل قريش" بإثبات الهمزة وبحذفها على الاستغاثة. قوله: "قتلني في عقال" أي بسبب عقال. قوله: "ومات المستأجر" بفتح الجيم أي بعد أن أوصى اليماني بما أوصاه به. قوله: "فوليت" بكسر اللام. وفي رواية ابن الكلبي" فقال أصابه قدره، فصدقوه ولم يظنوا به غير ذلك" وقوله: "وافى الموسم أي أتاه". قوله: "يا بني هاشم" في رواية الكشميهني: "يا آل بني هاشم". قوله: "من أبو طالب" في رواية الكشميهني: "أين أبو طالب" زاد ابن الكلبي" فأخبره بالقصة وخداش يطوف بالبيت لا يعلم بما كان، فقام رجال من بني هاشم إلى خداش فضربوه وقالوا: قتلت صاحبنا، فجحد". قوله: "اختر منا إحدى ثلاث" يحتمل أن تكون هذه الثلاث كانت معروفة بينهم، ويحتمل أن تكون شيئا اخترعه أبو طالب. وقال ابن التين: لم ينقل أنهم تشاوروا في ذلك ولا تدافعوا فدل على أنهم كانوا يعرفون القسامة قبل ذلك. كذا قال، وفيه نظر، لقول ابن عباس راوي الحديث: "أنها أول قسامة" ويمكن أن يكون مراد ابن عباس الوقوع وإن كانوا يعرفون الحكم قبل ذلك. وحكى الزبير بن بكار أنهم تحاكموا في ذلك إلى الوليد بن المغيرة فقضى أن يحلف خمسون رجلا من بني عامر عند البيت ما قتله خداش، وهذا
ـــــــ
1 قوله "فمات" ثم قوله "قبل أن يقضى" ليس في نسخ الصحيح.

(7/157)


يشعر بالأولية مطلقا. قوله: "فأتته امرأة من بني هاشم" هي زينب بنت علقمة أخت المقتول "كانت تحت رجل منهم" هو عبد العزى بن أبي قيس العامري، واسم ولدها منه حويطب بمهملتين مصغر، وذكر ذلك الزبير. وقد عاش حويطب بعد هذا دهرا طويلا، وله صحبة، وسيأتي حديثه في كتاب الأحكام. ونسبتها إلى بني هاشم مجازية والتقدير كانت زوجا لرجل من بني هاشم. ويحتمل قولها فولدت له ولدا أي غير حويطب. قوله: "أن تجيز ابني" بالجيم والزاي، أي تهبه ما يلزمه من اليمين. وقولها: "ولا تصبر يمينه" بالمهملة ثم الموحدة، أصل الصبر الحبس والمنع، ومعناه في الأيمان الإلزام، تقول صبرته أي ألزمته أن يحلف بأعظم الأيمان حتى لا يسعه أن لا يحلف. قوله: "حيث تصبر الأيمان" أي بين الركن والمقام، قاله ابن التين. قال: ومن هنا استدل الشافعي على أنه لا يحلف بين الركن والمقام على أقل من عشرين دينارا نصاب الزكاة، كذا قال، ولا أدري كيف يستقيم هذا الاستدلال، ولم يذكر أحد من أصحاب الشافعي أن الشافعي استدل لذلك بهذه القصة. قوله: "فأتاه رجل منهم" لم أقف على اسمه ولا على اسم أحد من سائر الخمسين إلا من تقدم، وزاد ابن الكلبي" ثم حلفوا عند الركن أن خداشا بريء من دم للمقتول". قوله: "فو الذي نفسي بيده" قال ابن التين: كأن الذي أخبر ابن عباس بذلك جماعة اطمأنت نفسه إلى صدقهم حتى وسعه أن يحلف على ذلك. قلت: يعني أنه كان حين القسامة لم يولد، ويحتمل أن يكون الذي أخبره بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أمكن في دخول هذا الحديث في الصحيح. قوله: "فما حال الحول" أي من يوم حلفوا. قوله: "ومن الثمانية وأربعين" في رواية أبي ذر "وفي الثمانية" وعند الأصيلي: "والأربعين" قوله: "عين تطرف" بكسر الراء أي تتحرك. زاد ابن الكلبي "وصارت رباع الجميع لحويطب، فبذلك كان أكثر من بمكة رباعا". وروى الفاكهي من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه قال: "حلف ناس عند البيت قسامة على باطل، ثم خرجوا فنزلوا تحت صخرة فانهدمت عليهم" ومن طريق طاوس قال: "كان أهل الجاهلية لا يصيبون في الحرم شيئا إلا عجلت لهم عقوبته" ومن طريق حويطب إن أمة في الجاهلية عاذت بالبيت. فجاءتها سيدتها فجبذتها فشلت يدها" وروينا في" كتاب مجابي الدعوة لابن أبي الدنيا" في قصة طويلة في معنى سرعة الإجابة بالحرم للمظلوم فيمن ظلمه قال: "فقال عمر: كان يفعل بهم ذلك في الجاهلية ليتناهوا عن الظلم لأنهم كانوا لا يعرفون البعث، فلما جاء الإسلام أخر القصاص إلى يوم القيامة" وروى الفاكهي من وجه آخر عن طاوس قال: "يوشك أن لا يصيب أحد في الحرم شيئا إلا عجلت له العقوبة" فكأنه أشار إلى أن ذلك يكون في آخر الزمان عند قبض العلم وتناسى أهل ذلك الزمان أمور الشريعة فيعود الأمر غريبا كما بدأ، والله أعلم. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة. قوله: "يوم بعاث" تقدم شرحه في أول مناقب الأنصار وأنه كان قبل البعث على الراجح، وقوله فيه: "وجرحوا" بالجيم المضمومة ثم الحاء المهملة، ولبعضهم" وخرجوا" بفتح المعجمة وتخفيف الراء بعدها جيم، والأول أرجح، وقد تقدم من تسمية من جرح منهم في تلك الوقعة حضير الكتائب والد أسيد فمات منها. قوله: "قال ابن وهب إلخ" وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق حرملة بن يحيى عن عبد الله بن وهب. قوله: "ليس السعي" أي شدة المشي. قوله: "سنة" في رواية الكشميهني: "بسنة" قال ابن التين خولف ابن عباس في ذلك بل قالوا إنه فريضة. قلت: لم يرد ابن عباس أصل السعي، وإنما أراد شدة العدو، وليس ذلك فريضة. وقد تقدم في أحاديث الأنبياء في ترجمة إبراهيم عليه السلام في قصة هاجر أن مبدأ السعي بين الصفا والمروة كان من

(7/158)


هاجر، وهو من رواية ابن عباس أيضا، فظهر أن الذي أراد أن مبدأه من أهل الجاهلية هي شدة العدو. نعم قوله: "ليس بسنة" إن أراد به أنه لا يستحب فهو يخالف ما عليه الجمهور، وهو نظير إنكاره استحباب الرمل في الطواف. ويحتمل أن يريد بالسنة الطريقة الشرعية وهي تطلق كثيرا على المفروض، ولم يرد السنة باصطلاح أهل الأصول، وهو ما ثبت دليل مطلوبيته من غير تأثيم تاركه. قوله: "لا نجيز" بضم أوله أي لا نقطع. والبطحاء مسيل الوادي، تقول جزت الموضع إذا سرت فيه، وأجزته إذا خلفته وراءك. وقيل: هما بمعنى. وقوله: إلا شدا أي لا نقطعها إلا بالعدو الشديد. قوله: "أخبرنا مطرف" بالمهملة وتشديد الراء هو ابن طريف بالمهملة أيضا الكوفي، وأبو السفر بفتح المهملة والفاء هو سعيد بن يحمد بالتحتانية المضمومة والمهملة الساكنة كوفي أيضا. قوله: "يا أيها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم وأسمعوني" بهمزة قطع أي أعيدوا علي قولي لأعرف أنكم حفظتموه، كأنه خشي أن لا يفهموا ما أراد فيخبروا عنه بخلاف ما قال، فكأنه قال: اسمعوا مني سماع ضبط وإتقان، ولا تقولوا" قال: "من قبل أن تضبطوا. قوله: "من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر" في رواية ابن أبي عمر عن سفيان" وراء الجدر" والمراد به الحجر، والسبب فيه أن الذي يلي البيت إلى جهة الحجر من البيت، وقد تقدم بيانه وما قيل في مقداره في أوائل كتاب الحج. قوله: "ولا تقولوا الحطيم" في رواية سعيد بن منصور عن خديج بن معاوية عن أبي إسحاق عن أبي السفر في هذه القصة" فقال رجل: ما الحطيم؟ فقال ابن عباس: إنه لا حطيم، كان الرجل إلخ" زاد أبو نعيم في "المستخرج" من طريق خالد الطحان عن مطرف" فإن أهل الجاهلية كانوا يسمونه - أي الحجر - الحطيم، كانت فيه أصنام قريش" وللفاكهي من طريق يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر نحوه وقال: "كان أحدهم إذا أراد أن يحلف وضع محجنه ثم حلف، فمن طاف فليطف من ورائه". قوله: "كان يحلف" بالحاء المهملة الساكنة وتخفيف اللام المكسورة. وفي رواية خالد الطحان المذكورة" كان إذا حلف" بضم المهملة وتشديد اللام والأول أوجه، والمعنى أنهم كانوا إذا حالف بعضهم بعضا ألقى الحليف في الحجر نعلا أو سوطا أو قوسا أو عصا علامة لقصد حلفهم فسموه الحطيم لذلك، لكونه يحطم أمتعتهم، وهو فعيل بمعنى فاعل، ويحتمل أن يكون ذلك كان شأنهم إذا أرادوا أن يحلفوا على نفي شيء، وقيل: إنما سمي الحطيم لأن بعضهم كان إذا دعا على من ظلمه في ذلك الموضع هلك. وقال ابن الكلبي: سمي الحجر حطيما لما تحجر عليه، أو لأنه قصر به عن ارتفاع البيت وأخرج عنه، فعلى هذا فعيل بمعنى مفعول، أو لأن الناس يحطم فيه بعضهم بعضا من الزحام عند الدعاء فيه. وقال غيره: الحطيم هو بئر الكعبة التي كان يلقى فيها ما يهدى لها. وقيل: بين الركن الأسود والمقام. وقيل: من أول الركن الأسود إلى أول الحجر يسمى الحطيم. وحديث ابن عباس حجة في رد أكثر هذه الأقوال، زاد في رواية خديج" ولكنه الجدر" بفتح الجيم وسكون المهملة، وهو من البيت. ووقع عند الإسماعيلي والبرقاني في آخر الحديث عن ابن عباس "وأيما صبي حج به أهله فقد قضى حجه ما دام صغيرا، فإذا بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج به أهله" الحديث، وهذه الزيادة عند البخاري أيضا في غير الصحيح، وحذفها منه عمدا لعدم تعلقها بالترجمة ولكونها موقوفة، وأما أول الحديث فهو وإن كان موقوفا من حديث ابن عباس إلا أن الغرض منه حاصل بالنسب لنقل ابن عباس ما كان في الجاهلية مما رآه النبي صلى الله عليه وسلم فأقره أو أزاله، فمهما لم ينكره واستمرت مشروعيته فيكون له حكم المرفوع، ومهما أنكره فالشرع بخلافه.الحديث الثامن عشر

(7/159)


قوله: "حدثنا نعيم بن حماد" في رواية بعضهم حدثنا نعيم غير منسوب، وهو المروزي نزيل مصر، وقل أن يخرج له البخاري موصولا بل عادته أن يذكر عنه بصيغة التعليق. ووقع في رواية القابسي "حدثنا أبو نعيم" وصوبه بعضهم وهو غلط. قوله: "عن حصين" في رواية البخاري في"التاريخ" في هذا الحديث: "حدثنا حصين" فأمن بذلك ما يخشى من تدليس هشيم الراوي عنه، وقرن فيه أيضا مع حصين أبا المليح. قوله: "رأيت في الجاهلية قردة" بكسر القاف وسكون الراء واحدة القرود، وقوله: "اجتمع عليها قردة" بفتح الراء جمع قرد، وقد ساق الإسماعيلي هذه القصة من وجه آخر مطولة من طريق عيسى بن حطان عن عمرو بن ميمون قال: "كنت في اليمن في غنم لأهلي وأنا على شرف، فجاء قرد من قردة فتوسد يدها، فجاء قرد أصغر منه فغمزها، فسلت يدها من تحت رأس القرد الأول سلا رفيقا وتبعته، فوقع عليها وأنا أنظر، ثم رجعت فجعلت تدخل يدها تحت خد الأول برفق، فاستيقظ فزعا، فشمها فصاح، فاجتمعت القرود، فجعل يصيح ويومئ إليها بيده، فذهب القرود يمنة ويسرة، فجاءوا بذلك القرد أعرفه، فحفروا لهما حفرة فرجموهما، فلقد رأيت الرجم في غير بني آدم" قال ابن التين: لعل هؤلاء كانوا من نسل الذين مسخوا فبقي فيهم ذلك الحكم. ثم قال: أن الممسوخ لا ينسل قلت: وهذا هو المعتمد، لما ثبت في صحيح مسلم: "أن الممسوخ لا نسل له" وعنده من حديث ابن مسعود مرفوعا: "إن الله لم يهلك قوما فيجعل لهم نسلا" وقد ذهب أبو إسحاق الزجاج وأبو بكر بن العربي إلى أن الموجود من القردة من نسل الممسوخ، وهو مذهب شاذ اعتمد من ذهب إليه ما ثبت أيضا في صحيح مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بالضب قال: لعله من القرون التي مسخت " وقال في الفأر" فقدت أمة من بني إسرائيل لا أراها إلا الفأر " وأجاب الجمهور عن ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يوحى إليه بحقيقة الأمر في ذلك، ولذلك لم يأت الجزم عنه بشيء من ذلك، بخلاف النفي فإنه جزم به كما في حديث ابن مسعود، ولكن لا يلزم أن تكون القرود المذكورة من النسل، فيحتمل أن يكون الذين مسخوا لما صاروا على هيئة القردة مع بقاء أفهامهم عاشرتهم القردة الأصلية للمشابهة في الشكل فتلقوا عنهم بعض ما شاهدوه من أفعالهم فحفظوها وصارت فيهم، واختص القرد بذلك لما فيه من الفطنة الزائدة على غيره من الحيوان وقابلية التعليم لكل صناعة مما ليس لأكثر الحيوان، ومن خصاله أنه يضحك ويطرب ويحكي ما يراه، وفيه من شدة الغيرة ما يوازي الآدمي ولا يتعدى أحدهم إلى غير زوجته، فلا يدع في الغالب أن يحملها ما ركب فيها من غيرة على عقوبة من اعتدى إلى ما لم يختص به من الأنثى، ومن خصائصه أن الأنثى تحمل أولادها كهيئة الآدمية، وربما مشى القرد على رجليه لكن لا يستمر على ذلك، ويتناول الشيء بيده ويأكل بيده، وله أصابع مفصلة إلى أنامل وأظفار، ولشفر عينيه أهداب. وقد استنكر ابن عبد البر قصة عمرو بن ميمون هذه وقال: فيها إضافة الزنا إلى غير مكلف وإقامة الحد على البهائم وهذا منكر عند أهل العلم، قال: فإن كانت الطريق صحيحة فلعل هؤلاء كانوا من الجن لأنهم من جملة المكلفين، وإنما قال ذلك لأنه تكلم على الطريق التي أخرجها الإسماعيلي حسب، وأجيب بأنه لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم أن يكون ذلك زنا حقيقة ولا حدا، وإنما أطلق ذلك عليه لشبهه به، فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان. وأغرب الحميدي في الجمع بين الصحيحين فزعم أن هذا الحديث وقع في بعض نسخ البخاري، وأن أبا مسعود وحده ذكره في "الأطراف" قال: وليس في نسخ البخاري أصلا فلعله من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري. وما قاله مردود، فإن الحديث المذكور في معظم الأصول التي وقفنا عليها،

(7/160)


وكفى بإيراد أبي ذر الحافظ له عن شيوخه الثلاثة الأئمة المتقنين عن الفربري حجة، وكذا إيراد الإسماعيلي وأبي نعيم في مستخرجيهما وأبي مسعود له في أطرافه، نعم سقط من رواية النسفي وكذا الحديث الذي بعده، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون في رواية الفربري، فإن روايته تزيد على رواية النسفي عدة أحاديث قد نبهت على كثير منها فيما مضى وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأما تجويزه أن يزاد في صحيح البخاري ما ليس منه فهذا ينافي ما عليه العلماء من الحكم بتصحيح جميع ما أورده البخاري في كتابه، ومن اتفاقهم على أنه مقطوع بنسبته إليه، وهذا الذي قاله تخيل فاسد يتطرق منه عدم الوثوق بجميع ما في الصحيح، لأنه إذا جاز في واحد لا بعينه جاز في كل فرد فرد، فلا يبقى لأحد الوثوق بما في الكتاب المذكور، واتفاق العلماء ينافي ذلك، والطريق التي أخرجها البخاري دافعة لتضعيف ابن عبد البر للطريق التي أخرجها الإسماعيلي، وقد أطنبت في هذا الموضع لئلا يغتر ضعيف بكلام الحميدي فيعتمده، وهو ظاهر الفساد، وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في "كتاب الخيل" له من طريق الأوزاعي أن مهرا أنزي على أمه فامتنع، فأدخلت في بيت وجللت بكساء وأنزي عليها فنزى، فلما شم ريح أمه عمد إلى ذكره فقطعه بأسنانه من أصله، فإذا كان هذا الفهم في الخيل مع كونها أبعد في الفطنة من القرد فجوازها في القرد أولى. قوله: "عن عبيد الله" بالتصغير وهو ابن أبي يزيد المكي. قوله: "عن ابن عباس"1 في نسخة أنس وهو غلط. قوله: "خلال من خلال الجاهلية" أي من خصال. قوله: "الطعن في الأنساب" أي القدح من بعض الناس في نسب بعض بغير علم. قوله: "والنياحة" أي على الميت، وقد تقدم ذكر حكمها في كتاب الجنائز في" باب ما يكره من النياحة على الميت" وقد تقدم هناك الكلام على حديث أنس" ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". قوله: "ونسي الثالثة" وقع في رواية ابن أبي عمر عن سفيان" ونسي عبيد الله الثالثة" فعين الناسي أخرجه الإسماعيلي. قوله: "ويقولون إنها الاستسقاء بالأنواء" أي يقولون: مطرنا بنوء كذا، وقد تقدم شرح ذلك في كتاب الاستسقاء، ووقع عند أبي نعيم من رواية شريح بن يونس عن سفيان مدرجا ولفظه: "والأنواء" ولم يقل" ونسي إلخ" ومن رواية عبد الجبار بن العلاء عن سفيان بدل قوله: ونسي الثالثة" والتفاخر بالأحساب" وهو وهم منهما، لما بينته رواية ابن أبي عمر، وعلي شيخ البخاري فيه هو ابن المديني، وقد جاء من حديث أنس ذكر هذه الثلاثة، وهي الطعن والنياحة والاستسقاء أخرجه أبو يعلى بإسناد قوي، وجاء عن ابن عباس من وجه آخر ذكر فيه الخصال الأربع أخرجه ابن عدي من طريق عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عنه، والمحفوظ في هذا ما أخرجه مسلم وابن حبان وغيرهما من طريق أبان بن يزيد وغيره عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن أبي سلام عن أبي مالك الأشعري مرفوعا بلفظ: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالأنواء؛ والنياحة".
"خاتمة": اشتملت أحاديث المناقب وما اتصل بها من ذكر بعض ما وقع قبل البعث من الأحاديث المرفوعة على مائتي حديث وثلاثة وثلاثين حديثا، المعلق منها ثلاثة وثلاثون طريقا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى
ـــــــ
1 الذي في نسخ الصحيح سمع بن عباس

(7/161)


مائة وثمانية وثلاثون حديثا والخالص خمسة وتسعون حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عائشة" كان أبو بكر في الغار" وحديث ابن عباس فيه، وحديث أبي سعيد فيه، وحديث ابن عمر "كنا نخير" وحديث ابن الزبير "لو كنت متخذا خليلا" وحديث ابن عمار "وما معه إلا خمسة" وحديث أبي الدرداء" قد غامر"، وحديث عائشة في طرف من حديث السقيفة، وحديث علي "خير الناس"، وحديث عبد الله بن عمرو "أشد ما صنع المشركون"، وحديث ابن مسعود "ما زلنا أعزة" وحديث ابن عمر في شأن عمر، وحديث عبد الله بن هشام فيه، وحديث عثمان "ما بايعت"، وحديث علي "اقضوا كما كنتم تقضون"، وحديث أبي هريرة في جعفر، وحديث ابن عمر فيه، وحديث أبي بكر "ارقبوا" وحديثه "لقرابة رسول الله أحب إلي"، وحديث عثمان في الزبير، وحديث ابن عباس فيه، وحديث الزبير في اليرموك، وحديث طلحة وسعد، وحديث مس يد طلحة، وحديث سعد في إسلامه، وحديث ابن عمر في ابن أسامة، وحديث أسامة"إني أحبهما"، وحديث أنس في الحسين، وحديثه في الحسن، وحديث ابن عمر فيهما، وحديث عمر في بلال، وحديث حذيفة في ابن مسعود، وحديث معاوية في الوتر، وحديث ابن عباس في عائشة، وحديث عمار فيها، وحديث أنس في الأنصار، وحديث زيد بن أرقم فيهم، وحديث سعد في عبد الله بن سلام، وحديث ابن سلام مع أبي بردة، وحديث ابن عمر، وحديث ابن عمر في زيد بن عمرو، وحديث أسماء فيه، وحديث ابن الزبير في بناء المسجد الحرام، وحديث جد سعيد بن المسيب، وحديث أبي بكر مع امرأة من أحمس، وحديث عائشة في القيام للجنازة، وحديث ابن عباس في كأسا دهاقا، وحديث أبي بكر مع الذي تكهن، وحديث ابن عباس في القسامة، وحديثه في السعي، وحديثه في الحطيم، وحديث عمرو بن ميمون في القردة، وحديث ابن عباس" ثلاث من خلال الجاهلية" فجملة ذلك اثنان وخمسون حديثا ما بين معلق وموصول، فوافقه منها على ثلاثة وأربعين حديثا فقط، والسبب في ذلك أن الكثير منها صورته أنه موقوف وإن كان قد يتمحل له حكم المرفوع، ومسلم في الغالب يحرص على تخريج الأحاديث الصريحة في الرفع. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة عشر أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(7/162)


28 - باب مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلاَبِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعبِ بْنِ لؤَيِّ بْنِ غالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ
3851- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَكَثَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 3851- أطرافه في 4979,4465,3903,3902]

(7/162)


قوله: "باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم" المبعث من البعث، وأصله الإثارة، ويطلق على التوجيه في أمر ما، رسالة أو حاجة، ومنه: بعثت البعير إذا أثرته من مكانه، وبعثت العسكر إذا وجهتهم للقتال، وبعثت النائم من نومه إذا أيقظته. قد تقدم في أول الكتاب في الكلام على حديث عائشة كثير مما يتعلق بهذه الترجمة، وساق المصنف هنا النسب الشريف. قوله: "محمد" ذكر البيهقي في "الدلائل" بإسناد مرسل" أن عبد المطلب لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم عمل له مأدبة، فلما أكلوا سألوا ما سميته؟ قال محمدا، قالوا فما رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض". قوله: "ابن عبد الله" لم يختلف في اسمه، واختلف متى مات؟ فقيل مات قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل بعد أن ولد، والأول أثبت. واختلف في مقدار عمره صلى الله عليه وسلم لما مات أبوه، والراجح أنه دون السنة. قوله: "ابن عبد المطلب" اسمه شيبة الحمد عند الجمهور، وزعم ابن قتيبة أن اسمه عامر، وسمي عبد المطلب واشتهر بها لأن أباه لما مات بغزة كان خرج إليها تاجرا فترك أم عبد المطلب بالمدينة، فأقامت عند أهلها من الخزرج فكبر عبد المطلب، فجاء عمه المطلب فأخذه ودخل به مكة فرآه الناس مردفه فقالوا: هذا عبد المطلب، فغلبت عليه في قصة طويلة ذكرها ابن إسحاق وغيره. قوله: "ابن هاشم" اسمه عمرو، وقيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد لأهل الموسم ولقومه أولا في سنة المجاعة، وفيه يقول الشاعر:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
قوله: "ابن عبد مناف" اسمه المغيرة، روى السراج في تاريخه من طريق أحمد بن حنبل "سمعت الشافعي يقول: اسم عبد المطلب شيبة الحمد، واسم هاشم عمرو، واسم عبد مناف المغيرة، واسم قصي زيد".
قوله: "ابن قصي" بصيغة التصغير، تلقب بذلك لأنه بعد عن ديار قومه في بلاد قضاعة في قصة طويل ذكرها ابن إسحاق. قوله: "ابن كلاب" بكسر أوله وتخفيف اللام، قال السهيلي: هو منقول من المصدر الذي في معنى المكالبة، تقول: كالبت فلانا مكالبة وكلابا، أو هو بلفظ جمع كلب كما تسمت العرب بسباع وأنمار وغير ذلك انتهى. وذكر ابن سعد أن اسمه المهذب، وزعم محمد بن سعد أن اسمه حكيم، وقيل عروة وأنه لقب كلابا لمحبته كلاب الصيد وكان يجمعها فمن مرت به فسأل عنها قيل له هذه كلاب ابن مرة فلقب كلابا. قوله: "ابن مرة" قال السهيلي: منقول من وصف الحنظلة، أو الهاء للمبالغة والمراد أنه قوي. قوله: "ابن كعب" قال السهيلي: قيل بذلك لستره على قومه ولين جانبه لهم، منقول من كعب القدم. وقال ابن دريد: من كعب القناة، وكذا قال غيره سمي بذلك لارتفاعه على قومه وشرفه فيهم فلذلك كانوا يخضعون له حتى أرخوا بموته، وهو أول من جمع قومه يوم الجمعة، وكانوا يسمونه يوم العروبة حتى جاء الإسلام. قوله: "ابن لؤي" قال ابن الأنباري: هو تصغير لأي بوزن عصا، واللأي هو الثور. وقال السهيلي: هو عندي لأي بوزن عبد وهو البطء، ويؤيده قول الشاعر:
فدونكم بني لأي أخاكم ... ودونك مالكا يا أم عمر
انتهى. وهذا قد ذكره ابن الأنباري أيضا احتمالا. وقد قال الأصمعي: هو تصغير لواء الجيش زيدت فيه همزة. قوله: "ابن غالب" لا إشكال فيه كما لا إشكال في مالك والنضر. قوله: "ابن فهر" قيل هو قريش، نقل الزبير عن الزهري أن أمه سمته به، وسماه أبوه فهرا، وقيل فهر لقبه، وقيل بالعكس، والفهر الحجر الصغير. قوله: "ابن

(7/163)


كنانة" هو بلفظ وعاء السهام إذا كانت من جلود قاله ابن دريد، عن أبي عامر العدواني أنه قال: رأيت كنانة بن خزيمة شيخا مسنا عظيم القدر تحج إليه العرب لعلمه وفضله بينهم. قوله: "ابن خزيمة" تصغير خزمة بمعجمتين مفتوحتين وهي مرة واحدة من الخزم وهو شد الشيء وإصلاحه. وقال الزجاجي: يجوز أن يكون من الجزم بفتح ثم سكون تقول خزمته فهو مخزوم إذا أدخلت في أنفه الخزام. قوله: "ابن مدركة" اسمه عمرو عند الجمهور. وقال ابن إسحاق: عامر. قوله: "ابن إلياس" بكسر الهمزة عند ابن الأنباري، قال وهو إفعال من قولهم أليس الشجاع الذي لا يفر، قال الشاعر أليس كالنشوان وهو صاحي وقال غيره: هو بهمزة وصل وهو ضد الرجاء واللام فيه للمح الصفة، قاله قاسم بن ثابت وأنشد قول قصي: أمهتي خندف واليأس أبي قوله: "ابن مضر" قيل سمي بذلك لأنه كان يحب شرب اللبن الماضر وهو الحامض، وقيل سمي بذلك لبياضه، وقيل لأنه كان يمضر القلوب لحسنه وجماله. قوله: "ابن نزار" هو من النزر أي القليل، قال أبو الفرج الأصبهاني: سمي بذلك لأنه كان فريد عصره. قوله: "ابن معد" بفتح الميم والمهملة وتشديد الدال، قال ابن الأنباري: يحتمل أن يكون مفعلا من العد، أو هو من معد في الأرض إذا أفسد، قال الشاعر: وخاربين خربا فمعدا وقيل غير ذلك. قوله: "ابن عدنان" بوزن فعلان من العدن تقول عدن أقام، وقد روى أبو جعفر بن حبيب في تاريخه" المحبر" من حديث ابن عباس قال: "كان عدنان ومعد وربيعة ومضر وخزيمة وأسد على ملة إبراهيم، فلا تذكروهم إلا بخير" وروى الزبير بن بكار من وجه آخر مرفوعا: "لا تسبوا مضر ولا ربيعة فأنهما كانا مسلمين" وله شاهد عند ابن حبيب من مرسل سعيد بن المسيب. "تنبيه": اقتصر البخاري من النسب الشريف على عدنان، وقد أخرج في التاريخ عن عبيد بن يعيش عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق مثل هذا النسب، وزاد بعد عدنان" ابن أدد بن المقوم بن تارح بن يشجب بن يعرب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم" وقد قدمت في أول الترجمة النبوية الاختلاف فيمن بين عدنان وإبراهيم وفيمن بين إبراهيم وآدم بما يغني عن الإعادة. وأخرج ابن سعد من حديث ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معد بن عدنان". قوله: "حدثنا النضر" هر ابن شميل. قوله: "عن هشام" هو ابن حسان. قوله: "عن عكرمة" في رواية روح عن هشام الآتية في الهجرة "حدثنا عكرمة". قوله: "أنزله على رسوله الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين" هذا هو المقصود من هذا الحديث في هذا الباب، وهو متفق عليه، وقد مضى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم حديث أنس" أنه صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين" وتقدم في بدء الوحي أنه أنزل عليه في شهر رمضان، فعلى الصحيح المشهور أن مولده في شهر ربيع الأول يكون حين أنزل عليه ابن أربعين سنة وستة أشهر، وكلام ابن الكلبي يؤذن بأنه ولد في رمضان فإنه قال: مات وله اثنتان وستون سنة ونصف سنة، وقد أجمعوا على أنه مات في ربيع الأول فيستلزم ذلك أن يكون ولد في رمضان، وبه جزم الزبير بن بكار وهو شاذ، وفي مولده أقوال أخرى أشد شذوذا من هذا. قوله: "بمكة ثلاث عشرة سنة" هذا أصح مما رواه مسلم من طريق عمار بن أبي عمار عن ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة خمس عشرة سنة" وسيأتي البحث في ذلك في أبواب الهجرة إن شاء الله تعالى.

(7/164)


باب مالقى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكه
...
29 - باب مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمكَّةَ
3852- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا بَيَانٌ وَإِسْمَاعِيلُ قَالاَ سَمِعْنَا قَيْسًا يَقُولُ سَمِعْتُ خَبَّابًا يَقُولُ

(7/164)


"أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ "لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إلاَّ اللَّهَ" زَادَ بَيَانٌ "وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ"
3854- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجْمَ فَسَجَدَ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلاَّ سَجَدَ إِلاَّ رَجُلٌ رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًا فَرَفَعَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ وَقَالَ هَذَا يَكْفِينِي فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا بِاللَّهِ"
3854- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم فَأَخَذَتْهُ مِنْ ظَهْرِهِ وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلاَ مِنْ قُرَيْشٍ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ شُعْبَةُ الشَّاكُّ فَرَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ غَيْرَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أَوْ أُبَيٍّ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ فَلَمْ يُلْقَ فِي الْبِئْرِ"
3855- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى قَالَ سَلْ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا أَمْرُهُمَا [الأنعام 151,الإسراء 33]: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [93 النساء]: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَمَّا أُنْزِلَتْ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ قَالَ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ فَقَدْ قَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَدَعَوْنَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَقَدْ أَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ [الفرقان 70] {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} الْآيَةَ فَهَذِهِ لِأُولَئِكَ وَأَمَّا الَّتِي فِي النِّسَاءِ[93] الرَّجُلُ إِذَا عَرَفَ الإِسْلاَمَ وَشَرَائِعَهُ ثُمَّ قَتَلَ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ فَذَكَرْتُهُ لِمُجَاهِدٍ فَقَالَ إِلاَّ مَنْ نَدِمَ"
[الحديث 3855- أطرافه في: 4766,4765,4764,4763,4762,4590]
3856- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ

(7/165)


صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} الْآيَةَ [28 غافر] تَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَقَالَ عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قِيلَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ"
قوله: "باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة" أي من وجه الأذى، وذكر فيه أحاديث في المعنى، وقد تقدم في "ذكر الملائكة" من بدء الخلق حديث عائشة أنها" قالت للنبي صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت: منهم " فذكر قصته بالطائف. وروى أحمد والترمذي وابن حبان من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد" الحديث. وأخرج ابن عدي من حديث جابر رفعه: "ما أوذي أحد ما أوذيت" ذكره في ترجمة يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر، ويوسف ضعيف، وقد استشكل بما جاء من صفات ما أوذي به الصحابة كما سيأتي لو ثبت، وهو محمول على معنى حديث أنس، وقيل معناه أنه أوحي إليه ما أوذي به من قبله فتأذى بذلك زيادة على ما آذاه قومه به، وروى ابن إسحاق من حديث ابن عباس وذكر الصحابة فقال: "والله كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله، فيقول: نعم" وروى ابن ماجه وابن حبان من طريق زر بن مسعود قال أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وأوقفوهم في الشمس" الحديث. وأجيب بأن جميع ما أوذي به أصحابه كان يتأذى هو به لكونه بسببه. واستشكل أيضا بما أوذي به الأنبياء من القتل كما في قصة زكريا وولده يحيى. ويجاب بأن المراد هنا غر إزهاق الروح. قوله: "حدثنا بيان" هو ابن بشر، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وخباب بالمعجمة والموحدتين الأولى ثقيلة. قوله: "بردة" كذا للأكثر بالتنوين، وللكشميهني بالهاء والأول أرجح فقد تقدم في" علامات النبوة" من وجه آخر بلفظ: "بردة له". قوله: "ألا تدعو الله لنا" زاد في الرواية التي في المبعث "ألا تستنصر لنا". قوله: "فقعد وهو محمر وجهه" أي من أثر النوم، ويحتمل أن يكون من الغضب وبه جزم ابن التين. قوله: "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد" كذا للأكثر بكسر الميم، وللكشميهني: "أمشاط" هو جمع مشط بكسر الميم وبضمها، يقال مشاط وأمشاط كرماح وأرماح، وأنكر ابن دريد الكسر في المفرد، والأشهر في الجمع مشاط ورماح. قوله: "ما دون عظامه من لحم أو عصب" في الرواية الماضية ما دون لحمه من عظم أو عصب. قوله: "ويوضع الميشار" بكسر الميم وسكون التحتانية بهمز وبغير همز، تقول وشرت الخشبة وأشرتها، ويقال فيه بالنون وهي أشهر في الاستعمال

(7/166)


ووقع في الرواية الماضية" يحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار" قال ابن التين: كان هؤلاء الذين فعل بهم ذلك أنبياء أو أتباعهم، قال: وكان في الصحابة من لو فعل به ذلك لصبر، إلى أن قال: وما زال خلق من الصحابة وأتباعهم فمن بعدهم يؤذون في الله، ولو أخذوا بالرخصة لساغ لهم. قوله: "وليتمن الله هذا الأمر" بالنصب، وفي الرواية الماضية "والله ليتمن هذا الأمر" بالرفع، والمراد بالأمر الإسلام. قوله: "زاد بيان: والذئب على غنمه" هذا يشعر بأن في الرواية الماضية إدراجا، فإنه أخرجها من طريق يحيى القطان عن إسماعيل وحده وقال في آخرها "ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه"، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن الصباح بن أسلم وعبدة بن عبد الرحيم كلهم عن ابن عيينة به مدرجا، وطريق الحميدي أصح، وقد وافقه ابن أبي عمر أخرجه الإسماعيلي من طريقه مفصلا أيضا. "تنبيه": قوله: "والذئب" هو بالنصب عطفا على المستثنى منه لا المستثنى، كذا جزم به الكرماني، ولا يمتنع أن يكون عطفا على المستثنى، والتقدير: ولا يخاف إلا الذئب على غنمه، لأن مساق الحديث إنما هو للأمن من عدوان بعض الناس على بعض كما كانوا في الجاهلية، لا للأمن من عدوان الذئب فإن ذلك إنما يكون في آخر الزمان عند نزول عيسى. حديث ابن مسعود قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم فسجد" سبق الكلام عليه في سجود القرآن من كتاب الصلاة، ويأتي بقيته في تفسير سورة النجم، وقد تقدم هناك تسمية الذي لم يسجد، وزعم الواقدي أن ذلك كان في رمضان سنة خمس من المبعث. "تنبيه": كان حق هذا الحديث أن يذكر في "باب الهجرة إلى الحبشة" المذكور بعد قليل فسيأتي فيها أن سجود المشركين المذكور فيه سبب رجوع من هاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة لظنهم أن المشركين كلهم أسلموا، فلما ظهر لهم خلاف ذلك هاجروا الهجرة الثانية. حديث ابن مسعود في قصة عقبة بن أبي معيط وإلقائه سلا الجزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، وقد سبق الكلام عليه مستوفى في أواخر كتاب الوضوء. "تنبيه": كانت هذه القصة بعد الهجرة الثانية إلى الحبشة، لأن من جملة من دعى عليه عمارة بن الوليد أخو أبي جهل، وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن قريشا بعثوه مع عمرو بن العاص إلى النجاشي ليرد إليهم من هاجر إليه فلم يفعل، واستمر عمارة بالحبشة إلى أن مات. "تنبيه آخر": أغرب الشيخ عماد الدين بن كثير فزعم أن الحديث الوارد عن خباب عند مسلم وأصحاب السنن" شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا" طرف من حديث الباب، وأن المراد أنهم شكوا ما يلقونه من المشركين من تعذيبهم بحر الرمضاء وغيره، فسألوه أن يدعو على المشركين فلم يشكهم، أي لم يزل شكواهم، وعدل إلى تسليتهم بمن مضى ممن قبلهم، ولكن وعدهم بالنصر انتهى. ويبعد هذا الحمل أن في بعض طرق حديث مسلم عند ابن ماجه: "الصلاة في الرمضاء" وعند أحمد "يعني الظهر وقال: إذا زالت الشمس فصلوا" وبهذا تمسك من قال إنه ورد في تعجيل الظهر، وذلك قبل مشروعية الإيراد، وهو المعتمد، والله أعلم. "تنبيه آخر": عبد الله المذكور هو ابن مسعود جزما، وذكر ابن التين أن الداودي قال: الظاهر أنه عبد الله بن مسعود لأنهم في الأكثر إنما يطلقون عبد الله غير منسوب عليه. قلت: وليس ذلك مطردا، وإنما يعرف ذلك من جهة الرواة، وبسط ذلك مقرر في علوم الحديث، وقد صنف فيه الخطيب كتابا حافلا سماه "المجمل لبيان المهمل" ووقع في شرح شيخنا ابن الملقن أن الداودي قال: لعله عبد الله بن عمرو لا ابن عمر، ثم تعقبه بأن البخاري صرح في كتاب الصلاة بأنه ابن مسعود،

(7/167)


قلت: ولم أر ما نسبه إلى الداودي في كلام غيره فالله أعلم. حديث ابن عباس في توبة القاتل، وسيأتي شرحه في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى، والغرض منه الإشارة إلى أن صنع المشركين بالمسلمين من قتل وتعذيب وغير ذلك سقط عنهم بالإسلام. "تنبيه": قوله هنا" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" كذا وقع في الرواية، والذي في التلاوة {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} هكذا في سورة الفرقان [68] وهي التي ذكرت في بقية الحديث، فتعين أنها المراد في أوله، ويمكن الجواب عن ذلك والله أعلم. حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأبيه عمرو بن العاص على الاختلاف في ذلك. قوله: "حدثنا عياش ابن الوليد حدثنا الوليد بن مسلم" عياش شيخه بالتحتانية والمعجمة هو الرقام، وله شيخ آخر لا ينسبه في غالب ما يخرج عنه، قال الجياني: وقع هنا عند الأصيلي غير مقيد، وزعم بعضهم أنه العباس بن الوليد بن مربد وهو بالموحدة والمهملة، ثم نقل عن أبي زفر1 أن البخاري ومسلما ما أخرجا لابن مربد شيئا، قال: ولا أعلم له رواية عن الوليد بن مسلم. قوله: "حدثني يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم" في رواية علي بن المديني الآتية في تفسير غافر" حدثني محمد بن إبراهيم". قوله: "حدثني عروة" كذا قال الوليد بن مسلم، وخالفه أيوب بن خالد الحراني فقال: "عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة قال: قلت لعبد الله بن عمرو" أخرجه الإسماعيلي، وقول الوليد أرجح. قوله: "سألت ابن عمرو" في رواية علي المذكورة"قلت لعبد الله بن عمرو". قوله: "بأشد شيء صنعه إلخ" هذا الذي أجاب به عبد الله بن عمرو ويخالف ما تقدم في "ذكر الملائكة" من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال لها " وكان أشد ما لقيت من قومك" فذكر قصته بالطائف مع ثقيف. والجمع بينهما أن عبد الله بن عمرو استند إلى ما رواه، ولم يكن حاضرا للقصة التي وقعت بالطائف. وقد روى الزبير بن بكار والدار قطني في "الأفراد" من طريق عبد الله بن عروة عن عروة" حدثني عمرو بن عثمان عن أبيه عثمان قال: أكثر ما نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته يوما، قال: وذرفت عينا عثمان فذكر قصة يخالف سياقها حديث عبد الله بن عمرو هذا، فهذا الاختلاف ثابت على عروة في السند، لكن سنده ضعيف، فإن كان محفوظا حمل على التعدد، وليس ببعيد لما سأبينه. قوله: "يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه" في حديث عثمان المذكور "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر، وفي الحجر عقبة بن أبي معيط وأبو جهل وأمية بن خلف فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسمعوه بعض ما يكره ثلاث مرات، فلما كان في الشوط الرابع ناهضوه، وأراد أبو جهل أن يأخذ بمجامع ثوبه فدفعته، ودفع أبو بكر أمية بن خلف، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة" فهذا السياق مغاير لحديث عبد الله بن عمرو، وفي حديث عبد الله قول أبي بكر" أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟" وفي حديث عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم " أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم العقاب عاجلا، فأخذتهم الرعدة" الحديث، وهذا يقوي التعدد. قوله: "تابعه ابن إسحاق" قال: "حدثني يحيى بن عروة إلخ" وصله أحمد من طريق إبراهيم بن سعد والبزار من طريق بكر بن سليمان كلاهما عن ابن إسحاق بهذا السند، وفي أول سياقه من الزيادة قال: "حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل صبرنا عليه، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وغير
ـــــــ
1 في هامش طبعة بولاق: في نسخة "عن أبي ذر"

(7/168)


ديننا، وفرق جماعتنا. فبينما هم في ذلك إذ أقبل، فاستلم الركن، فلما مر بهم غمزوه، وذكر أنه قال لهم في الثالثة" لقد جئتكم بالذبح" وأنهم قالوا له" يا أبا القاسم ما كنت جاهلا، فانصرف راشدا، فانصرف. فلما كان من الغد اجتمعوا فقالوا: ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك إذ طلع فقالوا: قوموا إليه وثبة رجل واحد، قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ثيابه، وقام أبو بكر دونه وهو يبكي فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه". قوله: "وقال عبدة عن هشام" أي ابن عروة "عن أبيه قيل لعمرو بن العاص" هكذا خالف هشام بن عروة أخاه يحيى بن عروة في الصحابي، فقال يحيى: "عبد الله بن عمرو" وقال هشام: "عمرو بن العاص" ويرجح رواية يحيى موافقة محمد بن إبراهيم التيمي عن عروة، على أن قول هشام غير مدفوع، لأن له أصلا من حديث عمرو بن العاص، بدليل رواية أبي سلمة عن عمرو الآتية عقب هذا، فيحتمل أن يكون عروة سأله مرة وسأل أباه أخرى، ويؤيده اختلاف السياقين، وقد ذكرت أن عبد الله بن عروة رواه عن أبيه بإسناد آخر عن عثمان فلا مانع من التعدد، نعم لم تتفق الرواة عن هشام على قوله: "عمرو بن العاص" فإن سليمان بن بلال وافق عبدة على ذلك، وخالفهما محمد بن فليح فقال: "عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو" ذكره البيهقي. قوله: "وقال محمد بن عمرو عن أبي سلمة: حدثني عمرو بن العاص" وصله البخاري في "خلق أفعال العباد" من طريقه، وأخرجه أبو يعلى وابن حبان عنه من وجه آخر عن محمد بن عمرو ولفظه: "ما رأيت قريشا أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يوما أغروا به وهم في ظل الكعبة جلوس وهو يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه لركبتيه وتصايح الناس، وأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فلما قضى صلاته مر بهم فقال: والذي بيده ما أرسلت إليكم إلا بالذبح، فقال له أبو جهل: يا محمد ما كنت جهولا، فقال: أنت منهم". ويدل على التعدد أيضا ما أخرجه البيهقي في "الدلائل" من حديث ابن عباس عن فاطمة عليها السلام قالت: "اجتمع المشركون في الحجر فقالوا: إذا مر محمد ضربه كل رجل منا ضربة، فسمعت ذلك فأخبرته فقال: اسكتي يا بنية. ثم خرج فدخل عليهم، فرفعوا رءوسهم ثم نكسوا، قالت فأخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم ثم قال: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلا منهم إلا قتل يوم بدر كافرا" وقد أخرج أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح عن أنس قال: "لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حتى غشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ فتركوه وأقبلوا على أبي بكر" وهذا من مراسيل الصحابة، وقد أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن مطولا من حديث أسماء بنت أبي بكر أنهم" قالوا لها ما أشد ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "؟ فذكر نحو سياق ابن إسحاق المتقدم قريبا وفيه: "فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحك، فخرج من عندنا وله غدائر أربع وهو يقول: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ فلهوا عنه، وأقبلوا إلى أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا رجع معه". ولقصة أبي بكر هذه شاهد من حديث علي أخرجه البزار من رواية محمد بن علي عن أبيه أنه خطب فقال: "من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت قال: أما أني ما بارزني أحد إلا أنصفت منه، ولكنه أبو بكر، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلقاه ويقولون له أنت تجعل الآلهة إلها واحدا، فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويدفع هذا ويقول: ويلكم أتقتلون

(7/169)


رجلا أن يقول ربي الله؟، ثم بكى علي ثم قال. أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال علي: والله لساعة من أبي بكر خير منه، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا يعلن بإيمانه".

(7/170)


30 - باب إِسْلاَمُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3857- حدثني عبد الله بن حماد الآملي قال حدثني يحيى بن معين حدثنا اسماعيل بن مجالد عن بيان بن وبرة عن همام بن الحارث قال"قال عمار بن ياسر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومامعه إلآ خمسة أعبد وامرأتان وأبوبكر"
قوله: "باب إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه" ذكر فيه حديث عمار، وقد تقدم شرحه في" مناقب أبي بكر رضي الله عنه" وعبد الله شيخه قال ابن السكن في روايته: "حدثني عبد الله بن محمد" فتوهم أبو علي الجياني أنه أراد المسندي فقال: لم يصنع شيئا. قلت: وفي كلامه نظر، فقد وقع في تفسير التوبة "حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا يحيى بن معين" لكن عمدة الجياني هنا أن أبا نصر الكلاباذي جزم بأن عبد الله هنا هو ابن حماد الآملي، وكذا وقع في رواية أبي ذر الهروي منسوبا، وهو عبد الله بن حماد، وهو من أقران البخاري، بل هو أصغر منه، فلقد لقي البخاري يحيى بن معين وهو أقدم من ابن معين، وبيان هو ابن بشر، ووبرة بفتح الواو والموحدة واكتفى بهذا الحديث لأنه لم يجد شيئا على شرطه غيره، وفيه دلالة على قدم إسلام أبي بكر إذ لم يذكر عمار أنه رأى مع النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال غيره، وقد اتفق الجمهور على أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال، وذكر ابن إسحاق أنه كان يتحقق أنه سيبعث، لما كان يسمعه ويرى من أدلة ذلك، فلما دعاه بادر إلى تصديقه من أول وهلة. "تنبيه": كان حق هذا الباب أن يكون متقدما جدا، إما في "باب المبعث" أو عقبه لكن وجهه هنا ما وقع في حديث عمرو بن العاص الذي قبله أنه قام بنصر النبي صلى الله عليه وسلم وتلا الآية المذكورة، فدل ذلك على أن إسلامه متقدم على غيره، بحيث أن عمارا مع تقدم إسلامه لم ير مع النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر وبلال، وعنى بذلك الرجال، وبلال إنما اشتراه أبو بكر لينقذه من تعذيب المشركين لكونه أسلم.

(7/170)


31 - باب إِسْلاَمُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3858- حدثني إسحاق أخبرني أبو سلمة حدثنا هاشم قال سمعت سعيد بن المسيب قال سمعت أبا إسحاق سعد بن ابي وقاص يقول"ماأسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه, ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام".
قوله: "باب إسلام سعد" ذكر فيه حديثه، وقد تقدم شرحه في مناقبه مستوفى، ومناسبته لما قبله، واجتماعهما في أن كلا منهما يقتضي سبق من ذكر فيه إلى الإسلام خاصة، لكنه محمول على ما أطلع عليه، وإلا فقد أسلم قبل إسلام بلال وسعد خديجة وسعد بن حارثة وعلي بن أبي طالب وغيرهم.

(7/170)


32 - باب ذِكْرُ الْجِنِّ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ}
3859- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ مَعْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: "سَأَلْتُ مَسْرُوقًا مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ حَدَّثَنِي أَبُوكَ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ أَنَّهُ آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ".
3860- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَدِّي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدَاوَةً لِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَتْبَعُهُ بِهَا فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالَ أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا وَلاَ تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثَةٍ فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا فِي طَرَفِ ثَوْبِي حَتَّى وَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مَشَيْتُ فَقُلْتُ مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ قَالَ هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ وَنِعْمَ الْجِنُّ فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لاَ يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثَةٍ إِلاَّ وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَمًا ".
قوله: "باب ذكر الجن" تقدم الكلام على الجن في أوائل بدء الخلق بما يغني عن إعادته. قوله: "وقول الله عز وجل: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} الآية" يريد تفسير هذه الآية، وقد أنكر ابن عباس أنهم اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الصلاة من طريق أبي يشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "ما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم" الحديث، وحديث أبي هريرة في هذا الباب وإن كان ظاهرا في اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالجن وحديثه معهم، لكنه ليس فيه أنه قرأ عليهم، ولا أنهم الجن الذين استمعوا القرآن. لأن في حديث أبي هريرة أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلتئذ، وأبو هريرة إنما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة المدينة، وقصة استماع الجن للقرآن كان بمكة قبل الهجرة، وحديث ابن عباس صريح في ذلك، فيجمع بين ما نفاه وما أثبته غيره بتعدد وفود الجن على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما ما وقع في مكة فكان لاستماع القرآن والرجوع إلى قومهم منذرين كما وقع في القرآن، وأما في المدينة فللسؤال عن الأحكام، وذلك بين في الحديثين المذكورين، ويحتمل أن يكون القدوم الثاني كان أيضا بمكة، وهو الذي يدل عليه حديث ابن مسعود كما سنذكره، وأما حديث أبى هريرة فليس فيه تصريح بأن ذلك وقع بالمدينة، ويحتمل تعدد القدوم بمكة مرتين وبالمدينة أيضا، قال البيهقي: حديث ابن عباس حكى ما وقع في أول الأمر عندما علم الجن بحاله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب منه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود انتهى، وأشار بذلك إلى ما أخرجه أحمد والحاكم من طريق زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: "هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخل، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، وكانوا سبعة أحدهم زوبعة". قلت: وهذا يوافق حديث ابن عباس.وأخرج مسلم من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة قال: "قلت لعبد الله بن مسعود: هل صحب أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا.

(7/171)


ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا: اغتيل، استطير. فبتنا شر ليلة. فلما كان عند السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فذكرنا له، فقال: أتاني داعي الجن، فأتيتهم فقرأت عليهم ، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم" وقول ابن مسعود في هذا الحديث إنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم أصح مما رواه الزهري" أخبرني أبو عثمان بن شيبة الخزاعي أنه سمع ابن مسعود يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو بمكة: من أحب منكم أن ينظر الليلة أثر الجن فليفعل ، قال: فلم يحضر منهم أحد غيري، فلما كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق، ثم قرأ القرآن، فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم انطلقوا وفرغ منهم مع الفجر فانطلق" الحديث، قال البيهقي: يحتمل أن يكون قوله في الصحيح "ما صحبه منا أحد" أراد به في حال إقرائه القرآن لكن قوله في الصحيح: إنهم فقدوه يدل على أنهم لم يعلموا بخروجه، إلا أن يحمل على أن الذي فقده غير الذي خرج معه، فالله أعلم. ولرواية الزهري متابع من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن ابن مسعود قال: "استتبعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن نفرا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتونني الليلة فأقرأ عليهم القرآن ، فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد، فخط لي خطا" فذكر الحديث نحوه أخرجه الدار قطني وابن مردويه وغيرهما. وأخرج ابن مردويه من طريق أبي الجوزاء عن ابن مسعود نحوه مختصرا، وذكر ابن إسحاق أن استماع الجن كان بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف لما خرج إليها يدعو ثقيفا إلى نصره، وذلك بعد موت أبي طالب، وكان ذلك في سنة عشر من المبعث، كما جزم ابن سعد بأن خروجه إلى الطائف كان في شوال، وسوق عكاظ التي أشار إليها ابن عباس كانت تقام في ذي القعدة. وقول ابن عباس في حديثه "وهو يصلي بأصحابه" لم يضبط ممن كان معه في تلك السفرة غير زيد بن حارثة، فلعل بعض الصحابة تلقاه لما رجع، والله أعلم. وقول من قال إن وفود الجن كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف ليس صريحا في أولية قدوم بعضهم. والذي يظهر من سياق الحديث الذي فيه المبالغة في رمي الشهب لحراسة السماء من استراق الجن السمع دال على أن ذلك كان قبل المبعث النبوي وإنزال الوحي إلى الأرض، فكشفوا ذلك إلى أن وقفوا على السبب، ولذلك لم يقيد الترجمة بقدوم ولا وفادة، ثم لما انتشرت الدعوة وأسلم من أسلم قدموا فسمعوا فأسلموا وكان ذلك بين الهجرتين، ثم تعدد مجيئهم حتى في المدينة. قوله: "حدثني عبيد الله بن سعيد" هو أبو قدامة السرخسي، وهو بالتصغير مشهور بكنيته، وفي طبقته عبد الله بن سعيد مكبر وهو أبو سعيد الأشج. قوله: "عن معن بن عبد الرحمن" أي ابن عبد الله بن مسعود، وهو كوفي ثقة ما له في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: "من آذن" بالمد أي أعلم. قوله: "أنه آذنت بهم شجرة" في رواية إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي أسامة بهذا الإسناد" آذنت بهم سمرة" بفتح المهملة وضم الميم. قوله: في حديث أبي هريرة "أخبرني جدي" هو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص. قوله: "ابغني" قال ابن التين: هو موصول من الثلاثي تقول: بغيت الشيء طلبته وأبغيتك الشيء أعنتك على طلبه. قوله: "أحجارا استنفض بها" تقدم شرح ذلك في كتاب الطهارة. قوله: "وإنه أتاني وفد جن نصيبين" يحتمل أن يكون خبرا عما وقع في تلك الليلة، ويحتمل أن يكون خبرا عما مضى قبل ذلك. ونصيبين بلدة مشهورة بالجزيرة. ووقع في كلام ابن التين أنها بالشام وفيه تجوز، فإن الجزيرة بين الشام والعراق، ويجوز صرف نصيبين وتركه. قوله: "فسألوني الزاد" أي مما يفضل عن الأنس، وقد يتعلق به من يقول إن الأشياء قبل الشرع على الحظر حتى ترد الإباحة، ويجاب عنه بمنع الدلالة على ذلك، بل لا حكم قبل الشرع على الصحيح. قوله:

(7/172)


"فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعما" في رواية السرخسي " إلا وجدوا عليها طعاما" قال ابن التين: يحتمل أن يجعل الله ذلك عليها، ويحتمل أن يذيقهم منها طعاما. الطعام فيه على طعام الدواب.

(7/173)


33 - باب إِسْلاَمُ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3861- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِأَخِيهِ "ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنْ السَّمَاءِ وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي" فَانْطَلَقَ الأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ وَكَلاَمًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ فَقَالَ مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يَعْرِفُهُ وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ فَاضْطَجَعَ فَرَآهُ عَلِيٌّ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلاَ يَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَمْسَى فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ فَأَقَامَهُ فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ لاَ يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ فَعَادَ عَلِيٌّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَأَقَامَ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ أَلاَ تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ قَالَ إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنِّي فَعَلْتُ فَفَعَلَ فَأَخْبَرَهُ قَالَ فَإِنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِي فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتْبَعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي فَفَعَلَ فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ مَعَهُ فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ وَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ قَالَ وَيْلَكُمْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارِكُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ ثُمَّ عَادَ مِنْ الْغَدِ لِمِثْلِهَا فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ فَأَكَبَّ الْعَبَّاسُ عَلَيْهِ"
قوله: "باب إسلام أبي ذر الغفاري" هو جندب - وقيل بريد - ابن جنادة بضم الجيم والنون الخفيفة ابن سفيان - وقيل سفير - ابن عبيد بن حرام بالمهملتين ابن غفار، وغفار من بني كنانة. قوله: "حدثنا المثنى" هو ابن سعيد الضبعي، له في البخاري حديثان: هذا وآخر تقدم في ذكر بني إسرائيل، وأبو جمرة هو بالجيم نصر بن

(7/173)


عمران. قوله: "إن أبا ذر قال لأخيه" هو أنيس. قوله: "اركب إلى هذا الوادي" أي وادي مكة، وفي أول رواية أبي قتيبة الماضية في مناقب قريش" قال لنا ابن عباس: "ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قال: قلنا: بلى. قال: قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار" وهذا السياق يقتضي أن ابن عباس تلقاه من أبي ذر، وقد أخرج مسلم قصة إسلام أبي ذر من طريق عبد الله بن الصامت عنه وفيها مغايرة كثيرة لسياق ابن عباس، ولكن الجمع بينهما ممكن وأول حديثه" خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال لنا، فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس، فذكر لنا ذلك فقلنا له: أما ما مضى لنا من معروفك فقد كدرته، فتحملنا عليه، وجلس يبكي، فانطلقنا نحو مكة، فنافر أخي أنيس رجلا إلى الكاهن، فخير أنيسا، فأتانا بصرمتنا ومثلها معها، قال وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، قلت: لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجه؟ قال: حيث يوجهني ربي. قال: فقال لي أنيس: إن لي حاجة بمكة فانطلق، ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله. قلت فما يقول الناس؟ قال يقولون: شاعر كاهن ساحر. وكان أنيس شاعرا، فقال: لقد سمعت كلام الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم عليها، والله إنه لصادق. قلت: وهذا الظاهر مغاير لقوله في حديث الباب: "إن أبا ذر قال لأخيه ما شفيتني" ويمكن الجمع بأنه كان أراد منه أن يأتيه بتفاصيل من كلامه وأخباره فلم يأته إلا بمجمل. قوله: "فانطلق الأخ" في رواية الكشميهني: "فانطلق الآخر" أي أنيس، قال عياض: وقع عند بعضهم" فانطلق الأخ الآخر" والصواب الاقتصار على أحدهما لأنه لا يعرف لأبي ذر إلا أخ واحد وهو أنيس. قلت: وعند مسلم من طريق عبد الرحمن بن مهدي - أي عن المثنى -" فانطلق الآخر" حسب. قوله: "حتى قدمه" أي الوادي وادي مكة. وفي رواية ابن مهدي "فانطلق الآخر حتى قدم مكة". قوله: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر" كذا في هذه الرواية، ووافقها عبد الرحمن بن مهدي عند مسلم، وقوله: "وكلاما" منصوب بالعطف على الضمير المنصوب، وفيه إشكال لأن الكلام لا يرى. ويجاب عنه بأنه من قبيل "علفتها تبنا وماء باردا" وفيه الوجهان: الإضمار أي وسقيتها، أو ضمن العلف معنى الإعطاء. وهنا يمكن أن يقال: التقدير رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعته يقول كلاما ما هو بالشعر. أو ضمن الرؤية معنى الأخذ عنه. ووقع في رواية أبي قتيبة" رأيته يأمر بالخير وينهى عن الشر" ولا إشكال فيها. قوله: "وكره أن يسأل عنه" لأنه عرف أن قومه يؤذون من يقصده أو يؤذونه بسبب قصد من يقصده، أو لكراهتهم في ظهور أمره لا يدلون من يسأل عنه عليه، أو يمنعونه من الاجتماع به، أو يخدعونه حتى يرجع عنه. قوله: "فرآه علي بن أبي طالب" وهذا يدل على أن قصة أبي ذر وقعت بعد المبعث بأكثر من سنتين بحيث يتهيأ لعلي أن يستقل بمخاطبة الغريب ويضيفه، فإن الأصح في سن علي حين المبعث كان عشر سنين وقيل: أقل من ذلك، هذا الخبر يقوي القول الصحيح في سنه. قوله: "فعرف أنه غريب" في رواية: أبي قتيبة" فقال، كأن الرجل غريب.قلت: نعم".قوله: "فلما رآه تبعه" في رواية أبي قتيبة" قال فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه".قوله: "أما نال للرجل" أي أما حان، يقال نال له بمعنى آن له، ويروى "أما آن" بمد الهمزة و "أني" بالقصر وبفتح النون وكلها بمعنى، وقد تقدم في قصة الهجرة في قول أبي بكر الصديق "أما آن للرحيل" مثله وقوله: "أن يعلم منزله" أي مقصده، ويحتمل أن يكون علي أشار بذلك إلى دعوته إلى بيته لضيافته ثانيا، وتكون

(7/174)


إضافة المنزل إليه مجازية لكونه قد نزل به مرة، ويؤيد الأول قول أبي ذر في جوابه" قلت لا" كما في رواية أبي قتيبة. قوله: "يوم الثالث" كذا فيه، وهو كقولهم مسجد الجامع، وليس من إضافة الشيء إلى نفسه عند التحقيق. قوله: "فعاد علي على مثل ذلك" في رواية الكشميهني: "فغدا على مثل ذلك" وفي رواية أبي قتيبة" فقال فانطلق معي". قوله: "لترشدنني" كذا للأكثر بنونين. وفي رواية الكشميهني بواحدة مدغمة. قوله: "فأخبرته" كذا للأكثر وفيه التفات. وفي رواية الكشميهني: "فأخبره" على نسق ما تقدم". قوله: "قمت كأني أريق الماء" في رواية أبي قتيبة "كأني أصلح نعلي" ويحمل على أنه قالهما جميعا. قوله: "فانطلق يقفوه" أي يتبعه. قوله: "ودخل منه" قال الداودي: فيه الدخول بدخول المتقدم، وكأن هذا قبل آية الاستئذان، وتعقبه ابن التين فقال: لا تؤخذ الأحكام من مثل هذا. قلت: وفي كلام كل منهما من النظر ما لا يخفى. قوله: "فسمع من قوله وأسلم مكانه" كأنه كان يعرف علامات النبي، فلما تحققها لم يتردد في الإسلام، هكذا في هذه الرواية، ومقتضاها أن التقاء أبي ذر بالنبي صلى الله عليه وسلم كان بدلالة علي. وفي رواية عبد الله بن الصامت" أن أبا ذر لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في الطواف بالليل، قال: فلما قضى صلاته قلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، قال: فكنت أول من حياه بالسلام، قال: من أين أنت؟ قلت من بني غفار، قال: فوضع يده على جبهته، فقلت كره أن انتميت إلى غفار" فذكر الحديث في شأن زمزم، وأنه استغنى بها عن الطعام والشراب ثلاثين من بين يوم وليلة، وفيه: "فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، وأنه أطعمه من زبيب الطائف" الحديث وأكثره مغاير لما في حديث ابن عباس هذا عن أبي ذر، ويمكن التوفيق بينهما بأنه لقيه أولا مع علي ثم لقيه في الطواف أو بالعكس، وحفظ كل منهما عنه ما لم يحفظ الآخر، كما في رواية عبد الله بن الصامت من الزيادة ما ذكرناه ففي رواية ابن عباس أيضا من الزيادة قصته مع علي وقصته مع العباس وغير ذلك. وقال القرطبي: في التوفيق بين الروايتين تكلف شديد، ولا سيما أن في حديث عبد الله بن الصامت أن أبا ذر أقام ثلاثين لا زاد له، وفي حديث ابن عباس أنه كان معه زاد وقربة ماء إلى غير ذلك. قلت: ويحتمل الجمع بأن المراد بالزاد في حديث ابن عباس ما تزوده لما خرج من قومه ففرغ لما أقام بمكة، والقربة التي كانت معه كان فيها الماء حال السفر فلما أقام بمكة لم يحتج إلى ملئها ولم يطرحها، ويؤيده أنه وقع في رواية أبي قتيبة المذكورة" فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد" الحديث. قوله: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري" في رواية أبي قتيبة" اكتم هذا الأمر، وارجع إلى قومك فأخبرهم، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل" وفي رواية عبد الله بن الصامت" إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل، فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك" فذكر قصة إسلام أخيه أنيس وأمه وأنهم توجهوا إلى قومهم غفار فأسلم نصفهم، الحديث. قوله: "لأصرخن بها" أي بكلمة التوحيد، والمراد أنه يرفع صوته جهارا بين المشركين، وكأنه فهم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالكتمان ليس على الإيجاب بل على سبيل الشفقة عليه، فأعلمه أن به قوة على ذلك، ولهذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، يؤخذ منه جواز قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله وإن كان السكوت جائزا، والتحقيق أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد، وبحسب ذلك مترتب وجود الأجر وعدمه. قوله: "ثم قام القوم" في رواية أبي قتيبة" فقالوا قوموا إلى هذا الصابي" بالياء اللينة" فقاموا"

(7/175)


وكانوا يسمون من أسلم صابيا لأنه من صبا يصبو إذا انتقل من شيء إلى شيء. قوله: "فضربوه حتى أوجعوه" في رواية أبي قتيبة" فضربت لأموت" أي ضربت ضربا لا يبالي من ضربني أن لو أموت منه. قوله: "فأقلعوا عني"1 أي كفوا. قوله: "فأكب العباس عليه" في رواية أبي قتيبة" فقال مثل مقالته بالأمس" وفي الحديث ما يدل على حسن تأتي العباس وجودة فطنته حيث توصل إلى تخليصه منهم بتخويفهم من قومه أن يقاصوهم بأن يقطعوا طرق متجرهم، وكان عيشهم من التجارة. فلذلك بادروا إلى الكف عنه. وفي الحديث دلالة على تقدم إسلام أبي ذر، لكن الظاهر أن ذلك كان بعد المبعث بمده طويلة لما فيه من الحكاية عن علي كما قدمناه، ومن قوله أيضا في رواية عبد الله بن الصامت" إني وجهت إلى أرض ذات نخل"، فإن ذلك يشعر بأن وقوع ذلك كان قرب الهجرة والله أعلم.
ـــــــ
1 هذه الجملة ليست في رواية الباب هنا, وإنما هي في رواية أب قتيبة التي تقدمت برقم 3522

(7/176)


34 - باب إِسْلاَمُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3862- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ يَقُولُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنَّ عُمَرَ لَمُوثِقِي عَلَى الإِسْلاَمِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عُمَرُ وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا ارْفَضَّ لِلَّذِي صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ محقوقا أن يرفض".
[الحديث 3862- طرفاه في: 6942,3867]
قوله: "باب إسلام سعيد بن زيد" أي ابن عمرو بن نفيل، وأبو تقدم ذكره وأنه ابن ابن عم عمر بن الخطاب.قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة، وإسماعيل هو ابن أبي خالد؛ وقيل هو ابن أبي حازم. قوله: "لقد رأيتني" بضم المثناة، والمعنى رأيت نفسي "وإن عمر لموثقي على الإسلام" أي ربطه بسبب إسلامه إهانة له وإلزاما بالرجوع عن الإسلام. وقال الكرماني في معناه: كان يثبتني على الإسلام ويسددني، كذا قال، وكأنه ذهل عن قوله هنا" قبل أن يسلم"، فإن وقوع التثبيت منه وهو كافر لضمره على الإسلام بعيد جدا، مع أنه خلاف الواقع، وسيأتي في كتاب الإكراه" باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر" وكأن السبب في ذلك أنه كان زوج فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، ولهذا ذكر في آخر باب إسلام عمر" رأيتني موثقي عمر على الإسلام أنا وأخته" وكان إسلام عمر متأخرا عن إسلام أخته وزوجها، لأن أول الباعث له على دخوله في الإسلام ما سمع في بيتها من القرآن في قصة طويلة ذكرها الدار قطني وغيره. قوله: "ولو أن أحدا ارفض" أي زال من مكانه، في الرواية الآتية"انقض" بالنون والقاف بدل الراء والفاء أي سقط، وزعم ابن التين أنه أرجح الروايات. وفي رواية الكشميهني بالنون والفاء وهو بمعنى الأول. قوله: "لكان" في الرواية الآتية" لكان محقوقا أن ينقض" وفي رواية الإسماعيلي: "لكان حقيقا" أي واجبا تقول حق عليك أن تفعل كذا وأنت حقيق أن تفعله، وإنما قال ذلك سعيد لعظم قتل عثمان، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} قال ابن التين: قال سعيد ذلك على سبيل التمثيل. وقال الداودي: معناه لو تحركت القبائل وطلبت بثار عثمان لكان أهلا لذلك، وهذا بعيد من التأويل.

(7/176)


35 - باب إِسْلاَمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3863- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ
3864- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ فَأَخْبَرَنِي جَدِّي زَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "بَيْنَمَا هُوَ فِي الدَّارِ خَائِفًا إِذْ جَاءَهُ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو عَلَيْهِ حُلَّةُ حِبَرَةٍ وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ لَهُ مَا بَالُكَ قَالَ زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي إِنْ أَسْلَمْتُ قَالَ لاَ سَبِيلَ إِلَيْكَ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا أَمِنْتُ فَخَرَجَ الْعَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمْ الْوَادِي فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُونَ فَقَالُوا نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الْخَطَّابِ الَّذِي صَبَا قَالَ لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ فَكَرَّ النَّاسُ"
[الحديث 3864- طرفه في: 3865]
3865- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُهُ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدَ دَارِهِ وَقَالُوا صَبَا عُمَرُ وَأَنَا غُلاَمٌ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِي فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ فَقَالَ قَدْ صَبَا عُمَرُ فَمَا ذَاكَ فَأَنَا لَهُ جَارٌ قَالَ فَرَأَيْتُ النَّاسَ تَصَدَّعُوا عَنْهُ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ"
3866- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ "مَا سَمِعْتُ عُمَرَ لِشَيْءٍ قَطُّ يَقُولُ إِنِّي لاَظُنُّهُ كَذَا إِلاَّ كَانَ كَمَا يَظُنُّ بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَقَالَ لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ عَلَيَّ الرَّجُلَ فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ قَالَ فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلاَّ مَا أَخْبَرْتَنِي قَالَ كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ فَقَالَتْ أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلاَسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا وَلُحُوقَهَا بِالْقِلاَصِ وَأَحْلاَسِهَا قَالَ عُمَرُ صَدَقَ بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ يَا جَلِيحْ أَمْرٌ نَجِيحْ رَجُلٌ فَصِيحْ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَوَثَبَ الْقَوْمُ قُلْتُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا ثُمَّ نَادَى يَا جَلِيحْ أَمْرٌ نَجِيحْ رَجُلٌ فَصِيحْ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقُمْتُ فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ هَذَا نَبِيٌّ"

(7/177)


3867- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ
يَقُولُ لِلْقَوْمِ "لَوْ رَأَيْتُنِي مُوثِقِي عُمَرُ عَلَى الإِسْلاَمِ أَنَا وَأُخْتُهُ وَمَا أَسْلَمَ وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا انْقَضَّ لِمَا صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ"
قوله: "باب إسلام عمر بن الخطاب" قد تقدم نسبه في مناقبه. قوله: "أنبأنا سفيان" هو الثوري. قوله: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر" زاد الإسماعيلي من طريق أبي داود الحفري عن سفيان في حديث ذكره أي من كلام ابن مسعود، وقد تقدم في مناقب عمر الإلمام بشيء من ذلك. قوله: "فأخبرني جدي" ظاهر السياق أنه معطوف على شيء تقدم، وقد رواه الإسماعيلي من طريق ابن وهب هذه فقال فيها عن ابن وهب" أخبرني عمر بن محمد". قوله: "وعليه حلة حبر" بكسر المهملة وفتح الموحدة وهو برد مخطط بالوشي. وفي رواية حبرة بزيادة هاء. قوله: "أن أسلمت" بفتح الألف وتخفيف النون أي لأجل إسلامي. قوله: "لا سبيل عليك بعد أن قالها" أي الكلمة المذكورة، وهي قوله: "لا سبيل عليك". قوله: "أمنت" بفتح الهمزة وكسر الميم وسكون النون وضم المثناة أي حصل الأمان في نفسي بقوله ذلك، ووقع في رواية الأصيلي بمد الهمزة، وهو خطأ فإنه كان قد أسلم قبل ذلك، ذكر عياض أن في رواية الحميدي بالقصر أيضا لكنه بفتح المثناة، وهو خطأ أيضا لأنه يصير من كلام العاص بن وائل، وليس كذلك بل هو من كلام عمر، يريد أنه أمن لما قال له العاص بن وائل تلك المقالة، ويؤيده الحديث الذي بعده. قوله: "اجتمع الناس عند داره" في رواية الكشميهني: "اجتمع الناس إليه". قوله: "وأنا غلام"في رواية أخرى أنه" كان ابن خمس سنين" وإذا كان كذلك خرج منه أن إسلام عمر كان بعد المبعث بست سنين أو بسبع، لأن ابن عمر كما سيأتي في المغازي كان يوم أحد ابن أربع عشرة سنة وذلك بعد المبعث بست عشرة سنة فيكون مولده بعد المبعث بسنتين. قوله: "على ظهر بيتي" قال الداودي هو غلط والمحفوظ "ظهر بيتنا" وتعقبه ابن التين بأن ابن عمر أراد أنه الآن بيته أي عند مقالته تلك، وكان قبل ذلك لأبيه. ولا يخفى عدم الاحتياج إلى هذا التأويل، وإنما نسب ابن عمر البيت إلى نفسه مجازا، أو مراده المكان الذي كان يأوي فيه سواء كان ملكه أم لا، وأيضا فإنه إن أراد نسبته إليه حال مقالته تلك لم يصح، لأن بني عدي بن كعب رهط عمر لما هاجروا استولى غيرهم على بيوتهم كما ذكره ابن إسحاق وغيره فلم يرجعوا فيها، وأيضا فإن ابن عمر لم ينفرد بالإرث من عمر فتحتاج دعوى أن يكون اشترى حصص غيره إلى نقل، فيتعين الذي قلته. قوله: "فما ذاك" أي فلا بأس، أو لا قتل أو لا يعترض له. وقوله: "أنا له جار" أي أجرته من أن يظلمه ظالم، وقوله: "تصدعوا" أي تفرقوا عنه. فقوله: "قالوا العاص بن وائل" زاد ابن أبي عمر في روايته عن سفيان قال: "فعجبت من عزته" وكذا عند الإسماعيلي من وجهين عن سفيان. وفي رواية عبد الله بن داود عن عمر بن محمد عند الإسماعيلي: "فقلت لعمر: من الذي ردهم عنك يوم أسلمت؟ قال: يا بني، ذاك العاص بن وائل" أي ابن هاشم بن سعيد بالتصغير بن سهم القرشي السهمي، مات على كفره قبل الهجرة بمدة، والعاص بمهملتين من العوص لا من العصيان، والصاد مرفوعة ويجوز كسرها، وقيل: إنه من العصيان فهو بالكسر جزما، ويجوز إثبات الياء كالقاضي، ويؤيده كتاب عمر إلى عمرو وهو عامله على مصر "إلى العاصي ابن العاصي" وأطلق عليه ذلك لكونه خالف شيئا مما كان أمره به في ولايته على مصر لما ظهر له

(7/178)


من المصلحة. الحديث الرابع, قوله: "حدثني عمر" هو ابن محمد بن زيد، وهو شيخ ابن وهب في الحديث الثاني، ووهم من زعم أنه عمر بن الحارث كالكلاباذي فقد وقع في رواية الإسماعيلي عن عمر بن محمد. قوله: "ما سمعت عمر يقول لشيء إني لأظنه كذا إلا كان" أي عن شيء، واللام قد تأتي بمعنى عن كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} . قوله: "إلا كان كما يظن" هو موافق لما تقدم في مناقبه أنه كان محدثا بفتح الدال، وتقدم شرحه. قوله: "إذ مر به رجل جميل" هو سواد - بفتح المهملة وتخفيف الواو وآخره مهملة - ابن قارب بالقاف والموحدة، وهو سدوسي أو دوسي. وقد أخرج ابن أبي خيثمة وغيره من طريق أبي جعفر الباقر قال: "دخل رجل يقال له سواد بن قارب السدوسي على عمر، فقال. يا سواد أنشدك الله، هل تحسن من كهانتك شيئا" فذكر القصة. وأخرج الطبراني والحاكم وغيرهما من طريق محمد بن كعب القرظي قال: "بينما عمر قاعد في المسجد" فذكر مثل سياق أبي جعفر وأتم منه، وهما طريقان مرسلان يعضد أحدهما الآخر. وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني من طريق عباد بن عبد الصمد عن سعيد بن جبير قال: "أخبرني سواد بن قارب قال: كنت نائما" فذكر قصته الأولى دون قصته مع عمر. وهذا إن ثبت ذلك على تأخر وفاته، لكن عبادا ضعيف. ولابن شاهين من طريق أخرى ضعيفة عن أنس قال: "دخل رجل من دوس يقال له سواد بن قارب على النبي صلى الله عليه وسلم: "فذكر قصته أيضا، وهذه الطرق يقوى بعضها ببعض، وله طرق أخرى سأذكر ما فيها من فائدة. قوله: "لقد أخطأ ظني" في رواية ابن عمر عند البيهقي" لقد كنت ذا فراسة، وليس لي الآن رأي إن لم يكن هذا الرجل ينظر في الكهانة". قوله: "أو" بسكون الواو "على دين قومه في الجاهلية"1 أي مستمر على عبادة ما كانوا يعبدون. قوله: "أو" بسكون الواو أيضا "لقد كان كاهنهم" أي كان كاهن قومه. وحاصله أن عمر ظن شيئا مترددا بين شيئين أحدهما يتردد بين شيئين كأنه قال: هذا الظن إما خطأ أو صواب فإن كان صوابا فهذا الآن إما باق على كفره وإما كان كاهنا. وقد أظهر الحال القسم الأخير، وكأنه ظهرت له من صفة مشيه أو غير ذلك قرينة أثرت له ذلك الظن، فالله أعلم. قوله: "علي" بالتشديد "الرجل" بالنصب أي أحضروه إلي وقربوه مني. قوله: "فقال له ذلك" أي ما قاله في غيبته من التردد. وفي رواية محمد بن كعب" فقال له فأنت على ما كنت عليه من كهانتك" فغضب، وهذا من تلطف عمر، لأنه اقتصر على أحسن الأمرين. قوله: "ما رأيت كاليوم" أي رأيت شيئا مثل ما رأيت اليوم. قوله: "استقبل" بضم التاء على البناء للمجهول. قوله: "رجل مسلم" في رواية النسفي وأبي ذر "رجلا مسلما" ورأيته مجودا بفتح تاء "استقبل" على البناء للفاعل وهو محذوف تقديره أحد، وضبطه الكرماني استقبل بضم التاء وأعرب رجلا مسلما على أنه مفعول رأيت، وعلى هذا فالضمير في قوله: "به" يعود على الكلام، ويدل عليه السياق، وبينه البيهقي في رواية مرسلة" قد جاء الله بالإسلام، فما لنا ولذكر الجاهلية". قوله: "فإني أعزم عليك" أي ألزمك. وفي رواية محمد بن كعب" ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك". قوله: "إلا أخبرتني" أي ما أطلب منك إلا الإخبار. قوله: "كنت كاهنهم في الجاهلية" الكاهن الذي يتعاطى الخبر من الأمور المغيبة، وكانوا في الجاهلية كثيرا، فمعظمهم كان يعتمد على تابعة من الجن، وبعضهم كان يدعي معرفة ذلك بمقدمات أسباب يستدل بها على
ـــــــ
1 الذي في المتن "على دينه في الجاهلية

(7/179)


مواقعها من كلام من يسأله، وهذا الأخير يسمى العراف بالمهملتين، وسيأتي حكم ذلك واضحا في كتاب الطب، وتقدم طرف منه في آخر البيوع. ولقد تلطف سواد في الجواب إذ كان سؤال عمر عن حاله في كهانته إذ كان من أمر الشرك، فلما ألزمه أخبره بآخر شيء وقع له لما تضمن من الإعلام بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكان سببا لإسلامه. قوله: "ما أعجب" بالضم و "ما" استفهامية. قوله: "جنيتك" بكسر الجيم والنون الثقيلة أي الواحدة من الجن كأنه أنت تحقيرا، ويحتمل أن يكون عرف أن تابع سواد منهم كان أنثى، أو هو كما يقال تابع الذكر يكون أنثى وبالعكس. قوله: "أعرف فيها الفزع" بفتح الفاء والزاي أي الخوف. وفي رواية محمد بن كعب" إن ذلك كان وهو بين النائم واليقظان". قوله: "ألم تر الجن وإبلاسها" بالموحدة والمهملة والمراد به اليأس ضد الرجاء. وفي رواية أبي جعفر "عجبت للجن وإبلاسها" وهو أشبه بإعراب بقية الشعر، ومثله لمحمد بن كعب لكن قال:"وتحساسها" بفتح المثناة وبمهملات، أي أنها فقدت أمرا فشرعت تفتش عليه. قوله: "ويأسها من بعد إنكاسها" اليأس بالتحتانية ضد الرجاء والإنكاس الانقلاب، قال ابن قارس: معناه أنها يئست من استراق السمع بعد أن كانت قد ألفته، فانقلبت عن الاستراق قد يئست من السمع. ووقع في شرح الداودي بتقديم السين على الكاف، وفسره بأنه المكان الذي ألفته، قال: ووقع في رواية: "من بعد إيناسها" أي أنها كانت أنست بالاستراق، ولم أر ما قاله في شيء من الروايات، وقد شرح الكرماني على اللفظ الأول الذي ذكره الداودي وقال: الإنساك جمع نسك، والمراد به العبادة، ولم أر هذا القسيم في غير الطريق التي أخرجها البخاري. وزاد في رواية الباقر ومحمد بن كعب وكذا عند البيهقي موصولا من حديث البراء بن عازب بعد قوله: "وأحلاسها ":
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فاسم إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها
وفي روايتهم أن الجني عاوده ثلاث ليال ينشده هذه الأبيات مع تغير قوافيها، فجعل بدل قوله إبلاسها "تطلابها" أوله مثناة، وتارة" تجآرها" بجيم وهمزة، وبدل قوله أحلاسها "أقتابها" بقاف ومثناة جمع قتب، وتارة" أكوارها" وبدل قوله. ما مؤمنوها مثل أرجاسها" ليس قداماها كأذنابها" وتارة" ليس ذوو الشر كأخيارها" وبدل قوله: رأسها" نابها" وتارة قال: "ما مؤمنو الجن ككفارها". وعندهم من الزيادة أيضا أنه في كل مرة يقول له" قد بعث محمد، فانهض إليه ترشد"، وفي الرواية المرسلة قال: "فارتعدت فرائصي حتى وقعت"، وعندهم جميعا أنه لما أصبح توجه إلى مكة فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر، فأتاه فأنشده أبياتا يقول فيها:
أتاني رئى بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك نبي من لؤي بن غالب
يقول في آخرها:
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
وفي آخر الرواية المرسلة" فالتزمه عمر وقال: لقد كنت أحب أن أسمع هذا منك". قوله: "ولحوقها بالقلاص وأحلاسها" القلاص بكسر القاف وبالمهملة جمع قلص بضمتين وهو جمع قلوص وهي الفتية من النياق، والأحلاس جمع حلس بكسر أوله وسكون ثانيه وبالمهملتين وهو ما يوضع على ظهور الإبل تحت الرحل. ووقع هذا القسيم

(7/180)


غير موزون. وفي رواية الباقر" ورحلها العيس بأحلاسها" وهذا موزون، والعيس بكسر أوله وسكون التحتانية وبالمهملتين: الإبل. قوله: "قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم" ظاهر هذا أن الذي قص القصة الثانية هو عمر. وفي رواية ابن عمر وغيره أن الذي قصها هو سواد بن قارب، ولفظ ابن عمر عند البيهقي قال: "لقد رأى عمر رجلا - فذكر القصة - قال فأخبرني عن بعض ما رأيت، قال: إني ذات ليلة بواد إذ سمعت صائحا يقول: يا جليح، خبر نجيح، رجل فصيح، يقول لا إله إلا الله. عجبت للجن وإبلاسها" فذكر القصة، ثم ساق من طريق أخرى مرسلة قال: "مر عمر برجل فقال: لقد كان هذا كاهنا" الحديث وفيه: "فقال عمر أخبرني، فقال: نعم، بينا أنا جالس إذ قالت لي: ألم تر إلى الشياطين وإبلاسها" الحديث: "قال عمر: الله أكبر، فقال: أتيت مكة فإذا برجل عند تلك الأنصاب" فذكر قصة العجل، وهذا يحتمل فيه ما احتمل في حديث الصحيح أن يكون القائل" أتيت مكة" هو عمر أو صاحب القصة. قوله: "عند آلهتهم" أي أصنامهم. قوله: "إذ جاء رجل" لم أقف على اسمه" لكن عند أحمد من وجه آخر أنه ابن عبس، فأخرج من طريق مجاهد عن شيخ أدرك الجاهلية يقال له ابن عبس قال: "كنت أسوق بقرة لنا، فسمعت من جوفها" فذكر الرجز قال: "فقدمنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث" ورجاله ثقات، وهو شاهد قوي لما في رواية ابن عمر وأن الذي حدث بذلك هو سواد بن قارب، وسأذكر بعد هذا ما يقوي أن الذي سمع ذلك هو عمر فيمكن أن يجمع بينهما بتعدد ذلك لهما. قوله: "يا جليح" بالجيم والمهملة بوزن عظيم ومعناه الوقح المكافح بالعداوة، قال ابن التين: يحتمل أن يكون نادى رجلا بعينه، ويحتمل أن يكون أراد من كان بتلك الصفة قلت: ووقع في معظم الروايات التي أشرت إليها "يا آل ذريح" بالذال المعجمة والراء وآخره مهملة، وهم بطن مشهور في العرب. قوله: "رجل فصيح" من الفصاحة. وفي رواية الكشميهني بتحتانية أوله بدل الفاء من الصياح ووقع في حديث ابن عبس "قول فصيح رجل يصيح". قوله: "يقول لا إله إلا أنت" وفي رواية الكشميهني: "لا إله إلا الله" وهو الذي في بقية الروايات. قوله: "فما نشبنا" بكسر المعجمة وسكون الموحدة أي لم نتعلق بشيء من الأشياء حتى سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، يريد أن ذلك كان بقرب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. "تنبيهان": أحدهما: ذكر ابن التين أن الذي سمعه سواد بن قارب من الجني كان من أثر استراق السمع، وفي جزمه بذلك نظر، والذي يظهر أن ذلك كان من أثر منع الجن من استراق السمع، ويبين ذلك ما أخرجه المصنف في الصلاة ويأتي في تفسير سورة الجن عن ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث منع الجن من استراق السمع، فضربوا المشارق والمغارب يبحثون عن سبب ذلك، حتى رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه صلاة الفجر" الحديث. "التنبيه الثاني": لمح المصنف بإيراد هذه القصة في" باب إسلام عمر" بما جاء عن عائشة وطلحة عن عمر من أن هذه القصة كانت سبب إسلامه، فروى أبو نعيم في "الدلائل" أن أبا جهل" جعل لمن يقتل محمدا مائة ناقة، قال عمر: فقلت له: يا أبا الحكم آلضمان صحيح؟ قال: نعم. قال فتقلدت سيفي أريده، فمررت على عجل وهم يريدون أن يذبحوه، فقمت أنظر إليهم، فإذا صائح يصيح من جوف العجل: يا آل ذريح، أمر نجيح، رجل يصيح بلسان فصيح. قال عمر: فقلت في نفسي إن هذا الأمر ما يراد به إلا أنا، قال فدخلت على أختي فإذا عندها سعيد بن زيد" فذكر القصة في سبب إسلامه بطولها. وتأمل ما في إيراده حديث سعيد بن زيد الذي بعد هذا. قوله: "انقض" بنون وقاف، وللكشميهني بفاء بدل القاف في الموضعين، ولأبي نعيم في "المستخرج" بالفاء والراء

(7/181)


ومعانيها متقاربة، والله أعلم. "تنبيه": جعل ابن إسحاق إسلام عمر بعد هجرة الحبشة، ولم يذكر انشقاق القمر، فاقتضى صنيع المصنف أنه وقع في تلك الأيام. وقد ذكر ابن إسحاق من وجه آخر أن إسلام عمر كان عقب هجرة الحبشة الأولى.

(7/182)


36 - باب انْشِقَاقُ الْقَمَرِ
3868- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمْ الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا"
3869- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى فَقَالَ اشْهَدُوا وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ نَحْوَ الْجَبَلِ" وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ "انْشَقَّ بِمَكَّةَ"
وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
3870- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ قَالَ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
3871- حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله رضي الله عنه قال "انشق القمر"
قوله: "باب انشقاق القمر" أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المعجزة له، وقد ترجم بمعنى ذلك في علامات النبوة. قوله: "عن أنس" زاد في الرواية التي في علامات النبوة أنه حدثهم. قوله: "أن أهل مكة" هذا من مراسيل الصحابة، لأن أنسا لم يدرك هذه القصة، وقد جاءت هذه القصة من حديث ابن عباس وهو أيضا ممن لم يشاهدها، ومن حديث ابن مسعود وجبير بن مطعم وحذيفة وهؤلاء شاهدوها، ولم أر في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس، فلعله سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. ثم وجدت في بعض طرق حديث ابن عباس بيان صورة السؤال، وهو وإن كان لم يدرك القصة لكن في بعض طرقه ما يشعر بأنه حمل الحديث عن ابن مسعود كما سأذكره، فأخرج أبو نعيم في" الدلائل" من وجه ضعيف عن ابن عباس قال: "اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، فسأل ربه فانشق". قوله: "شقتين" بكسر المعجمة أي

(7/182)


نصفين، وتقدم في العلامات من طريق سعيد وشيبان عن قتادة بدون هذه اللفظة. وأخرجه مسلم من الوجه الذي أخرجه منه البخاري من حديث سعيد عن قتادة بلفظ: "فأراهم انشقاق القمر مرتين" وأخرجه من طريق معمر عن قتادة قال بمعنى حديث شيبان. قلت: وهو في مصنف عبد الرزاق عن معمر بلفظ: "مرتين" أيضا، وكذلك أخرجه الإمامان أحمد وإسحاق في مسنديهما عن عبد الرزاق، وقد اتفق الشيخان عليه من رواية شعبة عن قتادة بلفظ: "فرقتين" قال البيهقي: قد حفظ ثلاثة من أصحاب قتادة عنه" مرتين". قلت: لكن اختلف عن كل منهم في هذه اللفظة ولم يختلف على شعبة وهو أحفظهم، ولم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بلفظ: "مرتين" إنما فيه: "فرقتين أو فلقتين" بالراء أو اللام وكذا في حديث ابن عمر "فلقتين" وفي حديث جبير بن مطعم "فرقتين" وفي لفظ عنه "فانشق باثنتين" وفي رواية عن ابن عباس عند أبي نعيم في الدلائل "فصار قمرين" وفي لفظ: "شقتين" وعند الطبراني من حديثه" حتى رأوا شقيه" ووقع في نظم السيرة لشيخنا الحافظ أبي الفضل: وانشق مرتين بالإجماع. ولا أعرف من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرض لذلك أحد من شراح الصحيحين وتكلم ابن القيم على هذه الرواية فقال: المرات يراد بها الأفعال تارة والأعيان أخرى، والأول أكثر. ومن الثاني "انشق القمر مرتين" وقد خفي على بعض الناس فادعى أن انشقاق القمر وقع مرتين، وهذا مما يعلم أهل الحديث والسير أنه غلط فإنه لم يقع إلا مرة واحدة. وقد قال العماد بن كثير: في الرواية التي فيها "مرتين" نظر، ولعل قائلها أراد فرقتين. قلت: وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات.
ثم راجعت نظم شيخنا فوجدته يحتمل التأويل المذكور، ولفظه:
فصار فرقتين فرقة علت ... وفرقة للطود منه نزلت
وذاك مرتين بالإجماع ... والنص والتواتر السماع
فجمع بين قوله: "فرقتين" وبين قوله: "مرتين" فيمكن أن يتعلق قوله بالإجماع بأصل الانشقاق لا بالتعدد، مع أن في نقل الإجماع في نفس الانشقاق نظرا سيأتي بيانه. قوله: "حتى رأوا حراء بينهما" أي بين الفرقتين، وحراء تقدم ضبطه في بدء الوحي وهو على يسار السائر من مكة إلى منى. قوله: "عن أبي حمزة" بالمهملة والزاي هو محمد بن ميمون السكري المروزي. قوله: "عن الأعمش عن إبراهيم" وقع في رواية السرخسي والكشميهني في آخر الباب من وجه آخر عن الأعمش "حدثنا إبراهيم". قوله: "عن أبي معمر" هذا هو المحفوظ. ووقع في رواية سعدان بن يحيى ويحيى بن عيسى الرملي" عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة" أخرجه ابن مردويه، ولأبي نعيم نحوه من طريق غريبة عن شعبة "عن الأعمش" والمحفوظ عن شعبة كما سيأتي في التفسير" عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي عمر" وهو المشهور، وقد أخرجه مسلم من طريق أخرى عن شعبة" عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر" وسيأتي للمصنف معلقا أن مجاهدا رواه" عن أبي معمر عن ابن مسعود" فالله أعلم هل عند مجاهد فيه إسنادان أو قول من قال ابن عمر وهم من أبي معمر. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود قوله: "انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى" في رواية مسلم من طريق علي بن مسهر عن الأعمش "بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى إذ انفلق القمر" وهذا لا يعارض قول أنس أن ذلك كان بمكة، لأنه لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ليلتئذ بمكة، وعلى تقدير تصريحه فمنى

(7/183)


من جملة مكة فلا تعارض، وقد وقع عند الطبراني من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: "انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين" وهو محمول على ما ذكرته، وكذا وقع في غير هذه الرواية، وقد وقع عند ابن مردويه بيان المراد فأخرجه من وجه آخر عن ابن مسعود قال: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكة قبل أن نصير إلى المدينة" فوضح أن مراده بذكر مكة الإشارة إلى أن ذلك وقع قبل الهجرة، ويجوز أن ذلك وقع وهم ليلتئذ بمنى. قوله: "فقال اشهدوا" أي اضبطوا هذا القدر بالمشاهدة. قوله: "وقال أبو الضحى إلخ" يحتمل أن يكون معطوفا على قوله: "عن إبراهيم" فإن أبا الضحى من شيوخ الأعمش فيكون للأعمش فيه إسنادان، ويحتمل أن يكون معلقا وهو المعتمد، فقد وصله أبو داود الطيالسي عن أبي عوانة، ورويناه في "فوائد أبي طاهر الذهلي" من وجه آخر عن أبي عوانة، وأخرجه أبو نعيم في "الدلائل" من طريق هشيم كلاهما عن مغيرة عن أبي الضحى بهذا الإسناد بلفظ: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت كفار قريش: هذا سحر سحركم ابن أبي كبشة، فانظروا إلى السفار، فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق، قال: فما قدم عليهم أحد إلا أخبرهم بذلك" لفظ هشيم، وعند أبي عوانة" انشق القمر بمكة - نحوه وفيه - فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم". قوله: "وتابعه محمد بن مسلم" هو الطائفي، وابن أبي نجيح اسمه عبد الله، واسم أبيه يسار بتحتانية ثم مهملة خفيفة، ومراده أنه تابع إبراهيم في روايته عن أبي معمر في قوله إن ذلك كان بمكة لا في جميع سياق الحديث، والجمع بين قول ابن مسعود "تارة بمنى وتارة بمكة" إما باعتبار التعدد إن ثبت، وإما بالحمل على أنه كان بمنى، ومن قال كان بمكة لا ينافيه لأن من كان بمنى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن الرواية التي فيها بمنى قال فيها: "ونحن بمنى" والرواية التي فيها بمكة لم يقل فيها "ونحن" وإنما قال: "انشق القمر بمكة" يعني أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا يندفع دعوى الداودي أن بين الخبرين تضادا، والله أعلم. وابن أبي نجيح رواه عن مجاهد عن أبي معمر، وهذه الطريق وصلها عبد الرزاق في مصنفه، ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" عن ابن عيينة ومحمد بن مسلم جميعا عن ابن أبي نجيح بهذا الإسناد بلفظ: "رأيت القمر منشقا شقتين: شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء" والسويداء بالمهملة والتصغير ناحية خارجة مكة عندها جبل، وقول ابن مسعود "على أبي قبيس" يحتمل أن يكون رآه كذلك وهو بمنى كأن يكون على مكان مرتفع بحيث رأى طرف جبل أبي قبيس، ويحتمل أن يكون القمر استمر منشقا حتى رجع ابن مسعود من منى إلى مكة فرآه كذلك وفيه بعد، والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب غروبه، ويؤيد ذلك إسنادهم الرؤية إلى جهة الجبل، ويحتمل أن يكون الانشقاق وقع أول طلوعه فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر، أو التعبير بأبي قبيس من تغيير بعض الرواة، لأن الغرض ثبوت رؤيته منشقا إحدى الشقتين على جبل والأخرى على جبل آخر، ولا يغاير ذلك قول الراوي الآخر رأيت الجبل بينهما أي بين الفرقتين لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل وفرقة عن يساره مثلا صدق أنه بينهما، وأي جبل آخر كان من جهة يمينه أو يساره صدق أنها عليه أيضا، وسيأتي في تفسير سورة القمر من وجه آخر عن مجاهد بلفظ آخر وهو قوله: "انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اشهدوا اشهدوا" وليس فيه تعيين مكان. وأخرجه ابن مردويه من رواية ابن جريج عن مجاهد بلفظ آخر وهو قوله: "انشق القمر، قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} يقول: كما شققت القمر كذلك أقيم الساعة". قوله: "أن القمر انشق على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم" هكذا أورده مختصرا،

(7/184)


وعند أبي نعيم من وجه آخر" انشق القمر فلقتين، قال ابن مسعود لقد رأيت جبل حراء من بين فلقتي القمر" وهذا يوافق الرواية الأولى في ذكر حراء. وقد أنكر جمهور الفلاسفة انشقاق القمر متمسكين بأن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام؛ وكذا قالوا في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء إلى غير ذلك من إنكارهم ما يكون يوم القيامة من تكوير الشمس وغير ذلك، وجواب هؤلاء إن كانوا كفارا أن يناظروا أولا على ثبوت دين الإسلام ثم يشركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين، ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض ألزم التناقض، ولا سبيل إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في القيامة فيستلزم جواز وقوع ذلك معجزة لنبي الله صلى الله عليه وسلم وقد أجاب القدماء عن ذلك، قال أبو إسحاق الزجاج في "معاني القرآن": أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله يفعل فبه ما يشاء كما يكوره يوم البعث ويفنيه، وأما قول بعضهم: لو وقع لجاء متواترا واشترك أهل الأرض في معرفته ولما اختص بها أهل مكة، فجوابه أن ذلك وقع ليلا وأكثر الناس نيام والأبواب مغلقة وقل من يراصد السماء إلا النادر، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر، وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الآحاد، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها، ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم. وقال الخطابي. انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لو وقع ذلك لم يحز أن يخفى أمره على عوام الناس لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب ونقل ما لم يعهد، فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير والتنجيم، إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلاله شأنه ووضوح أمره. والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها لأنه شيء طلبه خاص من الناس فوقع ليلا لأن القمر لا سلطان له بالنهار ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نياما ومستكنين بالأبنية، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان يحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولا بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر. ثم أبدى حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شيء منها مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه إلا القرآن بما حاصله: إن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامة أعقبت هلاك من كذب به من قومه للاشتراك في إدراكها بالحس، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذين بعث منهم لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام، ولو كان إدراكها عاما لعوجل من كذب به كما عوجل من قبلهم. وذكر أبو نعيم في "الدلائل" نحو ما ذكره الخطابي وزاد: ولا سيما إذا وقعت الآية في بلدة كان عامة أهلها يومئذ الكفار الذين يعتقدون أنها سحر ويجتهدون في إطفاء نور الله. قلت: وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نقل ذلك من"الصحابة" وأما من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه فجوابه أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه، وهذا كاف، فإن الحجة فيمن أثبت لا فيمن يوجد عنه صريح النفي، حتى

(7/185)


إن من وجد عنه صريح النفي يقدم عليه من وجد منه صريح الإثبات. وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين. ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، ويؤيد ذلك بالآية الكريمة، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر. ثم أجاب بنحو جواب الخطابي وقال: وقد يطلع على قوم قبل طلوعه على آخرين، وأيضا فإن زمن الانشقاق لم يطل ولم تتوفر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ومع ذلك فقد بعث أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك فجاءت السفار وأخبروا بأنهم عاينوا ذلك، وذلك لأن المسافرين في الليل غالبا يكونون سائرين في ضوء القمر ولا يخفى عليهم ذلك. وقال القرطبي: الموانع من مشاهدة ذلك إذا لم يحصل القصد إليه غير منحصرة، ويحتمل أن يكون الله صرف جميع أهل الأرض غير أهل مكة وما حولها عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة ليختص بمشاهدته أهل مكة كما اختصوا بمشاهدة أكثر الآيات ونقلوها إلى غيرهم ا ه. وفي كلامه نظر لأن أحدا لم ينقل أن أحدا من أهل الآفاق غير أهل مكة ذكروا أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة المعينة فلم يشاهدوا انشقاقه، فلو نقل ذلك لكان الجواب الذي أبداه القرطبي جيدا، ولكن لم ينقل عن أحد من أهل الأرض شيء من ذلك، فالاقتصار حينئذ على أن الجواب الذي ذكره الخطابي ومن تبعه أوضح، والله أعلم. وأما الآية فالمراد بها قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} لكن ذهب بعض أهل العلم من القدماء أن المراد بقوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي سينشق كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} أي سيأتي، والنكتة في ذلك إرادة المبالغة في تحقق وقوع ذلك، فنزل منزلة الواقع. والذي ذهب إليه الجمهور أصح كما جزم به ابن مسعود وحذيفة وغيرهما، ويؤيده قوله تعالى: بعد ذلك: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} وقوع انشقاقه، لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة، وإذا تبين أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا تبين وقوع الانشقاق وأنه المراد بالآية التي زعموا أنها سحر، ووقع ذلك صريحا في حديث ابن مسعود كما بيناه قبل، ونقل البيهقي في أوائل البعث والنشور عن الحليمي أن من الناس من يقول: إن المراد بقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي سينشق، قال الحليمي: فإن كان كذلك فقد وقع في عصرنا، فشاهدت الهلال ببخارى في الليلة الثالثة منشقا نصفين عرض كل واحد منهما كعرض القمر ليلة أربع أو خمس، ثم اتصلا فصار في شكل أترجة إلى أن غاب. قال: وأخبرني بعض من أثق به أنه شاهد ذلك في ليلة أخرى أ ه. ولقد عجبت من البيهقي كيف أقر هذا مع إيراده حديث ابن مسعود المصرح بأن المراد بقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أن ذلك وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ساقه هكذا من طريق ابن مسعود في هذه الآية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال: لقد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساق حديث ابن مسعود" لقد مضت آية الدخان والروم والبطشة وانشقاق القمر" وسيأتي الكلام على هذا الحديث الأخير في تفسير سورة الدخان إن شاء الله تعالى.

(7/186)


37 - باب هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ"
فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ

(7/186)


فِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى وَأَسْمَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
3872- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ قَالاَ لَهُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُكَلِّمَ خَالَكَ عُثْمَانَ فِي أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيمَا فَعَلَ بِهِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَانْتَصَبْتُ لِعُثْمَانَ حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً وَهِيَ نَصِيحَةٌ فَقَالَ أَيُّهَا الْمَرْءُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَانْصَرَفْتُ فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلاَةَ جَلَسْتُ إِلَى الْمِسْوَرِ وَإِلَى ابْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فَحَدَّثْتُهُمَا بِالَّذِي قُلْتُ لِعُثْمَانَ وَقَالَ لِي فَقَالاَ قَدْ قَضَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْكَ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ مَعَهُمَا إِذْ جَاءَنِي رَسُولُ عُثْمَانَ فَقَالاَ لِي قَدْ ابْتَلاَكَ اللَّهُ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا نَصِيحَتُكَ الَّتِي ذَكَرْتَ آنِفًا قَالَ فَتَشَهَّدْتُ ثُمَّ قُلْتُ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَكُنْتَ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنْتَ بِهِ وَهَاجَرْتَ الْهِجْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَيْتَ هَدْيَهُ وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَقَالَ لِي يَا ابْنَ أَخِي آدْرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قُلْتُ لاَ وَلَكِنْ قَدْ خَلَصَ إِلَيَّ مِنْ عِلْمِهِ مَا خَلَصَ إِلَى الْعَذْرَاءِ فِي سِتْرِهَا قَالَ فَتَشَهَّدَ عُثْمَانُ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَكُنْتُ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنْتُ بِمَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَاجَرْتُ الْهِجْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ كَمَا قُلْتَ وَصَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ وَبَايَعْتُهُ وَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَخْلَفَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ ثُمَّ اسْتُخْلِفْتُ أَفَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمْ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ عَلَيَّ قَالَ بَلَى قَالَ فَمَا هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي تَبْلُغُنِي عَنْكُمْ فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَسَنَأْخُذُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ قَالَ فَجَلَدَ الْوَلِيدَ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَجْلِدَهُ وَكَانَ هُوَ يَجْلِدُهُ"
وَقَالَ يُونُسُ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ "أَفَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ {بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ} مَا ابْتُلِيتُمْ بِهِ مِنْ شِدَّةٍ وَفِي مَوْضِعٍ الْبَلاَءُ الِابْتِلاَءُ وَالتَّمْحِيصُ مَنْ بَلَوْتُهُ وَمَحَّصْتُهُ أَيْ اسْتَخْرَجْتُ مَا عِنْدَهُ يَبْلُو يَخْتَبِرُ مُبْتَلِيكُمْ مُخْتَبِرُكُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ {بَلاَءٌ عَظِيمٌ} النِّعَمُ وَهِيَ مِنْ أَبْلَيْتُهُ وَتِلْكَ مِنْ ابْتَلَيْتُهُ.
3873- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ

(7/187)


أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِيكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
3874- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ السَّعِيدِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قَالَتْ: "قَدِمْتُ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأَنَا جُوَيْرِيَةٌ فَكَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمِيصَةً لَهَا أَعْلاَمٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ الأَعْلاَمَ بِيَدِهِ وَيَقُولُ سَنَاهْ سَنَاهْ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ يَعْنِي حَسَنٌ حَسَنٌ".
3875- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَيَرُدُّ عَلَيْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا قَالَ إِنَّ فِي الصَّلاَةِ شُغْلًا فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ كَيْفَ تَصْنَعُ أَنْتَ قَالَ: أَرُدُّ فِي نَفْسِي"
3876- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ"
قوله: "باب هجرة الحبشة" أي هجرة المسلمين من مكة إلى أرض الحبشة، وكان وقوع ذلك مرتين، وذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وقيل: وامرأتان، وقيل: كانوا اثني عشر رجلا وقيل: عشرة، وأنهم خرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار، وذكر ابن إسحاق أن السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما رأى المشركين يؤذونهم ولا يستطيع أن يكفهم عنهم " إن بالحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجا" ، فكان أول من خرج منهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأخرج يعقوب بن سفيان بسند موصول إلى أنس قال."أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة فقالت له.لقد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال: صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط". قلت: وبهذا تظهر النكتة في تصدير البخاري الباب بحديث عثمان، وقد سرد ابن إسحاق أسماءهم، فأما الرجال فهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وأبو حذيفة بن عتبة ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسود وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وأبو سبرة بن أبي رهم العامري، قال ويقال بدله حاطب بن عمرو العامري، قال: فهؤلاء العشرة أول من

(7/188)


خرج من المسلمين إلى الحبشة. قال ابن هشام. وبلغني أنه كان عليهم عثمان بن مظعون، وأما النسوة فهن رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم وسهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة وأم سلمة بنت أبي أمية امرأة أبي سلمة وليلى بنت أبي حثمة امرأة عامر بن ربيعة، ووافقه الواقدي في سردهن وزاد اثنين عبد الله بن مسعود وحاطب بن عمرو، مع أنه ذكر في أول كلامه أنهم كانوا أحد عشر رجلا فالصواب ما قال ابن إسحاق أنه اختلف في الحادي عشر هل هو أبو سبرة أو حاطب، وأما ابن مسعود فجزم ابن إسحاق بأنه إنما كان في الهجرة الثانية، ويؤيده ما روى أحمد بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: "بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا فيهم عبد الله بن مسعود وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون وأبو موسى الأشعري" فذكر الحديث. وقد استشكل ذكر أبي موسى فيهم، لأن المذكور في الصحيح أن أبا موسى خرج من بلاده هو وجماعة قاصدا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فألقتهم السفينة بأرض الحبشة فحضروا مع جعفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، ويمكن الجمع بأن يكون أبو موسى هاجر أولا إلى مكة فأسلم فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع من بعث إلى الحبشة فتوجه إلى بلاد قومه وهم مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحقق استقرار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة فألقتهم السفينة لأجل هيجان الريح إلى الحبشة، فهذا محتمل، وفيه جمع بين الأخبار فليعتمد، والله أعلم. وعلى هذا فقول أبي موسى" بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم" أي إلى المدينة، وليس المراد بلغنا مبعثه، ويؤيده أنه يبعد كل البعد أن يتأخر علم مبعثه إلى مضي نحو عشرين سنة، ومع الحمل على مخرجه إلى المدينة فلا بد فيه من زيادة استقراره بها وانتصافه ممن عاداه ونحو ذلك، وإلا فبعيد أيضا أن يخفى عنهم خبر خروجه إلى المدينة ست سنين، ويحتمل أن إقامة أبي موسى بأرض الحبشة طالت لأجل تأخر جعفر عن الحضور إلى المدينة حتى يأتيه الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوم، وأما عثمان بن مظعون فذكر فيهم وإن كان مذكورا في الأول، لأن ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أهل السير ذكروا أن المسلمين بلغهم وهم بأرض الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فرجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكة فلم يجدوا ما أخبروا به من ذلك صحيحا، فرجعوا، وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية. وسرد ابن إسحاق أسماء أهل الهجرة الثانية وهم زيادة على ثمانين رجلا. وقال ابن جرير الطبري: كانوا اثنين وثمانين رجلا سوى نسائهم وأبنائهم، وشك في عمار بن ياسر هل كان فيهم وبه تتكمل العدة ثلاثة وثمانين، وقيل: إن عدة نسائهم كانت ثماني عشرة امرأة. قوله: "وقالت عائشة أريت دار هجرتكم إلخ" هذا وقع بعد الهجرة الثانية إلى الحبشة كما سيأتي بيانه موصولا مطولا في "باب الهجرة إلى المدينة". قوله فيه "عن أبي موسى وأسماء" أما حديث أبي موسى فسيأتي في آخر الباب، وأما حديث أسماء وهي بنت عميس فسيأتي في غزوة خيبر من طريق أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه" بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن - فذكر الحديث وفيه - ودخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة، وقد كانت أسماء هاجرت فيمن هاجر إلى النجاشي" الحديث. قصة الوليد بن عقبة التي مضت في مناقب عثمان تقدم شرحها مستوفي بتمامه، وفيه قوله هنا: "أن تكلم خالك" والغرض منها قول عثمان" وهاجرت الهجرتين الأوليين" كما قالت و "الأوليين" بضم الهمزة وتحتانيتين تثنية أولى، وهو على طريق التغليب بالنسبة إلى هجرة الحبشة فإنها كانت أولى وثانية، وأما إلى المدينة فلم تكن إلا واحدة، ويحتمل أن تكون الأولية بالنسبة إلى أعيان من هاجر فإنهم هاجروا متفرقين فتعدد بالنسبة إليهم، فمن أول من هاجر عثمان. قوله: "وقال يونس" هو ابن يزيد "وابن أخي

(7/189)


الزهري" هو محمد بن عبد الله بن مسلم "عن الزهري" بالإسناد المذكور. وطريق يونس وصلها المؤلف في مناقب عثمان، وأما طريق ابن أخي الزهري فوصلها قاسم بن أصبغ في مصنفه ومن طريقه ابن عبد البر في تمهيده وهو باللفظ الذي علقه المصنف، وهذا التعليق عن هذين وكذا الذي بعده من التفسير في رواية المستملي وحده. قوله: "قال أبو عبد الله بلاء من ربكم إلخ" وقع في رواية المستملي وحده أيضا، وأورده هنا لقوله: "قد ابتلاك الله" والمراد به الاختيار، ولهذا قال: "هو من بلوته إذا استخرجت ما عنده" واستشهد بقوله نبلو أي نختبر، ومبتليكم أي مختبركم، ثم استطرد فقال وأما قوله بلاء من ربكم عظيم أي نعيم، وهو من ابتليته إذا أنعمت عليه، والأول من ابتليته إذا امتحنته، وهذا كله كلام أبي عبيدة في "المجاز" فرقه في مواضعه، وتحرير ذلك أن لفظ البلاء من الأضداد، يطلق ويراد به النعمة، ويطلق ويراد به النقمة، ويطلق أيضا على الاختبار، ووقع ذلك كله في القرآن كقوله تعالى: {بَلاءً حَسَناً} فهذا من النعمة والعطية، وقوله: {بلاء عظيم} فهذا من النقمة، ويحتمل أن يكون من الاختبار، وكذلك قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} والابتلاء بلفظ الافتعال يراد به النقمة والاختيار أيضا. حديث عائشة" أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة" الحديث كانت أم سلمة قد هاجرت في الهجرة الأولى إلى الحبشة مع زوجها أبي سلمة بن عبد الأسد كما تقدم بيانه، وهاجرت أم حبيبة وهي بنت أبي سفيان في الهجرة الثانية مع زوجها عبيد الله بن جحش فمات هناك، ويقال إنه قد تنصر، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعده، وقد تقدم شرح الحديث في كتاب الجنائز. حديث أم خالد بنت خالد وهو ابن سعيد بن العاص بن أمية، وكان أبوها ممن هاجر في الهجرة الثانية إلى الحبشة، وولدت له هناك فسماها أمة وكناها أم خالد، وأمها أمينة بالتصغير ويقال همينة بالهاء بدل الهمزة بنت خلف الخزاعية. قوله: "حدثنا إسحاق بن سعيد السعيدي" هو ابن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، وجد أبيه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص الأصغر هو ابن عم أم خالد المذكورة، وسيأتي شرح الحديث في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. حديث عبد الله وهو ابن مسعود، وسليمان في الإسناد هو الأعمش. قوله: "فلما رجعنا من عند النجاشي" قد قدمت من عند أحمد حديث ابن مسعود أنه كان ممن هاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية، وتقدم شرح حديث الباب مستوفى في آخر الصلاة، وبينت هناك أن رجوع ابن مسعود من الحبشة وقع لما بلغ المسلمين الذين بالحبشة أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة، فوصل منهم إلى مكة أكثر من ثلاثين رجلا، وكان وصول ابن مسعود إلى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر، وظهر بما تقدم من أسماء أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة وهم من زعم أن ابن مسعود كان منهم وإنما كان من أهل الهجرة الثانية. حديث أبي موسى وهو الأشعري قال: "بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم: "أي مبعثه. قوله: "ونحن باليمن" أي من بلاد قومهم. قوله: "فركبنا سفينة" أي لنصل فيها إلى مكة. قوله: "فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي" كأن الريح هاجت عليهم فما ملكوا أمرهم حتى أوصلتهم بلاد الحبشة. قوله: في آخر الحديث "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكم أنتم أهل السفينة هجرتان" سيأتي هذا الحديث في غزوة خيبر مطولا، وفيه البيان بأن هذه الجملة الأخيرة إنما هي من حديث أسماء بنت عميس كما أشرت إليه أول الباب والله أعلم. "تكملة": أرض الحبشة بالجانب الغربي من بلاد اليمن ومسافتها طويلة جدا، وهم أجناس، وجميع فرق السودان يعطون الطاعة لملك الحبشة، وكان في القديم يلقب بالنجاشي، وأما اليوم فيقال له الحطي بفتح المهملة وكسر الطاء المهملة الخفيفة بعدها

(7/190)


تحتانية خفيفة، ويقال إنهم من ولد حبش بن كوش بن حام، قال ابن دريد: جمع الحبش أحبوش بضم أوله، وأما قولهم الحبشة فعلى غير القياس، وقد قالوا أيضا حبشان وقالوا أحبش، وأصل التحبيش التجميع، والله أعلم.

(7/191)


38 - باب مَوْتُ النَّجَاشِيِّ
3877- حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حِينَ مَاتَ النَّجَاشِيُّ مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ"
3878- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ عَطَاءً حَدَّثَهُمْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَصَفَّنَا وَرَاءَهُ فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ"
3879- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا" تَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ.
3880- حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى لَهُمْ النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَقَالَ اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ "
3881- وَعَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفَّ بِهِمْ فِي الْمُصَلَّى فَصَلَّى عَلَيْهِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا
"باب موت النجاشي" تقدم ذكر اسمه واسم أبيه في الجنائز، وأن النجاشي لقب من ملك الحبشة، وأفاد ابن التين أنه بسكون الياء يعني أنها أصلية لا ياء النسب، وحكى غيره تشديدها أيضا، وحكى ابن دحية كسر نونه.وذكر موته هنا استطرادا لكون المسلمين هاجروا إليه، وإنما وقعت وفاته بعد الهجرة سنة تسع عند الأكثر، وقيل: سنة ثمان قبل فتح مكة كما ذكره البيهقي في" دلائل النبوة" وقد استشكل كونه لم يترجم بإسلامه وهذا موضعه وترجم بموته، وإنما مات بعد ذلك بزمن طويل، والجواب أنه لما لم يثبت عنده القصة الواردة في صفة إسلامه وثبت عنده الحديث الدال على إسلامه وهو صريح في موته ترجم به ليستفاد من الصلاة عليه أنه كان قد أسلم. قوله: "فصلوا على أخيكم أصحمة" بمهملتين وزن أربعة، تقدم ضبطه في كتاب الجنائز وبيان الاختلاف فيه وأنه قيل فيه بالخاء المعجمة. قوله: "حدثنا سعيد" هو ابن أبي عروبة. قوله: "عن سليم" هو بفتح أوله. قوله: "تابعه عبد الصمد" هو ابن عبد الوارث أي أن عبد الصمد تابع يزيد بن هارون في روايته

(7/191)


إياه عن سليم بن حبان، وقد تقدم بيان من وصله في كتاب الجنائز. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان. قوله: "وعن صالح عن ابن شهاب" هو معطوف على الإسناد الموصول. قوله: "حدثني سعيد" هو ابن المسيب، ووقع في رواية الكشميهني وحده" وأبو سلمة بن عبد الرحمن" وهو زيادة لم يتابع عليها ولم يذكرها مسلم في إسناد هذا الحديث، وقد تقدم الكلام على مباحث حديثي الباب في كتاب الجنائز.

(7/192)


39 - باب تَقَاسُمُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
3882- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حِينَ أَرَادَ حُنَيْنًا مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ "
قوله: "باب تقاسم المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم" كان ذلك أول يوم من المحرم سنة سبع من البعثة وكان النجاشي قد جهز جعفرا ومن معه، فقدموا والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وذلك في صفر منها، فلعله مات بعد أن جهزهم، وفي "الدلائل" للبيهقي أنه مات قبل الفتح وهو أشبه، قال ابن إسحاق وموسى ابن عقبة وغيرهما من أصحاب المغازي: لما رأت قريش أن الصحابة قد نزلوا أرضا أصابوا بها أمانا وأن عمر أسلم وأن الإسلام فشا في القبائل أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه إلى ذلك حتى كفارهم فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية، فلما رأت قريش ذلك أجمعوا أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم والمطلب كتابا أن لا يعاملوهم ولا يناكحوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلوا ذلك، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فشلت أصابعه، ويقال إن الذي كتبها النضر بن الحارث، وقيل: طلحة بن أبي طلحة العبدري، قال ابن إسحاق، فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فكانوا معه كلهم إلا أبا لهب فكان مع قريش، وقيل: كان ابتداء حصرهم في المحرم سنة سبع من المبعث، قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، وجزم موسى بن عقبة بأنها كانت ثلاث سنين حتى جهدوا ولم يكن يأتيهم شيء من الأقوات إلا خفية، حتى كانوا يؤذون من اطلعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربه شيئا من الصلات، إلى أن قام في نقض الصحيفة نفر من أشدهم في ذلك صنيعا هشام بن عمرو بن الحارث العامري، وكانت أم أبيه تحت هاشم بن عبد مناف قبل أن يتزوجها جده، فكان يصلهم وهم في الشعب، ثم مشى إلى زهير بن أبي أمية وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب فكلمه في ذلك فوافقه، ومشيا جميعا إلى المطعم بن عدي وإلى زمعة بن الأسود فاجتمعوا على ذلك، فلما جلسوا بالحجر تكلموا في ذلك وأنكروه وتواطئوا عليه فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل. وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة فمزقوها وأبطلوا حكمها. وذكر ابن هشام أنهم وجدوا الأرضة قد أكلت جميع ما فيها إلا اسم الله تعالى. وأما ابن إسحاق وموسى بن عقبة وعروة فذكروا عكس ذلك أن الأرضة لم تدع اسما لله تعالى إلا أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعة، فالله أعلم. وذكر الواقدي أن خروجهم من الشعب كان في سنة عشر من المبعث، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات أبو

(7/192)


طالب بعد أن خرجوا بقليل. قال ابن إسحاق ومات هو وخديجة في عام واحد، فنالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تنله في حياة أبي طالب. ولما لم يثبت عند البخاري شيء من هذه القصة اكتفى بإيراد حديث أبي هريرة لأن فيه دلالة على أصل القصة، لأن الذي أورده أهل المغازي من ذلك كالشرح لقوله في الحديث: "تقاسموا على الكفر". قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حين أراد حنينا: منزلنا غدا إن شاء الله تعالى بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر " هكذا أورده مختصرا، وقد تقدم في الحج من طريق شعيب عن ابن شهاب الزهري بهذا الإسناد بلفظ: "قال حين أراد قدوم مكة" وهذا لا يعارض ما في الباب، لأنه يحمل أنه قال ذلك حين أراد دخول مكة في غزوة الفتح، وفي ذلك القدوم غزا حنينا، ولكن تقدم أيضا من طريق شعيب عن الزهري بلفظ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من الغد يوم النحر وهو بمنى: نحن نازلون غدا" الحديث، وهذا ظاهر في أنه قاله في حجة الوداع فيحمل قوله في رواية الأوزاعي" حين أراد قدوم مكة" أي صادرا من منى إليها لطواف الوداع، ويحتمل التعدد، وسيأتي بيان ذلك مع بقية شرح الحديث في غزوة الفتح من كتاب المغازي إن شاء الله تعالى.

(7/193)


3 - باب قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ
3883- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ قَالَ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ"
[الحديث 3883- طرفاه في: 6572,6208]
3884- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ أَ يْ عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ فَنَزَلَتْ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [113 التوبة] وَنَزَلَتْ {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [56 القصص]
3885- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ فَقَالَ لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ "
[الحديث 3885- طرفه في: 6564]
قوله: "باب قصة أبي طالب" واسمه عند الجميع عبد مناف، وشذ من قال عمران، بل هو قول باطل نقله ابن

(7/193)


تيمية في كتاب الرد على الرافضي أن بعض الروافض زعم أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} أن آل عمران هم آل أبي طالب وأن اسم أبي طالب عمران واشتهر بكنيته. وكان شقيق عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أوصى به عبد المطلب عند موته فكفله إلى أن كبر، واستمر على نصره بعد أن بعث إلى أن مات أبو طالب، وقد ذكرنا أنه مات بعد خروجهم من الشعب، وذلك في آخر السنة العاشرة من المبعث، وكان يذب عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرد عنه كل من يؤذيه، وهو مقيم مع ذلك على دين قومه.
وقد تقدم قريبا حديث ابن مسعود" وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه" وأخباره في حياطته والذب عنه معروفة مشهورة، ومما اشتهر من شعره في ذلك قوله:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
وقوله:
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا ... ولما نقاتل حوله ونناضل
وقد تقدم شيء من هذه القصيدة في كتاب الاستسقاء، وحديث ابن عباس في هذا الباب يشهد لذلك. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد القطان، وسفيان هو الثوري، وعبد الملك هو ابن عمير، وعبد الله بن الحارث هو ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، والعباس عم جده. قوله: "ما أغنيت عن عمك" يعني أبا طالب. قوله: "كان يحوطك" بضم الحاء المهملة من الحياطة وهي المراعاة، وفيه تلميح إلى ما ذكره ابن إسحاق قال: "ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد قبل الهجرة بثلاث سنين، وكانت خديجة له وزيرة صدق على الإسلام يسكن إليها، وكان أبو طالب له عضدا وناصرا على قومه، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فعمر على رأسه ترابا: فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته يقول ما نالتني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب". قوله: "ويغضب لك" يشير إلى ما كان يرد به عنه من قول وفعل. قوله: "هو في ضحضاح" بمعجمتين ومهملتين هو استعارة، فإن الضحضاح من الماء ما يبلغ الكعب، ويقال أيضا لما قد قرب من الماء وهو ضد الغمرة، والمعنى أنه خفف عنه العذاب. وقد ذكر في حديث أبي سعيد ثالث أحاديث الباب أنه" يجعل في ضحضاح يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه". ووقع في حديث ابن عباس عند مسلم: "إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب له نعلان يغلي منهما دماغه" ولأحمد من حديث أبي هريرة مثله لكن لم يسم أبا طالب، وللبزار من حديث جابر" قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هل نفعت أبا طالب؟ قال: أخرجته من النار إلى ضحضاح منها" وسيأتي في أواخر الرقاق من حديث النعمان بن بشير نحوه وفي آخره: "كما يغلي المرجل بالقمقم" والمرجل بكسر الميم وفتح الجيم الإناء الذي يغلي فيه الماء وغيره، والقمقم بضم القافين وسكون الميم الأولى معروف وهو الذي يسخن فيه الماء. قال ابن الأثير: كذا وقع "كما يغلي المرجل بالقمقم" وفيه نظر. ووقع في نسخة" كما يغلي المرجل والقمقم" وهذا أوضح إن ساعدته الرواية، انتهى. ويحتمل أن تكون الباء بمعنى مع، وقيل: القمقم هو البسر كانوا يغلونه على النار استعجالا لنضجه فإن ثبت هذا زال الإشكال. "تنبيه": في سؤال العباس عن حال أبي طالب ما يدل على ضعف ما أخرجه ابن إسحاق من حديث ابن عباس بسند فيه من لم يسم" أن أبا طالب لما تقارب منه الموت بعد أن عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله فأبى، قال فنظر العباس إليه وهو يحرك شفتيه فأصغى إليه فقال:

(7/194)


يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها" وهذا الحديث لو كان طريقه صحيحا لعارضه هذا الحديث الذي هو أصح منه فضلا عن أنه لا يصح. وروى أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن الجارود من حديث علي قال: "لما مات أبو طالب قلت: يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فواره. قلت: إنه مات مشركا، فقال: اذهب فواره" الحديث. ووقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي طالب ولا يثبت من ذلك شيء، وبالله التوفيق. وقد لخصت ذلك في ترجمة أبي طالب من كتاب الإصابة. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان. قوله: "عن أبيه" هو حزن بفتح المهملة وسكون الزاي أي ابن أبي وهب المخزومي. قوله: "أن أبا طالب لما حضرته الوفاة" أي قبل أن يدخل في الغرغرة قوله: "أحاج" بتشديد الجيم وأصله أحاجج، وقد تقدم في أواخر الجنائز بلفظ: "أشهد لك بها عند الله" وكأنه عليه الصلاة والسلام فهم من امتناع أبي طالب من الشهادة في تلك الحالة أنه ظن أن ذلك لا ينفعه لوقوعه عند الموت أو لكونه لم يتمكن من سائر الأعمال كالصلاة وغيرها، فلذلك ذكر له المحاججة. وأما لفظ الشهادة فيحتمل أن يكون ظن أن ذلك لا ينفعه إذ لم يحضره حينئذ أحد من المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم، فطيب قلبه بأن يشهد له بها فينفعه. وفي رواية أبي حازم عن أبي هريرة عند أحمد" فقال أبو طالب: لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله عليه إلا جزع الموت لأقررت بها عينك" وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس نحوه. قوله: "وعبد الله بن أبي أمية" أي ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهو أخو أم سلمة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، قد أسلم عبد الله يوم الفتح واستشهد في تلك السنة في غزاة حنين. قوله: "على ملة عبد المطلب" خبر مبتدأ محذوف، أي هو. وثبت كذلك في طريق أخرى. قوله: "فنزلت: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. ونزلت إنك لا تهدي من أحببت" أما نزول هذه الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب، وأما نزول التي قبلها ففيه نظر، ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه وفي حق غيره، ويوضح ذلك ما سيأتي في التفسير بلفظ: "فأنزل الله بعد ذلك {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية. وأنزل في أبي طالب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ولأحمد من طريق أبي حازم عن أبي هريرة في قصة أبي طالب" قال فأنزل الله {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وهذا كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام. ويضعف ما ذكره السهيلي أنه رأى في بعض كتب المسعودي1 أنه أسلم، لأن مثل ذلك لا يعارض ما في الصحيح. قوله: "حدثني ابن الهاد" هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، وهو المراد بقوله في الرواية الثانية" عن يزيد بهذا" أي الإسناد والمتن إلا ما نبه عليه. قوله: "عن عبد الله بن خباب" أي المدني الأنصاري مولاهم، وكان من ثقات المدنيين، ولم أر له رواية عن غير أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وروى عنه جماعة من التابعين من أقرانه ومن بعده. قوله: "وذكر عنده عمه" زاد في رواية أخرى عن ابن الهاد الآتية في الرقاق "أبو طالب" ويؤخذ من الحديث الأول أن الذاكر هو العباس بن عبد المطلب لأنه الذي سأل عن ذلك. قوله: "يبلغ كعبيه" قال السهيلي: الحكمة فيه أن أبا طالب كان تابعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بجملته، إلا أنه استمر ثابت القدم على دين قومه، فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على دين قومه، كذا قال، ولا يخلو عن نظر.
ـــــــ
1 المسعودي المؤرخ شيعي قح من دعاتهم.

(7/195)


قوله: "يغلي منه دماغه" وفي الرواية التي تليها" يغلي منه أم دماغه" قال الداودي: المراد أم رأسه، وأطلق على الرأس الدماغ من تسمية الشيء بما يقاربه ويجاوره. ووقع في رواية ابن إسحاق" يغلي منه دماغه حتى يسيل على قدمه" وفي الحديث جواز زيارة القريب المشرك وعيادته، وأن التوبة مقبولة ولو في شدة مرض الموت، حتى يصل إلى المعاينة فلا يقبل، لقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ، وأن الكافر إذا شهد شهادة الحق نجا من العذاب لأن الإسلام يجب ما قبله، وأن عذاب الكفار متفاوت، والنفع الذي حصل لأبي طالب من خصائصه ببركة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما عرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يقول لا إله إلا الله ولم يقل فيها محمد رسول الله لأن الكلمتين صارتا كالكلمة الواحدة، ويحتمل أن يكون أبو طالب كان يتحقق أنه رسول الله ولكن لا يقر بتوحيد الله، ولهذا قال في الأبيات النونية:
ودعوتني وعلمت أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت قبل أمينا
فاقتصر على أمره بقول لا إله إلا الله، فإذا أقر بالتوحيد لم يتوقف على الشهادة بالرسالة. "تكملة": من عجائب الاتفاق أن الذين أدركهم الإسلام من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أربعة: لم يسلم منهم اثنان. وأسلم اثنان. وكان اسم من لم يسلم ينافي أسامي المسلمين، وهما أبو طالب واسمه عبد مناف وأبو لهب واسمه عبد العزى، بخلاف من أسلم وهما حمزة والعباس.

(7/196)


41 - باب حَدِيثِ الإِسْرَاءِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}
3886- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلاَ اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" .
[الحديث 3886- طرفه في: 4710]
قوله: "حديث الإسراء، وقول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} سيأتي البحث في لفظ {أَسْرَى} في تفسير سورة سبحان إن شاء الله تعالى. قال ابن دحية: جنح البخاري إلى أن ليلة الإسراء كانت غير ليلة المعراج، لأنه أفرد لكل منهما ترجمة. قلت: ولا دلالة في ذلك على التغاير عنده، بل كلامه في أول الصلاة ظاهر في اتحادهما، وذلك أنه ترجم" باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء" والصلاة إنما فرضت في المعراج، فدل على اتحادهما عنده، وإنما أفرد كلا منهما بترجمة لأن كلا منهما يشتمل على قصة مفردة وإن كانا وقعا معا، وقد روى كعب الأحبار أن باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، فأخذ منه بعض العلماء أن الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج ليحصل العروج مستويا من غير تعويج، وفيه نظر، لورود أن

(7/196)


في كل سماء بيتا معمورا، وأن الذي في السماء الدنيا حيال الكعبة، وكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور بغير تعويج، لأنه صعد من سماء إلى سماء إلى البيت المعمور، وقد ذكر غيره مناسبات أخرى ضعيفة فقيل الحكمة في ذلك أن يجمع صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة بين رؤية القبلتين، أو لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله فحصل له الرحيل إليه في الجملة ليجمع بين أشتات الفضائل، أو لأنه محل الحشر وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية، فكان المعراج منه أليق بذلك، أو للتفاؤل بحصول أنواع التقديس له حسا ومعنى، أو ليجتمع بالأنبياء جملة كما سيأتي بيانه، وسيأتي مناسبة أخرى للشيخ ابن أبي جمرة قريبا، والعلم عند الله. وقد اختلف السلف بحسب اختلاف الأخبار الواردة: فمنهم من ذهب إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه بعد المبعث، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل، نعم جاء في بعض الأخبار ما يخالف بعض ذلك، فجنح لأجل ذلك بعض أهل العلم منهم إلى أن ذلك كله وقع مرتين مرة في المنام توطئة وتمهيدا، ومرة ثانية في اليقظة كما وقع نظير ذلك في ابتداء مجيء الملك بالوحي، فقد قدمت في أول الكتاب ما ذكره ابن ميسرة التابعي الكبير وغيره أن ذلك وقع في المنام، وأنهم جمعوا بينه وبين حديث عائشة بأن ذلك وقع مرتين، وإلى هذا ذهب المهلب شارح البخاري وحكاه عن طائفة وأبو نصر بن القشيري ومن قبلهم أبو سعيد في" شرف المصطفى" قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم معاريج، منها ما كان في اليقظة ومنها ما كان في المنام، وحكاه السهيلي عن ابن العربي واختاره، وجوز بعض قائلي ذلك أن تكون قصة المنام وقعت قبل المبعث لأجل قول شريك في روايته عن أنس" وذلك قبل أن يوحى إليه" وقد قدمت في آخر صفة النبي صلى الله عليه وسلم بيان ما يرتفع به الإشكال ولا يحتاج معه إلى هذا التأويل، ويأتي بقية شرحه في الكلام على حديث شريك، وبيان ما خالفه فيه غيره من الرواة والجواب عن ذلك وشرحه مستوفى في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. وقال بعض المتأخرين: كانت قصة الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة، متمسكا بما ورد في حديث أنس من رواية شريك من ترك ذكر الإسراء، وكذا في ظاهر حديث مالك بن صعصعة هذا، ولكن ذلك لا يستلزم التعدد بل هو محمول على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر كما سنبينه. وذهب بعضهم إلى أن الإسراء كان في اليقظة والمعراج كان في المنام، أو أن الاختلاف في كونه يقظة أو مناما خاص بالمعراج لا بالإسراء، ولذلك لما أخبر به قريشا كذبوه في الإسراء واستبعدوا وقوعه ولم يتعرضوا للمعراج، وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} فلو وقع المعراج في اليقظة لكان ذلك أبلغ في الذكر، فلما لم يقع ذكره في هذا الموضع مع كونه شأنه أعجب وأمره أغرب من الإسراء بكثير دل على أنه كان مناما، وأما الإسراء فلو كان مناما لما كذبوه ولا استنكروه لجواز وقوع مثل ذلك وأبعد منه لآحاد الناس، وقيل كان الإسراء مرتين في اليقظة فالأولى رجع من بيت المقدس وفي صبيحته أخبر قريشا بما وقع، والثانية أسري به إلى بيت المقدس ثم عرج به من ليلته إلى السماء إلى آخر ما وقع، ولم يقع لقريش في ذلك اعتراض لأن ذلك عندهم من جنس قوله إن الملك يأتيه من السماء في أسرع من طرفة عين، وكانوا يعتقدون استحالة ذلك مع قيام الحجة على صدقه بالمعجزات الباهرة، لكنهم عاندوا في ذلك واستمروا على تكذيبه فيه، بخلاف إخباره أنه جاء بيت المقدس في ليلة واحدة ورجع،

(7/197)


فإنهم صرحوا بتكذيبه فيه فطلبوا منه نعت بيت المقدس لمعرفتهم به وعلمهم بأنه ما كان رآه قبل ذلك فأمكنهم استعلام صدقه في ذلك بخلاف المعراج، ويؤيد وقوع المعراج عقب الإسراء في ليلة واحدة رواية ثابت عن أنس عند مسلم، ففي أوله "أتيت بالبراق فركبت حتى أتيت بيت المقدس" فذكر القصة إلى أن قال: "ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا" وفي حديث أبي سعيد الخدري عند ابن إسحاق " فلما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج" فذكر الحديث، ووقع في أول حديث مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به فذكر الحديث، فهو وإن لم يذكر الإسراء إلى بيت المقدس فقد أشار إليه وصرح به في روايته فهو المعتمد. واحتج من زعم أن الإسراء وقع مفردا بما أخرجه البزار والطبراني وصححه البيهقي في "الدلائل" من حديث شداد بن أوس قال: "قلت يا رسول الله كيف أسري بك؟ قال: صليت صلاة العتمة بمكة فأتاني جبريل بدابة " فذكر الحديث في مجيئه بيت المقدس وما وقع له فيه، قال: "ثم انصرف بي، فمررنا بعير لقريش بمكان كذا" فذكره قال: "ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة" وفي حديث أم هانئ عند ابن إسحاق وأبي يعلى نحو ما في حديث أبي سعيد هذا، فإن ثبت أن المعراج كان مناما على ظاهر رواية شريك عن أنس فينتظم من ذلك أن الإسراء وقع مرتين. مرة على انفراده ومرة مضموما إليه المعراج وكلاهما في اليقظة، والمعراج وقع مرتين مرة في المنام على انفراده توطئة وتمهيدا، ومرة في اليقظة مضموما إلى الإسراء. وأما كونه قبل البعث فلا يثبت، ويأتي تأويل ما وقع في رواية شريك إن شاء الله تعالى. وجنح الإمام أبو شامة إلى وقوع المعراج مرارا، واستند إلى ما أخرجه البزار وسعيد بن منصور من طريق أبي عمران الجوني عن أنس رفعه قال: "بينا أنا جالس إذ جاء جبريل فوكز ببن كتفي، فقمنا إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر، فقعدت في أحدهما وقعد جبريل في الآخر، فارتفعت حتى سدت الخافقين" الحديث وفيه: "ففتح لي باب من السماء، ورأيت النور الأعظم، وإذا دونه حجاب رفرف الدر والياقوت" ورجاله لا بأس بهم، إلا أن الدار قطني ذكر له علة تقتضي إرساله، وعلى كل حال فهي قصة أخرى الظاهر أنها وقعت بالمدينة، ولا بعد في وقوع أمثالها، وإنما المستبعد وقوع التعدد في قصة المعراج التي وقع فيها سؤاله عن كل نبي وسؤال أهل كل باب هل بعث إليه وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك فإن تعدد ذلك في اليقظة لا يتجه، فيتعين رد بعض الروايات المختلفة إلى بعض أو الترجيح إلا أنه لا بعد في جميع وقوع ذلك في المنام توطئة ثم وقوعه في اليقظة على وفقه كما قدمته. ومن المستغرب قول ابن عبد السلام في تفسيره: كان الإسراء في النوم واليقظة، ووقع بمكة والمدينة. فإن كان يريد تخصيص المدينة بالنوم ويكون كلامه على طريق اللف والنشر غير المرتب فيحتمل ويكون الإسراء الذي اتصل به المعراج وفرضت فيه الصلوات في اليقظة بمكة والآخر في المنام بالمدينة، وينبغي أن يزاد فيه أن الإسراء في المنام تكرر في المدينة النبوية، وفي الصحيح حديث سمرة الطويل الماضي في الجنائز، وفي غيره حديث عبد الرحمن بن سمرة الطويل، وفي الصحيح حديث ابن عباس في رؤياه الأنبياء، وحديث ابن عمر في ذلك وغير ذلك، والله أعلم. قوله: {سُبْحَانَ} أصلها للتنزيه وتطلق في موضع التعجب، فعلى الأول المعنى تنزه الله عن أن يكون رسوله كذابا، وعلى الثاني عجب الله عباده بما أنعم به على رسوله، ويحتمل أن تكون بمعنى الأمر أي سبحوا الذي أسرى. قوله: {أَسْرَى} مأخوذ من السرى وهو سير الليل، تقول أسرى وسرى إذا سار ليلا بمعنى، هذا قول الأكثر. وقال الحوفي: أسرى سار ليلا، وسرى سار نهارا، وقيل أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره وهذا أقرب. والمراد بقوله: {أَسْرَى

(7/198)


بِعَبْدِهِ} أي جعل البراق يسري به كما يقال أمضيت كذا أي جعلته يمضي، وحذف المفعول لدلالة السياق عليه ولأن المراد ذكر المسرى به لا ذكر الدابة، والمراد بقوله: {بِعَبْدِهِ} محمد عليه الصلاة والسلام اتفاقا والضمير لله تعالى والإضافة للتشريف، وقوله: {لَيْلاً} ظرف للإسراء وهو للتأكيد، وفائدته رفع توهم المجاز لأنه قد يطلق على سير النهار أيضا، ويقال بل هو إشارة إلى أن ذلك وقع في بعض الليل لا في جميعه، والعرب تقول سرى فلان ليلا إذا سار بعضه، وسرى ليلة إذا سار جميعها، ولا يقال أسرى إلا إذا وقع سيره في أثناء الليل، وإذا وقع في أوله يقال أدلج ومن هذا قوله تعالى في قصة موسى وبني إسرائيل {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} أي من وسط الليل. قوله: "سمعت جابر بن عبد الله" كذا في رواية الزهري عن أبي سلمة وخالفه عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة فقال: "عن أبي هريرة" أخرجه مسلم، وهو محمول على أن لأبي سلمة فيه شيخين لأن في رواية عبد الله بن الفضل زيادة ليست في رواية الزهري. قوله: "لما كذبني" في رواية الكشميهني: "كذبتني" بزيادة مثناة وكلاهما جائز، وقد وقع بيان ذلك في طرق أخرى: فروى البيهقي في"الدلائل" من طريق صالح بن كيسان عن الزهري عن أبي سلمة قال: "افتتن ناس كثير - يعني عقب الإسراء - فجاء ناس إلى أبي بكر فذكروا له فقال: أشهد أنه صادق. فقالوا: وتصدقه بأنه أتى الشام في ليلة واحدة ثم رجع إلى مكة؟ قال نعم، إني أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء قال فسمي بذلك الصديق" قال سمعت جابر يقول فذكر الحديث، وفي حديث ابن عباس عند أحمد والبزار بإسناد حسن قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كان ليلة أسري بي وأصبحت بمكة مر بي عدو الله أبو جهل فقال: هل كان من شيء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم، قال فإن دعوت قومك أتحدثهم بذلك؟ قال: نعم. قال: يا معشر بني كعب بن لؤي. قال فانفضت إليه المجالس حتى جاءوا إليهما فقال: حدث قومك بما حدثني، فحدثتهم، قال فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا، قالوا وتستطيع أن تنعت لنا المسجد" الحديث. ووقع في غير هذه الرواية بيان ما رآه ليلة الإسراء، فمن ذلك ما وقع عند النسائي من رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل" الحديث وفيه: "فركبت ومعي جبريل، فسرت فقال: انزل فصل، ففعلت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة" يعني بفتح الجيم، ووقع في حديث شداد بن أوس عند البزار والطبراني أنه " أول ما أسري به مر بأرض ذات نخل، فقال له جبريل انزل فصل، فنزل فصلى، فقال: صليت بيثرب" ثم قال في روايته: "ثم قال: انزل فصل مثل الأول، قال: صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى ثم قال: انزل - فذكر مثله - قال صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى" وقال في رواية شداد بعد قوله يثرب "ثم مر بأرض بيضاء فقال: انزل فصل، فقال: صليت بمدين" وفيه أنه دخل المدينة من بابها اليماني فصلى في المسجد، وفيه أنه مر في رجوعه بعير لقريش فسلم عليهم فقال بعضهم: هذا صوت محمد، وفيه أنه أعلمهم بذلك وأن عيرهم تقدم في يوم كذا، فقدمت الظهر يقدمهم الجمل الذي وصفه، وزاد في رواية يزيد بن أبي مالك " ثم دخلت بيت المقدس، فجمع لي الأنبياء، فقدمني جبريل حتى أممتهم" وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة عن أنس عند البيهقي في "الدلائل" " أنه مر بشيء يدعوه متنحيا عن الطريق، فقال له جبريل: سر، وأنه مر على عجوز فقال: ما هذه: فقال سر، وأنه مر بجماعة فسلموا فقال له جبريل اردد عليهم" وفي آخره "فقال له: الذي دعاك إبليس، والعجوز الدنيا، والذين سلموا

(7/199)


إبراهيم وموسى وعيسى" . وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني والبزار أنه "مر بقوم يزرعون ويحصدون، كلما حصدوا عاد كما كان، قال جبريل: هؤلاء المجاهدون. ومر بقوم ترضخ رءوسهم بالصخر كلما رضخت عادت، قال: هؤلاء الذين تثاقل رءوسهم عن الصلاة. ومر بقوم على عوراتهم رقاع يسرحون كالأنعام، قال: هؤلاء الذين لا يؤدون الزكاة. ومر بقوم يأكلون لحما نيئا خبيثا ويدعون لحما نضيجا طيبا قال: هؤلاء الزناة. ومر برجل جمع حزمة حطب لا يستطيع حملها ثم هو يضم إليها غيرها، قال: هذا الذي عنده الأمانة لا يؤديها وهو يطلب أخرى. ومر بقوم تقرض ألسنتهم وشفاههم، كلما قرضت عادت قال: هؤلاء خطباء الفتنة. ومر بثور عظيم يخرج من ثقب صغير يريد أن يرجع فلا يستطيع، قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة فيندم فيريد أن يردها فلا يستطيع" وفي حديث أبي هريرة عند البزار والحاكم أنه صلى ببيت المقدس مع الملائكة وأنه أتي هناك بأرواح الأنبياء فأثنوا على الله، وفيه قول إبراهيم "لقد فضلكم محمد" وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم عن أنس" ثم بعث له آدم فمن دونه فأمهم تلك الليلة" أخرجه الطبراني. وعند مسلم من رواية عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة رفعه: "ثم حانت الصلاة فأممتهم" وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط"ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمدا" وفيه: "ثم مر بقوم بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خر، وأن جبريل قال له: هم آكلو الربا. وأنه مر بقوم مشافرهم كالإبل يلتقمون حجرا فيخرج من أسافلهم، وأن جبريل قال له: هؤلاء أكلة أموال اليتامى". قوله: "فجلى الله لي بيت المقدس" قيل معناه كشف الحجب بيني وبينه حتى رأيته، ووقع في رواية عبد الله بن الفضل عن أم سلمة عند مسلم المشار إليها" قال فسألوني عن أشياء لم أثبتها، فكربت كربا لم أكرب مثله قط، فرفع الله لي بيت المقدس أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا نبأتهم به" ويحتمل أن يريد أنه حمل إلى أن وضع بحيث يراه ثم أعيد، وفي حديث ابن عباس المذكور" فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع عند دار عقيل فنعته وأنا أنظر إليه" وهذا أبلغ في المعجزة، ولا استحالة فيه، فقد أحضر عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان، وهو يقتضي أنه أزيل من مكانه حتى أحضر إليه، وما ذاك في قدرة الله بعزيز. ووقع في حديث أم هانئ عند ابن سعد" فخيل لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته" فإن لم يكن مغيرا من قوله: "فجلى" وكان ثابتا احتمل أن يكون المراد أنه مثل قريبا منه، كما تقدم نظيره في حديث: "رأيت الجنة والنار" وتأول قوله: "جيء بالمسجد" أي جيء بمثاله والله أعلم. ووقع حديث شداد بن أوس عند البزار والطبراني ما يؤيد الاحتمال الأول ففيه: "ثم مررت بعير لقريش - فذكر القصة ثم أتيت أصحابي بمكة قبل الصبح، فأتاني أبو بكر فقال: أين كنت الليلة؟ فقال: إني أتيت بيت المقدس، فقال: إنه مسيرة شهر فصفه لي. قال ففتح لي شراك كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه" وفي حديث أم هانئ أيضا أنهم" قالوا له كم للمسجد باب؟ قال: ولم أكن عددتها، فجعلت أنظر إليه وأعدها بابا بابا" وفيه عند أبي يعلى أن الذي سأله عن صفة بيت المقدس هو المطعم بن عدي والد جبير بن مطعم، وفيه من الزيادة" فقال رجل من القوم: هل مررت بإبل لنا في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم والله، قد وجدتهم قد أضلوا بعيرا لهم فهم في طلبه، ومررت بإبل بني فلان انكسرت لهم ناقة حمراء، قالوا فأخبرنا عن عدتها وما فيها من الرعاة، قال: كنت عن عدتها مشغولا، فقام فأتى الإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاء ثم أتى قريشا فقال: هي كذا وكذا، وفيها من الرعاء فلان وفلان"فكان كما قال". قال الشيخ أبو محمد بن أبي

(7/200)


جمرة: الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحق لمعاندة من يريد إخماده، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلا إلى البيان والإيضاح، فلما ذكر أنه أسري به إلى بيت المقدس سألوه عن تعريفات جزئيات من بيت المقدس كانوا رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكره، فكان ذلك زيادة في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد والمعاند، انتهى ملخصا.

(7/201)


42 - باب الْمِعْرَاجِ
3887- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ "بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدَّ قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي مَا يَعْنِي بِهِ قَالَ مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مِنْ قَ صِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا فَغُسِلَ قَلْبِي ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ قَالَ أَنَسٌ نَعَمْ يَ ضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ فَقَالَ هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلاَمَ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ قَالَ هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ثُمَّ قَالاَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ قَالَ هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلَى إِدْرِيسَ قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ

(7/201)


قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ قَالَ هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ مَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى قَالَ هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى قِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ قَالَ أَبْكِي لِأَنَّ غُلاَمًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ قَالَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلاَمَ قَالَ مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرَ وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ قَالَ هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ فَقُلْتُ مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ بِمَا أُمِرْتَ قَالَ أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ بِمَ أُمِرْتَ قُلْتُ أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ قَالَ سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ قَالَ فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي"
3888- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي

(7/202)


قَوْلِهِ تَعَالَى [60 الإسراء]: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ
[الحديث 3888- طرفاه في: 6613,4716]
قوله: "باب المعراج" كذا للأكثر، وللنسفي "قصة المعراج" وهو بكسر الميم وحكي ضمها من عرج بفتح الراء يعرج بضمها إذا صعد. وقد اختلف في وقت المعراج فقيل كان قبل المبعث، وهو شاذ إلا إن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام كما تقدم، وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث. ثم اختلفوا فقيل قبل الهجرة بسنة قاله ابن سعد وغيره وبه جزم النووي، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه، وهو مردود فإن في ذلك اختلافا كثيرا يريد على عشرة أقوال، منها ما حكاه ابن الجوزي أنه كان قبلها بثمانية أشهر، وقيل بسنة أشهر وحكى هذا الثاني أبو الربيع بن سالم، وحكى ابن حزم مقتضى الذي قبله لأنه قال: كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة، وقيل بأحد عشر شهرا جزم به إبراهيم الحربي حيث قال: كان في ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، ورجحه ابن المنير في شرح السيرة لابن عبد البر، وقيل قبل الهجرة بسنة وشهرين حكاه ابن عبد البر وقيل قبلها بسنة وثلاثة أشهر حكاه ابن فارس، وقيل بسنة وخمسة أشهر قاله السدي وأخرجه من طريقه الطبري والبيهقي، فعلى هذا كان في شوال، أو في رمضان على إلغاء الكسرين منه ومن ربيع الأول وبه جزم الواقدي، وعلى ظاهره ينطبق ما ذكره ابن قتيبة وحكاه ابن عبد البر أنه كان قبلها بثمانية عشر شهرا، وعند ابن سند عن ابن أبي سبرة أنه كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، وقيل كان في رجب حكاه ابن عبد البر وجزم به النووي في الروضة، وقيل قبل الهجرة بثلاث سنين حكاه ابن الأثير، وحكى عياض وتبعه القرطبي والنووي عن الزهري أنه كان قبل الهجرة بخمس سنين ورجحه عياض ومن تبعه واحتج بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث أو نحوها وإما بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء. قلت: في جميع ما نفاه من الخلاف نظر، أما أولا فإن العسكري حكى أنها ماتت قبل الهجرة بسبع سنين وقيل بأربع، وعن ابن الأعرابي أنها ماتت عام الهجرة. وأما ثانيا فإن فرض الصلاة اختلف فيه فقيل كان من أول البعثة وكان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وإنما الذي فرض ليلة الإسراء الصلوات الخمس. وأما ثالثا فقد تقدم في ترجمة خديجة في الكلام على حديث عائشة في بدء الخلق أن عائشة جزمت بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة، فالمعتمد أن مراد من قال بعد أن فرضت الصلاة ما فرض قبل الصلوات الخمس إن ثبت ذلك، ومراد عائشة بقولها ماتت قبل أن تفرض الصلاة أي الخمس، فيجمع بين القولين بذلك، ويلزم منه أنها ماتت قبل الإسراء. وأما رابعا ففي سنة موت خديجة اختلاف آخر، فحكى العسكري عن الزهري أنها ماتت لسبع مضين من البعثة، وظاهره أن ذلك قبل الهجرة بست سنين، فرعه العسكري على قول من قال إن المدة بين البعثة والهجرة كانت عشرا. قوله: "عن أنس" تقدم في أول بدء الخلق من وجه آخر عن قتادة "حدثنا أنس". قوله: "عن مالك بن صعصعة" أي ابن وهب بن عدي بن مالك الأنصاري من بني النجار، ماله في البخاري ولا في غيره سوى هذا الحديث، ولا يعرف من روى عنه إلا أنس بن مالك. قوله: "حدثه عن ليلة أسرى" كذا للأكثر، وللكشميهني: "أسري به" وكذا للنسفي، وقوله: "أسري به"

(7/203)


صفة ليلة أي أسري به فيها. قوله: "في الحطيم وربما قال في الحجر" هو شك من قتادة كما بينه أحمد عن عفان عن همام ولفظه: "بينا أنا نائم في الحطيم، وربما قال قتادة: "في الحجر" والمراد بالحطيم هنا الحجر، وأبعد من قال المراد به ما بين الركن والمقام أو بين زمزم والحجر، وهو وإن كان مختلفا في الحطيم هل هو الحجر أم لا كما تقدم قريبا في"باب بنيان الكعبة" لكن المراد هنا بيان البقعة التي وقع ذلك فيها، ومعلوم أنها لم تتعدد لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها، وقد تقدم في أول بدء الخلق بلفظ: "بينا أنا عند البيت" وهو أعم، ووقع في رواية الزهري عن أنس عن أبي ذر" فرج سقف بيتي وأنا بمكة" وفي رواية الواقدي بأسانيده أنه أسري به من شعب أبي طالب، وفي حديث أم هانئ عند الطبراني أنه بات في بيتها قال: "ففقدته من الليل فقال إن جبريل أتاني" والجمع بين هذه الأقوال أنه نام في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته - وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه - فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس؛ ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد فأركبه البراق. وقد وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع. وقيل الحكمة في نزوله عليه من السقف الإشارة إلى المبالغة في مفاجأته بذلك، والتنبيه على أن المراد منه أن يعرج به إلى جهة العلو. قوله: "مضطجعا" زاد في بدء الخلق "بين النائم واليقظان" وهو محمول على ابتداء الحال، ثم لما أخرج به إلى باب المسجد فأركبه البراق استمر في يقظته، وأما ما وقع في رواية شريك الآتية في التوحيد في آخر الحديث: "فلما استيقظت" فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حمل على أن المراد باستيقظت أفقت، أي أنه أفاق مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الملكوت ورجع إلى العالم الدنيوي. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لو قال صلى الله عليه وسلم إنه كان يقظا لأخبر بالحق، لأن قلبه في النوم واليقظة سواء، وعينه أيضا لم يكن النوم تمكن منها، لكنه تحرى صلى الله عليه وسلم الصدق في الإخبار بالواقع، فيؤخذ منه أنه لا يعدل عن حقيقة اللفظ للمجاز إلا لضرورة. قوله: "إذ أتاني آت" هو جبريل كما تقدم، ووقع في بدء الخلق بلفظ: "وذكر بين الرجلين" وهو مختصر، وقد أوضحته رواية مسلم من طريق سعيد عن قتادة بلفظ: "إذ سمعت قائلا يقول أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بي" وتقدم في أول الصلاة أن المراد بالرجلين حمزة وجعفر وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نائما بينهما، ويستفاد منه ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من التواضع وحسن الخلق، وفيه جواز نوم جماعة في موضع واحد، وثبت من طرق أخرى أنه يشترط أن لا يجتمعوا في لحاف واحد. قوله: "فقد" بالقاف والدال الثقيلة "قال وسمعته يقول فشق" القائل قتادة والمقول عنه أنس، ولأحمد" قال قتادة: وربما سمعت أنسا يقول فشق". قوله: "فقلت للجارود" لم أر من نسبه من الرواة، ولعله ابن أبي سيرة البصري صاحب أنس، فقد أخرج له أبو داود من روايته عن أنس حديثا غير هذا. قوله: "من ثغرة" بضم المثلثة وسكون المعجمة، وهي الموضع المنخفض الذي بين الترقوتين. قوله: "إلى شعرته" بكسر المعجمة أي شعر العانة. وفي رواية مسلم: "إلى أسفل بطنه" وفي بدء الخلق" من النحر إلى مراق بطنه" وتقدم ضبطه في أوائل الصلاة. قوله: "من قصه" بفتح القاف وتشديد المهملة أي رأس صدره. قوله: "إلى شعرته" ذكر الكرماني أنه وقع" إلى ثنته" بضم المثلثة وتشديد النون ما بين السرة والعانة، وقد استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الإسراء وقال: إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك، فقد تواردت الروايات به. وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة كما أخرجه أبو

(7/204)


نعيم في"الدلائل" ولكل منها حكمة، فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس" فأخرج علقمة فقال: هذا حظ الشيطان منك" وكان هذا في زمن الطفولية فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن تكون الحكمة في انفراج سقف بيته الإشارة إلى ما سيقع من شق صدره وأنه سيلتئم بغير معالجة يتضرر بها. وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة فلا يستحيل شيء من ذلك، قال القرطبي في"المفهم": لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء لأن رواته ثقات مشاهير، ثم ذكر نحو ما تقدم. قوله: "بطست" بفتح أوله وبكسره وبمثناة وقد تحذف وهو الأكثر وإثباتها لغة طيئ، وأخطأ من أنكرها. قوله: "من ذهب" خص الطست لكونه أشهر آلات الغسل عرفا، والذهب لكونه أعلى أنواع الأواني الحسية وأصفاها، ولأن فيه خواص ليست لغيره ويظهر لها هنا مناسبات: منها أنه من أواني الجنة ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب ولا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر فناسب ثقل الوحي. وقال السهيلي وغيره: إن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهاب الرجس عنه، ولكونه وقع عند الذهاب إلى ربه، وأن نظر إلى معناه فلوضاءته ونقائه وصفائه ولثقله ورسوبته، والوحي ثقيل قال الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ولأنه أعز الأشياء في الدنيا، والقول هو الكتاب العزيز، ولعل ذلك كان قبل أن يحرم استعمال الذهب في هذه الشريعة ولا يكفي أن يقال إن المستعمل له كان ممن لم يحرم عليه ذلك من الملائكة لأنه لو كان قد حرم عليه استعماله لنزه أن يستعمله غيره في أمر يتعلق ببدنه المكرم. ويمكن أن يقال إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع في تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب فيلحق بأحكام الآخرة. قوله: "مملوءة" كذا بالتأنيث، وتقدم في أول الصلاة البحث فيه. قوله: "إيمانا" زاد في بدء الخلق" وحكمة" وهما بالنصب على التمييز، قال النووي: معناه أن الطست كان فيها شيء يحصل به زيادة في كمال الإيمان وكمال الحكمة وهذا الملء يحتمل أن يكون على حقيقته، وتجسيد المعاني جائز كما جاء أن سورة البقرة تجيء يوم القيامة كأنما ظلمة، والموت في صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك من أحوال الغيب. وقال البيضاوي: لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرا، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس. وقال ابن أبي جمرة: فيه أن الحكمة ليس بعد الإيمان أجل منها، ولذلك قرنت معه، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وأصح ما قيل في الحكمة أنها وضع الشيء في محله، أو الفهم في كتاب الله، فعلى التفسير الثاني قد توجد الحكمة دون الإيمان وقد لا توجد، وعلى الأول فقد يتلازمان لأن الإيمان يدل على الحكمة. قوله: "فغسل قلبي" في رواية مسلم: "فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم" وفيه فضيلة ماء زمزم على جميع المياه، قال ابن أبي جمرة: وإنما لم يغسل بماء الجنة لما اجتمع في ماء زمزم من كون أصل مائها من الجنة ثم استقر في الأرض فأريد بذلك بقاء بركة النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض. وقال السهيلي: لما كانت زمزم هزمة جبريل روح القدس لأم إسماعيل جد النبي صلى الله عليه وسلم ناسب أن يغسل بمائها عند دخول حضرة القدس ومناجاته ومن

(7/205)


المناسبات المستبعدة قول بعضهم: إن الطست يناسب {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} . قوله: "ثم حشي ثم أعيد" زاد في رواية مسلم مكانه "ثم حشي إيمانا وحكمة" وفي رواية شريك" فحشى به صدره ولغاديده" بلام وغين معجمة أي عروق حلقه، وقد اشتملت هذه القصة من خوارق العادة على ما يدهش سامعه فضلا عمن شاهده، فقد جرت العادة بأن من شق بطنه وأخرج قلبه يموت لا محالة، ومع ذلك فلم يؤثر فيه ذلك ضررا ولا وجعا فضلا عن غير ذلك. قال ابن أبي جمرة: الحكمة في شق قلبه - مع القدرة على أن يمتلئ إيمانا وحكمة بغير شق - الزيادة في قوة اليقين، لأنه أعطي برؤية شق بطنه وعدم تأثره بذلك ما أمن معه من جميع المخاوف العادية، فلذلك كان أشجع الناس وأعلاهم حالا ومقالا، ولذلك وصف بقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} واختلف هل كان شق صدره وغسله مختصا به أو وقع لغيره من الأنبياء؟ وقد وقع عند الطبراني في قصة تابوت بني إسرائيل أنه كان فيه الطست التي يغسل فيها قلوب الأنبياء، وهذا مشعر بالمشاركة، وسيأتي نظير هذا البحث في ركوب البراق. قوله: "ثم أتيت بدابة" قيل الحكمة في الإسراء به راكبا مع القدرة على طي الأرض له إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسا له بالعادة في مقام خرق العادة، لأن العادة جرت بأن الملك إذا استدعى من يختص به يبعث إليه بما يركبه. قوله: "دون البغل وفوق الحمار أبيض" كذا ذكر باعتبار كونه مركوبا أو بالنظر للفظ البراق، والحكمة لكونه بهذه الصفة الإشارة إلى أن الركوب كان في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة. قوله: "فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم" هذا يوضح أن الذي وقع في رواية بدء الخلق بلفظ دون البغل وفوق الحمار البراق، أي هو البراق وقع بالمعنى لأن أنسا لم يتلفظ بلفظ البراق في رواية قتادة. قوله: "يضع خطوه" بفتح المعجمة أوله المرة الواحدة، وبضمها الفعلة. قوله: "عند أقصى طرفه" بسكون الراء وبالفاء أي نظره، أي يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره. وفي حديث ابن مسعود عند أبي يعلى والبزار" إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه وإذا هبط ارتفعت يداه" وفي رواية لابن سعد عن الواقدي بأسانيده "له جناحان" ولم أرها لغيره، وعند الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس في صفة البراق" لها خد كخد الإنسان وعرف كالفرس وقوائم كالإبل وذنب كالبقر، وكان صدره ياقوتة حمراء" قيل ويؤخذ من ترك تسمية سير البراق طيرانا أن الله إذا أكرم عبدا بتسهيل الطريق له حتى قطع المسافة الطويلة في الزمن اليسير أن لا يخرج بذلك عن اسم السفر وتجري عليه أحكامه. والبراق بضم الموحدة وتخفيف الراء مشتق من البريق، فقد جاء في لونه أنه أبيض، أو من البرق لأنه وصفه بسرعة السير، أو من قولهم شاة برقاء إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سود، ولا ينافيه وصفه في الحديث بأن البراق أبيض لأن البرقاء من الغنم معدودة في البياض انتهى. ويجتمل أن لا يكون مشتقا، قال ابن أبي جمرة: خص البراق بذلك إشارة إلى الاختصاص به لأنه لم ينقل أن أحدا ملكه، بخلاف غير جنسه من الدواب. قال: والقدرة كانت صالحة لأن يصعد بنفسه من غير براق، ولكن ركوب البراق كان زيادة له في تشريفه لأنه لو صعد بنفسه لكان في صورة ماش، والراكب أعز من الماشي. قوله: "فحملت عليه" في رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى" فكان الذي أمسك بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل" وفي رواية معمر عن قتادة عن أنس" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به أتي بالبراق مسرجا ملجما فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما حملك على هذا؟ فوالله ما ركبك خلق قط أكرم على الله منه، قال فارفض عرقا" أخرجه الترمذي

(7/206)


وقال: حسن غريب، وصححه ابن حبان. وذكر ابن إسحاق عن قتادة" أنه لما شمس وضع جبريل يده على معرفته فقال: أما تستحي "؟ فذكر نحوه مرسلا لم يذكر أنسا. وفي رواية وثيمة عن ابن إسحاق" فارتعشت حتى لصقت بالأرض فاستويت عليها" وللنسائي وابن مردويه من طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس نحوه موصولا وزاد: "وكانت تسخر للأنبياء قبله" ونحوه في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق، وفيه دلالة على أن البراق كان معدا لركوب الأنبياء، خلافا لمن نفى ذلك كابن دحية وأول قول جبريل "فما ركبك أكرم على الله منه" أي ما ركبك أحد قط فكيف يركبك أكرم منه، وقد جزم السهيلي أن البراق إنما استصعب عليه لبعد عهده بركوب الأنبياء قبله، قال النووي قال الزبيدي في "مختصر العيني" وتبعه صاحب "التحرير ": كان الأنبياء يركبون البراق، قال وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. قلت: قد ذكرت النقل بذلك، ويؤيده ظاهر قوله: "فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء" ووقع في "المبتدأ لابن إسحاق" من رواية وثيمة في ذكر الإسراء "فاستصعبت البراق، وكانت الأنبياء تركبها قبلي وكانت بعيدة العهد بركوبهم لم تكن ركبت في الفتنة" وفي "مغازي ابن عائذ" من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "البراق هي الدابة التي كان يزور إبراهيم عليها إسماعيل" وفي الطبراني من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالبراق فحمله بين يديه" وعند أبي يعلى والحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: "أتيت بالبراق فركبت خلف جبريل" وفي حديث حذيفة عند الترمذي والنسائي: "فما زايلا ظهر البراق" وفي" كتاب مكة "للفاكهي والأزرقي" أن إبراهيم كان يحج على البراق" وفي أوائل الروض للسهيلي" أن إبراهيم حمل هاجر على البراق لما سار إلى مكة بها وبولدها" فهذه آثار يشد بعضها بعضا. وجاءت آثار أخرى تشهد لذلك لم أر الإطالة بإيرادها. ومن الأخبار الواهية في صفة البراق ما ذكره الماوردي عن مقاتل وأورده القرطبي في "التذكرة" ومن قبله الثعلبي من طريق ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: الموت والحياة جسمان فالموت كبش لا يجد ريحه شيء إلا مات، والحياة فرس بلقاء أنثى، وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي. ومنها أن البراق لما عاتبه جبريل قال له معتذرا: إنه مس الصفراء اليوم، وإن الصفراء صنم من ذهب كان عند الكعبة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم مر به فقال: تبا لمن يعبدك من دون الله، وإنه صلى الله عليه وسلم نهى زيد بن حارثة أن يمسه بعد ذلك وكسره يوم فتح مكة. قال ابن المنير: إنما استصعب البراق تيها وزهوا بركوب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وأراد جبريل استنطاقه فلذلك خجل وارفض عرقا من ذلك. وقريب من ذلك رجفة الجبل به حتى قال له: "اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيد" فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب. ووقع في حديث حذيفة عند أحمد قال: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق فلم يزايل ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس" فهذا لم يسنده حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه قال عن اجتهاد، ويحتمل أن يكون قوله هو وجبريل يتعلق بمرافقته في السير لا في الركوب، قال ابن دحية وغيره: معناه وجبريل قائد أو سائق أو دليل، قال وإنما جزمنا بذلك لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم فلا مدخل لغيره فيها. قلت: ويرد التأويل المذكور أن في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود أن جبريل حمله على البراق رديفا له. وفي رواية الحارث في مسنده أتي بالبراق فركب خلف جبريل فسار بهما، فهذا صريح في ركوبه معه فالله أعلم. وأيضا فإن ظاهره أن المعراج وقع للنبي صلى الله عليه وسلم على ظهر البراق إلى أن صعد السماوات كلها ووصل إلى ما وصل ورجع وهو على حاله، وفيه نظر لما سأذكره، ولعل حذيفة إنما أشار إلى ما وقع في ليلة الإسراء المجردة التي لم يقع فيها معراج

(7/207)


على ما تقدم من تقرير وقوع الإسراء مرتين. قوله: "فانطلق بي جبريل" في رواية بدء الخلق"فانطلقت مع جبريل" ولا مغايرة بينهما، بخلاف ما نحا إليه بعضهم من أن رواية بدء الخلق تشعر بأنه ما احتاج إلى جبريل في العروج، بل كانا معا بمنزلة واحدة، لكن معظم الروايات جاء باللفظ الأول، وفي حديث أبي ذر في أول الصلاة" ثم أخذ بيدي فعرج بي" والذي يظهر أن جبريل في تلك الحالة كان دليلا له فيما قصد له فلذلك جاء سياق الكلام يشعر بذلك. قوله: "حتى أتى السماء الدنيا" ظاهره أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء، وهو مقتضى كلام ابن أبي جمرة المذكور قريبا، وتمسك به أيضا من زعم أن المعراج كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، فأما العروج ففي غير هذه الرواية من الأخبار أنه لم يكن على البراق بل رقي المعراج، وهو السلم كما وقع مصرحا به في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق والبيهقي في "الدلائل" ولفظه: "فإذا أنا بدابة كالبغل مضطرب الأذنين يقال له البراق، وكانت الأنبياء تركبه قبلي، فركبته" فذكر الحديث قال: "ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصليت، ثم أتيت بالمعراج" وفي رواية ابن إسحاق "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج فلم أر قط شيئا كان أحسن منه، وهو الذي يمد إليه الميت عينيه إذا حضر، فأصعدني صاحبي فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء" الحديث. وفي رواية كعب" فوضعت له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب حتى عرج هو وجبريل" وفي رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى أنه "أتى بالمعراج من جنة الفردوس وأنه منضد باللؤلؤ وعن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة" وأما المحتج بالتعدد فلا حجة له لاحتمال أن يكون التقصير في ذلك الإسراء من الراوي، وقد حفظه ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق - فوصفه قال - فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل بإناءين - فذكر القصة قال - ثم، عرج بي إلى السماء" وحديث أبي سعيد دال على الاتحاد، وقد تقدم شيء من هذا البحث في أول الصلاة، وقوله في رواية ثابت فربطته بالحلقة، أنكره حذيفة، فروى أحمد والترمذي من حديث حذيفة قال: "تحدثون أنه ربطه، أخاف أن يفر منه وقد سخره له عالم الغيب والشهادة "؟ قال البيهقي: الميت مقدم على النافي، يعني من أثبت ربط البراق والصلاة في بيت المقدس معه زيادة علم على نفي ذلك، فهو أولى بالقبول. ووقع في رواية بريدة عند البزار" لما كان ليلة أسري به فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع إصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق" ونحوه للترمذي، وأنكر حذيفة أيضا في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى في بيت المقدس، واحتج بأنه لو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه كما كتب عليكم الصلاة في البيت العتيق، والجواب عنه منع التلازم في الصلاة إن كان أراد بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} الفرض وإن أراد التشريع فنلتزمه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في بيت المقدس فقرنه بالمسجد الحرام ومسجده في شد الرحال، وذكر فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديث، وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي " حتى أتيت بيت المقدس فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها - وفيه - فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين" وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه نحوه وزاد: "ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أقيمت الصلاة فأممتهم" وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم " فلم ألبث إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن فأقيمت الصلاة فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل فقدمني فصليت بهم" وفي حديث ابن

(7/208)


مسعود عند مسلم: "وحانت الصلاة فأممتهم" وفي حديث ابن عباس عند أحمد" فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى قام يصلي، فإذا النبيون أجمعون يصلون معه" وفي حديث عمر عند أحمد أيضا أنه" لما دخل بيت المقدس قال: أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة فصلى" وقد تقدم شيء من ذلك في الباب الذي قبله، قال عياض يحتمل أن يكون صلى بالأنبياء جميعا في بيت المقدس، ثم صعد منهم إلى السماوات من ذكر أنه صلى الله عليه وسلم رآه، ويحتمل أن تكون صلاته بهم بعد أن هبط من السماء فهبطوا أيضا. وقال غيره: رؤيته إياهم في السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى لما ثبت أنه رفع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضا ذلك، وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس فيحتمل الأرواح خاصة، ويحتمل الأجساد بأرواحها، والأظهر أن صلاته بهم ببيت المقدس كان قبل العروج، والله أعلم. قوله: "السماء الدنيا" في حديث أبي سعيد في ذكر الأنبياء عند البيهقي"إلى باب من أبواب السماء يقال له باب الحفظة، وعليه ملك يقال له إسماعيل وتحت يده اثنا عشر ألف ملك". قوله: "فاستفتح" تقدم القول فيه في أول الصلاة وأن قولهم "أرسل إليه" أي للعروج، وليس المراد أصل البعث لأن ذلك كان قد اشتهر في الملكوت الأعلى، وقيل: سألوا تعجبا من نعمة الله عليه بذلك أو استبشارا به، وقد علموا أن بشرا لا يترقى هذا الترقي إلا بإذن الله تعالى، وأن جبريل لا يصعد بمن لم يرسل إليه. وقوله: "من معك" يشعر بأنهم أحسوا معه برفيق وإلا لكان السؤال بلفظ: "أمعك أحد" وذلك الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما بأمر معنوي كزيادة أنوار أو نحوها يشعر بتجدد أمر يحسن معه السؤال بهذه الصيغة، وفي قول "محمد" دليل على أن الاسم أولى في التعريف من الكنية، وقيل: الحكمة في سؤال الملائكة "وقد بعث إليه"؟ أن الله أراد إطلاع نبيه على أنه معروف عند الملأ الأعلى لأنهم قالوا: "أو بعث إليه" فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له؛ وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد؟ مثلا. قوله: "مرحبا به" أي أصاب رحبا وسعة، وكنى بذلك عن الانشراح، واستنبط منه ابن المنير جواز رد السلام بغير لفظ السلام، وتعقب بأن قول الملك "مرحبا به" ليس ردا للسلام فإنه كان قبل أن يفتح الباب والسياق يرشد إليه، وقد نبه على ذلك ابن أبي جمرة، ووقع هنا أن جبريل قال له عند كل واحد منهم "سلم عليه قال: فسلمت عليه فرد علي السلام" وفيه إشارة إلى أنه رآهم قبل ذلك. قوله: "فنعم المجيء جاء" قيل: المخصوص بالمدح محذوف، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير "جاء فنعم المجيء مجيئه" وقال ابن مالك: في هذا الكلام شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول أو الصفة عن الموصوف في باب نعم، لأنها تحتاج إلى فاعل هو المجيء، وإلى مخصوص بمعناها وهو مبتدأ مخبر عنه بنعم وفاعلها، فهو في هذا الكلام وشبهه موصول أو موصوف بجاء، والتقدير نعم المجيء الذي جاء، أو نعم المجيء مجيء جاءه، وكونه موصولا أجود لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفة أولى من كونه نكرة. قوله: "فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم" زاد في رواية أنس عن أبي ذر أول الصلاة ذكر النسم التي عن يمينه وعن شماله، وتقدم القول فيه، وذكرت هناك احتمالا أن يكون المراد بالنسم المرئية لآدم هي التي لم تدخل الأجساد بعد. ثم ظهر لي الآن احتمال آخر وهو أن يكون المراد بها من خرجت من الأجساد حين خروجها لأنها مستقرة، ولا يلزم من رؤية آدم لها وهو في السماء الدنيا أن يفتح لها أبواب السماء ولا تلجها، وقد وقع في حديث أبي سعيد عند البيهقي ما يؤيده ولفظه: "فإذا أنا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين. ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح

(7/209)


خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين" وفي حديث أبي هريرة عند البزار" فإذا عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة" الحديث. فظهر من الحديثين عدم اللزوم المذكور، وهذا أولى مما جمع به القرطبي في "المفهم" أن ذلك في حالة مخصوصة. قوله: "بالابن الصالح والنبي الصالح" قيل: اقتصر الأنبياء على وصفه بهذه الصفة وتواردوا عليها لأن الصلاح صفة تشمل خلال الخير، ولذلك كررها كل منهم عند كل صفة، والصالح هو الذي يقوم بما يلزمه من حقوق الله وحقوق العباد، فمن ثم كانت كلمة جامعة لمعاني الخير، وفي قول آدم" بالابن الصالح" إشارة إلى افتخاره بأبوة النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي في التوحيد بيان الحكمة في خصوص منازل الأنبياء من السماء. قوله: "ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية" وفيه: "فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة" قال النووي قال ابن السكيت: يقال ابنا خالة ولا يقال ابنا عمة، ويقال ابنا عم ولا يقال ابنا خالاه. ولم يبين سبب ذلك، والسبب فيه أن ابني الخالة أم كل منهما خالة الآخر لزوما، بخلاف ابني العمة، وقد توافقت هذه الرواية مع رواية ثابت عن أنس عند مسلم أن في الأولى آدم وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم وخالف ذلك الزهري في روايته عن أنس عن أبي ذر أنه لم يثبت أسماءهم وقال فيه: "وإبراهيم في السماء السادسة" ووقع في رواية شريك عن أنس أن إدريس في الثالثة، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة، وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم أيضا كما صرح به الزهري، ورواية من ضبط أولى ولا سيما مع اتفاق قتادة وثابت وقد وافقهما يزيد بن أبي مالك عن أنس، إلا أنه خالف في إدريس وهارون فقال هارون في الرابعة، وإدريس في الخامسة: ووافقهم أبو سعيد إلا أن في رواية يوسف في الثانية، وعيسى ويحيى في الثالثة، والأول أثبت. وقد استشكل رؤية الأنبياء في السماوات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض، وأجيب بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم أو أحضرت أجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفا له وتكريما، ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم عن أنس ففيه: "وبعث له آدم فمن دونه من الأنبياء" فافهم، وقد تقدمت الإشارة إليه في الباب الذي قبله. قوله: "فلما خلصت إذا يوسف" زاد مسلم في رواية ثابت عن أنس "فإذا هو قد أعطي شطر الحسن" وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي وأبي هريرة عند ابن عائذ والطبراني "فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، قد فصل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب" وهذا ظاهره أن يوسف عليه السلام كان أحسن من جميع الناس، لكن روى الترمذي من حديث أنس ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا فعلى هذا فيحمل حديث المعراج على أن المراد غير النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه، وأما حديث الباب فقد حمله ابن المنير على أن المراد أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. وقد اختلف في الحكمة في اختصاص كل منهم بالسماء التي التقاه بها، فقيل ليظهر تفاضلهم في الدرجات، وقيل: لمناسبة تتعلق بالحكمة في الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، فقيل أمروا بملاقاته فمنهم من أدركه في أول وهلة ومنهم من تأخر فلحق ومنهم من فاته، وهذا زيفه السهيلي فأصاب، وقيل: الحكمة في الاقتصار على هؤلاء المذكورين للإشارة إلى ما سيقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه من نظير ما وقع لكل منهم، فأما آدم فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض بما سيقع للنبي صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة وكراهة فراق ما ألفه من الوطن،

(7/210)


ثم كان مآل كل منهما أن يرجع إلى موطنه الذي أخرج منه، وبعيسى ويحيى على ما وقع له من أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم على البغي عليه وإرادتهم وصول السوء إليه، وبيوسف على ما وقع له من إخوته من قريش في نصبهم الحرب له وإرادتهم هلاكه وكانت العاقبة له، وقد أشار إلى ذلك بقوله لقريش يوم الفتح" أقول كما قال يوسف: لا تثريب عليكم" وبإدريس على رفيع منزلته عند الله، وبهارون على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه، وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه وقد أشار إلى ذلك بقوله: "لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر" وبإبراهيم في استناده إلى البيت المعمور بما ختم له صلى الله عليه وسلم في آخر عمره من إقامة منسك الحج وتعظيم البيت، وهذه مناسبات لطيفة أبداها السهيلي فأوردتها منقحة ملخصة. وقد زاد ابن المنير في ذلك أشياء أضربت عنها إذ أكثرها في المفاضلة بين الأنبياء والإشارة في هذا المقام عندي أولى من تطويل العبارة. وذكر في مناسبة لقاء إبراهيم في السماء السابعة معنى لطيفا زائدا، وهو ما اتفق له صلى الله عليه وسلم من دخول مكة في السنة السابعة وطوافه بالبيت، ولم يتفق له الوصول إليها بعد الهجرة قبل هذه، بل قصدها في السنة السادسة فصدوه عن ذلك كما تقدم بسطه في كتابه الشروط قال ابن أبي جمرة: الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا لأنه أول الأنبياء وأول الآباء وهو أصل فكان أولا في الأولى، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة، وعيسى في الثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدا من محمد، ويليه يوسف لأن أمة محمد تدخل الجنة على صورته، وإدريس في الرابعة لقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} والرابعة من السبع وسط معتدل، وهارون لقربه من أخيه موسى، أرفع منه لفضل كلام الله، وإبراهيم لأنه الأب الأخير فناسب أن يتجدد للنبي صلى الله عليه وسلم بلقيه أنس لتوجهه بعده إلى عام آخر، وأيضا فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته، فلذلك ارتفع النبي صلى الله عليه وسلم عن منزلة إبراهيم إلى قاب قوسين أو أدنى. قوله: في قصة موسى "فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي" وفي رواية شريك عن أنس "لم أظن أحدا يرفع علي" وفي حديث أبي سعيد: قال موسى: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم على الله، وهذا أكرم على الله مني زاد الأموي في روايته: "ولو كان هذا وحده هان علي، ولكن معه أمته وهم أفضل الأمم عند الله" وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أنه "مر بموسى عليه السلام وهو يرفع صوته فيقول: أكرمته وفضلته، فقال جبريل: هذا موسى، قلت: ومن يعاتب قال: يعاتب ربه فيك، قلت: ويرفع صوته على ربه؟ قال: إن الله قد عرف له حدته" وفي حديث ابن مسعود عند الحارث وأبي يعلى والبزار "وسمعت صوتا وتذمرا، فسألت جبريل فقال: هذا موسى، قلت على من تذمره؟ قال: على ربه. قلت: على ربه؟ قال: إنه يعرف ذلك منه" قال العلماء: لم يكن بكاء موسى حسدا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد المؤمنين فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان أسفا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزم لتنقيص أجره، لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمته في العدد دون من اتبع نبينا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لهذه الأمة. وأما قوله: "غلام" فليس على سبيل النقص، بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه إذ أعطى لمن كان في ذلك السن ما لم يعطه أحدا قبله ممن هو أسن منه. وقد وقع من موسى من العناية بهذه الأمة من أمر الصلاة ما لم يقع لغيره، ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة عند الطبري والبزار، قال عليه الصلاة

(7/211)


والسلام "كان موسى أشدهم علي حين مررت به: وخيرهم لي حين رجعت إليه" وفي حديث أبي سعيد "فأقبلت راجعا، فمررت بموسى ونعم الصاحب كان لكم، فسألني: كم فرض عليك ربك"؟ الحديث قال ابن أبي جمرة: إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل الرحمة في قلوب غيرهم، لذلك بكى رحمة لأمته، وأما قوله: "هذا غلام" فأشار إلى صغر سنه بالنسبة إليه، قال الخطابي: العرب تسمي الرجل المستجمع السن غلاما ما دامت فيه بقية من القوة ا ه. ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا عليهما الصلاة والسلام من استمرار القوة في الكهولية وإلى أن دخل في سن الشيخوخة ولم يدخل على بدنه هرم ولا اعترى قوته نقص، حتى أن الناس في قدومه المدينة كما سيأتي من حديث أنس لما رأوه مردفا أبا بكر أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبي بكر اسم الشيخ مع كونه في العمر أسن من أبي بكر، والله أعلم. وقال القرطبي: الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة لعلها لكون أمة موسى كلفت من الصلوات بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد من مثل ذلك. ويشير إلى ذلك قوله. "إني قد جربت الناس قبلك" انتهى. وقال غيره لعلها من جهة أنه ليس في الأنبياء من له أكثر من موسى ولا من له كتاب أكبر ولا أجمع للأحكام من هذه الجهة مضاهيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب أن يتمنى أن يكون له مثل ما أنعم به عليه من غير أن يريد زواله عنه، وناسب أن يطلعه على ما وقع له وينصحه فيما يتعلق به، ويحتمل أن يكون موسى لما غلب عليه في الابتداء الأسف على نقص حظ أمته بالنسبة لأمة محمد حتى تمنى ما تمنى أن يكون، استدرك ذلك ببدل النصيحة لهم والشفقة عليهم ليزيل ما عساه أن يتوهم عليه فيما وقع منه في الابتداء. وذكر السهيلي أن الحكمة في ذلك أنه كان رأى في مناجاته صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فدعا الله أن يجعله منهم، فكان إشفاقه عليهم كعناية من هو منهم. وتقدم في أول الصلاة شيء من هذا، ومما يتعلق بأمر موسى بالترديد مرارا، والعلم عند الله تعالى. وقد وقع من موسى عليه السلام في هذه القصة من مراعاة جانب النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمسك عن جميع ما وقع له حتى فارقه النبي صلى الله عليه وسلم أدبا معه وحسن عشرة، فلما فارقه بكى وقال ما قال. قوله: "فإذا إبراهيم" في حديث أبي سعيد "فإذا أنا بإبراهيم خليل الرحمن مسندا ظهره إلى البيت المعمور كأحسن الرجال" وفي حديث أبي هريرة عند الطبري "فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي". "تكملة": اختلف في حال الأنبياء عند لقي النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ليلة الإسراء هل أسري بأجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، أو أن أرواحهم مستقرة في الأماكن التي لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم وأرواحهم مشكلة بشكل أجسادهم كما جزم به أبو الوفاء بن عقيل، واختار الأول بعض شيوخنا، واحتج بما ثبت في مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت موسى ليلة أسري بي قائما يصلي في قبره" فدل على أنه أسري به لما مر به. قلت: وليس ذلك بلازم بل يجوز أن يكون لروحه اتصال بجسده في الأرض، فلذلك يتمكن من الصلاة وروحه مستقرة في السماء. قوله: "ثم رفعت إلى سدرة المنتهى" كذا للأكثر بضم الراء وسكون العين وضم التاء من "رفعت" بضمير المتكلم وبعده حرف جر، وللكشميهني: "رفعت" بفتح العين وسكون التاء أي السدرة لي باللام أي من أجلي، وكذا تقدم في بدء الخلق، ويجمع بين الروايتين بأن المراد أنه رفع إليها أي ارتقى به وظهرت له، والرفع إلى الشيء يطلق على التقريب منه، وقد قيل في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي تقترب لهم، ووقع بيان سبب تسميتها سدرة المنتهى في حديث ابن مسعود عند مسلم ولفظه: "لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انتهى بي إلى سدرة المنتهى وهي في السماء

(7/212)


السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط فيقبض منها" وقال النووي سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها، ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا لا يعارض حديث ابن مسعود المتقدم، لكن حديث ابن مسعود ثابت في الصحيح فهو أولى بالاعتماد. قلت: وأورد النووي هذا بصيغة التمريض فقال: وحكي عن ابن مسعود أنها سميت بذلك إلخ. كذا أورده فأشعره بضعفه عنده، ولا سيما ولم يصرح برفعه، وهو صحيح مرفوع. وقال القرطبي في "المفهم ": ظاهر حديث أنس أنها في السابعة لقوله بعد ذكر السماء السابعة "ثم ذهب بي إلى السدرة" وفي حديث ابن مسعود أنها في السادسة، وهذا تعارض لا شك فيه، وحديث أنس هو قول الأكثر، وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي إليها علم كل نبي مرسل وكل ملك مقرب على ما قال كعب، قال: وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله أو من أعلمه، وبهذا جزم إسماعيل بن أحمد. وقال غيره: إليها منتهى أرواح الشهداء، قال: ويترجح حديث أنس بأنه مرفوع، وحديث ابن مسعود موقوف، كذا قال، ولم يعرج على الجمع بل جزم بالتعارض. قلت: ولا يعارض قوله إنها في السادسة ما دلت عليه بقية الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل السماء السابعة لأنه يحمل على أن أصلها في السماء السادسة وأغصانها وفروعها في السابعة، وليس في السادسة منها إلا أصل ساقها، وتقدم في حديث أبي ذر أول الصلاة" فغشيها ألوان لا أدري ما هي" وبقية حديث ابن مسعود المذكور" قال الله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: فراش من ذهب" كذا فسر المبهم في قوله: {مَا يَغْشَى} بالفراش. ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس "جراد من ذهب" قال البيضاوي: "وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب لصفاء لونها وإضاءتها في نفسها" انتهى. ويجوز أن يكون من الذهب حقيقة ويخلق فيه الطيران، والقدرة صالحة لذلك. وفي حديث أبي سعيد وابن عباس "يغشاها الملائكة" وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي "على كل ورقة منها ملك" ووقع في رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من جنسها" وفي رواية حميد عن أنس عند ابن مردويه نحوه لكن قال تحولت قوتا ونحو ذلك. قوله: "فإذا نبقها" بفتح النون وكسر الموحدة وسكونها أيضا، قال ابن دحية: والأول هو الذي ثبت في الرواية، أي التحريك. والنبق معروف وهو ثمر السدر. قوله: "مثل قلال هجر" قال الخطابي: القلال بالكسر جمع قلة بالضم هي الجرار، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وكانت معروفة عند المخاطبين فلذلك وقع التمثيل بها، قال: وهي التي وقع تحديد الماء الكثير بها في قوله: "إذا بلغ الماء قلتين"، وقوله: "هجر" بفتح الهاء والجيم بلدة لا تنصرف للتأنيث والعلمية، ويجوز الصرف. قوله: "وإذا ورقها مثل آذان الفيلة" بكسر الفاء وفتح التحتانية بعدها لام جمع فيل، ووقع في بدء الخلق"مثل آذان الفيول" وهو جمع فيل أيضا قال ابن دحية: اختيرت السدرة دون غيرها لأن فيها ثلاثة أوصاف: ظل ممدود، وطعام لذيذ، ورائحة زكية فكانت بمنزلة الإيمان الذي يجمع القول والعمل والنية، والظل بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النية، والرائحة بمنزلة القول. قوله: "وإذا أربعة أنهار" في بدء الخلق" فإذا في أصلها - أي في أصل سدرة المنتهى - أربعة أنهار" ولمسلم: "يخرج من أصلها" ووقع في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة "أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسيحان وجيحان" فيحتمل أن تكون

(7/213)


سدرة المنتهى مغروسة في الجنة والأنهار تخرج من تحتها فيصح أنها من الجنة. قوله: "أما الباطنان ففي الجنة1" قال ابن أبي جمرة فيه أن الباطن أجل من الظاهر، لأن الباطن جعل في دار البقاء والظاهر جعل في دار الفناء، ومن ثم كان الاعتماد على ما في الباطن كما صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم". قوله: "وأما الظاهران فالنيل والفرات" وقع في رواية شريك كما سيأتي في التوحيد أنه رأى في السماء الدنيا نهرين يطردان فقال له جبريل هما النيل والفرات عنصرهما والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة ورآهما في السماء الدنيا دون نهري الجنة وأراد بالعنصر عنصر امتيازهما بسماء الدنيا كذا قال ابن دحية، ووقع في حديث شريك أيضا: "ومضى به يرقى السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك". ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم أنه بعد أن رأى إبراهيم قال: "ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضا من اللبن، قال فأخذت من آنيته فاغترفت من ذلك الماء فشربت فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك" وفي حديث أبي سعيد "فإذا فيها عين تجري يقال لها السلسبيل فينشق منها نهران أحدهما الكوثر والآخر يقال له نهر الرحمة". قلت: فيمكن أن يفسر بهما النهران الباطنان المذكوران في حديث الباب. وكذا روي عن مقاتل قال: الباطنان السلسبيل والكوثر. وأما الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ: "سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة" فلا يغاير هذا لأن المراد به أن في الأرض أربعة أنهار أصلها من الجنة، وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيحون أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك. وأما الباطنان المذكوران في حديث الباب فهما غير سيحون وجيحون، والله أعلم. قال النووي: في هذا الحديث أن أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر فليعتمد. وأما قول عياض: إن الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض لكونه قال: إن النيل والفرات يخرجان من أصلها وهما بالمشاهدة يخرجان من الأرض فيلزم منه أن يكون أصل السدرة في الأرض، وهو متعقب، فإن المراد بكونهما يخرجان من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض. والحاصل أن أصلها في الجنة وهما يخرجان أولا من أصلها ثم يسيران إلى أن يستقرا في الأرض ثم ينبعان. واستدل به على فضيلة ماء النيل والفرات لكون منبعهما من الجنة، وكذا سيحان وجيحان. قال القرطبي: لعل ترك ذكرهما في حديث الإسراء لكونهما ليسا أصلا برأسهما. وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات. قال: وقيل: وإنما أطلق على هذه الأنهار أنها من الجنة تشبيها لها بأنهار الجنة لما فيها من شدة العذوبة والحسن والبركة، والأول أولى، والله أعلم. "تنبيه": الفرات بالمثناة في الخط في حالتي الوصل والوقف في القراءات المشهورة،
ـــــــ
1 الذي في نسخ الصحيح "أما الباطنان فنهران في الجنة"

(7/214)


وجاء في قراءة شاذة أنها هاء تأنيث، وشبهها أبو المظفر بن الليث بالتابوت والتابوه. قوله: "ثم رفع لي البيت المعمور" زاد الكشميهني: "يدخله كل يوم سبعون ألف ملك" وتقدمت هذه الزيادة في بدء الخلق بزيادة "إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم" وكذا وقع مضموما إلى رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، وقد بينت في بدء الخلق أنه مدرج، وذكرت من فصله من رواية قتادة عن الحسن عن أبي هريرة، وقد قدمت ما يتعلق بالبيت المعمور هناك، ووقعت هذه الزيادة أيضا عند مسلم من طريق ثابت عن أنس وفيه أيضا: "ثم لا يعودون إليه أبدا" وزاد ابن إسحاق في حديث أبي سعيد" إلى يوم القيامة" وفي حديث أبي هريرة عند البزار أنه رأى هناك أقواما بيض الوجوه وأقواما في ألوانهم شيء فدخلوا نهرا فاغتسلوا فخرجوا وقد خلصت ألوانهم، فقال له جبريل "هؤلاء من أمتك خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا". وفي رواية أبي سعيد عند الأموي والبيهقي أنهم "دخلوا معه البيت المعمور وصلوا فيه جميعا" واستدل به على أن الملائكة أكثر المخلوقات لأنه لا يعرف من جميع العوامل من يتجدد من جنسه في كل يوم سبعون ألفا غير ما ثبت عن الملائكة في هذا الخبر. قوله: "ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها" أي دين الإسلام. قال القرطبي يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي صلى الله عليه وسلم إليه دون غيره لكونه كان مألوفا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة، وقد وقع في هذه الرواية أن إتيانه الآنية كان بعد وصوله إلى سدرة المنتهى، وسيأتي في الأشربة من طريق شعبة عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفعت لي سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار" فذكره قال: "وأتيت بثلاثة أقداح" الحديث وهذا موافق لحديث الباب؛ إلا أن شعبة لم يذكر في الإسناد مالك بن صعصعة. وفي حديث أبي هريرة عند ابن عائذ في حديث المعراج بعد ذكر إبراهيم قال: "ثم انطلقنا، فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال جبريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك؟ فتناولت إحداهما فإذا هو عسل فشربت منه قليلا، ثم تناولت الآخر فإذا هو لبن فشربت منه حتى رويت، فقال: ألا تشرب من الثالث؟ قلت: قد رويت.قال: وفقك الله" وفي رواية البزار من هذا الوجه أن الثالث كان خمرا، لكن وقع عنده أن ذلك كان ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء ولما يذكر العسل. وفي حديث ابن عباس عند أحمد" فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلي، فلما انصرف جيء بقدحين في أحدهما لبن وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن" الحديث، وقد وقع عند مسلم من طريق ثابت عن أنس أيضا أن إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج ولفظه: "ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاء جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة.ثم عرج إلى السماء" وفي حديث شداد بن أوس فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر عسل، فعدلت بينهما، ثم هداني الله فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يدي - يعني لجبريل - أخذ صاحبك الفطرة" وفي حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق في قصة الإسراء" فصلى بهم - يعني الأنبياء - ثم أتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء، فأخذت اللبن" الحديث. وفي مرسل الحسن عنده نحوه لكن لم يذكر إناء الماء، ووقع بيان مكان عرض الآنية في رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عند المصنف كما سيأتي في أول الأشربة ولفظه: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بإناء فيه خمر وإنا فيه لبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي

(7/215)


هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك" وهو عند مسلم وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة عن أنس عند البيهقي" فعرض عليه الماء والخمر واللبن فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك" ويجمع بين هذا الاختلاف إما بحمل "ثم" على غير بابها من الترتيب وإنما هي بمعنى الواو هنا، وإما بوقوع عرض الآنية مرتين: مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس وسببه ما وقع له من العطش، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة. أما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، ومجموعها أربعة آنية فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى. ووقع في حديث أبي هريرة عند الطبري لما ذكر سدرة المنتهى "يخرج أصلها من أنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى" فلعله عرض عليه من كل نهر إناء. وجاء عن كعب أن نهر العسل نهر النيل ونهر اللبن نهر جيحان ونهر الخمر نهر الفرات ونهر الماء سيحان، والله أعلم. قوله: "ثم فرضت علي الصلاة" تقدم ما يتعلق بها في الكلام على حديث أبي ذر في أول الصلاة، والحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم لما عرج به رأى في تلك الليلة تعبد الملائكة وأن منهم القائم فلا يقعد والراكع فلا يسجد والساجد فلا يقعد، فجمع الله له ولأمته تلك العبادات كلها في كل ركعة يصليها العبد، بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. وقال في اختصاص فرضيتها بليلة الإسراء إشارة إلى عظيم بيانها، ولذلك اختص فرضها بكونه بغير واسطة بل بمراجعات تعددت على ما سبق بيانه. قوله: "ولكن أرضى وأسلم" في رواية الكشميهني: "ولكني أرضى وأسلم" وفيه حذف تقدير الكلام: سألت ربي حتى استحييت فلا أرجع، فإني إن رجعت صرت غير راض ولا مسلم، ولكني أرضى وأسلم. قوله: "أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي" تقدم أول الصلاة من رواية أنس عن أبي ذر" هن خمس وهن خمسون" وتقدم شرحه. وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "حتى قال: يا محمد هي خمس صلوات في كل يوم وليلة، كل صلاة عشرة فتلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة" الحديث، وسيأتي الكلام على هذه الزيادة في الرقاق. وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند النسائي: "وأتيت سدرة المنتهى فغشيتني ضبابة، فخررت ساجدا، فقيل لي: إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك" فذكر مراجعته مع موسى وفيه: "فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما" وقال في آخره: "فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك، قال فعرفت أنها عزمة من الله، فرجعت إلى موسى فقال لي ارجع، فلم أرجع". قوله: "فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي" هذا من أقوى ما استدل به على أن الله سبحانه وتعالى كلم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بغير واسطة. "تكملة": وقع في غير هذه الرواية زيادات رآها صلى الله عليه وسلم بعد سدرة المنتهى لم تذكر في هذه الرواية، منها ما تقدم في أول الصلاة" حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام" وفي رواية شريك عن أنس كما سيأتي في التوحيد" حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة تبارك وتعالى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه خمسين صلاة" الحديث. وقد استشكلت هذه الزيادة ويأتي الكلام على ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى في كتاب التوحيد. وفي رواية أبي ذر من الزيادة أيضا: "ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك" وعند مسلم من طريق همام عن قتادة

(7/216)


عن أنس رفعه: "بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، وإذا طينه مسك أذفر، فقال جبريل: هذا الكوثر" وله من طريق شيبان عن قتادة عن أنس "لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم: "فذكر نحوه. وعند ابن أبي حاتم وابن عائذ من طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس "ثم انطلق حتى انتهى بي إلى الشجرة، فغشيني من كل سحابة فيها من كل لون، فتأخر جبريل. وخررت ساجدا" وفي حديث ابن مسعود عند مسلم: "وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وخواتم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته المقحمات، يعني الكبائر" وفي هذه الرواية من الزيادة "ثم انجلت عني السحابة وأخذ بيدي جبريل، فانصرفت سريعا فأتيت على إبراهيم فلم يقل شيئا، ثم أتيت على موسى فقال: ما صنعت" الحديث. وفيه أيضا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لجبريل: ما لي لم آت أهل سماء إلا رحبوا وضحكوا إلي، غير رجل واحد فسلمت عليه فرد علي السلام ورحب بي ولم يضحك إلي؟ قال: يا محمد ذاك مالك خازن جهنم، لم يضحك منذ خلق، ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك ، وفي حديث حذيفة عند أحمد والترمذي" حتى فتحت لهما أبواب السماء فرأيا الجنة والنار، ووعد الآخرة أجمع" وفي حديث أبي سعيد" أنه عرض عليه الجنة، وإذا رمانها كأنه الدلاء؛ وإذا طيرها كأنها البخت، وأنه عرضت عليه النار، فإذا هي لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها" وفي حديث شداد بن أوس "فإذا جهنم تكشف عن مثل الزرابي، ووجدتها مثل الحمة السخنة" وزاد فيه أنه رآها في وادي بيت المقدس. وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم "أن جبريل قال: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال نعم: قال: قال: فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن. قال: فأتيت إليهن فسلمت، فرددت فقلت: من أنتن؟ فقلن: "خيرات حسان" الحديث. وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه "أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا بني إنك لاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل" وفي رواية الواقدي بأسانيده في أول حديث الإسراء "كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كانت ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا وهو نائم في بيته ظهرا أتاه جبريل وميكائيل فقالا: انطلق إلى ما سألت، فانطلقا به إلى ما بين المقام وزمزم، فأتي بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرا، فعرجا به إلى السماوات، فلقي الأنبياء، وانتهى إلى سدرة المنتهى، ورأى الجنة والنار، وفرض عليه الخمس" فلو ثبت هذا لكان ظاهرا في أنه معراج آخر لقوله إنه كان ظهرا، وأن المعراج كان من مكة، وهو مخالف لما في الروايات الصحيحة في الأمرين معا. ويعكر على التعدد قوله إن الصلوات فرضت حينئذ، إلا إن حمل على أنه أعيد ذكره تأكيدا، أو فرع على أن الأول كان مناما وهذا يقظة أو بالعكس، والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن للسماء أبوابا حقيقة وحفظة موكلين بها، وفيه إثبات الاستئذان، وأنه ينبغي لمن يستأذن أن يقول أنا فلان، ولا يقتصر على أنا لأنه ينافي مطلوب الاستفهام، وأن المار يسلم على القاعد وإن كان المار أفضل من القاعد، وفيه استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء، وجواز مدح الإنسان المأمون عليه الافتتان في وجهه، وفيه جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وغيره مأخوذ من استناد إبراهيم إلى البيت المعمور وهو كالكعبة في أنه قبلة من كل جهة، وفيه جواز نسخ الحكم قبل وقوع الفعل، وقد سبق البحث فيه في أول الصلاة، وفيه فضل السير بالليل على السير بالنهار لما وقع من الإسراء بالليل، ولذلك كانت أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل، وكان أكثر سفره صلى الله عليه وسلم بالليل. وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالدلجة فإن الأرض

(7/217)


تطوى بالليل" وفيه أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، يستفاد ذلك من قول موسى عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم أنه عالج الناس قبله وجربهم، ويستفاد منه تحكيم العادة، والتنبيه بالأعلى على الأدنى لأن من سلف من الأمم كانوا أقوى أبدانا من هذه الأمة، وقد قال موسى في كلامه إنه عالجهم على أقل من ذلك فما وافقوه، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة قال: ويستفاد منه أن مقام الخلة مقام الرضا والتسليم، ومقام التكليم مقام الإدلال والانبساط، ومن ثم استبد موسى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بطلب التخفيف دون إبراهيم عليه السلام، مع أن للنبي صلى الله عليه وسلم من الاختصاص بإبراهيم أزيد مما له من موسى لمقام الأبوة ورفعة المنزلة والاتباع في الملة. وقال غيره: الحكمة في ذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام في نفس الحديث من سبقه إلى معالجة قومه في هذه العبادة بعينها وأنهم خالفوه وعصوه. وفيه أن الجنة والنار قد خلقتا، لقوله في بعض طرقه التي بينتها "عرضت علي الجنة والنار" وقد تقدم البحث فيه في بدء الخلق. وفيه استحباب الإكثار من سؤال الله تعالى وتكثير الشفاعة عنده، لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في إجابته مشورة موسى في سؤال التخفيف. وفيه فضيلة الاستحياء، وبذل النصيحة لمن يحتاج إليها وإن لم يستشر الناصح في ذلك. قوله: "حدثنا عمرو" هو ابن دينار. قوله: "في قوله" أي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال: هي رؤيا أعين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس" قلت: وإيراد هذا الحديث في باب المعراج مما يؤيد أن المصنف يرى اتحاد ليلة الإسراء والمعراج، بخلاف ما فهم عنه من إفراد الترجمتين، وقد قدمت أن ترجمته في أول الصلاة تدل على ذلك حيث قال: "فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء" وقد تمسك بكلام ابن عباس هذا من قال الإسراء كان في المنام ومن قال إنه كان في اليقظة، فالأول أخذ من لفظ الرؤيا قال: لأن هذا اللفظ مختص برؤيا المنام، ومن قال بالثاني فمن قوله أريها ليلة الإسراء، والإسراء إنما كان في اليقظة، لأنه لو كان مناما ما كذبه الكفار فيه ولا فيما هو أبعد منه كما تقدم تقريره، وإذا كان ذلك في اليقظة وكان المعراج في تلك الليلة تعين أن يكون في اليقظة أيضا إذ لم يقل أحد إنه نام لما وصل إلى بيت المقدس ثم عرج به وهو نائم، وإذا كان في اليقظة فإضافة الرؤيا إلى العين للاحتراز عن رؤيا القلب، وقد أثبت الله تعالى رؤيا القلب في القرآن فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ورؤيا العين فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى} وروى الطبراني في الأوسط بإسناد قوي عن ابن عباس قال: "رأى محمد ربه مرتين" ومن وجه آخر قال: "نظر محمد إلى ربه" جعل الكلام لموسى والخلة لإبراهيم والنظر لمحمد، فإذا تقرر ذلك ظهر أن مراد ابن عباس هنا برؤية العين المذكورة جميع ما ذكره صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة من الأشياء التي تقدم ذكرها، وفي ذلك رد لمن قال: المراد بالرؤيا في هذه الآية رؤياه صلى الله عليه وسلم أنه دخل المسجد الحرام المشار إليها بقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} قال القائل: والمراد ب قوله: {فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ما وقع من صد المشركين له في الحديبية عن دخول المسجد الحرام انتهى. وهذا وإن كان يمكن أن يكون مراد الآية لكن الاعتماد في تفسيرها على ترجمان القرآن أولى، والله أعلم. واختلف السلف هل رأى ربه في ملك الليلة أم لا؟ على قولين مشهورين، وأنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها وطائفة، وأثبتها ابن عباس وطائفة. وسيأتي بسط ذلك في الكلام على حديث عائشة حيث ذكره المصنف بتمامه في تفسير سورة النجم من كتاب التفسير إن شاء الله تعالى. قوله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قال: "هي شجرة الزقوم" يريد تفسير الشجرة المذكورة في بقية الآية، وقد قيل فيها غير ذلك كما سيأتي في موضعه في

(7/218)


التفسير إن شاء الله تعالى.

(7/219)


43 - باب وُفُودِ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَبَيْعَةِ الْعَقَبَةِ
3889- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ عَمِيَ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِطُولِهِ قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ فِي حَدِيثِهِ "وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا"
3890- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ كَانَ عَمْرٌو يَقُولُ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "شَهِدَ بِي خَالاَيَ الْعَقَبَةَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَحَدُهُمَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ".
[الحديث 3890- طرفه في: 3891]
3891- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ "أَنَا وَأَبِي وَخَالِي مِنْ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ"
3892- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ مِنْ الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ أَصْحَابِهِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ تَعَالَوْا بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلاَ تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ قَالَ فَبَايَعْناهُ عَلَى ذَلِكَ"
3893- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ قَالَ إِنِّي مِنْ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ نَسْرِقَ وَلاَ نَزْنِيَ وَلاَ نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَلاَ نَنْتَهِبَ وَلاَ نَقضِيَ بِالْجَنَّةِ

(7/219)


إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ".
قوله: "باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة" ذكر ابن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد موت أبي طالب قد خرج إلى ثقيف بالطائف يدعوهم إلى نصره، فلما امتنعوا منه كما تقدم في بدء الخلق شرحه رجع إلى مكة فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج، وذكر بأسانيد متفرقة أنه أتى كندة وبني كعب وبني حذيفة وبني عامر بن صعصعة وغيرهم فلم يجبه أحد منهم إلى ما سأل. وقال موسى بن عقبة عن الزهري: "فكان في تلك السنين - أي التي قبل الهجرة - يعرض نفسه على القبائل، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحدا منكم على شيء، بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالة ربي، فلا يقبله أحد بل يقولون: قوم الرجل أعلم به" وأخرج البيهقي وأصله عند أحمد وصححه ابن حبان من حديث ربيعة بن عباد بكسر المهملة وتخفيف الموحدة قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله عز وجل" الحديث. وروى أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث جابر "كان رسول الله يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي. فأتاه رجل من همدان فأجابه، ثم خشي أن لا يتبعه قومه فجاء إليه فقال: آتي قومي فأخبرهم ثم آتيك من العام المقبل. قال: نعم. فانطلق الرجل وجاء وفد الأنصار في رجب" وقد أخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي في "الدلائل" بإسناد حسن عن ابن عباس" حدثني علي بن أبي طالب قال: لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا منه وأبو بكر إلى منى، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدم أبو بكر وكان نسابة فقال: من القوم؟ فقالوا: من ربيعة. فقال من أي ربيعة أنتم؟ قالوا: من ذهل - ذكروا حديثا طويلا في مراجعتهم وتوقفهم أخيرا عن الإجابة - قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، وهم الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره، قال: فما نهضوا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم": انتهى. وذكر ابن إسحاق أن أهل العقبة الأولى كانوا ستة نفر وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة النجاري ورافع ابن مالك بن العجلان العجلاني وقطبة بن عامر بن حديدة وجابر بن عبد الله بن رثاب، وعقبة بن عامر - وهؤلاء الثلاثة من بني سلمة - وعوف بن الحارث بن رفاعة من بني مالك بن النجار. وقال موسى بن عقبة عن الزهري وأبو الأسود عن عروة: هم أسعد بن زرارة ورافع بن مالك ومعاذ بن عفراء ويزيد بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة، ويقال كان فيهم عبادة بن الصامت وذكوان. قال ابن إسحاق: "حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قال لما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أنتم؟ قالوا من الخزرج. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: نعم. فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. وكان مما صنع الله لهم أن اليهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب، وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبينا سيبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه، فنقتلكم معه، فلما كلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا النعت، فقال بعضهم لبعض: لا تسبقنا إليه يهود، فآمنوا وصدقوا، وانصرفوا إلى بلادهم ليدعوا قومهم، فلما أخبروهم لم يبق دور من قومهم إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الموسم وافاه منهم اثنا عشر رجلا". حديث كعب بن مالك في قصة توبته، ذكر منه طرفا وسيأتي مطولا في مكانه والغرض منه قوله: "ولقد شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة". وعنبسة هو ابن خالد بن يزيد الإيلي

(7/220)


يروي عن عمه يونس بن يزيد، وقوله: "قال ابن بكير في حديثه" يريد أن اللفظ المساق لعقيل لا ليونس، وقوله: "تواثقنا" بالمثلثة والقاف أي وقع بيننا الميثاق على ما تبايعنا عليه، وقوله: "وما أحب أن لي بها مشهد بدر" لأن من شهد بدرا وإن كان فاضلا بسبب أنها أول غزوة نصر فيها الإسلام، لكن بيعة العقبة كانت سببا في فشو الإسلام، ومنها نشأ مشهد بدر، وقوله: "أذكر منها" هو أفعل تفضيل بمعنى المذكور، أي أكثر ذكرا بالفضل وشهرة بين الناس. قلت: وكان كعب من أهل العقبة الثانية، وقد عمد ثالثة كما أشرت إليه قبل، ولعل المصنف لمح بما أخرجه ابن إسحاق وصححه ابن حبان من طريقه بطوله، قال ابن إسحاق" حدثني معبد بن كعب بن مالك أن أخاه عبد الله - وكان من أعلم الأنصار - حدثه أن أباه كعبا حدثه، وكان ممن شهد العقبة وبايع بها قال: خرجنا حجاجا مع مشركي قومنا وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا - فذكر شأن صلاته إلى الكعبة قال -: فلما وصلنا إلى مكة ولم نكن رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، سألنا عنه فقيل: هو مع العباس في المسجد، فدخلنا فجلسنا إليه، فسأله البراء عن القبلة، ثم خرجنا إلى الحج، وواعدناه العقبة ومعنا عبد الله بن عمرو والد جابر ولم يكن أسلم قبل فعرفناه أمر الإسلام فأسلم حينئذ وصار من النقباء، قال فاجتمعنا عند العقبة ثلاثة وسبعين رجلا، ومعنا امرأتان أم عمارة بنت كعب إحدى نساء بني مازن وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة، قال فجاء ومعه العباس فتكلم فقال: إن محمدا منا من حيث علمتم، وقد منعناه وهو في عز، فإن كنتم تريدون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وذاك، وإلا فمن الآن. قال فقلنا: تكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ما أحببت. فتكلم، فدعا إلى الله وقرأ القرآن ورغب في الإسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال فأخذ البراء بن معرور بيده فقال: نعم" فذكر الحديث وفيه: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أ سالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم. ثم قال: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا " وذكر ابن إسحاق النقباء وهم أسعد بن زرارة ورافع بن مالك والبراء بن معرور وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن حرام وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو بن حبيش وأسيد بن حضير وسعد بن خيثمة وأبو الهيثم بن التيهان، وقيل بدله: رفاعة بن عبد المنذر". وفي "المستدرك" عن ابن عباس" كان البراء بن معرور أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة. قال ابن إسحاق: "حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، قالوا: نعم" وذكر أيضا أن قريشا بلغهم أمر البيعة فأنكروا عليهم، فحلف المشركون منهم وكانوا أكثر منهم - قيل: كانوا خمسمائة نفس - أن ذلك لم يقع، وذلك لأنهم ما علموا بشيء مما جرى. قوله: "كان عمرو" هو ابن دينار. قوله: "شهد بي خالاي العقبة" لم يسمهما في هذه الرواية؛ ونقل عن عبد الله بن محمد - وهو الجعفي - أن ابن عيينة قال: أحدهما: البراء بن معرور، كذا في رواية أبي ذر، ولغيره: قال أبو عبد الله يعني المصنف، فعلى هذا فتفسير المبهم من كلامه، لكنه ثبت أنه من كلام ابن عيينة من وجه آخر عند الإسماعيلي، فترجحت رواية أبي ذر. ووقع في رواية الإسماعيلي: "قال سفيان: خالاه البراء بن معرور وأخوه" ولم يسمه. والبراء بتخفيف الراء ومعرور بمهملات يقال إنه كان أول من أسلم من الأنصار، وأول من بايع في العقبة الثانية كما تقدم، ومات قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر واحد. وهو أول من صلى إلى الكعبة في قصة ذكرها ابن إسحاق وغيره، وقد تعقبه الدمياطي فقال: أم جابر هي أنيسة بنت غنمة بن عدي وأخواها .

(7/221)


ثعلبة وعمرو وهما خالا جابر، وقد شهدا العقبة الأخيرة. وأما البراء بن معرور فليس من أخوال جابر قلت: لكن من أقارب أمه، وأقارب الأم يمسون أخوالا مجازا، وقد روى ابن عساكر بإسناد حسن عن جابر قال: "حملني خالي الحر بن قيس في السبعين راكبا الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، فخرج إلينا معه العباس عمه فقال: يا عم، خذ لي على أخوالك" فسمى الأنصار أخوال العباس لكون جدته أم أبيه عبد المطلب منهم، وسمى الحر بن قيس خاله لكونه من أقارب أمه وهو ابن عم البراء بن معرور، فلعل قول سفيان "وأخوه" عني به الحر بن قيس، وأطلق عليه أخا وهو ابن عم لأنهما في منزلة واحدة في النسب، وهذا أول من توهيم مثل ابن عيينة، لكن لم يذكر أحد من أهل السير الحر بن قيس في أصحاب العقبة، فكأنه لم يكن أسلم، فعلى هذا فالخال الآخر لجابر إما ثعلبة وإما عمرو، والله أعلم. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني، وعطاء هو ابن أبي رباح. قوله: "أنا وأبي" عبد الله بن عمرو بن حرام بالمهملتين، وقد تقدم أنه كان من النقباء. قوله: "وخالي" تقدم القول فيهما، وقرأت بخط مغلطاي: يريد عيسى بن عامر بن عدي بن سنان وخالد بن عمرو بن عدي بن سنان لأن أم جابر أنيسة بنت غنمة بن عدي بن سنان، يعني فكل منهما ابن عمها بمنزلة أخيها، فأطلق عليهما جابر أنهما خالاه مجازا. قلت: إن حمل على الحقيقة تعين كما قاله الدمياطي، وإلا فتغليط ابن عيينة مع أن كلامه يمكن حمله على المجاز بأمر فيه مجاز ليس بمتجه، والله المستعان. ووقع عند ابن التين "وخالى" بغير ألف وتشديد التحتانية وقال: لعل الواو واو المعية أي مع خالي، ويحتمل أن يكون بالإفراد بكسر اللام وتخفيف الياء. حديث عبادة بن الصامت في قصة البيعة ليلة العقبة، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل كتاب الإيمان مع مباحث نفيسة تتعلق بقوله في الحديث: "فعوقب به فهو كفارة له" وأوضحت هناك أن بيعة العقبة إنما كانت على الإيواء والنصر، وأما ما ذكره من الكفارة فتلك بيعة أخرى وقعت بعد فتح مكة، ثم رأيت ابن إسحاق جزم بأن بيعة العقبة وقعت بما صدر في الرواية الثانية التي في هذا الباب ففال: "حدثني يزيد بن أبي حبيب" فذكر بسند الباب: "عن عبادة قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، فكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء" أي على وفق بيعة النساء التي نزلت بعد ذلك عند فتح مكة، وهذا محتمل، لكن ليست الزيادة في طريق الليث بن سعد عن يزيد في الصحيحين، وعلى تقدير ثبوتها فليس فيه ما ينافي ما قررته من أن قوله: "فهو كفارة" إنما ورد بعد ذلك، لأنه يعارضه حديث أبي هريرة "ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا" مع تأخر إسلام أبي هريرة عن ليلة العقبة، كما استوفيت مباحثه هناك. وممن ذكر صورة بيعة العقبة كعب بن مالك كما أسلفته آنفا عنه، وروى البيهقي من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبد الله بن رفاعة عن أبيه قال: "قال عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل" فذكر الحديث وفيه: "وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب بما نمنع به أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا. ولنا الجنة.فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بايعناه عليها" وعند أحمد بإسناد حسن وصححه الحاكم وابن حبان عن جابر مثله وأوله" مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسب بمنى وغيرها يقول: من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ حتى بعثنا الله له من يثرب فصدقناه" فذكر الحديث حتى قال: "فرحل إليه منا سبعون رجلا، فوعدناه بيعة العقبة، فقلنا: علام نبايعك؟ فقال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر،

(7/222)


وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة " الحديث. ولأحمد من وجه آخر عن جابر قال: "كان العباس آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغنا قال رسول الله: أخذت وأعطيت " وللبزار من وجه آخر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للنقباء من الأنصار: تؤوني، وتمنعوني؟ قالوا: نعم.قالوا: فما لنا؟ قال: "الجنة" وروى البيهقي بإسناد قوي عن الشعبي، ووصله الطبراني من حديث أبي موسى الأنصاري قال: "انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه العباس عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة فقال له أبو أمامة - يعني أسعد بن زرارة - سل يا محمد لربك ولنفسك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب. قال: أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم ، قالوا: فما لنا؟ قال: الجنة . قالوا: ذلك لك" وأخرجه أحمد من الوجهين جميعا. قوله: "ولا نقضي" بالقاف والضاد المعجمة للأكثر، وفي بعض النسخ عن شيوخ أبي ذر"ولا نعصي" بالعين والصاد المهملتين، وقد بينت الصواب من ذلك في أوائل كتاب الإيمان. وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع الاثني عشر رجلا مصعب بن عمير العبدري، وقيل: بعثه إليهم بعد ذلك بطلبهم ليفقههم ويقرئهم، فنزل على أسعد بن زرارة، فروى أبو داود من طريق عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: "كان أبي إذا سمع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسألته، فقال: كان أول من جمع بنا بالمدينة" وللدار قطني من حديث ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير أن اجمع بهم" ا ه، فأسلم خلق كثير من الأنصار على يد مصعب بن عمير بمعاونة أسعد بن زرارة حتى فشا الإسلام بالمدينة، فكان ذلك سبب رحلتهم في السنة المقبلة، حتى وافى منهم العقبة سبعون مسلما وزيادة، فبايعوا كما تقدم.

(7/223)


44 - باب تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ وَقُدُومِهَا الْمَدِينَةَ وَبِنَائِهِ بِهَا
3894- حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ خَزْرَجٍ فَوُعِكْتُ فَتَمَرَّقَ شَعَرِي فَوَفَى جُمَيْمَةً فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا لاَ أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي فَأَخَذَتْ بِيَدِي حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ وَإِنِّي لاَنْهِجُ حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَأْسِي ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ فَقُلْنَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ"
[الحديث 3894- أطرافه في: 5160,5158,5156,5134,5133,3896]
3895- حَدَّثَنَا مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ عَنْهَا

(7/223)


فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"
[الحديث 3895- أطرافه في: 7012,7011,5125,5078,]
3896- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاَثِ سِنِينَ فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ"
قوله: "باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة" سقط لفظ: "باب" لأبي ذر. قوله: "وقدومها المدينة" أي بعد الهجرة. قوله: "وبنائه بها" أي بالمدينة. وكان دخولها عليه في شوال من السنة الأولى وقيل: من الثانية، وقد تعقب قوله: "بنائه بها" اعتمادا على قول صاحب الصحاح: العامة تقول بنى بأهله وهو خطأ، وإنما يقال بني على أهله. والأصل فيه أن الداخل على أهله يضرب عليه قبة ليلة الدخول، ثم قيل لكل داخل بأهله بأن، انتهى. ولا معنى لهذا التغليط لكثرة استعمال الفصحاء له، وحسبك بقول عائشة" بنى بي" وبقول عروة في آخر الحديث الثالث "وبنى بها". قوله في الحديث: "تزوجني وأنا بنت ست سنين" أي عقد علي. وقولها: "فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج" أي لما قدمت هي وأمها وأختها أسماء بنت أبي بكر كما سأبينه، وأما أبوها فقدم قبل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فتمزق شعري" بالزاي أي تقطع، وللكشميهني: "فتمرق" بالراء أي انتتف. قوله: "فوفى" أي كثر، وفي الكلام حذف تقديره"ثم فصلت من الوعك فتربى شعري فكثر، وقولها" جميمة" بالجيم مصغر الجمة بالضم وهي مجتمع شعر الناصية، ويقال للشعر إذا سقط عن المنكبين جمة، وإذا كان إلى شحمة الأذنين وفرة. وقولها: "في أرجوحة" بضم أوله معروفة وهي التي تلعب بها الصبيان، وقوله: "أنهج" أي أتنفس تنفسا عاليا، وقولهن"على خير طائر" أي على خير حظ ونصيب، وقولها: "فلم يرعني" بضم الراء وسكون العين أي لم يفزعني شيء إلا دخوله علي، وكنت بذلك عن المفاجأة بالدخول على غير عالم بذلك فإنه يفزع غالبا، وروى أحمد من وجه آخر هذه القصة مطولة" قالت عائشة: قدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا، فجاءت بي أمي وأنا في أرجوحة ولي جميمة، ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت بي تقودني حتى وقفت بي عند الباب حتى سكن نفسي" الحديث، وفيه: "فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سريره وعنده رجال ونساء من الأنصار فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك يا رسول الله، بارك الله فيهم فوثب الرجال والنساء، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا وأنا يومئذ بنت تسع سنين". قوله: "أريتك" بضم أوله. قوله: "سرقة" بفتح المهملة والراء والقاف أي قطعة، أي يريه صورتها. قوله: "ويقول" في رواية الكشميهني: "وقال: ويأتي في النكاح بلفظ: "فقال لي هذه امرأتك". قوله: "فإذا هي أنت" سيأتي الكلام على شرحه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: "عن أبيه" هذا صورته مرسل، لكنه لما كان من رواية عروة مع كثرة خبرته بأحوال عائشة يحمل على أنه حمله عنها. قوله: "توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فلبث سنتين أو قريبا من ذلك ونكح عائشة وهي بنت ست سنين ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين" فيه إشكال لأن ظاهره

(7/224)


يقتضي أنه لم يبن بها إلا بعد قدومه المدينة بسنتين ونحو ذلك، لأن قوله: "فلبث سنتين أو نحو ذلك" أي بعد موت خديجة، وقوله: "ونكح عائشة" أي عقد عليها لقوله بعد ذلك" وبنى بها وهي بنت تسع" فيخرج من ذلك أنه بنى بها بعد قدومه المدينة بسنتين، وليس كذلك، لأنه وقع عند المصنف في النكاح من رواية الثوري عن هشام بن عروة في هذا الحديث: "ومكثت عنده تسعا" وسيأتي ما قيل من إدراج النكاح في هذه الطريق، وهو في الجملة صحيح، فإن عند مسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة في هذا الحديث: "وزفت إليه وهي بنت تسع ولعبتها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة" وله من طريق الأسود عن عائشة نحوه، ومن طريق عبد الله بن عروة عن أبيه عن عائشة" تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال" فعلى هذا فقوله: "فلبث سنتين أو قريبا من ذلك" أي لم يدخل على أحد من النساء، ثم دخل على سودة بنت زمعة قبل أن يهاجر، ثم بنى بعائشة بعد أن هاجر، فكأن ذكر سودة سقط على بعض رواته. وقد روى أحد والطبراني بإسناد حسن عن عائشة قالت: "لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون: يا رسول الله ألا تزوج؟ قال: نعم، فما عندك؟ قالت: بكر وثيب، البكر بنت أحب خلق الله إليك عائشة، والثيب سودة بنت زمعة.قال: فاذهبي فاذكريهما علي فدخلت على أبي بكر فقال: إنما هي بنت أخيه، قال: قولي له أنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي.فجاءه فأنكحه.ثم دخلت على سودة فقالت لها: أخبري أبي، فذكرت له، فزوجه" وذكر ابن إسحاق وغيره أنه دخل على سودة بمكة.وأخرج الطبراني من وجه آخر عن عائشة قالت."لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفنا بمكة، فلما استقر بالمدينة بعث زيد بن حارثة وأبا رافع، وبعث أبو بكر عبد الله بن أريقط وكتب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يحمل معه أم رومان وأم أبي بكر وأنا وأختي أسماء، فخرج بنا، وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة، وأخذ زيد امرأته أم أيمن وولديها أيمن وأسامة، واصطحبنا، حتى قدمنا المدينة فنزلت في عيال أبي بكر، ونزل آل النبي صلى الله عليه وسلم: عنده، وهو يومئذ يبني المسجد وبيوته، فأدخل سودة بنت زمعة أحد تلك البيوت، وكان يكون عندها، فقال له أبو بكر: ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ فبني بي" الحديث. قال الماوردي: الفقهاء يقولون: تزوج عائشة قبل سودة، والمحدثون يقولون: تزوج سودة قبل عائشة، وقد يجمع بينهما بأنه عقد على عائشة ولم يدخل بها ودخل بسودة. قلت: والرواية التي ذكرتها عن الطبراني ترفع الإشكال وتوجه الجمع المذكور، والله أعلم. وقد أخرج الإسماعيلي من طريق عبد الله بن محمد بن يحيى عن هشام عن أبيه" أنه كتب إلى الوليد: إنك سألتني متى توفيت خديجة؟ وإنها توفيت قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بثلاث سنين أو قريب من ذلك، نكح النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بعد متوفى خديجة، وعائشة بنت ست سنين. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بها بعدما قدم المدينة وهي بنت تسع سنين" وهذا السياق لا إشكال فيه، ويرتفع به ما تقدم من الإشكال أيضا، والله أعلم. إذا ثبت أنه بنى بها في شوال من السنة الأولى من الهجرة قوي قول من قال إنه دخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر، وقد وهاه النووي في تهذيبه، وليس بواه إذا عددناه من ربيع الأول، وجزمه بأن دخوله بها كان في السنة الثانية يخالف ما ثبت كما تقدم أنه دخل بها بعد خديجة بثلاث سنين. وقال الدمياطي في السيرة له: ماتت خديجة في رمضان، وعقد على سودة في شوال ثم على عائشة، ودخل بسودة قبل عائشة.

(7/225)


45 - باب هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَار"ِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ" .
3897- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ عُدْنَا خَبَّابًا فَقَالَ "هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ إِذْخِرٍ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا"
3898- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ"
3899- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ الْمَكِّيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ".
[الحديث 3899- أطرافه في: 4311,4310,4309]
3900- قَالَ يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ وَحَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ زُرْتُ عَائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ فَسَأَلْنَاهَا عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَتْ "لاَ هِجْرَةَ الْيَوْمَ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ وَالْيَوْمَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ".
3901- حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ هِشَامٌ فَأَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا

(7/226)


"أَنَّ سَعْدًا قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجُوهُ اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ"
وَقَالَ أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا نَبِيَّكَ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ قُرَيْشٍ.
3902- حَدَّثَنَي مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتِّينَ"
3903- حَدَّثَنَي مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا زكرياء بن اسحاق حَدَّثَنَا عمرو بن دينار عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ"مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة؛ وتوفي وهو بن ثلاث وستين"
3904- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عُبَيْدٍ
يَعْنِي ابْنَ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَعَجِبْنَا لَهُ وَقَالَ النَّاسُ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ وَهُوَ يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ إِلاَّ خُلَّةَ الإِسْلاَمِ لاَ يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ"
قوله: "باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة" أما النبي صلى الله عليه وسلم فجاء عن ابن عباس أنه أذن له في الهجرة إلى المدينة بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} أخرجه الترمذي وصححه هو والحاكم، وذكر الحاكم أن خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها، وجزم ابن إسحاق بأنه خرج أول يوم من ربيع الأول، فعلى هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يوما، وكذا جزم به الأموي في المغازي عن ابن إسحاق فقال: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال، قال وخرج لهلال ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول. قلت: وعلى هذا خرج يوم الخميس، وأما أصحابه فتوجه معه منهم أبو بكر الصديق وعامر بن فهيرة، وتوجه قبل ذلك بين العقبتين جماعة منهم ابن أم مكتوم، ويقال إن أول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأشهل المخزومي زوج أم سلمة، وذلك

(7/227)


أنه أوذي لما رجع من الحبشة، فعزم على الرجوع إليها، فبلغه قصة الاثني عشر من الأنصار فتوجه إلى المدينة، ذكر ذلك ابن إسحاق، وأسند عن أم سلمة أن أبا سلمة أخذها معه فردها قومها فحبسوها سنة، ثم انطلقت فتوجهت في قصة طويلة وفيها" فقدم أبو سلمة المدينة بكرة، وقدم بعده عامر بن ربيعة حليف بني عدي عشية" ثم توجه مصعب بن عمير كما تقدم آنفا ليفقه من أسلم من الأنصار، ثم كان أول من هاجر بعد بيعة العقبة عامر بن ربيعة حليف بني عدي على ما ذكر ابن إسحاق، وسيأتي ما يخالفه في الباب الذي يليه وهو قول البراء" أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير" إلخ توجه باقي الصحابة شيئا فشيئا كما سيأتي في الباب الذي يليه. ثم لما توجه النبي صلى الله عليه وسلم واستقر بها خرج من بقي من المسلمين، وكان المشركون يمنعون من قدروا على منعه منهم، فكان أكثرهم يخرج سرا إلى أن لم يبق منهم بمكة إلا من غلب على أمره من المستضعفين. ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث: الأول والثاني: قوله: "وقال عبد الله بن زيد وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار" أما حديث عبد الله بن زيد فيأتي موصولا في غزوة حنين، وأما حديث أبي هريرة فتقدم موصولا في مناقب الأنصار، وقوله: "من الأنصار" أي كنت أنصاريا صرفا فما كان لي مانع من الإقامة بمكة، لكنني اتصفت بصفة الهجرة، والمهاجر لا يقيم بالبلد الذي هاجر منها مستوطنا، فينبغي أن يحصل لكم الطمأنينة بأني لا أتحول عنكم، وذلك أنه إنما قال لهم ذلك في جواب قولهم: أما الرجل فقد أحب الإقامة بموطنه، وسيأتي لذلك مزيد في غزوة حنين إن شاء الله تعالى. الحديث الثالث: قوله: "وقال أبو موسى إلخ" يأتي شرحه مستوفى في غزوة أحد، وقوله فيه: "فذهب وهلي" بفتح الواو والهاء أي ظني، يقال وهل بالفتح يهل بالكسر وهلا بالسكون إذا ظن شيئا فتبين الأمر بخلافه، وقوله: "أو هجر" بفتح الهاء والجيم بلد معروف من البحرين وهي من مساكن عبد القيس، وقد سبقوا غيرهم من القرى إلى الإسلام كما سبق بيانه في كتاب الإيمان. ووقع في بعض نسخ أبي ذر"أو الهجر" بزيادة ألف ولام والأول أشهر، وزعم بعض الشراح أن المراد بهجر هنا قرية قريبة من المدينة، وهو خطأ فإن الذي يناسب أن يهاجر إليه لا بد وأن يكون بلدا كبيرا كثير الأهل، وهذه القرية التي قيل إنها كانت قرب المدينة يقال لها هجر لا يعرفها أحد، وإنما زعم ذلك بعض الناس في قوله: "قلال هجر" أن المراد بها قرية كانت قرب المدينة كان يصنع بها القلال، وزعم آخرون بأن المراد بها هجر التي بالبحرين كأن القلال كانت تعمل بها وتجلب إلى المدينة وعملت بالمدينة على مثالها، وأفاد ياقوت أن هجر أيضا بلد باليمن، فهذا أولى بالتردد بينها وبين اليمامة لأن اليمامة بين مكة واليمن، وقوله: "فإذا هي المدينة يثرب" كان ذلك قبل أن يسميها صلى الله عليه وسلم طيبة، ووقع. عند البيهقي من حديث صهيب رفعه: "أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين، فإما أن تكون هجر أو يثرب" ولم يذكر اليمامة، وللترمذي من حديث جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى أوحى إلي أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك: المدينة أو البحرين أو قنسرين" استغربه الترمذي، وفي ثبوته نظر لأنه مخالف لما في الصحيح من ذكر اليمامة، لأن قنسرين من أرض الشام من جهة حلب، وهي بكسر القاف وفتح النون الثقيلة بعدها مهملة ساكنة، بخلاف اليمامة فإنها إلى جهة اليمن، إلا إن حمل على اختلاف المأخذ فإن الأول جرى على مقتضى الرؤيا التي أريها، والثاني يخير بالوحي، فيحتمل أن يكون أري أولا ثم خير ثانيا فاختار المدينة. حديث خباب"هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم": أي بإذنه، وإلا فلم يرافق النبي صلى الله عليه وسلم سوى أبي بكر وعامر بن فهيرة كما تقدم، وقد أعاد

(7/228)


المصنف هذا الحديث في هذا الباب، وستأتي الإشارة إليه بعد بضعة عشر حديثا، وسيأتي شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الرقاق، ومضى شيء منه في كتاب الجنائز. حديث عمر "الأعمال بالنية" أورده مختصرا، وقد تقدم شرحه مستوفى في أول الكتاب، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري، وهو الذي لا يثبت هذا الحديث إلا من طريقه. قوله: "حدثني إسحاق ابن يزيد الدمشقي" هو إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الفراديسي الدمشقي أبو النضر، نسبه هنا إلى جده، وكذلك في الزكاة وفي الجهاد، وجزم بأنه الفراديسي الكلاباذي وآخرون، وتفرد الباجي فأفرده بترجمة ونسبه خراسانيا، ولم يعرف من حاله على ذلك، وقول الجماعة أولى. قوله: "عن عبدة بن أبي لبابة" بضم اللام والموحدتين الأولى خفيفة الأسدي كوفي نزل دمشق وكنيته أبو القاسم، ولا يعرف اسم أبيه. قال الأوزاعي: لم يقدم علينا من العراق أفضل منه. قوله: "أن عبد الله بن عمر كان يقول لا هجرة بعد الفتح" هذا موقوف، وسيأتي شرحه في الذي بعده. قوله: "قال يحيى بن حمزة: وحدثني الأوزاعي" هو معطوف على الذي قبله، وقد أفردهما في أواخر غزوة الفتح، وأورد كل واحد منهما عن إسحاق بن يزيد المذكور بإسناده. وأخرج ابن حبان الثاني من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال: "سألته عن انقطاع فضيلة الهجرة إلى الله ورسوله فقال: "فذكره. قوله: "عن عطاء" في رواية ابن حبان: "حدثنا عطاء". قوله: "زرت عائشة مع عبيد بن عمير الليثي" تقدم في أبواب الطواف من الحج أنها كانت حينئذ مجاورة في جبل ثبير. قوله: "فسألها عن الهجرة" أي التي كانت قبل الفتح واجبة إلى المدينة ثم نسخت بقوله: "لا هجرة بعد الفتح" وأصل الهجرة هجر الوطن، وأكثر ما يطلق على من رحل من البادية إلى القرية، ووقع عند الأموي في المغازي من وجه آخر عن عطاء" فقالت إنما كانت الهجرة قبل فتح مكة والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة". قوله: "لا هجرة اليوم" أي بعد الفتح. قوله: "كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلخ" أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت، ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل الجهاد في" باب وجوب النفير" في الجمع بين حديث ابن عباس"لا هجرة بعد الفتح" وحديث عبد الله بن السعدي "لا تنقطع الهجرة" وقال الخطابي: كانت الهجرة أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت لما هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل سقطت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب. وقال البغوي في "شرح السنة": يحتمل الجمع بينهما بطريق أخرى. بقوله: "لا هجرة بعد الفتح" أي من مكة إلى المدينة، وقوله: "لا تنقطع" أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام، قال: ويحتمل وجها آخر وهو أن قوله لا هجرة أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذن، وقوله: "لا تنقطع" أي هجرة من هاجر على غير هذا الوصف من الأعراب ونحوهم. قلت: الذي يظهر أن المراد بالشق الأول وهو المنفي ما ذكره في الاحتمال الأخير، وبالشق الآخر المثبت ما ذكره في الاحتمال الذي قبله، وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه

(7/229)


الإسماعيلي بلفظ: "انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار" أي ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن عن دينه، ومفهومه أنه لو قدر أن يبقى في الدنيا دار كفر أن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها والله أعلم. وأطلق ابن التين أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة وأن من أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بغير عذر كان كافرا، وهو إطلاق مردود، والله أعلم. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة. قوله: "أن سعدا" هو ابن معاذ، وسيأتي شرح هذا في غزوة بني قريظة، وأورده هنا مختصرا لما يتعلق بقريش الذين أحوجوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج عن وطنه. قوله: "وقال أبان بن يزيد هو العطار إلخ" يعني أن أبان وافق ابن نمير في روايته عن هشام لهذا الحديث وأفصح بتعيين القوم الذين أبهموا وأنهم قريش، وزعم الداودي أن المراد بالقوم قريظة، ثم قال في الرواية المعلقة: هذا ليس بمحفوظ، وهو إقدام منه على رد الروايات الثابتة بالظن الخائب، وذلك أن في رواية ابن نمير أيضا ما يدل على أن المراد بالقوم قريش، وإنما تفرد أبان بذكر قريش في الموضع الأول، وإلا فسيأتي في المغازي في بقية هذا الحديث من كلام سعد وقال: "اللهم فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني له" الحديث، وأيضا ففي الموضع الذي اقتصر الداودي، على النظر فيه ما يدل على أن المراد قريش، لأن فيه: "من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه" فإن هذه القصة مختصة بقريش لأنهم الذين أخرجوه، وأما قريظة فلا. قوله: "حدثنا هشام" هو ابن حسان. قوله: "فمكث بمكة ثلاث عشرة" هذا أصح مما أخرجه أحمد عن يحيى بن سعيد عن هشام بن حسان بهذا الإسناد قال: "أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرا" وأصح مما أخرجه مسلم من وجه آخر عن ابن عباس" أن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كانت خمس عشرة سنة" وقد تقدم بيان ذلك في كتاب المبعث، وسيأتي بقية الكلام عليه في الوفاة إن شاء الله تعالى. وقوله هنا: "فهاجر عشر سنين" أي أقام مهاجرا عشر سنين، وهو كقوله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} . حديث أبي سعيد، تقدم شرحه في" مناقب أبي بكر" مستوفى، وقوله فيه: "فقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ" في حديث ابن عباس عند البلاذري في نحو هذه القصة" فقال له أبو سعيد الخدري. يا أبا بكر ما يبكيك" فذكر الحديث.
3905- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَأَنَا لَكَ جَارٌ ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ

(7/230)


فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِصَلاَتِهِ وَلاَ يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلاَةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ وَإِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلاَنَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِلْمُسْلِمِينَ إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ قَالَ نَعَمْ فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ وَهُوَ الْخَبَطُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَمْرٌ قَالَتْ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي بَكْرٍ أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَ إِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بِالثَّمَنِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَجَهَّزْنَاهُمَا

(7/231)


أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ قَالَتْ ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ فَكَمَنَا فِيهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلاَمٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلاَ يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلاَّ وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلاَمُ وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاَثِ وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيَا خِرِّيتًا وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاَثٍ وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ"
الحديث الحادي عشر قوله: "لم أعقل أبوي" يعني أبا بكر وأم رومان.قوله: "يدينان الدين" بالنصب على نزع الخافض أي يدينان بدين الإسلام، أو هو مفعول به على التجوز. قوله: "فلما ابتلي المسلمون" أي بأذى المشركين لما حصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة كما تقدم بيانه. قوله: "خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة" أي ليلحق بمن سبقه إليها من المسلمين، وقد قدمت أن الذين هاجروا إلى الحبشة أولا ساروا إلى جدة وهي ساحل مكة ليركبوا منها البحر إلى الحبشة. قوله: "برك الغماد" أما برك فهو بفتح الموحدة وسكون الراء بعدها كاف وحكي كسر أوله، وأما الغماد فهو بكسر المعجمة وقد تضم وبتخفيف الميم، وحكى ابن فارس فيها ضم الغين، موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن. وقال البكري: هي أقاصي هجر، وحكى الهمداني في أنساب اليمن: هو في أقصى اليمنى، والأول أولى. وقال ابن خالويه حضرت مجلس المحاملي وفيه زهاء ألف، فأملى عليهم حديثا فيه: "فقالت الأنصار لو دعوتنا إلى برك الغماد" قالها بالكسر، فقلت للمستملي: هو بالضم، فذكر له ذاك، فقال لي: وما هو؟ قلت: سألت ابن دريد عنه فقال: هو بقعة في جهنم. فقال المحاملي: وكذا في كتابي على الغين ضمة.
قال ابن خالويه وأنشد ابن دريد:
وإذا تنكرت البلاد ... فأولها كنف البعاد
واجعل مقامك أو مقرك ... جانبي برك الغماد
لست ابن أم القاطنين ... ولا ابن عم للبلاد
قال ابن خالويه: وسألت أبا عمر - يعني غلام ثعلب - فقال: هو بالكسر والضم موضع باليمن، قال وموضع باليمن أوله بالكسر لكن آخره راء مهملة، وهو عند بئر برهوت الذي يقال إن أرواح الكفار تكون فيها ا هـ

(7/232)


واستبعد بعض المتأخرين ما ذكره ابن دريد فقال: القول بأنه موضع باليمن أنسب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعوهم إلى جهنم. وخفي عليهم أن هذا بطريق المبالغة فلا يراد به الحقيقة، ثم ظهر لي أن لا تنافي بين القولين، فيحمل قوله: جهنم على مجاز المجاورة بناء على القول بأن برهوت مأوى أرواح الكفار وهم أهل النار. قوله: "ابن الدغنة" بضم المهملة والمعجمة وتشديد النون عند أهل اللغة، وعند الرواة بفتح أوله وكسر ثانيه وتخفيف النون، قال الأصيلي وقرأه لنا المروزي بفتح الغين، وقيل: إن ذلك كان لاسترخاء في لسانه والصواب الكسر، وثبت بالتخفيف والتشديد من طريق، وهي أمه وقيل أم أبيه وقيل دابته، ومعنى الدغنة المسترخية وأصلها الغمامة الكثيرة المطر، واختلف في اسمه فعند البلاذري من طريق الواقدي عن معمر عن الزهري أنه الحارث بن يزيد، وحكى السهيلي أن اسمه مالك، ووقع في "شرح الكرماني" أن ابن إسحاق سماه ربيعة بن رفيع؛ وهو وهم من الكرماني فإن ربيعة المذكور آخر يقال له ابن الدغنة أيضا لكنه سلمي، والمذكور هنا من القارة فاختلفا، وأيضا السلمي إنما ذكره ابن إسحاق في غزوة حنين وأنه صحابي قتل دريد بن الصمة، ولم يذكره ابن إسحاق في قصة الهجرة. وفي الصحابة ثالث يقال له ابن الدغنة لكن اسمه حابس وهو كلبي، له قصة في سبب إسلامه وأنه رأى شخصا من الجن فقال له "يا حابس بن دغنة يا حابس" في أبيات، وهو مما يرجح رواية التخفيف في الدغنة. قوله: "وهو سيد القارة" بالقاف وتخفيف الراء، وهي قبيلة مشهورة من بني الهون، بالضم والتخفيف، ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش، وكانوا يضرب بهم المثل في قوة الرمي، قال الشاعر: قد أنصف القارة من راماها قوله: "أخرجني قومي"أي تسببوا في إخراجي. قوله: "فأريد أن أسيح" بالمهملتين، لعل أبا بكر طوى عن ابن الدغنة تعيين جهة مقصده لكونه كان كافرا، وإلا فقد تقدم أنه قصد التوجه إلى أرض الحبشة، ومن المعلوم أنه لا يصل إليها من الطريق التي قصدها حتى يسير في الأرض وحده زمانا فيصدق أنه سائح، لكن حقيقة السياحة أن لا يقصد موضعا بعينه يستقر فيه. قوله: "وتكسب المعدوم" في رواية الكشميهني: "المعدم" وقد تقدم شرح هذه الكلمات في حديث بدء الوحي أول الكتاب، وفي موافقة وصف ابن الدغنة لأبي بكر بمثل ما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على عظيم فضل أبي بكر واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال. قوله: "وأنا لك جار" أي مجير أمنع من يؤذيك. قوله: "فرجع" أي أبو بكر "وارتحل معه ابن الدغنة" وقع في الكفالة" وارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر" والمراد في الروايتين مطلق المصاحبة، إلا فالتحقيق ما في هذا الباب. قوله: "لا يخرج مثله" أي من وطنه باختياره على نية الإقامة في غيره مع ما فيه من النفع المتعدي لأهل بلده "ولا يخرج" أي ولا يخرجه أحد بغير اختياره للمعنى المذكور، واستنبط بعض المالكية من هذا أن من كانت فيه منفعة متعدية لا يمكن من الانتقال عن البلد إلى غيره بغير ضرورة راجحة. قوله: "فلم تكذب قريش" أي لم ترد عليه قوله في أمان أبي بكر، وكل من كذبك فقد رد قولك، فأطلق التكذيب وأراد لازمه، وتقدم في الكفارة بلفظ: "فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنت أبا بكر" وقد استشكل هذا مع ما ذكر ابن إسحاق في قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وسؤاله حين رجع الأخنس بن شريق أن يدخل في جواره فاعتذر بأنه حليف، وكان أيضا من حلفاء بني زهرة، ويمكن الجواب بأن ابن الدغنة رغب في إجارة أبي بكر، والأخنس لم يرغب فيما التمس منه فلم يثرب النبي صلى الله عليه وسلم عليه. قوله: "بجوار" بكسر الجيم وبضمها، وقد تقدم بيان المراد منه في كتاب الكفالة. قوله:

(7/233)


"مر أبا بكر فليعبد ربه" دخلت الفاء على شيء محذوف لا يخفى تقديره. قوله: "فلبث أبو بكر" تقدم في الكفالة بلفظ: "فطفق" أي جعل، ولم يقع لي بيان المدة التي أقام فيها أبو بكر على ذلك. قوله: "ثم بدا لأبي بكر" أي ظهر له رأي غير الرأي الأول. قوله: "بفناء داره" بكسر الفاء وتخفيف النون وبالمد أي أمامها. قوله: "فينقذف" بالمثناة والقاف والذال المعجمة الثقيلة، تقدم في الكفالة بلفظ: "فيتقصف" أي يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر، وأطلق يتقصف مبالغة، قال الخطابي: هو المحفوظ، وأما يتقذف فلا معنى له إلا أن يكون من القذف أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضا فيتساقطون عليه فيرجع إلى معنى الأول، وللكشميهني بنون وسكون القاف وكسر الصاد أي يسقط. قوله: "بكاء" بالتشديد أي كثير البكاء. قوله: "لا يملك عينيه" أي لا يطيق إمساكهما عن البكاء من رقة قلبه. وقوله: "إذا قرأ" إذا ظرفية والعامل فيه لا يملك، أو هي شرطية والجزاء مقدر. قوله: "فأفزع ذلك" أي أخاف الكفار لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب أن يميلوا إلى دين الإسلام. قوله: "فقدم عليهم" في رواية الكشميهني: "فقدم عليه" أي على أبي بكر. قوله: "أن يفتن نساءنا" بالنصب على المفعولية وفاعله أبو بكر، كذا لأبي ذر، وللباقين" أن يفتن" بضم أوله" نساؤنا" بالرفع على البناء للمجهول. قوله: "أجرنا" بالجيم والراء للأكثر، وللقابسي بالزاي أي أبحنا له، والأول أوجه، والألف مقصورة في الروايتين. قوله: "فاسأله" في رواية الكشميهني: "فسله". قوله: "ذمتك" أي أمانك له. قوله: "نخفرك" بضم أوله وبالخاء المعجمة وكسر الفاء أي نغدر بك، يقال خفره إذا حفظه، وأخفره إذا غدر به. قوله: "مقرين لأبي بكر الاستعلان" أي لا نسكت عن الإنكار عليه للمعنى الذي ذكروه من الخشية على نسائهم وأبنائهم أن يدخلوا في دينه.قوله: "وأرضى بجوار الله" أي أمانه وحمايته. وفيه جواز الأخذ بالأشد في الدين، وقوة يقين أبي بكر. قوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة" في هذا الفصل من فضائل الصديق أشياء كثيرة قد امتاز بها عمن سواه ظاهرة لمن تأملها. قوله: "بين لابتين وهما الحرتان" هذا مدرج في الخبر وهو من تفسير الزهري، والحرة أرض حجارتها سود، وهذه الرؤيا غير الرؤيا السابقة أول الباب من حديث أبي موسى التي تردد فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق، قال ابن التين: كأن النبي صلى الله عليه وسلم أري دار الهجرة بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم أري الصفة المختصة بالمدينة فتعينت. قوله: "ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة" أي لما سمعوا باستيطان المسلمين المدينة رجعوا إلى مكة فهاجر إلى أرض المدينة معظمهم لا جميعهم، لأن جعفرا ومن معه تخلفوا في الحبشة، وهذا السبب في مجيء مهاجرة الحبشة غير السبب المذكور في مجيء من رجع منهم أيضا في الهجرة الأولى، لأن ذاك كان بسبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في سورة النجم فشاع أن المشركين أسلموا وسجدوا فرجع من رجع من الحبشة فوجدوهم أشد ما كانوا كما سيأتي شرحه وبيانه في تفسير سورة النجم. قوله: "وتجهز أبو بكر قبل المدينة" بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة، وتقدم في الكفالة بلفظ: "وخرج أبو بكر مهاجرا" وهو منصوب على الحال المقدرة، والمعنى أراد الخروج طالبا للهجرة. وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عند ابن حبان: "استأذن أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج من مكة". قوله: "على رسلك" بكسر أوله أي على مهلك، والرسل السير الرفيق. وفي رواية ابن حبان: "فقال اصبر". قوله: "وهل ترجو ذلك بأبي أنت" لفظ: "أنت" مبتدأ وخبره "بأبي" أي مفدى بأبي، ويحتمل أن يكون أنت تأكيدا لفاعل ترجو وبأبي قسم. قوله: "فحبس نفسه" أي منعها من الهجرة. وفي رواية ابن حبان: "فانتظره أبو

(7/234)


بكر رضي الله عنه". قوله: "ورق السمر" بفتح المهملة وضم الميم. قوله: "وهو الخبط" مدرج أيضا في الخبر، وهو من تفسير الزهري، ويقال السمر شجرة أم غيلان، وقيل كل ماله ظل ثخين، وقيل: السمر ورق الطلح والخبط بفتح المعجمة والموحدة ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر قاله ابن فارس. قوله: "أربعة أشهر" فيه بيان المدة التي كانت بين ابتداء هجرة الصحابة بين العقبة الأولى والثانية وبين هجرته صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في أول الباب بين العقبة الثانية وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهرين وبعض شهر على التحرير. قوله: "قال ابن شهاب إلخ" هو بالإسناد المذكور أولا وقد أفرده ابن عائذ في المغازي من طريق الوليد بن محمد عن الزهري، ووقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبان مضموما إلى ما قبله، وعند موسى بن عقبة" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطئه يوم إلا أتى منزل أبي بكر أول النهار وآخره". قوله: "في نحر الظهيرة" أي أول الزوال وهو أشد ما يكون في حرارة النهار، والغالب في أيام الحر القيلولة فيها. وفي رواية ابن حبان: "فأتاه ذات يوم ظهرا" وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني" كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا بمكة كل يوم مرتين بكرة وعشية، فلما كان يوم من ذلك جاءنا في الظهيرة، فقلت يا أبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "هذا رسول الله متقنعا" أي مغطيا رأسه. وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب" قالت عائشة وليس عند أبي بكر إلا أنا وأسماء" قيل: فيه جواز لبس الطيلسان، وجزم ابن القيم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلبسه ولا أحد من أصحابه، وأجاب عن الحديث بأن التقنع يخالف التطيلس، قال: ولم يكن يفعل التقنع عادة بل للحاجة، وتعقب بأن في حديث أنس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر التقنع" أخرجه به، وفي طبقات ابن سعد مرسلا" ذكر الطيلسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا ثوب لا يؤدي شكره" قوله: "فداء له" بكسر الفاء وبالقصر. وفي رواية الكشميهني: "فداء" بالمد. قوله: "ما جاء به" في رواية يعقوب بن سفيان" إن جاء به" إن هي النافية بمعنى ما. وفي رواية موسى بن عقبة" فقال أبو بكر: يا رسول الله ما جاء بك إلا أمر حدث". قوله: "إنما هم أهلك" أشار بذلك إلى عائشة وأسماء كما فسره موسى بن عقبة، ففي روايته قال: "أخرج من عندك. قال: لا عين عليك، إنما هما ابنتاي" وكذلك في رواية هشام بن عروة. قوله: "فإني" في رواية الكشميهني: "فإنه". قوله: "الصحابة" بالنصب أي أريد المصاحبة، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله: "نعم" زاد ابن إسحاق في روايته: "قالت عائشة: فرأيت أبا بكر يبكي، وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح" وفي رواية هشام" فقال: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة" قوله: "إحدى راحلتي هاتين.قال: بالثمن" زاد ابن إسحاق" قال: لا أركب بعيرا ليس هو لي، قال: فهو لك، قال: لا ولكن بالثمن الذي ابتعتها به، قال: أخذتها بكذا وكذا، قال أخذتها بذلك، قال: هي لك" وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني "فقال: بثمنها يا أبا بكر، فقال: بثمنها إن شئت" ونقل السهيلي في"الروض" عن بعض شيوخ المغرب أنه سئل عن امتناعه من أخذ الراحلة مع أن أبا بكر أنفق عليه ماله، فقال: أحب أن لا تكون هجرته إلا من مال نفسه. وأفاد الواقدي أن الثمن ثمانمائة وأن التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر هي القصواء، وأنها كانت من نعم بني قشير، وأنها عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم قليلا وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع. وذكر ابن إسحاق أنها الجذعاء، وكانت من إبل بني الحريش، وكذا في رواية أخرجها ابن حبان من طريق هشام عن أبيه عن عائشة أنها الجذعاء. قوله: "أحث الجهاز" أحث بالمهملة والمثلثة أفعل تفضيل من الحث وهو الإسراع. وفي رواية لأبي ذر "أحب" بالموحدة،

(7/235)


والأول أصح. والجهاز بفتح الجيم وقد تكسر - ومنهم من أنكر الكسر - وهو ما يحتاج إليه في السفر. قوله: "وصنعنا لهما سفرة في جراب" أي زادا في جراب، لأن أصل السفرة في اللغة الزاد الذي يصنع للمسافر، ثم استعمل في وعاء الزاد، ومثله المزادة للماء، وكذلك الراوية. فاستعملت السفرة في هذا الخبر على أصل اللغة. وأفاد الواقدي أنه كان في السفرة شاة مطبوخة قوله: "ذات النطاق" يكسر النون، وللكشميهني النطاقين بالتثنية، والنطاق ما يشد به الوسط، وقيل: هو إزار فيه تكة، وقيل: هو ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل قاله أبو عبيدة الهروي، قال: وسميت ذات النطاقين لأنها كانت تجعل نطاقا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتجعل في الأخر الزاد ا ه. والمحفوظ كما سيأتي بعد هذا الحديث أنها شقت نطاقها نصفين فشدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الآخر، فمن ثم قيل لها ذات النطاق وذات النطاقين، فالتثنية والإفراد بهذين الاعتبارين. وعند ابن سعد من حديث الباب: "شقت نطاقها فأوكأت بقطعة منه الجراب وشدت فم القربة بالباقي فسميت ذات النطاقين". قوله: "قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في حبل ثور" بالمثلثة ذكر الواقدي أنهما خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر. وقال الحاكم تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس. قلت: يجمع بينهما بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين، لأنه أقام فيه ثلاث ليال، فهي ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وخرج في أثناء ليلة الاثنين. ووقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبان: "فركبا حتى أتيا الغار وهو ثور، فتواريا فيه: "وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: "فرقد علي على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يوري عنه، وباتت قريش تختلف وتأتمر أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى أصبحوا فإذا هم بعلي؛ فسألوه، فقال: لا علم لي فعلموا أنه فر منهم" وذكر ابن إسحاق نحوه وزاد: "أن جبريل أمره لا يبيت على فراشه، فدعا عليا فأمره أن يبيت على فراشه ويسجي ببرده الأخضر، ففعل. ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم على القوم ومعه حفنة من تراب، فجعل ينثرها على رءوسهم وهو يقرأ يس إلي: {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} . وذكر أحمد من حديث ابن عباس بإسناد حسن في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، قال: "تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج - النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، يعني ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه، فلما أصبحوا ورأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال". وذكر نحو ذلك موسى بن عقبة عن الزهري قال: "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلى بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثم إن مشركي قريش اجتمعوا" فذكر الحديث وفيه: "وبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم يوري عنه، وباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، فلما أصبحوا إذا هم بعلي" وقال في آخره: "فخرجوا في كل وجه يطلبونه" وفي مسند أبي بكر الصديق لأبي بكر بن علي المروزي شيخ النسائي من مرسل الحسن في قصة نسج العنكبوت نحوه، وذكر الواقدي أن قريشا بعثوا في أثرهما قائفين: أحدهما كرز بن علقمة، فرأى كرز بن

(7/236)


علقمة على الغار نسح العنكبوت فقال: هاهنا انقطع الأثر. ولم يسم الآخر وسماه أبو نعيم في "الدلائل" من حديث زيد بن أرقم وغيره سراقة بن جعشم. وقصة سراقة مذكورة في هذا الباب. وقد تقدم في "مناقب أبي بكر" حديث أنس عن أبي بكر. قوله: "فكمنا فيه" بفتح الميم ويجوز كسرها أي اختفيا. قوله: "ثلاث ليال" في رواية عروة بن الزبير "ليلتين" فلعله لم يحسب أول ليلة، وروى أحمد والحاكم من رواية طلحة النضري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبثت مع صاحي - يعني أبا بكر - في الغار بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا ثمر البرير" قال الحاكم: معناه مكثنا مختفين من المشركين في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما. قلت: لم يقع في رواية أحمد ذكر الغار، وهي زيادة في الخبر من بعض رواته، ولا يصح حمله على حالة الهجرة لما في الصحيح كما تراه من أن عامر بن فهيرة كان يروح عليهما في الغار باللبن، ولما وقع لهما في الطريق من لقي الراعي كما في حديث البراء في هذا الباب، ومن النزول بخيمة أم معبد وغير ذلك، فالذي يظهر أنها قصة أخرى، والله أعلم. وفي"دلائل النبوة للبيهقي" من مرسل محمد بن سيرين "أن أبا بكر ليلة انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار كان يمشي بين يديه ساعة ومن خلفه ساعة، فسأله فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي أمامك.فقال: لو كان شيء أحببت أن تقتل دوني؟ قال: أي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فاستبرأه" وذكر أبو القاسم البغوي من مرسل ابن أبي مليكة نحوه. وذكر ابن هشام من زياداته عن الحسن البصري بلاغا نحوه. قوله: "عبد الله بن أبي بكر" وقع في نسخة "عبد الرحمن" وهو وهم. قوله: "ثقف" بفتح المثلثة وكسر القاف ويجوز إسكانها وفتحها وبعدها فاء: الحاذق، تقول ثقفت الشيء إذا أقمت عوجه. قوله: "لقن" بفتح اللام وكسر القاف بعدها نون اللقن: السريع الفهم. قوله: "فيدلج" بتشديد الدال بعدها جيم أي يخرج بسحر إلى مكة. قوله: "فيصبح مع قريش بمكة كبائت" أي مثل البائت، يظنه من لا يعرف حقيقة أمره لشدة رجوعه بغلس. قوله: "يكتادان به" في رواية الكشميهني: "يكادان به" بغير مثناة أي يطلب لهما فيه المكروه، وهو من الكيد. قوله: "عامر بن فهيرة" تقدم ذكره في "باب الشراء من المشركين" من كتاب البيوع، وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن أبا بكر اشتراه من الطفيل بن سخبرة، فأسلم، فأعتقه. قوله: "منحة" بكسر الميم وسكون النون بعدها مهملة، تقدم بيانها في الهبة، وتطلق أيضا على كل شاة. وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن الغنم كانت لأبي بكر، فكان يروح عليهما الغنم كل ليلة فيحلبان، ثم تسرح بكرة فيصبح في رعيان الناس فلا يفطن له. قوله: "في رسل" بكسر الراء بعدها مهملة ساكنة: اللبن الطري. قوله: "ورضيفهما" بفتح الراء وكسر المعجمة بوزن رغيف أي اللبن المرضوف أي التي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار لينعقد وتزول رخاوته، وهو بالرفع ويجوز الجر. قوله: "حتى ينعق بها عامر" ينعق بكسر العين المهملة أي يصيح بغنمه، والنعيق صوت الراعي إذا زجر الغنم ووقع في رواية أبي ذر "حتى ينعق بهما" بالتثنية أي يسمعهما صوته إذا زجر غنمه، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن عائذ في هذه القصة" ثم يسرح عامر بن فهيرة فيصبح في رعيان الناس كبائت فلا يفطن به" وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب" وكان عامر أمينا مؤتمنا حسن الإسلام". قوله: "من بني الديل" بكسر الدال وسكون التحتانية، وقيل: بضم أوله وكسر ثانيه مهموز. قوله: "من بني عبد بن عدي" أي ابن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ويقال من بني عدي بن عمرو بن خزاعة، ووقع في سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام اسمه

(7/237)


عبد الله بن أرقد. وفي رواية الأموي عن ابن إسحاق ابن أريقد، كذا رواه الأموي في المغازي بإسناد مرسل في غير هذه القصة، قال: وهو دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في الهجرة. وعند موسى بن عقبة أريقط بالتصغير أيضا لكن بالطاء وهو أشهر، وعند ابن سعد عبد الله بن أريقط، وعن مالك اسمه رقيط حكاه ابن التين وهو في "العتبية". قوله: "هاديا خريتا" بكسر المعجمة وتشديد الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة. قوله: "والخريت الماهر بالهداية" هو مدرج في الخبر من كلام الزهري بينه ابن سعد، ولم يقع ذلك في رواية الأموي عن ابن إسحاق، قال ابن سعد وقال الأصمعي: إنما سمي خريتا لأنه يهدي بمثل خرت الإبرة أي ثقبها. وقال غيره قيل له ذلك لأنه يهتدي لأخرات المفازة وهي طرقها الخفية. قوله: "قد غمس" بفتح الغين المعجمة والميم بعدها مهملة "حلفا" بكسر المهملة وسكون اللام أي كان حليفا، وكانوا إذا تحالفوا غمسوا أيمانهم في دم أو خلوق أو في شيء يكون فيه تلويث فيكون ذلك تأكيدا للحلف. قوله: "فأمناه" بكسر الميم. قوله: "فأتاهما1 براحلتيهما صبح ثلاث" زاد مسلم بن عقبة عن ابن شهاب" حتى إذا هدأت عنهما الأصوات جاء صاحبهما ببعيرهما فانطلقا معهما بعامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما يردفه أبو بكر ويعقبه ليس معهما غيره. قوله: "فأخذ بهم طريق الساحل" في رواية موسى بن عقبة "فأجاز بهما أسفل مكة ثم مضى بهما حتى جاء بهما الساحل أسفل من عسفان، ثم أجاز بهما حتى عارض الطريق" وعند الحاكم من طريق ابن إسحاق" حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة" نحوه وأتم منه وإسناده صحيح. وأخرج الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" مفسرا منزلة منزلة إلى قباء، وكذلك ابن عائذ من حديث ابن عباس، وقد تقدم في "علامات النبوة" وفي "مناقب أبي بكر" ما اتفق لهما حين خرجا من الغار من لقيهما راعي الغنم وشربهما من اللبن.
3906- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ "جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ فَقَالَ يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ قَالَ سُرَاقَةُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الأَزْلاَمَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لاَ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَرَكِبْتُ فَرَسِي
ـــــــ
1 لفظ "فآتاهما" ليس في نسخة المتن

(7/238)


وَعَصَيْتُ الأَزْلاَمَ تُقَرِّبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لاَ يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلاَمِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنْ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلاَنِي إِلاَّ أَنْ قَالَ أَخْفِ عَنَّا فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تِجَارًا قَافِلِينَ مِنْ الشَّأْمِ فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمْ السَّرَابُ فَلَمْ يَمْلِكْ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمْ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلاَحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامِتًا فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنْ الأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتْ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلاَمَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالاَ لاَ بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ

(7/239)


اللَّهِ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:-
هَذَا الْحِمَالُ لاَ حِمَالَ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ ... فَارْحَمْ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرَ هَذَه الْأبَيْاتِ.
3907- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ وَفَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "صَنَعْتُ سُفْرَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَا الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ لِأَبِي مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُهُ إِلاَّ نِطَاقِي قَالَ فَشُقِّيهِ فَفَعَلْتُ فَسُمِّيتُ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "أَسْمَاءُ ذَاتَ النِّطَاقِ".
3908حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ "لَمَّا أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَبِعَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاخَتْ بِهِ فَرَسُهُ قَالَ ادْعُ اللَّهَ لِي وَلاَ أَضُرُّكَ فَدَعَا لَهُ قَالَ فَعَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِرَاعٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذْتُ قَدَحًا فَحَلَبْتُ فِيهِ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فَأَتَيْتُهُ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ".
الحديث الثاني عشر حديث سراقة بن جعشم. قوله: "قال ابن شهاب" هو موصول بإسناد حديث عائشة، وقد أفرده البيهقي في "الدلائل" وقبله الحاكم في "الإكليل" من طريق ابن إسحاق حدثني محمد بن مسلم هو الزهري به وكذلك أورده الإسماعيلي منفردا من طريق معمر والمعافي في الجليس من طريق صالح بن كيسان كلاهما عن الزهري. قوله: "المدلجي" بضم الميم وسكون المهملة وكسر اللام ثم جيم من بني مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة. وعبد الرحمن بن مالك هذا اسم جده مالك بن جعشم، ونسب أبوه في هذه الرواية إلى جده كما سنبينه في سراقة، وأبوه مالك بن جعشم له إدراك، ولم أر من ذكره في الصحابة بل ذكره ابن حبان في التابعين، وليس له ولا لأخيه سراقة ولا لابنه عبد الرحمن في البخاري غير هذا الحديث. قوله: "ابن أخي سراقة بن جعشم" في رواية أبي ذر "ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم" ثم قال: "إنه سمع سراقة بن جعشم" والأول هو المعتمد، وحيث جاء في الروايات سراقة بن جعشم يكون نسب إلى جده، وسيأتي في حديث البراء بعدها بقليل أنه سراقة بن مالك بن جعشم ولم يختلف عليه فيه، جعشم بضم الجيم والشين المعجمة بينهما عين مهملة هو ابن مالك بن عمرو وكنية سراقة أبو سفيان، وكان ينزل قديدا وعاش إلى خلافة عثمان. قوله: "دية كل واحد" أي مائة من الإبل، وصرح بذلك موسى بن عقبة وصالح بن كيسان في روايتهما عن الزهري، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني "وخرجت قريش حين فقدوهما

(7/240)


في بغائهما، وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، وطافوا في جبال مكة حتى انتهوا إلى الجيل الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذا الرجل ليرانا. وكان مواجهه - فقال: كلا إن ملائكة تسترنا بأجنحتها ، جلس ذلك الرجل يبول مواجهة الغار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان يرانا ما فعل هذا" . قوله: "رأيت آنفا" أي في هذه الساعة. قوله: "أسودة" أي أشخاصا، في رواية موسى بن عقبة وابن إسحاق "لقد رأيت ركبة ثلاثة إني لأظنه محمدا وأصحابه" ونحوه في رواية صالح بن كيسان. قوله: "رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا" أي في نظرنا معاينة يبتغون ضالة لهم، في رواية موسى بن عقبة وابن إسحاق "فأومأت إليه أن اسكت، وقلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم، قال: لعل، وسكت" ونحوه في رواية معمر، وفي حديث أسماء "فقال سراقة: إنهما راكبان ممن بعثنا في طلب القوم". قوله: "فأمرت جاريتي" لم أقف على اسمها. وفي رواية موسى بن عقبة وصالح بن كيسان وأمرت بفرسي فقيد إلى بطن الوادي وزاد: ثم أخذت قداحي - بكسر القاف أي الأزلام - فاستقسمت بها، فخرج الذي أكره، لا تضر، وكنت أرجو أن أرده فأخذ المائة ناقة". قوله: "فخططت" بالمعجمة، وللكشميهني والأصيلي بالمهملة أي أمكنت أسفله وقوله: "بزجه" الزج بضم الزاي بعدها جيم الحديدة التي في أسفل الرمح. وفي رواية الكشميهني: "فخططت به" وزاد موسى بن عقبة وصالح بن كيسان وابن إسحاق "فأمرت بسلاحي فأخرج من ذنب حجرتي، ثم انطلقت فلبست لأمتي". قوله: "وخفضت" أي أمسكه بيده وجر زجه على الأرض فخطها به لئلا يظهر بريقه لمن بعد منه. لأنه كره أن يتبعه منهم أحد فيشركوه في الجعالة. ووقع في رواية الحسن عن سراقة عند ابن أبي شيبة: "وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركني أهل الماء فيها".قوله: "فرفعتها" أي أسرعت بها السير.قوله: "تقرب بي" التقريب السير دون العدو وفوق العادة، وقيل: أن ترفع الفرس يديها معا وتضعهما معا.قوله: "فأهويت يدي" أي بسطهما للأخذ، والكنانة الخريطة المستطيلة.قوله: "فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا" والأزلام هي الأقداح وهي السهام التي لا ريش لها ولا نصل، وسيأتي شرحها وكيفيتها وصنيعهم بها في تفسير المائدة. قوله: "فخرج الذي أكره" أي لا تضرهم، وصرح به الإسماعيلي وموسى وابن إسحاق وزاد: "وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة" وفي حديث ابن عباس عند ابن عائذ: "وركب سراقة، فلما أبصر الآثار على غير الطريق وهو وجل أنكر الآثار فقال: والله ما هذه بآثار نعم الشام ولا تهامة، فتبعهم حتى أدركهم". قوله: "حتى إذا سمعت" في حديث البراء عن أبي بكر الآتي عقب هذا" فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية أبي خليفة في حديث البراء عند الإسماعيلي: "فقال: اللهم اكفناه بما شئت" وفي حديث. ابن عباس مثله، ونحوه في رواية الحسن عن سراقة، وفي حديث أنس وهو الثامن عشر من أحاديث الباب: "فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اصرعه فصرعه فرسه". قوله: "ساخت" بالخاء المعجمة أي غاصت، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر "فوقعت لمنخريها". قوله: "حتى بلغتا الركبتين" في رواية البراء "فارتطمت به فرسه إلى بطنها" وفي رواية أبي خليفة "في الأرض إلى بطنها".قوله: "فخررت عنها" في رواية أبي خليفة" فوثبت عنها" زاد ابن إسحاق" فقلت ما هذا؟ ثم أخرجت قداحي" نحو الأول. قوله: "ثم زجرتها فنهضت فلم تكد" وفي حديث أنس1 "ثم قامت تحمحم" الحمحمة بمهملتين هو
ـــــــ
1 في نسخة "في حديث أسماء"

(7/241)


صوت الفرس. قوله: "عثان" بضم المهملة بعدها مثلثة خفيفة أي دخان، قال معمر: قلت لأبي عمرو بن العلاء ما العثان؟ قال: الدخان من غير نار. وفي رواية الكشميهني: غبار بمعجمة ثم موحلة ثم راء، والأول أشهر. وذكر أبو عبيد في غريبه قال: وإنما أراد بالعثان الغبار نفسه، شبه غبار قوائمها بالدخان. وفي رواية موسى بن عقبة والإسماعيلي: "واتبعها دخان مثل الغبار" وزاد: "فعلمت أنه منع مني". قوله: "فناديتهم بالأمان" وفي رواية أبي خليفة "قد علمت يا محمد أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، والله لأعمين عليك من ورائي" أي الطلب. وفي رواية ابن إسحاق" فناديت القوم: أنا سراقة بن مالك بن جعشم، انظروني أكلمكم، فوالله لا آتيكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه" وفي حديث ابن عباس مثله وزاد: "وأنا لكم نافع غير ضار، وإني لا أدري لعل الحي - يعني قومه - فزعوا لركوبي، وأنا راجع ورادهم عنكم". قوله: "ووقع في نفسي حين ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية ابن إسحاق "أنه قد منع مني". قوله: "وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم" أي من الحرص على الظفر بهم، وبذل المال لمن يحصلهم. وفي حديث ابن عباس "وعاهدهم أن لا يقاتلهم ولا يخبر عنهم، وأن يكتم عنهم ثلاث ليال". قوله: "وعرضت عليهم الزاد والمتاع" في مرسل عمير بن إسحاق عند ابن أبي شيبة: "فكف ثم قال: هلما إلى الزاد والحملان، فقالا لا حاجة لنا في ذلك" وفي حديث ابن عباس أن سراقة قال لهم: "وان إبلي على طريقكم فاحتلبوا من اللبن وخذوا سهما من كنانتي أمارة إلى الراعي". قوله: "فلم يرزآني" براء ثم زاي، أي لم ينقصاني مما معي شيئا. وفي رواية أبي خليفة "وهذه كنانتي فخذ سهما منها، فإنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال لي: لا حاجة لنا في إبلك، ودعا له". قوله: "أخف عنا" لم يذكر جوابه، ووقع في رواية البراء "فدعا له فنجا، فجعل لا يلقي أحدا إلا قال له: قد كفيتم ما هاهنا، فلا يلقي أحدا إلا رده" قال: "ووفى لنا". وفي حديث أنس "فقال: يا نبي الله مرني بما شئت، قال: فقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا، قال فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر النهار مسلحة له" أي حارسا له بسلاحه. وذكر ابن سعد" أنه لما رجع قال لقريش: قد عرفتم بصري بالطريق وبالأثر، وقد استبرأت لكم فلم أر شيئا، فرجعوا". قوله: "كتاب أمن" بسكون الميم. وفي رواية الإسماعيلي: "كتاب موادعة" وفي رواية إسحاق "كتابا يكون آية بيني وبينك". قوله: "فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم" وفي رواية ابن إسحاق "فكتب لي كتابا في عظم - أو ورقة أو خرقة - ثم ألقاه إلي، فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت" وفي رواية موسى بن عقبة نحوه وعندهما "فرجعت فسئلت فلم أذكر شيئا مما كان، حتى إذا فرغ من حنين بعد فتح مكة خرجت لألقاه ومعي الكتاب، فلقيته بالجعرانة حتى دنوت منه فرفعت يدي بالكتاب فقلت: يا رسول الله هذا كتابك فقال: يوم وفاء وبر، أدن، فأسلمت" وفي رواية صالح بن كيسان نحوه. وفي رواية الحسن عن سراقة قال: "فبلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي، فأتيته فقلت: أحب أن توادع قومي، فإن أسلم قومك أسلموا وإلا أمنت منهم، ففعل ذلك، قال: ففيهم نزلت: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآية" قال ابن إسحاق: قال أبو جهل لما بلغه ما لقي سراقة لامه في تركهم، فأنشده:
أبا حكم واللات لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه

(7/242)


عجبت ولم تشكك بأن محمدا ... نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه
وذكر ابن سعد أن سراقة عارضهم يوم الثلاثاء بقديد. الحديث الثالث عشر: قوله: "قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب" هو متصل إلى ابن شهاب بالإسناد المذكور أولا، وقد أفرده الحاكم من وجه آخر عن يحيي بن بكير بالإسناد المذكور، ولم يستخرجه الإسماعيلي أصلا وصورته مرسل، لكنه وصله الحاكم أيضا من طريق معمر عن الزهري قال: "أخبرني عروة أنه سمع الزبير" به، وأفاد أن قوله: "وسمع المسلمون إلخ" من بقية الحديث المذكور. وأخرجه موسى بن عقبة عن ابن شهاب به وأتم منه وزاد: "قال: ويقال لما دنا من المدينة كان طلحة قدم من الشام، فخرج عائدا إلى مكة إما متلقيا وإما معتمرا، ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام، فلما لقيه أعطاه فلبس منها هو وأبو بكر" انتهى. وهذا إن كان محفوظا احتمل أن يكون كل من طلحة والزبير أهدى لهما من الثياب. والذي في السير هو الثاني، ومال الدمياطي إلى ترجيحه على عادته في ترجيح ما في السير على ما في الصحيح، والأولى الجمع بينهما وإلا فما في الصحيح أصح، لأن الرواية التي فيها طلحة من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، والتي في الصحيح من طريق عقيل عن الزهري عن عروة. ثم وجدت عند ابن أبي شيبة من طريق هشام بن عروة عن أبيه نحو رواية أبي الأسود، وعند ابن عائذ في المغازي من حديث ابن عباس" خرج عمر والزبير وطلحة وعثمان وعياش بن ربيعة نحو المدينة، فتوجه عثمان وطلحة إلى الشام" فتعين تصحيح القولين. قوله: "وسمع المسلمون بالمدينة" في رواية معمر "فلما سمع المسلمون" قوله: "يغدون" بسكون الغين المعجمة أي يخرجون غدوة. وفي رواية الحاكم من وجه آخر عن عروة عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة عن رجال من قومه قال: "لما بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم كنا نخرج فنجلس له بظاهر الحرة نلجأ إلى ظل المدر حتى تغلبنا عليه الشمس ثم نرجع إلى رحالنا". قوله: "حتى يردهم" في رواية معمر "يؤذيهم" وفي رواية ابن سعد" فإذا أحرقتهم رجعوا إلى منازلهم. ووقع في رواية أبي خليفة في حديث أبي البراء "حتى أتينا المدينة ليلا" قوله: "فانقلبوا يوما بعدما طال1 انتظارهم" في رواية عبد الرحمن بن عويم "حتى إذا كان اليوم الذي جاء فيه جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا رجعنا جاء" قوله: "أوفى رجل من يهود" أي طلع إلى مكان عال فأشرف منه، ولم أقف على اسم هذا اليهودي. قوله: "أطم" بضم أوله وثانيه هو الحصن، ويقال كان بناء من حجارة كالقصر. قوله: "مبيضين" أي عليهم الثياب البيض التي كساهم إياها الزبير أو طلحة. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون معناه مستعجلين، وحكى عن ابن فارس يقال بايض أي مستعجل. قوله: "يزول بهم السراب" أي يزول السراب عن النظر بسبب عروضهم له، وقيل: معناه ظهرت حركتهم للعين. قوله: "يا معاشر العرب" في رواية عبد الرحمن بن عويم "يا بني قيلة" وهو بفتح القاف وسكون التحتانية وهي الجدة الكبرى للأنصار والدة الأوس والخزرج، وهي قيلة بنت كاهل بن عذرة. قوله: "هذا جدكم" بفتح الجيم أي حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه. وفي رواية معمر "هذا صاحبكم". قوله: "حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف" أي ابن مالك بن الأوس بن حارثة ومنازلهم بقباء، وهي على فرسخ من المسجد النبوي
ـــــــ
1 في نسخة المتن "بعدما أطالو".

(7/243)


بالمدينة، كان نزوله على كلثوم بن الهرم، وقيل: كان يومئذ مشركا، وجزم به محمد بن الحسن بن زبالة في "أخبار المدينة". قوله: "وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول" وهذا هو المعتمد وشذ من قال يوم الجمعة، في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب "قدمها لهلال ربيع الأول" أي أول يوم منه. وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق "قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول" ونحوه عند أبي معشر، لكن قال ليلة الاثنين، ومثله عن ابن البرقي، وثبت كذلك في أواخر صحيح مسلم. وفي رواية إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق "قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول" وعند أبي سعيد في "شرف المصطفى" من طريق أبي بكر بن حزم" قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول" وهذا يجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال، وعنده من حديث عمر" ثم نزل على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول" كذا فيه ولعله كان فيه: "خلتا" ليوافق رواية جرير وابن حازم، وعند الزبير في خبر المدينة عن ابن شهاب" في نصف ربيع الأول "وقيل: كان قدومه في سابعه، وجزم ابن حزم بأنه خرج من مكة لثلاث ليال بقين من صفر، وهذا يوافق قول هشام بن الكلبي إنه خرج من الغار ليلة الاثنين أول يوم من ربيع الأول فإن كان محفوظا فلعل قدومه قباء كان يوم الاثنين ثامن ربيع الأول، وإذا ضم إلى قول أنس إنه أقام بقباء أربع عشرة ليلة خرج منه أن دخوله المدينة كان لاثنين وعشرين منه، لكن الكلبي جزم بأنه دخلها لاثنتي عشرة خلت منه فعلى قوله تكون إقامته بقباء أربع ليال فقط وبه جزم ابن حبان فإنه قال: "أقام بها الثلاثاء والأربعاء والخميس" يعني وخرج يوم الجمعة، فكأنه لم يعتد بيوم الخروج، وكذا قال موسى بن عقبة إنه أقام فيهم ثلاث ليال فكأنه لم يعتد بيوم الخروج، ولا الدخول، وعن قوم من بني عمرو بن عوف أنه أقام فيهم اثنين وعشرين يوما حكاه الزبير بن بكار، وفي مرسل عروة بن الزبير ما يقرب منه كما يذكر عقب هذا، والأكثر أنه قدم نهارا، ووقع في رواية مسلم ليلا، ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل فدخل نهارا. قوله: "فقام أبو بكر للناس" أي يتلقاهم. قوله: "فطفق" أي جعل "من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى أبا بكر" أي يسلم عليه، قال ابن التين: إنما كانوا يفعلون ذلك بأبي بكر لكثرة تردده إليهم في التجارة إلى الشام فكانوا يعرفونه، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأتها بعد أن كبر. قلت: ظاهر السياق يقتضي أن الذي يحيي ممن لا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم يظنه فلذلك يبدأ بالسلام عليه، ويدل عليه قوله في بقية الحديث: "فأقبل أبو بكر يظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ووقع بيان ذلك في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: "وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يكن رآه يحسبه أبا بكر، حتى إذا أصابته الشمس أقبل أبو بكر بشيء أظله به" ولعبد الرحمن بن عويم في رواية ابن إسحاق "أناخ إلى الظل هو وأبو بكر، والله ما أدري أيهما هو، حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظل فعرفناه بذلك". قوله: "فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة" في حديث أنس الآتي في الباب الذي يليه أنه أقام فيهم أربع عشرة ليلة، وقد ذكرت قبله ما يخالفه، والله أعلم. قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب "أقام فيهم ثلاثا" قال وروى ابن شهاب عن مجمع بن حارثة "أنه أقام اثنين وعشرين ليلة" وقال ابن إسحاق.أقام فيهم خمسا، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أكثر من ذلك. قلت: ليس أنس من بني عمرو بن عوف، فإنهم من الأوس وأنس من الخزرج، وقد جزم بما ذكرته فهو أولى بالقبول من غيره. قوله: "وأسس المسجد الذي أسس

(7/244)


على التقوى" أي مسجد قباء. وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن عروة قال: الذين بني فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف، وكذا في حديث ابن عباس عند ابن عائذ ولفظه: "ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه، ثم بناه بنو عمرو بن عوف فهو الذي أسس على التقوى" وروى يونس بن بكير في "زيادات المغازي" عن المسعودي عن الحكم بن عتيبة قال: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم فنزل بقباء قال عمار بن ياسر: ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه، فجمع حجارة فبني مسجد قباء، فهو أول مسجد بني" يعني بالمدينة، وهو في التحقيق أول مسجد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه بأصحابه جماعة ظاهرا، وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامة، وإن كان قد تقدم بناء غيره من المساجد لكن لخصوص الذي بناها كما تقدم في حديث عائشة في بناء أبي بكر مسجده. وروى ابن أبي شيبة عن جابر قال: "لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنين نعمر المساجد ونقيم الصلاة" وقد اختلف في المراد بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} فالجمهور على أن المراد به مسجد قباء هذا وهو ظاهر الآية، وروى مسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: هو مسجدكم هذا" ولأحمد والترمذي من وجه آخر عن أبي سعيد "اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: هو هذا، وفي ذلك - يعني مسجد قباء - خير كثير"، ولأحمد عن سهل بن سند نحوه، وأخرجه من وجه آخر عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب مرفوعا. قال القرطبي: هذا السؤال صدر ممن ظهرت له المساواة بين المسجدين في اشتراكهما في أن كلا منهما بناه النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فأجاب بأن المراد مسجده، وكأن المزية التي اقتضت تعيينه دون مسجد قباء لكون مسجد قباء لم يكن بناؤه بأجر جزم من الله لنبيه، أو كان رأيا رآه بخلاف مسجده، أو كان حصل له أو لأصحابه فيه من الأحوال القلبية ما لم يحصل لغيره، انتهى. ويحتمل أن تكون المزية لما اتفق من طول إقامته صلى الله عليه وسلم بمسجد المدينة، بخلاف مسجد قباء فما أقام به إلا أياما قلائل، وكفى بهذا مزية من غير حاجة إلى ما تكلفه القرطبي، والحق أن كلا منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} يؤيد كون المراد مسجد قباء، وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزلت: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} في أهل قباء" وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء، والله أعلم. قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافا، لأن كلا منهما أسس على التقوى وكذا قال السهيلي وزاد غيره أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} يقتضي أنه مسجد قباء، لأن تأسيسه كان في أول يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة، والله أعلم. قوله: "ثم ركب راحلته" وقع عند ابن إسحاق وابن عائذ أنه ركب من قباء يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فقالوا: يا رسول الله هلم إلى العدد والعدد والقوة، انزل بين أظهرنا. وعند أبي الأسود عن عروة نحوه وزاد: وصاروا يتنازعون زمام ناقته. وسمى ممن سأله النزول عندهم تبان بن مالك في بني سالم، وفروة بن عمرو في بنى بياضة، وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وغيرهما في بني ساعدة، وأبا سليط وغيره، في بني عدي، يقول لكل منهم" دعوها فإنها مأمورة" وعند الحاكم من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس "جاءت الأنصار فقالوا إلينا يا رسول الله،

(7/245)


فقال: دعوا الناقة فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي أيوب". قوله: "حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة" في حديث البراء عن أبي بكر"فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه فقال: إني أنزل على أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك" وعند ابن عائذ عن الوليد بن مسلم وعند سعيد بن منصور كلاهما عن عطاف بن خالد"أنها استناخت به أولا فجاءه ناس فقالوا: المنزل يا رسول الله، فقال دعوها، فانبعثت حتى استناخت عند موضع المنبر من المسجد، ثم تحلحلت فنزل عنها فأتاه أبو أيوب فقال: إن منزلي أقرب المنازل فأذن لي أن أنقل رحلك، قال: نعم، فنقل وأناخ الناقة في منزله" وذكر ابن سعد أن أبا أيوب لما نقل رحل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المرء مع رحله" وأن سعد بن زرارة جاء فأخذ ناقته فكانت عنده، قال وهذا أثبت، وذكر أيضا أن مدة إقامته عند أبي أيوب كانت سبعة أشهر. قوله: "وكان" أي موضع المسجد "مربدا" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر. وقال الأصمعي: المربد كل شيء حبست فيه الإبل أو الغنم، وبه سمي مربد البصرة لأنه كان موضع سوق الإبل. قوله: "لسهيل وسهل" زاد ابن عيينة في جامعة عن أبي موسى عن الحسن "وكانا من الأنصار" وعند الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" أنهما أتيا رافع بن عمرو، وعند ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل: "لمن هذا؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو لسهيل وسهل ابني عمرو يتيمان لي وسأرضيهما منه". قوله: "في حجر سعد بن زرارة" كذا لأبي ذر وحده. وفي رواية الباقين "أسند" بزيادة ألف وهو الوجه، كان أسعد من السابقين إلى الإسلام من الأنصار، ويكني أبا أمامة، وأما أخوه سعد فتأخر إسلامه، ووقع في مرسل ابن سيرين عند أبي عبيد في "الغريب" أنهما كانا في حجر معاذ بن عفراء، وحكى الزبير أنهما كانا في حجر أبي أيوب، والأول أثبت، وقد يجمع باشتراكهما أو بانتقال ذلك بعد أسعد إلى من ذكر واحدا بعد واحد، وذكر ابن سعد أن أسعد بن زرارة كان يصلي فيه قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فساومهما" في رواية ابن عيينة فكلم عمهما أي الذي كانا في حجره أن يبتاعه منهما فطلبه منهما فقالا ما تصنع به فلم يجد بدا من أن يصدقهما. ووقع لأبي ذر عن الكشميهني: "فأبى أن يقبله منهما". قوله: "حتى ابتاعه منهما" ذكر ابن سعد عن الواقدي عن معمر عن الزهري" أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يعطيهما ثمنه"، قال وقال غير معمر: أعطاهما عشرة دنانير، وتقدم في أبواب المساجد من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني النجار ثامنوني بحائطهم، قالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله" ويأتي مثله في آخر الباب الذي يليه، ولا منافاة بينهما، فيجمع بأنهم لما قالوا لا نطلب ثمنه إلا إلى الله سأل عمن يختص بملكه منهم فعينوا له الغلامين فابتاعه منهما، فحينئذ يحتمل أن يكون الذين قالوا له لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تحملوا عنه للغلامين بالثمن، وعند الزبير أن أبا أيوب أرضاهما عن ثمنه. قوله: "وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي جعل "ينقل منهم اللبن" أي الطوب المعمول من الطين الذي لم يحرق. وفي رواية عطاف بن خالد عند ابن عائد أنه صلى الله عليه وسلم فيه وهو عريش اثني عشر يوما، ثم بناه وسقفه. وعند الزبير في خبر المدينة من حديث أنس أنه بناه أولا بالجريد ثم بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين. قوله: "هذا الحمال" بالمهملة المكسورة وتخفيف الميم أي هذا المحمول من اللبن "أبر" عند الله، أي أبقى ذخرا وأكثر ثوابا وأدوم منفعة وأشد طهارة من حمال خيبر، أي التي يحمل منها التمر والزبيب ونحو ذلك. ووقع في بعض النسخ في رواية المستملي: "هذا الجمال" بفتح الجيم، وقوله: "ربنا" منادي مضاف: قوله: "اللهم إن الأجر أجر الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرة" كذا

(7/246)


في هذه الرواية، ويأتي في حديث أنس في الباب الذي بعده "اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة" وجاء في غزوة الخندق بتغيير آخر من حديث سهل بن سعد، ونقل الكرماني أنه صلى الله عليه وسلم كان يقف على الآخرة والمهاجرة بالتاء محركة فيخرجه عن الوزن ذكره في أوائل كتاب الصلاة ولم يذكر مستنده، والكلام الذي بعد هذا يرد عليه. قوله: "فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي" قال الكرماني، يحتمل أن يكون المراد الرجز المذكور، ويحتمل أن يكون شعرا آخر. قلت: الأول هو المعتمد، ومناسبة الشعر المذكور للحال المذكور واضحة، وفيها إشارة إلى أن الذي ورد في كراهية البناء مختص بما زاد على الحاجة، أو لم يكن في أمر ديني كبناء المسجد. قوله: "قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات" زاد ابن عائذ في آخره: "التي كان يرتجز بهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد" قال ابن التين: أنكر على الزهري هذا من وجهين، أحدهما أنه رجز وليس بشعر، ولهذا يقال لقائله راجز، ويقال أنشد رجزا، ولا يقال له شاعر ولا أنشد شعرا. والوجه الثاني أن العلماء اختلفوا هل ينشد النبي صلى الله عليه وسلم شعرا أم لا. وعلى الجواز هل ينشد بيتا واحدا أو يزيد؟ وقد قيل: إن البيت الواحد ليس بشعر، وفيه نظر ا هـ. والجواب عن الأول أن الجمهور على أن الرجز من أقسام الشعر إذا كان موزونا، وقد قيل إنه كان صلى الله عليه وسلم إذا قال ذلك لا يطلق القافية بل يقولها متحركة التاء، ولا يثبت ذلك، وسيأتي من حديث سهل بن سعد في غزوة الخندق بلفظ: "فاغفر للمهاجرين والأنصار" وهذا ليس بموزون، وعن الثاني بأن الممتنع عنه صلى الله عليه وسلم إنشاؤه لا إنشاده، ولا دليل على منع إنشاده متمثلا. وقول الزهري"لم يبلغنا" لا اعتراض عليه فيه، ولو ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أنشد غير ما نقله الزهري، لأنه نفى أن يكون بلغه، ولم يطلق النفي المذكور. على أن ابن سعد روى عن عفان عن معتمر بن سليمان عن معمر عن الزهري قال: "لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الشعر قيل قبله أو يروى عن غيره إلا هذا" كذا قال، وقد قال غيره: إن الشعر المذكور لعبد الله بن رواحة فكأنه لم يبلغه، وما في الصحيح أصح، وهو قوله: "شعر رجل من المسلمين" وفي الحديث جواز قول الشعر وأنواعه خصوصا الرجز في الحرب، والتعاون على سائر الأعمال الشاقة، لما فيه من تحريك الهمم وتشجيع النفوس وتحركها على معالجة الأمور الصعبة، وذكر الزبير من طريق مجمع بن يزيد قال قائل من المسلمين في ذلك:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... ذاك إذا للعمل المضلل
ومن طريق أخرى عن أم سلمة نحوه وزاد: قال وقال علي بن أبي طالب:
لا يستوي من يعمر المساجد ... يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا
وسيأتي كيفية نزوله على أبي أيوب إلى أن أكمل المسجد في حديث أنس في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
"تنبيه": أخرج المصنف هذا الحديث بطوله في"التاريخ الصغير" بهذا السند فزاد بعد قوله هذه الأبيات" وعن ابن شهاب قال: كان بين ليلة العقبة - يعني الأخيرة - وبين مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أشهر أو قريب منها". قلت: هي ذو الحجة والمحرم وصفر، لكن كان مضي من ذي الحجة عشرة أيام، ودخل المدينة بعد أن استهل ربيع الأول فمهما كان الواقع أنه اليوم الذي دخل فيه من الشهر يعرف منه القدر على التحرير، فقد يكون ثلاثة سواء وقد ينقص وقد يزيد، لأن أقل ما قيل إنه دخل في اليوم الأول منه وأكثر ما قيل إنه دخل الثاني عشر منه.الحديث

(7/247)


الرابع عشر قوله: "عن أبيه" هو عروة، وفاطمة هي امرأته بنت المنذر بن الزبير، وأسماء جدتهما جميعا. قوله: "فقلت لأبي" أي قالت لأبي بكر الصديق. قوله: "أربطه" أي المتاع الذي في السفرة أو رأس السفرة، أو ذكرت باعتبار الظرف لأنه مذكر، ويستفاد من هذا أن الذي أمرها بشق نطاقها لتربط به السفرة هو أبوها، وتقدم تفسير النطاق في حديث عائشة قبل. قوله: "وقال ابن عباس أسماء ذات النطاق" وصله في تفسير براءة في أثناء حديث، وسيأتي إن شاء الله تعالى. حديث البراء في قصة الهجرة، أورده مختصرا، وقد تقدم مطولا في علامات النبوة وفي مناقب أبي بكر مع شرحه، وذكر هنا أوله عن البراء، وإنما هو عنده عن أبي بكر كما تقدم بيانه، وفي آخر هذا الحديث هنا ما يشير إلى ذلك، ثم أعاده المصنف في هذا الباب، كما سيأتي بعد أبواب من وجه آخر عن البراء أتم مما هنا كما سأنبه عليه.
3909- حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَتْ: "فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَنَزَلْتُ بِقُبَاءٍ فَوَلَدْتُهُ بِقُبَاءٍ ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْتُهُ فِي حَجْرِهِ ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلاَمِ"
تَابَعَهُ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا هَاجَرَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حُبْلَى
[الحديث 3909- طرفه في: 5469]
3910- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "قَالَتْ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلاَمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْرَةً فَلاَكَهَا ثُمَّ أَدْخَلَهَا فِي فِيهِ فَأَوَّلُ مَا دَخَلَ بَطْنَهُ رِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
الحديث السابع عشر حديث أسماء بنت أبي بكر أنها حملت بعبد الله بن الزبير يعني بمكة. قوله: "وأنا متم" أي قد أتممت مدة الحمل الغالبة وهي تسعة أشهر، ويطلق"متم" أيضا على من ولدت لتمام. قوله: "فنزلت بقباء فولدته بقباء" هذا يشعر بأنها وصلت إلى المدينة قبل أن يتحول النبي صلى الله عليه وسلم من قباء، وليس كذلك. قوله: "ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم" أي المدينة. قوله: "ثم تفل" بمثناة ثم فاء تقدم بيانه في أبواب المساجد. قوله: "ثم حنكه" أي وضع في فيه التمرة، ودلك حنكه بها. قوله: "وبرك عليه" أي قال بارك الله فيه، أو اللهم بارك فيه. قوله: "وكان أول مولود ولد في الإسلام" أي بالمدينة من المهاجرين، فأما من ولد بغير المدينة من المهاجرين فقيل عبد الله بن جعفر بالحبشة، وأما من الأنصار بالمدينة فكان أول مولود ولد لهم بعد الهجرة مسلمة بن مخلد كما رواه ابن أبي شيبة، وقيل: النعمان بن بشير. وفي الحديث أن مولد عبد الله بن الزبير كان في السنة الأولى وهو المعتمد، بخلاف ما جزم به الواقدي ومن تبعه بأنه ولد في السنة الثانية بعد عشرين شهرا من الهجرة، ووقع عند الإسماعيلي من الزيادة

(7/248)


من طريق عبد الله بن الرومي عن أبي أسامة بعد قوله في الإسلام: "ففرح المسلمون فرحا شديدا، لأن اليهود كانوا يقولون: سحرناهم حتى لا يولد لهم" وأخرج الواقدي ذلك بسند له إلى سهل بن أبي حثمة، وجاء عن أبي الأسود عن عروة نحوه، ويرده أن هجرة أسماء وعائشة وغيرهما من آل الصديق كانت بعد استقرار النبي بالمدينة، فالمسافة قريبة جدا لا تحتمل تأخر عشرين شهرا، بل ولا عشرة أشهر. قوله: "تابعه خالد بن مخلد" وصله الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي - شيبة عن خالد بن مخلد بهذا السند ولفظه: "إنها هاجرت وهي حبلى بعبد الله، فوضعته بقباء فلم ترضعه حتى أتت به النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وزاد في آخره: "ثم صلى عليه - أي دعا له - وسماه عبد الله". حديث عائشة في المعنى، هو محمول على أنه عن عروة عن أمه أسماء وعن خالته عائشة، فقد أحرجه المصنف من رواية أبي أسامة عن هشام على الوجهين كما ترى. وفي رواية أسماء زيادة تختص بها، وقد ذكر المصنف لحديث أسماء متابعا وهي الرواية المعلقة التي فرغنا منها، وذكر أبو نعيم لحديث عائشة متابعا من رواية عبد الله بن محمد بن يحيى عن هشام. وأخرج مسلم من طريق أبي خالد عن هشام مختصرا نحوه. وأخرج مسلم من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام ما يقتضي أنه عند عروة عن أمه وخالته ولفظه عن هشام "حدثني عروة وفاطمة بنت المنذر قالا: خرجت أسماء حين هاجرت وهي حبلى بعبد الله بن الزبير، قالت: فقدمت قباء فنفست به، ثم خرجت فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه، ثم دعا بتمرة، قالت عائشة فمكثنا ساعة نلتمسها قبل أن نجدها فمضغها" الحديث، فهذا الحديث فيه البيان أنه عند عروة عنهما جميعا، وزاد في آخر هذا الطريق "وسماه عبد الله، ثم جاء وهو ابن سبع سنين أو ثمان ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بذلك الزبير، فتبسم وبايعه". وقد ذكر ابن إسحاق أ ن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة بعث زيد بن حارثة فأحضر زوجته سودة بنت زمعة وبنتيه فاطمة وأم كلثوم وأم أيمن زوج زيد بن حارثة وابنها أسامة، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر ومعه أمه أم رومان وأختاه عائشة وأسماء، فقدموا والنبي صلى الله عليه وسلم يبني مسجده" ومجموع هذا مع قولها "فولدته بقباء" يدل على أن عبد الله بن الزبير ولد في السنة الأولى من الهجرة كما تقدم. قوله: "أتوا به". يؤخذ من الذي قبله أن أمه هي التي أتت به، ويحتمل أن يكون منها غيرها كزوجها أو أختها. قوله: "فلاكها" أي مضغها. قوله: "ثم أدخلها في فيه" قال ابن التين: ظاهره أن اللوك كان قبل أن يدخلها في فيه، والذي عند أهل اللغة أن اللوك في الفم. قلت: وهو فهم عجيب، فإن الضمير في قوله: "في فيه" يعود على ابن الزبير أي لاكها النبي صلى الله عليه وسلم في فمه ثم أدخلها في في ابن الزبير، وهو واضح لمن تأملها.
3911- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَابٌّ لاَ يُعْرَفُ قَالَ فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ فَيَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ قَالَ فَيَحْسِبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا فَالْتَفَتَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ فَصَرَعَهُ الْفَرَسُ ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مُرْنِي بِمَا شِئْتَ قَالَ فَقِفْ مَكَانَكَ

(7/249)


لاَ تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا قَالَ فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَانِبَ الْحَرَّةِ ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَاءُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِمَا وَقَالُوا ارْكَبَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَحَفُّوا دُونَهُمَا بِالسِّلاَحِ فَقِيلَ فِي الْمَدِينَةِ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشْرَفُوا يَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ فَأَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ جَانِبَ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ أَهْلَهُ إِذْ سَمِعَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ وَهُوَ فِي نَخْلٍ لِأَهْلِهِ يَخْتَرِفُ لَهُمْ فَعَجِلَ أَنْ يَضَعَ الَّذِي يَخْتَرِفُ لَهُمْ فِيهَا فَجَاءَ وَهِيَ مَعَهُ فَسَمِعَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذِهِ دَارِي وَهَذَا بَابِي قَالَ فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا قَالَ قُومَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فَلَمَّا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ وَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ وَأَعْلَمُهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ فَادْعُهُمْ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ قَالُوا فِيَّ مَا لَيْسَ فِيَّ فَأَرْسَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلُوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَيْلَكُمْ اتَّقُوا اللَّهَ فَوَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَأَنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ فَأَسْلِمُوا قَالُوا مَا نَعْلَمُهُ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ قَالَ فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ قَالُوا ذَاكَ سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ قَالُوا حَاشَى لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ قَالُوا حَاشَى لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ قَالُوا حَاشَى لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ قَالَ يَا ابْنَ سَلاَمٍ اخْرُجْ عَلَيْهِمْ فَخَرَجَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ اتَّقُوا اللَّهَ فَوَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ جَاءَ بِحَقٍّ فَقَالُوا كَذَبْتَ فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
الحديث التاسع عشر قوله: "حدثني محمد" هو ابن سلام. وقال أبو نعيم في "المستخرج" أظنه أنه محمد بن المثني أبو موسى. قوله: "حدثنا عبد الصمد" هو ابن عبد الوارث بن سعيد. قوله: "مردف أبا بكر" قال الداودي: يحتمل أنه مرتدف خلفه على راحلته، ويحتمل أن يكون على راحلة أخرى، قال الله تعالى:{أَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} أي يتلو بعضهم بعضا، ورجح ابن التين الأول وقال: لا يصح الثاني لأنه يلزم منه أن يمشي أبو بكر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: إنما يلزم ذلك لو كان الخبر جاء بالعكس كأن يقول: والنبي صلى الله عليه وسلم مرتدف خلف أبي بكر فأما ولفظه: "وهو مردف أبا بكر" فلا، وسيأتي في الباب الذي بعده من وجه آخر عن أنس" فكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه". قوله: "وأبو بكر شيخ" يريد أنه قد شاب، وقوله: "يعرف" أي لأنه كان يمر على أهل المدينة في سفر التجارة، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم في الأمرين فإنه كان بعيد العهد بالسفر من مكة، ولم يشب، وإلا ففي نفس الأمر كان هو عليه الصلاة والسلام أسن من أبي بكر، وسيأتي في هذا الباب من حديث أنس

(7/250)


أنه لم يكن في الذين هاجروا أشمط غير أبي بكر. قوله: "ونبي الله شاب لا يعرف" ظاهره أن أبا بكر كان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم وليس كذلك، وقد ذكر أبو عمر من رواية حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: أيما أسن أنا أو أنت؟ قال أنت أكرم يا رسول الله مني وأكبر، وأنا أسن منك" قال أبو عمر: هذا مرسل، ولا أظنه إلا وهما قلت: وهو كما ظن، وإنما يعرف هذا للعباس، وأما أبو بكر فثبت في صحيح مسلم عن معاوية أنه عاش ثلاثا وستين سنة، وكان قد عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم سنتين وأشهرا فيلزم على الصحيح في سن أبي بكر أن يكون أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من سنتين. قوله: "يهديني السبيل" بين سبب ذلك ابن سند في رواية له "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: أله الناس عني، فكان إذا سئل من أنت قال: باغي حاجة، فإذا قيل: من هذا معك؟ قال: هاد يهديني"، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني" وكان أبو بكر رجلا معروفا في الناس فإذا لقيه لاق يقول لأبي بكر: من هذا معك؟ فيقول: هاد يهديني" يريد الهداية في الدين ويحسبه الآخر دليلا. قوله: "فقال يا رسول الله هذا فارس" وهو سراقة، وقد تقدم شرح قصته في الحديث الحادي عشر ووقع للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في سفرهم ذلك قضايا: منها نزولهم بخيمتي أم معبد، وقصتها أخرجها ابن خزيمة والحاكم مطولة. وأخرج البيهقي في"الدلائل" من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بكر الصديق شبيها بأصل قصتها في لبن الشاة المهزولة دون ما فيها من صفته صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يسمها في هذه الرواية ولا نسبها، فاحتمل التعدد. ومر بعبد يرعى غنما، وقد تقدم في حديث البراء عن أبي بكر، وروى أبو سعيد في "شرف المصطفى" من طريق إياس بن مالك بن الأوس الأسلمي قال: "لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مروا بإبل لنا بالجحفة، فقالا: لمن هذه؟ قال: لرجل من أسلم" فالتقت إلى أبي بكر فقال: سلمت، قال: ما اسمك؟ قال: مسعود، فالتفت إلى أبي بكر فقال: سعدت" ووصله ابن السكن والطبراني عن إياس عن أبيه عن جده أوس بن عبد الله بن حجر فذكر نحوه مطولا وفيه: "أن أوسا أعطاهما فحل إبله، وأرسل معهما غلامه مسعودا، وأمره أن لا يفارقهما حتى يصلا المدينة" وتحديث أنس بقصة سراقة من مراسيل الصحابة، ولعله حملها عن أبي بكر الصديق، فقد تقدم في مناقبه أن أنسا حدث عنه بطرف الغار وهو قوله: "قلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا" الحديث. وقوله فيه: "فصرعه عن فرسه ثم قامت تحمحم" قال ابن التين: فيه نظر، لأن الفرس إن كانت أنثى فلا يجوز" فصرعه" وإن كان ذكرا فلا يقال: "ثم قامت". قلت: وإنكاره من العجائب، والجواب أنه ذكر باعتبار لفظ الفرس وأنث باعتبار ما في نفس الأمر من أنها كانت أنثي. قوله: "ثم بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فسلموا عليهما وقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فركبا" طوى في هذا الحديث قصة إقامته عليه الصلاة والسلام هنا، وقد تقدم في بيانه في الحديث الثالث عشر، وتقدير الكلام: فنزل جانب الحرة فأقام بقباء المدة التي أقامها وبنى بها المسجد ثم بعث إلخ. قوله: "حتى نزل جانب دار أبي أيوب" تقدم بيانه مستوفى في الحديث الثالث عشر. وقال البخاري في "التاريخ الصغير" حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة "عن ثابت عن أنس قال: إني لأسعى مع الغلمان إذ قالوا: جاء محمد، فننطلق فلا نرى شيئا، حتى أقبل وصاحبه، فكمنا في بعض خرب المدينة وبعثنا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما، فاستقبله زهاء خمسمائة من الأنصار فقالوا: "انطلقا آمنين مطاعين" الحديث. قوله: "فإنه ليحدث أهله" الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "إذ سمع به عبد الله بن سلام" بالتخفيف ابن الحويرث

(7/251)


الإسرائيلي يكنى أبا يوسف يقال كان اسمه الحصين فسمي عبد الله في الإسلام، وهو من حلفاء بني عوف بن الخزرج. قوله: "يخترف لهم" بالخاء المعجمة والفاء أي يجتنى من الثمار. قوله: "فجاء وهي معه" أي الثمرة التي اجتناها، وفي بعضها"وهو" أي الذي اجتناه. قوله: "فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله" وقع عند أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم من طريق زرارة بن أوفى عن عبد الله بن سلام قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب" الحديث، قال العماد بن كثير: ظاهر هذا السياق يعني سياق احمد لحديث عبد الله بن سلام ولفظه: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس لقدومه فكنت فيمن انجفل" أنه اجتمع به لما قدم قباء، وظاهر حديث أنس أنه اجتمع به بعد أن نزل بدار أبي أيوب، قال: فيحمل على أنه اجتمع به مرتين. قلت: ليس في الأول تعيين قباء، فالظاهر الاتحاد وحمل المدينة هنا على داخلها. قوله: "أي بيوت أهلنا أقرب" تقدم بيان ذلك في أواخر الحديث الثالث عشر، وأطلق عليهم أهله لقرابة ما بينهم من النساء، لأن منهم والدة عبد المطلب جده وهي سلمى بنت عوف من بني مالك بن النجار، ولهذا جاء في حديث البراء أنه صلى الله عليه وسلم نزل على أخواله أو أجداده من بني النجار. قوله: "فهيئ لنا مقيلا" أي مكانا تقع فيه القيلولة "قال قوما" فيه حذف تقديره: فذهب فهيأ، وقد وقع صريحا في رواية الحاكم وأبي سعيد قال: "فانطلق فهيأ لهما مقيلا ثم جاء" وفي حديث أبي أيوب عند الحاكم وغيره: "أنه أنزل النبي صلى الله عليه وسلم في السفل ونزل هو وأهله في العلو، ثم أشفق من ذلك، فلم يزل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم حتى تحول إلى العلو ونزل أبو أيوب إلى السفل" ونحوه في طريق عبد العزير بن صهيب عن أنس عند أبي سعيد في "شرف المصطفى" وأفاد ابن سعد أنه أقام بمنزل أبي أيوب سبعة أشهر حتى بني بيوته، وأبو أيوب هو خالد بن زيد بن كليب من بني النجار، وبنو النجار من الخزرج بن حارثة، ويقال إن تبعا لما غزا الحجاز واجتاز يثرب خرج إليه أربعمائة حبر فأخبروه بما يجب من تعظيم البيت، وأن نبيا سيبعث يكون مسكنه يثرب، فأكرمهم وعظم البيت بأن كساه، وهو أول من كساه، وكتب كتابا وسلمه لرجل من أولئك الأحبار، وأوصاه أن يسلمه للنبي صلى الله عليه وسلم إن أدركه، فيقال إن أبا أيوب من ذرية ذلك الرجل، حكاه ابن هشام في "التيجان" وأورده ابن عساكر في ترجمة تبع. قوله: "فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي إلى منزل أبي أيوب "جاء عبد الله بن سلام" أي إليه "فقال أشهد أنك رسول الله" زاد في رواية حميد عن أنس كما سيأتي قريبا قبل كتاب المغازي أنه سأله عن أشياء، فلما أعلمه بها أسلم. ولفظه: "فأتاه يسأله عن أشياء فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فلما ذكر له جواب مسائله مال: أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم:. ثم قال: إن اليهود قوم بهت" الحديث، وعند البيهقي من طريق عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن يحيى بن عبد الله عن رجل من آل عبد الله بن سلام عن عبد الله بن سلام قال: سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت صفته واسمه، فكنت مسرا لذلك حتى قدم المدينة، فسمعت به وأنا على رأس نخلة، فكبرت، فقالت لي عمتي خالدة بنت الحارث: لو كنت سمعت بموسى ما زدت، فقلت: والله هو أخو موسى، بعث بما بعث به، فقالت لي: يا ابن أخي هو الذي كنا نخبر أنه سيبعث مع نفس الساعة، قلت نعم. قالت فذاك إذا، ثم خرجت إليه فأسلمت، ثم جئت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن اليهود قوم بهت" الحديث.
قوله: "ولقد علمت

(7/252)


يهود أني سيدهم" في الرواية الآتية قريبا: "قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت" وسيأتي شرح ذلك ثم. قوله: "قالوا في ما ليس في" في الرواية الآتية عند أبي نعيم" بهتوني عندك". قوله: "فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم" أي إلى اليهود فجاءوا. قوله: "فدخلوا عليه" أي بعد أن اختبأ لهم عبد الله بن سلام كما سيأتي بيانه هناك. وفي رواية يحيى بن عبد الله المذكور" فأدخلني في بعض بيوتك ثم سلهم عني، فإنهم إن علموا بذلك بهتوني وعابوني. قال فأدخلني بعض بيوته". قوله: "سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا" في الرواية الآتية "خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا" وفي ترجمة آدم "أخيرنا" بصيغة أفعل. وفي رواية يحيى بن عبد الله "سيدنا، وأخيرنا، وعالمنا" ولعلهم قالوا جميع ذلك أو بعضه بالمعنى. قوله: "فقالوا شرنا" وفي رواية يحيى بن عبد الله "فقالوا كذبت ثم وقعوا في". قوله: "فقالوا كذبت فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية يحيى بن عبد الله "فقلت يا رسول الله ألم أخبرك أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور" وفي الرواية الآتية "فنقصوه فقال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله".
3912- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ فَرَضَ لِلْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَفَرَضَ لِابْنِ عُمَرَ ثَلاَثَةَ آلاَفٍ وَخَمْسَ مِائَةٍ فَقِيلَ لَهُ هُوَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَلِمَ نَقَصْتَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ فَقَالَ إِنَّمَا هَاجَرَ بِهِ أَبَوَاهُ يَقُولُ لَيْسَ هُوَ كَمَنْ هَاجَرَ بِنَفْسِهِ".
3913- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...."ح
3914- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا خَبَّابٌ قَالَ "هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا نُكَفِّنُهُ فِيهِ إِلاَّ نَمِرَةً كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ فَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ بِهَا وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ إِذْخِرٍ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا"
الحديث العشرون قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "عن عمر كان فرض للمهاجرين" هذا صورته منقطع، لأن نافعا لم يلحق عمر، لكن سياق الحديث يشعر بأن نافعا حمله عن ابن عمر. ووقع في رواية غير أبي ذر هنا "عن نافع يعني عن ابن عمر"، ولعلها من إصلاح بعض الرواة، واغتر بها شيخنا ابن الملقن فأنكر على ابن التين قوله أن الحديث مرسل وقال: لعل نسخته التي وقعت له ليس فيها ابن عمر، وقد روى الدراوردي عن عبيد الله بن عمر فقال: "عن نافع عن ابن عمر قال: فرض عمر لأسامة أكثر مما فرض لي، فذكر

(7/253)


قصة أخرى شبيهة بهذه أخرجها أبو نعيم في "المستخرج" هنا. قوله: "المهاجرين الأولين" هم الذين صلوا للقبلتين أو شهدوا بدرا. قوله: "أربعة آلاف في أربعة" كذا للأكثر، وسقطت لفظة "في" من رواية النسفي وهو الوجه أي لكل واحد أربعة آلاف، ولعلها بمعنى اللام والمراد إثبات عدد المهاجرين المذكورين. قوله: "إنما هاجر به أبواه، يقول ليس هو كمن هاجر بنفسه" وفي رواية الدراوردي المذكورة" قال عمر لابن عمر: إنما هاجر بك أبواك" والمراد أنه كان حينئذ في كنف أبيه، فليس هو كمن هاجر بنفسه، وكان لابن عمر حين الهجرة إحدى عشرة سنة، ووهم من قال اثنتا عشرة وكذا ثلاث عشرة، لما ثبت في الصحيحين أنه عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة، وكانت أحد في شوال سنة ثلاث. "تنبيه": أعاد المصنف هنا حديث خباب بعد أن ذكره في أوائل الباب، فأورده من وجهين ساقه على لفظ الرواية الثانية وهي رواية مسدد، وسأذكر شرحه في غزوة أحد إن شاء الله تعالى.
3915- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ "قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ هَلْ تَدْرِي مَا قَالَ أَبِي لِأَبِيكَ قَالَ قُلْتُ لاَ قَالَ فَإِنَّ أَبِي قَالَ لِأَبِيكَ يَا أَبَا مُوسَى هَلْ يَسُرُّكَ إِسْلاَمُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِجْرَتُنَا مَعَهُ وَجِهَادُنَا مَعَهُ وَعَمَلُنَا كُلُّهُ مَعَهُ بَرَدَ لَنَا وَأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدَهُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ فَقَالَ أَبِي لاَ وَاللَّهِ قَدْ جَاهَدْنَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّيْنَا وَصُمْنَا وَعَمِلْنَا خَيْرًا كَثِيرًا وَأَسْلَمَ عَلَى أَيْدِينَا بَشَرٌ كَثِيرٌ وَإِنَّا لَنَرْجُو ذَلِكَ فَقَالَ أَبِي لَكِنِّي أَنَا وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ بَرَدَ لَنَا وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ فَقُلْتُ إِنَّ أَبَاكَ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَبِي"
الحديث الحادي والعشرون قوله: "قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري" وقعت في هذا الحديث زيادة من رواية سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال: "صليت إلى جنب ابن عمر، فسمعته حين سجد يقول: فذكر ذكرا وفيه: ما صليت صلاة منذ أسلمت إلا وأنا أرجو أن تكون كفارة. وقال لأبي بردة علمت أن أبي" فذكر حديث الباب رويناه في الجزء السادس من "فوائد أبي محمد بن صاعد". قوله: "برد" بفتح الموحدة والراء "لنا" أي ثبت لنا ودام، يقال برد لي على الغريم حق أي ثبت. وفي رواية سعيد بن أبي بردة "خلص" بدل برد وقوله: "كفافا" أي سواء بسواء؛ والمراد لا موجبا ثوابا ولا عقابا. وفي رواية سعيد بن أبي بردة "لا لك ولا عليك". قوله: "قال أبي: لا والله" كذا وقع فيه، والصواب "قال أبوك" لأن ابن عمر هو الذي يحكي لأبي بردة ما دار بين عمر وأبي موسى، وهذا الكلام الأخير كلام أبي موسى، وقد وقع في رواية النسفي على الصواب ولفظه: "فقال أبوك: لا والله إلخ" ووقع عند القابسي والمستملي: "فقال إي والله" بكسر الهمزة بعدها تحتانية ساكنة بمعني نعم معها القسم مثل قوله: {قُلْ إِي وَرَبِّي} وعند عبدوس "إني والله" بنون ثقيلة بعد الهمزة المكسورة ثم تحتانية، وكله تصحيف إلا رواية النسفي، ووقع في رواية داود بن أبي هند عن أبي بردة في "تاريخ الحاكم" هذا الحديث: "قال

(7/254)


أبو موسى: لا، قال لم؟ قال: لأني قدمت على قوم جهال فعلمتهم القرآن والسنة فأرجو بذلك". قوله: "فقال أبي لكني والذي نفسي بيده" هذا كلام عمر رضي الله عنه. قوله: "فقلت" القائل هو أبو بردة، وخاطب بذلك ابن عمر فأراد أن عمر خير من أبي موسى، وأراد من الحيثية المذكورة وإلا فمن المقرر أن عمر أفضل من أبي موسى عند جميع الطوائف، لكن لا يمتنع أن يفوق بعض المفضولين بخصلة لا تستلزم الأفضلية المطلقة، ومع هذا فعمر في هذه الخصلة المذكورة أيضا أفضل من أبي موسى، لأن مقام الخوف أفضل من مقام الرجاء، فالعلم محيط بأن الآدمي لا يخلو عن تقصير ما في كل ما يريد من الخير، وإنما قال عمر ذلك هضما لنفسه، وإلا فمقامه في الفضائل والكلمات أشهر من أن يذكر. قوله: "خير من أبي" في رواية سعيد بن أبي بردة "أفقه من أبي".
3916- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ أَوْ بَلَغَنِي عَنْهُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا قِيلَ لَهُ هَاجَرَ قَبْلَ أَبِيهِ يَغْضَبُ قَالَ وَقَدِمْتُ أَنَا وَعُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْنَاهُ قَائِلًا فَرَجَعْنَا إِلَى الْمَنْزِلِ فَأَرْسَلَنِي عُمَرُ وَقَالَ اذْهَبْ فَانْظُرْ هَلْ اسْتَيْقَظَ فَأَتَيْتُهُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَبَايَعْتُهُ ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّهُ قَدْ اسْتَيْقَظَ فَانْطَلَقْنَا إِلَيْهِ نُهَرْوِلُ هَرْوَلَةً حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ فَبَايَعَهُ ثُمَّ بَايَعْتُهُ".
[الحديث 3916- طرفاه في: 4187,4186]
3917- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ "سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يُحَدِّثُ قَالَ ابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَازِبٍ رَحْلًا فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ قَالَ فَسَأَلَهُ عَازِبٌ عَنْ مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُخِذَ عَلَيْنَا بِالرَّصَدِ فَخَرَجْنَا لَيْلًا فَأَحْثَثْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ ثُمَّ رُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ فَأَتَيْنَاهَا وَلَهَا شَيْءٌ مِنْ ظِلٍّ قَالَ فَفَرَشْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْوَةً مَعِي ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ قَدْ أَقْبَلَ فِي غُنَيْمَةٍ يُرِيدُ مِنْ الصَّخْرَةِ مِثْلَ الَّذِي أَرَدْنَا فَسَأَلْتُهُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ فَقَالَ أَنَا لِفُلاَنٍ فَقُلْتُ لَهُ هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ لَهُ هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ قَالَ نَعَمْ فَأَخَذَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ فَقُلْتُ لَهُ انْفُضْ الضَّرْعَ قَالَ فَحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وَمَعِي إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ عَلَيْهَا خِرْقَةٌ قَدْ رَوَّأْتُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَضِيتُ ثُمَّ ارْتَحَلْنَا وَالطَّلَبُ فِي إِثْرِنَا"
3918- قَالَ الْبَرَاءُ "فَدَخَلْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَهْلِهِ فَإِذَا عَائِشَةُ ابْنَتُهُ مُضْطَجِعَةٌ قَدْ أَصَابَتْهَا حُمَّى فَرَأَيْتُ أَبَاهَا فَقَبَّلَ خَدَّهَا وَقَالَ كَيْفَ أَنْتِ يَا بُنَيَّةُ"

(7/255)


الحديث الثاني والعشرون قوله: "حدثني محمد بن الصباح أو بلغني عنه" أما محمد فهو محمد بن الصباح الدولابي البزاز بمعجمتين نزيل بغداد، متفق على توثيقه. وقد روى عنه البخاري في الصلاة وفي البيوع جازما بغير واسطة وأما من بلغ البخاري عنه فيحتمل أن يكون هو عباد بن الوليد، فقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق عن محمد بن الصباح بلفظه، وعباد المذكور يكنى أبا بدر، وهو غبري يضم المعجمة وفتح الموحدة الخفيفة، روى عنه ابن ماجه وابن أبي حاتم وقال صدوق، ومات قبل سنة ستين أو بعدها وإسماعيل شيخ محمد فيه هو ابن إبراهيم المعروف بابن علية، وعاصم هو ابن سليمان الأحول، وأبو عثمان هو النهدي، والإسناد كله بصريون. قوله: "إذا قيل له هاجر قبل أبيه يغضب" يعني أنه لم يهاجر إلا صحبة أبيه كما تقدم. وأخرج الطبراني من وجه آخر عن ابن عمر أنه كان يقول: "لعن الله من يزعم أنني هاجرت قبل أبي، إنما قدمني في ثقله" وهذا في إسناد ضعف، والجواب الذي أجاب به في حديث الباب أصح منه، وقد استشكل ذكر أبويه، فإن أمه زينب بنت مظعون كانت بمكة فيما ذكره ابن سعد. قوله: "قدمت أنا وعمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني عند البيعة، ولعلها بيعة الرضوان، وزعم الداودي أنها بيعة صدرت حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وعندي في ذلك بعد، لأن ابن عمر لم يكن في سن من يبايع، وقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بثلاث سنين يوم أحد فلم يجزه، فيحتمل أن تكون البيعة حينئذ على غير القتال، وإنما ذكرها ابن عمر ليبين سبب وهم من قال إنه هاجر قبل أبيه، وإنما الذي وقع له أنه بايع قبل أبيه، فلما كانت بيعته قبل بيعة أبيه توهم بعض الناس أن هجرته كانت قبل هجرة أبيه، وليس كذلك، وإنما بادر إلى البيعة قبل حرصا على تحصيل الخير، ولأن تأخيره لذلك لا ينفع عمر، أشار إلى ذلك الداودي، وعارضه ابن التين بأن مثله يرد في الهجرة التي أنكر كونها كانت سابقة، والجواب أنه أنكر وقوع ذلك لا كراهيته لو وقع، أو الفرق أن زمن البيعة يسير جدا بخلاف زمن الهجرة، وأيضا فلعل البيعة لم تكن عامة بخلاف الهجرة، فإن ابن عمر خشي أن تفوته البيعة فبادر إلى تحصيلها،. ثم أسرع إلى أبيه فأخبره فسارع إلى البيعة فبايع، ثم أعاد ابن عمر البيعة ثاني مرة. قوله: "نهرول" الهرولة ضرب من السير بين المشي على مهل والعدو. "تنبيه": ذكر المصنف هنا حديث البراء عن أبي بكر في قصة الهجرة، وقد تقدم التنبيه عليه في أوائل هذا الباب وساقه هنا أتم، وقد تقدم شرحه في علامات النبوة وفي مناقب أبي بكر، وبقيته في أوائل الباب في حديث سراقة. وقوله هنا: "فأحيينا ليلتنا" بتحتانيتين من الإحياء، ولبعضهم بمثناة ثم مثلثة من الحث. قوله: "ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة" فسرها صاحب ا النهاية بأنها الأرض اليابسة، وقيل: التبن اليابس، قال وقيل أراد بالفروة اللباس المعروفة. قلت: وهذا هو الراجح بل هو الظاهر من قوله: "فروة معي" وقوله هنا: "قد روأتها" أي تأتيت بها حتى صلحت، تقول روأت في الأمر إذا نظرت فيه ولم تعجل. قوله: "قال البراء: فدخلت مع أبي بكر على أهله فإذا بنته عائشة مضطجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها يقبل خدها وقال كيف أنت يا بنية" هذا القدر من الحديث لم يذكره المصنف إلا في هذا الموضع، وسأشير إليه في الباب الذي يليه، وكان دخول البراء على أهل أبي بكر قبل أن ينزل الحجاب قطعا، وأيضا فكان حينئذ دون البلوغ وكذلك عائشة.
3919- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ وَسَّاجٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَنَسٍ خَادِمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِي أَصْحَابِهِ أَشْمَطُ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ فَغَلَفَهَا

(7/256)


بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ"
[الحديث 3919- طرفه في: 3920]
3920- وَقَالَ دُحَيْمٌ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ وَسَّاجٍ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَكَانَ أَسَنَّ أَصْحَابِهِ أَبُو بَكْرٍ فَغَلَفَهَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ حَتَّى قَنَأَ لَوْنُهَا".
1921- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ كَلْبٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ بَكْرٍ فَلَمَّا هَاجَرَ أَبُو بَكْرٍ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا هَذَا الشَّاعِرُ الَّذِي قَالَ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ رَثَى كُفَّارَ قُرَيْشٍ
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ... مِنْ الشِّيزَى تُزَيَّنُ بِالسَّنَامِ
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ... مِنْ الْقَيْنَاتِ وَالشَّرْبِ الْكِرَامِ
تُحَيِّينَا السَّلاَمَةَ أُمُّ بَكْرٍ ... وَهَلْ لِي بَعْدَ قَوْمِي مِنْ سَلاَمِ
يُحَدِّثُنَا الرَّسُولُ بِأَنْ سَنَحْيَا ... وَكَيْفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ
3922- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا قَالَ اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ اثْنَانِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا "
3923- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ ح
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَ وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وُرُودِهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا "
الحديث الثالث والعشرون قوله: "حدثنا محمد بن حمير" بكسر المهملة وسكون الميم وفتح التحتانية، ووقع في رواية القابسي عن أبي زيد بمعجمة مصغر وهو تصحيف، وشيخه إبراهيم بن أبي علية قد سمع عن أنس، وحدث عنه هنا بواسطة، واسم أبيه يقظان ضد النائم، وعقبة بن وساج بفتح الواو وتشديد المهملة وآخره جيم، وأبو

(7/257)


عبيد في الإسناد الثاني هو حيي بضم المهملة وفتح التحتانية بعدها أخرى ثقيلة ويقال حي بلفظ ضد ميت، وكان حاجب سليمان بن عبد الملك. قوله: "فغلفها" بالمعجمة أي خضبها، والمراد اللحية وإن لم يقع لها ذكر. قوله: "والكتم" بفتح الكاف والمثناة الخفيفة وحكي تثقيلها: ورق يخضب به كالآس من نبات ينبت في أصغر الصخور فيتدلى خيطانا لطافا، ومجتناه صعب ولذلك هو قليل، وقيل: إنه يخلط بالوشمة، وقيل: إنه الوشمة، وقيل: هو النيل، وقيل: هو حناء قريش وصبغه أصفر. قوله في الرواية الثانية "وقال دحيم" هو عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، وصله الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عنه. قوله: "فكان أسن أصحابه أبو بكر" أي الذين قدموا معه حينئذ وقبله كما تقدم. قوله: "حتى قنأ" بفتح القاف والنون والهمزة أي اشتدت حمرتها، ستأتي زيادة في الكلام على خضاب الشعر في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. قوله: "أن أبا بكر تزوج امرأة من كلب" أى من بني كلب، وهو كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ويدل عليه ما وقع في رواية الترمذي الحكيم من طريق الزبيدي عن الزهري في هذا الحديث: "ثم من بني عوف" وأما الكلبي المشهور فهو من بني كلب بن وبرة بن تغلب بن قضاعة. قوله: "أم بكر" لم أقف على اسمها، وكأنه كنيتها المذكورة. قوله: "فلما هاجر أبو بكر طلقها. فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر" هو أبو بكر شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك بن جعونة، ويقال له ابن شعوب بفتح المعجمة وضم المهملة وسكون الواو بعدها موحدة، قال ابن حبيب: هي أمه وهي خزاعية، لكن سماه عمرو بن شمر، وأنشد له أشعارا كثيرة قالها في الكفر، قال: ثم أسلم. وذكر مثله ابن الأعرابي في" كتاب من نسب إلى أمه" وزعم أبو عبيدة أنه ارتد بعد إسلامه، حكاه عنه ابن هشام في "زوائد السيرة" والأول أولى. وزاد الفاكهي في هذا الحديث من الوجه الذي أخرجه منه البخاري "قالت عائشة: والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا الإسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية" وهذا يضعف ما أخرجه الفاكهي أيضا من طريق عوف عن أبي القموص قال: "شرب أبو بكر الخمر قبل أن تحرم وقال هذه الأبيات، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب، فبلغ ذلك عمر فجاء فقال: نعوذ بالله من غضب رسول الله، والله لا تلج رءوسنا بعد هذا أبدا" قال: وكان أول من حرمها، فلهذا قد عارضه قول عائشة، وهي أعلم بشأن أبيها من غيرها. وأبو القموص لم يدرك أبا بكر، فالعهدة على الواسطة، فلعله كان من الروافض، ودل حديث عائشة على أن لنسبة أبي بكر إلى ذلك أصلا وإن كان غير ثابت عنه، والله أعلم. قوله: "رثى كفار قريش" يعني يوم بدر لما قتلوا وألقاهم النبي صلى الله عليه وسلم في القليب، وهي البئر التي لم تطو. قوله: "من الشيزى" بكسر المعجمة وسكون التحتانية بعدها زاي مقصور، وهو شجر يتخذ منه الجفان والقصاع الخشب التي يعمل فيها الثريد. وقال الأصمعي: هي من شجر الجوز تسود بالدسم، والشيزى جمع شيز والشيز يغلظ حتى ينحت منه، فأراد بالشيزى ما يتخذ منها وبالجفنة صاحبها كأنه قال: ماذا بالقليب من أصحاب الجفان الملأى بلحوم أسنمة الإبل، وكانوا يطلقون على الرجل المطعام "جفنة" لكثرة إطعامه الناس فيها. وأغرب الداودي فقال: الشيزي الجمال، قال لأن الإبل إذا سمنت تعظم أسنمتها ويعظم جمالها. وغلطه ابن التين قال: وإنما أراد أن الجفنة من الثريد تزين بالقطع اللحم من السنام. قوله: "القينات" جمع قينة بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون هي المغنية، وتطلق أيضا على الأمة مطلقا. "والشرب" بفتح المعجمة وسكون الراء جمع شارب، وقيل: هو اسم جمع، وجزم ابن التين

(7/258)


بالأول فقال: هو كمتجر وتاجر والمراد بهم الندامى. قوله: "تحيينا" في رواية الكشميهني: "تحييني" بالإفراد، وقوله: "فهل" في رواية الكشميهني: "وهل لي" بالواو، وقوله: "من سلام" أي من سلامة، وفيه قوة لمن قال: المراد من السلام الدعاء بالسلامة أو الإخبار بها. قوله: "أصداء" جمع صدى وهو ذكر البوم، وهام جمع هامة وهو الصدى أيضا وهو عطف تفسيري، وقيل الصدى الطائر الذي يطير بالليل، والهامة جمجمة الرأس وهي التي يخرج منها الصدى بزعمهم، وأراد الشاعر إنكار البعث بهذا الكلام كأنه يقول: إذا صار الإنسان كهذا الطائر كيف يصير مرة أخرى إنسانا. وقال أهل اللغة: كان أهل الجاهلية يزعمون أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة فتزقو وتقول: اسقوني اسقوني، وإذا أدرك بثأره طارت فذهبت، قال الشاعر:
إنك إلا تذر شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
وقد أورد ابن هشام هذه الأبيات في "السيرة" بزيادة خمسة أبيات، ووقع عند الإسماعيلي من طريق أخرى عن ابن وهب، وعن عنبسة بن خالد أيضا، كلاهما عن يونس بالإسناد المذكور" أن عائشة كانت تدعو على من يقول إن أبا بكر قال القصيدة المذكورة" فذكر الحديث والشعر مطولا، وعند الترمذي الحكيم من طريق الزبيدي عن الزهري مثله وزاد: "قالت عائشة فنحلها الناس أبا بكر الصديق من أجل امرأته أم بكر التي طلق، وإنما قائلها أبو بكر بن شعوب".
قلت: وابن شعوب المذكور هو الذي يقول فيه أبو سفيان:
ولو شئت نجتني كميت طمرة ... ولم أحمل النعماء لابن شعوب
وكان حنظلة بن أبي عامر حمل يوم أحد على أبي سفيان فكاد أن يقتله، فحمل ابن شعوب على حنظلة من ورائه فقتله، فنجا أبو سفيان، فقال في ذلك أبياتا منها هذا البيت. حديث أنس، تقدم شرحه في مناقب أبي بكر، ومعنى قوله: "الله ثالثهما" أي معاونهما وناصرهما، وإلا فهو مع كل اثنين بعلمه كما قال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} الآية. حديث أبي سعيد" جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الهجرة" الحديث، أورده من طريقين موصول ومعلق، والموصول أخرجه في كتاب الزكاة، والمعلق أخرجه في كتاب الهبة بالإسنادين المذكورين هنا، ومر شرحه في كتاب الزكاة. والأعرابي ما عرفت اسمه، والهجرة المسئول عنها مفارقة دار الكفر إذ ذاك والتزام أحكام المهاجرين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن ذلك وقع بعد فتح مكة لأنها كانت إذ ذاك فرض عين ثم نسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح" وقوله: "اعمل من وراء البحار" مبالغة في إعلامه بأن عمله لا يضيع في أي موضع كان، وقوله: "لن يترك" بفتح التحتانية وكسر المثناة ثم راء وكاف، أي ينقصك.

(7/259)


46 - باب مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الْمَدِينَةَ
3924- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَبِلاَلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ"
3925- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ

(7/259)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ فَقَدِمَ بِلاَلٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فِي سُوَرٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ"
قوله: "باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة" تقدم بيان الاختلاف فيه في آخر شرح حديث عائشة الطويل في شأن الهجرة، ثم أخرج من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعليهما ثياب بيض شامية، فمر على عبد الله بن أبي فوقف عليه ليدعوه إلى النزول عنده، فنظر إليه فقال: انظر أصحابك الذين دعوك فانزل عليهم، فنزل على سعد بن خيثمة. قال الحاكم: الأول أرجح، وابن شهاب أعرف بذلك من غيره. قلت: ويقوي قول ابن شهاب ما أخرجه أبو سعيد في "شرف المصطفى" من طريق الحاكم من طريق ابن مجمع" لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة قال كلثوم: يا نجيح - لمولى له - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنجحت". وذكر محمد بن الحسن بن زبالة في "أخبار المدينة" أنه نزل على كلثوم وهو يومئذ مشرك، ويؤيد قول التيمي ما أخرجه أبو سعيد أيضا ومن طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم" قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء يوم الاثنين فنزل على سعد بن خيثمة" وجمع بين الخبرين بأنه نزل على كلثوم وكان يجلس مع أصحابه عند سعد بن خيثمة لأنه كان أعزب، وإن ثبت قول ابن زبالة فكأن منزل كلثوم يختص بالمبيت وسائر إقامته عند سعد لكونه كان أسلم. قوله: "أبو إسحاق سمع البراء" حذف قوله: "إنه" كما حذف" قال: من الطريق الثاني" عن أبي إسحاق سمعت البراء" وكان شعبة يرى أن أنبأنا وأخبرنا وحدثنا واحد، وقد تقدم البحث فيه في كتاب العلم. قوله: "أول من قدم علينا مصعب" في رواية عن شعبة عند الحاكم في"الإكليل" عن عبد الله بن رجاء في روايته: "من المهاجرين" قوله: "مصعب بن عمير" زاد ابن أبي شيبة: "أول من قدم علينا المدينة" زاد في رواية عبد الله بن رجاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق عند الإسماعيلي: "أخو بني عبد الدار بن قصي والده عمير" هو ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، زاد عبد الله بن رجاء" فقلنا له ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو مكانه وأصحابه على أثري" وذكر موسى بن عقبة أنه لما قدم المدينة نزل على حبيب بن عدي، وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل مصعبا مع أهل العقبة يعلمهم. قوله: "وابن أم مكتوم" هو عمرو - ويقال عبد الله - العامري من بني عامر بن لؤي، ووقع في رواية ابن أبي شيبة: "ثم أتانا بعده عمرو ابن أم مكتوم الأعمى أخو بني فهر، فقلنا: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ قال. هم على أثري" وفي رواية عبد الله بن رجاء "من وراءك" زاد في رواية غندر عن شعبة "ثم عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة" وهي أول مهاجرة، وقيل: بل أول مهاجرة أم سلمة لقولها لما مات أبو سلمة" أول بيت هاجر" ويجمع بأن أولية أم سلمة بقيد البيت وهو ظاهر من إطلاقها. قوله: "ثم قدم علينا عمار بن ياسر وبلال" في رواية غندر "فقدم" وقد تقدم الاختلاف في عمار هل هاجر إلى الحبشة أم لا، فإن يكن فقد كان ممن تقدمهما إلى مكة، ثم هاجر

(7/260)


إلى المدينة. وأما بلال فكان لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر. لكن تقدمهما بإذن وتأخر معهما عامر بن فهيرة. قوله في الرواية الثانية عن غندر عن شعبة "وكانوا يقرئون الناس" في رواية الأصيلي وكريمة: "فكانا يقرئان الناس" وهو أوجه، ويوجه الأول إما على أن أقل الجمع اثنان، وإما على أن من كان يقرئانه كان يقرأ معهما أيضا. قوله: "وسعد" زاد في رواية الحاكم "ابن مالك" وهو ابن أبي وقاص، وروى الحاكم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: "وزعموا أن من آخر من قدم سعد بن أبي وقاص في عشرة فنزلوا على سعد بن خيثمة" وقد تقدم في أول الهجرة" أن أول من قدم المدينة من المهاجرين عامر بن ربيعة ومعه امرأته أم عبد الله بنت أبي حثمة، وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وشماس بن عثمان بن الشريد، وعبد الله بن جحش، فيجمع بينه وبين حديث البراء بحمل الأولية في أحدهما على صفة خاصة، فقد جزم ابن عقبة بأن أول من قدم المدينة من المهاجرين مطلقا أبو سلمة بن عبد الأسد، وكان رجع من الحبشة إلى مكة فأوذي بمكة فبلغه ما وقع للاثني عشر من الأنصار في العقبة الأولى فتوجه إلى المدينة في أثناء السنة، فيجمع بين ذلك وبين ما وقع هنا بأن أبا سلمة خرج لا لقصد الإقامة بالمدينة بل فرارا من المشركين، بخلاف مصعب بن عمير فإنه خرج إليها للإقامة بها، وتعليم من أسلم من أهلها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلكل أولية من جهة. قوله في الرواية الثانية "ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية عبد الله بن رجاء" في عشرين راكبا" وقد سمي ابن إسحاق منهم زيد بن الخطاب وسعيد بن زيد بن عمرو وعمرو بن سراقة وأخاه عبد الله وواقد بن عبد الله وخالدا وإياسا وعامرا وعاقلا بني البكير وخنيس بن حذافة - بمعجمة ونون ثم سين مصغر - وعياش بن ربيعة وحولي بن أبي خولي وأخاه، هؤلاء كلهم من أقارب عمر وخلفائهم، قالوا: فنزلوا جميعا على رفاعة بن عبد المنذر، يعني بقباء. قلت: فلعل بقية العشرين كانوا من أتباعهم. وروى ابن عائذ في المغازي بإسناد له عن ابن عباس قال: خرج عمر والزبير وطلحة وعثمان وعياش بن ربيعة في طائفة، فتوجه عثمان وطلحة إلى الشام ا هـ. فهؤلاء ثلاثة عشر من ذكر ابن إسحاق، وذكر موسى بن عقبة أن أكثر المهاجرين نزلوا على بني عمرو بن عوف بقباء إلا عبد الرحمن بن عوف فإنه نزل على سعد بن الربيع وهو خزرجي وسيأتي في كتاب الأحكام أن سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة كان يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء، منهم أبو سلمة بن عبد الأسد. قوله: "حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله" في رواية عبد الله بن رجاء "فخرج الناس حين قدم المدينة في الطرق وعلى البيوت، والغلمان والخدم1 جاء محمد رسول الله، الله أكبر، جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وأخرج الحاكم من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس" فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدف وهن يقلن:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
وأخرج أبو سعيد في "شرف المصطفى" ورويناه في "فوائد الخلعي" من طريق عبيد الله ابن عائشة منقطعا: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل الولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنية الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
ـــــــ
1 لعله سقط من قلم الناسخ "وهم يقولون" أونحو ذلك

(7/261)


وهو سند معضل، ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك. قوله: "فما قدم حتى حفظت سبح اسم ربك الأعلى في سور من المفصل" أي مع سور. وفي رواية الحسن بن سفيان عن بندار شيخ البخاري فيه: "وسورا من المفصل" ومقتضاه أن {سبح اسم ربك الأعلى} مكية، وفيه نظر لأن ابن أبي حاتم أخرج من طريق حيدة أن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} نزلت في صلاة العيد وزكاة الفطر، وسنده حسن. وكل منهما شرع في السنة الثانية، فيمكن أن يكون نزول هاتين منها وقع بالمدينة. وأقوى منه أن يتقدم نزول السورة كلها بمكة. ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بصلى صلاة العيد وبتزكى زكاة الفطر، فإن تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز، والجواب عن الإشكال من وجهين: أحدهما: احتمال أن تكون السورة مكية إلا هاتين الآيتين، وثانيهما: - وهو أصحهما - فيه يجوز نزولها كلها بمكة. ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم المراد بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} صلاة العيد وزكاة الفطر، فليس من الآية إلا الترغيب في الذكر والصلاة من غير بيان للمراد، فبينته السنة بعد ذلك.
3926- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ قَالَتْ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَتْ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ"
الحديث الثاني حديث عائشة قوله: "قدمنا المدينة" في رواية أبي أسامة عن هشام "وهي أوبأ أرض الله" وفي رواية محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة نحوه وزاد: "قال هشام وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها قيل له انهق، فينهق كما ينهق الحمار، وفي ذلك يقول الشاعر:
لعمري لئن غنيت خيفة الردى ... نهيق حمار إنني لمروع
قوله: "وعك" بضم أوله وكسر ثانيه أي أصابه الوعك وهي الحمى. قوله: "كيف تجدك" أي تجد نفسك أو جسدك، وقوله: "مصبح" بمهملة ثم موحدة وزن محمد، أي مصاب بالموت صباحا، وقيل: المراد أنه يقال له وهو مقيم بأهله صبحك الله بالخير، وقد يفجأه الموت في بقية النهار وهو مقيم بأهله. قوله: "أدنى" أي أقرب. قوله: "شراك" بكسر المعجمة وتخفيف الراء: السير الذي يكون في وجه النعل، والمعنى أن الموت أقرب إلى الشخص من

(7/262)


شراك نعله لرجله. قوله: "أقلع عنه" بفتح أوله أي الوعك وبضمها، والإقلاع الكف عن الأمر. قوله: "يرفع عقيرته" أي صوته ببكاء أو بغناء، قال الأصمعي: أصله أن رجلا انعقرت رجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح فصار كل من رفع صوته يقال: رفع عقيرته، وإن لم يرفع رجله. قال ثعلب: وهذا من الأسماء التي استعملت على غير أصلها. قوله: "بواد" أي بوادي مكة. قوله: "وجليل" بالجيم نبت ضعيف يحشى به خصاص البيوت وغيرها. قوله: "مياه مجنة" بالجيم موضع على أميال من مكة وكان به سوق، تقدم بيانه في أوائل الحج. وقوله: "يبدون" أي يظهر، وشامة وطفيل جبلان بقرب مكة. وقال الخطابي: كنت أحسب أنهما جبلان حتى ثبت عندي أنهما عينان، وقوله: "أردن ويبدون" بنون التأكيد الخفيفة، وشامة بالمعجمة والميم مخففا، وزعم بعضهم أن الصواب بالموحدة بدل الميم والمعروف بالميم، وزاد المصنف آخر كتاب الحج من طريق أبي أسامة - عن هشام به "ثم يقول بلال: اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب إلينا المدينة" الحديث. وقوله: "كما أخرجونا" أي أخرجهم من رحمتك كما أخرجونا من وطننا، وزاد ابن إسحاق في روايته عن هشام وعمرو بن عبد الله بن عروة جميعا عن عروة عن عائشة عقب قول أبيها" فقلت والله ما يدري أبي ما يقول". قالت: "ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة - وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب - فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي جسمه بروقه
وقالت في آخره: "فقلت: يا رسول الله إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى". والزيادة في قول عامر بن فهيرة رواها مالك أيضا في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد عن عائشة منقطعا، وسيأتي بقية ما يتعلق بهذا الحديث في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى، وقد تقدم في الباب الذي قبله من حديث البراء أن عائشة أيضا وعكت، وكان أبو بكر يدخل عليها، وكان وصول عائشة إلى المدينة مع آل أبي مكر، هاجر بهم أخوها عبد الله، وخرج زيد بن حارثة وأبو رافع ببنتي النبي فاطمة وأم كلثوم وأسامة بن زيد وأمه أم أيمن وسودة بنت زمعة، وكانت رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم له سبقت مع زوجها عثمان، وأخرجت زينب وهي الكبرى عند زوجها أبي العاص بن الربيع.
3927- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ أَخْبَرَهُ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَكُنْتُ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَآمَنَ بِمَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ هَاجَرْتُ هِجْرَتَيْنِ وَنِلْتُ صِهْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَايَعْتُهُ فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ"
تَابَعَهُ إِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ "حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ" مِثْلَهُ

(7/263)


3928- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَهُوَ بِمِنًى فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ فَوَجَدَنِي فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُمْهِلَ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ وَالسَّلاَمَةِ وَتَخْلُصَ لِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ وَذَوِي رَأْيِهِمْ قَالَ عُمَرُ لاَقُومَنَّ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ".
3929- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ أُمَّ الْعَلاَءِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِمْ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُمْ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتْ الأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ قَالَتْ أُمُّ الْعَلاَءِ فَاشْتَكَى عُثْمَانُ عِنْدَنَا فَمَرَّضْتُهُ حَتَّى تُوُفِّيَ وَجَعَلْنَاهُ فِي أَثْوَابِهِ فَدَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ شَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْ رَمَهُ قَالَتْ قُلْتُ لاَ أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ قَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لاَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَمَا أَدْرِي وَاللَّهِ وَأَنَا رَسُولُ اللَّه مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ قَالَتْ فَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ فَنِمْتُ فَرِيتُ لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ عَيْنًا تَجْرِي فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ذَلِكِ عَمَلُهُ"
3630- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَقَدْ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِلَتْ سَرَاتُهُمْ فِي دُخُولِهِمْ فِي الإِسْلاَمِ"
3931- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحًى وَعِنْدَهَا قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاذَفَتْ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ مَرَّتَيْنِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا الْيَوْمُ"
الحديث الثاني قوله: "حدثنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني، ذكر حديث عثمان في شأن الوليد بن عقبة، وقد تقدم شرحه في مناقب عثمان مستوفى، والغرض منه قوله: "وهاجرت الهجرتين" وكان عثمان ممن رجع من الحبشة فهاجر من مكة إلى المدينة ومنه زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم. "وقال بشر بن شعيب إلخ" وصله أحمد بن

(7/264)


حنبل في مسنده عنه بتمامه. قوله: "تابعه إسحاق الكلبي" وصله أبو بكر بن شاذان فيما رويناه من طريقه بإسناده إلى يحيى بن صالح عن إسحاق الكلبي عن الزهري فذكره بتمامه وفيه: "أنه جلد الوليد أربعين" وقد تقدم البحث في ذلك في مناقب عثمان. ذكر طرفا من قصة عبد الرحمن بن عوف مع عمر، وفيه خطبة عمر، الغرض منه قول عبد الرحمن" حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة" ووقع في رواية الكشميهني: "والسلامة" بدل السنة. قوله: "أن أم العلاء" هي والدة خارجة بن زيد بن ثابت الراوي عنها، وقد روى سالم أبو النضر هذا الحديث عن خارجة بن زيد عن أمه نحوه ولم يسم هذه، فكأن اسمها كنيتها، وهي بنت الحارث بن ثابت بن خارجة الأنصارية الخزرجية. قوله: "طار لهم" أي خرج في القرعة لهم، وتقدم بيانه آخر الشهادات. قوله: "حين قرعت" بالقاف، كذا وقع ثلاثيا، والمعروف" أقرعت" من الرباعي وتقدم في الجنائز بلفظ: "اقترعت". قوله: "أبا السائب" هي كنية عثمان بن مظعون المذكور، وكان عثمان من فضلاء الصحابة السابقين، وقد تقدم خبره مع لبيد في أول المبعث. قوله: "كان يوم بعاث" تقدم بيانه في مناقب الأنصار، ووقع عند ابن سعد في قصة العقبة الأولى ما يدل على أن يوم بعاث كان بعد المبعث بعشر سنين، وتقدم نحوه في "باب وفود الأنصار" وقوله: "في دخولهم" متعلق بقوله: "قدمه الله". قوله: "بما تعازفت" بالمهملة والزاي أي قالته من الأشعار في هجاء بعضهم بعضا وألقته على المغنيات فغنين به، والمعازف آلات الملاهي الواحدة معزفة. وقال الخطابي: يحتمل أن يكون من عزف اللهو وهو ضرب المعازف على تلك الأشعار المحرضة على القتال، ويحتمل أن يكون المراد بالعزف أصوات الحرب شبهها بعزيف الرياح وهو ما يسمع من دويها. وفي رواية: "تقاذقت" بالقاف والذال المعجمة أي ترامت به.
3932- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ ح و حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ الضُّبَعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَالَ فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى مَلاَ بَنِي النَّجَّارِ قَالَ فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي سُيُوفِهِمْ قَالَ وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفَهُ وَمَلاَ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ فَكَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَأَرْسَلَ إِلَى مَلاَ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا فَقَالَ يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي حَائِطَكُمْ هَذَا فَقَالُوا لاَ وَاللَّهِ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ قَالَ فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ كَانَتْ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَتْ فِيهِ خِرَبٌ وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ قَالَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ قَالَ وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً قَالَ قَالَ جَعَلُوا يَنْقُلُونَ ذَاكَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ يَقُولُونَ:
اللَّهُمَّ إِنَّهُ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الْآخِرَهْ ... فَانْصُرْ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ"

(7/265)


الحديث الثامن قوله: "أنبأنا عبد الصمد" هو ابن عبد الوارث بن سعيد. قوله: "في علو المدينة" كل ما في جهة نجد يسمى العالية، وما في جهة تهامة يسمى السافلة، وقباء من عوالي المدينة، وأخذ من نزول النبي صلى الله عليه وسلم التفاؤل له ولدينه بالعلو. قوله: "يقال لهم بنو عمرو بن عوف" أي ابن مالك بن الأسود بن حارثة. قوله: "وأبو بكر ردفه" تقدم ما فيه في الباب الذي قبله في الحديث الثامن عشر. قوله: "وملأ بني النجار" أي جماعتهم. قوله: "حتى ألقى" أي نزل أو المراد ألقى رحله. قوله: "بفناء" بكسر الفاء وبالمد ما امتد من جوانب الدار. قوله: "أبي أيوب" هو خالد بن زيد بن كليب الأنصاري من بني مالك بن النجار. قوله: "ثم إنه أمر" تقدم ضبطه في أوائل الصلاة. قوله: "ثامنوني" أي قرروا معي ثمنه، أو ساوموني بثمنه، تقول ثامنت الرجل في كذا إذا ساومته. قوله: "بحائطكم" أي بستانكم وقد تقدم في الباب قبله أنه كان مربدا، فلعله كان أولا حائطا ثم خرب فصار مربدا، ويؤيده قوله: "إنه كان فيه نخل وخرب" وقيل: كان بعضه بستانا وبعضه مربدا، وقد تقدم في الباب الذي قبله تسمية صاحبي المكان المذكور، ووقع عند موسى بن عقبة عن الزهري أنه اشتراه منهما بعشرة، دنانير، وزاد الواقدي أن أبا بكر دفعها لهما عنه. قوله: "فكان فيه" فسره بعد ذلك. قوله: "خرب" بكسر المعجمة وفتح الراء والموحدة، وتقدم توجيه آخر في أوائل الصلاة بفتح أوله وكسر ثانيه، قال الخطابي: أكثر الرواة بالفتح ثم الكسر، وحدثناه الخيام بالكسر ثم الفتح، ثم حكى احتمالات: منها الخرب بضم أوله وسكون ثانيه قال: هي الخروق المستديرة في الأرض، والجرف بكسر الجيم وفتح الراء بعدها فاء ما تجرفه السيول وتأكله من الأرض، والحدب بالمهملة وبالدال المهملة أيضا المرتفع من الأرض، قال وهذا لائق بقوله: "فسويت" لأنه إنما يسوى المكان المحدوب، وكذا للذي جرفته السيول، وأما الخراب فيبني ويعمر دون أن يصلح ويسوى. قلت: وما المانع من تسوية الخراب بأن يزال ما بقي منه ويسوى أرضه، ولا ينبغي الالتفات إلى هذه الاحتمالات مع توجيه الرواية الصحيحة. قوله: "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت" قال ابن بطال: لم أجد في نبش قبور المشركين لتتخذ مسجدا نصا عن أحد من العلماء، نعم اختلفوا هل تنبش بطلب المال؟ فأجازه الجمهور ومنعه الأوزاعي، وهذا الحديث حجة للجواز، لأن المشرك لا حرمة له حيا لا ميتا، وقد تقدم في المساجد البحث فيما يتعلق بها. قوله: "وبالنخل فقطع" هو محمول على أنه لم يكن يثمر. ويحتمل أن يثمر لكن دعت الحاجة إليه لذلك، وقوله: "فصفوا النخل" أي موضع النخل، وقوله: "عضادتيه" بكسر المهملة وتخفيف المعجمة تثنية عضادة، وهي الخشبة التي على كتف الباب، ولكل باب عضادتان، وأعضاد كل شيء ما يشد جوانبه. قوله: "يرتجزون" أي يقولون رجزا، وهو ضرب من الشعر على الصحيح. قوله: "فانصر الأنصار والمهاجرة" كذا رواه أبو داود بهذا اللفظ، وسبق ما فيه في أبواب المساجد، واحتج من أجاز بيع غير المالك بهذه القصة لأن المساومة وقعت من غير الغلامين، وأجيب باحتمال أنهما كانا من بني النجار فساومهما وأشرك معهما في المساومة عمهما الذي كانا في حجره كما تقدم في الحديث الثاني عشر.

(7/266)


47 - باب إِقَامَةِ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ
3933- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَسْأَلُ السَّائِبَ ابْنَ أُخْتِ الْنَّمِرِ مَا سَمِعْتَ فِي سُكْنَى مَكَّةَ قَالَ سَمِعْتُ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: قال

(7/266)


رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثٌ لِلْمُهَاجِرِ بَعْدَ الصَّدَرِ"
قوله: "باب إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه" أي من حج أو عمرة. قوله: "حدثنا حاتم" هو ابن إسماعيل المدني. قوله: "سمعت عمر بن عبد العزيز يسأل السائب" أي ابن يزيد. قوله: "ابن أخت النمر" تقدم ذكره قريبا في المناقب النبوية. قوله: "العلاء بن الحضرمي" اسمه عبد الله بن عماد، وكان حليف بني أمية، وكان العلاء صحابيا جليلا، ولاه النبي صلى الله عليه وسلم البحرين، وكان مجاب الدعوة، ومات في خلافة عمر، وما له في البخاري إلا هذا الحديث. قوله: "ثلاث للمهاجر بعد الصدر" بفتح المهملتين أي بعد الرجوع من مني، وفقه هذا الحديث أن الإقامة بمكة كانت حراما على من هاجر منها قبل الفتح، لكن أبيح لمن قصدها منهم بحج أو عمرة أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام لا يزيد عليها، وبهذا رثى النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة أن مات بمكة، ويستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر، وفي كلام الداودي اختصاص ذلك بالمهاجرين الأولين، ولا معنى لتقييده بالأولين، قال النووي معنى هذا الحديث أن الذين هاجروا يحرم عليهم استيطان مكة، وحكى عياض أنه قول الجمهور، قال: وأجازه لهم جماعة يعني بعد الفتح، فحملوا هذا القول على الزمن الذي كانت الهجرة المذكورة واجبة فيه، قال: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سكنى المدينة كان واجبا لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته بالنفس، وأما غير المهاجرين فيجوز له سكنى أي بلد أراد سواء مكة وغيرها بالاتفاق، انتهى كلام القاضي، ويستثنى من ذلك من أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالإقامة في غير المدينة، واستدل بهذا الحديث على أن طواف الوداع عبادة مستقلة ليست من مناسك الحج، وهو أصح الوجهين في المذهب، لقوله في هذا الحديث: "بعد قضاء نسكه" لأن طواف الوداع لا إقامة بعده، ومتى أقام بعده خرج عن كونه طواف الوداع، وقد سماه قبله قاضيا لمناسكه فخرج طواف الوداع عن أن يكون من مناسك الحج والله أعلم. وقال القرطبي: المراد بهذا الحديث من هاجر من مكة إلى المدينة لنصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعني به من هاجر من غيرها لأنه خرج جوابا عن سؤالهم لما تحرجوا من الإقامة بمكة إذ كانوا قد تركوها لله تعالى، فأجابهم بذلك، وأعلمهم أن إقامة الثلاث ليس بإقامة، قال: والخلاف الذي أشار إليه عياض كان فيمن مضى، وهل ينبني عليه خلاف فيمن فر بدينه من موضع يخاف أن يفتن فيه في دينه فهل له أن يرجع إليه بعد انقضاء تلك الفتنة؟ يمكن أن يقال إن كان تركها لله كما فعله المهاجرون فليس له أن يرجع لشيء من ذلك، وإن كان تركها فرارا بدينه ليسلم له ولم يقصد إلى تركها لذاتها فله الرجوع إلى ذلك انتهى. وهو حسن متجه، إلا أنه خص ذلك بمن ترك رباعا أو دورا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة بذلك، والله أعلم.

(7/267)


باب التاريخ "من أين أرخو التاريخ"
...
48 - باب التَّارِيخِ مِنْ أَيْنَ أَرَّخُوا التَّارِيخَ؟
3934- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ "مَا عَدُّوا مِنْ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ مِنْ وَفَاتِهِ مَا عَدُّوا إِلاَّ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ"
3935- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "فُرِضَتْ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا وَتُرِكَتْ صَلاَةُ السَّفَرِ

(7/267)


عَلَى الأُولَى" تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ
قوله: "باب التاريخ" قال الجوهري: التاريخ تعريف الوقت، والتوريخ مثله، تقول أرخت وورخت. وقيل اشتقاقه من الأرخ وهو الأنثى من بقر الوحش، كأنه شيء حدث كما يحدث الولد، وقيل هو معرب، ويقال أول ما أحدث التاريخ من الطوفان. قوله: "من أين أرخوا التاريخ" كأنه يشير إلى اختلاف في ذلك، وقد روى الحاكم في "الإكليل" من طريق ابن جريح عن أبي سلمة عن ابن شهاب الزهري "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأول" وهذا معضل، والمشهور خلافة كما سيأتي، وأن ذلك كان في خلافة عمر. وأفاد السهيلي أن الصحابة أخذوا التاريخ بالهجرة من قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} لأنه من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقا، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر وهو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام، وعبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ربه آمنا، وابتدأ بناء المسجد، فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أنه أول أيام التاريخ الإسلامي، كذا قال، والمتبادر أن معني قوله: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد العزيز" أي ابن أبي حازم سلمة بن دينار. قوله: "ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية الحاكم من طريق الزبيري عن عبد العزيز أخطأ الناس العدد، ولم يعدوا من مبعثه ولا من قدومه المدينة، وإنما عدوا من وفاته. قال الحاكم: وهو وهم، ثم ساقه على الصواب بلفظ: ولا من وفاته، إنما عدوا من مقدمه المدينة. والمراد بقوله أخطأ الناس العدد أي أغفلوه وتركوه ثم استدركوه، ولم يرد أن الصواب خلاف ما عملوا. ويحتمل أن يريده وكان يرى أن البداءة من المبعث أو الوفاة أولى، وله اتجاه لكن الراجح خلافه. والله أعلم. قوله: "مقدمه" أي زمن قدومه، ولم يرد شهر قدومه لأن التاريخ إنما وقع من أول السنة. وقد أبدى بعضهم للبداءة بالهجرة مناسبة فقال: كانت القضايا التي اتفقت له ويمكن أن يؤرخ بها أربعة: مولده ومبعثه وهجرته ووفاته، فرجح عندهم جعلها من الهجرة لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه، فانحصر في الهجرة، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم فناسب أن يجعل مبتدأ، وهذا أقوى ما وفقت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم. وذكروا في سبب عمل عمر التاريخ أشياء: منها ما أخرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في تاريخه ومن طريقه الحاكم من طريق الشعبي" أن أبا موسى كتب إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: أرخ بالمبعث، وبعضهم أرخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها، وذلك سنة سبع عشرة. فلما اتفقوا قال بعضهم ابدءوا برمضان فقال عمر: بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه" وقيل أول من أرخ التاريخ يعلى بن أمية حيث كان باليمن أخرجه أحمد بن حنبل بإسناد صحيح، لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلي، وروى أحمد وأبو عروبة في "الأوائل" والبخاري في "الأدب" والحاكم من طريق ميمون بن مهران قال رفع لعمر صك محله شعبان فقال: أي شعبان؛ الماضي أو الذي نحن فيه، أو الآتي؟ ضعوا للناس شيئا يعرفونه فذكر نحو الأول. وروى الحاكم عن سعيد بن المسيب قال: "جمع عمر الناس فسألهم عن أول يوم يكتب التاريخ،

(7/268)


فقال علي: من يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أرض الشرك، ففعله عمر" وروى ابن أبي خيمة من طريق ابن سيرين قال: "قدم رجل من اليمن فقال: رأيت باليمن شيئا يسمونه التاريخ يكتبونه من عام كذا وشهر كذا، فقال عمر: هذا حسن فأرخوا، فلما جمع على ذلك قال قوم: أرخوا للمولد. وقال قائل للمبعث. وقال قائل من حين خرج مهاجرا. وقال قائل من حين توفي، فقال عمر: أرخوا من خروجه من مكة إلى المدينة. ثم قال: بأي شهر نبدأ: فقال قوم: من رجب. وقال قائل: من رمضان، فقال عثمان: أرخوا المحرم فإنه شهر حرام وهو أول السنة ومنصرف الناس من الحج، قال وكان ذلك سنة سبع عشرة - وقيل: سنة ست عشرة - في ربيع الأول "فاستفدنا من جموع هذه الآثار أن الذي أشار بالمحرم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. قوله: "فرضت الصلاة ركعتين" أي بمكة وقوله: "تركت" أي على ما كانت عليه من عدم وجوب الزائد، بخلاف صلاة الحضر فإنها زيدت في ثلاث منها ركعتان، فالمعنى أقرت صلاة السفر على جواز الإتمام وإن كان الأحب القصر، وقد تقدم ما فيه من الإشكال في أول كتاب الصلاة. قوله: "تابعه عبد الرزاق عن معمر" وصله الإسماعيلي من طريق فياض بن زهير عن عبد الرزاق بلفظه، وذكر ابن جرير عن الواقدي أن الزيادة في صلاة الحضر كانت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر واحد، قال: وزعم أنه لا خلاف بين أهل الحجاز في ذلك.

(7/269)


49 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ" وَمَرْثِيَتِهِ لِمَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ
3936- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ مَرَضٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لاَ قَالَ فَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ ا لثُّلُثُ يَا سَعْدُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ ذُرِّيَّتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَسْتَ بِنَافِقٍ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ آجَرَكَ اللَّهُ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ". وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ "أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ومرثيته لمن مات بمكة" بتخفيف التحتانية وهو عطف على قول. والمرثية تعديد محاسن الميت، والمراد هنا التوجع له لكونه مات في البلد التي هاجر منها، وقد تقدم بيان الحكمة في ذلك قبل بباب. قوله: "ورثتك" كذا للأكثر، وللكشميهني والقابسي "ذريتك" ورواية الجماعة أولى لأن هذه اللفظة قد بين البخاري أنها لغير يحيى بن قزعة شيخه هنا. قوله: "و لست بنافق" كذا هنا،

(7/269)


وللكشميهني: "بمنفق" وهو الصواب. قوله: "أن مات1 بمكة" هو بفتح الهمزة للتعليل، وأغرب الداودي فتردد فيه فقال: إن كان بالفتح ففيه دلالة على أنه أقام بمكة بعد الصدر من حجته ثم مات، وإن كان بالكسر ففيه دليل على أنه قيل له إنه يريد التخلف بعد الصدر فخشي عليه أن يدركه أجله بمكة. قلت: والمضبوط المحفوظ بالفتح، لكن ليس فيه دلالة على أنه أقام بعد حجه، لأن السياق يدل على أنه مات قبل الحج، والله أعلم. قوله: "وقال أحمد بن يونس وموسى عن إبراهيم" يعني ابن سند "أن تذر ورثتك" أما رواية أحمد بن يونس فأخرجها المصنف في حجة الوداع في آخر المغازي، وأما رواية موسى وهو ابن إسماعيل فأخرجها المؤلف في الدعوات.
ـــــــ
1 في نسخ المتن "أن توفي" وذكر لابي ذر "أن يتوفى" بالمضارع

(7/270)


50 - باب كَيْفَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ
3937-حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال "قدم عبالرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري, فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك, دلني على السوق. فربح شيئا من أقط وسمن , فرأه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مهيم ياعبد الرحمن؟ قال: تزوجت إمرأة من الأنصار , قال: فما سقت فيها؟ فقال: وزن نواة من ذهب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أولم ولو بشاة "
قوله: "باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه" تقدم في مناقب الأنصار" باب آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار" قال ابن عبد البر كانت المؤاخاة مرتين: مرة بين المهاجرين خاصة وذلك بمكة، ومرة بين المهاجرين والأنصار فهي المقصودة هنا.وذكر ابن سند بأسانيد الواقدي إلى جماعة من التابعين قالوا: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين، وآخى بين المهاجرين والأنصار على المواساة، وكانوا يتوارثون، وكانوا تسنين نفسا بعضهم من المهاجرين وبعضهم من الأنصار، وقيل كانوا مائة، فلما نزل: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} بطلت المواريث بينهم بتلك المؤاخاة. قلت: وسيأتي في الفرائض من حديث ابن عباس" لما قدموا المدينة كان يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فنزلت: وعند أحمد من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه، قال السهيلي: آخى بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة ويتأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أبطل المواريث وجعل المؤمنين كلهم إخوة وأنزل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} يعني في التوادد وشمول الدعوة، واختلفوا في ابتدائها: فقيل بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل؛ بتسعة، وقيل: وهو يبني المسجد، وقيل. قبل بنائه، وقيل: بسنة وثلاثة أشهر قبل

(7/270)


بدر، وعند أبي سعيد في "شرف المصطفى" كان الإخاء بينهم في المسجد، وذكر محمد بن إسحاق المؤاخاة فقال: "قال رسول الله لأصحابه بعد أن هاجر: تآخوا أخوين ، فكان هو وعلي أخوين، وحمزة وزيد بن حارثة أخوين، وجعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين" وتعقبه ابن هشام بأن جعفرا كان يومئذ بالحبشة، وفي هذا نظر، وقد تقدم. ووجهها العماد بن كثير بأنه أرصده لأخوته حتى يقدم، وفي تفسير سنيد: آخى بين معاذ وابن مسعود، وأبو بكر وخارجة بن زيد أخوين، وعمر وعتبان بن مالك أخوين، وقد تقدم في أوائل الصلاة قول عمر" كان لي أخ من الأنصار" وفسر بعتبان، ويمكن أن يكون أخوته له تراخت كما في أبي الدرداء وسلمان. ومصعب بن عمير وأبو أيوب أخوين، وأبو حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر أخوين، ويقال بل عمار وثابت بن قيس لأن حذيفة إنما أسلم زمان أحد، وأبو ذر والمنذر بن عمرو أخوين، وتعقب بأن أبا ذر تأخرت هجرته، والجواب كما في جعفر، وحاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين وسلمان وأبو الدرداء أخوين، وتعقب بأن سلمان تأخر إسلامه وكذا أبو الدرداء، والجواب ما تقدم في جعفر. وكان ابتداء المؤاخاة أوائل قدومه المدينة، واستمر يجددها بحسب من يدخل في الإسلام أو يحضر إلى المدينة، والإخاء بين سلمان وأبي الدرداء صحيح كما في الباب وعند ابن سعد وآخى بين أبي الدرداء وعوف بن مالك وسنده ضعيف، والمعتمد ما في الصحيح، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع مذكور في هذا الباب، وسمى ابن عبد البر جماعة آخرين. وأنكر ابن تيمية في كتاب الرد على ابن المطهر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصا مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي قال: لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم ولتأليف قلوب بعضهم فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لأحد منهم ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري، وهذا رد للنص بالقياس وإغفال عن حكمة المؤاخاة لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى وبهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعلي لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة واستمر، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة لأن زيدا مولاهم فقد ثبت أخوتهما وهما من المهاجرين، وسيأتي في عمرة القضاء قول زيد بن حارثة: إن بنت حمزة بنت أخي. وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن أبي الشعثاء عن ابن عباس" آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود" وهما من المهاجرين. قلت: وأخرجه الضياء في المختارة من المعجم الكبير للطبراني وابن تيمية يصرح بأن أحاديث المختارة أصح وأقوى من أحاديث المستدرك، وقصة المؤاخاة الأولى أخرجها الحاكم من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر" آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان - وذكر جماعة قال - فقال علي: يا رسول الله إنك آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال أنا أخوك" وإذا الضم هذا إلى ما تقدم تقوى به، وقد تقدم في "باب الكفالة" قبيل كتاب الوكالة الكلام على حديث: "لا حلف في الإسلام" بما يغني عن الإعادة، وقد سبق كلام السهيلي في حكمة ذلك الميراث، وسيأتي في الفرائد حديث ابن عباس" كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة". الحديث الأول: قوله: "وقال عبد الرحمن بن عوف: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع" هو طرف من حديث تقدم موصولا في أوائل البيوع من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه وهو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن جده قال: "قال عبد الرحمن بن عوف لما قدمنا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد: إني أكثر

(7/271)


الأنصار مالا فأقاسمك مالي" الحديث، وظن الشيخ عماد الدين بن كثير أن البخاري أشار بهذا التعليق إلى حديث أنس فقال: قصة عبد الرحمن لا تعرف مسندة عنه، وإنما أسندها البخاري وغيره عن أنس، قال: فلعل البخاري أراد أن أنسا حملها عن عبد الرحمن بن عوف انتهى. والذي ادعاه مردود لثبوته في الصحيح. الحديث الثاني: قوله: "وقال أبو جحيفة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء" هو طرف من حديث وصله بتمامه في كتاب الصيام، والغرض منه التنبيه على تسمية من وقع الإخاء بينهم من المهاجرين والأنصار، فذكر هذا والذي بعده من إخاء سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، ولمسلم من طريق ثابت عن أنس" آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أبى طلحة وأبي عبيدة" وتقدم في الإيمان حديث عمر" كان لي أخ من الأنصار وكنا نتناوب النزول" وذكر ابن إسحاق أنه عتبان بن مالك، وكان أبو بكر الصديق وحارثة بن زيد أخوين فيما ذكره ابن إسحاق أيضا. الحديث الثالث: حديث أنس في قصة إخاء سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف وسيأتي شرحه في كتاب النكاح

(7/272)


باب مسائل عبد الله بن سلام لنبي صلى الله عليه وسلم
...
51- باب
3938- حَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ بَلَغَهُ مَقْدَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاَثٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ نَبِيٌّ مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا قَالَ ابْنُ سَلاَمٍ ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتْ الْوَلَدَ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلاَمِي فَجَاءَتْ الْيَهُودُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فِيكُمْ قَالُوا خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَأَفْضَلُنَا وَابْنُ أَفْضَلِنَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ قَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَتَنَقَّصُوهُ قَالَ هَذَا كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ".
3940,3939- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ أَبَا الْمِنْهَالِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُطْعِمٍ قَالَ "بَاعَ شَرِيكٌ لِي دَرَاهِمَ فِي السُّوقِ نَسِيئَةً فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ أَيَصْلُحُ هَذَا فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ بِعْتُهَا فِي السُّوقِ فَمَا عَابَهُ أَحَدٌ فَسَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ فَقَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ هَذَا الْبَيْعَ فَقَالَ مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَلاَ يَصْلُحُ وَالْقَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَاسْأَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْظَمَنَا تِجَارَةً فَسَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَقَالَ مِثْلَهُ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً فَقَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نَتَبَايَعُ وَقَالَ:

(7/272)


نَسِيئَةً إِلَى الْمَوْسِمِ أَوْ الْحَجِّ "
قوله: "باب" كذا لهم بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي بعده، ولعله كان بعده قوله: "عن أنس" صرح به الإسماعيلي فقال في رواية له عن حميد "حدثنا أنس" أخرجها عن ابن خزيمة عن محمد بن عبد الأعلى عن بشر بن المفضل. قوله: "أن عبد الله بن سلام بلغه" تقدم بيان ذلك في "باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة" من وجه آخر. قوله: "ذاك عدو اليهود من الملائكة" سيأتي شرح هذا في تفسير سورة البقرة. قوله: "أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب" في رواية عبد الله بن بكر عن حميد في التفسير" تحشر الناس" وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى في أواخر كتاب الرقاق. قوله: "وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت" الزيادة هي القطعة المنفردة المعلقة في الكبد، وهي في المطعم في غاية اللذة، ويقال إنها أهنأ طعام وأمراه ووقع في حديث ثوبان أن تحفتهم حين يدخلون الجنة زيادة كبد النون والنون هو الحوت ويقال هو الحوت الذي عليه الأرض والإشارة بذلك إلى نفاذ الدنيا، في حديث ثوبان زيادة وهي" أنه ينحر لهم عقب ذلك نون الجنة الذي كان يأكل من أطرافها وشرابهم عليه من عين تسمى سلسبيلا" وذكر الطبري من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: "ينطح الثور الحوت بقرنه فتأكل منه أهل الجنة ثم يحيا فينحر الثور بذنبه فيأكلونه ثم يحيا فيستمران كذلك" وهذا منقطع ضعيف. قوله: "وأما الولد" في رواية الفزاري عن حميد في ترجمة آدم" وأما شبه الولد". قوله: "فإذا سبق ماء الرجل" وفي رواية الفزاري "فأن الرجل إذا غشى المرأة فسبقها ماؤه". قوله: "نزع الولد" بالنصب على المفعولية أي جذبه إليه. وفي رواية الفزاري" كان الشبه له" ووقع عند مسلم من حديث عائشة" إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه أعمامه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه أخواله" ونحوه للبزار عن ابن مسعود وفيه: "ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما أعلى كان الشبه له" والمراد بالعلو هنا السبق، لأن كل من سبق فقد علا شأنه فهو علو معنوي، وأما ما وقع عند مسلم من حديث ثوبان رفعه: "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا بإذن الله" فهو مشكل من جهة أنه يلزم منه اقتران الشبه للأعمام إذا علا ماء الرجل ويكون ذكرا لا أنثى وعكسه، والمشاهد خلاف ذلك لأنه قد يكون ذكرا ويشبه أخواله لا أعمامه وعكسه، قال القرطبي: يتعين تأويل حديث ثوبان بأن المراد بالعلو السبق. قلت: والذي يظهر ما قدمته وهو تأويل العلو في حديث عائشة وأما حديث ثوبان فيبقى العلو فيه على ظاهره فيكون السبق علامة التذكير والتأنيث والعلو علامة الشبه فيرتفع الإشكال، وكأن المراد بالعلو الذي يكون سبب الشبه بحسب الكثرة بحيث يصير الآخر مغمورا فيه فبذلك يحصل الشبه، وينقسم ذلك ستة أقسام: الأول أن يسبق ماء الرجل ويكون أكثر فيحصل له الذكورة والشبه، والثاني عكسه، والثالث أن يسبق ماء الرجل ويكون ماء المرأة أكثر فتحصل الذكورة والشبه للمرأة، والرابع عكسه، والخامس أن يسبق ماء الرجل ويستويان فيذكر ولا يختص بشبه، والسادس عكسه. قوله: "قوم بهت" بضم الموحدة والهاء ويجوز إسكانها جمع بهيت كقضيب وقضب وقليب وقلب، وهو الذي يبهت السامع بما يفتريه عليه من الكذب، ونقل الكرماني أن مفرده بهوت بفتح أوله. قوله: "فاسألهم" في رواية الفزاري عن حميد عند النسائي: "إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك". قوله: "فجاءت اليهود" زاد في رواية الفزاري "ودخل عبد الله داخل البيت" وفي رواية عبد الله بن

(7/273)


بكر عن حميد" فأرسل إلى اليهود فجاءوا" الحديث ظاهره التعميم، والذي يقتضيه السياق تخصيص من كان له بعبد الله بن سلام تعلق وأقرب ذلك عشيرته من بني قينقاع، فقد ذكر ابن إسحاق فيهم فقال في أوائل الهجرة من كتاب المغازي: في ذكر من كان من اليهود ومن بني قينقاع زيد بن اللصيب وسعد بن حيية ومحمود بن سبيحان وعزيز بن أبي عزيز وعبد الله بن الصيف وسعيد بن الحرث ورفاعة بن قيس وفنحاص وأشيع ونعمان بن أصبا ويحري بن عمرو وشأس بن قيس وشأس بن عدي وزيد بن الحارث ونعمان بن عمر وسكين بن أبي سكين وعدي بن زيد ونعمان بن أبي أوفى ومحمود بن دحية ومالك بن - الضيف وكعب بن راشد وعازب بن نافع بن أبي رافع وخالد وازر ابني أبي أزار ورافع بن حارثة ورافع بن حرملة ورافع بن خارجة ومالك بن عوف ورفاعة بن التابوت وعبد الله بن سلام بن الحارث وكان حبرهم وأعلمهم، وكان اسمه الحصين فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسلم عبد الله، فهؤلاء بنو قينقاع. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "باع شريك لي دراهم في السوق نسيئة" قد تقدم شرحه في كتاب الشركة، والغرض منه هنا قوله: "قدم علينا المدينة ونحن نتبايع" فإنه يستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم أقرهم على ما وجدهم عليه من المعاملات إلا ما استثناه فبينه لهم.

(7/274)


باب إتيان اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة
...
52 - باب إِتْيَانِ الْيَهُودِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَحِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ
هَادُوا: صَارُوا يَهُودًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ هُدْنَا: تُبْنَا هَائِدٌ: تَائِبٌ
3941- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا قُرَّةُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِنْ الْيَهُودِ لآمَنَ بِي الْيَهُودُ"
3942- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْغُدَانِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَإِذَا أُنَاسٌ مِنْ الْيَهُودِ يُعَظِّمُونَ عَاشُورَاءَ وَيَصُومُونَهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ أَحَقُّ بِصَوْمِهِ فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ"
3943- حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ"
3944- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْدِلُ شَعْرَهُ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُءُوسَهُمْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ

(7/274)


ثُمَّ فَرَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ"
3945- حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ جَزَّءُوهُ أَجْزَاءً فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ"
[الحديث 3945- طرفاه في:4706,4705]
قوله: "باب إتيان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة" وذكر ابن عائذ من طريق عروة أن أول من أتاه منهم أبو ياسر بن أخطب أخو حيي بن أخطب فسمع منه" فلما رجع قال لقومه: أطيعوني فإن هذا النبي الذي كنا ننتظر. فعصاه أخوه وكان مطاعا فيهم، فاستحوذ عليه الشيطان فأطاعوه على ما قال. وروى أبو سعيد في "شرف المصطفى" من طريق سعيد بن جبير" جاء ميمون بن يامين وكان رأس اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ابعث إليهم فاجعلني حكما فإنهم يرجعون إلي، فأدخله داخلا، ثم أرسل إليهم فأتوه فخاطبوه فقال: اختاروا رجلا يكون حكما بيني وبينكم، قالوا قد رضينا ميمون بن يامين. فقال: اخرج إليهم فقال: أشهد أنه رسول الله، فأبوا أن يصدقوه. وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع اليهود لما قدم المدينة وامتنعوا من اتباعه، فكتب بينهم كتابا، وكانوا ثلاث قبائل: قينقاع والنضير وقريظة، فنقض الثلاثة العهد طائفة بعد طائفة، فمن على بني قينقاع وأجلى بني النضير واستأصل بني قريظة، وسيأتي بيان ذلك كله مفصلا إن شاء الله تعالى. وذكر ابن إسحاق أيضا عن الزهري" سمعت رجلا من مزينة يحدث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فقالوا: غدا انطلقوا إلى هذا الرجل فاسألوه عن حد الزاني" فذكر الحديث. قوله: "هادوا صاروا يهودا، وأما قوله: هدنا تبنا هائد تائب" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} هو هنا من الذين تهودوا فصاروا يهودا: وقال في قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا إليك، ثم ذكر فيه خمسة أحاديث: قوله: "حدثنا قرة" هو ابن خالد، ومحمد هو ابن سيرين والإسناد كله بصريون. قوله: "لو آمن بي عشرة من اليهود لأمن بي اليهود" في رواية الإسماعيلي: "لم يبق يهودي إلا أسلم" وكذا أخرجه أبو سعيد في "شرف المصطفى" وزاد في آخره قال: "قال كعب هم الذين سماهم الله في سورة المائدة" فعلى هذا فالمراد عشرة مختصة وإلا فقد آمن به أكثر من عشرة، وقيل المعنى لو آمن بي في الزمن الماضي كالزمن الذي قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أو حال قدومه، والذي يظهر أنهم الذين كانوا حينئذ رؤساء في اليهود ومن عداهم كان تبعا لهم، فلم يسلم منهم إلا القليل كعبد الله بن سلام وكان من المشهورين بالرياسة في اليهود عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بني النضير أبو ياسر بن أخطب وأخوه حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ورافع بن أبي الحقيق، ومن بني قينقاع عبد الله بن حنيف وفنحاص ورفاعة بن زيد، ومن بني قريظة الزبير بن باطيا وكعب بن أسد وشمويل بن زيد، فهؤلاء لم يثبت إسلام أحد منهم، وكان كل منهم رئيسا في اليهود ولو أسلم لاتبعه جماعة منهم، فيحتمل أن يكونوا المراد. وقد روى أبو نعيم في "الدلائل" من وجه آخر الحديث بلفظ: "لو آمن بي الزبير بن باطيا وذووه من رؤساء يهود لأسلموا كلهم" وأغرب السهيلي فقال: لم يسلم من أحبار اليهود إلا اثنان يعني عبد الله بن سلام وعبد الله بن صوريا، كذا قال، ولم أر لعبد الله بن صوريا إسلاما من طريق صحيحة، وإنما نسبه السهيلي في موضع آخر لتفسير

(7/275)


النقاش، وسيأتي في "باب أحكام أهل الذمة" من كتاب المحاربين شيء يتعلق بذلك ووقع عند ابن حبان قصة إسلام جماعة من الأحبار كزيد بن سعفة مطولا. وروى البيهقي أن يهوديا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة يوسف فجاء ومعه نفر من اليهود فأسلموا كلهم، لكن يحتمل أن لا يكونوا أحبارا، وحديث ميمون بن يامين قد تقدم في الباب. وأخرج يحيى بن سلام في تفسيره من وجه آخر عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة هذا الحديث فقال: "قال كعب إنما الحديث اثنا عشر لقول الله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} فسكت أبو هريرة" قال ابن سيرين: أبو هريرة عندنا أولى من كعب، قال يحيى بن سلام وكعب أيضا صدوق لأن المعنى عشرة بعد الاثنين وهما عبد الله بن سلام ومخيريق، كذا قاله وهو معنوي. قوله: "حدثنا أحمد أو محمد بن عبيد الله" بالتصغير. وفي رواية السرخسي والمستملي: "ابن عبد الله" مكبر والأول أصح وأشهر، واسم جده سهيل وهو الغداني بضم المعجمة وتخفيف المهملة، شك البخاري في اسمه هنا، وقد ذكره في التاريخ فيمن اسمه أحمد بغير شك. قوله: "عن أبي موسى" وقع لبعضهم عن أبي مسعود وهو غلط. قوله: "دخل النبي" في رواية الكشميهني: "قدم" وقد تقدم الكلام عليه في الصيام. قوله: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء" استشكل هذا لأن قدومه صلى الله عليه وسلم إنما كان في ربيع الأول، وأجيب باحتمال أن يكون علمه بذلك تأخر إلى أن دخلت السنة الثانية، قال بعض المتأخرين يحتمل أن يكون صيامهم كان على حساب الأشهر الشمسية فلا يمتنع أن يقع عاشوراء في ربيع الأول ويرتفع الإشكال بالكلية، هكذا قرره ابن القيم في "الهدى" قال وصيام أهل الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس. قلت: وما ادعاه من رفع الإشكال عجيب، لأنه يلزم منه إشكال آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين أن يصوموا عاشوراء بالحساب والمعروف من حال المسلمين في كل عصر في صيام عاشوراء أنه في المحرم لا في غيره من الشهور، نعم وجدت في الطبراني بإسناد جيد عن زيد بن ثابت قال: "ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقول الناس، إنما كان يوم تستر فيه الكعبة وتقلس فيه الحبشة، وكان يدور في السنة، وكان الناس يأتون فلانا اليهودي يسألونه، فلما مات أتوا زيد بن ثابت فسألوه" فعلى هذا فطريق الجمع أن تقول كان الأصل فيه ذلك، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء رده إلى حكم شرعه وهو الاعتبار بالأهلة فأخذ أهل الإسلام بذلك، لكن في الذي ادعاه أن أهل الكتاب يبنون صومهم على حساب الشمس نظر، فإن اليهود لا يعتبرون في صومهم إلا بالأهلة، هذا الذي شاهدناه منهم، فيحتمل أن يكون فيهم من كان يعتبر الشهور بحساب الشمس لكن لا وجود له الآن، كما انقرض الذين أخبر الله عنهم أنهم يقولون عزير ابن الله، تعالى الله عن ذلك. وفي الحديث إشكال آخر سبق الجواب عنه في كتاب الصيام. قوله: "فأمر بصومه" في رواية الكشميهني: "ثم أمر بصومه" "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره" أي يرخيه. قوله: "عن عبيد الله بن عبد الله" هذا هو المحفوظ عن الزهري، ورواه مالك في "الموطأ" عن الزهري مرسلا لم يذكر من فوقه، وأغرب حماد بن خالد فرواه عن مالك عن الزهري عن أنس، قال أحمد بن حنبل: أخطأ فيه حماد بن خالد والمحفوظ عن الزهري" عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس". قوله: "ثم يفرقون" بفتح أوله وضم ثالثه. قوله: "ثم فرق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه" بفتح الفاء والراء الخفيفة، وقد سبق شرحه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يوافق أهل الكتاب إذا خالفوا عبدة الأوثان أخذا بأخف الأمرين، فلما فتحت مكة

(7/276)


ودخل عباد الأوثان في الإسلام رجع إلى مخالفة باقي الكفار وهم أهل الكتاب. حديث ابن عباس "قال هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه" زاد الكشميهني: يعني قول الله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} .

(7/277)


53- باب إِسْلاَمِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3946- حَدَّثَنِا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ بْنِ شَقِيقٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ أَبِي وَحَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ "عَنْ سَلْمَانَ
الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ تَدَاوَلَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ رَبٍّ إِلَى رَبٍّ"
3947- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَوْفٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "أَنَا مِنْ رَامَ هُرْمُزَ"
3948- حَدَّثَنِا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ "فَتْرَةٌ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ"
قوله: "باب إسلام سلمان الفارسي" تقدمت ترجمته في البيوع. قوله: "قال أبي" هو سليمان بن طرخان التيمي وأبو عثمان هو النهدي. قوله: "تداوله بضعة عشر من رب إلى رب" أي من سيد إلى سيد، وكأنه لم يبلغه حديث أبي هريرة في النهي عن إطلاق رب على السيد، وقد مر في البيوع، وقد تقدم تفسير البضع وأنه من الثلاث إلى العشر على المشهور، وذكر ابن حبان والحاكم من طريق ابن عباس عن سلمان في قصته أنه كان ابن ملك وأنه خرج في طلب الدين هاربا وأنه انتقل من عابد إلى عابد إلى أن قدم يثرب، وقد تقدم في الشراء من المشركين من كتاب البيوع كيفية إسلام سلمان ومكاتبة الذي كان في رقه على غرس الودي. وزعم الداودي أن ولاء سلمان كان لأهل البيت لأنه أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم فكان ولاؤه له، وتعقبه ابن التين بأنه ليس مذهب مالك، قال: والذي كاتب سلمان كان مستحقا لولائه إن كان مسلما، وإن كان كافرا فولاؤه للمسلمين. قلت: وفاته من وجوه الرد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث فلا يورث عنه الولاء أيضا إن قلنا بولاء الإسلام على تقدير التنزل. قوله: "أنا من رام هرمز" في رواية بشر بن المفضل عن عوف بلفظ: "أنا من أهل رام هرمز" بفتح الراء والميم وضم الهاء والميم بينهما راء ساكنة ثم زاي، مدينة معروفة بأرض فارس بقرب عراق العرب، ووقع في حديث ابن عباس عند أحمد وغيره أن سلمان كان من أصبهان، ويمكن الجمع باعتبارين. قوله: "فترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ستمائة سنة" والمراد بالفترة المدة التي لا يبعث فيها رسول من الله، ولا يمتنع أن ينبأ فيها من يدعو إلى شريعة الرسول الأخيرة ونقل ابن الجوزي الاتفاق على ما اقتضاه حديث سلمان هذا، وتعقب بأن الخلاف في ذلك منقول، فعن قتادة خمسمائة وستين سنة أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه، وعن الكلبي خمسمائة وأربعين، وقيل أربعمائة سنه. ووجه تعلق هذه الأحاديث بإسلام سلمان الإشارة إلى أن الأحاديث التي وردت في سياق قصته ما هي على شرط البخاري في الصحيح، وإن كان إسناد بعضها صالحا، وأما أحاديث الباب فمحصلها أنه أسلم بعد أن تداوله جماعة بالرق،

(7/277)


وبعد أن هاجر من وطنه وغاب عنه هذه المدة الطويلة حتى من الله عليه بالإسلام طوعا.
"خاتمة" اشتملت أحاديث المبعث وما بعدها من الهجرة وغيرها من الأحاديث المرفوعة على مائة وعشرين حديثا، الموصول منها مائة وثلاثة أحاديث والبقية معلقات ومتابعات، المكرر منها فيه وفيما مضى سبعة وسبعون حديثا والخالص ثلاثة وأربعون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث خباب "لقد كان من قبلكم يمشط" وحديث عمرو بن العاص في "أشد ما صنعه المشركون"، وحديث عبد الله "آذنت بالجن شجرة" وحديث ابن عمر في إسلام عمر، وحديث سواد بن قارب، وحديث عمر يا جليح، وحديث سعيد بن زيد في إسلامه، وحديث أم خالد بنت خالد بن سعيد في الخميصة، وحديث ابن عباس في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا} وحديث جابر "شهد بي خالاي العقبة" وحديث ابن عمر وعائشة "لا هجرة بعد الفتح" وحديث عروة بن الزبير "أن الزبير لقي النبي صلى الله عليه وسلم في ركب كانوا تجارا" الحديث في الهجرة، وحديث أنس في شأن الهجرة وفيه قصة سراقة ولم يسمه، وحديث عمر مع أبي موسى في ذكر الهجرة، وحديث ابن عمر في البيعة، وحديث عائشة أن أبا بكر تزوج امرأة من كلب وفيه الشعر، وحديث البراء في أول من قدم المدينة، وحديث مسهل" ما عدوا من المبعث" وحديث ابن عباس في تفسير {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} وأحاديث سلمان الثلاثة في إسلامه، وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أربعة آثار أو خمسة. والله أعلم بالصواب.

(7/278)


كتاب المغازي
باب غزوة العشيرة , أو العسيرة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
64 - كِتَاب الْمَغَازِي
1 - باب غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ أَوْ الْعُسَيْرَةِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ "أَوَّلُ مَا غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَبْوَاءَ ثُمَّ بُوَاطَ ثُمَّ الْعُشَيْرَةَ"
3949- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "كُنْتُ إِلَى جَنْبِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَقِيلَ لَهُ كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةٍ قَالَ تِسْعَ عَشْرَةَ قِيلَ كَمْ غَزَوْتَ أَنْتَ مَعَهُ قَالَ سَبْعَ عَشْرَةَ قُلْتُ فَأَيُّهُمْ كَانَتْ أَوَّلَ قَالَ الْعُسَيْرَةُ أَوْ الْعُشَيْرُ فَذَكَرْتُ لِقَتَادَةَ فَقَالَ الْعُشَيْرُ"
[الحديث 3949- طرفاه في: 4471,4404]
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب المغازي. باب غزوة العشيرة": بالشين المعجمة كذا لأبي ذر، ولغيره تأخير البسملة عن قوله: "كتاب المغازي" وزادوا "باب غزوة العشيرة أو العسيرة" بالشك هل هي بالإهمال أو بالإعجام، مكانها عند منزل الحج بينبع، وليس بينها وبين البلد إلا الطريق. وخرج في خمسين ومائة وقيل مائتين، واستخلف فيها أبا سلمة بن عبد الأسد. والمغازي جمع مغزى، يقال غزا يغزو غزوا ومغزى والأصل غزوا والواحدة غزوة والميم زائدة، وعن ثعلب الغزوة المرة والغزاة عمل سنة كاملة، وأصل الغزو القصد، ومغزى الكلام مقصده، والمراد بالمغازي هنا ما وقع من قصد النبي صلى الله عليه وسلم الكفار بنفسه أو بجيش من قبله، وقصدهم أعم من أن يكون إلى بلادهم أو إلى الأماكن التي حلوها حتى دخل مثل أحد والخندق. قوله: "قال ابن إسحاق أول ما غزا النبي صلى الله عليه وسلم الأبواء ثم بواط ثم العشيرة" كذا للأكثر، وسقط لأبي ذر إلا عن المستملي وحده لكنه ذكره آخر الباب، والأبواء بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالمد قرية من عمل الفرع بينها وبين الجحفة من جهة المدينة ثلاثة وعشرون ميلا، قيل سميت بذلك لما كان فيها من الوباء وهي على القلب وإلا لقيل الأوباء، والذي وقع في مغازي ابن إسحاق ما صورته: غزوة ودان بتشديد المهملة، قال: وهي أول غزوات النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة يريد قريشا، فوادع بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة من كنانة، وادعه رئيسهم مجدي بن عمرو الضميري ورجع بغير قتال. قال ابن هشام: وكان قد استعمل على المدينة سعد بن عبادة ا هـ. وليس بين ما وقع في السيرة وبين ما نقله البخاري عن ابن إسحاق اختلاف، لأن الأبواء وودان مكانان متقاربان بينهما ستة أميال أو ثمانية، ولهذا وقع في حديث الصعب بن جثامة" وهو بالأبواء أو بودان" كما تقدم في كتاب الحج، ووقع في "مغازي الأموي" حدثني أبي عن ابن إسحاق قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غازيا بنفسه حتى انتهى إلى ودان وهي الأبواء. وقال موسى بن عقبة: أول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم - يعني بنفسه - الأبواء. وفي الطبراني من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال: أول غزاة غزوناها مع النبي الأبواء. وأخرجه البخاري في "التاريخ الصغير" عن إسماعيل وهو ابن أبي أويس عن كثير بن

(7/279)


عبد الله مقتصرا عليه، وكثير ضعيف عند الأكثر، لكن البخاري مشاه وتبعه الترمذي، وذكر أبو الأسود في مغازيه عن عروة ووصله ابن عائذ من حديث ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين رجلا فلقوا جمعا من قريش فتراموا بالنبل، فرمى سعد بن أبي وقاص بسهم، وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله" وعند الأموي: يقال إن حمزة بن عبد المطلب أول من عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام راية، وكذا جزم به موسى بن عقبة وأبو معشر والواقدي في آخرين قالوا: وكان حامل رايته أبو مرثد حليف حمزة، وذلك في شهر رمضان من السنة الأولى، وكانوا ثلاثين رجلا ليعترضوا عير قريش، فلقوا أبا جهل في جمع كثير، فحجز بينهم مجدي. وأما بواط فبفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره مهملة: جبل من جبال جهينة بقرب ينبع، قال ابن إسحاق. ثم غزا في شهر ربيع الأول يريد قريشا أيضا حتى بلغ بواط من ناحية رضوي ورجع ولم يلق أحدا، ورضوي بفتح الراء وسكون المعجمة مقصور: جبل مشهور عظيم بينبع، قال ابن هشام: وكأن استعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون، وفي نسخة السائب بن مظعون، وعليه جرى السهيلي. وقال الواقدي سعد بن معاذ. وأما العشيرة فلم يختلف على أهل المغازي أنها بالمعجمة والتصغير وآخرها هاء، قال ابن إسحاق هي ببطن ينبع، وخرج إليها جمادى الأولى يريد قريشا أيضا، فوادع فيها بني مدلج من كنانة. قال ابن هشام استعمل فيها على المدينة أبا مسلمة بن عبد الأسد. وذكر الواقدي أن هذه السفرات الثلاث كان يخرج فيها ليلتقي تجار قريش حين يمرون إلى الشام ذهابا وإيابا، وسبب ذلك أيضا أنها كانت وقعة بدر وكذلك السرايا التي بعثها قبل بدر كما سيأتي، قال ابن إسحاق: ولما رجع إلى المدينة لم يقم إلا ليالي حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ سفران - بفتح المهملة والفاء - من ناحية بدر، فقاتله كرز بن جابر، وهذه هي بدر الأولى، وقد تقدم في العلم البيان عن سرية عبد الله بن جحش وأنه ومن معه لقوا ناسا من قريش راجعين بتجارة من الشام فقاتلوهم، واتفق وقوع ذلك في رجب، فقتلوا منهم وأسروا وأخذوا الذي كان معهم، وكان أول قتل وقع في الإسلام وأول مال غنم، وممن قتل عبد الله بن الحضرمي أخو عمرو بن الحضرمي الذي حرض به أبو جهل قريشا على القتال ببدر. وقال الزهري: أول آية نزلت في القتال كما أخبرني عروة عن عائشة {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أخرجه النسائي وإسناده صحيح. وأخرج هو والترمذي وصححه الحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، ليهلكن. فنزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الآية. قال ابن عباس: فهي أول آية أنزلت في القتال" وذكر غيره أنهم أذن لهم في قتال من قاتلهم بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ثم أمروا بالقتال مطلقا بقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا} الآية. قوله: "حدثنا وهب" هو ابن جرير بن حازم، وأبو إسحاق هو السبيعي. قوله: "فقيل له" القائل هو الراوي أبو إسحاق بينه إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق كما سيأتي آخر المغازي بلفظ: "سألت زيد بن أرقم" ويؤيده أيضا قوله في هذه الرواية آخرا "فأيهم". قوله: "تسع عشرة" كذا قال ومراده الغزوات التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه سواء قاتل أو لم يقاتل، لكن روى أبو يعلى من طريق أبي الزبير عن جابر أن عدد الغزوات إحدى وعشرون وإسناده صحيح وأصله في مسلم، فعلى هذا ففات زيد بن أرقم ذكر ثنتين منها ولعلهما الأبواء وبواط، وكأن ذلك خفي عليه لصغره، ويؤيد ما قلته ما وقع عند مسلم بلفظ: "قلت أول غزوة غزاها؟ قال:

(7/280)


ذات العشير أو العشيرة" ا هـ والعشيرة كما تقدم هي الثالثة، وأما قول ابن التين: يحمل قول زيد بن أرقم على أن العشيرة أول ما غزا هو، أي زيد بن أرقم، فقلت ما أول غزوة غزاها أي وأنت معه؟ قال: العشير، فهو محتمل أيضا، ويكون قد خفي عليه ثنتان مما بعد ذلك. أو عد الغزوتين واحدة، فقد قال موسى بن عقبة" قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في ثمان: بدر ثم أحد ثم الأحزاب ثم المصطلق ثم خيبر ثم مكة ثم حنين ثم الطائف" ا هـ وأهمل غزوة قريظة لأنه ضمها إلى الأحزاب لكونها كانت في أثرها، وأفردها غيره لوقوعها منفردة بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع لغيره عد الطائف وحنين واحدة لتقاربهما، فيجتمع على هذا قول زيد بن أرقم وقول جابر، وقد توسع ابن سعد فبلغ عدة المغازي التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعا وعشرين، وتبع في ذلك الواقدي، وهو مطابق لما عده ابن إسحاق إلا أنه لم يفرد وادي القرى من خيبر، أشار إلى ذلك السهيلي، وكأن الستة الزائدة من هذا القبيل، وعلى هذا يحمل ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين" وأخرجه يعقوب بن سفيان عن سلمة بن شبيب عن عبد الرزاق فيه أن سعيدا قال أولا ثماني عشرة ثم قال أربعا وعشرين، قال الزهري: فلا أدري أو هم أو كان شيئا سمعه بعد. قلت: وحمله على ما ذكرته يدفع الوهم ويجمع الأقوال والله أعلم. وأما البعوث والسرايا فعد ابن إسحاق ستا وثلاثين وعد الواقدي ثمانيا وأربعين. وحكى ابن الجوزي في "التلقيح" ستا وخمسين، وعد المسعودي ستين، وبلغها شيخنا في "نظم السيرة" زيادة على السبعين، ووقع عند الحاكم في "الإكليل" أنها تزيد على مائة فلعله أراد ضم المغازي إليها. قوله: "قلت فأيهم كان أول"؟ كذا للجميع، قال ابن مالك: والصواب "فأيها" أو "أيهن" ووجهه بعضهم على أن المضاف محذوف والتقدير فأي غزوتهم؟ قلت: وقد أخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وهب بن جرير بالإسناد الذي ذكره المصنف بلفظ: "قلت فأيتهن"؟ فدل على أن التعبير من البخاري أو من شيخه عبد الله بن محمد المسندي أو من شيخه وهب بن جرير حدث به مرة على الصواب ومرة على غيره إن لم يصح له توجيه. قوله: "العشير أو العشيرة" كذا بالتصغير والأول بالمعجمة بلا هاء والثانية بالمهملة وبالهاء، ووقع في الترمذي العشير أو العسير بلا هاء فيهما. قوله: "فذكرت لقتادة" القائل هو شعبة، وقول قتادة" العشيرة" هو بالمعجمة وبإثبات الهاء ومنهم من حذفها، وقول قتادة هو الذي اتفق عليه أهل السير وهو الصواب، وأما غزوة العسيرة بالمهملة فهي غزوة تبوك قال الله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} وسميت بذلك لما كان فيها من المشقة كما سيأتي بيانه، وهي بغير تصغير، وأما هذه فنسبت إلى المكان الذي وصلوا إليه واسمه العشير أو العشيرة يذكر ويؤنث وهو موضع، وذكر ابن سعد أن المطلوب في هذه الغزاة هي عير قريش التي صدرت من مكة إلى الشام بالتجارة ففاتتهم، وكانوا يترقبون رجوعها فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يتلقاها ليغنمها، فبسبب ذلك كانت وقعة بدر، قال ابن إسحاق: فإن السبب في غزوة بدر ما حدثني يزيد بن رومان عن عروة أن أبا سفيان كان بالشام في ثلاثين راكبا منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص، فأقبلوا في قافلة عظيمة فيها أموال قريش، فندب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وكان أبو سفيان يتجسس الأخبار فبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفر أصحابه بقصدهم، فأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى قريش بمكة يحرضهم على المجيء لحفظ أموالهم ويحذرهم المسلمين فاستنفرهم ضمضم، فخرجوا في ألف راكب ومعهم مائة فرس، واشتد حذر أبي سفيان فأخذ طريق الساحل وجد في السير حتى فات المسلمين، فلما أمن أرسل إلى من يلقى قريشا يأمرهم

(7/281)


بالرجوع، فامتنع أبو جهل من ذلك، فكان ما كان من وقعة بدر.

(7/282)


2 - باب ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يُقْتَلُ بِبَدْرٍ
3950- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَ عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ صَدِيقًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ وَكَانَ سَعْدٌ إِذَا مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْطَلَقَ سَعْدٌ مُعْتَمِرًا فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ فَقَالَ لِأُمَيَّةَ انْظُرْ لِي سَاعَةَ خَلْوَةٍ لَعَلِّي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَخَرَجَ بِهِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ فَلَقِيَهُمَا أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ يَا أَبَا صَفْوَانَ مَنْ هَذَا مَعَكَ فَقَالَ هَذَا سَعْدٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ أَلاَ أَرَاكَ تَطُوفُ بِمَكَّةَ آمِنًا وَقَدْ أَوَيْتُمْ الصُّبَاةَ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَنْصُرُونَهُمْ وَتُعِينُونَهُمْ أَمَا وَاللَّهِ لَوْلاَ أَنَّكَ مَعَ أَبِي صَفْوَانَ مَا رَجَعْتَ إِلَى أَهْلِكَ سَالِمًا فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ وَرَفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي هَذَا لاَمْنَعَنَّكَ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْهُ طَرِيقَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ يَا سَعْدُ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ سَيِّدِ أَهْلِ الْوَادِي فَقَالَ سَعْدٌ دَعْنَا عَنْكَ يَا أُمَيَّةُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ قَالَ بِمَكَّةَ قَالَ لاَ أَدْرِي فَفَزِعَ لِذَلِكَ أُمَيَّةُ فَزَعًا شَدِيدًا فَلَمَّا رَجَعَ أُمَيَّةُ إِلَى أَهْلِهِ قَالَ يَا أُمَّ صَفْوَانَ أَلَمْ تَرَيْ مَا قَالَ لِي سَعْدٌ قَالَتْ وَمَا قَالَ لَكَ قَالَ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ فَقُلْتُ لَهُ بِمَكَّةَ قَالَ لاَ أَدْرِي فَقَالَ أُمَيَّةُ وَاللَّهِ لاَ أَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ اسْتَنْفَرَ أَبُو جَهْلٍ النَّاسَ قَالَ أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ فَكَرِهَ أُمَيَّةُ أَنْ يَخْرُجَ فَأَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ يَا أَبَا صَفْوَانَ إِنَّكَ مَتَى مَا يَرَاكَ النَّاسُ قَدْ تَخَلَّفْتَ وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي تَخَلَّفُوا مَعَكَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ أَبُو جَهْلٍ حَتَّى قَالَ أَمَّا إِذْ غَلَبْتَنِي فَوَاللَّهِ لاَشْتَرِيَنَّ أَجْوَدَ بَعِيرٍ بِمَكَّةَ ثُمَّ قَالَ أُمَيَّةُ يَا أُمَّ صَفْوَانَ جَهِّزِينِي فَقَالَتْ لَهُ يَا أَبَا صَفْوَانَ وَقَدْ نَسِيتَ مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ قَالَ لاَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَجُوزَ مَعَهُمْ إِلاَّ قَرِيبًا فَلَمَّا خَرَجَ أُمَيَّةُ أَخَذَ لاَ يَنْزِلُ مَنْزِلًا إِلاَّ عَقَلَ بَعِيرَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِذَلِكَ حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِبَدْرٍ"
قوله "باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من يقتل ببدر" أي قبل وقعة بدر بزمان فكان كما قال ووقع عند مسلم من حديث أنس عن عمر قال"أن النبي صلى الله عليه وسلم ليرنا مصارع أهل بدر يقول: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله وهذا مصرع فلان . فو الذي بعثه بالحق ما أخطأوا تلك الحدود" الحديث وهذا وقع وهم ببدر في الليلة التي التقوا في صبيحتها, بخلاف حديث الباب فإنه قبل ذلك بزمان. قوله: "شريح" هو بمعجمة وآخره مهملة، وإبراهيم بن يوسف عن أبيه هو يوسف بن إسحاق السبيعي. قوله: "أنه سمع عبد الله بن مسعود حدث عن سعد بن

(7/282)


معاذ قال كان صديقا" فيه التفات على رأي، والسياق يقتضي أن يقول كنت صديقا، ويحتمل أن يكون" قال: "زائدة ويكون قوله: "قال: "من كلام ابن مسعود، والمراد سعد بن معاذ، وهي رواية النسفي. قوله: "على أمية" بن خلف ووقع في علامات النبوة من طريق إسرائيل عن ابن إسحاق "أمية بن خلف بن صفوان"، كذا للمروزي، وكذا أخرجه أحمد والبيهقي من طريق إسرائيل، والصواب ما عند الباقين" أمية بن خلف أبي صفوان"، وعند الإسماعيلي: "أبي صفوان أمية بن خلف" وهي كنية أمية كني بابنه صفوان بن أمية، وكذلك اتفق أصحاب أبي إسحاق ثم أصحاب إسرائيل على أن المنزول عليه أمية بن خلف، وخالفهم أبو علي الحنفي فقال: نزل على عتبة بن ربيعة، وساق القصة كلها، أخرجه البزار. وقول الجماعة أولى. وعتبة بن ربيعة قتل ببدر أيضا لكنه لم يكن كارها في الخروج من مكة إلى بدر، وإنما حرض الناس على الرجوع بعد أن سلمت تجارتهم فخالفه أبو جهل، وفي سياق القصة البيان الواضح أنها لأمية بن خلف لقوله فيها" فقال لامرأته يا أم صفوان" ولم يكن لعتبة بن ربيعة امرأة يقال لها أم صفوان. قوله: "فقال" أي سعد بن معاذ "لأمية" بن خلف "انظر لي ساعة خلوة" في رواية إسرائيل" فقال أمية لسعد: ألا تنظر حتى يكون نصف النهار" والجمع بينهما بأن سعدا سأله وأشار عليه أمية، وإنما اختار له نصف النهار لأنه مظنة الخلوة. قوله: "ألا أراك" بتخفيف اللام للاستفتاح، وللكشميهني بحذف همزة الاستفهام وهي مرادة. قوله: "أو يتم" بالمد والقصر، والصباة بضم المهملة وتخفيف الموحدة جمع صابي بموحدة مكسورة ثم تحتانية خفيفة بغير همز وهو الذي ينتقل من دين إلى دين. وفي رواية إسرائيل "وقد أويتم محمدا وأصحابه". قوله: "طريقك على المدينة" أي ما يقاربها أو يحاذيها، قالا الكرماني: طريقك بالنصب والرفع. قلت: النصب أصح لأن عامله لأمنعنك، فهو بدل من قوله ما هو أشد عليك، وأما الرفع فيحتاج إلى تقدير. وفي رواية إسرائيل متجرك إلى الشام، وهو المراد بقطع طريقه على المدينة. قوله: "على أبي الحكم" هي كنية أبي جهل، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي لقبه بأبي جهل. قوله: "فوالله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنهم قاتلوك" كذا أتى بصيغة الجمع والمراد المسلمون، أو النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره بهذه الصيغة تعظيما، وفي بقية سياق القصة ما يؤيد هذا الثاني، ووقع لبعضهم "قاتليك" بتحتانية بدل الواو وقالوا هي لحن، ووجهت بحذف الأداة والتقدير أنهم يكونون قاتليك. وفي رواية إسرائيل "أنه قاتلك" بالإفراد، وقد قدمت في "علامات النبوة" بيان وهم الكرماني في شرح هذا الموضع وأنه ظن أن الضمير لأبي جهل فاستشكله فقال إن أبا جهل لم يقتل أمية، ثم تأول ذلك بأنه كان سببا في خروجه حتى قتل. قلت: ورواية الباب كافية في الرد عليه، فإن فيها" أن أمية قال لامرأته: إن محمدا أخبرهم أنه قاتلي" ولم يتقدم في كلامه لأبي جهل ذكر. قوله: "ففزع لذلك أمية فزعا شديدا" بين سبب فزعه في رواية إسرائيل ففيها" قال فوالله ما يكذب محمدا إذا حدث" ووقع عند البيهقي "فقال والله ما يكذب محمد، فكاد أن يحدث" كذا وقع عنده بضم التحتانية وسكون المهملة وكسر الدال من الحدث وهو خروج الخارج من أحد السبيلين، والضمير لأمية أي أنه كاد أن يخرج منه الحدث من شدة فزعه، وما أظن ذلك إلا تصحيفا. قوله: "فلما رجع أمية إلى أهله" أي امرأته "فقال يا أم صفوان" هي كنيتها، واسمها صفية ويقال كريمة بنت معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وهي من رهط أمية فأمية ابن عم أبيها، وقيل اسمها فاختة بنت الأسود. قوله: "ما قال لي سعد" وفي رواية إسرائيل "ما قال لي أخي اليثربي" ذكر الأخوة باعتبار ما كان بينهما من المؤاخاة في الجاهلية، ونسبه إلى يثرب وهو

(7/283)


اسم المدينة قبل الإسلام. قوله: "فقلت له: بمكة؟ قال: لا أدري. فقال أمية: والله لا أخرج من مكة" يؤخذ منه أن الأخذ بالمحتمل حيث يتحقق الهلاك في غيره أو يقوى الظن أولى. قوله: "فلما كان يوم بدر" زاد إسرائيل "وجاء الصريخ" وفيه إشارة إلى ما أخرجه ابن إسحاق كما تقدم قبل هذا الباب، وعرف أن اسم الصريخ ضمضم بن عمرو الغفاري، وذكر ابن إسحاق بأسانيده أنه لما وصل إلى مكة جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وصرخ: يا معشر قريش أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد، الغوث الغوث. قوله: "أدركوا عيركم" بكسر المهملة وسكون التحتانية أي القافلة التي كانت مع أبي سفيان. قوله: "انك من يراك الناس" في رواية الكشميهني وحده "متى ما يراك الناس" بزيادة "ما" وهي الزائدة الكافة عن العمل، وبحذفها كان حق الألف من "يراك" أن تحذف، لأن متى للشرط وهي تجزم الفعل المضارع، قال ابن مالك: يخرج ثبوت الألف على أن قوله: "يراك" مضارع راء بتقديم الألف على الهمزة وهي لغة في رأي قال الشاعر: إذا راءني أبدي بشاشة واصل ومضارعه يراء بمد ثم همز، فلما جزمت حذفت الألف ثم أبدلت الهمزة ألفا فصار يرا، وعلى أن متى شبهت بإذا فلم يجزم بها، وهو كقول عائشة الماضي في الصلاة في أبي بكر "متى يقوم مقامك" أو على إجراء المعتل مجرى الصحيح كقول الشاعر: ولا ترضاها ولا تملق أو على الإشباع كما قرئ "أنه من يتقي". قلت: ووقع في رواية الأصيلي: "متى يرك الناس" بحذف الألف وهو الوجه. قوله: "وأنت سيد أهل الوادي" أي وادي مكة، قد تقدم أن أمية وصف بها أبا جهل لما خاطب سعدا بقوله: "لا ترفع صوتك على أبي الحكم وهو سيد أهل الوادي" فتقارضا الثناء وكان كل منهما سيدا في قومه. قوله: "فلم يزل به أبو جهل" بين ابن إسحاق الصفة التي كاد بها أبو جهل أمية حتى خالف رأي نفسه في ترك الخروج من مكة فقال: "حدثني ابن أبي نجيح أن أمية بن خلف كان قد أجمع على عدم الخروج، وكان شيخا جسيما، فأتاه عقبة بن أبي معيط بمجمرة حتى وضعها بين يديه فقال: إنما أنت من النساء، فقال: قبحك الله". وكأن أبا جهل سلط عقبة عليه حتى صنع به ذلك، وكان عقبة سفيها. قوله: "لأشترين أجود بعير بمكة" يعني فأستعد عليه للهرب إذا خفت شيئا. قوله: "ثم قال أمية" في الكلام حذف تقديره: فاشترى البعير الذي ذكر ثم قال لامرأته. قوله: "لا يترك منزلا إلا عقل بعيره" في رواية الكشميهني: "ينزل" بنون وزاي ولام من النزول وهي أوجه من رواية غيره: "يترك" بمثناة وراء وكاف. قوله: "فلم يزل بذلك" أي على ذلك. قوله: "حتى قتله الله ببدر" تقدم في الوكالة حديث عبد الرحمن بن عوف في صفة قتله، وستأتي الإشارة إليه في هذه الغزوة. وذكر الواقدي أن الذي ولي قتله خبيب وهو بالمعجمة وموحدة مصغر، ابن إساف بكسر الهمزة ومهملة خفيفة الأنصاري. وقال ابن إسحاق: قتله رجل من بني مازن من الأنصار. وقال ابن هشام: يقال اشترك فيه معاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وخبيب المذكور. وذكر الحاكم في "المستدرك" أن رفاعة بن رافع طعنه بالسيف، ويقال قتله بلال. وأما ابنه علي بن أمية فقتله غمار. وفي الحديث معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة، وما كان عليه سعد بن معاذ من قوة النفس واليقين. وفيه أن شأن العمرة كان قديما، وأن الصحابة كان مأذونا لهم في الاعتمار من قبل أن يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الحج، والله أعلم.

(7/284)


3 - باب قِصَّةِ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [123- 126 آل عمران]:
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ

(7/284)


أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}
وَقَالَ وَحْشِيٌّ قَتَلَ حَمْزَةُ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى[7 الأنفال]: {وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} الْآيَةَ
3951- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلاَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ".
قوله: "قصة غزوة بدر" كذا للأكثر وثبت" باب" في رواية كريمة. قوله: "قول الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إلى {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} كذا للأكثر، وللأصيلي نحوه قال بعد قوله: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} : إلى قوله: {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} وساق الآيات كلها في رواية كريمة. قوله: "ببدر" هي قرية مشهورة نسبت إلى بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة كان نزلها، ويقال بدر بن الحارث، ويقال بدر اسم البئر التي بها، سميت بذلك لاستدارتها أو لصفاء مائها فكان البدر يرى فيها، وحكى الواقدي إنكار ذلك كله عن غير واحد من شيوخ بني غفار، وإنما هي مأوانا ومنازلنا وما ملكها أحد قط يقال له بدر، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد. قوله: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي قليلون بالنسبة إلى من لقيهم من المشركين، ومن جهة أنهم كانوا مشاة إلا القليل منهم، ومن جهة أنهم كانوا عارين من السلاح وكان المشركون على العكس من ذلك، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى تلقي أبي سفيان لأخذ ما معه من أموال قريش، وكان من معه قليلا فلم يظن أكثر الأنصار أنه يقع قتال فلم يجز معه منهم إلا القليل، ولم يأخذوا أهبة الاستعداد كما ينبغي، بخلاف المشركين فإنهم خرجوا مستعدين ذابين عن أموالهم. وأما قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} فاختلف فيها أهل التأويل، فمنهم من قال: هي متعلقة بقوله: {نَصَرَكُمُ} فعلى هذا هي في قصة بدر، وعليه عمل المصنف، وهو قول الأكثر وبه جزم الداودي، وأنكره ابن التين فذهل. وقيل هي متعلقة بقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} فعلى هذا فهي متعلقة بغزوة أحد وهو قول عكرمة وطائفة، ويؤيد الأول ما روى ابن أبي حاتم بسند صحيح إلى الشعبي" أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر يمد المشركين، فأنزل الله تعالى: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ} الآية قال يمد كرز المشركين ولم يمد المسلمين بالخمسة، ومن طريق سعيد عن قتادة قال: "أمد الله المسلمين بخمسة آلاف من الملائكة" وعن الربيع بن أنس قال: "أمد الله المسلمين يوم بدر بألف، ثم زادهم فصاروا ثلاثة آلاف ثم زادهم فصاروا خمسة آلاف" وكأنه جمع بذلك بين آل عمران والأنفال، وقد لمح المصنف بالاختلاف في

(7/285)


النزول فذكر قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} في غزوة أحد، وكذلك قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وذكر ما عدا ذلك في غزوة بدر وهو المعتمد. قوله: "فورهم: غضبهم" ثبت هكذا في رواية الكشميهني وهو قول عكرمة ومجاهد وروي عن ابن عباس.وقال الحسن وقتادة والسدي: معناه من وجههم. قوله: "وقال وحشي" أي ابن حرب "قتل حمزة" أي ابن عبد المطلب "طعيمة بن عدي بن الخيار يوم بدر" كذا وقع فيه: "ابن الخيار" وهو وهم وصوابه" ابن نوفل" وسأبين ذلك في الكلام على قصة مقتل حمزة في غزوة أحد إن شاء الله تعالى. قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} هذه الآية نزلت في قصة بدر بلا خلاف، بل جميع سورة الأنفال أو معظمها نزلت في قصة بدر، وسيأتي في تفسير قول سعيد بن جبير" قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر" والمراد بالطائفتين العير والنفير، فكان في العير أبو سفيان ومن معه كعمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل وما معه من الأموال، وكان في النفير أبو جهل وعتبة بن ربيعة وغيرهما من رؤساء قريش مستعدين بالسلاح متأهبين للقتال، وكان ميل المسلمين إلى حصول العير لهم، وهو المراد بقوله: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} والمراد بذات الشوكة الطائفة التي فيها السلاح. قوله: "الشوكة الحد" هو قول أبي عبيدة، قال في كتاب المجاز" ويقال ما أشد شوكة بني فلان أي حدهم، وكأنها استعارة من واحدة الشوك، وروى الطبراني وأبو نعيم في "الدلائل" من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس قال: "أقبلت عير لأهل مكة من الشام، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يريدها، فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا إليها وسبقت العير المسلمين، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين، وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم وأيسر شوكة وأخص مغنما من أن يلقوا النفير، فلما فاتهم العير نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بدرا فوقع القتال". ذكر المصنف طرفا من حديث كعب بن مالك في قصة توبته، وسيأتي في غزوة تبوك، والغرض منه هنا قوله: "ولم يعاتب أحد" وهو بفتح التاء على البناء للمجهول، ووقع في رواية الكشميهني: "ولم يعاتب الله أحدا" وقوله فيه: "إنما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش" أي ولم يرد القتال. وقوله: "حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد" أي ولا إرادة قتال. والعير المذكورة يقال كانت ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، وكان فيها ثلاثون رجلا من قريش وقيل أربعون وقيل ستون، وقوله: "غير أني تخلفت في غزوة بدر" وهو استثناء من المفهوم في قوله: "لم أتخلف إلا في تبوك" فإن مفهومه أني حضرت في جميع الغزوات ما خلا غزوة تبوك، والسبب في كونه لم يستثنهما معا بلفظ واحد كونه تخلف في تبوك مختارا لذلك مع تقدم الطلب ووقوع العتاب على من تخلف، بخلاف بدر في ذلك كله، فلذلك غاير بين التخلفين.

(7/286)


باب قول الله تعالى {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}
...
4 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى[9-12 الأنفال]
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ==

كتاب :23- فتح الباري
المؤلف : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني
(المتوفى : 852هـ)

 = آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
3952- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ شَهِدْتُ مِنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ مَشْهَدًا لاَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ} وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ يَعْنِي قَوْلَهُ"
[الحديث 3952-طرفه في:4609]
3953- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ بَدْرٍ اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ حَسْبُكَ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} "
قوله: "باب قول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} - إلى قوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} " كذا للأكثر، وساق في رواية كريمة الآيات كلها، وقد تقدمت الإشارة إليه في الذي قبله، والجمع أيضا بين قوله: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} وبين قوله: {ثَلاثَةِ آلافٍ} ، وأورد البخاري فيه حديثين: فقصة المقداد فيها بيان ما وقع قبل الوقعة، وحديث ابن عباس فيه بيان الاستغاثة. قوله: "عن مخارق" بضم الميم وتخفيف المعجمة هو ابن عبد الله بن جابر البجلي الأحمسي بمهملتين ويقال اسم أبيه عبد الرحمن ويقال خليفة، وهو كوفي ثقة عند الجميع يكنى أبا سعيد، ولم أر له رواية عن غير طارق وهو ابن شهاب وله رؤية. قوله: "شهدت من المقداد بن الأسود" تقدم أن اسم أبيه عمرو، وأن الأسود كان تبناه فصار ينسب إليه. قوله: "مما عدل به" بضم المهملة وكسر الدال المهملة أي وزن أي من كل شيء يقابل ذلك من الدنيويات، وقيل: من الثواب، أو المراد الأعم من ذلك، والمراد المبالغة في عظمة ذلك المشهد، وأنه كان لو خير بين أن يكون صاحبه وبين أن يحصل له ما يقابل ذلك كائنا ما كان لكان حصوله له أحب إليه، وقوله: "لأن أكون صاحبه" هو بالنصب. وفي رواية الكشميهني: "لأن أكون أنا صاحبه" ويجوز فيه الرفع والنصب، قال ابن مالك: النصب أجود. قوله: "وهو يدعو على المشركين" زاد النسائي في روايته: "جاء المقداد على فرس يوم بدر فقال: "وذكر ابن إسحاق أن هذا الكلام قاله المقداد لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم الصفراء وبلغه أن قريشا قصدت بدرا وأن أبا سفيان نجا بمن معه، فاستشار الناس، فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر كذلك، ثم المقداد فذكر نحو ما في حديث الباب وزاد: "فقال والذي بعثك بالحق لو سلكت بنا برك الغماد لجاهدنا معك من دونه. قال: فقال أشيروا علي. قال: فعرفوا أنه يريد الأنصار، وكان يتخوف أن لا يوافقوه لأنهم لم يبايعوه إلا على نصرته ممن يقصده لا أن يسير بهم إلى العدو، فقال له سعد بن معاذ: امض يا رسول الله لما أمرت به فنحن معك. قال فسره قوله ونشطه" وكذا ذكره موسى بن عقبة مبسوطا، وأخرجه ابن عائذ من طريق أبي الأسود عن عروة، وعند

(7/287)


ابن أبي شيبة من مرسل علقمة بن وقاص في نحو قصة المقداد" فقال سعد بن معاذ لئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى - فذكره وفيه - ولعلك خرجت لأمر فأحدث الله غيره، فامض لما شئت، وصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت" قال: وإنما خرج يريد غنيمة ما مع أبي سفيان فأحدث الله له القتال، وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي أيوب قال: "قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: إن ي أخبرت عن عير أبي سفيان، فهل لكم أن تخرجوا إليها لعل الله يغنمناها؟ قلنا: نعم، فخرجنا. فلما سرنا يوما أو يومين قال: قد أخبروا خبرنا فاستعدوا للقتال ، فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم، فأعاده، فقال له المقداد: لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ولكن نقول: إنا معكما مقاتلون. قال فتمنينا معشر الأنصار لو أنا قلنا كما قال المقداد. فأنزل الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} وأخرج ابن مردويه من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص عن أبيه عن جده نحوه لكن فيه أن معاذ هو الذي قال ما قال المقداد، والمحفوظ أن الكلام المذكور للمقداد كما في حديث الباب، وأن سعد بن معاذ إنما قال: "لو سرت بنا حتى تبلغ برك الغماد لسرنا معك" كذلك ذكره موسى بن عقبة. وعند ابن عائذ في حديث عروة" فقال سعد بن معاذ: لو سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن" ووقع في مسلم أن سعد بن عبادة هو الذي قال ذلك، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة، وفيه نظر لأن سعد بن عبادة لم يشهد بدرا، وإن كان يعد فيهم لكونه ممن ضرب له بسهمه كما سأذكره في آخر الغزوة، ويمكن الجمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم في غزوة بدر مرتين: الأولى وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبي سفيان، وذلك بين في رواية مسلم ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان" والثانية كانت بعد أن خرج كما في حديث الباب، ووقع عند الطبراني أن سعد بن عبادة قال ذلك بالحديبية، وهذا أولى بالصواب، وقد تقدم في الهجرة شرح برك الغماد، ودلت رواية ابن عائذ هذه على أنها من جهة اليمن، وذكر السهيلي أنه رأى في بعض الكتب أنها أرض الحبشة، وكأنه أخذه من قصة أبي بكر مع ابن الدغنة، فإن فيها أنه لقيه ذاهبا إلى الحبشة ببرك الغماد فأجاره ابن الدغنة كما تقدم في هذا الكتاب، ويجمع بأنها من جهة اليمن تقابل الحبشة وبينهما عرض البحر. قوله: "ولكنا نقاتل عن يمينك إلخ" وفي رواية سفيان عن مخارق "ولكن امض ونحن معك" وفي رواية محمد بن عمرو المذكورة "ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون" ولأحمد من حديث عتبة بن عبد بإسناد حسن "قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نقول كما قالت بنو إسرائيل، ولكن انطلق أنت وربك إنا معكم". قوله: "حدثنا عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي، وخالد هو الحذاء. قوله: "عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم" هذا من مراسيل الصحابة فإن ابن عباس لم يحضر ذلك، ولعله أخذه عن عمر أو عن أبي بكر، ففي مسلم من طريق أبي زميل بالزاي مصغر واسمه سماك بن الوليد عن ابن عباس قال: "حدثني عمر: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر، فاستقبل القبلة ثم مد يديه، فلم يزل يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه" الحديث، وعن سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهو في صلاته: اللهم لا تودع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تترني، اللهم

(7/288)


أنشدك ما وعدتني" ، وعند ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني" . قوله: "يوم بدر" زاد في رواية وهيب الآتية في التفسير عن خالد"وهو في قبة" والمراد بها العريش الذي اتخذه الصحابة لجلوس النبي صلى الله عليه وسلم فيه. قوله: "اللهم إني أنشدك" بفتح الهمزة وسكون النون والمعجمة وضم الدال، أي أطلب منك. وعند الطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: "ما سمعنا مناشدا ينشد ضالة أشد مناشدة من محمد لربه يوم بدر: "اللهم إني أنشدك ما وعدتني" قال السهيلي: سبب شدة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ونصبه في الدعاء لأنه رأى الملائكة تنصب في القتال، والأنصار يخوضون غمار الموت، والجهاد تارة يكون بالسلاح وتارة بالدعاء، ومن السنة أن يكون الإمام وراء الجيش لأنه لا يقاتل معهم فلم يكن ليريح نفسه، فتشاغل بأحد الأمرين وهو الدعاء. قوله: "اللهم إن شئت لم تعبد" في حديث عمر " اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" . أما "تهلك" فبفتح أوله وكسر اللام، و "العصابة" بالرفع، وإنما قال ذلك لأنه علم أنه خاتم النبيين فلو هلك هو ومن معه حينئذ لم يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان، ولاستمر المشركون يعيدون غير الله، فالمعني لا يعبد في الأرض بهذه الشريعة. ووقع عند مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام أيضا يوم أحد، وروى النسائي والحاكم من حديث علي قال: "قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: يا حي يا قيوم ، فرجعت فقاتلت، ثم جئت فوجدته كذلك". قوله: "فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك" زاد في رواية وهيب عن خالد كما سيأتي في التفسير" قد ألححت على ربك" وكذا أخرجه الطبراني عن عثمان عن عبد الوهاب الثقفي عن أبيه، زاد في رواية مسلم المذكورة" فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية، فأمده الله بالملائكة" ا هـ. وعرف بهذه الزيادة مناسبة الحديث للترجمة. وقوله في رواية مسلم: "كذاك" وهو بالذال المعجمة وهو بمعني كفاك، قال قاسم بن ثابت "كذاك" يراد بها الإغراء والأمر بالكف عن الفعل وهو المراد هنا، ومنه قول الشاعر: كذاك القول إن عليك عيبا أي حسبك من القول فاتركه ا هـ وقد أخطأ من زعم أنه تصحيف وأن الأصل كفاك. قال الخطابي: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال؛ بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، لأنه كان أول مشهد شهده، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك، لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقب بقوله. {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} انتهى ملخصا. وقال غيره: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا. هذا الذي يظهر، وزل من لا علم عنده ممن ينسب إلى الصوفية في هذا الموضع زللا شديدا فلا يلتفت إليه، ولعل الخطابي أشار إليه. قوله: "فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وفي رواية أيوب عن عكرمة عن ابن عباس" لما نزلت: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} قال عمر: أي جمع يهزم؟ قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدروع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} أخرجه الطبري وابن مردويه. وله من حديث أبي هريرة عن عمر" لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله أي جمع

(7/289)


يهزم "؟ فذكر نحوه، وهذا مما يؤيد ما قدمته أن ابن عباس حمل هذا الحديث عن عمر، وسيأتي في التفسير عن عائشة" نزلت بمكة وأنا جارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} الآية".

(7/290)


باب قول الله تعالى {لا يستوي القاعدون} عن بدر
...
5- باب
3954- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ "أَنَّهُ سَمِعَ مِقْسَمًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَى بَدْرٍ"
[الحديث 3954- طرفه في: 4595]
قوله: "باب" كذا للجميع بغير ترجمة، ووقع في شرح شيخنا ابن الملقن "باب فضل من شهد بدرا" وتبع في ذلك بعض النسخ، وهو خطأ من جهة أن هذه الترجمة بعينها ستأتي فيما بعد، فلا معنى لتكررها. قوله: "أخبرني عبد الكريم" هو الجزري، بينه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج قال: "حدثني عبد الكريم الجزري" انتهى. وفي طبقته ممن يروي عن مقسم ويروي عنه ابن جريج عبد الكريم بن أبي المخارق أحد الضعفاء، ولم يخرج له البخاري شيئا مسندا، ومقسم بكسر الميم هو أبو القاسم مولى ابن عباس وهو في الأصل مولى عبد الله بن الحارث الهاشمي، وإنما قيل له مولى ابن عباس لشدة لزومه له، وما له في البخاري إلا هذا الحديث الواحد، وسيأتي شرحه في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى.

(7/290)


6 - باب عِدَّةِ أَصْحَابِ بَدْرٍ
3955- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ "اسْتُصْغِرْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ ...."
[الحديث 3955- طرفه في: 3956]
3956- وحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا وَهْبٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ "اسْتُصْغِرْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ نَيِّفًا عَلَى سِتِّينَ وَالأَنْصَارُ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ"
3957- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ "سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ حَدَّثَنِي أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا أَنَّهُمْ كَانُوا عِدَّةَ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَازُوا مَعَهُ النَّهَرَ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَ مِائَةٍ قَالَ الْبَرَاءُ لاَ وَاللَّهِ مَا جَاوَزَ مَعَهُ النَّهَرَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ"
[الحديث3957- طرفاه في: 3959,3958]
3958- حدثني عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال"كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر, ولم يجاوز معه إلا مؤمن, بضعة عشر وثلاثمائة"

(7/290)


7 - باب دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ
"شَيْبَةَ وَعُتْبَةَ وَالْوَلِيدِ وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَهَلاَكِهِمْ"

(7/292)


3960- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ فَدَعَا عَلَى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَأَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى قَدْ غَيَّرَتْهُمْ الشَّمْسُ وَكَانَ يَوْمًا حَارًّا"
قوله: "باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على كفار قريش". قوله: "شيبة بن ربيعة" مجرور بالفتح على البدل وكذا عتبة. قوله: "وأبي جهل بن هشام وهلاكهم" المراد دعاؤه صلى الله عليه وسلم السابق وهو بمكة، وقد مضى بيانه في كتاب الطهارة حيث أورده المصنف من حديث ابن مسعود المذكور في هذا الباب بأتم منه سياقا، وأورده في الطهارة لقصة سلى الجزور ووضعه على ظهر المصلي فلم تفسده صلاته، وفي الصلاة مستدلا به على أن ملاصقة المرأة في الصلاة لا تفسدها، وفي الجهاد في" باب الدعاء على المشركين" وفي الجزية مستدلا به على أن جيف المشركين لا يفادى بها، وفي المبعث في" باب ما لقي المسلمون من المشركين بمكة". قوله في هذه الرواية: "فأشهد بالله" أي أقسم، وإنما حلف على ذلك مبالغة في تأكيد خبره "قد غيرتهم الشمس" أي غيرت ألوانهم إلى السواد، أو غيرت أجسادهم بالانتفاخ، وقد بين سبب ذلك بقوله: "وكان يوما حارا".

(7/293)


8 - باب قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ
3961- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا قَيْسٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ أَتَى أَبَا جَهْلٍ وَبِهِ رَمَقٌ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ هَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ"
3962- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ح و حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ قَالَ أَأَنْتَ أَبُو جَهْلٍ قَالَ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ قَالَ وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ أَوْ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ"؟ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ "أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟"
[الحديث 3962 طرفاه في: 4020و3963]
3963- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ بَدْرٍ مَنْ يَنْظُرُ مَا فَعَلَ أَبُو جَهْلٍ فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَقَالَ أَنْتَ أَبَا جَهْلٍ قَالَ وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ أَوْ قَالَ قَتَلْتُمُوهُ" حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ نَحْوَهُ

(7/293)


3964- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَتَبْتُ عَنْ يُوسُفَ بْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي بَدْرٍ يَعْنِي حَدِيثَ ابْنَيْ عَفْرَاءَ.
"تنبيه": ثبتت هذه الترجمة للأكثر، وسقطت لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، وثبوتها أوجه إذ لا تعلق لحديثها بباب عدة أهل بدر، وثبت لغير أبي ذر عقب حديثها" باب قتل أبي جهل بن هشام" وسقط لأبي ذر، وهو أوجه لأن فيه ذكر هلاك غير أبي جهل فهو لائق بالترجمة المذكورة، والله أعلم. وعلى هذا فقد اشتملت الترجمة على ثلاثة عشر حديثا: قوله: "حدثنا ابن نمير" هو محمد بن عبد الله بن نمير؛ ولم يدرك البخاري أباه، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، والإسناد كله كوفيون. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود. قوله: "أنه أتى أبا جهل" وبه رمق، كأن أبا جهل قد ضرب في المعركة بالسيوف حتى خر صريحا كما سيأتي بيانه. قوله: "فقال أبو جهل هل أعمد" في الكلام حذف تقديره فكلمه أي بكلام تشفى منه فأجابه بذلك، ووقع بيان دلك في رواية عمرو بن ميمون عند الطبراني عن ابن مسعود قال: "أدركت أبا جهل يوم بدر صريعا، فقلت أي عدو الله قد أخزاك الله قال: وبما أخزاني من رجل قتله قومه" الحديث وهذا تفسير المراد بقوله: "هل أعمد من رجل قتله قومه" وأعمد بالمهملة أفعل تفضيل من عمد أي هلك، يقال عمد البعير يعمد عمدا بالتحريك إذا ورم سنامه من عض القتب فهو عميد، ويكنى بذلك عن الهلاك، وقيل: هو أن يكون سنامه وارما فيحمل عليه الشيء الثقيل فيكسره فيموت فيه شحمه، وقيل معنى أعمد أعجب، وقيل: بمعنى أغضب، وقيل: معناه هل زاد على سيد قتله قومه قاله أبو عبيدة. قال: وكان أبو عبيدة يحكي عن العرب أعمد من كل محق أي هل زاد على مكيال نقص كيله، وأنشد ذلك:
وأعمد من قوم كفاهم أخوهم ... صدام الأعادي حين قلت بيوتها
أي لا زيادة على فعلنا فإننا كفينا إخواننا أعاديهم. وفي" مغازي أحمد بن محمد بن أيوب" قلت لابن إسحاق: ما أعمد من رجل؟ قال: يقول هل هو إلا رجل قتلتموه. ورجح السهيلي الأول. ويؤيد تفسير أبي عبيدة ما وقع في حديث أنس بعده بلفظ: "وهل فوق رجل قتلتموه" ووقع في رواية الكشميهني في حديث ابن مسعود "أغدر" بدل أعمد فإن ثبت فلا إشكال فيه. قوله: "أن أنسا حدثهم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم" وقع في رواية الإسماعيلي من طريق يحيى القطان عن سليمان التيمي أن أنسا سمعه من ابن مسعود ولفظه عن أنس "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يوم بدر: من يأتينا بخبر أبي جهل؟ قال - يعني ابن مسعود - فانطلقت، فإذا ابنا عفراء قد اكتنفاه فضرباه، فأخذت بلحيته" الحديث. قوله: "فانطلق ابن مسعود" وفي رواية ابن خزيمة ومن طريقه أبو نعيم في المستخرج "فقال ابن مسعود أنا، فانطلق". قوله: "ابنا عفراء" هما معاذ ومعوذ كما سيأتي بيانه. قوله: "حتى برد" بفتح الموحدة والراء أي مات، هكذا فسروه، ووقع في رواية السمرقندي في مسلم: "حتى برك" بكاف بدل الدال أي سقط، وكذا هو عند أحمد عن الأنصاري عن التيمي، قال عياض: وهذه الرواية أولى، لأنه قد كلم ابن مسعود، فلو كان مات كيف كان يكلمه؟ انتهى. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "حتى برد" أي صار في حالة من مات، ولم يبق فيه سوى حركة المذبوح، فأطلق عليه باعتبار ما سيئول إليه، ومنه قولهم للسيوف بوارد أي قواتل، وقيل لمن قتل

(7/294)


بالسيف برد أي أصابه متن الحديد لأن طبع الحديد البرودة، وقيل: معنى قوله برد أي فتر وسكن، يقال جد في الأمر حتى برد أي فتر، وبرد النبيذ أي سكن غليانه. قوله: "قتلتموه، أو رجل قتله قومه" شك من الراوي، بينه ابن علية عن سليمان التيمي وأن الشك من التيمي كما سيأتي في أواخر الغزوة. وفيه من الزيادة "قال سليمان - أي التيمي - قال أبو مجلز" هو التابعي المشهور" قال أبو جهل: فلو غير أكار قتلني" هذا مرسل والأكار بتشديد الكاف الزراع، وعني بذلك أن الأنصار أصحاب زرع فأشار إلى تنقيص من قتله منهم بذلك. ووقع في رواية مسلم: "لو غيرك كان قتلني" وهو تصحيف. قوله: "أنت أبا جهل" كذا للأكثر، وللمستملي وحده" أنت أبو جهل" والأول هو المعتمد في حديث أنس هذا، فقد صرح إسماعيل بن علية عن سليمان التيمي بأنه هكذا نطق بها أنس، وسيأتي ذلك في أواخر غزوة بدر ولفظه: "فقال أنت أبا جهل" قال ابن علية قال سليمان: هكذا قالها أنس، قال: "أنت أبا جهل" انتهى. وقد أخرجه ابن خزيمة ومن طريقه أبو نعيم عن محمد بن المثني شيخ البخاري فيه فقال فيه: "أنت أبو جهل" وكأنه من إصلاح بعض الرواة، وكذلك نطق بها يحيى القطان أخرجه الإسماعيلي من طريق المقدمي عن يحيى القطان عن التيمي فذكر الحديث وفيه: "قال أنت أبا جهل" قال المقدمي: هكذا قالها يحيى القطان. وقد وجهت الرواية المذكورة بالحمل على لغة من يثبت الألف في الأسماء الستة في كل حالة كقوله: "إن أباها وأبا أباها" وقيل: هو منصوب بإضمار أعني، وتعقبه ابن التين بأن شرط هذا الإضمار أن تكثر النعوت. وقال الداودي: كأن ابن مسعود تعمد اللحن ليغيظ أبا جهل كالمصغر له، وما أبعد ما قال، وقيل: إن قوله أنت مبتدأ محذوف الخبر، وقوله أبا جهل - منادي محذوف الأداة، والتقدير أنت المقتول يا أبا جهل، وخاطبه بذلك مقرعا له ومتشفيا منه لأنه كان يؤذيه بمكة أشد الأذى. وفي حديث ابن عباس عند ابن إسحاق والحاكم" قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق، فوضعت رجلي على عنقه فقلت: أخزاك الله يا عدو الله، قال: وبما أخزاني؟ هل أعمد رجل قتلتموه" قال وزعم رجال من بني مخزوم أنه قال له: "لقد ارتقيت يا رويع الغنم مرتقى صعبا" قال: "ثم احتززت رأسه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال: والله الذي لا إله إلا هو؟ فحلف له" وفي زيادة المغازي رواية يونس بن بكير من طريق الشعبي عن عبد الرحمن بن عوف نحو الحديث الذي بعده وفيه: "فحلف له، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم انطلق حتى أتاه فقام عنده فقال: الحمد لله الذي أعز الإسلام وأهله "ثلاث مرات". قوله: "حدثنا سليمان" هو التيمي المذكور قبل. قوله: "أخبرنا أنس بن مالك نحوه" قد ساق ابن خزيمة ومن طريقه أبو نعيم لفظه فأخرجه عن محمد من المثني شيخ البخاري فيه بلفظ: "فقال ابن مسعود أنا يا نبي الله" وقال فيه: "قال فأخذت بلحيته" والباقي مثله. وقوله: "قال فأخذت بلحيته" يؤيد الرواية الماضية للإسماعيلي من طريق يحيى القطان، فإن أنسا أخذه عن ابن مسعود. قوله: "حدثنا علي بن عبد الله" هو ابن المديني. قوله: "كتبت عن يوسف بن الماجشون" ظاهره أنه كتبه عنه ولم يسمعه منه، وقد تقدم في الخمس مطولا عن مسدد عن يوسف. قوله: "عن صالح بن إبراهيم عن أبيه" هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. قوله: "عن جده في بدر" أي في قصة غزوة بدر. قوله: "يعني حديث ابني عفراء" أي الحديث المقدم ذكره في الخمس عن مسدد عن يوسف بن الماجشون بهذا الإسناد مطولا، وسيأتي في "باب شهود الملائكة بدرا" من وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ملخصا، وحاصله أن كلا من ابني عفراء سأل عبد الرحمن بن عوف فدلهما عليه فشدا عليه فضرباه

(7/295)


حتى قتلاه، وفي آخر حديث مسدد" وهما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ ابن عفراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نظر في سيفيهما وقال: كلاكما قتله ، وأنه قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح" انتهى. وعفراء والدة معاذ، واسم أبيه الحارث، وأما ابن عمرو بن الجموح فليس اسم أمه عفراء وإنما أطلق عليه تغليبا، ويحتمل أن تكون أم معوذ أيضا تسمى عفراء أو أنه لما كان لمعوذ أخ يسمى معاذا باسم الذي شركه في قتل أبي جهل ظنه الراوي أخاه، وقد أخرج الحاكم من طريق ابن إسحاق" حدثني ثور بن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس، قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: قال معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعتهم يقولون وأبو جهل في مثل الجرحة: أبو جهل بن الحكم لا يخلص إليه، فجعلته من شأني فعمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي" قال: ثم عاش معاذ إلى زمن عثمان. قال: ومر بأبي جهل معوذ ابن عفراء فضربه حتى أثبته وبه رمق، ثم قاتل معوذ حتى قتل، فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل فوجده بآخر رمق" فذكر ما تقدم. فهذا الذي رواه ابن إسحاق يجمع بين الأحاديث، لكنه يخالف ما في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه رأى معاذا ومعوذا شدا عليه جميعا حتى طرحاه، وابن إسحاق يقول: إن ابن عفراء هو معوذ، وهو بتشديد الواو، والذي في الصحيح معاذ وهما أخوان، فيحتمل أن يكون معاذ ابن عفراء شد عليه مع معاذ بن عمرو كما في الصحيح وضربه بعد ذلك معوذ حتى أثبته ثم حز رأسه ابن مسعود، فتجمع الأقوال كلها، وإطلاق كونهما قتلاه يخالف في الظاهر حديث ابن مسعود أنه وجده وبه رمق، وهو محمول على أنهما بلغا به بضربهما إياه بسيفيهما منزلة المقتول حتى لم يبق به إلا مثل حركة المذبوح، وفي تلك الحالة لقيه ابن مسعود فضرب عنقه، والله أعلم. وأما ما وقع عند موسى بن عقبة وكذا عند أبي الأسود عن عروة أن ابن مسعود وجد أبا جهل مصروعا بينه وبين المعركة غير كثير متقنعا في الحديد واضعا سيفه على فخذه لا يتحرك منه عضو، وظن عبد الله أنه ثبت جراحا فأتاه من ورائه فتناول قائم سيف أبي جهل فاستله ورفع بيضة أبي جهل عن قفاه فضربه فوقع رأسه بين يديه، فيحمل على أن ذلك وقع له بعد أن خاطبه بما تقدم، والله أعلم.
3965- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ "أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيْ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ وَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ: هُمْ الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَعُبَيْدَةُ أَوْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْحَارِثِ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ"
[الحديث 3965- طرفاه في: 4744,3967]
3966- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَزَلَتْ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} فِي سِتَّةٍ مِنْ قُرَيْشٍ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ
[الحديث 3966- أطرافه في:4743,3969,3968]

(7/296)


3967- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصَّوَّافُ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ كَانَ يَنْزِلُ فِي بَنِي ضُبَيْعَةَ وَهُوَ مَوْلًى لِبَنِي سَدُوسَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ: "قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [19 الحج]
3968- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ "سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقْسِمُ لَنَزَلَتْ هَؤُلاَءِ الْآيَاتُ فِي هَؤُلاَءِ الرَّهْطِ السِّتَّةِ يَوْمَ بَدْرٍ......" نَحْوَهُ
3969- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو هَاشِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ "سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يُقْسِمُ قَسَمًا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ"
3970- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّلُولِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ "سَأَلَ رَجُلٌ الْبَرَاءَ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ أَشَهِدَ عَلِيٌّ بَدْرًا قَالَ بَارَزَ وَظَاهَرَ"
الحديث الخامس والسادس حديث علي وأبي ذر في المبارزة، أورده من طرق. وأبو مجلز بكسر الميم وسكون الجيم وفتح اللام بعدها زاي هو لاحق بن حميد، تابعي وكذا شيخه والراوي عنه - وقيس بن عباد بضم المهملة وتخفيف الموحدة تقدم في مناقب عبد الله بن سلام، وليس له في البخاري سوى ذلك الحديث وحديث الباب مع الاختلاف عليه هل هو عن علي أو أبي ذر، والذي يظهر أنه سمعه من كل منهما، ويدل عليه اختلاف السياقين. قوله: "من يجثو" بالجيم والمثلثة أي يقعد على ركبتيه مخاصما، والمراد بهذه الأولية تقييده بالمجاهدين من هذه الأمة، لأن المبارزة المذكورة أول مبارزة وقعت في الإسلام. قوله: "وقال قيس" هو ابن عباد المذكور، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "وفيهم أنزلت" هكذا وقع في رواية معتمر بن سليمان عن أبيه مرسلا، ووقع في رواية يوسف بن يعقوب بعدها عن سليمان التيمي عن أبي مجلز عن قيس قال: "قال علي: فينا نزلت: وسيأتي في تفسير الحج أن منصورا رواه عن أبي هاشم عن أبي مجلز فوقفه عليه. حديث علي وأبي ذر في المبارزة، أورده من طرق. وأبو مجلز بكسر الميم وسكون الجيم وفتح اللام بعدها زاي هو لاحق بن حميد، تابعي وكذا شيخه والراوي عنه - وقيس بن عباد بضم المهملة وتخفيف الموحدة تقدم في مناقب عبد الله بن سلام، وليس له في البخاري سوى ذلك الحديث وحديث الباب مع الاختلاف عليه هل هو عن علي أو أبي ذر، والذي يظهر أنه سمعه من كل منهما، ويدل عليه اختلاف السياقين. قوله: "في ستة من قريش" يعني ثلاثة من المسلمين من بني عبد مناف: اثنين من بني هاشم، وواحد من بني المطلب. وثلاثة من المشركين من بني عبد شمس بن عبد مناف. قوله: "علي وحمزة" أي ابن عبد المطلب بن هاشم وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب. قوله: "وشيبة بن ربيعة" أي ابن عد شمس، وعتبة هو أخوه، والوليد بن عتبة ولده. ولم يقع في هذه الرواية تفصيل المبارزين. وذكر ابن إسحاق أن عبيدة بن الحارث وعتبة بن ربيعة كانا أسن القوم، فبرز عبيدة لعتبة، وحمزة لشيبة، وعلي للوليد. وعند موسى بن عقبة: برز حمزة لعتبة، وعبيدة لشيبة، وعلي للوليد. ثم اتفقا فقتل علي الوليد، وقتل حمزة الذي بارزه، واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين فوقعت الضربة في ركبة عبيدة فمات منها لما رجعوا بالصفراء، ومال حمزة وعلي إلى الذي بارز عبيدة فأعاناه على قتله. وعند الحاكم من طريق عبد خير عن علي مثل قول موسى بن عقبة، وعند الأسود عن عروة مثله. وأورد ابن سعد من طريق عبيدة السلماني أن شيبة لحمزة

(7/297)


وعبيدة لعتبة وعليا للوليد، ثم قال الليث: إن عتبة لحمزة وشيبة لعبيدة ا هـ. قال بعض من لقيناه: اتفقت الروايات على أن عليا للوليد، وإنما اختلفت في عتبة وشيبة أيهما لعبيدة وحمزة، والأكثر على أن شيبة لعبيدة. قلت: وفي دعوى الاتفاق نظر، فقد أخرج أبو داود من طريق حارثة بن مضرب عن علي قال: "تقدم عتبة وتبعه ابنه وأخوه، فانتدب له شباب من الأنصار، فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة . فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة" قلت: وهذا أصح الروايات، لكن الذي في السير من أن الذي بارزه علي هو الوليد هو المشهور وهو اللائق بالمقام، لأن عبيدة وشيبة كانا شيخين كعتبة وحمزة، بخلاف علي والوليد فكانا شابين. وقد روى الطبراني بإسناد حسن عن علي قال: "أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد بن عتبة، فلم يعب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك علينا" وهذا موافق لرواية أبي داود، فالله أعلم. وفي الحديث جواز المبارزة خلافا لمن أنكرها كالحسن البصري. وشرط الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق للجواز إذن الأمير على الجيش، وجواز إعانة المبارز رفيقه، وفيه فضيلة ظاهرة لحمزة وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم. قوله: "حدثنا يوسف بن يعقوب كان ينزل في بني ضبيعة" بالمعجمة والموحدة مصغر. قوله: "وهو مولى لبني سدوس" قلت: ولذلك كان يقال له السدوسي تارة والضبعي تارة، وكان يقال له السلعي بمهملتين ولام ساكنة وقد تحرك ويقال له أيضا صاحب السلعة نسب إلى سلعة كانت بقفاه، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث. قوله: "فينا نزلت هذه الآية: هذان خصمان اختصموا في ربهم" هكذا أورده مختصرا، وأورده الإسماعيلي عن ابن صاعد عن هلال بن بشر عن يوسف بن يعقوب المذكور بلفظ: "فينا نزلت هذه الآية، وفي مبارزتنا يوم بدر" وأخرجه من وجه آخر عن سليمان التيمي بلفظ: "في الذين برزوا يوم بدر في الفريقين" وسماهم. قوله في طريق وكيع عن سفيان "في هؤلاء الرهط الستة يوم بدر نحوه" الضمير يعود إلى سياق قبيصة عن سفيان، ويوضح ذلك ما أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن وكيع، فإنه ذكر الباب هنا وزاد تسمية الستة، وعنده من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الذين اختصموا في يوم بدر. قوله: "حدثنا يعقوب بن إبراهيم" زاد أبو ذر في روايته: "الدورقي" الحديث السابع: حديث البراء بن عازب. قوله: "إسحاق بن منصور السلولي" وإبراهيم بن يوسف هو ابن أبي إسحاق السبيعي. قوله: "سأل رجل" لم أقف على اسمه، ويحتمل أن يكون هو الراوي فأبهم اسمه. قوله: "أشهد" بهمزة الاستفهام. قوله: "وبارز وظاهر" بلفظ الفعل الماضي فيهما، وقد تقدم حديث المبارزة في الذي قبله، وقوله: "ظاهر" أي لبس درعا على درع، وقوله في الجواب "قال بارز وظاهر" فيه حذف تقديره: قال نعم شهد، فإنه بارز فيها وظاهر. ووقع في رواية الإسماعيلي: "أشهد علي بدرا؟ قال حقا". "تنبيه": حديث البراء هذا من مراسيل الصحابة لأنه لم يشهد بدرا، فكأنه تلقى ذلك عمن شهدها من الصحابة أو سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك.
3971- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني يوسف بن الماجشون عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحن بن عوف عن أبيه عن جده عبد الرحمن قال "كاتبت أمية بن خلف, فلما كان يوم بدر – فذكر قتله وقتل إبنه – فقال بلال: لانجوت إن نجا أمية".

(7/298)


3972- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ {وَالنَّجْمِ} فَسَجَدَ بِهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ أَنَّ شَيْخًا أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ فَقَالَ يَكْفِينِي هَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا".
3973- أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ كَانَ
فِي الزُّبَيْرِ ثَلاَثُ ضَرَبَاتٍ بِالسَّيْفِ إِحْدَاهُنَّ فِي عَاتِقِهِ قَالَ إِنْ كُنْتُ لاَدْخِلُ أَصَابِعِي فِيهَا قَالَ ضُرِبَ ثِنْتَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ وَوَاحِدَةً يَوْمَ الْيَرْمُوكِ قَالَ عُرْوَةُ وَقَالَ لِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ حِينَ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَا عُرْوَةُ هَلْ تَعْرِفُ سَيْفَ الزُّبَيْرِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَمَا فِيهِ قُلْتُ فِيهِ فَلَّةٌ فُلَّهَا يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ صَدَقْتَ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى عُرْوَةَ قَالَ هِشَامٌ فَأَقَمْنَاهُ بَيْنَنَا ثَلاَثَةَ آلاَفٍ وَأَخَذَهُ بَعْضُنَا وَلَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ أَخَذْتُهُ"
3974- حَدَّثَنَا فَرْوَةُ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ سَيْفُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ مُحَلًّى بِفِضَّةٍ قَالَ هِشَامٌ "وَكَانَ سَيْفُ عُرْوَةَ مُحَلًّى بِفِضَّةٍ"
3975- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِلزُّبَيْرِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَلاَ تَشُدُّ فَنَشُدَّ مَعَكَ فَقَالَ إِنِّي إِنْ شَدَدْتُ كَذَبْتُمْ فَقَالُوا لاَ نَفْعَلُ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى شَقَّ صُفُوفَهُمْ فَجَاوَزَهُمْ وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ ثُمَّ رَجَعَ مُقْبِلًا فَأَخَذُوا بِلِجَامِهِ فَضَرَبُوهُ ضَرْبَتَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ بَيْنَهُمَا ضَرْبَةٌ ضُرِبَهَا يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ عُرْوَةُ كُنْتُ أُدْخِلُ أَصَابِعِي فِي تِلْكَ الضَّرَبَاتِ أَلْعَبُ وَأَنَا صَغِيرٌ قَالَ عُرْوَةُ وَكَانَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلًا"
قوله:الحديث الثامن "عن الأسود" هو ابن يزيد. قوله: "أنه قرأ والنجم" تقدم الكلام عليه في سجود القرآن وفي المبعث، ويأتي في تفسير سورة النجم التصريح بأن المراد بقول ابن مسعود "فلقد رأيته بعد قتل كافرا" أمية بن خلف، وبه يعرف مناسبته للترجمة. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة. قوله: "كان في الزبير ثلاث ضربات بالسيف إحداهن في عاتقه" تقدم في مناقب الزبير من طريق عبد الله بن المبارك عن هشام أن الضربات الثلاث كن في عاتقه، وكذا هو في الرواية التي بعد هذه. قوله: "أصابعي فيها" في رواية الكشميهني: "فيهن" زاد في المناقب وفي الرواية التي بعدها "ألعب وأنا صغير". قوله: "ضرب ثنتين يوم بدر وواحدة يوم اليرموك" في رواية ابن المبارك أنه ضرب يوم اليرموك ضربتين على عاتقه وبينهما ضربة ضربها يوم بدر، فإن كان اختلافا على هشام فرواية ابن المبارك أثبت لأن في حديث معمر عن هشام مقالا، وإلا فيحتمل أن يكون فيه في غير عاتقه ضربتان أيضا فيجمع بذلك بين الخبرين. ووقعة اليرموك كانت أول خلافة عمر بين المسلمين والروم بالشام سنة

(7/299)


ثلاث عشر وقيل: سنة خمسة عشر، ويؤيد الأول قوله في الحديث الذي بعده إن سن عبد الله بن الزبير كان عشر سنين، واليرموك - بفتح التحتانية وبضمها أيضا وسكون الراء - موضع من نواحي فلسطين، ويقال إنه نهر، والتحرير أنه موضع بين أذرعات ودمشق كانت به الواقعة المشهورة، وقتل في تلك الوقعة من الروم سبعون ألفا في مقام واحد، لأنهم كانوا سلسلوا أنفسهم لأجل الثبات، فلما وقعت عليهم الهزيمة قتل أكثرهم، وكان اسم أمير الروم من قبل هرقل باهان أوله موحدة ويقال ميم، وكان أبو عبيدة الأمير على المسلمين يومئذ، ويقال إنه شهدها من أهل بدر مائة نفس والله أعلم. قوله في الرواية الأولى "قال عروه وقال لي عبد الملك إلخ" هو موصول بالإسناد المذكور، وكان عروة مع أخيه عبد الله بن الزبير لما حاصره الحجاج بمكة، فلما قتل عبد الله أخذ الحجاج ما وجده له فأرسل به إلى عبد الملك، فكان من ذلك سيف الزبير الذي سأل عبد الملك عروة عنه، وخرج عروة إلى عبد الملك بن مروان بالشام. قوله: "فلة" بفتح الفاء "فلها" بضم الفاء، أي كسرت قطعة من حده. قوله: "قال صدقت، بهن فلول من قراع الكتائب" هذا شطر من بيت مشهور من قصيدة مشهورة للنابغة الذبياني وأولها:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
يقول فيها:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وهو من المدح في معرض الذم، لأن الفل في السيف نقص حسي، لكنه لما كان دليلا على قوة ساعد صاحبه كان من جملة كماله. قوله: "قال هشام" هو ابن عروة وهو موصول أيضا، وقوله: "فأقمناه" أي ذكرنا قيمته، تقول قومت الشيء وأقمته أي ذكرت ما يقوم مقامه من الثمن. قوله: "وأخذه بعضنا" أي بعض الورثة، وهو عثمان بن عروة أخو هشام، وقوله: "ولوددت إلخ" هو من كلام هشام. قوله: "حدثني فروة" هو ابن مغراء بفتح الميم وسكون المعجمة ممدود، وعلي هو ابن مسهر، وهشام هو ابن عروة. وقوله محلى بالمهملة وتشديد اللام من الحلية.
3976- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعَ رَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ "ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَلَمَّا

(7/300)


كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلاَّ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ يَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ وَيَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالَ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لاَ أَرْوَاحَ لَهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ قَالَ قَتَادَةُ أَحْيَاهُمْ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا"
3977- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} قَالَ هُمْ وَاللَّهِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالَ عَمْرٌو هُمْ قُرَيْشٌ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَةُ اللَّهِ {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} قَالَ النَّارَ يَوْمَ بَدْرٍ
[الحديث 3977- طرفه في:4700]
3978- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ فَقَالَتْ وَهَلَ إِنَّمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ"
3979- قَالَتْ وَذَاكَ مِثْلُ قَوْلِهِ "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ إِنَّمَا قَالَ إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ ثُمَّ قَرَأَتْ [80 النمل] {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} يَقُولُ حِينَ تَبَوَّءُوا مَقَاعِدَهُمْ مِنْ النَّارِ"
3981,3980- حدثنا عثمان حدثنا عبدة عن هسام عن أبيه عن بن عمر رضي الله عنهما قال "وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: هل وجدثم ما وعد ربكم حقا؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول . فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق .ثم قرأت {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} حتى قرأت الآية".
الحديث الحادي عشر قوله: "حدثني عبد الله بن محمد" هو الجعفي.قوله: "سمع روح بن عبادة "أي أنه سمع، ولفظة "أنه" تحذف خطا كما حذفت قال من قوله حدثنا سعيد. قوله: "ذكر لنا أنس بن مالك" فيه تصريح لقتادة وهو من رواية صحابي عن صحابي: أنس عن أبي طلحة، وقد رواه شيبان عن قتادة فلم يذكر أبا طلحة أخرجه أحمد

(7/301)


ورواية سعيد أولى، وكذا أخرجه مسلم من طريق حماد بن مسلمة عن ثابت عن أنس بغير ذكر أبي طلحة. قوله: "بأربعة وعشرين رجلا من صناديد" بالمهملة والنون جمع صنديد بوزن عفريت وهو السيد الشجاع، ووقع عند ابن عائذ عن سعيد بن بشير عن قتادة "ببضعة وعشرين" وهي لا تنافي رواية الباب لأن البضع يطلق على الأربع أيضا، ولم أقف على تسمية هؤلاء جميعهم، بل سيأتي تسمية بعضهم، ويمكن إكمالهم مما سرده ابن إسحاق من أسماء من قتل من الكفار ببدر بأن يضيف على من كان يذكر منهم بالرياسة ولو بالتبعية لأبيه، وسيأتي من حديث البراء أن قتلى بدر من الكفار كانوا سبعين، وكأن الذين طرحوا في القليب كانوا الرؤساء منهم ثم من قريش، وخصوا بالمخاطبة المذكورة لما كان تقدم منهم من المعاندة، وطرح باقي القتلى في أمكنة أخرى. وأفاد الواقدي أن القليب المذكور كان حفره رجل من بني النار فناسب أن يلقى فيه هؤلاء الكفار. قوله: "على شفة الركي" أي طرف البئر. وفي رواية الكشميهني: "على شفير الركي" والركي بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد آخره: البئر قبل أن تطوى. والأطواء جمع طوى وهي البئر التي طويت وبنيت بالحجارة لتثبت ولا تنهار، ويجمع بين الروايتين بأنها كانت مطوية فاستهدمت فصارت كالركي. قوله: "فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان ابن فلان" في رواية حميد عن أنس "فنادى يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام" أخرجه ابن إسحاق وأحمد وغيرهما، وكذا وقع عند أحمد ومسلم من طريق ثابت عن أنس، فسمى الأربعة، لكن قدم وأخر، وسياقه أتم. قال في أوله "تركهم ثلاثة أيام حتى جيفوا" فذكره، وفيه من الزيادة "فسمع عمر صوته فقال: يا رسول الله أتناديهم بعد ثلاث، وهل يسمعون؟ ويقول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فقال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، لكن لا يستطيعون أن يجيبوا" وفي بعضه نظر، لأن أمية بن خلف لم يكن في القليب لأنه كان ضخما فانتفخ فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيبه. وقد أخرج ذلك ابن إسحاق من حديث عائشة. لكن يجمع بينهما بأنه كان قريبا من القليب فنودي فيمن نودي، لكونه كان من جملة رؤسائهم. ومن رؤساء قريش ممن يصح إلحاقه بمن سمي من بني عبد شمس بن عبد مناف، عبيدة والعاص والد أبي أحيحة، وسعيد بن العاص بن أمية، وحنظلة بن أبي سفيان، والوليد بن عتبة بن ربيعة. ومن بني نوفل بن عبد مناف الحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي. ومن سائر قريش نوفل بن خويلد بن أسد، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، وأخوه عقيل، والعاصي بن هشام أخو أبي جهل، وأبو قيس بن الوليد أخو خالد، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهمي، وعلي بن أمية بن خلف، وعمرو بن عثمان عم طلحة أحد العشرة، ومسعود بن أبي أمية أخو أم سلمة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة، والأسود بن عبد الأسد أخو أبي سلمة، وأبو العاص بن قيس بن عدي السهمي، وأميمة بن رفاعة بن أبي رفاعة، فهؤلاء العشرون تنضم إلى الأربعة فتكمل العدة. ومن جملة مخاطبتهم ما ذكره ابن إسحاق "حدثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا أهل القليب بئس عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم كنتم، كذبتموني وصدقني الناس" الحديث. قوله: "قال قتادة" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "أحياهم الله" زاد الإسماعيلي: "بأعيانهم". قوله: "توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما" في رواية الإسماعيلي: "وتندما وذلة وصغارا" والصغار الذلة والهوان، وأراد قتادة بهذا التأويل الرد على من أنكر أنهم يسمعون كما جاء عن عائشة أنها استدلت بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} وسيأتي البحث في ذلك في تالي الحديث الذي بعده.الحديث الثاني عشر

(7/302)


قوله: "حدثنا عمرو" هو ابن دينار، وعطاء هو ابن أبي رباح. قوله: "عن ابن عباس" في رواية أبي نعيم في المستخرج "سمعت ابن عباس". قوله: "هم والله كفار قريش" وقع في التفسير "هم والله كفار أهل مكة" ورواه عبد الرزاق عن ابن عيينة قال: "هم لكفار قريش أو أهل مكة" وللطبراني عن كريب عن ابن عيينة "هم والله أهل مكة" قال ابن عيينة: يعني كفارهم. وعند عبد بن حميد في التفسير من طريق أبي الطفيل قال: "قال عبد الله بن الكواء لعلي رضي الله عنه: من الذين بدلوا نعمة الله كفرا؟ قال: هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو مخزوم قد كبتهم يوم بدر" وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن علي نحوه لكن فيه: "فأما بنو مخزوم فقطع الله دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين" وأخرج الطبري عن عمر نحوه، وله من وجه آخر ضعيف عن ابن عباس قال: "هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم" والأول المعتمد، ويحتمل أن يكون مراده أن عموم الآية يتناول هؤلاء أيضا. قوله: "قال عمرو" هو ابن دينار، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "ومحمد صلى الله عليه وسلم نعمة الله" هدا موقوف على عمرو بن دينار، وكذا {دَارَ الْبَوَارِ} النار يوم بدر، وهكذا رويناه في تفسير ابن عيينة رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه عن عمرو بن دينار في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ} قال: هم كفار قريش، ومحمد النعمة، ودار البوار النار يوم بدر انتهى. وقوله: "يوم بدر" ظرف لقوله أحلوا أي أنهم أهلكوا قومهم يوم بدر فأدخلوا النار، والبوار الهلاك وسميت جهنم دار البوار لإهلاكها من يدخلها، وعند الطبراني من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: البوار الهلاك ومن طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قد فسرها الله تعالى فقال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} قوله: "ذكر" بضم أوله، وعند الإسماعيلي: "أن عائشة بلغها" ولم أقف على اسم المبلغ، ولكن عنده من رواية أخرى ما يشعر بأن عروة هو الذي بلغها ذلك. قوله: "وهل" قيل بفتح الهاء، والمشهور الكسر، أي غلط وزنا ومعني، وبالفتح معناه فزع ونسي وجبن وقلق. وقال الفارابي والأزهري وابن القطاع وابن فارس والقابسي وغيرهم: وهلت إليه بفتح الهاء أهل بالكسر وهلا بالسكون إذا ذهب وهمك إليه. زاد القالي والجوهري: وأنت تريد غيره. وزاد ابن القطاع.1 قوله: "إن الميت ليعذب في قبره" الحديث تقدم شرحه في الجنائز، وقوله: "ذلك مثل قوله: "أي ابن عمر، وقوله: "فقال لهم ما قال: "ووقع عند الكشميهني: "فقال لهم مثل ما قال: "و" مثل" زائدة لا حاجة إليها. قوله: "يقول حين تبوءوا مقاعدهم من النار "القائل" يقول: "هو عروة، يريد أن يبين مراد عائشة فأشار إلى أن إطلاق النفي في قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} مقيد باستقرارهم في النار، وعلى هذا فلا معارضة بين إنكار عائشة وإثبات ابن عمر كما تقدم توضيحه في الجنائز، لكن الرواية التي بعد هذه تدل على أن عائشة كانت تنكر ذلك مطلقا لقولها إن الحديث إنما هو بلفظ: "إنهم ليعلمون" وأن ابن عمر وهم في قوله: "ليسمعون" قال البيهقي: العلم لا يمنع من السماع، والجواب عن الآية أنه لا يسمعهم وهم موتى ولكن الله أحياهم حتى سمعوا كما قال قتادة، ولم ينفرد عمر ولا ابنه بحكاية ذلك بل وافقهما أبو طلحة كما تقدم، وللطبراني من حديث ابن مسعود مثله بإسناد صحيح. ومن حديث عبد الله بن سيدان نحوه وفيه: "قالوا يا رسول الله وهل يسمعون؟ قال: يسمعون كما تسمعون، ولكن لا يجيبون" وفي حديث ابن مسعود "ولكنهم اليوم لا يجيبون" ومن الغريب
ـــــــ
1 بياض الأصل

(7/303)


أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد عن عائشة مثل حديث أبي طلحة وفيه: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" وأخرجه أحمد بإسناد حسن، فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة لكونها لم تشهد القصة، قال الإسماعيلي: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن، لأن قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن يسمعون" لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك. وأما جوابها بأنه إنما قال إنهم ليعلمون فإن كانت سمعت ذلك فلا ينافي رواية يسمعون بل يؤيدها. وقال السهيلي ما محصله: إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، لقول الصحابة له: "أتخاطب أقواما قد جيفوا؟ فأجابهم" قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين، وذلك إما بآذان رءوسهم على قول الأكثر أو بآذان قلوبهم، قال: وقد تمسك بهذا الحديث من يقول: إن السؤال يتوجه على الروح والبدن، ورده من قال: إنما يتوجه على الروح فقط بأن الإسماع يحتمل أن يكون لأذن الرأس ولأذن القلب فلم يبق فيه حجة. قلت: إذا كان الذي وقع حينئذ من خوارق العادة للنبي صلى الله عليه وسلم حينئذ لم يحسن التمسك به في مسألة السؤال أصلا. وقد اختلف أهل التأويل في المراد بالموتى في قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} وكذلك المراد بمن في القبور، فحملته عائشة على الحقيقة وجعلته أصلا احتاجت معه إلى تأويل قوله: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" وهذا قول الأكثر، وقيل: هو مجاز والمراد بالموتى وبمن في القبور الكفار، شبهوا بالموتى وهم أحياء، والمعنى من هم في حال الموتى أو في حال من سكن القبر، وعلى هذا لا يبقى في الآية دليل على ما نفته عائشة رضي الله عنها، والله أعلم.

(7/304)


9 - باب فَضْلُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا
3982- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "أُصِيبَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ غُلاَمٌ فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي فَإِنْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ وَإِنْ تَكُ الأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ ".
3983- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ قَالَ سَمِعْتُ حُصَيْنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَكُلُّنَا فَارِسٌ قَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا حَيْثُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَقُلْنَا الْكِتَابُ فَقَالَتْ مَا مَعَنَا كِتَابٌ فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فَلَمْ نَرَ كِتَابًا فَقُلْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ

(7/304)


أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدَّ أَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْهُ فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ حَاطِبٌ وَاللَّهِ مَا بِي أَنْ لاَ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلاَّ لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ وَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا فَقَالَ عُمَرُ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ"
قوله: "باب فضل من شهد بدرا" أي مع النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين مقاتلا للمشركين، وكأن المراد بيان أفضليتهم لا مطلق فضلهم. قوله: "أصيب حارثة يوم بدر" هو بالمهملة والمثلثة ابن سراقة بن الحارث بن عدي الأنصاري بن عدي بن النجار، وأبوه سراقة له صحبة واستشهد يوم حنين. قوله: "فجاءت أمه" هي الربيع بالتشديد بنت النضر عمة أنس بن مالك، ووقع في أوائل الجهاد من طريق شيبان عن قتادة عن أنس "أن أم الربيع بالتخفيف ابن البراء وهي أم حارثة" وقال: هو وهم وإنما الصواب أن أم حارثة الربيع عمة البراء، وقد ذكرت مباحث ذلك مستوفاة هناك مع شرح الحديث. وقوله: "ويحك" هي كلمة رحمة، وزعم الداودي أنها للتوبيخ وقوله: "هبلت" بضم الهاء بعدها موحدة مكسورة، أي ثكلت وهو بوزنه. وقد تفتح الهاء يقال هبلته أمه تهبله بتحريك الهاء أي ثكلته، وقد يرد بمعني المدح والإعجاب، قالوا أصله إذا مات الولد في الهبل هو موضع الولد من الرحم فكأن أمه وجع مهبلها بموت الولد فيه. وزعم الداودي أن المعنى أجهلت، ولم يقع عند أحد من أهل اللغة أن هبلت بمعني جهلت. ذكر المصنف حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وسيأتي شرح القصة في فتح مكة مستوفى وذكر البرقاني أن مسلما أخرج نحو هذا الحديث من طريق ابن عباس عن عمر مستوفى، والمراد منه هنا الاستدلال على فضل أهل بدر بقوله صلى الله عليه وسلم المذكور، وهي بشارة عظيمة لم تقع لغيرهم، ووقع الخبر بألفاظ: منها "فقد غفرت لكم" ومنها "فقد وجبت لكم الجنة" ومنها "لعل الله اطلع" لكن قال العلماء إن الترجي في كلام الله وكلام رسوله الموقوع وعند أحمد وأبي داود وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة بالجزم ولفظه: "إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وعند أحمد بإسناد على شرط مسلم من حديث جابر مرفوعا: "لن يدخل النار أحد شهد بدرا" وقد استشكل قوله: "اعملوا ما شئتم" فإن ظاهره أنه للإباحة وهو خلاف عقد الشرع، وأجيب بأنه إخبار عن الماضي أي كل عمل كان لكم فهو مغفور، ويؤيده أنه لو كان لما يستقبلونه من العمل لم يقع بلفظ الماضي ولقال فسأغفره لكم، وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر منكرا عليه ما قال في أمر حاطب، وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين فدل على أن المراد ما سيأتي، وأورده في لفظ الماضي مبالغة في تحقيقه. وقيل: إن صيغة الأمر في قوله: "اعملوا" للتشريف والتكريم والمراد عدم المؤاخذة بما يصدر منهم بعد ذلك، وأنهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم

(7/305)


السابقة، وتأهلوا لأن يغفر الله لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت، أي كل ما عملتموه بعد هذه الواقعة من أي عمل كان فهو مغفور. وقيل: إن المراد ذنوبهم تقع إذا وقعت مغفورة. وقيل: هي بشارة بعدم وقوع الذنوب منهم، وفيه نظر ظاهر لما سيأتي في قصة قدامة بن مظعون حين شرب الخمر في أيام عمر وحده عمر، فهاجر بسبب ذلك، فرأى عمر في المنام من يأمره بمصالحته، وكان قدامة بدريا. والذي يفهم من سياق القصة الاحتمال الثاني وهو الذي فهمه أبو عبد الرحمن السلمي التابعي حيث قال لحيان بن عطية: قد علمت الذي جرأ صاحبك على الدماء، وذكر له هذا الحديث، وسيأتي ذلك في "باب استتابة المرتدين". واتفقوا على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها، والله أعلم.

(7/306)


باب إذا أكثبوكم فارموهم واستبقوا نبلكم
...
10-باب
3984- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَارْمُوهُمْ وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ "
3985- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ وَالْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ إِذَا أَكْثَبُوكُمْ يَعْنِي كَثَرُوكُمْ فَارْمُوهُمْ وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ "
قوله: "باب" كذا في الأصول بغير ترجمة. وهو فيما يتعلق ببدر أيضا، وأبو أحمد هو محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري كما نسبه في الرواية التي بعدها. قوله: "عن حمزة بن أبي أسيد والزبير بن المنذر بن أبي أسيد" كذا في هذه الرواية، ووقع في التي بعدها الزبير بن أبي أسيد، فقيل هو عمه وقيل: هو هو لكن نسب إلى جده، والأول أصوب. وأبعد من قال إن الزبير هو المنذر نفسه. قوله: "عن أبي أسيد" بالتصغير وهو مالك بن ربيعة الخزرجي الساعدي. قوله: "إذا أكثبوكم" بمثلثة ثم موحدة أي إذا قربوا منكم، ووقع في الرواية الثانية "يعني أكثروكم" وهو تفسير لا يعرفه أهل اللغة، وقد قدمت في الجهاد أن الداودي فسره بذلك وأنه أنكر عليه، فعرفنا الآن مستنده قي ذلك وهو ما وقع في هذه الرواية، لكن يتجه الإنكار لكونه تفسيرا لا يعرفه أهل اللغة وكأنه من بعض رواته، فقد وقع في رواية أبي داود في هذا الموضع "يعني غشوكم" وهو بمعجمتين والتخفيف وهو أشبه بالمراد، ويؤيده ما وقع عند ابن إسحاق "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن لا يحملوا على المشركين حتى يأمرهم وقال: إذا أكثبوكم فانضحوهم عنكم بالنبل" والهمزة في قوله: "أكثبوكم" للتعدية من كثب بفتحتين وهو القرب، قال ابن فارس: أكثب الصيد إذا أمكن من نفسه، فالمعنى إذا قربوا منكم فأمكنوكم من أنفسهم فارموهم. قوله: "فارموهم واستبقوا نبلكم" بسكون الموحدة فعل أمر بالاستبقاء، أي طلب الإبقاء، قال الداودي: معنى قوله: "ارموهم" أي بالحجارة لأنها لا تكاد تخطئ إذا رمي بها في الجماعة، قال، ومعني قوله: "استبقوا نبلكم" أي إلى أن تحصل المصادمة، كذا قال. وقال غيره: المعنى ارموهم ببعض نبلكم لا بجميعها. والذي يظهر لي أن معنى قوله: "واستبقوا نبلكم" لا يتعلق بقوله: "ارموهم" وإنما هو كالبيان للمراد بالأمر بتأخير الرمي حتى يقربوا منهم، أي

(7/306)


إنهم إذا كانوا بعيدا لا تصيبهم السهام غالبا، فالمعنى استبقوا نبلكم في الحالة التي إذا رميتم بها لا تصيب غالبا، وإذا صاروا إلى الحالة التي يمكن فيها الإصابة غالبا فارموا.
3986- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلًا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ"
3987- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أُرَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ بَعْدُ وَثَوَابُ الصِّدْقِ الَّذِي آتَانَا بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ" .
الحديث الثاني حديث البراء في قصة الرماة يوم أحد، وذكر طرفا منه، وسيأتي بتمامه في غزوة أحد والمراد منه. قوله: "أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا وسبعين قتيلا" هذا هو الحق في عدد القتلى، وأطبق أهل السير على أنهم خمسون قتيلا يزيدون قليلا أو ينقصون، سرد ابن إسحاق فبلغوا خمسين، وزاد الواقدي ثلاثة أو أربعة، وأطلق كثير من أهل المغازي أنهم بضعة وأربعون لكن لا يلزم من معرفة أسماء من قتل منهم على التعيين أن يكونوا جميع من قتل. وقول البراء إن عدتهم سبعون قد وافقه على ذلك ابن عباس وآخرون. وأخرج ذلك مسلم من حديث ابن عباس. وقال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} واتفق أهل العلم بالتفسير على أن المخاطبين بذلك أهل أحد، وأن المراد بأصبتم مثليها يوم بدر، وعلى أن عدة من استشهد من المسلمين بأحد سبعون نفسا، وبذلك جزم ابن هشام، واستدل له بقول كعب بن مالك من قصيدة له:
فأقام بالطعن المطعن منهم ... سبعون عتبة منهم والأسود
يعني عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وقد تقدم اسم من قتله. والأسود بن عبد الأسد بن هلال المخزومي قتله حمزة بن عبد المطلب. ثم سرد ابن هشام أسماء أخرى ممن قتل ببدر غير من ذكره ابن إسحاق فزادوا على الستين فقوى ما قلناه، والله أعلم. حديث أبي موسى في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أورده مختصرا جدا، وقد تقدمت الإشارة إليه في الهجرة، فإنه علق طرفا منه هناك. وأورده في علامات النبوة بتمامه فأحلت شرحه على غزوة أحد، ولم يذكر في غزوة أحد منه هذه القطعة التي ذكرها هنا، وسأذكر شرحها في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى.
3988- حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِنِّي لَفِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ الْتَفَتُّ فَإِذَا عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَتَيَانِ حَدِيثَا السِّنِّ فَكَأَنِّي لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهِمَا إِذْ قَالَ لِي أَحَدُهُمَا سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ يَا عَمِّ أَرِنِي أَبَا جَهْلٍ فَقُلْتُ يَا ابْنَ أَخِي وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟

(7/307)


قَالَ عَاهَدْتُ اللَّهَ إِنْ رَأَيْتُهُ أَنْ أَقْتُلَهُ أَوْ أَمُوتَ دُونَهُ فَقَالَ لِي الْآخَرُ سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ مِثْلَهُ قَالَ فَمَا سَرَّنِي أَنِّي بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَكَانَهُمَا فَأَشَرْتُ لَهُمَا إِلَيْهِ فَشَدَّا عَلَيْهِ مِثْلَ الصَّقْرَيْنِ حَتَّى ضَرَبَاهُ وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ"
الحديث الرابع حديث عبد الرحمن بن عوف في قصة قتل أبي جهل قوله: "حدثني يعقوب بن إبراهيم" كذا لأبي ذر والأصيلي، وللباقين "حدثنا يعقوب" غير منسوب، فجزم الكلاباذي بأنه ابن حميد بن كاسب، وبه جزم الحاكم عن مشايخه، ثم جوز أن يكون يعقوب بن محمد الزهري. قلت: وسيأتي ما يقويه. قال الحاكم: وقد ناظرني شيخنا أبو أحمد الحاكم في أن البخاري روى في الصحيح عن يعقوب بن حميد، فقلت له: إنما روى عن يعقوب بن محمد فلم يرجع عن ذلك. قلت: وجزم ابن منده وأبو إسحاق الحبال وغير واحد بما قال أبو أحمد، وهو متعقب بما وقع في رواية الأصيلي وأبي ذر. وقال أبو علي الجياني: وقع عند ابن السكن هنا "حدثنا يعقوب بن محمد" وعند أبي ذر والأصيلي: "حدثنا يعقوب بن إبراهيم" وأهمله الباقون. وجزم أبو مسعود في "الأطراف" بأنه ابن إبراهيم، وجوز أنه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: وهو غلط، فإن يعقوب مات قبل أن يرحل البخاري، وقد روى له الكثير بواسطة، وبني الكرماني على أنه يعقوب بن إبراهيم بن سعد فقال: هذا السند مسلسل بالرواية عن الآباء، ومال المزي إلى أنه يعقوب بن إبراهيم الدورقي انتهى. وقد تقدم في أواخر الصلاة في "باب الصلاة في مسجد قباء" وفي المناقب في "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار أنتم أحب الناس إلي " التصريح بالرواية عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي فقال البرقاني في "المصافحة" يعقوب بن حميد ليس من شرط الصحيح، وقد قيل إنه يعقوب بن إبراهيم بن سعد ولكن سقطت الواسطة من النسخة لأن البخاري لم يسمع منه انتهى. والراجح عدم السقوط وأنه إما الدورقي وإما ابن محمد الزهري، والله أعلم. قوله: "عن أبيه عن جده" أبوه هو سعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وقد تقدمت الإشارة في الباب الماضي إلى أن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف روى هذا الحديث أيضا عن أبيه، وأنه ساقه في الحمس بتمامه. وقوله في هذه الرواية فكأني لم آمن بمكانهما أي من العدو. وقيل: مكانهما كناية عنهما، كأنه لم يثق بهما لأنه لم يعرفهما فلم يأمن أن يكونا من العدو ثم وجدت في مغازي ابن عائذ ما يرفع الإشكال، فإنه أخرج هذه القصة مطوله بإسناد منقطع وقال فيها فأشفقت أن يؤتي الناس من ناحيتي لكوفي بين غلامين حديثين". قوله: "الصقرين" بالمهملة ثم القاف تثنية صقر، وهو من سباع الطير وأحد الجوارح الأربعة وهي الصقر والبازي والشاهين والعقاب، وشبههما به لما اشتهر عنه من الشجاعة والشهامة والإقدام على الصيد، ولأنه إذا تشبث بشيء لم يفارقه حتى يأخذه وأول من صاد به من العرب الحارث بن معاوية بن ثور الكندي، ثم اشتهر الصيد به بعده.
3989- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةً عَيْنًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَةِ بَيْنَ عَسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ فَنَفَرُوا لَهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ فَاقْتَصُّوا

(7/308)


آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ التَّمْرَ فِي مَنْزِلٍ نَزَلُوهُ فَقَالُوا تَمْرُ يَثْرِبَ فَاتَّبَعُوا آثَارَهُمْ فَلَمَّا حَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى مَوْضِعٍ فَأَحَاطَ بِهِمْ الْقَوْمُ فَقَالُوا لَهُمْ انْزِلُوا فَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ وَلَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَنْ لاَ نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَيُّهَا الْقَوْمُ أَمَّا أَنَا فَلاَ أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ فَقَتَلُوا عَاصِمًا وَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ خُبَيْبٌ وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ وَرَجُلٌ آخَرُ فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَرَبَطُوهُمْ بِهَا قَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ وَاللَّهِ لاَ أَصْحَبُكُمْ إِنَّ لِي بِهَؤُلاَءِ أُسْوَةً يُرِيدُ الْقَتْلَى فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَانْطُلِقَ بِخُبَيْبٍ وَزَيْدِ بْنِ الدَّثِنَةِ حَتَّى بَاعُوهُمَا بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَابْتَاعَ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ خُبَيْبًا وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حَتَّى أَجْمَعُوا قَتْلَهُ فَاسْتَعَارَ مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ مُوسًى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ فَدَرَجَ بُنَيٌّ لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ حَتَّى أَتَاهُ فَوَجَدَتْهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ قَالَتْ فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فَقَالَ أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَلِكَ قَالَتْ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ فِي يَدِهِ وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرَةٍ وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّهُ لَرِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ خُبَيْبًا فَلَمَّا خَرَجُوا بِهِ مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ وَاللَّهِ لَوْلاَ أَنْ تَحْسِبُوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَزِدْتُ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا وَلاَ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ أَبُو سِرْوَعَةَ عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا الصَّلاَةَ وَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ أَنْ يُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ وَكَانَ قَتَلَ رَجُلًا عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ فَبَعَثَ اللَّهُ لِعَاصِمٍ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ذَكَرُوا مَرَارَةَ بْنَ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيَّ وَهِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيَّ رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا"
3990- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ذُكِرَ لَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَكَانَ بَدْرِيًّا مَرِضَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ فَرَكِبَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ تَعَالَى النَّهَارُ وَاقْتَرَبَتْ الْجُمُعَةُ

(7/309)


وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ
3991-0وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَاهُ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَرْقَمِ الزُّهْرِيِّ يَأْمُرُهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الأَسْلَمِيَّةِ فَيَسْأَلَهَا عَنْ حَدِيثِهَا وَعَنْ مَا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَفْتَتْهُ فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَرْقَمِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ يُخْبِرُهُ أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَقَالَ لَهَا مَا لِي أَرَاكِ تَجَمَّلْتِ لِلْخُطَّابِ تُرَجِّينَ النِّكَاحَ فَإِنَّكِ وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ قَالَتْ سُبَيْعَةُ فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ وَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي وَأَمَرَنِي بِالتَّزَوُّجِ إِنْ بَدَا لِي" تَابَعَهُ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ مَوْلَى بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ وَكَانَ أَبُوهُ شَهِدَ بَدْرًا -أَخْبَرَهُ
[الحديث 3991- طرفه في: 5319]
الحديث الخامس حديث أبي هريرة في قصة أصحاب بئر معونة وسيأتي شرحه بتمامه في غزوة الرجيع، والغرض منه هنا قوله فيه: "وكان قد قتل عظيما من عظمائهم" فإنه سيأتي في الطريق الأخرى التصريح بأن ذلك كان يوم بدر، والذي قتله عاصم المذكور يوم بدر من المشركين في قول ابن إسحاق ومن تبعه عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية قتله صبرا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "أخبرني عمرو بن جارية" بالجيم. وفي رواية الكشميهني: "عمرو بن أبي أسيد بن جارية" وكذا للأصيلي، وهو نسب إلى جده، بل هو جد أبيه لأنه ابن أسيد بن العلاء بن جارية، ووقع في غزوة الرجيع كما سيأتي "عمرو بن أبي سفيان" وهي كنية أبيه أسيد والله أعلم. وأسيد بفتح الهمزة للجميع، وأكثر أصحاب الزهري قالوا فيه: "عمرو" بفتح العين وقال بعضهم عمر بضم العين، ورجح البخاري أنه عمرو، وكذا وقع في الجهاد في "باب هل يستأسر الرجل" للأكثر عمرو، أما النسفي وأبو زيد المروزي فلم يسمياه قالا: "أخبرنا ابن أسيد" وقال ابن السكن في روايته: "عمير" بالتصغير، والراجح عمرو بفتح العين، وسيأتي مزيد لذلك في غزوة الرجيع. قوله: "عشرة عينا" سيأتي بيانهم في غزوة الرجيع، وأمر عليهم عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب يعني لأمه، قال: وهو وهم من بعض رواته فإن عاصم بن ثابت خال عاصم بن عمر لا جده لأن والدة عاصم هي جميلة بنت ثابت أخت عاصم، وكان اسمها عاصية فغيرها النبي صلى الله عليه وسلم، قال عياض: إذا قرئ حد بالكسر على أنه صفة لثابت استقام الكلام وارتفع الوهم. الحديث السادس: قوله: "وقال كعب بن مالك ذكروا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي رجلين صالحين قد شهدا بدرا" هذا طرف من حديث كعب الطويل في قصة توبته، وسيأتي

(7/310)


موصولا في غزوة تبوك مطولا، وكأن المصنف عرف أن بعض الناس ينكر أن يكون مرارة وهلال شهدا بدرا وينسب الوهم في ذلك إلى الزهري فرد ذلك بنسبة ذلك إلى كعب بن مالك، وهو الظاهر من السياق فإن الحديث عنه قد أخذ وهو أعرف بمن شهد بدرا ممن لم يشهدها ممن جاء بعده، والأصل عدم الإدراج فلا يثبت إلا بدليل صريح، ويؤيد كون وصفهما بذلك من كلام كعب أن كعبا ساقه في مقام التأسي بهما فوصفهما بالصلاح وبشهود بدر التي هي أعظم المشاهد. فلما وقع لهما نظير ما وقع له من القعود عن غزوة تبوك ومن الأمر بهجرهما كما وقع له تأسى بهما. وأما قول بعض المتأخرين كالدمياطي: لم يذكر أحد مرارة وهلالا فيمن شهد بدرا فمردود عليه، فقد جزم به البخاري هنا وتبعه جماعة، وأما قوله: وإنما ذكروهما في الطبقة الثانية ممن شهد أحدا، فحصر مردود، فإن الذي ذكرهما كذلك هو محمد بن سعد وليس ما يقتضيه صنيعه بحجة على مثل هذا الحديث الصحيح المثبت لشهودهما وقد ذكر هشام بن الكلبي وهو من شيوخ محمد بن سعد أن مرارة شهد بدرا فإنه ساق نسبه إلى الأوس ثم قال: شهد بدرا، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم. وقد استقريت أول من أنكر شهودهما بدرا فوجدته الأثرم صاحب الإمام أحمد واسمه أحمد بن محمد بن هانئ، قال ابن الجوزي: لم أزل متعجبا من هذا الحديث وحريصا على كشف هذا الموضع وتحقيقه حتى رأيت الأثرم ذكر الزهري وفضله وقال: لا يكاد يحفظ عنه غلط إلا في هذا الموضع، فإنه ذكر أن مرارة وهلالا شهدا بدرا، وهذا لم يقله أحد، والغلط لا يخلو منه إنسان. قلت: وهذا ينبني على أن قوله شهدا بدرا مدرج في الخبر من كلام الزهري، وفي ثبوت ذلك نظر لا يخفى كما قدمته، واحتج ابن القيم في الهدى بأنهما لو شهدا بدرا ما عوقبا بالهجر الذي وقع لهما بل كانا يسامحان بذلك كما سومح حاطب بن أبي بلتعة كما وقع في قصته المشهورة، قلت: وهو قياس مع وجود النص، ويمكن الفرق، وبالله التوفيق والله أعلم. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد الأنصاري. قوله: "ذكر له" بضم أوله ولم أقف على اسم ذاكر ذلك، والغرض منه قوله: "وكان بدريا" وإنما نسب إلى بدر وإن كان لم يحضر القتال لأنه كان ممن ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهم، كما تقدم قريبا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه هو وطلحة يتجسسان الأخبار، فوقع القتال قبل أن يرجعا، فألحقهما النبي صلى الله عليه وسلم بمن شهدها وضرب لهما بسهميهما وأجرهما. قوله: "وقال الليث حدثني يونس إلخ" يأتي شرحه مستوفى في العدد من كتاب النكاح، والغرض منه ذكر سعد بن خولة وأنه شهد بدرا، وقد وصل طريق الليث هذه قاسم بن أصبغ في مصنفه فأخرجه عن مطلب بن شهيب عن عبد الله بن صالح عن الليث بتمامه. قوله: "تابعه أصبغ عن ابن وهب" وصله الإسماعيلي من طريق محمد بن عبد الملك بن زنجويه عن أصبغ بن الفرج.
الحديث التاسع: قوله: "وقال الليث" وصله المصنف في "التاريخ الكبير" قال: "قال لنا عبد الله بن صالح أنبأنا الليث" فذكره بتمامه. قوله: "وسألناه فقال حدثه" في رواية الكشميهني: "حدثني". قوله: "البكير" بالتصغير وضبط أيضا بكسر الموحدة وبتشديد الكاف. قوله: "وكان أبوه شهد بدرا" زاد في التاريخ أنه سأل أبا هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمر، و "مثله" يعني مثل حديث قبله إذا طلق ثلاثا لم تصلح له المرأة فاقتصر المصنف من الحديث على موضع حاجته منه وهي قوله: "وكان أبوه شهد بدرا" وقد روى هذا الحديث قتيبة عن الليث عن ابن شهاب بغير واسطة وساقه مطولا، والله أعلم.

(7/311)


11 - باب شُهُودِ الْمَلاَئِكَةِ بَدْرًا
3992- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ

(7/311)


عَنْ أَبِيهِ وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَالَ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ قَالَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا قَالَ وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمَلاَئِكَةِ
[الحديث 3992- طرفه في: 3994]
3993- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ وَكَانَ رِفَاعَةُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَكَانَ رَافِعٌ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ فَكَانَ يَقُولُ لِابْنِهِ "مَا يَسُرُّنِي أَنِّي شَهِدْتُ بَدْرًا بِالْعَقَبَةِ قَالَ سَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .....بِهَذَا"
3994- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا يَحْيَى سَمِعَ مُعَاذَ بْنَ رِفَاعَةَ أَنَّ مَلَكًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ وَعَنْ يَحْيَى أَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْهَادِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ يَوْمَ حَدَّثَهُ مُعَاذٌ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ يَزِيدُ "فَقَالَ مُعَاذٌ إِنَّ السَّائِلَ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم"
3995- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ عَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ "
[الحديث3995- طرفه في:4041]
قوله: "باب شهود الملائكة بدرا" تقدم القول في ذلك قبل بابين. وأخرج يونس بن بكير في زيادات المغازي والبيهقي من طريق الربيع بن أنس قال: "كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة من قتلى الناس بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل وسم النار" وفي مسند إسحاق" عن جبير بن مطعم قال: رأيت قبل هزيمة القوم ببدر مثل النجاد الأسود أقبل من السماء كالنمل فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم" وعند مسلم من حديث ابن عباس "بينما رجل مسلم يشتد في أثر رجل مشرك إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس" الحديث وفيه: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك مدد من السماء الثالثة". قوله: "يحيى بن سعيد" هو الأنصاري. قوله: "عن معاذ بن رفاعة" أورده عنه من ثلاثة طرق، ففي رواية جرير معاذ عن أبيه وهذه موصولة. وفي رواية حماد وهو ابن زيد معاذ بن رفاعة بن رافع وكان رفاعة من أهل بدر إلخ. وهذا صورته مرسل ولكن عند التأمل يظهر أن فيه رواية لمعاذ بن رفاعة بن رافع عن أبيه عن جده، ورواية يزيد وهو ابن هارون وهي الثالثة قال فيها معاذ: "إن ملكا سأله" وهذا ظاهره الإرسال، لكن أفاد التصريح بسماع يحيى بن سعيد للحديث من معاذ، ولهذا قال الإسماعيلي: هذا الحديث وصله عن يحيى بن سعيد وجرير بن عبد الحميد، وتابعه يحيى بن أيوب فأرسله عنه حماد بن زيد ويزيد بن هارون وقوله في آخره: "وعن يحيى أن يزيد بن الهاد حدثه" يستفاد منه أن تسمية الملك السائل جبريل إنما تلقاها يحيى بن سعيد من يزيد بن الهاد عن معاذ، فيقتضي ذلك أن في رواية جرير الجزم بتسميته في رواية يحيى بن سعيد إدراجا. قوله: "بدرا بالعقبة" أي بدل العقبة، يريد أن شهود العقبة عنده أفضل من شهود بدر، وقوله في آخر رواية حماد

(7/312)


"بهذا" يريد ما تقدم في رواية جرير، وقد أخرجه البيهقي من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه بلفظ: "عن معاذ بن رفاعة بن رافع" وكان رفاعة بدريا وكان رافع عقبيا وكان يقول لابنه ما أحب أني شهدت بدرا ولم أشهد العقبة" قال سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أهل بدر فيكم؟ قال خيارنا، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة هم خيار الملائكة" وقوله في رواية يزيد "نحوه" ساق الإسماعيلي لفظ يزيد من طريق محمد بن شجاع عنه بلفظ: "إن ملكا من الملائكة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال يحيى بن سعيد: حدثني يزيد بن الهاد أن السائل هو جبريل" والذي يظهر أن رافع بن مالك لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم التصريح بتفضيل أهل بدر على غيرهم فقال ما قال باجتهاد منه، وشبهته أن العقبة كانت منشأ نصرة الإسلام وسبب الهجرة التي نشأ منها الاستعداد للغزوات كلها، لكن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله أعلم. قوله في حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: هذا جبريل " الحديث هو من مراسيل الصحابة، ولعل ابن عباس حمله عن أبي بكر، فقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر خفق خفقة ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه الغبار " ووقعت في بعض المراسيل تتمة لهذا الحديث مقيدة، وهي ما أخرج سعيد بن منصور من مرسل عطية بن قيس" أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فرغ من بدر على فرس حمراء معقودة الناصية قد تخضب الغبار بثنيته عليه درعه وقال: يا محمد إن الله بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى، أفرضيت؟ قال: "نعم" ووقع عند ابن إسحاق من حديث أبي واقد الليثي قال: "إني لأتبع يوم بدر رجلا من المشركين لأضربه فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي" ووقع عند البيهقي من طريق ابن محمد بن جبير بن مطعم أنه سمع عليا يقول: "هبت ريح شديدة لم أر مثلها، ثم هبت ريح شديدة، وأظنه ذكر ثالثة، فكانت الأولى جبريل والثانية ميكائيل والثالثة إسرافيل، وكان ميكائيل عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر، وإسرافيل عن يساره وأنا فيها" ومن طريق أبي صالح عن علي قال: "قيل لي ولأبي بكر يوم بدر: مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يحضر الصف ويشهد القتال" وأخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه الحاكم، والجمع بينه وبين الذي قبله ممكن، قال الشيخ تقي الدين السبكي: سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه، فقلت: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله تعالى في عبادة. والله تعالى هو فاعل الجميع والله أعلم.

(7/313)


باب مات أبو زيد ولم يترك عقبا وكان بدريا
...
12- باب
3996- حَدَّثَنِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "مَاتَ أَبُو زَيْدٍ وَلَمْ يَتْرُكْ عَقِبًا وَكَانَ بَدْرِيًّا".
3997- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ خَبَّابٍ "أَنَّ أَبَا سَعِيدِ بْنَ مَالِكٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ لَحْمًا مِنْ لُحُومِ الأَضْحَى فَقَالَ مَا أَنَا بِآكِلِهِ حَتَّى أَسْأَلَ فَانْطَلَقَ إِلَى أَخِيهِ لِأُمِّهِ وَكَانَ بَدْرِيًّا قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ إِنَّهُ حَدَثَ بَعْدَكَ أَمْرٌ نَقْضٌ لِمَا كَانُوا يُنْهَوْنَ عَنْهُ مِنْ أَكْلِ لُحُومِ الأَضْحَى بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ"
[الحديث 3997- طرفه في: 5568]

(7/313)


3998- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "قَالَ الزُّبَيْرُ لَقِيتُ يَوْمَ بَدْرٍ عُبَيْدَةَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ لاَ يُرَى مِنْهُ إِلاَّ عَيْنَاهُ وَهُوَ يُكْنَى أَبُو ذَاتِ الْكَرِشِ فَقَالَ أَنَا أَبُو ذَاتِ الْكَرِشِ فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالْعَنَزَةِ فَطَعَنْتُهُ فِي عَيْنِهِ فَمَاتَ قَالَ هِشَامٌ فَأُخْبِرْتُ أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ لَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي عَلَيْهِ ثُمَّ تَمَطَّأْتُ فَكَانَ الْجَهْدَ أَنْ نَزَعْتُهَا وَقَدْ انْثَنَى طَرَفَاهَا قَالَ عُرْوَةُ فَسَأَلَهُ إِيَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا ثُمَّ طَلَبَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَاهُ فَلَمَّا قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَهَا إِيَّاهُ عُمَرُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا فَلَمَّا قُبِضَ عُمَرُ أَخَذَهَا ثُمَّ طَلَبَهَا عُثْمَانُ مِنْهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَقَعَتْ عِنْدَ آلِ عَلِيٍّ فَطَلَبَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى قُتِلَ"
3999- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَايِعُونِي"
4000- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الأَنْصَارِ كَمَا تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى[5 الأحزاب]: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} فَجَاءَتْ سَهْلَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ..........."فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
[الحديث 4000-طرفه في: 5088]
قوله: "باب" كذا للجميع بغير ترجمة، وهو فيما يتعلق ببيان من شهد بدرا. قوله: "حدثني خليفة" هو ابن خياط بالمعجمة ثم التحتانية الشديدة "قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري" هو من كبار شيوخ البخاري، وربما حدث عنه بواسطة كما في هذا الموضع، وسعيد هو ابن أبي عروبة. قوله: "مات أبو زيد ولم يترك عقبا وكان بدريا" كذا أورده مختصرا، وقد مضى في مناقب الأنصار بأتم من هذا أنه سأل أنسا عن أبي زيد الذي جمع القرآن فقال: هو قيس بن السكن، رجل من بني عدي بن النجار، مات فلم يترك عقبا، نحن ورثناه. وقد تقدم نقل الخلاف في اسمه هناك. قوله: "عن ابن خباب" بالمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة واسمه عبد الله، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق، وسيأتي شرح الحديث في كتاب الأضاحي، والغرض منه هنا وصف قتادة بن النعمان بكونه شهد بدرا. قوله: "قال الزبير" هو ابن العوام. قوله: "عبيدة" بالضم أي ابن سعيد بن العاص بن أمية، وكان لسعيد بن العاص عدة إخوة أسلم منهم عمرو وخالد وأبان، وقتل العاص كافرا. قوله: "مدجج" بجيمين الأولى ثقيلة ومفتوحة وقد تكسر، أي مغطى بالسلاح ولا يظهر منه شيء. قوله:

(7/314)


"قال هشام" هو ابن عروة، وهو موصول بالإسناد المذكور. وقوله: "فأخبرت" بضم الهمزة على البناء للمجهول ولم أقف على تعيين المخبر بذلك. قوله: "ثم تمطأت" قيل: الصواب تمطيت بالتحتانية غير مهموز. قوله: "فكان الجهد" بفتح الجيم وبضمها "أن" بفتح الهمزة "نزعتها". قوله: "قال عروة" هو موصول بالإسناد المذكور. وقوله: "أخدها" يعني الزبير "ثم طلبها أبو بكر" أي من الزبير وقوله: "وقعت عند آل علي" أي عند علي نفسه ثم عند أولاده. قوله: "فطلبها عبد الله بن الزبير" أي من آل علي. حديث عبادة بن الصامت في البيعة قد تقدم بتمامه في الإيمان. قوله: "أن أبا حذيفة" هو ابن عتبة بن ربيعة الذي تقدم صفه قتل والده قريبا. وقوله: "تبنى سالما" أي ادعى أنه ابنه، وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} فإنها لما نزلت صار يدعى مولى أبي حذيفة، وقد شهد سالم بدرا مع مولاه المذكور. والوليد بن عتبة والد هند قتل مع أبيه كما تقدم، وسميت هند هذه باسم عمتها هند بنت عتبة، قال الدمياطي: رواه يونس ويحيى بن سعيد وشعيب وغيرهم عن الزهري فقالوا: "هند" وروى مالك عنه فقال: "فاطمة" واقتصر أبو عمر في الصحابة على فاطمة بنت الوليد فلم يترجم لهند بنت الوليد، ولا ذكرها محمد بن سعد في الصحابة. ووقع عنده فاطمة بنت عتبة، فإما نسبها لجدها وإما كانت لهند أخت اسمها فاطمة. وحكى أبو عمر عن غيره أن اسم جد فاطمة بنت الوليد المغيرة، فإن ثبت فليست هي بنت أخي أبي حذيفة، ويمكن الجمع بأن بنت أبي حذيفة كان لها اسمان والله أعلم. قوله: "مولى لامرأة من الأنصار" هي ثبيتة بمثلثة ثم موحدة ثم مثناة مصغر بنت يعار بفتح التحتانية ثم مهملة خفيفة، وقد تقدم في مناقب الأنصار أن سالما مولى أبي حذيفة، وهي نسبة مجازية باعتبار ملازمته له، وهو في الحقيقة مولى الأنصارية المذكورة، والمراد يزيد الذي مثل به زيد بن حارثة الصحابي المشهور، وسهلة هي بنت سهيل بن عمرو زوج أبي حذيفة. وقوله: "فذكر الحديث: "سيأتي بيان ذلك في كتاب النكاح إن شاء تعالى.
4002- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ بُنِيَ عَلَيَّ فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي وَجُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِنَّ يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى قَالَتْ جَارِيَةٌ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقُولِي هَكَذَا وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ"
[الحديث 4001- طرفه في: 5174]
4002- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أَخْبَرَنِي أَبُو طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ يُرِيدُ التَّمَاثِيلَ الَّتِي فِيهَا الأَرْوَاحُ"

(7/315)


4003- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ ح و حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمْ السَّلاَم أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنْ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا فِي بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِي فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ فَأَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ مِنْ الصَّوَّاغِينَ فَنَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرْسِي فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مِنْ الأَقْتَابِ وَالْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ وَشَارِفَايَ مُنَاخَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ حَتَّى جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ فَإِذَا أَنَا بِشَارِفَيَّ قَدْ أُجِبَّتْ أَسْنِمَتُهَا وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ الْمَنْظَرَ قُلْتُ مَنْ فَعَلَ هَذَا قَالُوا فَعَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فِي شَرْبٍ مِنْ الأَنْصَارِ عِنْدَهُ قَيْنَةٌ وَأَصْحَابُهُ فَقَالَتْ فِي غِنَائِهَا أَلاَ يَا حَمْزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ فَوَثَبَ حَمْزَةُ إِلَى السَّيْفِ فَأَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا وَأَخَذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا قَالَ عَلِيٌّ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَقِيتُ فَقَالَ مَا لَكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَيَّ فَأَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا وَهَا هُوَ ذَا فِي بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِدَائِهِ فَارْتَدَى ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأُذِنَ لَهُ فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ فَإِذَا حَمْزَةُ ثَمِلٌ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِهِ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ وَهَلْ أَنْتُمْ إِلاَّ عَبِيدٌ لِأَبِي فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ثَمِلٌ فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ"
قوله: الحديث السادس "حدثنا علي" هو ابن عبد الله المديني، والربيع بالتشديد بنت معوذ وهو ابن عفراء الذي تقدم ذكره في قتل أبي جهل. قوله: "يندبن من قتل من آبائي" كان الذي قتل ببدر ممن يدخل في هذه العبارة ولو بالمجاز أبوها وعمها عوف أو عوذ ومن يقرب لهما من الخزرج كحارثة بن سراقة، وقولها: "يندبن" الندب دعاء الميت بأحسن أوصافه، وهو مما يهيج التشوق إليه والبكاء عليه. والدف معروف وداله مضمومة ويجوز فتحها، وفيه جواز سماع الضرب بالدف صبيحة العرس، وكراهة نسبة علم الغيب لأحد من المخلوقين. حديث أبي طلحة الأنصاري في الصور، وسيأتي شرحه في اللباس، وأورده هنا لقوله فيه: "وكان قد شهد بدرا". حديث علي في قصة الشارفين وحمزة بن عبد المطلب. وقد مضى شرحه في الخمس، وأورده هنا لقوله فيه: "من نصيبي من المغنم يوم بدر" واستدل بقوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا مما أفاء الله عليه من الخمس يومئذ" أن غنيمة بدر خمست خلافا لما ذهب إليه أبو عبيد في" كتاب الأموال" أن آية الخمس

(7/316)


إنما نزلت بعد قسمة غنائم بدر، وموضع الدلالة منه قوله: "يومئذ" ولكن تقدم الحديث في كتاب الخمس بلفظ: "وأعطاني شارفا من الخمس" ليس فيه: "يومئذ" وفي رواية مسلم: "وأعطاني شارفا آخر" ولم يقيده باليوم ولا بالخمس، والجمهور على أن آية الخمس نزلت في قصة بدر.
4004- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ أَنْفَذَهُ لَنَا ابْنُ الأَصْبَهَانِيِّ سَمِعَهُ مِنْ ابْنِ مَعْقِلٍ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فَقَالَ إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا"
4005- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ قَالَ سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ فَقَالَ قَدْ بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ إِلاَّ أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا".
[الحديث4005- أطرافه في: 5145,5129,5122]
4006- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ سَمِعَ أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ"
4007- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي إِمَارَتِهِ أَخَّرَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ الْعَصْرَ وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَنْصَارِيُّ جَدُّ زَيْدِ بْنِ حَسَنٍ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ نَزَلَ جِبْرِيلُ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا أُمِرْتُ كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ"
4008- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي

(7/317)


لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَلَقِيتُ أَبَا مَسْعُودٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَأَلْتُهُ فَحَدَّثَنِيهِ"
[الحديث 4008- أطرافه في: 5051,5040,5009,5008]
الحديث التاسع قوله: "حدثنا محمد بن عباد" هو المكي نزيل بغداد، ثقة مشهور، وليس له عند البخاري غير هذا الحديث. قوله: "أنفذه لنا ابن الأصبهاني" أي بلغ منتهاه من الرواية وتمام السياق فنفذ فيه، كقولك أنفذت السهم أي رميت به فأصبت، وقيل: المراد بقوله: "أنفذه لنا" أي أرسله، فكأنه حمله عنه مكاتبة أو إجازة. وابن الأصبهاني هو عبد الرحمن بن عبد الله الكوفي، وعبد الله بن معقل بسكون المهملة وكسر القاف قال أبو مسعود. هذا الحديث مما كان ابن عيينة سمعه من إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عبد الله بن معقل، ثم أخذه عاليا بدرجتين عن ابن الأصبهاني عن عبد الله بن معقل. قوله: "كبر على سهل بن حنيف" أي الأنصاري. قوله: "فقال لقد شهد بدرا" كذا في الأصول لم يذكر عدد التكبير، وقد أورده أبو نعيم في "المستخرج" من طريق البخاري بهذا الإسناد فقال فيه: "كبر خمسا"، وأخرجه البغوي في "معجم الصحابة" عن محمد بن عباد بهذا الإسناد، والإسماعيلي والبرقاني والحاكم من طريقه فقال: "ستا" وكذا أورده البخاري في "التاريخ" عن محمد بن عباد، وكذا أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة وأورده بلفظ: "خمسا" زاد في رواية الحاكم "التفت إلينا فقال إنه من أهل بدر" وقول علي رضي الله عنه "لقد شهد بدرا" يشير إلى أن لمن شهدها فضلا على غيرهم في كل شيء حتى في تكبيرات الجنازة، وهذا يدل على أنه كان مشهورا عندهم أن التكبير أربع وهو قول أكثر الصحابة، وعن بعضهم التكبير خمس، وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم حديث مرفوع في ذلك. وقد تقدم في الجنائز أن أنسا قال: "إن التكبير على الجنازة ثلاث، وإن الأولى للاستفتاح" وروى ابن أبي خيثمة من وجه آخر مرفوعا: "إنه كان يكبر أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا، حتى مات النجاشي فكبر عليه أربعا، وثبت على ذلك حتى مات" وقال أبو عمر: انعقد الإجماع على أربع، ولا نعلم من فقهاء الأمصار من قال بخمس إلا ابن أبي ليلى، انتهى. وفي "المبسوط" للحنفية عن أبي يونس مثله. وقال النووي في "شرح المهذب" كان بين الصحابة خلاف ثم انقرض وأجمعوا على أنه أربع، لكن لو كبر الإمام خمسا لم تبطل صلاته إن كان ناسيا، وكذا إن كان عامدا على الصحيح، لكن لا يتابعه المأموم على الصحيح، والله أعلم. حديث عمر حين تأيمت حفصة. وتأيمت بالتحتانية، الثقيلة أي صارت أيما، وهي من مات زوجها. وخنيس بخاء معجمة ثم نون مهملة مصغر وهو أخو عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي، وسيأتي شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب النكاح، والغرض منه هنا قوله فيه: "قد شهد بدرا" وقوله: "أوجد مني عليه" أي أشد غضبا وهو من الموجدة، وإنما قال عمر ذلك لما كان لأبي بكر عنده وله عند أبي بكر من مزيد المحبة والمنزلة، فلذلك كان غضبه منه أشد من غضبه من عثمان. حديث أبي مسعود "نفقة الرجل على أهله صدقة" وسيأتي في كتاب النكاح، والغرض منه إثبات كون أبي مسعود شهد بدرا. قوله: "حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم، وعدي هو ابن ثابت. قوله: "سمع أبا مسعود البدري" سيأتي اسمه في الذي يليه. واختلف في شهوده بدرا فالأكثر على أنه لم يشهدها، ولم يذكره محمد بن إسحاق ومن اتبعه من أصحاب المغازي في البدريين. وقال الواقدي وإبراهيم الحربي: لم يشهد بدرا، وإنما نزل بها فنسب إليها، وكذا قال الإسماعيلي: لم يصح شهود أبي مسعود بدرا، وإنما كانت مسكنه فقيل له البدري، فأشار إلى أن الاستدلال بأنه شهدها بما يقع في الروايات أنه بدري ليس بقوي، لأنه

(7/318)


يستلزم أن يقال لكل من شهد بدرا البدري وليس ذلك مطردا، قلت: لم يكتف البخاري في جزمه بأنه شهد بدرا بذلك بل بقوله في الحديث الذي يليه إنه شهد بدرا، فإن الظاهر أنه من كلام عروة بن الزبير وهو حجة في ذلك لكونه أدرك أبا مسعود، وإن كان روي عنه هذا الحديث بواسطة، ويرجح اختيار البخاري ذلك بقول نافع حين حدثه أبو لبابة البدري فإنه نسبه إلى شهود بدر لا إلى نزولها وقد اختار أبو عبيد القاسم بن سلام أنه شهدها ذكره البغوي في معجمه عن عمه علي بن عبد العزيز عنه، وبذلك جزم ابن الكلبي ومسلم في الكنى. وقال الطبراني وأبو أحمد الحاكم يقال إنه شهدها. وقال البرقي: لم يذكره ابن إسحاق في البدريين. وفي غير هذا الحديث أنه شهدها انتهى. والقاعدة أن المثبت مقدم على النافي. وإنما رجح من نفي شهوده بدرا باعتقاده أن عمدة من أثبت ذلك وصفه بالبدري وأن تلك نسبة إلى نزول بدر لا إلى شهودها، لكن يضعف ذلك تصريح من صرح منهم بأنه شهدها كما في قوله: "فدخل عليه أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري جد زيد بن حسن شهد بدرا" قد مضى شرح الحديث في المواقيت من الصلاة، وزيد بن الحسن أي ابن علي بن أبي طالب لأن أمه أم بشير بنت أبي مسعود وكانت قبل الحسن عند سعيد بن زيد، ثم بعد الحسن عند عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة. مضى شرح الحديث في المواقيت من الصلاة. حديث أبي مسعود في فضل آخر البقرة، وسيأتي شرحه في فضائل القرآن، وشيخه موسى هو ابن إسماعيل التبوذكي، وفي إسناده أربعة من التابعين في نسق كلهم كوفيون.
4009- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ "أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الأَنْصَارِ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
4010- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ هُوَ ابْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: "ثُمَّ سَأَلْتُ الْحُصَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ أَحَدُ بَنِي سَالِمٍ وَهُوَ مِنْ سَرَاتِهِمْ عَنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ فَصَدَّقَهُ"
4011- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ بَنِي عَدِيٍّ وَكَانَ أَبُوهُ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ خَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ".
4013,4012- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ قَالَ "أَخْبَرَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّ عَمَّيْهِ وَكَانَا شَهِدَا بَدْرًا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ قُلْتُ لِسَالِمٍ فَتُكْرِيهَا أَنْتَ قَالَ نَعَمْ إِنَّ رَافِعًا أَكْثَرَ عَلَى نَفْسِهِ"
4014- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيَّ قَالَ "رَأَيْتُ رِفَاعَةَ بْنَ رَافِعٍ الأَنْصَارِيَّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا"
4015- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ وَيُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ

(7/319)


أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَوْا صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ ثُمَّ قَالَ أَ ظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ "
4016- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "كَانَ يَقْتُلُ الْحَيَّاتِ كُلَّهَا"
4017- حَتَّى حَدَّثَهُ أَبُو لُبَابَةَ الْبَدْرِيُّ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْلِ جِنَّانِ الْبُيُوتِ فَأَمْسَكَ عَنْهَا"
الحديث الرابع عشر ذكر في الحديث طرفا من حديث عتبان بن مالك في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، وشيخه أحمد هو ابن صالح المصري، وعنبسة هو ابن خالد، ويونس هو ابن يزيد، ولم يورد البخاري موضع الحاجة من الحديث وهي قوله في أوله: "إن عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا من الأنصار" وقد تقدم في أبواب المساجد من كتاب الصلاة، وكأنه اكتفى بالإيماء إليه كعادته. قوله: "وكان من أكبر بني عدي" أي ابن كعب بن لؤي، ولم يكن منهم وإنما كان حليفا لهم، ووصفه بكونه أكبر منهم بالنسبة لمن لقيه الزهري منهم. قوله: "وكان أبوه شهد بدرا" هو عامر بن ربيعة المزني، تقدم ذكره في أوائل الهجرة وأنه كان ممن سبق بالهجرة. قوله: "أن عمر استعمل قدامة بن مظعون" أي ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحي، وهو أخو عثمان بن مظعون أحد السابقين، ولم يذكر البخاري القصة لكونها موقوفة ليست على شرطه، لأن غرضه ذكر من شهد بدرا فقط، وقد أوردها عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري فزاد: "فقدم الجارود العقدي على عمر فقال: إن قدامة سكر، فقال: من يشهد معك؟ فقال: أبو هريرة، فشهد أبو هريرة أنه رآه سكران يقيء، فأرسل إلى قدامة، فقال له الجارودي: أقم عليه الحد. فقال له عمر: أخصم أنت أم شاهد؟ فصمت. ثم عاوده فقال: لتمسكن أو لأسوأنك. فقال ليس في الحق أن يشرب ابن عمك وتسوءني. فأرسل عمر إلى زوجته هند بنت الوليد فشهدت على زوجها، فقال عمر لقدامة: إني أريد أن أحدك، فقال: ليس لك ذلك لقول الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية. فقال: أخطأت التأويل، فإن بقية الآية {إِذَا مَا اتَّقَوْا} فإنك إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك، ثم أمر به فجلد، فغاضبه قدامة، ثم حجا جميعا، فاستيقظ عمر من نومه فزعا فقال: عجلوا بقدامة، أتاني آت فقال: صالح قدامة فإنه أخوك، فاصطلحا". قوله: "أخبر رافع بن خديج" بالرفع على الفاعلية "عبد الله بن عمر"

(7/320)


بالنصب على المفعولية ووقع في رواية المستملي: "أخبرني رافع" بزيادة النون والياء وهو خطأ. قوله: "أن عميه" هما ظهير ومظهر1 وقد تقدم ذلك في المزارعة مع شرح الحديث. قوله: "وكانا شهدا بدرا" أنكر ذلك الدمياطي وقال: إنما شهدا أحدا واعتمد على ابن سعد في ذلك، ومن أثبت شهودهما أثبت ممن نفاه. قوله: "رأيت رفاعة بن رافع الأنصاري وكان قد شهد بدرا" قد تقدم ذكر رفاعة ونسبه في باب شهود الملائكة بدرا، وبقية هذا الحديث أخرجه الإسماعيلي من طريق معاذ بن معاذ عن شعبة بلفظ: "سمع رجلا من أهل بدر يقال له رفاعة بن رافع كبر في صلاته حين دخلها" ومن طريق ابن أبي عدي عن شعبة ولفظه: "عن رفاعة رجل من أهل بدر أنه دخل في الصلاة فقال الله أكبر كبيرا" ولم يذكر البخاري ذلك لأنه موقوف ليس من غرضه. قوله: "أن عمرو بن عوف" هو الأنصاري حليف بني عامر بن لؤي، تقدم حديثه مشروحا في كتاب الجزية، وفي الإسناد صحابيان وتابعيان، وسيأتي في الرقاق بزيادة تابعي ثالث. الحديث التاسع عشر حديث أبي لبابة وسيأتي شرحه في اللباس، وأبو لبابة ممن ضرب له بسهمه وأجره ولم يحضر القتال.
4018- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "أَنَّ رِجَالًا مِنْ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ قَالَ وَاللَّهِ لاَ تَذَرُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا "
4019- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ ح حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ ثُمَّ الْجُنْدَعِيُّ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ فَاقْتَتَلْنَا فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لاَذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ أَسْلَمْتُ لِلَّهِ أَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقْتُلْهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيَّ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ"
[الحديث 4019- طرفه في: 6865]
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ بَدْرٍ مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْل ٍ فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ فَقَالَ آنْتَ أَبَا جَهْلٍ قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ سُلَيْمَانُ هَكَذَا قَالَهَا أَنَسٌ قَالَ أَنْتَ أَبَا جَهْلٍ؟
ـــــــ
1 تقدم في كتاب المزارعة(أوائل ج 5) ترجيح أن اسمه ظهير

(7/321)


قَالَ وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ قَالَ سُلَيْمَانُ أَوْ قَالَ قَتَلَهُ قَوْمُهُ قَالَ وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ قَالَ أَبُو جَهْلٍ فَلَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي".
4021- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ "لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا مِنْ الأَنْصَارِ فَلَقِينَا مِنْهُمْ رَجُلاَنِ صَالِحَانِ شَهِدَا بَدْرًا فَحَدَّثْتُ بِهِ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ هُمَا عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ وَمَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ".
الحديث العشرون قوله: "أن رجالا من الأنصار" أي ممن شهد بدرا، لأن العباس كان أسر ببدر كما سيأتي، وكان المشركون أخرجوه معهم إلى بدر، فأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: قد عرفت أن رجالا من بني هاشم قد أخرجوا كرها. فمن لقي أحدا منهم فلا يقتله " وروى أحمد من حديث البراء قال: "جاء رجل من الأنصار بالعباس قد أسره، فقال العباس: ليس هذا أسرني بل أسرني رجل أنزع. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "للأنصاري: أيدك الله بملك كريم " واسم هذا الأنصاري أبو اليسر بفتح التحتانية والمهملة، وهو كعب بن عمرو الأنصاري. وروى الطبراني من حديث أبي اليسر أنه أسر العباس. ومن حديث ابن عباس "قلت لأبي كيف أسرك أبو اليسر؟ ولو شئت لجعلته في كفك. قال: لا تقل ذلك يا بني". قوله: "فلنترك" بصيغة الأمر واللام للمبالغة. قوله: "لابن اختنا عباس" أي ابن عبد المطلب، وأم العباس ليست من الأنصار بل جدته أم عبد المطلب هي الأنصارية، فأطلقوا على جدة العباس أختا لكونها منهم، وعلى العباس ابنها لكونها جدته، وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد من بني عدي بن النجار ثم من بني الخزرج. وأما أم العباس فهي نتيلة بنون ومثناة من فوق ثم لام مصغر بنت جناب - بجيم ونون خفيفة بعد الألف موحدة - من ولد تيم اللات بن النمر بن قاسط، ووهم الكرماني فقال: أم العباس بن عبد المطلب كانت من الأنصار، وأخذ ذلك من ظاهر قول الأنصار "ابن أختنا" وليس كما فهمه، بل فيه تجوز كما بينته. وروى ابن عائذ في المغازي من طريق مرسل أن عمر لما ولي وثاق الأسرى شد وثاق العباس، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يئن فلم يأخذه النوم، فبلغ الأنصار فأطلقوا العباس، فكأن الأنصار لما فهموا رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفك وثاقه سألوه أن يتركوا له الفداء طلبا لتمام رضاه فلم يجبهم إلى ذلك. وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عباس افد نفسك وابن أخويك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمرو فإنك ذو مال ، قال: إني كنت مسلما، ولكن القوم استكرهوني، قال: الله أعلم بما تقول إن كنت ما تقول حقا إن الله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا" وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم كان أربعين أوقية ذهبا، وعند أبي نعيم في "الأوائل" بإسناد حسن من حديث ابن عباس" كان فداء كل واحد أربعين أوقية، فجعل على العباس مائة أوقية، وعلى عقيل ثمانين، فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ قال فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ} الآية، فقال العباس: وددت لو كنت أخذت مني أضعافها لقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} . قوله: "لا تذرون" بفتح الذال المعجمة أي لا تتركون من الفداء شيئا، وزاد الكشميهني في روايته: "لا تذرون له" أي للعباس. قبل: والحكمة في ذلك أنه خشي أن

(7/322)


يكون في ذلك محاباة له لكونه عمه لا لكونه قريبهم من النساء فقط، وفيه إشارة إلى أن القريب لا ينبغي له أن يتظاهر بما يؤذي قريبه وإن كان في الباطن يكره ما يؤذيه، ففي ترك قبول ما يتبرع له الأنصار به من الفداء تأديب لمن يقع له مثل ذلك. حديث المقداد بن الأسود، وفي إسناده ثلاثة من التابعين في نسق وهم مدنيون، وسيأتي شرحه في الديات مع ما يرفع الإشكال في قوله: "فإنك بمنزلته" والغرض من إيراده هنا قوله: "وكان ممن شهد بدرا" وقد تقدم أنه كان فارسا يومئذ. وإسحاق في الطريق الثانية شيخه هو ابن منصور. حديث أنس في قصة قتل أبي جهل. تقدم شرحه في أوائل هذه الغزوة، والغرض منه هنا بيان كون ابني عفراء شهدا بدرا. ذكر طرفا من حديث السقيفة والغرض منه ذكر عويم بن ساعدة ومعن بن عدي في أهل بدر فأما عويم فهو بالمهملة مصغر ابن ساعدة بن عياش بتحتانية ومعجمة ابن قيس بن النعمان وهو أوسي من بني عمرو بن عوف. وأما معن فهو بفتح الميم وسكون المهملة أي ابن عدي بن الجد بن عجلان أخو عاصم بن عدي، وهو بكري من حلفاء بني عمرو بن عوف. وموسى شيخه هو ابن إسماعيل، وعبد الواحد هو ابن زياد، وعبيد الله أي ابن عتبة بن مسعود، وقد مضى شرح حديث السقيفة في المناقب.
4022- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ فُضَيْلٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ "كَانَ عَطَاءُ الْبَدْرِيِّينَ خَمْسَةَ آلاَفٍ خَمْسَةَ آلاَفٍ وَقَالَ عُمَرُ لاَفَضِّلَنَّهُمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ"
4023- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِي"
4024- وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ"
وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ الأُولَى يَعْنِي مَقْتَلَ عُثْمَانَ فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ أَحَدًا ثُمَّ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ الثَّانِيَةُ يَعْنِي الْحَرَّةَ فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ أَحَدًا ثُمَّ وَقَعَتْ الثَّالِثَةُ فَلَمْ تَرْتَفِعْ وَلِلنَّاسِ طَبَاخٌ"
4025-حدثنا الحجاج بن منهال حدثنا عبد الله بن عمر النميري حدثنا يونس بن يزيد قال سمعت الزهري قال سمعت عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله عن حديث عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم كل حدثني طائفة من الحديث قالت "فأقبلت أنا وأم مسطح فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح, فقلت: بئس ما قلت,تسبين رجلا شهد بدرا" فذكر حديث الإفك.
4026- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ

(7/323)


قَالَ "هَذِهِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ "فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَهُوَ يُلْقِيهِمْ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالَ مُوسَى قَالَ نَافِعٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُنَادِي نَاسًا أَمْوَاتًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا قُلْتُ مِنْهُمْ " قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ أَحَدٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ قَالَ الزُّبَيْرُ "قُسِمَتْ سُهْمَانُهُمْ فَكَانُوا مِائَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ"
4027- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْرِ قَالَ ضُرِبَتْ يَوْمَ بَدْرٍ لِلْمُهَاجِرِينَ بِمِائَةِ سَهْمٍ"
الحديث الرابع والعشرون قوله: "عن إسماعيل" هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم. قوله: "كان عطاء البدريين خمسة آلاف" أي المال الذي يعطاه كل واحد منهم في كل سنة من عهد عمر فمن بعده. قوله: "وقال عمر لأفضلنهم" أي على غيرهم في زيادة العطاء، وفي حديث مالك بن أوس عن عمر" أنه أعطى المهاجرين خمسة آلاف خمسة آلاف، والأنصار أربعة آلاف أربعة آلاف، وفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأعطى كل واحده اثني عشر ألفا". حديث جبير بن مطعم في القراءة في المغرب بالطور، تقدم شرحه في الصلاة، وقد عزا المزي في "الأطراف" طريق إسحاق بن منصور هذه إلى التفسير فوهم، وهي في المغازي كما ترى، ووجه إيراده هنا ما تقدم في الجهاد أنه كان قدم في أسارى بدر، أي في طلب فدائهم. حديث جبير بن مطعم أيضا، وهو موصول بالإسناد الذي قبله، والمطعم هو والد جبير المذكور، والمراد بالنتنى - جمع نتن وهو بالنون والمثناة - أسارى بدر من المشركين، وقوله: "ليتركنهم له" أي بغير فداء، وبين ابن شاهين من وجه آخر السبب في ذلك وأن المراد باليد المذكورة ما وقع منه حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف ودخل في جوار المطعم بن عدي، وقد ذكر ابن إسحاق القصة في ذلك مبسوطة، وكذلك أوردها الفاكهي بإسناد حسن مرسل وفيه: "أن المطعم أمر أربعة من أولاده فلبسوا السلاح، وقام كل واحد منهم عند ركن من الكعبة. فبلغ ذلك قريشا فقالوا له: أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك" وقيل المراد باليد المذكورة أنه كان من أشد من قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم ومن معهم من المسلمين حين حصروهم في الشعب، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل السيرة، وروى الطبراني من طريق محمد بن صالح التمار عن الزهري عن محمد بن جبير عن أبيه قال قال المطعم بن عدي لقريش: إنكم قد فعلتم بمحمد ما فعلتم، فكونوا أكف الناس عنه" وذلك بعد الهجرة ثم مات المطعم بن عدي قبل وقعة بدر وله بضع وتسعون سنة، وذكر الفاكهي بإسناد مرسل أن حسان بن ثابت رثاه لما مات مجازاة له على ما صنع للنبي صلى الله عليه وسلم. وروى الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح عن علي قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: خير أصحابك في الأسرى: إن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عاما مقبلا مثلهم، قالوا: الفداء ويقتل منا". وأخرج مسلم هذه القصة مطولة من حديث عمر ذكر فيها السبب "هو أنه قال ما ترون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: أرى أن نأخذ منهم فدية تكون قوة لنا، وعسى الله أن يهديهم. فقال عمر: أرى أن

(7/324)


تمكنا منهم فتضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الكفر. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر" الحديث، وفيه نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وقد تقدم نقل خلاف الأئمة في جواز فداء أسرى الكفار بالمال في باب {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} من كتاب الجهاد، وقد اختلف السلف في أي الرأيين كان أصوب؟ فقال بعضهم كان رأي أبي بكر لأنه وافق ما قدر الله في نفس الأمر ولما استقر الأمر عليه، ولدخول كثير منهم في الإسلام إما بنفسه وإما بذريته التي ولدت له بعد الوقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب كما ثبت ذلك عن الله في حق من كتب له الرحمة، وأما العتاب على الأخذ ففيه إشارة إلى ذم من آثر شيئا من الدنيا على الآخرة ولو قل، والله أعلم. الحديث السابع والعشرون: قوله: "وقال الليث عن يحيى بن سعيد" لم يقع لي هذا الأثر من طريق الليث، وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق أحمد بن حنبل" عن يحيى بن سعيد القطان عن يحيى بن سعيد الأنصاري" نحوه. قوله: "وقعت الفتنة الأولى" يعني مقتل عثمان فلم تبق من أصحاب بدرا أحدا، أي أنهم ماتوا منذ قامت الفتنة بمقتل عثمان إلى أن قامت الفتنة الأخرى بوقعة الحرة، وكان آخر من مات من البدريين سعد بن أبي وقاص، ومات قبل وقعة الحرة ببضع سنين، وغفل من زعم أن قوله في الخبر "يعني مقتل عثمان" غلط مستندا إلى أن عليا وطلحة والزبير وغيرهم من البدريين عاشوا بعد عثمان زمانا، لأنه ظن أن المراد أنهم قتلوا عند مقتل عثمان، وليس ذلك مرادا، وقد أخرج ابن أبي خيثمة هذا الأثر من وجه آخر عن يحيى بن سعيد بلفظ: "وقعت فتنة الدار" الحديث، وفتنة الدار هي مقتل عثمان، وزعم الداودي أن المراد بالفتنة الأولى مقتل الحسين بن علي، وهو خطأ فإن في زمن مقتل الحسين بن علي لم يكن أحد من البدريين موجودا. قوله: "ثم وقعت الفتنة الثانية يعني الحرة إلخ" كانت الحرة في آخر زمن يزيد بن معاوية، وسيأتي شيء من خبرها في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. قوله: "ثم وقعت الثالثة" كذا في الأصول، ووقع في رواية ابن أبي خيثمة "ولو قد وقعت الثالثة" ورجحها الدمياطي بناء على أن يحيى بن سعيد قال ذلك قبل أن تقع الثالثة، ولم يفسر الثالثة كما فسر غيرها، وزعم الداودي أن المراد بها فتنة الأزارقة، وفيه نظر لأن الذي يظهر أن يحيى بن سعيد أراد الفتن التي وقعت بالمدينة دون غيرها، وقد وقعت فتنة الأزارقة عقب موت يزيد بن معاوية واستمرت أكثر من عشرين سنة. وذكر ابن التين أن مالكا روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: "لم تترك الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوم قتل عثمان ويوم الحرة" قال مالك "ونسيت الثالثة" قال ابن عبد الحكم: هو يوم خروج أبي حمزة الخارجي، قلت: كان ذلك في خلافة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم سنة ثلاثين ومائة، وكان ذلك قبل موت يحيى بن سعيد بمدة. ثم وجدت ما أخرجه الدار قطني في غرائب مالك بإسناد صحيح إليه عن يحيى بن سعيد نحو هذا الأثر وقال في آخره: "وإن وقعت الثالثة لم ترتفع وبالناس طباخ" وأخرجه ابن أبي خيثمة بلفظ: "ولو وقعت" وهذا بخلاف الجزم بالثالثة في حديث الباب، ويمكن بأن يكون يحيى بن سعيد قال هذا أولا ثم وقعت الفتنة الثالثة المذكورة وهو حي فقال ما نقله عنه الليث بن سعد، وقوله: "طباخ" بفتح المهملة والموحدة الخفيفة وآخره معجمة أي قوة، قال الخليل: أصل الطباخ السمن والقوة، ويستعمل في العقل والخير، قال حسان:
المال يغشى رجالا لا طباخ لهم ... كالسيل يغشى أصول الدندن البالي
انتهى. والدندن بكسر المهملتين وسكون النون الأولى ما اسود من النبات. الحديث الثامن والعشرون ذكر

(7/325)


طرفا من حديث الإفك المذكور في هذا السند، وسيأتي شرحه في التفسير مستوفى، والغرض منه شهادة عائشة لمسطح بأنه من أهل بدر، وهو مسطح بن أثاثة بضم الهمزة وتخفيف المثلثة ابن عباد بن المطلب وليس لعبد الله بن عمر النميري عند البخاري غير هذا الحديث. الحديث التاسع والعشرون قوله: "عن ابن شهاب قال: هذه مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث" أي ما حمله موسى بن عقبة عن ابن شهاب من ذلك. قوله: "وهو يلقيهم" بتشديد القاف المكسورة بعدها تحتانية ساكنة. وفي رواية المستملي بسكون اللام وتخفيف القاف من الإلقاء وفي رواية الكشميهني بعين مهملة ونون من اللعن، وكذا هو في" مغازي موسى بن عقبة". قوله: "قال موسى بن عقبة" هو بالإسناد المذكور إليه، وعبد الله هو ابن عمر. قوله: "قال ناس من أصحابه" تقدم شرحه وأن ممن خاطبه بذلك عمر. قوله: "فجميع من شهد بدرا من قريش" هو بقية كلام موسى بن عقبة عن ابن شهاب، وقوله: "ممن ضرب له بسهمه أحد وثمانون" يريد بقوله: "ضرب له بسهمه" أي أعطاه نصيبا من الغنيمة وإن لم يشهدها لعذر له فصيره كمن شهدها. قوله: "وكان عروة بن الزبير يقول "هو بقية كلام موسى بن عقبة عن ابن شهاب، وقد استظهر له المصنف بالحديث الذي بعده، لكن العدد الذي ذكره يغاير حديث البراء الماضي في أوائل هذه القصة وهي قوله: "أن المهاجرين كانوا زيادة على ستين" فيجمع بينهما بأن حديث البراء أورده فيمن شهدها حسا، وحديث الباب فيمن شهدها حسا وحكما. ويحتمل أن يكون المراد بالعدد الأول الأحرار والثاني بانضمام مواليهم وأتباعهم، وقد سرد ابن إسحاق أسماء من شهد بدرا من المهاجرين وذكر معهم حلفاءهم ومواليهم فبلغوا ثلاثة وثمانين رجلا، وزاد عليه ابن هشام في "تهذيب السيرة" ثلاثة. وأما الواقدي فسردهم خمسة وثمانين رجلا. وروى أحمد والبزار والطبراني من حديث ابن عباس "أن المهاجرين ببدر كانوا سبعة وسبعين رجلا" فلعله لم يذكر من ضرب له بسهم ممن لم يشهدها حسا. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "ضربت يوم بدر للمهاجرين بمائة سهم" عند ابن عائذ من طريق أبي الأسود عن عروة "سألت الزبير على كم سهم جاء للمهاجرين يوم بدر؟ قال على مائة سهم" قال الداودي هذا يغاير قوله: "كانوا إحدى وثمانين" قال فإن كان قوله بمائة سهم من كلام الزبير فلعله دخله شك في العدد، ويحتمل أن يكون من قول الراوي عنه، قال: وإنما كانوا على التحرير أربعة وثمانين، وكان معهم ثلاثة أفراس فأسهم لها سهمين سهمين، وضرب لرجال كان أرسلهم في بعض أمره بسهامهم فصح أنها كانت مائة بهذا الاعتبار. قلت: هذا الذي قاله أخيرا لا بأس به، لكن ظهر أن إطلاق المائة إنما هو باعتبار الخمس، وذلك أنه عزل خمس الغنيمة ثم قسم ما عداه على الغانمين على ثمانين سهما عدد من شهدها ومن ألحق بهم، فإذا أضيف إليه الخمس كان ذلك من حساب مائة سهم، والله أعلم.

(7/326)


باب من سمى من أهل بدر في الجامع الذي وضعه البخاري على حروف المعجم
...
13 - باب تَسْمِيَةُ مَنْ سُمِّيَ مِنْ أَهْلِ بَدْر
ٍفِي الْجَامِعِ الَّذِي وَضَعَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ
النَّبِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَاسُ بْنُ الْبُكَيْرِ بِلاَلُ بْنُ رَبَاحٍ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الْقُرَشِيِّ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حَلِيفٌ لِقُرَيْشٍ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ حَارِثَةُ

(7/326)


ابْنُ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيُّ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ كَانَ فِي النَّظَّارَةِ خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيُّ خُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ الأَنْصَارِيُّ رِفاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَبُو لُبَابَةَ الأَنْصَارِيُّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ الْقُرَشِيُّ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ أَبُو طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ أَبُو زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الزُّهْرِيُّ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ الْقُرَشِيُّ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْقُرَشِيُّ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ الأَنْصَارِيُّ ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ الأَنْصَارِيُّ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الْقُرَشِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيُّ عُتْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ الْقُرَشِيُّ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ الأَنْصَارِيُّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْقُرَشِيُّ خَلَّفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنَتِهِ وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ حَلِيفُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَنْصَارِيُّ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنَزِيُّ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ الأَنْصَارِيُّ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ الأَنْصَارِيُّ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ مُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ وَأَخُوهُ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ أَبُو أُسَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيُّ مَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيُّ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ مِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ هِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الأَنْصَارِيُّ رضي الله عنهم".
قوله: "باب تسمية من سمي من أهل بدر في الجامع" أي دون من لم يسم فيه، ودون من لم يذكر فيه أصلا. والمراد بالجامع هذا الكتاب، والمراد بمن سمي من جاء فيه برواية عنه أو عن غيره بأنه شهدها لا بمجرد ذكره دون التنصيص على أنه شهدها، وبهذا يجاب عن ترك إيراده مثل أبي عبيدة بن الجراح فإنه شهدها باتفاق، وذكر في الكتاب في عدة مواضع، إلا أنه لم يقع فيه التنصيص على أنه شهد بدرا. قوله: "النبي محمد بن عبد الله الهاشمي صلى الله عليه وسلم" قلت بدأ به تبركا وتيمنا بذكره، وإلا فذلك من المقطوع به. قوله: "أبو بكر" تقدم ذكره في مواضع منها في" باب إذ تستغيثون ربكم". قوله: "عمر" ذكره في حديث أبي طلحة. قوله: "عثمان" قلت لم يتقدم له ذكر في هذه القصة، إلا أنه تقدم في المناقب من قول ابن عمر أنه ضرب له بسهمه. قوله: "علي بن أبي طالب" تقدم في حديث المبارزة وفي غيره. قوله: "إياس بن البكير" تقدم قبل "باب شهود الملائكة بدرا" وقد سرد المصنف من هذه الأسماء على حروف المعجم، وذكر بعض ذوي الكنى معتمدا على الاسم دون أداة الكنية فلهذا قال أبو حذيفة في حرف الحاء، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم والأربعة قبل الباقين لشرفهم، وفي بعض النسخ قدم النبي صلى الله عليه وسلم فقط وذكر الأربعة في حرف العين والخطب فيه سهل. ثم إن إياس بن البكير المذكور بكسر الهمزة بعدها تحتانية وآخره مهملة، ووهم من ضبطه بفتح الهمزة، وأما أبوه فتقدم ضبطه، وقد شهد مع إياس بدرا إخوته عاقل وعامر وغيرهما، ولكن لما لم يقع ذكرهم في الجامع لم يذكرهم. قوله: "بلال" تقدم في حديث عبد الرحمن بن عوف في قتل أمية بن خلف. قوله: "حمزة" تقدم في أول القصة. قوله: "حاطب" تقدم في فضل من شهد بدرا. قوله: "أبو حذيفة"

(7/327)


تقدم في الحديث الخامس من الباب الأخير. قوله: "حارثة بن الربيع" يعني بالتشديد هو ابن سراقة، تقدم في أول "باب فضل من شهد ا" وقوله: "كان في النظارة" أشار إلى ما وقع في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أنه خرج نظارا أخرجه أحمد والنسائي وزاد: "ما خرج لقتال". قوله: "خبيب بن عدي" تقدم في حديث أبي هريرة، وسيأتي ما قيل فيه في الكلام على غزوة الرجيع. قوله: "خنيس بن حذافة" تقدم في العاشر في الباب الأخير. قوله: "رفاعة بن رافع" تقدم في "باب فضل من شهد بدرا". قوله: "رفاعة بن عبد المنذر أبو لبابة" تقدم في التاسع عشر من الباب الأخير، وجزمه بأن اسمه رفاعة خالف فيه الأكثر فإنهم قالوا إن اسمه بشير وإن رفاعة أخوه. قوله: "الزبير بن العوام" تقدم في عدة أحاديث. قوله: "زيد بن سهل أبو طلحة" تقدم في "باب الدعاء على المشركين". قوله: "أبو زيد الأنصاري" تقدم من حديث أنس. قوله: "سعد بن مالك" هو ابن أبي وقاص، ولم يتقدم له ذكر في هذه القصة، ولكن هو منهم بالاتفاق، ويحتمل أن يكون أخذه من أثر سعيد بن المسيب على بعد في ذلك. قوله: "سعد بن خولة" تقدم في قصة سبيعة الأسلمية. قوله: "سعيد بن زيد" تقدم في أثر نافع عن ابن عمر. قوله: "سهل بن حنيف" تقدم في حديث علي أنه كبر عليه خمسا. قوله: "ظهير بن رافع" تقدم في حديث رافع بن خديج وأنه عمه وأن اسم أخيه مظهر، ولم يسم البخاري أخاه. قوله: "عبد الله بن مسعود" تقدم في أوائله. قوله: "عتبة بن مسعود" يعني أخاه. قلت: ولم يتقدم له ذكر بل ولا ذكره أحد ممن صنف في المغازي في البدريين، وقد سقط ذكره من رواية النسفي ولم يذكره الإسماعيلي ولا أبو نعيم في مستخرجيهما وهو المعتمد. قوله: "عبد الرحمن بن عوف" تقدم في قتل أبي جهل وغيره. قوله: "عبيدة بن الحارث" تقدم في حديث علي. قوله: "عبادة بن الصامت" تقدم بعد "باب شهود الملائكة بدرا". قوله: "عمرو بن عوف" تقدم فيه. قوله: "عقبة بن عمرو" أبو مسعود البدري تقدم مترجما بثلاثة أحاديث. قوله: "عامر بن ربيعة العنزي" بالنون والزاي، وقع في رواية الكشميهني: "العدوي" وكلاهما صواب، فإنه عنزي الأصل عدوي الحلف. قوله: "عاصم بن ثابت" تقدم في حديث أبي هريرة. قوله: "عويم بن ساعدة" تقدم في حديث السقيفة. قوله: "عتبان بن مالك" تقدم في "باب شهود الملائكة بدرا". قوله: "قدامة بن مظعون" تقدم فيه. قوله: "قتادة بن النعمان" تقدم في أول الباب في حديث أبي سعيد. قوله: "معاذ بن عمرو بن الجموح" بفتح الجيم وتخفيف الميم المضمومة وآخره مهملة، تقدم في قتل أبي جهل. قوله: "معوذ ابن عفراء" هي أمه، واسم أبيه الحارث، ومعوذ بتشديد الواو وبفتحها على الأشهر، وجزم الوقشي بأنه بالكسر. قوله: "وأخوه" عوف بن الحارث، تقدم ذكرهما. قوله: "مالك بن ربيعة أبو أسيد" تقدم في أول "باب من شهد بدرا" ونبه عياض على أن من لا معرفة له قد يتوهم أن مالكا أخو معاذ لأن سياق البخاري هكذا" معاذ ابن عفراء أخوه مالك بن ربيعة "وليس ذلك مراده بل قوله أخوه أي عوف ولم يسمه، ثم استأنف فقال: "مالك بن ربيعة" ولو كتبه بواو العطف لارتفع اللبس، وكذا وقع عند بعض الرواة. قوله: "مرارة بن الربيع" تقدم في حديث كعب بن مالك. قوله: "معن بن عدي" تقدم مع عويم بن ساعدة. قوله: "مسطح بن أثاثة" تقدم في أواخر الباب الأخير، ووقع هنا لأبي زيد في نسبته "عباد بن عبد المطلب" والصواب حذف "عبد". قوله: "المقداد بن عمرو" تقدم، ووقع في رواية الكشميهني: "المقدام" بميم في آخره وهو غلط. قوله: "هلال بن أمية" تقدم مع مرارة. قلت فجملة من

(7/328)


ذكر من أهل بدر هنا أربعة وأربعون رجلا، وقد سبق البخاري إلى ترتيب أهل بدر على حروف المعجمة وهو أضبط لاستيعاب أسمائهم، ولكنه اقتصر على ما وقع عنده منهم، واستوعبهم الحافظ ضياء الدين المقدسي في "كتاب الأحكام" وبين اختلاف أهل السير في بعضهم وهو اختلاف غير فاحش، وأورد ابن سيد الناس أسماءهم في "عيون الأثر" لكن على القبائل كما صنع ابن إسحاق وغيره، واستوعب ما وقع له من ذلك فزادوا - على ثلاثمائة وثلاثة عشر - خمسين رجلا، قال: وسبب الزيادة الاختلاف في بعض الأسماء قلت: ولولا خشية التطويل لسردت أسماءهم مفصلا مبينا للراجح، لكن في هذه الإشارة كفاية، والله المستعان.

(7/329)


باب حديث بني النضير ومخرج رول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في دية الرجلين
...
14 - باب حَدِيثِ بَنِي النَّضِيرِ
وَمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فِي دِيَةِ الرَّجُلَيْنِ وَمَا أَرَادُوا مِنْ الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ كَانَتْ عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَبْلَ أُحُدٍ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى[2 الحشر] {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} وَجَعَلَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَأُحُدٍ.
4028- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "حَارَبَتْ َقُرَيْظَةُ و النَّضِيرُ فَأَجْلَى بَنِي النَّضِيرِ وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ فَقَتَلَ رِجَالَهُمْ وَقَسَمَ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلاَدَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ بَعْضَهُمْ لَحِقُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَهُمْ وَأَسْلَمُوا وَأَجْلَى يَهُودَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَهُمْ رَهْطُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ وَيَهُودَ بَنِي حَارِثَةَ وَكُلَّ يَهُودِ الْمَدِينَةِ"
4029- حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ "قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ قَالَ قُلْ سُورَةُ النَّضِيرِ" تَابَعَهُ هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ
[الحديث 4029- أطرافه في: 4883,4882,4645]
4030- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخَلاَتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ"
4031- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "حَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ فَنَزَلَتْ [59 الحشر] {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ}
4032- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ أَخْبَرَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ قَالَ وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ

(7/329)


قَالَ فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ:
أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ ... وَحَرَّقَ فِي نَوَاحِيهَا السَّعِيرُ
سَتَعْلَمُ أَيُّنَا مِنْهَا بِنُزْهٍ ... وَتَعْلَمُ أَيُّ أَرْضَيْنَا تَضِيرُ
قوله: "حديث بني النضير" بفتح النون وكسر الضاد المعجمة، هم قبيلة كبيرة من اليهود، وقد مضت الإشارة إلى التعريف بهم في أوائل الكلام على أحاديث الهجرة. وكان الكفار بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: قسم وادعهم على أن لا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوه، وهم طوائف اليهود الثلاثة قريظة والنضير وقينقاع. وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش. وقسم تاركوه وانتظروا ما يئول إليه أمره كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة، وبالعكس كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا وهم المنافقون، فكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع فحاربهم في شوال بعد وقعه بدر فنزلوا على حكمه، وأراد قتلهم فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي وكانوا حلفاءه فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات. ثم نقض العهد بنو النضير كما سيأتي، وكان رئيسهم حيي بن أخطب. ثم نقضت قريظة كما سيأتي شرح حالهم بعد غزوة الخندق إن شاء الله تعالى. قوله: "ومخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم" سيأتي شرح ذلك في نقل كلام ابن إسحاق في هذا الباب. قوله: "وقال الزهري عن عروة بن الزبير: كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل وقعة أحد" وصله عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري أتم من هذا ولفظه عن الزهري وهو في حديثه عن عروة" ثم كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكانت منازلهم ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال لا الحلقة يعني السلاح فأنزل الله فيهم: {سَبَّحَ لِلَّهِ} - إلى قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} وقاتلهم حتى صالحهم على الجلاء فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم الجلاء ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسباء. وقوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} فكان جلاؤهم أول حشر حشرا في الدنيا إلى الشام وحكى ابن التين عن الداودي أنه رجح ما قال ابن إسحاق من أن غزوة بني النضير كانت بعد بئر معونة، مستدلا بقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} قال: وذلك في قصة الأحزاب. قلت: وهو استدلال واه، فإن الآية نزلت في شأن بني قريظة، فإنهم هم الذين ظاهروا الأحزاب، وأما بنو النضير فلم يكن لهم في الأحزاب ذكر، بل كان من أعظم الأسباب في جمع الأحزاب ما وقع من جلائهم، فإنه كان من رءوسهم حيي بن أخطب وهو الذي حسن لبني قريظة الغدر وموافقة الأحزاب كما سيأتي، حتى كان من هلاكهم ما كان، فكيف يصير السابق لاحقا؟. قوله: "وقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} - إلى قوله: {أَنْ يَخْرُجُوا} وقد وضح المراد من ذلك في أثر عبد الرزاق المذكور، وقد أورد ابن إسحاق تفسيرها لما ذكر هذه الغزوة. واتفق أهل العلم على أنها نزلت في هذه القصة، قاله السهيلي، قال: ولم يختلفوا في أن أموال بني النضير كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن المسلمين لم يوجفوا بخيل ولا ركاب وأنه لم يقع بينهم قتال أصلا. قوله: "وجعله ابن إسحاق بعد بئر معونة وأحد" كذا هو في المغازي لابن إسحاق مجزوما به، ووقع في رواية القابسي

(7/330)


"وجعله إسحاق" قال عياض: وهو وهم والصواب "ابن إسحاق" وهو كما قال. ووقع في شرح الكرماني "محمد بن إسحاق بن نصر" وهو غلط، وإنما اسم جده يسار، وقد ذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيره من أهل العلم أن عامر بن الطفيل أعتق عمرو بن أمية لما قتل أهل بئر معونة عن رقبة كانت على أمه، فخرج عمرو إلى المدينة فصادف رجلين من بني عامر معهما عقد وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو ممن أنتما؟ فذكرا أنهما من بني عامر فتركهما حتى ناما فقتلهما عمرو وظن أنه ظفر ببعض ثأر أصحابه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: لقد قتلت قتيلين لأودينهما. انتهى. وسيأتي خبر غزوة بئر معونة بعد غزوة أحد، وفيها عن عروة "أن عمرو بن أمية الضمري كان مع المسلمين، فأسره المشركون" قال ابن إسحاق" فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في ديتهما فيما حدثني يزيد بن رومان، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف، فلما أتاهم يستعينهم قالوا: نعم. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذه الحال. قال: وكان جالسا إلى جانب جدار لهم، فقالوا من رجل يعلو على هذا البيت فيلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فأتاه الخبر من السماء فقام مظهرا أنه يقضي حاجة وقال لأصحابه: لا تبرحوا، ورجع مسرعا إلى المدينة، واستبطأه أصحابه فأخبروا أنه توجه إلى المدينة، فلحقوا به، فأمر بحربهم والمسير إليهم، فتحصنوا، فأمر بقطع النخل والتحريق" وذكر ابن إسحاق أنه حاصرهم ست ليال، وكان ناس من المنافقين بعثوا إليهم أن اثبتوا وتمنعوا، فإن قوتلتم قاتلنا معكم، فتربصوا، فقذف الله في قلوبهم الرعب فلم ينصروهم، فسألوا أن يخلوا عن أرضهم على أن لهم ما حملت الإبل فصولحوا على ذلك. وروى البيهقي في "الدلائل" من حديث محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام، قال ابن إسحاق: فاحتملوا إلى خبير وإلى الشام، قال فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنهم جلوا الأموال من الخيل والمزارع فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة. قال ابن إسحاق: ولم يسلم منهم إلا يامين بن عمير وأبو سعيد بن وهب فأحرزا أموالهما. وروى ابن مردويه قصة بني النضير بإسناد صحيح إلى معمر عن الزهري" أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتب كفار قريش إلى عبد الله بن أبي وغيره ممن يعبد الأوثان قبل بدر يهددونهم بإيوائهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويتوعدونهم أن يغزوهم بجميع العرب، فهم ابن أبي ومن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما كادكم أحد بمثل ما كادتكم قريش، يريدون أن تلقوا بأسكم بينكم ، فلما سمعوا ذلك عرفوا الحق فتفرقوا. فلما كانت وقعة بدر كتبت كفار قريش بعدها إلى اليهود: أنكم أهل الحلقة والحصون، يتهدمونهم، فأجمع بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك. ففعل. فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليهم، فرجع، وصبحهم بالكتائب فحصرهم يومه، ثم غدا على بني قريظة فحاصرهم فعاهدوه فانصرف عنهم إلى بني النضير، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا السلاح، فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم فيهدمونها، ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام. وكذا أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن عبد الرزاق، وفي ذلك رد على ابن

(7/331)


التين في زعمه أنه ليس في هذه القصة حديث بإسناد، قلت: فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير طلبه صلى الله عليه وسلم أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافق ابن إسحاق جل أهل المغازي، فالله أعلم. وإذا ثبت أن سبب إجلاء بني النضير ما ذكر من همهم بالغدر به صلى الله عليه وسلم، وهو إنما وقع عند ما جاء إليهم ليستعين بهم في دية قتيلي عمرو بن أمية، تعين ما قال ابن إسحاق، لأن بئر معونة كانت بعد أحد بالاتفاق. وأغرب السهيلي فرجح ما قال الزهري، ولولا ما ذكر في قصة عمرو بن أمية لأمكن أن يكون ذلك في غزوة الرجيع، والله أعلم. حديث ابن عمر" حاربت النضير وقريظة فأجلى بني النضير" كذا فيه ولم يعين المفعول من حاربت ولم يسم فاعل أجلى، والمراد النبي صلى الله عليه وسلم. وكان سبب وقوع المحاربة نقضهم العهد: أما النضير فبالسبب الآتي ذكره وهو ما ذكره موسى بن عقبة في المغازي قال: كانت النضير قد دسوا إلى قريش وحضوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلوهم على العورة ثم ذكر نحوا مما تقدم عن ابن إسحاق من مجيء النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرجلين قال وفي ذلك نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} الآية. وعند ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم محمد بن مسلمة أن اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بعد أن هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرا. وأما قريظة فبمظاهرتهم الأحزاب على النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق كما سيأتي. قوله: "حتى حاربت قريظة" سيأتي شرح ذلك بعد غزوة الخندق إن شاء الله تعالى. كذا وقع تقديم قريظة على النضير وكأنه لشرفهم، وإلا فإجلاء النضير كان قبل قريظة بكثير. قوله: "والنضير" ذكر ابن إسحاق في قصته أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل إليهم أن اخرجوا وأجلهم عشرا وأرسل إليهم عبد الله بن أبي يثبطهم أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنا لا نخرج، فاصنع ما بدا لك. فقال: الله أكبر، حاربت يهود فخرج إليهم، فخذلهم ابن أبي ولم تعنهم قريظة. وروى عبد بن حميد في تفسيره من طريق عكرمة أن غزوة بني النضير كانت صبيحة قتل كعب بن الأشرف، يعني الآتي ذكره عقب هذا. قوله: "بني قينقاع" هو بالنصب على البدلية، ونون قينقاع مثلثة والأشهر فيها الضم، وكانوا أول من أخرج من المدينة كما تقدم في أول الباب. وروى ابن إسحاق في المغازي عن أبيه عن عبادة بن الوليد عن عبادة بن الصامت قال: "لما حاربت بنو قينقاع قام بأمرهم عبد الله بن أبي فمشى عبادة بن الصامت وكان له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي، فتبرأ عبادة منهم. قال: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} وكان عبد الله بن أبي لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يمن عليهم قال: يا محمد إنهم منعوني من الأسود والأحمر، وإني امرؤ أخشى الدوائر، فوهبهم له. وذكر الواقدي أن إجلاءهم كان في شوال سنة اثنتين، يعني بعد بدر بشهر. ويؤيده ما روى ابن إسحاق بإسناد حسن عن ابن عباس قال: "لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر جمع يهود في سوق بني قينقاع فقال يا يهود: أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشا يوم بدر ، فقالوا: إنهم كانوا لا يعرفون القتال ولو قاتلتنا لعرفت أنا الرجال. فأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} إلى قوله: {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} وأغرب الحاكم فزعم أن إجلاء بني قينقاع وإجلاء بني النضير كان في زمن واحد، ولم يوافق على ذلك لأن إجلاء بني النضير كان بعد بدر بستة أشهر على قول عروة، أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق كما تقدم بسطه. حديث ابن عباس في تسمية سورة الحشر سورة النضير لأنها نزلت فيهم، قال الداودي: كأن ابن عباس كره تسميتها سورة الحشر لئلا يظن أن المراد بالحشر يوم القيامة،

(7/332)


أو لكونه مجملا فكره النسبة إلى غير معلوم. كذا قال، وعند ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس قال: نزلت سورة الحشر في بني النضير، وذكر الله فيها الذي أصابهم من النقمة. قوله: "حدثنا الحسن بن مدرك" كذا للجميع، وفي نسخة "إسحاق" بدل الحسن وهو غلط. قوله: "تابعه هشيم إلخ" وصله المصنف في التفسير كما سيأتي هناك. قوله: "عن أبيه" هو سليمان التيمي. قوله: "كان الرجل يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات" تقدم هذا الحديث بهذا الإسناد في الخمس، وسيأتي في أول غزوة قريظة بأتم من هذا السياق. وقوله: "فكان بعد ذلك يرد عليهم" زاد في الرواية الأخرى "ما كانوا أعطوه" وروى الحاكم في "الإكليل" من حديث أم العلاء قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "للأنصار لما فتح النضير: إن أحببتم قسمت بينكم ما أفاء الله علي، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا عنكم، فاختاروا الثاني". قوله: "حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير" في رواية الكشميهني: "نخل النضير". قوله: "وهي البويرة" بالموحدة مصغر بؤرة وهي الحفرة، وهي هنا مكان معروف بين المدينة وبين تيماء، وهي من جهة قبلة مسجد قباء إلى جهة الغرب ويقال لها أيضا البويلة باللام بدل الراء. قوله: "فنزل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ}" هي صنف من النخل، قال السهيلي: في تخصيصها بالذكر إيماء إلى أن الذي يجوز قطعه من شجر العدو ما لا يكون معدا للاقتيات، لأنهم كانوا يقتاتون العجوة والبرني دون اللينة. وفي الجامع: اللينة النخلة وقيل الدفل، وعن الفراء كل شيء من النخل سوى العجوة فهو من اللين. قوله في الرواية الثانية "أخبرنا حبان" هو ابن هلال، وهو بفتح المهملة بعدها موحدة ثقيلة، وإسحاق الراوي عنه هو ابن راهويه. قوله: "ولها يقول حسان بن ثابت: وهان على سراة بني لؤي" كذا للأكثر. وفي رواية الكشميهني: "لهان باللام" بدل الواو، وسقطت اللام والواو من رواية الإسماعيلي. وقوله: "سراة" بفتح المهملة وتخفيف الراء جمع سري وهو الرئيس، وقوله: "حريق بالبويرة مستطير" أي مشتعل، وإنما قال حسان ذلك تعييرا لقريش لأنهم كانوا أغروهم بنقض العهد وأمروهم به ووعدوهم أن ينصروهم إن قصدهم النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فأجابه أبو سفيان بن الحارث" أي ابن عبد المطلب، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حينئذ لم يسلم وقد أسلم بعد في الفتح وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم بحنين، وذكر إبراهيم بن المنذر أن اسمه المغيرة وجزم ابن قتيبة أن المغيرة أخوه، وبه جزم ابن عبد البر والسهيلي. قوله: "ستعلم أينا منها بنزه" بنون ثم زاي ساكنة أي ببعد وزنا ومعنى، ويقال بفتح النون أيضا. وقوله: "وتعلم أي أرضينا" بالتثنية، وقوله: "تضير" بفتح المثناة وكسر الضاد المعجمة من الضير وهو بمعنى الضر، ويطلق الضير ويراد به المضرة. ونسبة هذه الأبيات لحسان بن ثابت وجوابها لأبي سفيان بن الحارث هو المشهور كما وقع في هذا الصحيح، وعند مسلم بعض ذلك، وعند شيخ شيوخنا أبي الفتح بن سيد الناس في "عيون الأثر" له عن أبي عمرو الشيباني أن الذي قال له "وهان على سراة بني لؤي" هو أبو سفيان بن الحارث، وأنه إنما قال: "عز" يدل هان، وأن الذي أجاب بقوله: "أدام الله ذلك من صنيع" البيتين هو حسان، قال: وهو أشبه من الرواية التي وقعت في البخاري ا هـ. ولم يذكر مستندا للترجيح، والذي يظهر أن الذي في الصحيح أصح، وذلك أن قريشا كانوا يظاهرون كل من عادى النبي صلى الله عليه وسلم عليه ويعدونهم النصر والمساعدة، فلما وقع لبني النضير من الخذلان ما وقع قال حسان الأبيات المذكورة موبخا لقريش - وهم بنو لؤي - كيف خذلوا أصحابهم. وقد ذكر ابن إسحاق أن حسان قال ذلك في غزوة بني قريظة، وأنه إنما ذكر بني

(7/333)


النضير استطرادا، فمن الأبيات المذكورة:
ألا يا سعد سعد بني معاذ ... فما فعلت قريظة والنضير
وفيها:
وقد قال الكريم أبو حباب ... أقيموا قينقاع ولا تسيروا
وأولها:
تقاعد معشر نصروا قريشا ... وليس لهم ببلدتهم نصير
هم أوتوا الكتاب فضيعوه ... فهم عمي عن التوراة بور
كفرتم بالقرآن لقد لقيتم ... بتصديق الذي قال النذير
وفي جواب أبي سفيان بن الحارث في قوله: و "تعلم أي أرضينا تضير" ما يرجح ما وقع في الصحيح، لأن أرض بني النضير مجاورة لأرض الأنصار، فإذا خربت أضرت بما جاورها، بخلاف أرض قريش فإنها بعيدة منها بعدا شديدا فلا تبالي بخرابها، فكان أبو سفيان يقول تخربت أرض بني النضير وتخريبها إنما يضر أرض من جاورها، وأرضكم هي التي تجاورها فهي التي تتضرر لا أرضنا، ولا يتهيأ مثل هذا في عكسه إلا بتكلف، وهو أن يقال: إن الميرة كانت تحمل من أرض بني النضير إلى مكة فكانوا يرتفقون بها، فإذا خربت تضرهم، بخلاف المدينة فإنها في غنية عن أرض بني النضير بغيرها كخيبر ونحوها فيتجه بعض اتجاه، لكن إذا تعارضا كان ما في الصحيح أصح. ويحتمل إن كان ما قال أبو عمرو الشيباني محفوظا أن أبا سفيان بن الحارث ضمن في جوابه بيتا من قصيدة حسان فاهتدمه، فلما قال حسان: "وهان على سراة بني لؤي" اهتدمه أبو سفيان فقال: "وعز على سراة بني لؤي" وهو عمل سائغ، وكأن من أنكر ذلك استبعد أن يدعو أبو سفيان بن الحارث على أرض الكفرة مثله بالتحريق في قوله: "أدام الله ذلك من صنيع" والجواب عنه أن اسم الكفرة وإن جمعهم لكن العداوة الدينية كانت قائمة بينهم كما بين أهل الكتاب وعبدة الأوثان من التباين، وأيضا فقوله: "وحرق في نواحيها السعير" يريد بنواحيها المدينة فيرجع ذلك دعاء على المسلمين أيضا. ولكعب بن مالك في هذه القصة قصيدة على هذا الوزن والروي أيضا ذكرها ابن إسحاق أولها:
لقد منيت بغدرتها الحبور ... كذاك الدهر ذو صرف يدور
يقول فيها:
فغودر منهم كعب صريعا ... فذلت عند مصرعه النضير
يشير إلى كعب بن الأشرف الذي سيذكر قتله عقب هذا، وفيها:
فذاقوا غب أمرهم وبالا ... لكل ثلاثة منهم بعير
فأجلوا عامدين بقينقاع ... وغودر منهم نخل ودور
4033- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيُّ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ إِذْ جَاءَهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ يَسْتَأْذِنُونَ فَقَالَ نَعَمْ فَأَدْخِلْهُمْ فَلَبِثَ قَلِيلًا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ يَسْتَأْذِنَانِ قَالَ

(7/334)


نَعَمْ فَلَمَّا دَخَلاَ قَالَ عَبَّاسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِي الَّذِي أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ فَاسْتَبَّ عَلِيٌّ وَعَبَّاسٌ فَقَالَ الرَّهْطُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ فَقَالَ عُمَرُ اتَّئِدُوا أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ قَالُوا قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَالاَ نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ [6 الحشر] {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} إِلَى قَوْلِهِ {قَدِيرٌ} فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلاَ اسْتَأْثَرَهَا عَلَيْكُمْ لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَقَسَمَهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ هَذَا الْمَالُ مِنْهَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ فَعَمِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتَهُ ثُمَّ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضَهُ أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهِ بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ وَقَالَ تَذْكُرَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهِ كَمَا تَقُولاَنِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ فِيهِ لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ فَقَبَضْتُهُ سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي أَعْمَلُ فِيهِ بِمَا عَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي فِيهِ صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ثُمَّ جِئْتُمَانِي كِلاَكُمَا وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ فَجِئْتَنِي يَعْنِي عَبَّاسًا فَقُلْتُ لَكُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ فَلَمَّا بَدَا لِي أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا قُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهُ إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلاَنِ فِيهِ بِمَا عَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَمَا عَمِلْتُ فِيهِ مُنْذُ وَلِيتُ وَإِلاَ فَلاَ تُكَلِّمَانِي فَقُلْتُمَا ادْفَعْهُ إِلَيْنَا بِذَلِكَ فَدَفَعْتُهُ إِلَيْكُمَا أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ أَقْضِي فِيهِ بِقَضَاءٍ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهُ فَادْفَعَا إِلَيَّ فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهُ"
4034- قَالَ فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ صَدَقَ مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ أَنَا سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَهُ ثُمُنَهُنَّ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنْتُ أَنَا أَرُدُّهُنَّ فَقُلْتُ لَهُنَّ أَلاَ تَتَّقِينَ اللَّهَ أَلَمْ تَعْلَمْنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَالِ فَانْتَهَى أَزْوَاجُ النَّبِيِّ

(7/335)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا أَخْبَرَتْهُنَّ قَالَ فَكَانَتْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ بِيَدِ عَلِيٍّ مَنَعَهَا عَلِيٌّ عَبَّاسًا فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا ثُمَّ كَانَ بِيَدِ حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ثُمَّ بِيَدِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ثُمَّ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ وَحَسَنِ بْنِ حَسَنٍ كِلاَهُمَا كَانَا يَتَدَاوَلاَنِهَا ثُمَّ بِيَدِ زَيْدِ بْنِ حَسَنٍ وَهِيَ صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا"
[الحديث 4034- طرفاه في:6730,6727]
4035- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم وَالْعَبَّاسَ أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا أَرْضَهُ مِنْ فَدَكٍ وَسَهْمَهُ مِنْ خَيْبَرَ"
4036- فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْمَالِ وَاللَّهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي"
الحديث الخامس حديث مالك أوس بن الحدثان عن عمر، وفيه قصة مخاصمة العباس وعلي عنده مطولة، وقد تقدم شرحه في فرض الخمس مستوفى، والغرض منه قوله: "وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من بني النضير". حديث عائشة. قوله: "قال فحدثت هذا الحديث عروة" القائل هو الزهري، وهو موصول بالإسناد المذكور، وقد ذكرت شرحه أيضا مع حديث مالك بن أوس في فرض الخمس. حديث أبي بكر الصديق تقدم أيضا في أول فرض الخمس بزيادة فيه. وزاد هنا قول أبي بكر" والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي" وظاهر سياقه الإدراج، وقد بينه الإسماعيلي بلفظ: "فتشهد أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أم بعد فوالله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي" قال أبو بكر ذلك معتذرا عن منعه القسمة، وأنه لا يلزم منها أن لا يصلهم ببره من جهة أخرى. ومحصل كلامه أن قرابة الشخص مقدمة في بره إلا إن عارضهم في ذلك من هو أرجح منهم، والله أعلم.

(7/336)


15 - باب قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ
4037- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا قَالَ قُلْ فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً وَإِنَّهُ قَدْ عَنَّانَا وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ قَالَ وَأَيْضًا وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ قَالَ إِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاهُ فَلاَ نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ و حَدَّثَنَا عَمْرٌو غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ يَذْكُرْ وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ أَوْ فَقُلْتُ لَهُ فِيهِ وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ فَقَالَ أُرَى فِيهِ وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ فَقَالَ نَعَمِ ارْهَنُونِي قَالُوا أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ قَالَ ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ قَالُوا

(7/336)


كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ قَالَ فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ قَالُوا كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ فَيُقَالُ رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللاَمَةَ قَالَ سُفْيَانُ يَعْنِي السِّلاَحَ فَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَجَاءَهُ لَيْلًا وَمَعَهُ أَبُو نَائِلَةَ وَهُوَ أَخُو كَعْبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْحِصْنِ فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أَيْنَ تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَخِي أَبُو نَائِلَةَ وَقَالَ غَيْرُ عَمْرٍو قَالَتْ أَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ يَقْطُرُ مِنْهُ الدَّمُ قَالَ إِنَّمَا هُوَ أَخِي مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَرَضِيعِي أَبُو نَائِلَةَ إِنَّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إِلَى طَعْنَةٍ بِلَيْلٍ لاَجَابَ قَالَ وَيُدْخِلُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مَعَهُ رَجُلَيْنِ قِيلَ لِسُفْيَانَ سَمَّاهُمْ عَمْرٌو قَالَ سَمَّى بَعْضَهُمْ قَالَ عَمْرٌو جَاءَ مَعَهُ بِرَجُلَيْنِ وَقَالَ غَيْرُ عَمْرٍو أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ عَمْرٌو جَاءَ مَعَهُ بِرَجُلَيْنِ فَقَالَ إِذَا مَا جَاءَ فَإِنِّي قَائِلٌ بِشَعَرِهِ فَأَشَمُّهُ فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي اسْتَمْكَنْتُ مِنْ رَأْسِهِ فَدُونَكُمْ فَاضْرِبُوهُ وَقَالَ مَرَّةً ثُمَّ أُشِمُّكُمْ فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ مُتَوَشِّحًا وَهُوَ يَنْفَحُ مِنْهُ رِيحُ الطِّيبِ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ رِيحًا أَيْ أَطْيَبَ وَقَالَ غَيْرُ عَمْرٍو قَالَ عِنْدِي أَعْطَرُ نِسَاءِ الْعَرَبِ وَأَكْمَلُ الْعَرَبِ قَالَ عَمْرٌو فَقَالَ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمَّ رَأْسَكَ قَالَ نَعَمْ فَشَمَّهُ ثُمَّ أَشَمَّ أَصْحَابَهُ ثُمَّ قَالَ أَتَأْذَنُ لِي قَالَ نَعَمْ فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ قَالَ دُونَكُمْ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ"
قوله: "باب قتل كعب بن الأشرف" أي اليهودي، قال ابن إسحاق وغيره: كان عربيا من بني نبهان وهم بطن من طيئ، وكان أبوه أصاب دما في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعبا، وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة، وهجا المسلمين بعد وقعة بدر، وخرج إلى مكة فنزل على ابن وداعة السهمي والد المطلب. فهجاه حسان وهجا امرأته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية فطردته، فرجع كعب إلى المدينة وتشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم. وروى أبو داود والترمذي من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه "أن كعب بن الأشرف كان شاعرا، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم استصلاحهم، وكان اليهود والمشركون يؤذون المسلمين أشد الأذى، فأمر الله رسوله والمسلمين بالصبر. فلما أبى كعب أن ينزع عن أذاه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه" وذكر ابن سعد أن قتله كان في ربيع الأول من السنة الثالثة. قوله: "قال عمرو" هو ابن دينار، كذا هنا وفي رواية قتيبة عن سفيان في الجهاد وعند أبي نعيم من طريق الحميدي عن سفيان" حدثنا عمرو". قوله: "من لكعب بن الأشرف"؟ أي من الذي ينتدب إلى قتله. قوله: "آذى الله ورسوله" في رواية محمد بن محمود بن محمد بن مسلمة عن جابر عند الحاكم في الإكليل" فقد آذانا بشعره وقوى المشركين" وأخرج ابن عائذ من طريق الكلبي أن كعب بن الأشرف قدم على مشركي قريش فحالفهم عند أستار الكعبة على قتال المسلمين. ومن طريق أبي الأسود عن عروة" أنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويحرض قريشا

(7/337)


عليهم، وأنه لما قدم على قريش قالوا له: أديننا أهدى أم دين محمد؟ قال: دينكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من لنا بابن الأشرف فإنه قد استعلن بعداوتنا " ووجدت في "فوائد عبد الله بن إسحاق الخراساني" من مرسل عكرمة بسند ضعيف إليه لقتل كعب سببا آخر، وهو أنه صنع طعاما وواطأ جماعة من اليهود أنه يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوليمة فإذا حضر فتكوا به، ثم دعاه فجاء ومعه بعض أصحابه، فأعلمه جبريل بما أضمروه بعد أن جالسه، فقام فستره جبريل بجناحه فخرج، فلما فقدوه تفرقوا، فقال حينئذ: من ينتدب لقتل كعب . ويمكن الجمع بتعدد الأسباب. قوله: "فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله "؟ في مرسل عكرمة" فقال محمد بن مسلمة هو خالي". قوله: "قال نعم" في رواية محمد بن محمود "فقال أنت له" وفي رواية ابن إسحاق "قال فافعل إن قدرت على ذلك" وفي رواية عروة" فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال محمد بن مسلمة: أقر صامت" ومثله عند سمويه في فوائده، فإن ثبت احتمل أن يكون سكت أولا ثم أذن له، فإن في رواية عروة أيضا أنه قال له" إن كنت فاعلا فلا تعجل حتى تشاور سعد بن معاذ ، قال فشاوره فقال له: توجه إليه واشك إليه الحاجة، وسله أن يسلفكم طعاما". قوله: "فأذن لي أن أقول شيئا، قال قل" كأنه استأذنه أن يفتعل شيئا يحتال به، ومن ثم بوب عليه المصنف" الكذب في الحرب" وقد ظهر من سياق ابن سعد للقصة أنهم استأذنوا أن يشكوا منه ويعيبوا رأيه، ولفظه: "فقال له: كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء، حاربتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة" وعند ابن إسحاق بإسناد حسن عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم فقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم ". قوله: "إن هذا الرجل" يعني النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "قد سألنا صدقة" في رواية الواقدي "سألنا الصدقة، ونحن لا نجد ما نأكل "وفي مرسل عكرمة" فقالوا: يا أبا سعيد، إن نبيا أراد منا الصدقة، وليس لنا مال نصدقه". قوله: "قد عنانا" بالمهملة وتشديد النون الأولى من العناء وهو التعب. قوله: "قال و أيضا" أي وزيادة على ذلك، وقد فسره بعد ذلك قوله: "والله لتملنه" بفتح المثناة والميم وتشديد اللام والنون من الملال، وعند الواقدي" أن كعبا قال لأبي نائلة: أخبرني ما في نفسك، ما الذي تريدون في أمره؟ قال: خذلانه والتخلي عنه، قال: سررتني". قوله: "وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين، وحدثنا عمرو غير مرة فلم يذكر وسقا أو وسقين" قائل ذلك علي بن المديني، ولم يقع ذلك في رواية الحميدي، ووقع في رواية عروة "وأحب أن تسلفنا طعاما. قال: أين طعامكم؟ قالوا: أنفقناه على هذا الرجل وعلى أصحابه. قال ألم يأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل". "تنبيه": وقع في هذه الرواية الصحيحة أن الذي خاطب كعبا بذلك هو محمد بن مسلمة، والذي عند ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أنه أبو نائلة، وأومأ الدمياطي إلى ترجيحه، ويحتمل أن يكون كل منهما كلمه في ذلك، لأن أبا نائلة أخوه من الرضاعة، ومحمد بن مسلمة ابن أخته. وفي مرسل عكرمة في الكل بصيغة الجمع "قالوا"، وفي مرسل عكرمة" وائذن لنا أن نصيب منك فيطمئن إلينا، قال قولوا ما شئتم" وعنده "أما مالي فليس عندي اليوم، ولكن عندي التمر" وذكر ابن عائذ أن سعد بن معاذ بعث محمدا ابن أخيه الحارث بن أوس بن معاذ. قوله: "ارهنوني" أي ادفعوا لي شيئا يكون رهنا على التمر الذي تريدونه. قوله: "وأنت أجمل العرب" لعلهم قالوا له ذلك تهكما، وإن كان هو في نفسه كان جميلا. زاد ابن سعد من مرسل عكرمة "ولا نأمنك، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك" وفي المرسل الآخر الذي أشرت إليه "وأنت رجل حسان تعجب النساء" وحسان بضم الحاء وتشديد السين

(7/338)


المهملتين. قوله: "ولكن نرهنك اللأمة" بتشديد اللام وسكون الهمزة. قوله: "قال سفيان: يعني السلاح" كذا قال. وقال غيره من أهل اللغة: اللأمة الدرع، فعلى هذا إطلاق السلاح عليها من إطلاق اسم الكل على البعض. وفي مرسل عكرمة "ولكنا نرهنك سلاحنا مع علمك بحاجتنا إليه، قال نعم" وفي رواية الواقدي "وإنما قالوا ذلك لئلا ينكر مجيئهم إليه بالسلاح". قوله: "فجاء ليلا ومعه أبو نائلة" بنون وبعد الألف تحتانية واسمه سلكان بن سلامة. قوله: "وكان أخاه من الرضاعة" يعني كان أبو نائلة أخا كعب، وذكروا أنه كان نديمه في الجاهلية فكان يركن إليه. وقد ذكر الواقدي أن محمد بن مسلمة أيضا كان أخاه، زاد الحميدي في روايته: "وكانوا أربعة سمى عمرو منهم اثنين". قلت: وستأتي تسميتهم قريبا. وعند الخراساني في مرسل عكرمة "فلما كان في القائلة أتوه ومعهم السلاح فقالوا: يا أبا سعيد. فقال: سامعا دعوت". قوله: "فقالت له امرأته" لم أقف على اسمها. قوله: "وقال غير عمرو: قالت أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم" في رواية الكلبي "فتعلقت به امرأته وقالت، مكانك، فوالله إني لأرى حمرة الدم مع الصوت" وبين الحميدي في روايته عن سفيان أن الغير الذي أبهمه سفيان في هذه القصة هو العبسي وأنه حدثه بذلك عن عكرمة مرسلا، وعند ابن إسحاق" فهتف به أبو نائلة - وكان حديث عهد بعرس - فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت له: أنت امرؤ محارب، لا تنزل في هذه الساعة. فقال: إنه أبو نائلة، لو وجدني نائما ما أيقظني. فقالت: والله إني لأعرف من صوته الشر" وفي مرسل عكرمة "أخذت بثوبه فقالت: أذكرك الله أن لا تنزل إليهم، فوالله إني لأسمع صوتا يقطر منه الدم". قوله: "قال ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين، قيل لسفيان: سماهم عمرو؟ قال: سمى بعضهم، قال عمرو: جاء معه برجلين. وقال غير عمرو: أبو عبس بن جبر والحارث بن أوس وعباد بن بشر" قلت: ووقع في رواية الحميدي "قال فأتاه ومعه أبو نائلة وعباد بن بشر وأبو عبس بن جبر والحارث بن معاذ إن شاء الله" كذا أدرجه ورواية علي بن المديني مفصلة، ونسب الحارث بن معاذ إلى جده، ووقعت تسميتهم كذلك في رواية ابن سعد، فعلى هذا فكانوا خمسة، ويؤيده قول عباد بن بشر من قصيدة في هذه القصة:
فشد بسيفه صلتا عليه ... فقطعه أبو عبس بن جبر
وكان الله سادسنا فأبنا ... بأنعم نعمة وأعز نصر
وهو أولى مما وقع في رواية محمد بن محمود "كان مع محمد بن مسلمة أبو عبس بن جبر وأبو عتيك" ولم يذكر غيرهما، وكذا في مرسل عكرمة "ومعه رجلان من الأنصار" ويمكن الجمع بأنهم كانوا مرة ثلاثة وفي الأخرى خمسة. قوله: "فإني قائل بشعره فأشمه" وهو من إطلاق القول على الفعل. قوله: "وقال مرة فأشمكم" أي أمكنكم من الشم، وهو ينفح بالفاء والمهملة. قوله: "ريح الطيب" في رواية ابن سعد "وكان حديث عهد بعرس" وفي مرسل عكرمة فقال: "يا أبا سعيد أدن مني رأسك أشمه وأمسح به عيني ووجهي". قوله: "عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب" وعند الأصيلي وأجمل بالجيم بدل الكاف وهي أشبه، وفي مرسل عكرمة "فقال هذا عطر أم فلان"يعني امرأته. وفي رواية الواقدي "وكان كعب يدهن بالمسك المفتت والعنبر حتى يتلبد في صدغيه" وفي رواية أخرى "وعندي أعطر سيد العرب" وكأن "سيد" تصحيف من نساء، فإن كانت محفوظة فالمعنى أعطر

(7/339)


نساء سيد العرب على الحذف. قوله: "دونكم فقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه" في رواية عروة "وضربه محمد بن مسلمة فقتله وأصاب ذباب السيف الحارث بن أوس، وأقبلوا حتى إذا كانوا بجرف بعاث تخلف الحارث ونزف، فلما افتقده أصحابه رجعوا فاحتملوه، ثم أقبلوا سراعا حتى دخلوا المدينة" وفي رواية الواقدي "أن النبي صلى الله عليه وسلم تفل على جرح الحارث بن أوس فلم يؤذه". وفي مرسل عكرمة "فبرق فيها ثم ألصقها فالتحمت" وفي رواية ابن الكلي "فضربوه حتى برد، وصاح عند أول ضربة، واجتمعت اليهود فأخذوا على غير طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاتوهم" وفي رواية ابن سعد "أن محمد بن مسلمة لما أخذ بقرون شعره قال لأصحابه: اقتلوا عدو الله، فضربوه بأسيافهم، فالتفت عليه فلم تغن شيئا. قال محمد: فذكرت معولا كان في سيفي فوضعته في سرته، ثم تحاملت عليه فغططته حتى انتهى إلى عانته، فصاح وصاحت امرأته: يا آل قريظة والنضير مرتين". قوله: "فأخبروه" في رواية عروة "فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله تعالى" وفي رواية ابن سعد" فلما بلغوا بقيع الغرقد كبروا، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي، فلما سمع تكبيرهم كبر، وعرف أن قد قتلوه، ثم انتهوا إليه فقال: أفلحت الوجوه ، فقالوا: ووجهك يا رسول الله، ورموا رأسه بين يديه، فحمد الله على قتله" وفي مرسل عكرمة "فأصبحت يهود مذعورين، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا قتل سيدنا غيلة، فذكرهم النبي صنيعه وما كان يحرض عليه ويؤذي المسلمين" زاد ابن سعد "فخافوا فلم ينطقوا". قال السهيلي: في قصة كعب بن الأشرف قتل المعاهد إذا سب الشارع، خلافا لأبي حنيفة. قلت: وفيه نظر، وصنيع المصنف في الجهاد يعطي أن كعبا كان، محاربا حيث ترجم لهذا الحديث: "الفتك بأهل الحرب" وترجم له أيضا: "الكذب في الحرب" وفيه جواز قتل المشرك بغير دعوة إذا كانت الدعوة العامة قد بلغته. وفيه جواز الكلام الذي يحتاج إليه في الحرب ولو لم يقصد قائله إلى حقيقته. وقد تقدم البحث في ذلك مستوفى في كتاب الجهاد. وفيه دلالة على قوة فطنة امرأته المذكورة وصحة حديثها، وبلاغتها في إطلاقها أن الصوت يقطر منه الدم.

(7/340)


باب قتل أبي رافع عبدالله بن أبي الحقيق
...
16 - باب قَتْلِ أَبِي رَافِعٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
وَيُقَالُ سَلاَمُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ كَانَ بِخَيْبَرَ وَيُقَالُ فِي حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ "هُوَ بَعْدَ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ".
4038- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا إِلَى أَبِي رَافِعٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ بَيْتَهُ لَيْلًا وَهُوَ نَائِمٌ فَقَتَلَهُ
4039- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ رِجَالًا مِنْ الأَنْصَارِ فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ وَكَانَ فِي حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ وَقَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَصْحَابِهِ اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ

(7/340)


وَمُتَلَطِّفٌ لِلْبَوَّابِ لَعَلِّي أَنْ أَدْخُلَ فَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنْ الْبَابِ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلْ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ الْبَابَ فَدَخَلْتُ فَكَمَنْتُ فَلَمَّا دَخَلَ النَّاسُ أَغْلَقَ الْبَابَ ثُمَّ عَلَّقَ الأَغَالِيقَ عَلَى وَتَدٍ قَالَ فَقُمْتُ إِلَى الأَقَالِيدِ فَأَخَذْتُهَا فَفَتَحْتُ الْبَابَ وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُسْمَرُ عِنْدَهُ وَكَانَ فِي عَلاَلِيَّ لَهُ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ صَعِدْتُ إِلَيْهِ فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُ عَلَيَّ مِنْ دَاخِلٍ قُلْتُ إِنْ الْقَوْمُ نَذِرُوا بِي لَمْ يَخْلُصُوا إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسْطَ عِيَالِهِ لاَ أَدْرِي أَيْنَ هُوَ مِنْ الْبَيْتِ فَقُلْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ قَالَ مَنْ هَذَا فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ وَأَنَا دَهِشٌ فَمَا أَغْنَيْتُ شَيْئًا وَصَاحَ فَخَرَجْتُ مِنْ الْبَيْتِ فَأَمْكُثُ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ فَقَالَ لِأُمِّكَ الْوَيْلُ إِنَّ رَجُلًا فِي الْبَيْتِ ضَرَبَنِي قَبْلُ بِالسَّيْفِ قَالَ فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ ثُمَّ وَضَعْتُ ظِبَةَ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ حَتَّى أَخَذَ فِي ظَهْرِهِ فَعَرَفْتُ أَنِّي قَتَلْتُهُ فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الأَبْوَابَ بَابًا بَابًا حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَهُ فَوَضَعْتُ رِجْلِي وَأَنَا أُرَى أَنِّي قَدْ انْتَهَيْتُ إِلَى الأَرْضِ فَوَقَعْتُ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ فَانْكَسَرَتْ سَاقِي فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَةٍ ثُمَّ انْطَلَقْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى الْبَابِ فَقُلْتُ لاَ أَخْرُجُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ أَقَتَلْتُهُ فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ قَامَ النَّاعِي عَلَى السُّورِ فَقَالَ أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ تَاجِرَ أَهْلِ الْحِجَازِ فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقُلْتُ النَّجَاءَ فَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ أَبَا رَافِعٍ فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ ابْسُطْ رِجْلَكَ فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ"
4040- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحٌ هُوَ ابْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي رَافِعٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ فِي نَاسٍ مَعَهُمْ فَانْطَلَقُوا حَتَّى دَنَوْا مِنْ الْحِصْنِ فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ امْكُثُوا أَنْتُمْ حَتَّى أَنْطَلِقَ أَنَا فَأَنْظُرَ قَالَ فَتَلَطَّفْتُ أَنْ أَدْخُلَ الْحِصْنَ فَفَقَدُوا حِمَارًا لَهُمْ قَالَ فَخَرَجُوا بِقَبَسٍ يَطْلُبُونَهُ قَالَ فَخَشِيتُ أَنْ أُعْرَفَ قَالَ فَغَطَّيْتُ رَأْسِي وَجَلَسْتُ كَأَنِّي أَقْضِي حَاجَةً ثُمَّ نَادَى صَاحِبُ الْبَابِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ فَلْيَدْخُلْ قَبْلَ أَنْ أُغْلِقَهُ فَدَخَلْتُ ثُمَّ اخْتَبَأْتُ فِي مَرْبِطِ حِمَارٍ عِنْدَ بَابِ الْحِصْنِ فَتَعَشَّوْا عِنْدَ أَبِي رَافِعٍ وَتَحَدَّثُوا حَتَّى ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ فَلَمَّا هَدَأَتْ الأَصْوَاتُ وَلاَ أَسْمَعُ حَرَكَةً خَرَجْتُ قَالَ وَرَأَيْتُ صَاحِبَ الْبَابِ حَيْثُ وَضَعَ مِفْتَاحَ الْحِصْنِ فِي كَوَّةٍ فَأَخَذْتُهُ فَفَتَحْتُ بِهِ بَابَ الْحِصْنِ قَالَ قُلْتُ إِنْ نَذِرَ بِي الْقَوْمُ انْطَلَقْتُ عَلَى مَهَلٍ ثُمَّ عَمَدْتُ إِلَى أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ فَغَلَّقْتُهَا عَلَيْهِمْ مِنْ ظَاهِرٍ ثُمَّ صَعِدْتُ

(7/341)


إِلَى أَبِي رَافِعٍ فِي سُلَّمٍ فَإِذَا الْبَيْتُ مُظْلِمٌ قَدْ طَفِئَ سِرَاجُهُ فَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ الرَّجُلُ فَقُلْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ فَعَمَدْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ فَأَضْرِبُهُ وَصَاحَ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ جِئْتُ كَأَنِّي أُغِيثُهُ فَقُلْتُ مَا لَكَ يَا أَبَا رَافِعٍ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي فَقَالَ أَلاَ أُعْجِبُكَ لِأُمِّكَ الْوَيْلُ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَضَرَبَنِي بِالسَّيْفِ قَالَ فَعَمَدْتُ لَهُ أَيْضًا فَأَضْرِبُهُ أُخْرَى فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا فَصَاحَ وَقَامَ أَهْلُهُ قَالَ ثُمَّ جِئْتُ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي كَهَيْئَةِ الْمُغِيثِ فَإِذَا هُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَأَضَعُ السَّيْفَ فِي بَطْنِهِ ثُمَّ أَنْكَفِئُ عَلَيْهِ حَتَّى سَمِعْتُ صَوْتَ الْعَظْمِ ثُمَّ خَرَجْتُ دَهِشًا حَتَّى أَتَيْتُ السُّلَّمَ أُرِيدُ أَنْ أَنْزِلَ فَأَسْقُطُ مِنْهُ فَانْخَلَعَتْ رِجْلِي فَعَصَبْتُهَا ثُمَّ أَتَيْتُ أَصْحَابِي أَحْجُلُ فَقُلْتُ انْطَلِقُوا فَبَشِّرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ صَعِدَ النَّاعِيَةُ فَقَالَ أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ قَالَ فَقُمْتُ أَمْشِي مَا بِي قَلَبَةٌ فَأَدْرَكْتُ أَصْحَابِي قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَشَّرْتُهُ".
قوله: "قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق - ويقال سلام بن أبي الحقيق - كان بخيبر"، والحقيق بمهملة وقاف مصغر، والذي سماه عبد الله هو عبد الله بن أنيس، وذلك فيما أخرجه الحاكم في "الإكليل" من حديثه مطولا وأوله "أن الرهط الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي الحقيق ليقتلوه وهم عبد الله بن عتيك وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة وحليف لهم ورجل من الأنصار، وأنهم قدموا خيبر ليلا" فذكر الحديث. وقال ابن إسحاق: هو سلام أي بتشديد اللام قال: "لما قتلت الأوس كعب بن الأشرف استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر، فأذن لهم. قال: فحدثني الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان مما صنع الله لرسوله أن الأوس والخزرج كانا يتصاولان تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلا علينا. وكذلك الأوس. فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف تذاكرت الخزرج من رجل له من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان لكعب؟ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر. قوله: "ويقال في حصن له بأرض الحجاز" وهو قول وقع في سياق الحديث الموصول في الباب، ويحتمل أن يكون حصنه كان قريبا من خيبر في طرف أرض الحجاز. ووقع عند موسى بن عقبة "فطرقوا أبا رافع بن أبي الحقيق بخيبر فقتلوه في بيته" ولأبي رافع المذكور أخوان مشهوران من أهل خيبر: أحدهما: كنانة وكان زوج صفية بنت حيي قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوه الربيع بن أبي الحقيق، وقتلهما النبي صلى الله عليه وسلم جميعا بعد فتح خيبر. قوله: "وقال الزهري: هو بعد كعب بن الأشرف" وصله يعقوب بن سفيان في تاريخه عن حجاج بن أبي منيع عن جده عن الزهري، وقد ذكرت من عند ابن إسحاق عن الزهري أنه أخذ ذلك عن عبد الله بن كعب بن مالك بزيادة فيه، قال ابن سعد كانت في رمضان سنة ست، وقيل: في ذي الحجة سنة خمس، وقيل فيها: سنة أربع، وقيل: في رجب سنة ثلاث. ثم أورد البخاري قصته من رواية ثلاثة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب. الأولى: رواية زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عن البراء" بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلا وهو نائم فقتله" هكذا أورده مختصرا، وقوله: "بيته" للأكثر بسكون التحتانية وبالنصب على

(7/342)


المفعولية، وللسرخسي والمستملي بتشديد التحتانية بلفظ الفعل الماضي من التبييت، وقد أخرجه المصنف في الجهاد من هذا الوجه مطولا نحو رواية إبراهيم بن يوسف الآتية. قوله: "حدثنا يوسف بن موسى" هو القطان، وعبيد الله بن موسى هو العبسي شيخ البخاري، وقد حدث عنه هنا بواسطة. قوله: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار" في رواية يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق الآتية بعد هذه" بعث إلى أبي رافع عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة في أناس معهم" وعبد الله بن عتيك بالنصب مفعول بعث وهو المبعوث إلى أبي رافع وليس هو اسم أبي رافع، وعبد الله بن عتبة لم يذكر إلا في هذا الطريق، وزعم ابن الأثير في "جامع الأصول" أنه ابن عتبة بكسر العين وفتح النون، وهو غلط منه فإنه خولاني لا أنصاري، ومتأخر الإسلام وهذه القصة متقدمة والرواية بضم العين وسكون المثناة لا بالنون والله أعلم. قوله: "رجالا من الأنصار" قد سمي منهم في هذا الباب عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة، وعند ابن إسحاق عبد الله بن عتيك ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة وخزاعي بن أسود، فإن كان عبد الله بن عتبة محفوظا فقد كانوا ستة، فأما الأول فهو ابن عتيك بفتح المهملة وكسر المثناة ابن قيس بن الأسود من بني سلمة بكسر اللام، وأما عبد الله بن عتبة فقد شرحت ما فيه، وأما مسعود فهو ابن سنان الأسلمي حليف بني سلمة، شهد أحدا واستشهد باليمامة، وأما عبد الله بن أنيس فهو الجهني حليف الأنصار، وقد فرق المنذري بين عبد الله بن أنيس الجهني وعبد الله بن أنيس الأنصاري، وجزم بأن الأنصاري هو الذي كان في قتل ابن أبي الحقيق وتبع في ذلك ابن المديني، وجزم غير واحد بأنهما واحد وهو جهني حالف الأنصار، وأما أبو قتادة فمشهور، وأما خزاعي بن أسود فقد قلبه بعضهم فقال أسود بن خزاعي، وفي حديث عبد الله بن أنيس في "الإكليل" أسود بن حرام، وكذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي، فإن كان غير من ذكر وإلا فهو تصحيف ثم وجدته في "دلائل البيهقي" من طريق موسى بن عقبة على الشك هل هو أسود بن خزاعي أو أسود بن حرام. قوله: "وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه" ذكر ابن عائذ من طريق الأسود عن عروة أنه كان ممن أعان غطفان وغيرهم من مشركي العرب بالمال الكثير على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقد دخل الناس" ذكر في رواية يوسف سببا لتأخير غلق الباب فقال: "ففقدوا حمارا لهم فخرجوا بقبس - أي شعلة من نار - يطلبونه، قال فخشيت أن أعرف فغطيت رأسي". قوله: "وراح الناس بسرحهم" أي رجعوا بمواشيهم التي ترعى، وسرح بفتح المهملة وسكون الراء بعدها مهملة هي السائمة من إبل وبقر وغنم. قوله: "تقنع بثوبه" أي تغطى به ليخفى شخصه لئلا يعرف. قوله: "فهتف به" أي ناداه. وفي رواية يوسف "ثم نادى صاحب الباب: "أي البواب ولم أقف على اسمه. قوله: "فكمنت" أي اختبأت. وفي رواية يوسف "ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن". قوله: "ثم علق الأغاليق على ود" بفتح الواو وتشديد الدال هو الوتد. وفي رواية يوسف "وضع مفتاح الحصن في كوة" والأغاليق بالمعجمة جمع غلق بفتح أوله ما يغلق به الباب والمراد بها المفاتيح، كأنه كان يغلق بها ويفتح بها، كذا في رواية أبي ذر. وفي رواية غيره بالعين المهملة وهو المفتاح بلا إشكال، والكوة بالفتح وقد تضم وقيل بالفتح غير النافذة وبالضم النافذة. قوله: "فقمت إلى الأقاليد" هي جمع إقليد وهو المفتاح. وفي رواية يوسف "ففتحت باب الحصن".

(7/343)


قوله: "يسمر عنده" أي يتحدثون ليلا. وفي رواية يوسف "فتعشوا عند أبي رافع وتحدثوا حتى ذهبت ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم". قوله: "في علالي له" بالمهملة جمع علية بتشديد التحتانية وهي الغرفة. وفي رواية ابن إسحاق "وكان في علية له إليها عجلة" والعجلة بفتح المهملة والجيم السلم من الخشب، وقيده ابن قتيبة بخشب النخل. قوله: "فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل" في حديث عبد الله بن أنيس عند الحاكم فلم يدعوا بابا إلا أغلقوه. قوله: "نذروا بي" بكسر الذال المعجمة أي علموا، أصله من الإنذار وهو الإعلام بالشيء الذي يحذر منه، وذكر ابن سعد أن عبد الله بن عتيك كان يرطن باليهودية، فاستفتح، فقالت له امرأة أبي رافع من أنت؟ قال: جئت أبا رافع بهدية. ففتحت له وفي رواية يوسف "فلما هدأت الأصوات" أي سكنت، وعنده "ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فأغلقتها عليهم من ظاهر. ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم". قوله: "فأهويت نحو الصوت" أي قصدت نحو صاحب الصوت. وفي رواية يوسف "فعمدت نحو الصوت". قوله: "وأنا دهش" بكسر الهاء بعدها معجمة. قوله: "فما أغنيت شيئا" أي لم أقتله. قوله: "فقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع" في حديث عبد الله بن أنيس "فقالت امرأته يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك. فقال ثكلتك أمك وأين عبد الله بن عتيك". قوله: "هدأت الأصوات" بهمزة أي سكنت، وزعم ابن التين أنه وقع عنده "هدت" بغير همز وأن الصواب بالهمز. قوله: "فأضربه" ذكره بلفظ المضارع مبالغة لاستحضار صورة الحال وإن كان ذلك قد مضى. قوله: "فلم يغن" أي لم ينفع. قوله: "ثم دخلت إليه" في رواية يوسف "ثم جئت كأني أغيثه فقلت مالك؟ وغيرت صوتي". قوله: "لأمك الويل" في رواية يوسف "زاد وقال ألا أعجلتك" وزاد في رواية: "قال فعمدت له أيضا فأضربه أخرى فلم تغن شيئا فصاح وقام أهله. ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المستغيث فإذا هو مستلق على ظهره" وفي رواية ابن إسحاق "فصاحت امرأته" فنوهت بنا، فجعلنا نرفع السيف عليها ثم نذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء فنكف عنها". قوله: "ضبيب السيف" بضاد معجمة مفتوحة وموحدتين وزن رغيف، قال الخطابي: هكذا يروي، وما أراه محفوظا وإنما هو ظبة السيف وهو حرف السيف ويجمع على ظبات، قال: والضبيب لا معنى له هنا لأنه سيلان الدم من الفم، قال عياض: هو في رواية أبي ذر بالصاد المهملة، وكذا ذكره الحربي وقال: أظنه طرفه. وفي رواية غير أبي ذر بالمعجمة وهو طرف السيف. وفي رواية يوسف "فأضع السيف في بطنه ثم أتكئ عليه حتى سمعت صوت العظم". قوله: "فوضعت رجلي وأنا أرى" بضم الهمزة أي أظن، وذكر ابن إسحاق في روايته أنه كان سيء البصر. قوله: "فانكسرت ساقي فعصبتها" في رواية يوسف "ثم خرجت دهشا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فسقطت منه فانخلعت رجلي فعصبتها" ويجمع بينهما بأنها انخلعت من المفصل وانكسرت الساق. وقال الداودي: هذا اختلاف وقد يتجوز في التعبير بأحدهما عن الآخر، لأن الخلع هو زوال المفصل من غير بينونة، أي بخلاف الكسر. قلت: والجمع بينهما بالحمل على وقوعهما معا أولى، ووقع في رواية ابن إسحاق "فوثبت يده" وهو وهم والصواب رجله، وإن كان محفوظا فوقع جميع ذلك، وزاد أنهم كمنوا في نهر، وأن قومه أوقدوا النيران وذهبوا في كل وجه يطلبون حتى أيسوا رجعوا إليه وهو يقضي. قوله: "قام الناعي" في رواية يوسف "صعد الناعية". قوله: "أنعي أبا رافع" كذا ثبت في الروايات بفتح العين، قالا ابن التين: هي لغة والمعروف انعوا، والنعي خبر الموت والاسم الناعي. وذكر الأصمعي أن العرب كانوا إذا مات فيهم الكبير ركب راكب فرسا وسار فقال: نعي فلان. قوله: "فقلت النجاء" بالنصب

(7/344)


أي أسرعوا، في رواية يوسف "ثم أتيت أصحابي أحجل فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: "أحجل" هو بمهملة ثم جيم، الحجل هو أن يرفع رجلا ويقف على أخرى من العرج، وقد يكون بالرجلين معا إلا أنه حينئذ يسمى قفزا لا مشيا، ويقال حجل في مشيه إذا مشى مثل المقيد أي قارب خطوه، وفي حديث عبد الله بن أنيس "قال وتوجهنا من خيبر، فكنا نكمن النهار ونسير الليل، وإذا كمنا بالنهار أقعدنا منا واحدا يحرسنا، فإذا رأى شيئا يخافه أشار إلينا، فلما قربنا من المدينة كانت نوبتي، فأشرفت إليهم فخرجوا سراعا، ثم لحقتهم فدخلنا المدينة، فقالوا: ماذا رأيت؟ قلت: ما رأيت شيئا، ولكن خشيت أن تكونوا أعييتم فأحببت أن يحملكم الفزع. قوله: "فمسحها فكأنها لم أشتكها قط" ووقع في رواية يوسف أنه "لما سمع الناعي قال: فقمت أمشي ما بي قلبة" وهو بفتح القاف واللام والموحدة أي علة أنقلب بها. وقال الفراء. أصل القلاب بكسر القاف داء يصيب البعير فيموت من يومه، فقيل لكل من سلم من علة ما به قلبة، أي ليست به علة تهلكه. قوله: "فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته" يحمل على أنه لما سقط من الدرجة وقع له جميع ما تقدم، لكنه من شدة ما كان فيه من الاهتمام بالأمر ما أحس بالألم وأعين على المشي أولا، وعليه يدل قوله: "ما بي قلبة" ثم لما تمادى عليه المشي أحس بالألم فحمله أصحابه كما وقع في رواية ابن إسحاق، ثم لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسح عليه فزال عنه جميع الألم ببركته صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الحديث من الفوائد جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصر، وقتل من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أو ماله أو لسانه، وجواز التجسيس على أهل الحرب وتطلب غرتهم. والأخذ بالشدة في محاربة المشركين، وجواز إبهام القول للمصلحة، وتعرض القليل من المسلمين للكثير من المشركين؛ والحكم بالدليل والعلامة لاستدلال ابن عتيك على أبي رافع بصوته، واعتماده على صوت الناعي بموته، والله أعلم.

(7/345)


17 - باب غَزْوَةِ أُحُدٍ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [121 آل عمران]: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ [140 آل عمران] {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} وَقَوْلِهِ [152 آل عمران]: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} -تَسْتَأْصِلُونَهُمْ قَتْلًا- {بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وَقَوْلِهِ {وَلاَ تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الْآيَةَ
"باب غزوة أحد" سقط لفظ: "باب" من رواية أبي ذر. و "أحد" بضم الهمزة والمهملة جبل معروف بينه وبين المدينة أقل من فرسخ. وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "جبل يحبنا ونحبه" كما سيأتي في آخر باب من

(7/345)


هذه الغزوة مع مزيد فوائد فيما يتعلق به. ونقل السهيلي عن الزبير بن بكار في فضل المدينة أن قبر هارون عليه السلام بأحد، وأنه قدم مع موسى في جماعة من بني إسرائيل حجاجا فمات هناك. قلت: وسند الزبير بن بكار في ذلك ضعيف جدا من جهة شيخه محمد بن الحسن بن زبالة، ومنقطع أيضا وليس بمرفوع. وكانت عنده الوقعة المشهورة في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور، وشذ من قال سنة أربع. قال ابن إسحاق: لإحدى عشرة ليلة خلت منه وقيل: لسبع ليال وقيل: لثمان وقيل: لتسع وقيل: في نصفه. وقال مالك: كانت بعد بدر بسنة، وفيه تجوز لأن بدرا كانت في رمضان باتفاق فهي بعدها بسنة وشهر لم يكمل، ولهذا قال مرة أخرى: كانت بعد الهجرة بأحد وثلاثين شهرا. وكان السبب فيها ما ذكر ابن إسحاق عن شيوخه وموسى بن عقبة عن ابن شهاب وأبو الأسود عن عروة قالوا: وهذا ملخص ما ذكره موسى بن عقبة في سياق القصة كلها قال: لما رجعت قريش استجلبوا من استطاعوا من العرب وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد. وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر وتمنوا لقاء العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال. رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح، والله خير وأبقى، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته أو قال به فلول فكرهته وهما مصيبتان، ورأيت أني في درع حصينة وأني مردف كبشا . قالوا: وما أولتها؟ قال: أولت البقر بقرا يكون فينا، وأولت الكبش كبش الكتيبة، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا، فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت ، فقال أولئك القوم: يا نبي الله كنا نتمنى هذا اليوم، وأبى كثير من الناس إلا الخروج فلما صلى الجمعة وانصرف دعا باللأمة فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج، فندم ذوو الرأي منهم فقالوا: يا رسول الله أمكث كما أمرتنا، فقال: ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب أن يرجع حتى يقاتل ، نزل فخرج بهم وهم ألف رجل وكان المشركون ثلاثة آلاف حتى نزل بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلاثمائة فبقي في سبعمائة، فلما رجع عبد الله سقط في أيدي طائفتين من المؤمنين وهما بنو حارثة وبنو سلمة، وصف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة وتعبوا للقتال، وعلى خيل المشركين - وهي مائة فرس - خالد بن الوليد، وليس مع المسلمين فرس وصاحب لواء المشركين طلحة بن عثمان، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جبير على الرماة وهم خمسون رجلا وعهد إليهم أن لا يتركوا منازلهم، وكان صاحب لواء المسلمين مصعب بن عمير، فبارز طلحة بن عثمان فقتله، وحمل المسلمون على المشركين حتى أجهضوهم عن أثقالهم، وحملت خيل المشركين فنضحتهم الرماة بالنبل ثلاث مرات، فدخل المسلمون عسكر المشركين فانتبهوهم، فرأى ذلك الرماة فتركوا مكانهم، ودخل العسكر، فأبصر ذلك خالد بن الوليد ومن معه فحملوا على المسلمين في الخيل فمزقوهم، وصرخ صارخ: قتل محمد أخراكم، فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزم طائفة منهم إلى جهة المدينة وتفرق سائرهم ووقع فيهم القتل؛ وثبت نبي الله حين انكشفوا عنه وهو يدعوهم في أخراهم، حتى رجع إليه بعضهم وهو عند المهراس في الشعب، وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته، فمر مصعدا في الشعب ومعه طلحة والزبير، وقيل: معه طائفة من الأنصار منهم سهل بن بيضاء والحارث بن الصمة، وشغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وهم يظنون أنهم أصابوا النبي صلى الله عليه وسلم وأشراف أصحابه، فقال أبو سفيان يفتخر بآلهته: اعل هبل، فناداه عمر: الله أعلى وأجل. ورجع المشركون إلى أثقالهم

(7/346)


فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأصحابه: إن ركبوا وجعلوا الأثقال تتبع آثار الخيل، فهم يريدون البيوت، وإن ركبوا الأثقال وتجنبوا الخيل فهم يريدون الرجوع ، فتبعهم سعد بن أبي وقاص، ثم رجع فقال: رأيت الخيل مجنوبة، فطابت أنفس المسلمين ورجعوا إلى قتلاهم فدفنوهم في ثيابهم ولم يغسلوهم ولم يصلوا عليهم، وبكى المسلمون على قتلاهم، فسر المنافقون وظهر غش اليهود وفارت المدينة بالنفاق، فقالت اليهود: لو كان نبيا ما ظهروا عليه. وقالت المنافقون: لو أطاعونا ما أصابهم هذا. قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة: منها تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول أن لا يبرحوا منه. ومنها أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة كما تقدم في قصة هرقل مع أبي سفيان، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائما دخل في المؤمنين من ليس منهم ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيا عن المسلمين، فلما جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحا، وعرف المسلمون أن لهم عدوا في دورهم فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم. ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضما للنفس وكسرا لشماختها، فلما ابتلي المؤمنون صبروا وجزع المنافقون. ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها. ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم. ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحق بذلك الكافرين. ثم ذكر المصنف آيات من آل عمران في هذا الباب وفيما بعده كلها تتعلق بوقعة أحد، وقد قال ابن إسحاق: أنزل الله في شأن أحد ستين آية من آل عمران، وروى ابن أبي حاتم من طريق المسور بن مخرمة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف أخبرني عن قصتكم يوم أحد، قال. اقرأ العشرين ومائه من آل عمران تجدها: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} - إلى قوله – {أَمَنَةً نُعَاساً} . قوله: "وقول الله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقوله: {غَدَوْتَ} أي خرجت أول النهار، والعامل في إذ مضمر تقديره واذكر إذ غدوت، وقوله {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} أي تنزلهم، وأصله من المآب وهو المرجع، والمقاعد جمع مقعد والمراد به مكان القعود. وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال: "غدا نبي الله من أهله يوم أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال" ومن طريق مجاهد والسدي وغيرهما نحوه، ومن طريق الحسن أن ذلك كان يوم الأحزاب ووهاه. قوله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الأصل توهنوا فحذفت الواو، والوهن الضعف يقال وهن بالفتح يهن بالكسر في المضارع، وهذا هو الأفصح، ويستعمل وهن لازما ومتعديا، قال تعالى: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} وفي الحديث: "وهنتهم حمى يثرب" والأعلون جمع أعلى، وقوله: إن كنتم مؤمنين محذوف الجواب وتقديره فلا تهنوا ولا تحزنوا. وأخرج الطبري من طريق مجاهد في قوله ولا تهنوا أي لا تضعفوا، ومن طريق الزهري قال: "كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القتل والجراح حتى خلص إلى كل امرئ منهم نصيب، فاشتد حزنهم، فعزاهم الله أحسن تعزية" ومن طريق قتادة نحوه قال: "فعزاهم وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز" ومن طريق ابن جريح قال في قوله: {وَلا تَهِنُوا} أي لا تضعفوا في أمر عدوكم {وَلا

(7/347)


تَحْزَنُوا} في أنفسكم فإنكم أنتم الأعلون قال: والسبب فيها أنهم لما تفرقوا ثم رجعوا إلى الشعب قالوا: ما فعل فلان ما فعل فلان؟ فنعى بعضهما بعضا، وتحدثوا بينهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل فكانوا في هم وحزن، فبينما هم كذلك إذ علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم، فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبل والتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو الجبل عليهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا يعلون علينا ، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} . قوله: "وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} تستأصلونهم قتلا "بإذنه" الآية إلى قوله: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أخرج الطبري من طريق السدي وغيره أن المراد بالوعد قوله صلى الله عليه وسلم للرماة " أنكم ستظهرون عليهم فلا تبرحوا من مكانكم حتى آمركم" وقد ذكر المصنف قصة الرماة في هذا الباب، وسأذكر شرحها إن شاء الله تعالى. ومن طريق قتادة ومجاهد في قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} أي تقتلونهم، وقول المصنف في تفسير {تَحُسُّونَهُمْ} تستأصلونهم هو كلام أبي عبيدة. وأخرج الطبري من طريق السدي قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "للرماة " إنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم" وكان أول من برز طلحة بن عثمان فقتل، ثم حمل المسلمون على المشركين فهزموهم، وحمل خالد بن الوليد وكان في خيل المشركين على الرماة فرموه بالنبل فانقمع، ثم ترك الرماة مكانهم ودخلوا العسكر في طلب الغنيمة، فصاح خالد في خيله فقتل من بقي من الرماة، منهم أميرهم عبد الله بن جبير. ولما رأى المشركون خيلهم ظاهرة تراجعوا فشدوا على المسلمين فهزموهم وأثخنوا فيهم في القتل. وقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} أي جبنتم {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} أي اختلفتم، وحتى حرف جر وهي متعلقة بمحذوف أي دام لكم ذلك إلى وقت فشلكم، ويجوز أن تكون ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية وجوابها محذوف، وقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} فيه إشارة إلى رجوع المسلمين عن المشركين بعد أن ظهروا عليهم لما وقع من الرماة من الرغبة في الغنيمة، وإلى ذلك الإشارة بقوله – {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} قال السدي عن عبد خير قال: قال عبد الله بن مسعود" ما كنت أرى أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية يوم أحد: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} وقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} الآية أخرج مسلم من طريق مسروق قال: "سألنا عبد الله بن مسعود عن هؤلاء الآيات قال: أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها" الحديث.
4042- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ أُحُدٍ هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ عَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ ".
4042- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَيْوَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ وَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْحَوْضُ وَإِنِّي

(7/348)


لاَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا قَالَ فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
ثم ذكر المصنف تلو هذه الآيات أحاديث كالمفسرة للآيات المذكورة. الأول حديث عقبة بن عامر قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد" الحديث، وهو متعلق بقوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} وقوله: "بعد ثمان سنين" فيه تجوز تقدم بيانه في "باب الصلاة على الشهداء" من كتاب الجنائز. وقوله: ثم طلع المنبر فقال: "إني بين أيديكم فرط" وقد وقع في مرسل أيوب بن بشر من رواية الزهري عنه عند ابن أبي شيبة: "خرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم فأكثر الصلاة عليهم" وهذا يحمل على أن المراد أول ما تكلم به أي عند خروجه قبل أن يصعد المنبر. قوله: "كالمودع للأحياء والأموات" تابع حيوة بن شريح على هذه الزيادة عن يزيد بن أبي حبيب يحيى بن أيوب عند مسلم ولفظه: "ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات" وتوديع الأحياء ظاهر، لأن سياقه يشعر بأن ذلك كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وأما توديع الأموات فيحتمل أن يكون الصحابي أراد بذلك انقطاع زيارته الأموات بجسده، لأنه بعد موته وإن كان حيا فهي حياة أخروية لا تشبه الحياة الدنيا، والله أعلم. ويحتمل أن يكون المراد بتوديع الأموات ما أشار إليه في حديث عائشة من الاستغفار لأهل البقيع، وقد سبق شرح هذا الحديث في الجنائز وفي علامات النبوة، وتأتي بقيته في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. "تنبيه": وقع في رواية أبي الوقت والأصيلي هنا قبل حديث عقبة بن عامر حديث ابن عباس" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يوم أحد: هذا جبريل آخذ برأس فرسه " الحديث، وهو وهم من وجهين: أحدهما: أن هذا الحديث تقدم بسنده ومتنه في "باب شهود الملائكة بدرا" ولهذا لم يذكره هنا أبو ذر ولا غيره من متقني رواة البخاري، ولا استخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم ثانيهما. أن المعروف في هذا المتن يوم بدر كما تقدم لا يوم أحد، والله المستعان.
4043- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَقِينَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا مِنْ الرُّمَاةِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ وَقَالَ لاَ تَبْرَحُوا إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلاَ تَبْرَحُوا وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلاَ تُعِينُونَا فَلَمَّا لَقِينَا هَرَبُوا حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الْجَبَلِ رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ قَدْ بَدَتْ خَلاَخِلُهُنَّ فَأَخَذُوا يَقُولُونَ الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ تَبْرَحُوا فَأَبَوْا فَلَمَّا أَبَوْا صُرِفَ وُجُوهُهُمْ فَأُصِيبَ سَبْعُونَ قَتِيلًا وَأَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ فَقَالَ لاَ تُجِيبُوهُ فَقَالَ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ قَالَ لاَ تُجِيبُوهُ فَقَالَ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ إِنَّ هَؤُلاَءِ قُتِلُوا فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لاَجَابُوا فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ مَا يُخْزِيكَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ اعْلُ هُبَلُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَجِيبُوهُ قَالُوا مَا نَقُولُ قَالَ قُولُوا اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَنَا الْعُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَجِيبُوهُ قَالُوا

(7/349)


مَا نَقُولُ قَالَ قُولُوا اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ وَتَجِدُونَ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي"
الحديث الثاني حديث البراء بن عازب في قصة الرماة قوله: "عن البراء" في رواية زهير في الجهاد عن أبي إسحاق "سمعت البراء بن عازب". قوله: "لقينا المشركين يومئذ" في رواية لأبي نعيم "لما كان يوم أحد لقينا المشركين". قوله: "الرماة" في رواية زهير "وكانوا خمسين رجلا" وهذا هو المعتمد، ووقع في الهدي أن الخمسين عدد الفرسان يومئذ، وهو غلط بين، وقد جزم موسى بن عقبة بأنه لم يكن معهم في أحد شيء من الخيل.ووقع عند الواقدي: كان معهم فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرس لأبي بردة. قوله: "وأمر عليهم عبد الله" في رواية زهير "عبد الله بن جبير" وعند ابن إسحاق أنه قال لهم: "انضحوا الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا" . قوله: "لا تبرحوا" في رواية زهير "حتى أرسل لكم". قوله: "وإن رأيتموهم ظهروا علينا" في رواية زهير" وإن رأيتمونا تخطفنا الطير" وفي حديث ابن عباس عند أحمد والطبراني والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال لهم "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا" . قوله: "رأيت النساء يشتددن" كذا للأكثر بفتح أوله وسكون المعجمة وفتح المثناة بعدها دال مكسورة ثم أخرى ساكنة أي يسرعن المشي، يقال اشتد في مشيه إذا أسرع، وكذا للكشميهني في رواية زهير، وله هنا "يسندن" بضم أوله وسكون المهملة بعدها نون مكسورة ودال مهملة أي يصعدن، يقال أسند في الجبل يسند إذا صعد، وللباقين في رواية زهير "يشددن" بفتح أوله وسكون المعجمة وضم المهملة الأولى وسكون الثانية. قال عياض: ووقع للقابسي في الجهاد "يشتددن" وكذا لابن السكن فيه وفي الفضائل، وعند الإسماعيلي والنسفي "يشتدون" بمعجمة ودال واحدة وللكشميهني: "يستندون" ولرفيقه "يشدون" وكله بمعنى. وقد تقدم في أول الباب أن قريشا خرجوا معهم بالنساء لأجل الحفيظة والثبات، وسمى ابن إسحاق النساء المذكورات وهن: هند بنت عتبة خرجت مع أبي سفيان، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام مع زوجها عكرمة بن أبي جهل، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة مع زوجها الحارث بن هشام، وبرزة بنت مسعود الثقفية مع زوجها صفوان بن أمية وهي والدة ابن صفوان، وريطة بنت شيبة السهمية مع زوجها عمرو بن العاص وهي والدة ابنه عبد الله، وسلافة بنت سعد مع زوجها طلحة بن أبي طلحة الحجبي، وخناس بنت مالك والدة مصعب بن عميرة، وعمرة بنت علقمة بن كنانة. وقال غيره كان النساء اللاتي خرجن مع المشركين يوم أحد خمس عشرة امرأة. قوله: "رفعن عن سوقهن" جمع ساق أي ليعينهن ذلك على سرعة الهرب. وفي حديث الزبير بن العوام عند ابن إسحاق قال: "والله لقد رأيتني أنظر إلى خذم هند بنت عتبة وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون إحداهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حتى كشف القوم عنه وخلوا ظهرنا للجبل، فأتينا من خلفنا، وصرخ صارخ. ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب لوائهم حتى ما يدنو منه أحد من القوم. قوله: "فأخذوا يقولون الغنيمة الغنيمة فقال عبد الله بن جبير: عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا، فأبوا" في رواية زهير "فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة - أي يوم الغنيمة - ظهر أصحابكم، فما تنتظرون" وزاد: "فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبين من الغنيمة" وفي حديث ابن عباس "فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا

(7/350)


عسكر المشركين انكفت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التفت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا - وشبك بين أصابعه - فلما أخلت الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على الصحابة، فضرب بعضهم بعضا والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، قد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين تسعة أو سبعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، وصاح الشيطان: قتل محمد" وقد ذكرنا من حديث الزبير نحوه. قوله: "فلما أبوا صرفت وجوههم" في رواية زهير "فلما أتوهم" بالمثناة وقوله: "صرفت وجوههم" أي تحيروا فلم يدروا أين يتوجهون. وزاد زهير في روايته: "فذلك "إذ يدعوهم الرسول في أخراهم" فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا" وجاء في رواية مرسلة أنهم من الأنصار، وسأذكرها في الكلام على الحديث السابع من الباب الذي يليه. وروى النسائي من طريق أبي الزبير عن جابر قال: "لما ولى الناس يوم أحد كان النبي صلى الله عليه وسلم في اثني عشر رجلا من الأنصار وفيهم طلحة" الحديث. ووقع عند الطبري من طريق السدي قال: "تفرق الصحابة: فدخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله، فرماه ابن قمئة بحجر فكسر أنفه ورباعيته، وشجه في وجه فأثقله، فتراجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون رجلا فجعلوا يذبون عنه. فحمله منهم طلحة وسهل بن حنيف، فرمى طلحة بسهم ويبست يده. وقال بعض من فر إلى الجبل: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي يستأمن لنا من أبي سفيان، فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قتل فرب محمد لم يقتل. فقاتلوا على ما قاتل عليه" ثم ذكر قصة قتله كما سيأتي قريبا. وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبل فأراد رجل من أصحابه أن يرميه بسهم، فقال له: أنا رسول الله فلما سمعوا ذلك فرحوا به واجتمعوا حوله وتراجع الناس. وسيأتي في باب مفرد ما يتعلق بمن شج وجهه عليه الصلاة والسلام. قوله: "فأصيب سبعون قتيلا" في رواية زهير "فأصابوا منها" أي من طائفة المسلمين. وفي رواية الكشميهني: "فأصابوا منا" وهي أوجه. وزاد زهير "كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، وقد تقدم بسط القول في ذلك. وروى سعيد بن منصور من مرسل أبي الضحى قال: "قتل يومئذ - يعني يوم أحد - سبعون: أربعة من المهاجرين حمزة ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان، وسائرهم من الأنصار". قلت: وبهذا جزم الواقدي. وفي كلام ابن سعد ما يخالف ذلك. ويمكن الجمع كما تقدم. وأخرج ابن حبان والحاكم في صحيحيهما عن أبي بن كعب قال: "أصيب يوم أحد من الأنصار أربعة وستون ومن المهاجرين ستة، وكان الخامس سعد مولى حاطب بن أبي بلتعة. والسادس يوسف بن عمرو الأسلمي حليف بني عبد شمس"، وذكر المحب الطبري عن الشافعي أن شهداء أحد اثنان وسبعون. وعن مالك خمسة وسبعون من الأنصار خاصة أحد وسبعون، وسرد أبو الفتح اليعمري أسماءهم فبلغوا ستة وتسعين، ومن المهاجرين أحد عشر وسائرهم من الأنصار، منهم من ذكره ابن إسحاق والزيادة من عند موسى بن عقبة أو محمد بن سعد أو هشام بن الكلبي. ثم ذكر عن ابن عبد البر وعن الدمياطي أربعة أو خمسة، قال فزادوا عن المائة. قال اليعمري: قد ورد في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} أنها نزلت تسلية للمؤمنين عمن أصيب منهم يوم أحد، فإنهم أصابوا من المشركين يوم بدر سبعين قتيلا وسبعين أسيرا في عدد من قتل. قال اليعمري: إن ثبتت فهذه الزيادة ناشئة عن الخلاف في التفصيل. قلت: وهو الذي يعول عليه، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي والنسائي من طريق الثوري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن عبيدة بن عمرو عن علي "أن جبريل هبط فقال: خيرهم في أسارى بدر من

(7/351)


القتل أو الفداء على أن يقتل من قابل مثلهم، قالوا: الفداء ويقتل منا" قال الترمذي حسن، ورواه ابن عون عن ابن سيرين عن عبيدة مرسلا. قلت: ورواه ابن عون عند الطبري، ووصلها من وجه آخر عنه، وله شاهد من حديث عمر عند أحمد وغيره، قال اليعمري: ومن الناس من يقول السبعين من الأنصار خاصة، وبذلك جزم ابن سعد. قلت: "وكأن الخطاب بقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ} للأنصار خاصة، ويؤيده قول أنس "أصيب منا يوم أحد سبعون" وهو في الصحيح بمعناه. قوله: "وأشرف أبو سفيان" أي ابن حرب، وكان رئيس المشركين يومئذ. قوله: "فقال أفي القوم محمد" زاد زهير ثلاث مرات في المواضع الثلاث. قوله: "فقال: لا تجيبوه" وقع في حديث ابن عباس "أين ابن أبي كبشة، أين ابن أبي قحافة، أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: ألا أجيبه؟ قال: بلى" وكأنه نهى عن إجابته في الأولى وأذن فيها في الثالثة. قوله: "فقال إن هؤلاء قتلوا" في رواية زهير "ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا". قوله: "أبقى الله عليك ما يخزيك" زاد زهير "إن الذي عددت لأحياء كلهم". قوله: "اعل هبل" في رواية زهير "ثم أخذ يرتجز: اعل هبل" قال ابن إسحاق: معنى قوله اعل هبل أي ظهر دينك. وقال السهيلي. معناه زاد علوا. وقال الكرماني: فإن قلت ما معنى اعل ولا علو في هبل؟ فالجواب هو بمعنى العلى، أو المراد أعلى من كل شيء ا هـ، وزاد زهير "قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال" بكسر المهملة وتخفيف الجيم، وفي حديث ابن عباس "الأيام دول والحرب سجال" وفي رواية ابن إسحاق أنه قال: أنعمت فعال إن الحرب سجال ا هـ. وفعال بفتح الفاء وتخفيف المهملة قالوا معناه أنعمت الأزلام، وكان استقسم بها حين خرج إلى أحد. ووقع في خبر السدي عمد الطبراني: اعل هبل، حنظلة بحنظلة، ويوم أحد بيوم بدر. وقد استمر أبو سفيان على اعتقاد ذلك حتى قال لهرقل لما سأله كيف كان حربكم معه - أي النبي صلى الله عليه وسلم - كما تقدم بسطه في بدء الوحي، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان على ذلك، بل نطق النبي صلى الله عليه وسلم بهذه اللفظة كما في حديث أوس بن أبي أوس عند ابن ماجه وأصله عند أبي داود" الحرب سجال" ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} بعد قوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} فإنها نزلت في قصة أحد بالاتفاق.
والقرح الجرح. وأخرج ابن أبي حاتم من مرسل عكرمة قال: "لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم الجبل جاء أبو سفيان فقال: الحرب سجال - فذكر القصة قال - فأنزل الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وزاد في حديث ابن عباس" قال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. قال: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذا وخسرنا". قوله: "وتجدون" في رواية الكشميهني: "وستجدون". قوله: "مثلة" بضم الميم وسكون المثلثة، ويجوز فتح أوله. وقال ابن التين: بفتح الميم وضم المثلثة، قال ابن فارس: مثل بالقتل إذا جدعه، قال ابن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان قال: "خرجت هند والنسوة منها يمثلن بالقتلى، يجدعن الآذان والأنف، حتى اتخذت هند من ذلك حزما وقلائد، وأعطت حزمها وقلائدها - أي اللائي كن عليها - لوحشي جزاء له على قتل حمزة، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. قوله: "لم آمر بها، ولم تسؤني" أي لم أكرهها وإن كان وقوعها بغير أمري. وفي حديث ابن عباس: ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا، أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه كان لم يكرهه. وفي رواية ابن إسحاق" والله ما رضيت وما سخطت، وما نهيت وما أمرت" وفي هذا الحديث من الفوائد منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصيتهما به بحيث كان أعداؤه لا يعرفون بذلك غيرهما، إذ لم يسأل أبو سفيان عن

(7/352)


غيرهما. وأنه ينبغي للمرء أن يتذكر نعمة الله ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها. وفيه شؤم ارتكاب النهي، وأنه يعم ضرره من لم يقع منه، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وأن من آثر دنياه أضر بأمر آخرته ولم تحصل له دنياه. واستفيد من هذه الكائنة أخذ الصحابة الحذر من العود إلى مثلها، والمبالغة في الطاعة، والتحرز من العدو الذين كانوا يظهرون أنهم منهم وليسوا منهم، وإلى ذلك أشار سبحانه وتعالى في سورة آل عمران أيضا {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} إلى أن قال {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} .وقال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} .
4044- أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ قَالَ "اصْطَبَحَ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ نَاسٌ ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ"
الحديث الثالث قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار.قوله: "اصطبح الخمر يوم أحد ناس ثم قتلوا شهداء" سمي جابر منهم فيما رواه وهب بن كيسان عنه أباه عبد الله بن عمرو، أخرجه الحاكم في "الإكليل"، ودل ذلك على أن تحريم الخمر كان بعد أحد، وصرح صدقة بن الفضل عن ابن عيينة كما سيأتي في تفسير المائدة بذلك فقال في آخر الحديث: "وذلك قبل تحريمها" وقد تقدم التنبيه على شيء من فوائده في أول الجهاد.
4045- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ "أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ وَأُرَاهُ قَالَ وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ أَوْ قَالَ أُعْطِينَا مِنْ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ"
الحديث الرابع قوله: "حدثنا عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "عن سعد بن إبراهيم" أي ابن عبد الرحمن بن عوف. قوله: "أتي عبد الرحمن بن عوف بطعام" في رواية نوفل بن إياس أن الطعام كان خبزا ولحما، أخرجه الترمذي في "الشمائل". قوله: "وهو صائم" ذكر ابن عبد البر أن ذلك كان في مرض موته. قوله: "قتل مصعب بن عمير" تقدم نسبه وذكره في أول الهجرة، وأنه كان من السابقين إلى الإسلام وإلى الهجرة، وكان يقرئ الناس بالمدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قتله يوم أحد، وذكر ذلك ابن إسحاق وغيره. وقال ابن إسحاق: وكان الذي قتل مصعب بن عمير عمرو بن قمئة الليثي، فظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى قريش فقال لهم: قتلت محمدا. وفي الجهاد لابن المنذر من مرسل عبيد بن عمير قال: "وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير وهو متجعف على وجهه، وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحديث. قوله: "وهو خير مني" لعله قال ذلك تواضعا. ويحتمل أن يكون ما استقر عليه الأمر من تفضيل العشرة على غيرهم بالنظر إلى من لم يقتل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع من أبي بكر الصديق نظير ذلك، فذكر ابن هشام أن رجلا دخل على أبي بكر

(7/353)


الصديق وعنده بنت سعد بن الربيع وهي صغيرة فقال: من هذه؟ قال: هذه بنت رجل خير مني، سعد بن الربيع، كان من نقباء العقبة شهد بدرا واستشهد يوم أحد. قوله: "كفن في بردة" تقدم شرحه في كتاب الجنائز. قوله: "وقتل حمزة" أي ابن عبد المطلب، ستأتي كيفية قتله في هذا الباب. قوله: "ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط" يشير إلى ما فتح لهم من الفتوح والغنائم وحصل لهم من الأموال، وكان لعبد الرحمن من ذلك الحظ الوافر. قوله: "وقد خشينا أن تكون حسناتنا" في رواية الجنائز "طيباتنا". وفي رواية نوفل بن إياس "ولا أرانا أخرنا لما هو خير لنا". قوله: "ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام" في رواية أحمد عن غندر عن شعبة "وأحسبه لم يأكله". وفي الحديث فضل الزهد، وأن الفاضل في الدين ينبغي له أن يمتنع من التوسع في الدنيا لئلا تنقص، حسناته، وإلى ذلك أشار عبد الرحمن بقوله خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت. وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: وفيه أنه ينبغي ذكر سير الصالحين وتقللهم في الدنيا لتقل رغبته فيها قال: وكان بكاء عبد الرحمن شفقا أن لا يلحق بمن تقدمه.
4046- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فَأَيْنَ أَنَا قَالَ فِي الْجَنَّةِ فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ".
4047- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ وَمِنَّا مَنْ مَضَى أَوْ ذَهَبَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ نَمِرَةً كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلاَهُ خَرَجَ رَأْسُهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلِهِ الإِذْ خِرَ أَوْ قَالَ أَلْقُوا عَلَى رِجْلِهِ مِنْ الإِذْخِرِ وَمِنَّا مَنْ قَدْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا".
الحديث الخامس قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "قال رجل" لم أقف على اسمه، وزعم ابن بشكوال أنه عمير بن الحمام وهو بضم المهملة وتخفيف الميم، وسبقه إلى ذلك الخطيب واحتج بما أخرجه مسلم من حديث أنس "أن عمير بن الحمام أخرج تمرات فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا أحييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم قاتل حتى قتل". قلت: لكن وقع التصريح في حديث أنس أن ذلك كان يوم بدر، والقصة التي في الباب وقع التصريح في حديث جابر أنها كانت يوم أحد، فالذي يظهر أنهما قصتان وقعتا لرجلين، والله أعلم. وفيه ما كان الصحابة عليه من حب نصر الإسلام، والرغبة في الشهادة ابتغاء مرضاة الله. حديث خباب، وقد تقدم شرحه في كتاب الجنائز، ويأتي أيضا بعد سبعة أبواب، ويأتي شرحه في كتاب الرقاق.
4048- أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَمَّهُ غَابَ عَنْ بَدْرٍ فَقَالَ "غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ أَشْهَدَنِي اللَّهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أُجِدُّ

(7/354)


فَلَقِيَ يَوْمَ أُحُدٍ فَهُزِمَ النَّاسُ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَتَقَدَّمَ بِسَيْفِهِ فَلَقِيَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ أَيْنَ يَا سَعْدُ إِنِّي أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ فَمَضَى فَقُتِلَ فَمَا عُرِفَ حَتَّى عَرَفَتْهُ أُخْتُهُ بِشَامَةٍ أَوْ بِبَنَانِهِ وَبِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ"
الحديث السابع قوله: "أخبرنا حسان بن حسان" هو أبو علي البصري نزيل مكة ويقال أيضا حسان بن أبي عباد، ووهم من جعله اثنين، وهو من قدماء شيوخ البخاري مات سنة ثلاث عشر، وما له عنده سوى هذا الحديث وآخر في أبواب العمرة. ومحمد بن طلحة أي ابن مصرف بتشديد الراء المكسورة كوفي فيه مقال، إلا أنه لم ينفرد بهذا عن حميد، فقد تقدم في الجهاد من رواية عبد الأعلى بأتم من هذا السياق فيه عن حميد "سألت أنسا". قوله: "ليرين الله" بفتح التحتانية والراء ثم التحتانية وتشديد النون والله بالرفع، ومراده أن يبالغ في القتال ولو زهقت روحه. وقال أنس في رواية ثابت "وخشي أن يقول غيرها" أي غير هذه الكلمة، وذلك على سبيل الأدب منه والخوف لئلا يعرض له عارض فلا يفي بما يقول فيصير كمن وعد فأخلف. قوله: "ما أجد" بضم أوله وكسر الجيم وتشديد الدال للأكثر من الرباعي، يقال أجد في الشيء يجد إذا بالغ فيه. وقال ابن التين: صوابه بفتح الهمزة وضم الجيم، يقال أحد يجد إذا اجتهد في الأمر، أما أجد فإنما يقال لمن سار في أرض مستوية، ولا معني لها هنا. قال وضبطه بعضهم بفتح الهمزة وكسر الجيم وتخفيف الدال من الوجدان أي ما ألتقي من الشدة في القتال. قوله: "إني أجد ريح الجنة دون أحد" يحتمل أن يكون ذلك على الحقيقة بأن يكون شم رائحة طيبة زائدة عما يعهد فعرف أنها ريح الجنة. ويحتمل أن يكون أطلق ذلك باعتبار ما عنده من اليقين حتى كأن الغائب عنه صار محسوسا عنده، والمعنى أن الموضع الذي أقاتل فيه يئول بصاحبه إلى الجنة. قوله: "فمضى فقتل" في رواية عبد الأعلى "قال سعد بن معاذ: فما استطعت يا رسول الله ما صنع". قلت. وهذا يشعر بأن أنس بن مالك إنما سمع هذا الحديث من سعد بن معاذ لأنه لم يحضر قتل أنس بن النضر، ودل ذلك على شجاعة مفرطة في أنس بن النضر بحيث أن سعد بن معاذ مع ثباته يوم أحد وكمال شجاعته ما جسر على ما صنع أنس بن النضر. قوله: "فما عرف حتى عرفته أخته بشامة، أو ببنانه" كذا هنا بالشك والأول بالمعجمة والميم والثاني بموحدتين ونونين بينهما ألف والثاني هو المعروف وبه جزم عبد الأعلى في روايته وكذا وقع في رواية ثابت عن أنس عند مسلم. قوله: "وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم" ووقع في رواية عبد الأعلى بلفظ: "ضربة بالسيف أو طعنة بالرمح أو رمية بالسهم"وليست "أو" للشك بل هي للتقسيم وزاد في روايته: "ووجدناه قد مثل به المشركون "وعنده" قال أنس: كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى} إلى آخر الآية" وفي رواية ثابت المذكورة" قال أنس فنزلت هذه الآية {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} وكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه، وكذا وقع الجزم بأنها نزلت في ذلك عند المصنف في تفسير الأحزاب من طريق ثمامة عن أنس ولفظه: "هذه الآية نزلت في أنس بن النضر"

(7/355)


فذكرها، وفي الحديث جواز الأخذ بالشدة في الجهاد، وبذل المرء نفسه في طلب الشهادة، والوفاء بالعهد، وتقدمت بقية فوائده في كتاب الجهاد.
4049- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ"
4050- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ رَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَهُ وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةً تَقُولُ نُقَاتِلُهُمْ وَفِرْقَةً تَقُولُ لاَ نُقَاتِلُهُمْ فَنَزَلَتْ {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} وَقَالَ إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِي الذُّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ "
الحديث الثامن حديث زيد بن ثابت أورده مختصرا، وسيأتي تاما في فضائل القرآن مع شرحه. قوله: "عبد الله بن يزيد" هو الخطمي بفتح المعجمة وسكون المهملة صحابي صغير. قوله: "رجع ناس ممن خرج معه" يعني عبد الله بن أبي وأصحابه، وقد ورد ذلك صريحا في رواية موسى بن عقبة في المغازي وأن عبد الله بن أبي كان وافق رأيه رأي النبي صلى الله عليه وسلم على الإقامة بالمدينة، فلما أشار غيره بالخروج وأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج قال عبد الله بن أبي لأصحابه: أطاعهم وعصاني. علام نقتل أنفسنا؟ فرجع بثلث الناس. قال ابن إسحاق في روايته: فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام وهو والد جابر وكان خزرجيا كعبد الله بن أبي فناشدهم أن يرجعوا فأبوا فقال: أبعدكم الله. قوله: "وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين" أي في الحكم فيمن انصرف مع عبد الله بن أبي. قوله: "فنزلت" هذا هو الصحيح في سبب نزولها. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم عن أبي سعيد بن معاذ قال: "نزلت هذه الآية في الأنصار، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من لي بمن يؤذيني؟ فذكر منازعة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن حضير ومحمد بن مسلمة، قال: فأنزل الله هذه الآية" وفي سبب نزولها قول آخر أخرجه أحمد من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه" أن قوما أتوا المدينة فأسلموا، فأصابهم الوباء فرجعوا، واستقبلهم ناس من الصحابة فأخبروهم، فقال بعضهم: نافقوا. وقال بعضهم: لا، فنزلت: وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سلمة مرسلا، فإن كان محفوظا احتمل أن تكون نزلت في الأمرين جميعا. قوله: "وقال إنها طيبة تنفي الذنوب" كذا في هذه الرواية، وتقدم في الحج" تنفي الدجال" ويأتي في التفسير بلفظ: "تنفي الخبث" وهو المحفوظ، وقد سبق الكلام عليه في أواخر الحج مستوفى. قوله: "كما تنفي النار إلخ" هو حديث آخر تقدم في أواخر الحج، وقد فرقه مسلم حديثين، فذكر ما يتعلق بهذه القصة في" باب ذكر المنافقين" وهو في أواخر كتابه، وذكر قوله: "إنها طيبة إلخ" في فضل المدينة من أواخر كتاب الحج،

(7/356)


وهو من نادر صنيعه، بخلاف البخاري فإنه يقطع الحديث كثيرا في الأبواب.

(7/357)


باب قول الله تعالى {إذا همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما}
...
18 - باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ}
4051- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا [122 آل عمران] {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ} بَنِي سَلِمَةَ وَبَنِي حَارِثَةَ وَمَا أُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ وَاللَّهُ يَقُولُ { وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}
[الحديث 4051- طرفه في: 4558]
4052- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ نَكَحْتَ يَا جَابِرُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ مَاذَا أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ لاَ بَلْ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ كُنَّ لِي تِسْعَ أَخَوَاتٍ فَكَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ إِلَيْهِنَّ جَارِيَةً خَرْقَاءَ مِثْلَهُنَّ وَلَكِنْ امْرَأَةً تَمْشُطُهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ قَالَ: أَصَبْتَ "
4053- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ "حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ فَلَمَّا حَضَرَ جِزَازُ النَّخْلِ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِي قَدْ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ دَيْنًا كَثِيرًا وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ فَقَالَ اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ فَفَعَلْتُ ثُمَّ دَعَوْتُهُ فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ كَأَنَّهُمْ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي أَصْحَابَكَ فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ عَنْ وَالِدِي أَمَانَتَهُ وَأَنَا أَرْضَى أَنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي وَلاَ أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ فَسَلَّمَ اللَّهُ الْبَيَادِرَ كُلَّهَا وَحَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهَا لَمْ تَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَةً"
قوله: "باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} الآية" الفشل بالفاء والمعجمة الجبن، وقيل الفشل في الرأي العجز، وفي البدن الإعياء وفي الحرب الجبن، والولي الناصر. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "نزلت هذه الآية فينا" أي في قومه بني سلمة وهم من الخزرج، وفي أقاربهم بني حارثة وهم من الأوس. قوله: "وما أحب أنها لم تنزل والله يقول: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} أي وإن الآية وإن كان في ظاهرها غض منهم لكن في آخرها غاية الشرف لهم، قال ابن إسحاق: قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} أي الدافع عنهما ما هموا به من الفشل، لأن ذلك كان من وسوسة الشيطان من غير وهن منهم. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "تسع بنات" في رواية الشعبي" ست بنات" فكأن ثلاثا

(7/357)


باب قول الله تعالى {إن الذين تولوامنكم يوم إلتقى الجمعان}
...
19 - باب
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى[155 آل عمران] {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِإِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
4066 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ "جَاءَ رَجُلٌ حَجَّ الْبَيْتَ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ مَنْ هَؤُلاَءِ الْقُعُودُ قَالُوا هَؤُلاَءِ قُرَيْشٌ قَالَ مَنْ الشَّيْخُ قَالُوا ابْنُ عُمَرَ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ أَتُحَدِّثُنِي قَالَ أَنْشُدُكَ بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَتَعْلَمُهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَتَعْلَمُ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَكَبَّرَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ تَعَالَ لِأُخْبِرَكَ وَلِأُبَيِّنَ لَكَ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ فَبَعَثَ عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَمَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ
فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بِيَدِهِ الْيُمْنَى هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ فَقَالَ هَذِهِ لِعُثْمَانَ اذْهَبْ بِهَذَا الْآنَ مَعَكَ"
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} اتفق أهل العلم بالنقل على أن المراد به هنا يوم أحد. وغفل من قال يوم بدر، لأنه لم يول فيها أحد من المسلمين. نعم المراد بقوله تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وهي في سورة الأنفال يوم بدر، ولا يلزم منه أن يكون حيث جاء {الْتَقَى الْجَمْعَانِ} المراد به يوم بدر. قوله: {اسْتَزَلَّهُمُ} أي زين لهم أن يزلوا، وقوله: {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} قال ابن التين: يقال إن الشيطان
19 - باب
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى[155 آل عمران] {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِإِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
4066 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ "جَاءَ رَجُلٌ حَجَّ الْبَيْتَ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ مَنْ هَؤُلاَءِ الْقُعُودُ قَالُوا هَؤُلاَءِ قُرَيْشٌ قَالَ مَنْ الشَّيْخُ قَالُوا ابْنُ عُمَرَ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ أَتُحَدِّثُنِي قَالَ أَنْشُدُكَ بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَتَعْلَمُهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَتَعْلَمُ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَكَبَّرَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ تَعَالَ لِأُخْبِرَكَ وَلِأُبَيِّنَ لَكَ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِ نَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ فَبَعَثَ عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَمَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ
فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بِيَدِهِ الْيُمْنَى هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ فَقَالَ هَذِهِ لِعُثْمَانَ اذْهَبْ بِهَذَا الْآنَ مَعَكَ "
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} اتفق أهل العلم بالنقل على أن المراد به هنا يوم أحد. وغفل من قال يوم بدر، لأنه لم يول فيها أحد من المسلمين. نعم المراد بقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وهي في سورة الأنفال يوم بدر، ولا يلزم منه أن يكون حيث جاء {الْتَقَى الْجَمْعَانِ} المراد به يوم بدر. قوله: {اسْتَزَلَّهُمُ} أي زين لهم أن يزلوا، وقوله: {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} قال ابن التين: يقال إن الشيطان

(7/363)


ذكرهم خطاياهم فكرهوا القتال قبل التوبة؟ ولم يكرهوه معاندة ولا نفاقا، فعفا الله عنهم. قلت: ولم يتعين ما قال، فيحتمل أن يكونوا فروا جبنا ومحبة في الحياة لا عنادا ولا نفاقا، فتابوا فعفا الله عنهم. ثم ذكر حديث ابن عمر في قصة عثمان، وقد تقدم شرحه في مناقب عثمان، وقدمت أني لم أقف على اسمه صريحا، إلا أنه يحتمل يكون هو العلاء بن عرار. ثم رأيت لبعضهم أن اسمه حكيم فليحرر. وفي الرواية المتقدمة أنه من أهل مصر، ثم وجدت الجزم بالعلاء بن عرار وهما بالمهملات وذلك في مناقب عثمان، ويأتي بأبسط من ذلك في تفسير {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} من سورة البقرة. وقوله في هذه الرواية: "أنشدك بحرمة هذا البيت" فيه جواز مثل هذا القسم عند أثر عبد الله بن عمر لكونه لم ينكر عليه، وسيأتي البحث في شيء من هذا في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. قوله: "إني سائلك عن شيء، أتحدثني؟" زاد في رواية أبي نعيم المذكورة "قال: نعم".

(7/364)


باب قول الله تعالى {إذ تصعدون ولا تلون على أحد}
...
20 - باب
{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [153 آل عمران] تُصْعِدُونَ: تَذْهَبُونَ. أَصْعَدَ وَصَعِدَ فَوْقَ الْبَيْتِ
4067- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ وَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ {إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ}
قوله: "باب:{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} . قوله: "تصعدون تذهبون، أصعد وصعد فوق البيت" سقط هذا التفسير للمستملي، كأنه يريد الإشارة إلى التفرقة بين الثلاثي والرباعي، فالثلاثي بمعنى ارتفع والرباعي بمعنى ذهب. وقال بعض أهل اللغة: أصعد إذا ابتدأ السير. وقوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} روى عبد بن حميد من طريق مجاهد قال: "كان الغم الأول حين سمعوا الصوت أن محمدا قد قتل، والثاني لما انحازوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصعدوا في الجبل فتذكروا قتل من قتل منهم فاغتموا" ومن طريق سعيد عن قتادة نحوه وزاد: "وقوله: {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي من الغنيمة {وَلا مَا أَصَابَكُمْ} أي من الجراح وقتل إخوانكم". وروى الطبري من طريق السري نحوه لكن قال: "الغم الأول ما فاتهم من الغنيمة والثاني ما أصابهم من الجراح" وزاد قال: "لما صعدوا أقبل أبو سفيان بالخيل حتى أشرف عليهم فنسوا ما كانوا فيه من الحزن على من قتل منهما واشتغلوا بدفع المشركين". حديث البراء في قصة الرماة تقدم شرحه قريبا.

(7/364)


باب قول الله تعالى {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا}
...
21 - باب
{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ

(7/364)


باب قول الله تعالى {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم}
...
21 - باب
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
قَالَ حُمَيْدٌ وَثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ شُجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ فَنَزَلَتْ لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ
4069- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا وَفُلاَنًا بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ} إِلَى قَوْلِهِ {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
[الحديث 4069- أطرافه في: 7346,4559,4070]
4070- وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَزَلَتْ {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ} إِلَى قَوْلِهِ {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
قوله: "باب قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} أي بيان سبب نزول هذه الآية، وقد ذكر في الباب سببين، ويحتمل أن تكون نزلت في الأمرين جميعا فإنهما كانا في قصة واحدة، وسأذكر في آخر الباب سببا آخر. قوله: "وقال حميد وثابت عن أنس: شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أما حديث حميد فوصله أحمد والترمذي والنسائي من طرق عن حميد به. وقال ابن إسحاق في المغازي" حدثني حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم

(7/365)


22 - باب ذِكْرِ أُمِّ سَلِيطٍ
4071- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب وقال ثعلبة بن مالك "إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطا بين نساء من نساء أهل المدينة,فبقي منها مرط جيد فقال له

(7/366)


بعض من عنده: يا أمير المؤمنين,أعط هذابنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك – يريدون أم كلثوم بنت علي فقال عمر: أم سليط احق به وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القريب يوم أحد"
قوله: "باب ذكر أم سليط" بفتح المهملة وكسر اللام، ذكر فيه حديث عمر في قصة المروط، وقد تقدم شرحه في كتاب الجهاد، وأم سليط المذكورة هي والدة أبي سعيد الخدري كانت زوجا لأبي سليط فمات عنها قبل الهجرة، فتزوجها مالك بن سنان الخدري فولدت له أبا سعيد.

(7/367)


باب قتل حمزة بن عبدالمطلب
...
23 - باب قَتْلِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
4072- حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ "خَرَجْتُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ فَلَمَّا قَدِمْنَا حِمْصَ قَالَ لِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ هَلْ لَكَ فِي وَحْشِيٍّ نَسْأَلُهُ عَنْ قَتْلِ حَمْزَةَ قُلْتُ نَعَمْ وَكَانَ وَحْشِيٌّ يَسْكُنُ حِمْصَ فَسَأَلْنَا عَنْهُ فَقِيلَ لَنَا هُوَ ذَاكَ فِي ظِلِّ قَصْرِهِ كَأَنَّهُ حَمِيتٌ قَالَ فَجِئْنَا حَتَّى وَقَفْنَا عَلَيْهِ بِيَسِيرٍ فَسَلَّمْنَا فَرَدَّ السَّلاَمَ قَالَ وَعُبَيْدُ اللَّهِ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَتِهِ مَا يَرَى وَحْشِيٌّ إِلاَّ عَيْنَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ يَا وَحْشِيُّ أَتَعْرِفُنِي قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لاَ وَاللَّهِ إِلاَّ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ الْخِيَارِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قِتَالٍ بِنْتُ أَبِي الْعِيصِ فَوَلَدَتْ لَهُ غُلاَمًا بِمَكَّةَ فَكُنْتُ أَسْتَرْضِعُ لَهُ فَحَمَلْتُ ذَلِكَ الْغُلاَمَ مَعَ أُمِّهِ فَنَاوَلْتُهَا إِيَّاهُ فَلَكَأَنِّي نَظَرْتُ إِلَى قَدَمَيْكَ قَالَ فَكَشَفَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ أَلاَ تُخْبِرُنَا بِقَتْلِ حَمْزَةَ قَالَ نَعَمْ إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ بِبَدْرٍ فَقَالَ لِي مَوْلاَيَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأَنْتَ حُرٌّ قَالَ فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ النَّاسُ عَامَ عَيْنَيْنِ وَعَيْنَيْنِ جَبَلٌ بِحِيَالِ أُحُدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَادٍ خَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إِلَى الْقِتَالِ فَلَمَّا أَنْ اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ خَرَجَ سِبَاعٌ فَقَالَ هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ قَالَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ يَا سِبَاعُ يَا ابْنَ أُمِّ أَنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ أَتُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ قَالَ وَكَمَنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا فِي ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيْهِ قَالَ فَكَانَ ذَاكَ الْعَهْدَ بِهِ فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ رَجَعْتُ مَعَهُمْ فَأَقَمْتُ بِمَكَّةَ حَتَّى فَشَا فِيهَا الإِسْلاَمُ ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الطَّائِفِ فَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا فَقِيلَ لِي إِنَّهُ لاَ يَهِيجُ الرُّسُلَ قَالَ فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآنِي قَالَ آنْتَ وَحْشِيٌّ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ قُلْتُ قَدْ كَانَ مِنْ الأَمْرِ مَا بَلَغَكَ قَالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي قَالَ فَخَرَجْتُ فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ

(7/367)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ قُلْتُ لاَخْرُجَنَّ إِلَى مُسَيْلِمَةَ لَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَأُكَافِئَ بِهِ حَمْزَةَ قَالَ فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ قَالَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي ثَلْمَةِ جِدَارٍ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ ثَائِرُ الرَّأْسِ قَالَ فَرَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ قَالَ وَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ فَأَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ فَقَالَتْ جَارِيَةٌ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ وَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَتَلَهُ الْعَبْدُ الأَسْوَدُ"
قوله: "قتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه" كذا لأبي ذر، ولغيره: "باب قتل حمزة" فقط، وللنسفي "قتل حمزة سيد الشهداء" وهذا اللفظ قد ثبت في حديث مرفوع أخرجه الطبراني من طريق الأصبغ بن نباته عن علي قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ". قوله: "حدثني أبو جعفر محمد بن عبد الله" أي ابن المبارك المخرمي بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد الراء البغدادي، روى عنه البخاري هنا وفي الطلاق، وشيخه حجين بن المثنى بمهملة ثم جيم وآخره نون مصغر، أصله من اليمامة وسكن بغداد وولي قضاء خراسان، وهو من أقران كبار شيوخ البخاري لكن لم يسمع منه البخاري، وليس له عنده سوى هذا الموضع. قوله: "عن عبد الله بن الفضل" هو ابن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي المدني من صغار التابعين. قوله: "عن جعفر بن عمرو بن أمية" هو الضمري، وأبوه هو الصحابي المشهور، هذا هو المحفوظ، وكذا رواه أحمد بن خالد الوهبي عن عبد العزيز أخرجه الطبراني وقد رواه أبو داود الطيالسي عن عبد العزيز شيخ حجين بن المثنى فيه فقال: "عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن سليمان بن يسار عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: أقبلنا من الروم" فذكر الحديث، والمحفوظ" عن جعفر بن عمرو قال: خرجت مع عبيد الله بن عدي" وكذا أخرجه ابن إسحاق" عن عبد الله بن الفضل عن سليمان عن جعفر قال: خرجت أنا وعبيد الله" فذكره، وكذا أخرجه ابن عائذ في المغازي "عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن جعفر بن عمرو بن أمية قال خرجت أنا وعبيد الله بن عدي" وللطبراني من وجه آخر عن ابن جابر.قوله: "خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار" النوفلي الذي تقدم ذكره في مناقب عثمان، زاد أحمد بن خالد الوهبي عن عبد العزيز بن عبد الله "فأدربنا" أي دخلنا درب الروم مجاهدين "فلما مررنا بحمص" وكذا في رواية ابن إسحاق. وفي رواية عبد الرحمن بن يزيد بن جابر "خرجت أنا وعبيد الله بن عدي غازيين الطائفة زمن معاوية، فلما قفلنا مررنا بحمص". قوله: "هل لك في وحشي" أي ابن حرب الحبشي مولى جبير بن مطعم. قوله: "نسأله عن قتل حمزة" في رواية الكشميهني: "فنسأله عن قتله حمزة" زاد ابن إسحاق كيف قتله؟ قوله: "فسألنا عنه، فقيل لنا" في رواية ابن إسحاق "فقال لنا رجل ونحن نسأل عنه: إنه غلب عليه الخمر، فإن تجداه صاحيا تجداه عربيا يحدثكما بما شئتما، وإن تجداه على غير ذلك فانصرفا عنه" وفي رواية الطيالسي نحوه وقال فيه: "إن أدركتماه شاربا فلا تسألاه". قوله: "كأنه حميت" بمهملة وزن رغيف، أي زق كبير، وأكثر ما يقال ذلك إذا كان مملوءا. وفي رواية لابن عائذ "فوجدناه رجلا سمينا محمرة عيناه" وفي رواية الطيالسي "فإذا به قد ألقي له شيء على بابه وهو جالس صاح" وفي رواية ابن إسحاق "على طنفسة له" وزاد:

(7/368)


"فإذا شيخ كبير مثل البغاث" يعني بفتح الموحدة والمعجمة الخفيفة وآخره مثلثة وهو طائر ضعيف الجثة كالرخمة ونحوها مما لا يصيد ولا يصاد. قوله: "معتجر" أي لاف عمامته على رأسه من غير تحنيك. قوله: "يا وحشي أتعرفني" في رواية ابن إسحاق "فلما انتهينا إليه سلمنا عليه فرفع رأسه إلى عبيد الله بن عدي فقال ابن العدي بن الخيار أنت؟ قال: نعم. فيحتمل أن يكون قال له ذلك بعد أن قال له "أتعرفني". قوله: "أم قتال" بكسر القاف بعدها مثناة خفيفة. وفي رواية الكشميهني بموحدة، والأول أصح، وهي عمة عتاب بن أسيد أي ابن أبي العيص بن أمية. قوله: "أسترضع له" أي أطلب له من يرضعه، زاد في رواية ابن إسحاق "والله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التي أرضعتك بذي طوى، فإني ناولتكها وهي على بعيرها فأخذتك، فلمعت لي قدمك حين رفعتك، فما هو إلا أن وقفت علي فعرفتها" وهذا يوضح قوله في رواية الباب: "فكأني نظرت إلى قدميك" يعني أنه شبه قدميه بقدم الغلام الذي حمله فكان هو هو، وبين الرؤيتين قريب من خمسين سنة، فدل ذلك على ذكاء مفرط، ومعرفة تامة بالقيافة. قوله: "ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: نعم" في رواية الطيالسي "فقال سأحدثكما كما حدثت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألني". قوله: "فلما أن خرج الناس" أي قريش ومن معهم "عام عينين" أي سنة أحد وقوله: "عينين جبل بحيال أحد" أي من ناحية أحد، يقال فلان حيال كذا بالمهملة المكسورة بعد تحتانية خفيفة أي مقابله، وهو تفسير من بعض رواته. والسبب في نسبة وحشي العام إليه دون أحد أن قريشا كانوا نزلوا عنده. قال ابن إسحاق: نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة. قوله: "خرجت مع الناس إلى القتال" في رواية الطيالسي "فانطلقت يوم أحد معي حربتي، وأنا رجل من الحبشة ألعب لعبهم، قال: وخرجت ما أريد أن أقتل ولا أقاتل إلا حمزة، وعند ابن إسحاق: وكان وحشي يقذف بالحربة قذف الحبشة قلما يخطئ. قوله: "خرج سباع" بكسر المهملة بعدها موحدة خفيفة وهو ابن عبد العزى الخزاعي ثم الغبشاني بضم المعجمة وسكون الموحدة ثم معجمة، ذكر ابن إسحاق أن كنيته أبو نيار بكسر النون وتخفيف التحتانية. قوله: "فخرج إليه حمزة" في رواية الطيالسي "فإذا حمزة كأنه جمل أورق ما يرفع له أحد إلا قمعه بالسيف، فهبته. وبادر إليه رجل من ولد سباع" كذا قال، والذي في الصحيح هو الصواب، وعند ابن إسحاق "فجعل يهد الناس بسيفه" وعند ابن عائذ "فرأيت رجلا إذا حمل لا يرجع حتى يهزمنا، فقلت: من هذا؟ قالوا: حمزة. قلت: هذا حاجتي". قوله: "يا ابن أم أنمار" بفتح الهمزة وسكون النون هي أمه، كانت مولاة لشريق بن عمرو الثقفي والد الأخنس. قوله: "مقطعة البظور" بالظاء المعجمة جمع بظر وهي اللحمة التي تقطع من فرج المرأة عند الختان، قال ابن إسحاق: كانت أمه ختانة بمكة تختن النساء ا هـ والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم، وإلا قالوا خاتنة وذكر عمر بن شبة في "كتاب مكة" عن عبد العزيز بن المطلب أنها أم سباع وعبد العزى الخزاعي، وكانت أمة وهي والدة خباب بن الأرت الصحابي المشهور. قوله: "أتحاد" بمهملتين وتشديد الدال أي أتعاند، وأصل المحاددة أن يكون ذا في حد وذا في حد، ثم استعمل في المحاربة والمعاداة. وقوله: "كأمس الذاهب" هي كناية عن قتله أي صيره عدما. وفي رواية ابن إسحاق "فكأنما أخطأ رأسه" وهدا يقال عند المبالغة في الإصابة. قوله: "وكمنت" بفتح الميم أي اختفيت. وفي رواية ابن عائذ "عند شجرة" وعند ابن أبي شيبة من مرسل عمير بن إسحاق أن حمزة عثر فانكشفت الدرع عن بطنه فأبصره العبد الحبشي فرماه بالحربة. قوله: "في ثنته" بضم المثلثة

(7/369)


وتشديد النون هي العانة، وقيل ما بين السرة والعانة، وللطيالسي "فجعلت ألوذ من حمزة بشجرة ومعي حربتي حتى إذا استمكنت منه هززت الحربة حتى رضيت منها، ثم أرسلتها فوقعت بين ثندوتيه، وذهب يقوم فلم يستطع" ا هـ والثندوة بفتح المثلثة وسكون النون وضم المهملة بعدها واو خفيفة هي من الرجل موضع الثدي من المرأة. والذي في الصحيح أن الحربة أصابت ثنته أصح. قوله: "فلما رجع الناس" أي إلى مكة، زاد الطيالسي "فلما جئت عتقت" ولابن إسحاق "فلما قدمت مكة عتقت، وإنما قتلته لأعتق". قوله: "حتى فشا فيها الإسلام" في روية ابن إسحاق "فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هربت إلى الطائف". قوله: "فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية ابن إسحاق "فلما خرج وفد الطائف ليسلموا تغمت علي المذاهب فقلت ألحق باليمن أو الشام أو غيرها. قوله: "رسلا" كذا لأبي ذر وأبي الوقت، ولغيرهما رسولا بالإفراد، كان أول من قدم من ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عروة بن مسعود فأسلم، ورجع فدعاهم إلى الإسلام فقتلوه، ثم ندموا فأرسلوا وفدهم - وهم عمرو بن وهب بن مغيث وشرحبيل بن غيلان بن مسلمة وعبد يا ليل بن عمرو بن عمير، هؤلاء الثلاثة من الأحلاف، وعثمان بن أبي العاص، وأوس بن عوف ونمير بن حرشة، وهؤلاء الثلاثة من بني مالك، ذكر ذلك محمد بن إسحاق مطولا، وزاد ابن إسحاق أن الوفد كانوا سبعين رجلا، وكان الستة رؤساءهم، وقيل كان الجميع سبعة عشر، قال وهو أثبت. قوله: "فقيل لي إنه لا يهيج الرسل" أي لا ينالهم منه إزعاج. وفي رواية الطيالسي "فأردت الهرب إلى الشام، فقال لي رجل: ويحك، والله ما يأتي محمدا أحد بشهادة الحق إلا خلى عنه، قال فانطلقت فما شعر بي إلا وأنا قائم على رأسه أشهد بشهادة الحق" وعند ابن إسحاق" فلم يرعه إلا بي قائما على رأسه". قوله: "قال: أنت قتلت حمزة؟ قلت: قد كان من الأمر ما قد بلغك" في رواية الطيالسي "فقال ويحك، حدثني عن قتل حمزة. قال فأنشأت أحدثه كما حدثتكما" وعند يونس بن بكير في المغازي عند ابن إسحاق قال: "فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وحشي، فقال: دعوه فلإسلام رجل واحد أحب إلي من قتل ألف كافر ". قوله: "فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني" في رواية الطيالسي "فقال غيب وجهك عني فلا أراك". قوله: "قال فخرجت" زاد الطيالسي "فكنت أتقي أن يراني". ولابن عائذ "فما رآني حتى مات". وعند الطبراني "فقال: يا وحشي، اخرج فقاتل في سبيل الله كما كنت تصد عن سبيل الله". قوله: "فقلت لأخرجن إلى مسيلمة" في رواية الطيالسي "فلما كان من أمر مسيلمة ما كان انبعث مع البعث فأخذت حربتي" ولابن إسحاق نحوه. قوله: "فأكافئ به حمزة" بالهمز أي أساويه به، وقد فسره بعد بقوله: "فقتلت خير الناس وشر الناس" قوله: "فكان من أمره ما كان" أي من محاربته، وقتل جمع من الصحابة في الواقعة التي كانت بينهم وبينه، ثم كان الفتح للمسلمين بقتل مسيلمة كما سيأتي بيان ذلك في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. قوله: "في ثلمة جدار" أي خلل جدار. قوله: "جمل أورق" أي لونه مثل الرماد، وكان ذلك من غبار الحرب. وقوله: "ثائر الرأس" أي شعره منتفش. قوله: "فوضعتها" في رواية الكشميهني: "فأضعها". قوله: "ووثب إليه رجل من الأنصار" هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني كما جزم به الواقدي وإسحاق بن راهويه والحاكم، وقيل هو عدي بن سهل جزم به سيف في "كتاب الردة" وقيل أبو دجانة، وقيل زيد بن الخطاب الأول أشهر، ولعل عبد الله بن زيد هو الذي أصابته ضربته، وأما الآخران فحملا عليه في الجملة. وأغرب وثيمة في "كتاب الردة" فزعم أن الذي ضرب مسيلمة هو شن بفتح المعجمة وتشديد النون ابن عبد الله، وأنشد له:

(7/370)


ألم تر أني ووحشيهم ... ضربنا مسيلمة المفتن
يسائلني الناس عن قتله ... فقلت ضربت وهذا طعن
فلست بصاحبه دونه ... وليس بصاحبه دون شن
وأغرب من ذلك ما حكى ابن عبد البر أن الذي قتل مسيلمة هو خلاس بن بشير بن الأصم. قوله: "فضربه بالسيف على هامته" في رواية الطيالسي "فربك أعلم أينا قتله، فإن أك قتلته فقد قتلت خير الناس وشر الناس". قوله: "قال عبد الله بن الفضل" هو موصول بالإسناد المذكور أولا. وفي رواية الطيالسي "فقال سليمان بن يسار: سمعت ابن عمر يقول: "زاد ابن إسحاق في روايته: "وكان قد شهد اليمامة". قوله: "فقالت جارية على ظهر بيت: وا أمير المؤمنين، قتله العبد الأسود" هذا فيه تأييد لقول وحشي إنه قتله، لكن في قول الجارية أمير المؤمنين نظر لأن مسيلمة كان يدعي أنه نبي مرسل من الله، وكانوا يقولون له يا رسول الله ونبي الله، والتلقيب بأمير المؤمنين حدث بعد ذلك، وأول من لقب به عمر، وذكر بعد قتل مسيلمة بمدة، فليتأمل هذا. وأما قول ابن التين: كان مسيلمة تسمى تارة بالنبي وتارة بأمير المؤمنين، فإن كان أخذه من هذا الحديث فليس بجيد، وإلا فيحتاج إلى نقل بذلك والذي في رواية الطيالسي "قال ابن عمر: كنت في الجيش يومئذ، فسمعت قائلا يقول في مسيلمة: قتله العبد الأسود" ولم يقل أمير المؤمنين، ويحتمل أن تكون الجارية أطلقت عليه الأمير باعتبار أن أمر أصحابه كان إليه وأطلقت على أصحابه المؤمنين باعتبار إيمانهم به، ولم يقصد إلى تلقيبه بذلك، والله أعلم. ثم وجدت في كلام أبي الخطاب بن دحية الإنكار على من أطلق أن عمر أول من لقب أمير المؤمنين وقال: قد تسمى به مسيلمة قبله، كما أخرجه البخاري في قصة وحشي، يشير إلى هذه الرواية. وتعقبه ابن الصلاح ثم النووي. قال النووي: وذكر ابن الصلاح أن الذي ذكره ابن دحية ليس بصحيح، فإنه ليس في هذا الحديث إلا أن الجارية صاحت لما أصيب مسيلمة: وا أمير المؤمنين، ولا يلزم من ذلك تسميته بذلك ا هـ. واعترض مغلطاي أيضا بأن أول من قيل له أمير المؤمنين عبد الله بن جحش، وهو متعقب أيضا بأنه لم يلقب به، وإنما خوطب بذلك لأنه كان أول أمير في الإسلام على سرية. وفي حديث وحشي من الفوائد غير ما تقدم ما كان عليه من الذكاء المفرط، ومناقب كثيرة لحمزة، وفيه أن المرء يكره أن يرى من أوصل إلى قريبه أو صديقه أذى، ولا يلزم من ذلك وقوع الهجرة المنهية بينهما. وفيه أن الإسلام يهدم ما قبله، والحذر في الحرب، وأن لا يحتقر المرء منها أحدا، فإن حمزة لا بد أن يكون رأى وحشيا في ذلك اليوم لكنه لم يحترز منه احتقارا منه إلى أن أتي من قبله. وذكر ابن إسحاق قال: "حدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادي قد مثل به، فقال: لولا أن تحزن صفية - يعني بنت عبد المطلب - وتكون سنة بعدي لتركته حتى يحشر من بطون السباع وحواصل الطير " زاد ابن هشام قال: "وقال لن أصاب بمثلك أبدا. ونزل جبريل فقال: إن حمزة مكتوب في السماء أسد الله وأسد رسوله" وروى البزار والطبراني بإسناد فيه ضعف عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة قد مثل به قال: رحمة الله عليك، لقد كنت وصولا للرحم، فعولا للخير، ولولا حزن من بعدك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أجواف شتى . ثم حلف وهو بمكانه لأمثلن بسبعين منهم ، فنزل القرآن {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية" وعند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند

(7/371)


والطبراني من حديث أبي بن كعب قال: "مثل المشركون بقتلى المسلمين، فقال الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما من الدهر لنزيدن عليهم، فلما كان يوم فتح مكة نادى رجل: لا قريش بعد اليوم، فأنزل الله {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفوا عن القوم ". وعند ابن مردويه من طريق مقسم عن ابن عباس نحو حديث أبي هريرة باختصار. وقال في آخره: "فقال: بل نصبر يا رب" وهذه طرق يقوي بعضها بعضا.

(7/372)


24 - باب مَا أَصَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجِرَاحِ يَوْمَ أُحُدٍ
4073- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِنَبِيِّهِ يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
4074- حَدَّثَنِي مَخْلَدُ بْنُ مَالِكٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 4074- طرفه في: 4076]
4075- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ "أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لاَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ يَسْكُبُ الْمَاءَ وَبِمَا دُووِيَ قَالَ كَانَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَم بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغْسِلُهُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ الْمَاءَ بِالْمِجَنِّ فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ لاَ يَزِيدُ الدَّمَ إِلاَّ كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَئِذٍ وَجُرِحَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ".
4076- حدثني عمرو بن علي حدثنا أبو عاصم حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال"اشتد غضب الله على من قتله نبي, واشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم"
قوله: "باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد" وقد تقدم شيء من ذلك في "باب قوله ليس لك من الأمر شيء" ومجموع ما ذكر في الأخبار أنه شج وجهه وكسرت رباعيته وجرحت وجنته وشفته السفلى من باطنها ووهى منسكبة من ضربة ابن قمئة وجحشت ركبته. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: "ضرب وجه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بالسيف سبعين ضربة وقاه الله شرها كلها" وهذا مرسل قوي، ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها أو المبالغة في الكثرة. قوله: "رباعيته" بفتح الراء وتخفيف الموحدة. قوله: "اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله" زاد سعيد بن منصور من مرسل عكرمة" يقتله رسول الله بيده" ولابن عائذ من

(7/372)


طريق الأوزاعي "بلغنا أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أخذ شيئا فجعل ينشف به دمه وقال: لو وقع منه شيء على الأرض لنزل عليكم العذاب من السماء . ثم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ". حديث ابن عباس بمعنى الذي قبله، أورده من وجهين عن ابن جريج. ووقع هنا قبل حديث سهل بن سعد وبعده، ولعله قدم وأخر. قوله: "دموه1" بتشديد الميم أي جرحوه حتى خرج منه الدم. "تنبيه": حديث أبي هريرة وحديث ابن عباس هذا من مراسيل الصحابة، فإنهما لم يشهدا الوقعة، فكأنما حملاها عمن شهدها أو سمعاها من النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك. قوله: "يعقوب" هو ابن عبد الرحمن الإسكندراني. قوله: "فلما رأت فاطمة" هي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوضح سعيد بن عبد الرحمن عن أبي حازم فيما أخرجه الطبراني من طريقه سبب مجيء فاطمة إلى أحد ولفظه: "لما كان يوم أحد وانصرف المشركون خرج النساء إلى الصحابة يعينونهم، فكانت فاطمة فيمن خرج، فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير فأحرقته بالنار وكمدته به حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم". وله من طريق زهير بن محمد عن أبي حازم" فأحرقت حصيرا حتى صارت رمادا، فأخذت من ذلك الرماد فوضعته فيه حتى رقأ الدم" وقال في آخر الحديث: "ثم قال يومئذ: اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله. ثم مكث ساعة ثم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" وقال ابن عائذ أخبرنا الوليد بن مسلم حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أن الذي رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأحد فجرحه في وجهه قال: خذها مني وأنا ابن قمئة، فقال: أقمأك الله. قال فانصرف إلى أهله فخرج إلى غنمه فوافاها على ذروة جبل، فدخل فيها فشد عليه تيسها فنطحه نطحة أرداه من شاهق الجبل فتقطع" وفي الحديث جواز التداوي، وأن الأنبياء قد يصابون ببعض العوارض الدنيوية من المراحات والآلام والأسقام ليعظم لهم بذلك الأجر وتزداد درجاتهم رفعة، وليتأسى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره، والعاقبة للمتقين.
ـــــــ
1 الذي في المتن "دموا وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم".

(7/373)


باب قول الله تعالى{الذين إستجابوا لله والرسول}
...
25 - باب {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [172 آل عمران]
4077- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} قَالَتْ لِعُرْوَةَ يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا قَالَ مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا قَالَ كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ"
قوله: "باب {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} أي سبب نزولها، وأنها تتعلق بأحد، قال ابن إسحاق: كان أحد يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد يوم الأحد سادس عشر شوال أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأن لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس، فاستأذنه جابر بن عبد الله في الخروج منه فأذن له، وإنما

(7/373)


خرج مرهبا للعدو وليظنوا أن الذي أصابهم لم يوهنهم عن طلب عدوهم، فلما بلغ حمراء الأسد لقيه سعيد بن أبي معبد الخزاعي فيما حدثني عبد الله بن أبي بكر فعزاه بمصاب أصحابه، فأعلمه أنه لقي أبا سفيان ومن معه وهم بالروحاء وقد تلوموا في أنفسهما وقالوا: أصبنا جل أصحاب محمد وأشرافهم وانصرفنا قبل أن نستأصلهم، وهموا بالعود إلى المدينة، فأخبرهم معبد أن محمدا قد خرج في طلبكم في جمع لم أر مثله ممن تخلف عنه بالمدينة، قال: فثناهم ذلك عن رأيهم فرجعوا إلى مكة. وعند عبد بن حميد من مرسل عكرمة نحو هذا. قوله: "حدثني محمد" هو ابن سلام. وقال أبو نعيم في مستخرجه: أراه ابن سلام. قوله: "عن عائشة الذين استجابوا" في الكلام حذف تقديره: عن عائشة أنها قرأت هذه الآية {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا} " أو أنها سئلت عن هذه الآية أو نحو ذلك. قوله: "كان أبوك منهم الزبير" أي الزبير بن العوام. قوله: "فانتدب منهم" أي من المسلمين. قوله: "سبعون رجلا" وقع في نسخة الصغاني "كان فيهم أبو بكر والزبير" ا هـ. وقد سمي منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمار بن ياسر وطلحة وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة وحذيفة وابن مسعود، أخرجه الطبري من حديث ابن عباس. وعند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن ذكر الخمسة الأولين، وعند عبد الرزاق من مرسل عروة ذكر ابن مسعود. وقد ذكرت عائشة في حديث الباب أبا بكر والزبير.

(7/374)


26 - باب مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ
مِنْهُمْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالْيَمَانُ وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ
4078- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ "مَا نَعْلَمُ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَكْثَرَ شَهِيدًا أَعَزَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ قَتَادَةُ وَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ سَبْعُونَ قَالَ وَكَانَ بِئْرُ مَعُونَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَوْمُ الْيَمَامَةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ"
4079- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا"
4080- وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ "لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَبْكِي وَأَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَجَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَوْنِي وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَبْكِيهِ مَا زَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ"
4081- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ

(7/374)


عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُرَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ بِهِ اللَّهُ مِنْ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ فَإِذَا هُمْ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ"
4082- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ خَبَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
"هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى أَوْ ذَهَبَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ نَمِرَةً كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلاَهُ خَرَجَ رَأْسُهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَطُّ وا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإِذْخِرَ أَوْ قَالَ أَلْقُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الإِذْخِرِ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا"
قوله: "باب من قتل من المسلمين يوم أحد، منهم حمزة بن عبد المطلب واليمان والنضر بن أنس ومصعب بن عمير" أما حمزة فتقدم ذكره في باب مفرد، وأما اليمان وهو والد حذيفة فتقدم في آخر باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ} وأما النضر بن أنس فكذا وقع لأبي ذر عن شيوخه، وكذا وقع عند النسفي، وهو خطأ والصواب ما وقع عند الباقين "أنس بن النضر" وقد تقدم ذكره في أوائل الغزوة على الصواب، فأما النضر بن أنس فهو ولده، وكان إذ ذاك صغيرا، وعاش بعد ذلك زمانا، وقد تقدم في هذه الأبواب ممن استشهد بها عبد الله بن عمرو والد جابر، ومن المشهورين عبد الله بن جبير أمير الرماة، وسعد بن الزبير ومالك بن سنان والد أبي سعيد وأوس بن ثابت أخو حسان وحنظلة بن أبي عامر المعروف بغسيل الملائكة وخارجة بن زيد بن أبي زهير صهر أبي بكر الصديق وعمرو بن الجموح، ولكل من هؤلاء قصة مشهورة عند أهل المغازي. قوله: "ما نعلم حيا من أحياء العرب أكثر شهيدا أغر" كذا للكشميهني بغين معجمة وراء، ولغيره بالمهملة والزاي. قوله: "قال قتادة" هو موصول بالإسناد المذكور، وأراد بذلك الاستدلال على صحة قول الأول. قوله: "قتل منهم يوم أحد سبعون" هذا هو المقصود بالذكر من هذا الحديث هنا، وظاهره أن الجميع من الأنصار، وهو كذلك إلا القليل. وقد سرد ابن إسحاق أسماء من استشهد من المسلمين بأحد فبلغوا خمسة وستين، منهم أربعة من المهاجرين: حمزة وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان ومصعب بن عمير، وأغفل ذكر سعد مولى حاطب، وقد ذكره موسى بن عقبة. وروى الحاكم في "الإكليل" وابن منده من حديث أبي بن كعب قال: "قتل من الأنصار يوم أحد أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة" وصححه ابن حبان من هذا الوجه، ولعل السادس ثقيف بن عمرو الأسلمي حليف بني عبد شمس فقد عده الواقدي منهم، وعد ابن سعد ممن استشهد بأحد من غير الأنصار الحارث بن عقبة بن قابوس المزني وعمه وهب بن قابوس وعبد الله وعبد الرحمن ابني الهبيب بموحدتين مصغر من بني سند بن ليث ومالكا والنعمان ابني خلف بن عوف الأسلميين قال: إنهما كانا طليعة للنبي صلى الله عليه وسلم فقتلا. قلت: ولعل هؤلاء كانوا من حلفاء الأنصار فعدوا فيهم، فإن كانوا من غير المعدودين أولا فحينئذ تكمل العدة سبعين من الأنصار،

(7/375)


ويكون جملة من قتل من المسلمين أكثر من سبعين، فمن قال قتل منهم سبعون ألغى الكسر، والله أعلم. وقد تقدم في أول هذه الغزوة النقل عن ابن إسحاق وغيره أن الاختلاف في عدد من قتل من المسلمين يومئذ. قوله: "ويوم بئر معونة سبعون" سيأتي شرح ذلك قريبا، ويوضح أن الجميع لم يكونوا من الأنصار، بل كان بعضهم من المهاجرين مثل عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ونافع بن ورقاء الخزاعي وغيرهما. قوله: "ويوم اليمامة سبعون" قد سرد أسماءهم الذين صنفوا في الردة كسيف ووثيمة. قوله: "وكان بئر معونة إلخ" قائل ذلك قتادة، قاله شرحا لحديث أنس، وقد بينه أبو نعيم في "المستخرج". قوله: "ويوم اليمامة على عهد أبي بكر ويوم مسيلمة الكذاب" كذا بالواو وهي زائدة لأن يوم اليمامة هو يوم مسيلمة. ووقع عند أحمد من طريق حماد عن ثابت عن أنس نحو حديث قتادة في عدة من قتل من الأنصار وزاد: ويوم مؤتة سبعون، وصححه أبو عوانة وأخرجه الحاكم في "الإكليل" ولفظه: "عن أنس أنه كان يقول: يا رب سبعين من الأنصار يوم أحد، وسبعين يوم بئر معونة، وسبعين يوم مؤتة، وسبعين يوم مسيلمة" ثم أخرج من طريق إبراهيم بن المنذر أن هذه الزيادة خطأ. ثم أسند من وجهين عن سعيد بن المسيب فذكر بدل يوم مؤتة يوم جسر أبي عبيدة، قال إبراهيم بن المنذر: وهذا هو المعروف. قلت: وهي وقعة بالعراق كانت في خلافة عمر. قوله: "قدمه في اللحد" في حديث عبد الله بن ثعلبة عند ابن إسحاق" فكان يقول: انظروا أكثر هؤلاء جمعا للقرآن فاجعلوه أمام أصحابه، وذكر ابن إسحاق ممن دفن جميعا عبد الله بن جحش وخاله حمزة بن عبد المطلب، ومن وجه آخر أنه أمر بدفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو والد جابر. قوله فيه "ولم يصل عليهم" تقدم الكلام عليه في الجنائز، وقد أجاب بعض الحنفية عنه بأنه ناف وغيره مثبت. وأجيب بأن الإثبات مقدم على النفي غير المحصور، وأما نفي الشيء المحصور إذا كان راويه حافظا فإنه يترجح على الإثبات إذا كان راويه ضعيفا كالحديث الذي فيه إثبات الصلاة على الشهيد، وعلى تقدير التسليم فالأحاديث التي فيها ذلك إنما هي في قصة حمزة فيحتمل أن يكون ذلك مما خص به حمزة من الفضل. وأجيب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال. ويجاب بأنه يوقف الاستدلال. قالوا: ويمكن الجمع بأنه لم يصل عليهم ذلك اليوم كما قال جابر ثم صلى عليهم ثاني يوم كما قال غيره. قوله: "وقال أبو الوليد عن شعبة" وصله الإسماعيلي: "حدثنا أبو خليفة حدثنا أبو الوليد" بسنده. قوله: "لما قتل أبي" زاد في الجنائز "يوم أحد". قوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه" في رواية الإسماعيلي: "لا ينهاني". قوله: "لا تبكه" كذا هنا، وظاهره أنه نهى لجابر، وليس كذلك، وإنما هو نهي لفاطمة بنت عمرو عمة جابر، وقد أخرجه مسلم من طريق غندر عن شعبة بلفظ: "قتل أبي - فذكر الحديث إلى أن قال - وجعلت فاطمة بنت عمرو عمتي تبكيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تبكيه" وكذا تقدم عند المصنف في الجنائز نحو هذا، ومن طريق ابن عيينة عن ابن المنكدر نحوه، والله أعلم. قوله: "أرى عن النبي صلى الله عليه وسلم" كذا في الأصول "أرى" وهو بضم الهمزة بمعنى أطن، والقائل ذلك هو البخاري كأنه شك هل سمع من شيخه صيغة الرفع أم لا، وقد ذكر هذه العبارة في هذا الحديث في علامات النبوة وفي التعبير وغيرهما، وأخرجه مسلم وأبو يعلى عن أبي كريب شيخ البخاري فلم يترددا فيه. قوله: "رأيت" في رواية الكشميهني: "أريت". قوله: "أني هززت سيفا" في رواية الكشميهني: "سيفي" وقد تقدم في أول الغزوة إنه ذو الفقار. قوله: "فانقطع صدره" عند ابن إسحاق "ورأيت في ذباب سيفي ثلما" وعند أبي الأسود في المغازي

(7/376)


عن عروة "رأيت سيفي ذا الفقار قد انقصم من عند ظبته" وكذا عند ابن سعد، وأخرجه البيهقي في "الدلائل" من حديث أنس، وسبق موصولا. وفي رواية عروة "كأن الذي رأى بسيفه ما أصاب وجهه المكرم" وعند ابن هشام "حدثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: وأما الثلم في السيف فهو رجل من أهل بيتي يقتل ". قوله: "ورأيت فيها بقرا" بالموحدة والقاف. وفي رواية أبي الأسود عن عروة "بقرا تذبح" وكذا في حديث أبي عباس عند أبي يعلى. قوله: "والله خير" هذا من جملة الرؤيا كما جزم به عياض وغيره كذا بالرفع فيهما على أنه مبتدأ وخبر، وفيه حذف تقديره وصنع الله خير، قال السهيلي: معناه رأيت يقرأ تنحر، والله عنده خير. قلت: في رواية ابن إسحاق وإني رأيت والله خيرا، رأيت بقرا. وهي أوضح، والواو للقسم والله بالجر وخيرا مفعول رأيت. وقال السهيلي: البقر في التعبير بمعنى رجال متسلحين يتناطحون. قلت: وفيه نظر، فقد رأى الملك بمصر البقر وأولها يوسف عليه السلام بالسنين. وقد وقع في حديث ابن عباس ومرسل عروة "تأولت البقر التي رأيت بقرا يكون فينا، قال فكان ذلك من أصيب من المسلمين" ا هـ، وقوله بقر هو بسكون القاف وهو شق البطن، وهذا أحد وجوه التعبير أن يشتق من الاسم معني مناسب، ويمكن أن يكون ذلك لوجه آخر من وجوه التأويل وهو التصحيف فإن لفظ بقر مثل لفظ نفر بالنون والفاء خطا. وعند أحمد والنسائي وابن سعد من حديث جابر بسند صحيح في هذا الحديث: "ورأيت بقرا منحرة - وقال فيه - فأولت أن الدرع المدينة والبقر نفر" هكذا فيه بنون وفاء، وهو يؤيد الاحتمال المذكور فالله أعلم. وسيأتي بقية لهذا في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى. حديث خباب تقدم بهذا السند والمتن مع الكلام عليه.

(7/377)


باب قول الرسول صلى الله عليه وسلم "أحد جبل يحبنا ونحبه"
...
27- باب أُحُدٌ جبل يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ
قَالَهُ عَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
4084- حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ "
4084- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ هَ ذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا "
4085- حدثني عمرو بن خالد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت,ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم, وإني لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الرض – أو مفاتيح الأرض – وإني والله ماأخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها "
قوله: "باب أحد جبل يحبنا ونحبه" وقال السهيلي: سمي أحدا لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك، أو

(7/377)


لما وقع من أهله من نصر التوحيد. قوله: "قال عباس بن سهل عن أبي حميد عن النبي صلى الله عليه وسلم" هو طرف من حديث وصله البزار في الزكاة مطولا، وقد تقدم شرح ما فيه هناك، إلا ما يتعلق بأحد. ونسبه مغلطاي إلى تخريجه موصولا في كتاب الحج، وإنما خرج هناك أصله دون خصوص هذه الزيادة. قوله: "أخبرني أبي" هو علي بن نصر الجهضمي. قوله: "هذا جبل يحبنا ونحبه" ظهر من الرواية التي بعدها أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما رآه في حال رجوعه من الحج ووقع في رواية أبي حميد أنه قال لهم ذلك لما رجع من تبوك وأشرف على المدينة قال: "هذه طابة، فلما رأى أحدا قال: هذا جبل يحبنا ويحبه" فكأنه صلى الله عليه وسلم تكرر منه ذلك القول. وللعلماء في معنى ذلك أقوال: أحدها: أنه على حذف مضاف والتقدير أهل أحد والمراد بهما الأنصار لأنهم جيرانه. ثانيها: أنه قال ذلك للمسرة بلسان الحال إذا قدم من سفر لقربه من أهله ولقياهم، وذلك فعل من يحب بمن يحب. ثالثها: أن الحب من الجانبين على حقيقته وظاهره لكون أحد من جبال الجنة كما ثبت حديث أبي عبس بن جبر مرفوعا: "جبل أحد يحبنا ونحبه وهو من جبال الجنة" أخرجه أحمد. ولا مانع في جانب البلد من إمكان المحبة منه كما جاز التسبيح منها، وقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب "اسكن أحد" الحديث. وقال السهيلي: كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن ولا اسم أحسن من اسم مشتق من الأحدية. قال ومع كونه مشتقا من الأحدية فحركات حروفه الرفع، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه، فتعلق الحب من النبي صلى الله عليه وسلم لفظا ومعنى فخص من بين الجبال بذلك والله أعلم. وقد تقدم شيء من الكلام على قوله: "يحبنا ونحبه" في "باب من غزا بصبي للخدمة "من باب الجهاد. ثم ذكر المصنف حديث عقبة بن عامر في صلاته صلى الله عليه وسلم على أهل أحد، وقد تقدم مع الكلام عليه في أول الباب. قوله: "هذا جبل يحبنا ونحبه" ظهر من الرواية التي بعدها أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما رآه في حال رجوعه من الحج ووقع في رواية أبي حميد أنه قال لهم ذلك لما رجع من تبوك وأشرف على المدينة قال: "هذه طابة، فلما رأى أحدا قال: هذا جبل يحبنا ويحبه" فكأنه صلى الله عليه وسلم تكرر منه ذلك القول. وللعلماء في معنى ذلك أقوال: أحدها: أنه على حذف مضاف والتقدير أهل أحد والمراد بهما الأنصار لأنهم جيرانه. ثانيها: أنه قال ذلك للمسرة بلسان الحال إذا قدم من سفر لقربه من أهله ولقياهم، وذلك فعل من يحب بمن يحب. ثالثها: أن الحب من الجانبين على حقيقته وظاهره لكون أحد من جبال الجنة كما ثبت حديث أبي عبس بن جبر مرفوعا: "جبل أحد يحبنا ونحبه وهو من جبال الجنة" أخرجه أحمد. ولا مانع في جانب البلد من إمكان المحبة منه كما جاز التسبيح منها، وقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب "اسكن أحد" الحديث. وقال السهيلي: كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن ولا اسم أحسن من اسم مشتق من الأحدية. قال ومع كونه مشتقا من الأحدية فحركات حروفه الرفع، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه، فتعلق الحب من النبي صلى الله عليه وسلم لفظا ومعنى فخص من بين الجبال بذلك والله أعلم. وقد تقدم شيء من الكلام على قوله: "يحبنا ونحبه" في "باب من غزا بصبي للخدمة" من باب الجهاد.

(7/378)


باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة وحديث عضل والفارة وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه
...
28 - باب غَزْوَةِ الرَّجِيعِ وَرِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبِئْرِ مَعُونَةَ
وَحَدِيثِ عَضَلٍ وَالْقَارَةِ وَعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ وَخُبَيْبٍ وَأَصْحَابِهِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ أَنَّهَا بَعْدَ أُحُدٍ"
4086- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً عَيْنًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ وَهُوَ جَدُّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لَحْيَانَ فَتَبِعُوهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَامٍ فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى أَتَوْا مَنْزِلًا نَزَلُوهُ فَوَجَدُوا فِيهِ نَوَى تَمْرٍ تَزَوَّدُوهُ مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ فَتَبِعُوا آثَارَهُمْ حَتَّى لَحِقُوهُمْ فَلَمَّا انْتَهَى عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ وَجَاءَ الْقَوْمُ فَأَحَاطُوا بِهِمْ فَقَالُوا لَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ إِنْ نَزَلْتُمْ إِلَيْنَا أَنْ لاَ نَقْتُلَ مِنْكُمْ رَجُلًا فَقَالَ عَاصِمٌ أَمَّا أَنَا فَلاَ أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ بِالنَّبْلِ وَبَقِيَ خُبَيْبٌ وَزَيْدٌ وَرَجُلٌ آخَرُ فَأَعْطَوْهُمْ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ فَلَمَّا أَعْطَوْهُمْ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ نَزَلُوا إِلَيْهِمْ فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ حَلُّوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَرَبَطُوهُمْ بِهَا فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ الَّذِي مَعَهُمَا هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَجَرَّرُوهُ

(7/378)


وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَتَلُوهُ وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَزَيْدٍ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ فَاشْتَرَى خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حَتَّى إِذَا أَجْمَعُوا قَتْلَهُ اسْتَعَارَ مُوسًى مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ لِيَسْتَحِدَّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ قَالَتْ فَغَفَلْتُ عَنْ صَبِيٍّ لِي فَدَرَجَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَاهُ فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ فَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَ ذَاكَ مِنِّي وَفِي يَدِهِ الْمُوسَى فَقَالَ أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَاكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَكَانَتْ تَقُولُ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ ثَمَرَةٌ وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ وَمَا كَانَ إِلاَّ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ فَخَرَجُوا بِهِ مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فَقَالَ دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَوْلاَ أَنْ تَرَوْا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ مِنْ الْمَوْتِ لَزِدْتُ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ هُوَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا ثُمَّ قَالَ:
مَا أن أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ عُقبَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى عَاصِمٍ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَعْرِفُونَهُ وَكَانَ عَاصِمٌ قَتَلَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ"
4087- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ "الَّذِي قَتَلَ خُبَيْبًا هُوَ أَبُو سِرْوَعَةَ"
قوله: "باب غزوة الرجيع" سقط لفظ: "باب" لأبي ذر. والرجيع بفتح الراء وكسر الجيم هو في الأصل اسم للروث، سمي بذلك لاستحالته. والمراد هنا اسم موضع من بلاد هذيل كانت الوقعة بقرب منه فسميت به. قوله: "ورعل وذكوان" أي غزوة رعل وذكوان، فأما رعل فبكسر الراء وسكون المهملة بطن من بني سليم ينسبون إلى رعل بن عوف بن مالك بن امرئ القيس بن لهيعة بن سليم وأما ذكوان فبطن. من بني سليم أيضا ينسبون إلى ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم فنسبت الغزوة إليهما. قوله: "وبئر معونة" بفتح الميم وضم المهملة وسكون الواو بعدها نون: موضع في بلاد هذيل بين مكة وعسفان، وهذه الوقعة تعرف بسرية القراء، وكانت مع بني رعل وذكوان المذكورين، وسيذكر ذلك في حديث أنس المذكور في الباب. قوله: "وحديث عضل والقارة" أما عضل فبفتح المهملة ثم المعجمة بعدها لام: بطن من بني الهول بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ينسبون إلى عضل بن الديش بن محكم، وأما القارة فبالقاف وتخفيف الراء بطن من الهول أيضا ينسبون إلى الديش المذكور. وقال ابن دريد: القارة أكمة سوداء فيها حجارة كأنهم نزلوا عندها فسموا بها، ويضرب بهم المثل في إصابة الرمي وقال الشاعر: قد انصف القارة من راماها وقصة العضل والقارة كانت في غزوة الرجيع لا في سرية بئر معونة وقد فصل بينهما ابن إسحاق فذكر غزوة

(7/379)


الرجيع في أواخر سنة ثلاث، وبئر معونة في أوائل سنة أربع، ولم يقع ذكر عضل والقارة عند المصنف صريحا، وإنما وقع ذلك عند ابن إسحاق فإنه بعد أن استوفى قصة أحد قال: "ذكر يوم الرجيع. حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا فبعث منهم ستة من أصحابه" فذكر القصة، وعرف بها بيان قول المصنف "قال ابن إسحاق حدثنا عاصم بن عمر أنها بعد أحد" وأن الضمير يعود على غزوة الرجيع لا على غزوة بئر معونة، وسأذكر ما عنده فيهما من فائدة زائدة في شرح حديث أبي هريرة في الباب. قوله: "وعاصم بن ثابت" أي ابن أبي الأقلح بالقاف والمهملة الأنصاري، وخبيب بالمعجمة والموحدة مصغر. قوله: "وأصحابه" يعني العشرة كما ستذكره في حديث أبي هريرة. "تنبيه" سياق هذه الترجمة يوهم أن غزوة الرجيع وبئر معونة شيء واحد وليس كذلك كما أوضحته، فغزوة الرجيع كانت سرية عاصم وخبيب في عشرة أنفس وهي مع عضل والقارة، وبئر معونة كانت سرية القراء السبعين وهي مع رعل وذكوان، وكأن المصنف أدرجها معها لقربها منها، ويدل على قربها منها ما في حديث أنس من تشريك النبي صلى الله عليه وسلم بين بني لحيان وبني عصية وغيرهم في الدعاء عليهم. وذكر الواقدي أن خبر بئر معونة وخبر أصحاب الرجيع جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة، ورجح السهيلي أن رواية البخاري أن عاصم كان أميرهم أرجح، وجمع غيره بأن أمير السرية مرثد، وأن أمير العشرة عاصم بناء على التعدد. ولم يرد المصنف أنهما قصة واحدة والله أعلم. قوله: "عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي" هكذا يقول معمر ووافقه شعيب وآخرون، وقد تقدم مستوفى في الجهاد بأتم من هذا، وإبراهيم بن سعد يقول عن الزهري عن عمر بضم العين، كذا أخرجه ابن سعد عن معن بن عيسى عنه، وكذا قال الطيالسي عن إبراهيم، وبذلك جزم الذهلي في "الزهريات"، لكن وقع في غزو بدر عن موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد "عمرو" بفتح العين، وأخرجه أبو داود عن موسى المذكور فقال: "عمر" كذا قال ابن أخي الزهري ويونس من رواية الليث عنه عن الزهري عن عمر، قال البخاري في تاريخه عمرو أصح، وقد ذكرت ما فيه في غزوة بدر. قوله: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية" في رواية الكشميهني: "بسرية" بزيادة موحدة في أوله. وفي رواية إبراهيم بن سعد التي مضت في غزوة بدر "بعث عشرة عينا يتجسسون له" وفي رواية أبي الأسود عن عروة، "بعثهم عيونا إلى مكة ليأتوه بخبر قريش" وذكر الواقدي أن سبب خروج بني لحيان عليهم قتل سفيان بن نبيح الهذلي، قلت: وكان قتل سفيان المذكور على يد عبد الله بن أنيس، وقصته عند أبي داود بإسناد حسن، وذكر ابن إسحاق أنهم كانوا ستة وسماهم وهم: عاصم بن ثابت المذكور، ومرثد بن أبي مرثد، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة وهو بفتح الدال وكسر المثلثة بعدها نون، وعبد الله بن طارق، وخالد بن البكير. وجزم ابن سعد بأنهم كانوا عشرة وساق أسماء الستة المذكورين وزاد: معتب بن عبيد قال: وهو أخو عبد الله بن طارق لأمه، وكذا سمي موسى بن عقبة السبعة المذكورين لكن قال: معتب بن عوف. قلت: فلعل الثلاثة الآخرين كانوا أتباعا لهم فلم يحصل الاعتناء بتسميتهم. قوله: "وأمر عليهم عاصم بن ثابت" كذا في الصحيح وفي السيرة أن الأمير عليهم كان مرثد بن أبي مرثد، وما في الصحيح أصح. قوله: "حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة" تقدم في غزوة بدر حتى إذا كانوا بالهدأة وهي للأكثر بسكون الدال بعدها همزة مفتوحة، وللكشميهني بفتح الدال وتسهيل الهمزة، وعند ابن إسحاق الهدة بتشديد الدال بغير ألف قال: وهي على سبعة أميال من عسفان. قوله:

(7/380)


"وهو جد عاصم بن عمر" تقدم أنه خال عاصم لا جده، وأن الرواية المتقدمة يمكن ردها إلى الصواب بأن يقرأ جد بالكسر، وأما هذه فلا حيلة فيها. وقد أخذ بظاهرها بعضهم فقال: تزوج عمر جميلة بنت عاصم بن ثابت فولدت له عاصما. قوله: "يقال لهم بنو لحيان" بكسر اللام وقيل بفتحها وسكون المهملة ولحيان هو ابن هذيل نفسه وهذيل هو ابن مدركة بن إلياس بن مضر. وزعم الهمداني النسابة أن أصل بني لحيان من بقايا جرهم دخلوا في هذيل فنسبوا إليهم. قوله: "فتبعوهم بقريب من مائة رام" في رواية شعيب في الجهاد" فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل "والجمع بينهما واضح بأن تكون المائة الأخرى غير رماة، ولم أقف على اسم أحد منهم. قوله: "فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر" في رواية أبي معشر في مغازيه "فنزلوا بالرجيع سحرا فأكلوا تمر عجوة فسقطت نواة بالأرض، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنما فرأت النواة فأنكرت صغرها وقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها أتيتم، فجاءوا في طلبهم فوجدوهم قد كمنوا في الجبل". قوله: "حتى لحقوهم" في رواية ابن سعد فلم يرع القوم إلا بالرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم. قوله: "لجئوا إلى فدفد" بفاءين مفتوحتين ومهملتين الأولى ساكنة وهي الرابية المشرفة، ووقع عند أبي داود إلى قردد بقاف وراء ودالين، قال ابن الأثير: هو الموضع المرتفع، ويقال: الأرض المستوية. والأول أصح. قوله: "فقالوا لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلا" في رواية ابن سعد فقالوا لهم "إما والله ما نريد قتالكم إنما تريد أن نصيب منكم شيئا من أهل مكة". قوله: "فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر" في مرسل بريدة بن سفيان عن سعيد بن منصور "فقال عاصم: اليوم لا أقبل عهدا من مشرك". قوله: "فقال اللهم أخبر عنا رسولك" في رواية الطيالسي عن إبراهيم بن سند "فاستجاب الله لعاصم، فأخبر رسوله خبره، فأخبر أصحابه بذلك يوم أصيبوا" وفي رواية بريدة "فقال عاصم: اللهم إني أحمي لك دينك، فاحمي لي لحمي" وسيأتي ما يتعلق بذلك في آخر الكلام على الحديث. قوله: "في سبعة" أي في جملة سبعة. قوله: "وبقي خبيب وزيد ورجل آخر" في رواية ابن إسحاق "فأما خبيب بن عدي بن الدثنة وعبد الله بن طارق فاستأسروا" وعرف منه تسمية الرجل الثالث وأنه عبد الله بن طارق. وفي رواية أبي الأسود عن عروة أنهم صعدوا في الجبل فلم يقدروا عليهم حتى أعطوهم العهد والميثاق. قوله: "فربطوهم بها فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر إلخ" وهو يقتضي أن ذلك وقع منه أول ما أسروهم، لكن في رواية ابن إسحاق "فخرجوا بالنفر الثلاثة حتى إذا كانوا بمر الظهران انتزع عبد الله بن الطارق يده وأخذ سيفه" فذكر قصة قتله، فيحتمل أنهم إنما ربطوهم بعد أن وصلوا إلى مر الظهران، وإلا فما في الصحيح أصح. قوله: "حتى باعوهما بمكة" في رواية ابن إسحاق وابن سعد" فأما زيد فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه" وعند ابن سعد أن الذي تولى قتله نسطاس مولى صفوان. قوله: "فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل" بين ابن إسحاق أن الذي تولى شراءه هو حجين بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل، وكان أخا الحارث بن عامر لأمه. وفي رواية بريدة بن سفيان أنهم اشتروا خبيبا بأمة سوداء. وقال ابن هشام باعوهما بأسيرين من هذيل كانا بمكة، ويمكن الجمع. قوله: "وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر" كذا وقع في حديث أبي هريرة، واعتمد البخاري على ذلك فذكر خبيب بن عدي فيمن شهد بدرا، وهو اعتماد متجه، لكن تعقبه الدمياطي بأن أهل المغازي لم يذكر أحد منهم أن خبيب بن عدي شهد بدرا ولا قتل الحارث بن عامر

(7/381)


وإنما ذكروا أن الذي قتل الحارث بن عامر ببدر خبيب بن أساف، وهو غير خبيب بن عدي، وهو خزرجي وخبيب بن عدي أوسي والله أعلم. قلت: يلزم من الذي قال ذلك رد هذا الحديث الصحيح، فلو لم يقتل خبيب بن عدي الحارث بن عامر ما كان لاعتناء الحارث بن عامر بأسر خبيب معنى ولا بقتله، مع التصريح في الحديث الصحيح أنهم قتلوه به، لكن يحتمل أن يكون قتلوه بخبيب بن عدي لكون خبيب بن أساف قتل الحارث على عادتهم في الجاهلية بقتل بعض القبيلة عن بعض، ويحتمل أن يكون خبيب بن عدي شرك في قتل الحارث، والعلم عند الله تعالى. قوله: "فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله" في رواية ابن سعد فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرم، ثم أخرجوهما إلى التنعيم فقتلوهما. وفي رواية بريدة بن سفيان فأساءوا إليه في إساره، فقال لهم: ما تصنع القوم الكرام هذا بأسيرهم، قال فأحسنوا إليه بعد ذلك، وجعلوه عند امرأة تحرسه. وروى ابن سعد من طريق موهب مولى آل نوفل قال قال لي خبيب وكانوا جعلوه عندي: يا موهب أطلب إليك ثلاثا، أن تسقيني العذب، وأن تجنبني ما ذبح على النصب، وأن تعلمني إذا أرادوا قتلي. قوله: "حتى إذا أجمعوا على قتله استعار موسى" هكذا وقعت هذه القصة مدرجة في رواية معمر، وكذا إبراهيم بن سعد كما تقدم في غزوة بدر، وقد وصلها شعيب في روايته كما تقدم في الجهاد" قال: فلبث خبيب عندهم أسيرا، فأخبرني عبيد الله بن عياض أن بنت الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى" ووقع في الأطراف لخلف أن اسمها زينب بنت الحارث، وهي أخت عقبة بن الحارث الذي قتل خبيبا، وقيل: امرأته. وعبيد الله بن عياض المذكور قال الدمياطي: أغفله من صنف في رجال البخاري قلت: لكن ترجم له المزي وذكر أنه تابعي روي عن عائشة وغيرها، وروى عنه الزهري وعبد الله بن عثمان بن خثيم وغيرهما، والقائل "فأخبرني" هو الزهري، ووهم من زعم أنه عمرو بن أبي سفيان، وعند ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح قال: "حدثت مارية مولاة حجين بن أبي إهاب وكانت قد أسلمت قالت: حبس خبيب في بيتي، ولقد اطلعت عليه يوما وإن في يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه" فإن كان محفوظا احتمل أن يكون كل من مارية وزينب رأت القطف في يده يأكله، وأن التي حبس في بيتها مارية والتي كانت تحرسه زينب جمعا بين الروايتين، ويحتمل أن يكون الحارث أبا لمارية من الرضاع، ووقع عند ابن بطال أن اسم المرأة جويرية، فيحتمل أن يكون لما رأى قول ابن إسحاق إنها مولاة حجين بن أبي إهاب أطلق عليها جويرية لكونها أمة، أو يكون وقع له رواية فيها أن اسمها جويرية. وقوله: "موسى" يجوز فيه الصرف وعدمه، وقوله: "ليستحد بها" في رواية بريدة بن سفيان "ليستطيب بها" والمراد أنه يحلق عانته. قوله: "قالت فغفلت عن صبي لي" ذكر الزبير بن بكار أن هذا الصبي هو أبو حسين بن الحارث من عدي بن نوفل بن عبد مناف، وهو جد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي المحدث، وهو من أقران الزهري. وفي رواية بريدة بن سفيان "وكان لها ابن صغير، فأقبل إليه الصبي فأخذه فأجلسه عنده، فخشيت المرأة أن يقتله فناشدته" وعند أبي الأسود عن عروة "فأخذ خبيب بيد الغلام فقال: هل أمكن الله منكم؟ فقالت ما كان هذا ظني بك، فرمى لها الموسى وقال: إنما كنت مازحا" وفي رواية بريدة بن سفيان "ما كنت لأغدر" وعند ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح وعاصم بن عمر جميعا أن مارية قالت: "قاله لي خبيب حين حضره القتل: ابعثي لي بحديدة أتطهر بها، قالت فأعطيته غلاما من الحي" قال ابن هشام. يقال إن الغلام ابنها.

(7/382)


ويجمع بين الروايتين بأنه طلب الموسى من كل من المرأتين، وكان الذي أوصله إليه ابن إحداهما، وأما الابن الذي خشيت عليه ففي رواية هذا الباب: "فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه" فهذا غير الذي أحضر إليه الحديدة. والله أعلم. قوله: "لقد رأيته يأكل من قطف عنب، وما بمكة يومئذ ثمرة" القطف بكسر القاف العنقود. وفي رواية ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح كما تقدم "وإن في يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل". قوله: "وما كان إلا رزق رزقه الله" في رواية ابن سعد "رزقه الله خبيبا" وفي رواية شعيب وثابت "تقول إنه لرزق من الله رزقه خبيبا" قال ابن بطال: هذا يمكن أن يكون الله جعله آية على الكفار وبرهانا لنبيه لتصحيح رسالته قال: فأما من يدعي وقوع ذلك له اليوم بين ظهراني المسلمين فلا وجه له، إذ المسلمون قد دخلوا في الدين وأيقنوا بالنبوة، فأي معنى لإظهار الآية عندهم؟ ولو لم يكن في تجويز ذلك إلا أن يقول جاهل إذا جاز ظهور هذه الآيات على يد غير نبي فكيف نصدقها من نبي والفرض أن غيره يأتي بها لكان في إنكار ذلك قطعا للذريعة، إلى أن قال. إلا أن وقوع ذلك مما لا يخرق عادة ولا يقلب عينا، مثل أن يكرم الله عبدا بإجابة دعوة في الحين، ونحو ذلك مما يظهر فيه فضل الفاضل وكرامة الولي، ومن ذلك حماية الله تعالى عاصما لئلا ينتهك عدوه حرمته انتهى. والحاصل أن ابن بطال توسط بين من يثبت الكرامة ومن ينفيها فجعل الذي يثبت ما قد تجري به العادة لآحاد الناس أحيانا، والممتنع ما يقلب الأعيان مثلا، والمشهور عن أهل السنة إثبات الكرامات مطلقا، لكن استثنى بعض المحققين منهم كأبي القاسم القشيري ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء فقال، ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولد من غير أب ونحو ذلك، وهذا أعدل المذاهب في ذلك، فإن إجابة الدعوة في الحال وتكثير الطعام والماء والمكاشفة بما يغيب عن العين والإخبار بما سيأتي ونحو ذلك قد كثر جدا حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة، فانحصر الخارق الآن فيما قاله القشيري، وتعين تقييد قول من أطلق أن كل معجزة وجدت لنبي يجوز أن تقع كرامة لولي، ووراء ذلك كله أن الذي استقر عند العامة أن خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك من أولياء الله تعالى، وهو غلط ممن يقوله، فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب، فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق، وأولى ما ذكروه أن يختبر حال من وقع له ذلك فإن كان متمسكا بالأوامر الشرعية والنواهي كان ذلك علامة ولايته ومن لا فلا وبالله التوفيق. قوله: "فلما خرجوا به من الحرم" بين ابن إسحاق أنهم أخرجوه إلى التنعيم. قوله: "دعوني أصل" كذا للكشميهني بغير ياء، ولغيره بثبوت الياء ولكل وجه، ولموسى بن عقبة أنه صلى ركعتين في موضع مسجد التنعيم. قوله: "لزدت" في رواية بريدة بن سفيان" لزدت سجدتين أخريين". قوله: "ثم قال: اللهم أحصهم عددا" زاد في رواية إبراهيم بن سعد "واقتلهم بددا" أي متفرقين "ولا تبق منهم أحدا" وفي رواية بريدة بن سفيان "فقال خبيب: اللهم إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام فبلغه" وفيه فلما رفع على الخشبة استقبل الدعاء قال: فلبد رجل بالأرض خوفا من دعائه" فقال: "اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا" قال فلم يحل الحول ومنهم أحد حي غير ذلك الرجل الذي لبد بالأرض. وحكى ابن إسحاق عن معاوية بن أبي سفيان قال: "كنت مع أبي فجعل يلقيني إلى الأرض حين سمع دعوة خبيب" وفي رواية أبي الأسود عن عروة "ممن حضر ذلك أبو إهاب بن عزيز والأخنس بن شريق وعبيدة بن حكيم السلمي وأمية بن

(7/383)


عتبة بن همام" وعنده أيضا: "فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأخبر أصحابه بذلك" وعند موسى بن عقبة "فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك اليوم وهو جالس: وعليك السلام يا خبيب، قتلته قريش". قوله: "ما إن أبالي" هكذا للأكثر وللكشميهني: "فلست أبالي" وهو أوزن، والأول جائز لكنه مخروم، ويكمل بزيادة الفاء، وما نافية وإن بعدها بكسر الهمزة نافية أيضا للتأكيد. وفي رواية شعيب للكشميهني: "وما إن أبالي" بزيادة واو، ولغيره: "ولست أبالي" وقوله: "وذلك في ذات الإله" الكلام على هذه اللفظة في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. قوله: "أوصال شلو ممزع" الأوصال جمع وصل وهو العضو، والشلو بكسر المعجمة الجسد، وقد يطلق على العضو ولكن المراد به هنا الجسد، والممزع بالزاي ثم المهملة المقطع، ومعنى الكلام أعضاء جسد يقطع. وعند أبي الأسود عن عروة زيادة في هذا الشعر:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وفيه:
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
وساقها ابن إسحاق ثلاثة عشر بيتا، قال ابن هشام: ومنهم من ينكرها لخبيب: قوله: "ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله" سيأتي البحث فيه في الحديث الذي بعده. وفي رواية أبي الأسود عن عروة" فلما وضعوا فيه السلاح وهو مصلوب نادوه وناشدوه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا والله العظيم، ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه". قوله: "وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر" لعل العظيم المذكور عقبة بن أبي معيط، فإن عاصما قتله صبرا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انصرفوا من بدر. ووقع عند ابن إسحاق، وكذا في رواية بريدة بن سفيان أن عاصما لما قتل أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد وهي أم مسافع وجلاس ابني طلحة العبدري، وكان عاصما قتلهما يوم أحد، وكانت نذرت لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن الخمر في قحفه، فمنعته الدبر، فإن كان محفوظا احتمل أن تكون قريش لم تشعر بما جرى لهذيل من منع الدبر لها من أخذ رأس عاصم، فأرسلت من يأخذه، أو عرفوا بذلك ورجوا أن تكون الدبر تركته فيتمكنوا من أخذه. قوله: "مثل الظلة من الدبر" الظلة بضم المعجمة السحابة، والدبر بفتح المهملة وسكون الموحدة الزنابير، وقيل ذكور النحل ولا واحد له من لفظه. وقوله: "فحمته" بفتح المهملة والميم أي منعته منهم. قوله: "فلم يقدروا منه على شيء" في رواية شعبة "فلم يقدروا أن يقطعوا من لحمه شيئا" وفي رواية أبي الأسود عن عروة "فبعث الله عليهم الدبر تطير في وجوههم وتلدغهم، فحالت بينهم وبين أن يقطعوا" وفي رواية ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو عن قتادة قال: "كان عاصم بن ثابت أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا، فكان عمر يقول لما بلغه خبره: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته" وفي الحديث أن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان ولا يمكن من نفسه ولو قتل، أنفة من أنه يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة له أن يستأمن، قال الحسن البصري: لا بأس بذلك. وقال سفيان الثوري: أكره ذلك، وفيه الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، والتلطف بمن أريد قتله، وإثبات كرامة الأولياء، والدعاء على المشركين بالتعميم، والصلاة عند القتل، وفيه إنشاء الشعر وإنشاده عند القتل ودلالة على

(7/384)


قوة يقين خبيب وشدته في دينه، وفيه أن الله يبتلي عبده المسلم بما شاء كما سبق في علمه ليثيبه، ولو شاء ربك ما فعلوه. وفيه استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيا وميتا وغير ذلك من الفوائد مما يظهر بالتأمل. وإنما استجاب الله له في حماية لحمه من المشركين ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه. وفيه ما كان عليه مشركو قريش من تعظيم الحرم والأشهر الحرم. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "الذي قتل خبيبا هو أبو سروعة" زاد سعيد بن منصور عن سفيان" واسمه عقبة بن الحارث "ووقع عند الإسماعيلي من رواية ابن أبي عمر عن سفيان مدرجا، وهذا خالف فيه جماعة من أهل السير والنسب فقالوا: أبو سروعة أخو عقبة بن الحارث، حتى قال أبو أحمد العسكري: من زعم أنهما واحد فقد وهم وذكر ابن إسحاق بإسناد صحيح عن عقبة بن الحارث قال: "ما أنا قتلت خبيبا لأني كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة العبدري أخذ الحربة فجعلها في يدي ثم أخذ بيدي وبالحربة ثم طعنه بها حتى قتله".
4088- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعِينَ رَجُلًا لِحَاجَةٍ يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ فَعَرَضَ لَهُمْ حَيَّانِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ عِنْدَ بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا بِئْرُ مَعُونَةَ فَقَالَ الْقَوْمُ وَاللَّهِ مَا إِيَّاكُمْ أَرَدْنَا إِنَّمَا نَحْنُ مُجْتَازُونَ فِي حَاجَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلُوهُمْ فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ شَهْرًا فِي صَلاَةِ الْغَدَاةِ وَذَلِكَ بَدْءُ الْقُنُوتِ وَمَا كُنَّا نَقْنُتُ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَسَأَلَ رَجُلٌ أَنَسًا عَنْ الْقُنُوتِ أَبَعْدَ الرُّكُوعِ أَوْ عِنْدَ فَرَاغٍ مِنْ الْقِرَاءَةِ قَالَ لاَ بَلْ عِنْدَ فَرَاغٍ مِنْ الْقِرَاءَةِ"
4089- حدثنا مسلم حدثنا هشام حدثنا قتادة عن أنس قال "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب"
4090- حَدَّثَنِي عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَدُوٍّ فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ مِنْ الأَنْصَارِ كُنَّا نُسَمِّيهِمْ الْقُرَّاءَ فِي زَمَانِهِمْ كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ حَتَّى كَانُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قَتَلُوهُمْ وَغَدَرُوا بِهِمْ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو فِي الصُّبْحِ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ قَالَ أَنَسٌ فَقَرَأْنَا فِيهِمْ قُرْآنًا ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ رُفِعَ بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لِحْيَانَ زَادَ خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّ أُولَئِكَ السَّبْعِينَ مِنْ الأَنْصَارِ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنًا كِتَابًا نَحْوَهُ"
4091- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسٌ

(7/385)


أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالَهُ أَخٌ لِأُمِّ سُلَيْمٍ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا وَكَانَ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ خَيَّرَ بَيْنَ ثَلاَثِ خِصَالٍ فَقَالَ يَكُونُ لَكَ أَهْلُ السَّهْلِ وَلِي أَهْلُ الْمَدَرِ أَوْ أَكُونُ خَلِيفَتَكَ أَوْ أَغْزُوكَ بِأَهْلِ غَطَفَانَ بِأَلْفٍ وَأَلْفٍ فَطُعِنَ عَامِرٌ فِي بَيْتِ أُمِّ فُلاَنٍ فَقَالَ غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَكْرِ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ آلِ فُلاَنٍ ائْتُونِي بِفَرَسِي فَمَاتَ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ فَانْطَلَقَ حَرَامٌ أَخُو أُمِّ سُلَيْمٍ وَهُوَ رَجُلٌ أَعْرَجُ وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي فُلاَنٍ قَالَ كُونَا قَرِيبًا حَتَّى آتِيَهُمْ فَإِنْ آمَنُونِي كُنْتُمْ وَإِنْ قَتَلُونِي أَتَيْتُمْ أَصْحَابَكُمْ فَقَالَ أَتُؤْمِنُونِي أُبَلِّغْ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ وَأَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ فَطَعَنَهُ قَالَ هَمَّامٌ أَحْسِبُهُ حَتَّى أَنْفَذَهُ بِالرُّمْحِ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ فَلُحِقَ الرَّجُلُ فَقُتِلُوا كُلُّهُمْ غَيْرَ الأَعْرَجِ كَانَ فِي رَأْسِ جَبَلٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْنَا ثُمَّ كَانَ مِنْ الْمَنْسُوخِ إِنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثِينَ صَبَاحًا عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ وَعُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
4092- حَدَّثَنِي حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ "أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَمَّا طُعِنَ حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ وَكَانَ خَالَهُ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ قَالَ بِالدَّمِ هَكَذَا فَنَضَحَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ"
الحديث الثالث, وهو أول حديث بئر معونة وجميعها عن أنس. قوله: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة" فسر قتادة الحاجة كما سيأتي قريبا بقوله: "أن رعلا وغيرهم استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو فأمدهم بسبعين من الأنصار "وقد تقدم في الجهاد من وجه آخر عن سعيد عن قتادة بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان فزعموا أنهم أسلموا واستمدوا على قومهم. وفي هذا رد على من قال رواية قتادة وهم، وأنهم لم يستمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما الذي استمدهم عامر بن الطفيل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. ولا مانع أن يستمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظاهر ويكون قصدهم الغدر بهم، ويحتمل أن يكون الذين استمدوا غير الذين استمدهم عامر بن الطفيل وإن كان الكل من بني سليم. وفي رواية عاصم آخر الباب عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أقواما إلى ناس من المشركين بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد" ويحتمل أنه لم يكن استمدادهم لهم لقتال عدو، وإنما هو للدعاء إلى الإسلام. وقد أوضح ذلك ابن إسحاق قال: "حدثني أبي عن المغيرة بن عبد الرحمن وغيره قال: قدم أبو براء عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة على رسول صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد وقال: يا محمد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك وأنا جار لهم، فبعث المنذر بن عمرو في أربعين رجلا منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان ورافع بن بديل بن ورقاء وعروة بن أسماء وعامر بن فهيرة وغيرهم من خيار المسلمين" وكذلك أخرج هذه القصة موسى بن عقبة عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ورجال من أهل العلم نحوه، لكن لم يسم المذكورين. ووصله الطبري من وجه آخر

(7/386)


عن ابن شهاب عن ابن كعب بن مالك عن كعب، ووصلها أيضا ابن عائذ من حديث ابن عباس لكن بسند ضعيف، وهي عند مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مختصرا ولم يسم أبا براء، بل قال: "إن ناسا" ويمكن الجمع بينه وبين الذي في الصحيح بأن الأربعين كانوا رؤساء وبقية العدة أتباعا. ووهم من قال كانوا ثلاثين فقط. وذكر المصنف في مرسل عروة أن عامر بن الطفيل أسر عمرو بن أمية يوم بئر معونة، وهو شاهد لمرسل ابن إسحاق. قوله: "يقال لهم القراء" قد بين قتادة في روايته أنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل. وفي رواية ثابت" ويشترون به الطعام لأهل الصفة ويتدارسون القرآن بالليل ويتعلمون". قوله: "فعرض لهم حيان" بالمهملة والتحتانية تثنية حي أي جماعة من بني سليم. قوله: في رواية قتادة "أن رعلا وذكوان وعصية وبني لحيان" ذكر بني لحيان في هذه القصة وهم، وإنما كان بنو لحيان في قصة خبيب في غزوة الرجيع التي قبل هذه. قوله: "قال أنس فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك "أي القرآن "رفع" أي نسخت تلاوته. وفي الرواية المتقدمة "ثم رفع بعد ذلك" ورواه أحمد عن غندر عن شعبة بلفظ: "ثم نسخ ذلك". قوله: "زاد خليفة" هو ابن خياط وهو أحد شيوخ البخاري. قوله: "قرآنا كتابا نحوه" أي نحو رواية عبد الأعلى بن حماد عن يزيد بن زريع. قوله في رواية إسحاق بن أبي طلحة "عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خاله أخا أم سليم في سبعين راكبا" قد سماه في هذه الرواية حراما، وكذا في رواية ثمامة عن أنس التي بعدها، والضمير في خاله لأنس، وقد قال في الرواية الأخرى الآتية عن ثمامة عن أنس "لما طعن حرام بن ملحان وكان خاله" وعجب تجويز الكرماني أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم قال: وحرام خاله من الرضاعة يجوز أن يكون من جهة النسب، كذا قاله. قوله في رواية إسحاق "وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل" أي ابن مالك بن جعفر بن كلاب وهو ابن أخي أبي براء عامر بن مالك. قوله: "خير" بفتح أوله وحذف المفعول أي خير النبي صلى الله عليه وسلم، وبينه البيهقي في "الدلائل" من رواية عثمان بن سعيد عن موسى بن إسماعيل شيخ البخاري فيه ولفظه: "وكان أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أخيرك بين ثلاث خصال" فذكر الحديث. ووقع في بعض النسخ "خير" بضم أوله، وخطأها ابن قرقول. قوله: "بألف وألف" في رواية عثمان بن سعيد بألف أشقر وألف شقراء. قوله: "غدة كغدة البكر" يحوز فيه الرفع بتقدير أصابتني غدة أو غدة بي، ويجوز النصب على المصدر أي أغده غدة مثل بعيرة، والغدة بضم المعجمة من أمراض الإبل وهو طاعونها. قوله: "في بيت امرأة من آل بني فلان" بينها الطبراني من حديث سهل بن سعد فقال: "امرأة من آل سلول" وبين قدوم عامر بن الطفيل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال فيه: "لأغزونك بألف أشقر وألف شقراء" وأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أصحاب بئر معونة بعد أن رجع عامر، وأنه غدر بهم وأخفر ذمة عمه أبي براء وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه فقال: "اللهم اكفني عامرا" فجاء إلى بيت امرأة من بني سلول. قلت: سلول امرأة، وهي بنت ذهل بن شيبان، وزوجها مرة بن صعصعة أخو عامر بن صعصعة فنسب بنوه إليها. قوله: "فانطلق حرام أخو أم سليم وهو رجل أعرج" كذا هنا على أنها صفة حرام، وليس كذلك بل الأعرج غيره، وقد وقع في رواية عثمان بن سعيد" فانطلق حرام ورجلان منه أعرج من بني فلان" فالذي يظهر أن الواو في قوله: "وهو" قدمت سهوا من الكاتب، والصواب تأخيرها، وصواب الكلام: فانطلق حرام هو ورجل أعرج، فأما الأعرج فاسمه كعب بن زيد، وهو من بني دينار بن النجار، وأما الآخر فاسمه المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح

(7/387)


الخزرجي سماهما ابن هشام في زيادات السيرة. ووقع في بعض النسخ" هو ورجل أعرج" وهو الصواب. قوله: "فإن آمنوني كنتم" وقع هنا بطريق الاكتفاء، ووقع في رواية عثمان بن سعيد المذكور" فإن آمنوني كنتم كذا" ولعل لفظة كذا من الراوي كأنه كتبها على قوله كنتم أي كذا وقع بطريق الاكتفاء، ولأبي نعيم في "المستخرج" من طريق عبيد الله بن زيد المقري عن همام" فإن آمنوني كنتم قريبا مني" فهذه رواية مفسرة. قوله: "فجعل يحدثهم" في رواية الطبري من طريق عكرمة عن عمار عن إسحاق بن أبي طلحة في هذه القصة" فخرج حرام فقال: يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، فآمنوا بالله ورسوله، فخرج رجل من كسر البيت برمح فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الآخر". قوله: "فأومئوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه" لم أعرف اسم الرجل الذي طعنه، ووقع في السيرة لابن إسحاق ما ظاهره أنه عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه بئر معونة بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا عليه فقتله، لكن وقع في الطبراني من طريق ثابت عن أنس أن قاتل حرام بن ملحان أسلم، وعامر بن الطفيل مات كافرا كما تقدم في هذا الباب وأما ما أخرجه المستغفري في "الصحابة" من طريق القاسم عن أبي أمامة" عن عامر بن الطفيل أنه قال: يا رسول الله زودني بكلمات، قال: يا عامر أفش السلام وأطعم الطعام، واستحي من الله، وإذا أسأت فأحسن" الحديث فهو أسلمي، ووهم المستغفري في كونه ساق في ترجمته نسب عامر بن الطفيل العامري، وقد روى البغوي في ترجمة أبي براء عامر بن مالك العامري عن طريق عبد الله بن بريدة الأسلمي قال: "حدثني عمي عامر بن الطفيل" فذكر حديثا فعرف أن الصحابي أسلمي، ووافق اسمه واسم أبيه العامري فكان ذلك سبب الوهم. قوله: "قال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، فلحق الرجل فقتلوا كلهم" أشكل ضبط قوله: "فلحق الرجل" في هذا السياق فقيل: يحتمل أن يكون المراد بالرجل الذي كان رفيق حرام، وفيه حذف تقديره فلحق الرجل بالمسلمين. ويحتمل أن يكون المراد به قاتل حرام، والتقدير فطعن حراما فقال: فزت ورب الكعبة فلحق الرجل المشرك الطاعن بقومه المشركين فاجتمعوا على المسلمين فقتلوا كلهم. يحتمل أن يكون "فلحق" بضم اللام والرجل هو حرام أي لحقه أجله، أو الرجل رفيقه بمعنى أنهم لم يمكنوه أن يرجع إلى المسلمين بل لحقه المشركون فقتلوه وقتلوا أصحابه، ويحتمل أن يضبط الرجل بسكون الجيم وهو صيغة جمع والمعنى أن الذي طعن حراما لحق بقومه وهم الرجال الذين استنصر بهم عامر بن الطفيل. والرجل بسكون الجيم هم المسلمون القراء فقتلوا كلهم، وهذا أوجه التوجيهات إن ثبتت الرواية بسكون الجيم. والله أعلم. قوله: "فقتلوا كلهم غير الأعرج كان في رأس جبل" في رواية حفص بن عمر عن همام في كتاب الجهاد" فقتلوهم إلا رجلا أعرج صعد الجبل "قال همام "وآخر معه" وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه" فقتلوا أصحابه غير الأعرج وكان في رأس الجبل". قوله: "ثم كان من المنسوخ" أي المنسوخ تلاوته فلم يبق له حكم حرمة القرآن كتحريمه على الجنب وغير ذلك. قوله: في رواية ثمامة "وكان خاله" أي خال أنس. قوله: "قال بالدم هكذا" هو من إطلاق القول على الفعل، وقد فسره بأنه نضح الدم. قوله: "فزت ورب الكعبة" أي بالشهادة.
4093- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخُرُوجِ حِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الأَذَى فَقَالَ لَهُ أَقِمْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ

(7/388)


أَتَطْمَعُ أَنْ يُؤْذَنَ لَكَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنِّي لاَرْجُو ذَلِكَ قَالَتْ فَانْتَظَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ظُهْرًا فَنَادَاهُ فَقَالَ أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ فَقَالَ أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الصُّحْبَةَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ا لصُّحْبَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي نَاقَتَانِ قَدْ كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ فَأَعْطَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَاهُمَا وَهِيَ الْجَدْعَاءُ فَرَكِبَا فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا الْغَارَ وَهُوَ بِثَوْرٍ فَتَوَارَيَا فِيهِ فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ غُلاَمًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ أَخُو عَائِشَةَ لِأُمِّهَا وَكَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ مِنْحَةٌ فَكَانَ يَرُوحُ بِهَا وَيَغْدُو عَلَيْهِمْ وَيُصْبِحُ فَيَدَّلِجُ إِلَيْهِمَا ثُمَّ يَسْرَحُ فَلاَ يَفْطُنُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّعَاءِ فَلَمَّا خَرَجَ خَرَجَ مَعَهُمَا يُعْقِبَانِهِ حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ فَقُتِلَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَعَنْ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ فَأَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ لَمَّا قُتِلَ الَّذِينَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ قَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ مَنْ هَذَا فَأَشَارَ إِلَى قَتِيلٍ فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ هَذَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ فَقَالَ لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ مَا قُتِلَ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى إِنِّي لاَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَرْضِ ثُمَّ وُضِعَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُمْ فَنَعَاهُمْ فَقَالَ إِنَّ أَصْحَابَكُمْ قَدْ أُصِيبُوا وَإِنَّهُمْ قَدْ سَأَلُوا رَبَّهُمْ فَقَالُوا رَبَّنَا أَخْبِرْ عَنَّا إِخْوَانَنَا بِمَا رَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا فَأَخْبَرَهُمْ عَنْهُمْ وَأُصِيبَ يَوْمَئِذٍ فِيهِمْ عُرْوَةُ بْنُ أَسْماءَ بْنِ الصَّلْتِ فَسُمِّيَ عُرْوَةُ بِهِ وَمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو سُمِّيَ بِهِ مُنْذِرًا"
4094- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قَنَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَيَقُولُ عُصَيَّةُ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ".
4095- حدثنا يحيى بن بكار حدثنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صحابيا حين يدعو على رعل ولحيان وعصية عصت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قال أنس: فأنزل الله تعالى لنبيه في الين قتلوا أصحاب بئر معونة قرآنا قرأناه حتى نسخ بعد: بلغوا قومنا, فقد لقينا ربنا, فرضي عنا ورضينا عنه".
3096- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ قَالَ "سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الْقُنُوتِ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ قَالَ قَبْلَهُ قُلْتُ فَإِنَّ فُلاَنًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَهُ قَالَ كَذَبَ إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا أَنَّهُ كَانَ بَعَثَ نَاسًا يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا إِلَى نَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ قِبَلَهُمْ فَظَهَرَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ"

(7/389)


قوله: "عن عائشة قالت: استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر في الخروج" يعني في الهجرة، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي بطوله في أبواب الهجرة، وإنما ذكر منه هاهنا هذه القطعة من أجل ذكر عامر بن فهيرة لينبه أنه كان من السابقين. قوله فيه "فكان عامر بن فهيرة غلاما لعبد الله بن الطفيل بن سخبرة أخو عائشة" في رواية الكشميهني: "أخي عائشة" وهما جائزان الأولى على القطع والثانية على البدل. وفي قوله: "عبد الله بن الطفيل" نظر وكأنه مقلوب والصواب كما قال الدمياطي الطفيل بن عبد الله بن سخبرة، وهو أزدي من بني زهران، وكان أبوه زوج أم رومان والدة عائشة، فقدما في الجاهلية مكة فخالف أبا بكر، ومات وخلف الطفيل، فتزوج أبو بكر امرأته أم رومان فولدت له عبد الرحمن وعائشة، فالطفيل أخوهما من أمهما، واشترى أبو بكر عامر بن فهيرة من الطفيل. قوله: "وعن أبي أسامة" هو معطوف على قوله: "حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة" وإنما فصله ليبين الموصول من المرسل، وكأن هشام بن عروة حدث به عن أبيه هكذا فذكر قصة الهجرة موصولة بذكر عائشة فيه، وقصة بئر معونة مرسلة ليس فيه ذكر عائشة. ووجه تعلقه به من جهة ذكر عامر بن فهيرة، فإنه ذكر في شأن الهجرة أنه كان معهم، وفيه: "فلما خرجا - أي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر - خرج معهم" أي إلى المدينة، وقوله يعقبانه بالقاف أي يركبانه عقبة، وهو أن ينزل الراكب ويركب رفيقه ثم ينزل الآخر ويركب الماشي، هذا الذي يقتضيه ظاهر اللفظ في العقبة، ويحتمل أن يكون المراد أن هذا يركبه مرة وهذا يركبه أخرى، ولو كان كذلك لكان التعبير بيردفانه أظهر. قوله: "فقتل عامر بن فهيرة يوم بئر معونة" هذا آخر الحديث الموصول، ثم ساق هشام بن عروة عن أبيه صفة قتل عامر بن فهيرة مرسلة، وقد وقع عند الإسماعيلي والبيهقي في "الدلائل" سياق هذه القصة في حديث الهجرة موصولا به مدرجا، والصواب ما وقع في الصحيح. قوله: "لما قتل الذين ببئر معونة" أي القراء الذين تقدم ذكرهم "وأسر عمرو بن أمية الضمري" قد ساق عروة ذلك في المغازي من رواية أبي الأسود عنه، وفي روايته: "وبعث النبي صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي إلى بئر معونة وبعث معه المطلب السلمي ليدلهم على الطريق، فقتل المنذر بن عمرو وأصحابه، إلا عمرو بن أمية فإنهم أسروه واستحيوه" وفي رواية ابن إسحاق في المغازي أن عامر بن الطفيل اجتز ناصيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه. قوله: "قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ فأشار إلى قتيل" في رواية الواقدي بإسناده عن عروة "أن عامر بن الطفيل قال لعمرو بن أمية: هل تعرف أصحابك؟ قال: نعم فطاف في القتلى فجعل يسأله عن أنسابهم". قوله: "هذا عامر بن فهيرة" وهو مولى أبي بكر المذكور في حديث الهجرة. قوله: "لقد رأيته بعدما قتل" في رواية عروة المذكورة "فأشار عامر بن الطفيل إلى رجل فقال: هذا طعنه برمحه ثم انتزع رمحه فذهب بالرجل علوا في السماء حتى ما أراه". قوله: "ثم وضع" أي إلى الأرض. وذكر الواقدي في روايته أن الملائكة وارته ولم يره المشركون، وهذا واقع عند ابن المبارك عن يونس عن الزهري، وفي ذلك تعظيم لعامر بن فهيرة وترهيب للكفار وتخويف. وفي رواية عروة المذكورة" وكان الذي قتله رجل من بني كلاب جبار بن سلمى، ذكر أنه لما طعنه قال: فزت والله قال: فقلت في نفسي: ما قوله فزت؟ فأتيت الضحاك بن سفيان فسألته فقال: بالجنة. قال: فأسلمت، ودعاني إلى ذلك ما رأيت من عامر بن فهيرة" انتهى. وجبار بالجيم والموحدة مثقل معدود في الصحابة، ووقع في ترجمة عامر بن فهيرة في "الاستيعاب" أن عامر بن الطفيل قتله، وكأن نسبته له على سبيل التجوز لكونه كان رأس القوم. قوله: "فأتى النبي

(7/390)


صلى الله عليه وسلم خبرهم" قد ظهر من حديث أنس أن الله أخبره بذلك على لسان جبريل. وفي رواية عروة المذكورة فجاء خبرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة. قوله: "وأصيب فيهم يومئذ عروة بن أسماء بن الصلت" أي ابن أبي حبيب بن حارثة السلمي حليف بني عمرو بن عوف. قوله: "فسمي عروة به "قيل المراد ابن الزبير، كان الزبير سمي ابنه عروة لما ولد له باسم عروة بن أسماء المذكور، وكان بين قتل عروة بن أسماء ومولد عروة بن الزبير بضعة عشر عاما، وقد يستبعد هذا بطول المدة وبأنه لا قرابة بين الزبير وعروة بن أسماء. قوله: "ومنذر بن عمرو" أي ابن أبي حبيش بن لوذان من بني ساعدة من الخزرج، وكان عقبيا بدريا من أكابر الصحابة "سمي به منذرا" كذا ثبت بالنصب، والأول سمي به منذر كما تقدم تقريره في الذي قبله، أي أن الزبير سمى ابنه منذرا باسم المنذر بن عمرو هذا، فيحتمل أن تكون الرواية بفتح السين على البناء للفاعل وهو محذوف والمراد به الزبير، أو المراد به أبو أسيد لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بابن لأبي أسيد فقال: ما اسمه؟ قالوا: فلان، قال: بل هو المنذر. قال النووي في شرح مسلم: قالوا إنه سماه المنذر تفاؤلا باسم عم أبيه المنذر بن عمرو، وكان استشهد ببئر معونة، فتفاءل به ليكون خلفا منه، وهذا مما يؤيد البحث الذي ذكرته في عروة. ويحتمل أن يوجه النصب على مذهب الكوفيين في إقامة الجار والمجرور في قوله به مقام الفاعل كما قرئ {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ومن المناسبة هنا أن عروة بن الزبير هو عروة ابن أسماء بنت أبي بكر، وكأنه لما كان عروة ابن أسماء ناسب أن يسمى باسم عروة ابن أسماء، ولما سمي الزبير ابنه باسم أحد الرجلين المشهورين ناسب أن يسمى الآخر باسم الثاني. قوله: "حدثني محمد" هو ابن مقاتل، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "عن أبي مجلز" بكسر الميم وسكون الجيم وفتح اللام بعدها زاي اسمه لاحق بن حميد، وروايته هذه مختصرة لما ظهر من رواية إسحاق بن أبي طلحة التي تقدمت، وكذلك رواية مالك عن إسحاق التي بعد هذه مختصرة بالنسبة إلى رواية همام عن إسحاق المتقدمة. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد. قوله: "فإن فلانا" كأنه محمد بن سيرين، وقد تقدم بيان ذلك في أواخر كتاب الوتر. قوله: "إلى ناس من المشركين وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبلهم، فظهر هؤلاء الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد" هكذا ساقه هنا، وقوله قبلهم بكسر القاف وفتح الموحدة واللام أي من جهتهم، وأورده في آخر كتاب الوتر عن مسدد عن عبد الواحد بلفظ: "إلى قوم من المشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد" وليس المراد من ذلك أيضا بواضح، وقد ساقه الإسماعيلي مبينا فأورده يوسف القاضي عن مسدد شيخ البخاري فيه ولفظه: "إلى قوم من المشركين فقتلهم قوم مشركون دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد" فظهر أن الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد غير الذين قتلوا المسلمين، وقد بين ابن إسحاق في المغازي عن مشايخه وكذلك موسى بن عقبة عن ابن شهاب أصحاب الطائفتين وأن أصحاب العهد هم بنو عامر ورأسهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة وأن الطائفة الأخرى من بني سليم، وأن عامر بن الطفيل وهو ابن أخي ملاعب الأسنة أراد الغدر بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بني عامر إلى قتالهم، فامتنعوا وقالوا: لا تخفر ذمة أبي براء. فاستصرخ عليهم عصية وذكوان من بني سليم فأطاعوه وقتلوهم، وذكر لحسان شعرا يعيب فيه أبا براء ويحرضه على قتال عامر بن الطفيل فيما صنع فيه، فعمد ربيعة بن أبي براء إلى عامر بن الطفيل فطعنه فأرداه، فقال له عامر بن الطفيل: إن عشت نظرت في أمري، وإن مت فدمي لعمي، قالوا: ومات أبو براء عقب ذلك أسفا على ما صنع به عامر بن الطفيل، وعاش عامر بن

(7/391)


الطفيل بعد ذلك ومات بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما قدمته. ووقع في آخر الحديث في الدعوات" فقنت شهرا في صلاة الفجر وقال: إن عصية عصت الله ورسوله" وعصية بطن من بني سليم مصغر قبيلة تنسب إلى عصية بن خفاف بن ندبة بن بهثة بن سليم.

(7/392)


29 - باب غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ وَهِيَ الأَحْزَابُ
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ كَانَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ
4097- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْهُ وَعَرَضَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَهُ"
4098- حَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَنْدَقِ وَهُمْ يَحْفِرُونَ وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى أَكْتَادِنَا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ"
4099- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَنْدَقِ فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
4100- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الإِسْلاَمِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
قَالَ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُجِيبُهُمْ اللَّهُمَّ إِنَّهُ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الْآخِرَهْ فَبَارِكْ فِي الأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ قَالَ يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنْ الشَّعِيرِ فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَوْمِ وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ".
قوله: "باب غزوة الخندق وهي الأحزاب" يعني أن لها اسمين، وهو كما قال، والأحزاب جمع حزب أي طائفة، فأما تسميتها الخندق فلأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي أشار بذلك سلمان فيما ذكر

(7/392)


أصحاب المغازي منهم أو معشر قال: "قال سلمان للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة، وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين، فسارعوا إلى عمله حتى فرغوا منه، وجاء المشركون فحاصروهم" وأما تسميتها الأحزاب فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين، وهم قريش وغطفان واليهود ومن تبعهم، وقد أنزل الله تعالى في هذه القصة صدر سورة الأحزاب، وذكر موسى بن عقبة في المغازي قال: "خرج حيي بن أخطب بعد قتل بني النضير إلى مكة يحرض قريشا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق يسعى في بني غطفان ويحضهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لهم نصف ثمر خيبر، فأجابه عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري إلى ذلك، وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل إليهم طلحة بن خويلد فيمن أطاعه، وخرج أبو سفيان بن حرب بقريش فنزلوا بمر الظهران، فجاءهم من أجابهم من بني سليم مددا لهم فصاروا في جمع عظيم، فهم الذين سماهم الله تعالى الأحزاب". وذكر ابن إسحاق بأسانيده أن عدتهم عشرة آلاف، قال: وكان المسلمون ثلاثة آلاف، وقيل: كان المشركون أربعة آلاف والمسلمون نحو الألف، وذكر موسى بن عقبة أن مدة الحصار كانت عشرين يوما، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل والحجارة، وأصيب منها سعد بن معاذ بسهم فكان سبب موته كما سيأتي. وذكر أهل المغازي سبب رحيلهم، وأن نعيم بن مسعود الأشجعي ألقى بينهم الفتنة فاختلفوا، وذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك. ثم أرسل الله عليهم الريح فتفرقوا، وكفى الله المؤمنين القتال. قوله: "قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع" هكذا رويناه في مغازيه. قلت: وتابع موسى على ذلك مالك، وأخرجه أحمد عن موسى بن داود عنه. وقال ابن إسحاق. كانت في شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازي، ومال المصنف إلى قول موسى بن عقبة وقواه بما أخرجه أول أحاديث الباب من قول ابن عمر أنه عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة ويوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فيكون بينهما سنة واحدة. وأحد كانت سنة ثلاث، فيكون الخندق سنة أربع، ولا حجة فيه إذا ثبت أنها كانت سنة خمس لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحد كان في أول ما طعن في الرابعة عشر وكان في الأحزاب قد استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقي، ويؤيد قول ابن إسحاق أن أبا سفيان قال للمسلمين لما رجع من أحد: موعدكم العام المقبل ببدر فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من السنة المقبلة إلى بدر، فتأخر مجيء أبي سفيان تلك السنة للجدب الذي كان حينئذ. وقال لقومه إنما يصلح الغزو في سنة الخصب، فرجعوا بعد أن وصلوا إلى عسفان أو دونها، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي. وقد بين البيهقي سبب هذا الاختلاف، وهو أن جماعة من السلف كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، وعلى ذلك جرى يعقوب بن سفيان في تاريخه فذكر أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى، وأن غزوة أحد كانت في الثانية، وأن الخندق كانت في الرابعة وهذا عمل صحيح على ذلك البناء، لكنه بناء واه مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة، وعلى ذلك تكون بدر في الثانية وأحد في الثالثة والخندق في الخامسة وهو المعتمد. ثم ذكر المصنف في الباب سبعة عشر حديثا: قوله: "عرضه يوم أحد" عرض الجيش اختبار أحوالهم قبل مباشرة القتال للنظر في هيئتهم وترتيب منازلهم وغير ذلك. قوله: "وهو ابن أربع عشرة سنة" في رواية مسلم: "عرضني يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة" وقد تقدم مع شرحه ومباحثه في كتاب الشهادات بما يغني

(7/393)


عن إعادته وقوله: "فأجازه" أي أمضاه وأذن له في القتال. وقال الكرماني: أجازه من الإجازة وهي الأنفال أي أسهم له، قلت: والأول أولى، ويرد الثاني هنا أنه لم يكن في غزوة الخندق غنيمة يحصل منها نفل. وفي حديث أبي واقد الليثي" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الغلمان وهو يحفر الخندق، فأجاز من أجاز ورد من رد إلى الذراري" فهذا يوضح أن المراد بالإجازة الإمضاء للقتال، لأن ذلك كان في مبدأ الأمر قبل حصول الغنيمة أن لو حصلت غنيمة، والله أعلم. قوله: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون" قد تقدم ذكر السبب في حفر الخندق في مغازي ابن عقبة، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم أخذ في حفر الخندق حول المدينة ووضع يده في العمل معهم مستعجلين يبادرون قدوم العدو، وكذا ذكر ابن إسحاق نحوه، وعند موسى أنهم أقاموا في عمله قريبا من عشرين ليلة، وعند الواقدي أربعا وعشرين، وفي الروضة للنووي خمسة عشر يوما، وفي الهدي لابن القيم أقاموا شهرا. قوله: "ونحن ننقل التراب على أكتادنا" بالمثناة جمع كتد بفتح أوله وكسر المثناة وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وقد تقدم في الجهاد من حديث أنس بلفظ: "على متونهم" والمتن مكتف الصلب بين اللحم والعصب، ووهم ابن التين فعزا هذه اللفظة لحديث سهل بن سعد. ووقع في بعض النسخ "على أكبادنا" بالموحدة وهو موجه على أن يكون المراد به ما يلي الكبد من الجنب. قوله: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة" قال ابن بطال. هو قول ابن رواحة، يعني تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن من لفظه لم يكن بذلك النبي صلى الله عليه وسلم شاعرا، قال: وإنما يسمى شاعرا من قصده وعلم النسب والوتد وجميع معانيه من الزحاف ونحو ذلك، كذا قال وعلم السبب والوتد إلى آخره إنما تلقوه من العروض التي اخترع ترتيبها الخليل بن أحمد، وقد كان شعر الجاهلية والمخضرمين والطبقة الأولى والثانية من شعراء الإسلام قبل أن يصنفه الخليل كما قال أبو العتاهية أنا أقدم من العروض، يعني أنه نظم الشعر قبل وضعه. وقال أبو عبد الله بن الحجاج الكاتب:
قد كان شعر الورى قديما ... من قبل أن يخلق الخليل
وقال الداودي فيما نقله ابن التين: إنما قال ابن رواحة "لا هم إن العيش" بلا ألف ولام، فأورد بعض الرواة على المعنى، كذا قال وحمله على ذلك ظنه أنه يصير بالألف واللام غير موزون، وليس كذلك بل يكون دخله الخزم ومن صوره زيادة شيء من حروف المعاني في أول الجزء. قوله: "فاغفر للمهاجرين والأنصار" في حديث أنس بعده "فاغفر للأنصار والمهاجرة" وكلاهما غير موزون، ولعله صلى الله عليه وسلم تعمد ذلك، ولعل أصله فاغفر للأنصار والمهاجرة بتسهيل لام الأنصار وباللام في المهاجرة، وفي الرواية الأخرى "فبارك" بدل فاغفر. حديث أنس، أورده من وجهين في الثاني زيادة. قوله: "ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك" أي أنهم عملوا فيه بأنفسهم لاحتياجهم إلى ذلك لا لمجرد الرغبة في الأجر. قوله: "فلما رأى ما بهم من النصب والجوع" فيه بيان لسبب قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن العيش عيش الآخرة" وعند الحارث بن أبي أسامة من مرسل طاوس زيادة في هذا الرجز:
والعن عضلا والقارة ... هم كلفونا ننقل الحجارة
والأول غير موزون أيضا ولعله كان والعن إلهي عضلا والقارة، وفي الطريق الثانية لأنس أنه قال ذلك جوابا

(7/394)


لقولهم نحن الذين بايعوا محمدا إلخ، ولا أثر للتقديم والتأخير فيه لأنه يحمل على أنه كان يقول إذا قالوا ويقولون إذا قال، وفيه أن في إنشاد الشعر تنشيطا في العمل، وبذلك جرت عادتهم في الحرب، وأكثر ما يستعملون في ذلك الرجز. قوله: "نحن الذين بايعوا" هو صفة الذين لا صفة نحن. قوله: "على الجهاد ما بقينا أبدا" في رواية عبد العزيز على الإسلام بدل الجهاد والأول أثبت. "تنبيه": تقدم طريق عبد العزيز سندا ومتنا في أوائل الجهاد سوى قوله: "قال يؤتون إلخ" وسيأتي بعد أحاديث من حديث البراء أنه كان يقول: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا". قوله: "قال يؤتون" قائل ذلك أنس بن مالك، وهو موصول بالإسناد المذكور إليه. قوله: "بملء كفي" روي بالإفراد والتثنية "فيصنع لهم الشعير" أي يطبخ، وقوله: "بإهالة" بكسر الهمزة وتخفيف الهاء: الدهن الذي يؤتدم به سواء كان زيتا أو سمنا أو شحما. وأغرب الداودي فقال: الإهالة وعاء من جلد فيه سمن. وقوله: "سنخة" أي تغير طعمها ولونها من قدمها، ولهذا وصفها بكونها بشعة. وقوله: بشعة بموحدة ومعجمة وعين مهملة، وقيل بنون وغين معجمة، والنشغ الغثى أي أنهم كان يحصل لهم عند ازدرادها شبيه بالغثى، والأول أصوب. وقوله: "في الحلق" هو بالحاء المهملة. قوله: "ولها ريح منتن" يدل على أنها عتيقة جدا حتى عفنت وأنتنت. وفي رواية الإسماعيلي: "ولها ريح منكر" قال ابن التين: الصواب ريح منتنة لأن الريح مؤنثة، قال: إلا أنه يجوز في المؤنث غير الحقيقي أن يعبر عنه بالمذكر. ومنتن بضم الميم ويجوز كسرها.
4101- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "أَتَيْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَاءُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ فَقَالَ أَنَا نَازِلٌ ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ وَلَبِثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ نَذُوقُ ذَوَاقًا فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي إِلَى الْبَيْتِ فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ فَعِنْدَكِ شَيْءٌ قَالَتْ عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ فَذَبَحَتْ الْعَنَاقَ وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَجِينُ قَدْ انْكَسَرَ وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الأَثَافِيِّ قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ فَقُلْتُ طُعَيِّمٌ لِي فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلاَنِ قَالَ كَمْ هُوَ فَذَكَرْتُ لَهُ قَالَ كَثِيرٌ طَيِّبٌ قَالَ قُلْ لَهَا لاَ تَنْزِعْ الْبُرْمَةَ وَلاَ الْخُبْزَ مِنْ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ فَقَالَ قُومُوا فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ وَيْحَكِ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ قَالَتْ هَلْ سَأَلَكَ قُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ ادْخُلُوا وَلاَ تَضَاغَطُوا فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزِعُ فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ قَالَ كُلِي هَذَا وَأَهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ ".
4102- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ

(7/395)


سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَصًا شَدِيدًا فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي فَقُلْتُ هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَصًا شَدِيدًا فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لاَ تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ مَعَهُ فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ فَصَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا فَحَيَّ هَلًا بِهَلّكُمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلاَ تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْدُمُ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي فَقَالَتْ بِكَ وَبِكَ فَقُلْتُ قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ ثُمَّ قَالَ ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلاَ تُنْزِلُوهَا وَهُمْ أَلْفٌ فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ"
الحديث الرابع قوله: "عن أبيه" في رواية يونس بن بكير في زيادات المغازي" عن عبد الواحد بن أيمن المخزومي". قوله: "أتيت جابرا فقال إنا يوم الخندق" في رواية الإسماعيلي من طريق المحاربي عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه "قال قلت لجابر بن عبد الله حدثني بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرويه عنك فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق". قوله: "فعرضت كيدة" كذا لأبي ذر بفتح الكاف وسكون التحتانية، قيل: هي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض. وقال عياض: كأن المراد أنها واحدة الكيد كأنهم أرادوا أن الكيد - وهي الجبلة - أعجزهم فلجئوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أحمد عن وكيع عن عبد الواحد بن أيمن "وهاهنا كدية من الجبل" وفي رواية الإسماعيلي: "فعرضت كدية" وهي بضم الكاف وتقديم الدال على التحتانية، وهي القطعة الصلبة الصماء. ووقع في رواية الأصيلي عن الجرجاني "كندة" بنون، وعند ابن السكن "كتدة" بمثناة من فوق قال عياض: لا أعرف لهما معنى. وفي رواية الإسماعيلي: "فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذه كدية قد عرضت في الخندق" وزاد في روايته: "فقال: رشوها بالماء فرشوها". قوله: "أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر" زاد يونس "من الجوع" وفي رواية أحمد "أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم بطنه حجرا من الجوع" وفائدة ربط الحجر على البطن أنها تضمر من الجوع فيخشى على انحناء الصلب بواسطة ذلك فإذا وضع فوقها الحجر وشد عليها العصابة استقام الظهر. وقال الكرماني: لعله لتسكين حرارة الجوع ببرد الحجر، ولأنها حجارة رقاق قدر البطن تشد الأمعاء فلا يتحلل شيء مما في البطن فلا يحصل ضعف زائد بسبب التحلل. قوله: "ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا" هي جملة معترضة أوردها لبيان السبب في ربطه صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه، وزاد الإسماعيلي: "لا نطعم شيئا أو لا نقدر عليه". قوله: "فأخذ المعول" بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو بعدها لام أي

(7/396)


المسحاة. وفي رواية أحمد" فأخذ المعول أو المسحاة" بالشك. قوله: "فضرب" في رواية الإسماعيلي: "ثم سمي ثلاثا ثم ضرب" وعند الحارث بن أبي أسامة من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان قال: "ضرب النبي صلى الله عليه وسلم: في الخندق ثم قال:
بسم الله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا
فحبذا ربا وحب دينا
قوله: "فعاد كثيبا" أي رملا. قوله: "أهيل أو أهيم" شك من الراوي، في رواية الإسماعيلي: "أهيل" بغير شك، وكدا عند يونس. وفي رواية أحمد" كثيبا يهال" والمعنى أنه صار رملا يسيل ولا يتماسك، قال الله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} أي رملا سائلا، وأما "أهيم" فقال عياض ضبطها بعضهم بالمثلثة وبعضهم بالمثناة وفسرها بأنها تكسرت، والمعروف بالتحتانية وهي بمعنى أهيل، وقد قال في قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} المراد الرمال التي لا يرويها الماء، وقد تقدم الخلاف في تفسيرها في كتاب البيوع. ووقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب قال. "لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول فقال: بسم الله ، فضرب ضربة فكسر ثلثها. وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة ، ثم ضرب الثانية فقطع الثلث الآخر فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض . ثم ضرب الثالثة وقال: بسم الله ؛ فقطع بقية الحجر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة " وللطبراني من حديث عبد الله بن عمرو نحوه، وأخرجه البيهقي مطولا من طريق كثير بن عبد الرحمن بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده وفي أوله "خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق لكل عشرة أناس عشرة أذرع - وفيه - فمرت بنا صخرة بيضاء كسرت معاويلنا فأردنا أن نعدل عنها فقلنا. حتى نشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلنا إليه سلمان - وفيه - فضرب ضربة صدع الصخرة وبرق منها برقة فكبر وكبر المسلمون - وفيه - رأيناك تكبر فكبرنا بتكبيرك فقالا: إن البرقة الأولى أضاءت لها قصور الشام، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم - وفي آخره - ففرح المسلمون واستبشروا" وأخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص نحوه. قوله: "فقلت يا رسول الله ائذن لي إلى البيت" زاد أبو نعيم في "المستخرج" فأذن لي، وفي المسند من زيادات عبد الله بن أحمد من حديث ابن عباس" احتفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة؟ قال رجل: نعم، قال: أما لا فتقدم " الحديث، وكأنه جابر، ويؤخذ من هذه النكتة في قوله: "ائذن لي يا رسول الله". قوله: "فقلت لامرأتي" اسمها سهيلة بنت مسعود الأنصارية. قوله: "عندي شعير" بين يونس بن بكير في روايته أنه صاع. قوله: "وعناق" بفتح العين المهملة وتخفيف النون هي الأنثى من المعز. وفي رواية سعيد بن ميناء التي تلو هذه" فأخرجت إلي جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن" أي سمينة، والداجن التي تترك في البيت ولا تفلت للمرعى، ومن شأنها أن تسمن. وفي رواية أحمد من طريق سعيد بن ميناء" سمينة". قوله: "فذبحت" بسكون المهملة وضم التاء، وقوله: "طحنت" بفتح المهملة وفتح النون، فالذي ذبح هو جابر، وامرأته هي التي طحنت. وفي رواية سعيد عند أحمد" فأمرت امرأتي فطحنت لنا الشعير وصنعت لنا منه خبزا". قوله: "والعجين قد انكسر"

(7/397)


أي لان ورطب وتمكن منه الخمير. قوله: "والبرمة بين الأثافي" بمثلثة وفاء أي الحجارة التي توضع عليها القدر وهي ثلاثة. قوله: "حتى جعلنا" في رواية الكشميهني: "حتى جعلت". قوله: "في البرمة" بضم الموحدة وسكون الراء. قوله: "طعيم" بتشديد التحتانية على طريقة المبالغة في تحقيره، قالوا: من تمام المعروف تعجيله وتحقيره، قال ابن التين ضبطه بعضهم بتخفيف الياء وهو غلط. قوله: "فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان "في رواية يونس "ورجلان" بالجزم. وفي رواية سعيد بعد هذه "فقم أنت ونفر معك" وفي رواية أحمد "وكنت أريد أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده". قوله: "فقال: قوموا، فقام المهاجرون" في رواية يونس "فقال للمسلمين جميعا قوموا" وهي أوضح، فإن الأحاديث تدل على أنه لم يخص المهاجرين بذلك، فكأن المراد فقام المهاجرون ومن معهم، وخصهم بالذكر لشرفهم، وفي بقية الحديث ما يؤيد هذا فإنه قال: "فلما دخل على امرأته قال ويحك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار". قوله: "قالت هل سألك؟ قال نعم. فقال: ادخلوا "في هذا السياق اختصار، وبيانه في رواية يونس" قال فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل وقلت: جاء الخلق على صاع من شعير وعناق، فدخلت على امرأتي أقول: افتضحت، جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق أجمعين، فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ فقلت: نعم، فقالت: الله ورسوله أعلم، ونحن قد أخبرناه بما عندنا، فكشف عني غما شديدا" وفي الرواية التي تلي هذه" فجئت امرأتي فقالت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت". وكان قد ذكر في أوله أنها" قالت له لا تفضحني برسول الله وبمن معه، فجئت فساررته" ويجمع بينهما بأنها أوصته أولا بأن يعلمه بالصورة، فلما قال لها إنه جاء بالجميع ظنت أنه لم يعلمه فخاصمته، فلما أعلمها أنه أعلمه سكن ما عندها لعلمها بإمكان خرق العادة، ودل ذلك على وفور عقلها وكمال فضلها. وقد وقع لها مع جابر في قصة التمر "أن جابرا أوصاها لما زارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تكلمه، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف نادته: يا رسول الله صل علي وعلى زوجي، فقال: صلى الله عليك وعلى زوجك ، فعاتبها جابر، فقالت له: أكنت تظن أن الله يورد رسوله بيتي ثم يخرج ولا أسأله الدعاء" أخرجه أحمد بإسناد حسن في حديث طويل، ووقع في رواية أبي الزبير عن جابر في نحو هذه القصة أنها قالت لجابر" فارجع إليه فبين له، فأتيته فقلت: يا رسول الله، إنما هي عناق وصاع من شعير، قال: فارجع فلا تحركن شيئا من التنور ولا من القدر حتى آتيها، واستعر صحافا". قوله: "ولا تضاغطوا" بضاد معجمة وغير معجمة وطاء مهملة مشالة، أي لا تزدحموا، وفي الرواية التي بعدها" فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك". قوله: "ويخمر البرمة" أي يغطيها. قوله: "ثم ينزع" أي يأخذ اللحم من البرمة. وفي رواية سعيد التي تلو هذه" فقال ادع خابزة فلتخبز معك" أي تساعدك، وقوله: "واقدحي من برمتك" أي اغرفي، والمقدحة المغرفة. وفي رواية أبي الزبير عن جابر "وأقعدهم عشرة عشرة فأكلوا". قوله: "وبقي بقية" في رواية سعيد "فأقسم بالله لأكلوا - أي لقد أكلوا - حتى تركوه وانحرفوا" بالحاء المهملة والفاء أي رجعوا. وفي رواية يونس بن بكير" فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعون، ويعود التنور والقدر أملأ ما كانا". قوله: "كلي هذا وأهدي" بهمزة قطع فعل أمر للمرأة من الهدية، ثم بين سبب ذلك بقوله: "فإن الناس أصابتهم مجاعة" وفي رواية يونس "كلي وأهدي، فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع" وفي رواية أبي الزبير عن جابر "فأكلنا نحن وأهدينا لجيراننا، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب ذلك" وقد تقدم في علامات النبوة حديث أنس في تكثير الطعام القليل أيضا في قصة أخرى بما يغني

(7/398)


عن الإعادة. قوله: "أبو عاصم" هو الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، وقد روى عنه هنا بواسطة، وهو من كبار شيوخه، فكأن هذا فاته سماعه منه كغيره من الأحاديث التي يدخل بينه وبينه فيها واسطة. قوله: "خمصا" بمعجمة وميم مفتوحتين وصاد مهملة وقد تسكن الميم وهو خموص البطن. قوله: "فانكفيت" بفاء مفتوحة بعدها تحتانية ساكنة أي انقلبت، وأصله انكفأت بهمزة وكأنه سهلها. قوله: "إن جابرا قد صنع سورا" بضم المهملة وسكون الواو بغير همز، هو هنا الصنيع بالحبشية وقيل: العرس بالفارسية، ويطلق أيضا على البناء الذي يحيط بالمدينة، وأما الذي بالهمز فهو البقية. قوله: "فحي هلا بكم" هي كلمة استدعاء فيها حث، أي هلموا مسرعين. ووقع في رواية القابسي "أهلا بكم" بزيادة ألف والصواب حذفها. قوله: "وهم ألف" أي الذين أكلوا. وفي رواية أبي نعيم في "المستخرج" فأخبرني أنهم كانوا تسعمائة أو ثمانمائة. وفي رواية عبد الواحد بن أيمن عند الإسماعيلي: "كانوا ثمانمائة أو ثلاثمائة" وفي رواية أبي الزبير "كانوا ثلاثمائة" والحكم للزائد لمزيد علمه، لأن القصة متحدة. قوله: "وانحرفوا" أي مالوا عن الطعام. قوله: "لتغط" بكسر الغين المعجمة وتشديد الطاء المهملة أي تغلي وتفور.
4103- حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} قَالَتْ كَانَ ذَاكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ"
4104- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ أَوْ اغْبَرَّ بَطْنُهُ يَقُولُ:
وَاللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتْ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ: أَبَيْنَا أَبَيْنَا
4105- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ"
4106- حدثني أحمد حدثنا شريح بن مسلمة قال حدثنى إبراهيم بن يوسف قال حدثني أبي عن أبي إسحاق قال سمعت البراء يحدث قال "لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني التراب جلدة بطنه – وكان كثير الشعر – فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحه وهو ينقل من التراب يقول:

(7/399)


اللهم لَوْلاَ أنت مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتْ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... وإن أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
قال" ثم يمد صوته بآخرها"
4107- حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "أَوَّلُ يَوْمٍ شَهِدْتُهُ يَوْمُ الْخَنْدَقِ"
الحديث السادس قوله: "عن عائشة رضي الله عنها {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} قالت: "كان ذلك يوم الخندق" هكذا وقع مختصرا، وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} قال: عيينة بن حصن. {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} : أبو سفيان بن حرب. وبين ابن إسحاق في المغازي صفة نزولهم قال: نزلت قريش بمجتمع السيول في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وتهامة، ونزل عيينة في غطفان ومن معهم من أهل نجد إلى جانب أحد بباب نعمان، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف، والخندق بينه وبين القوم، وجعل النساء والذراري في الآطام، قال: وتوجه حيي بن أخطب إلى بني قريظة فلم يزل بهم حتى غدروا كما سيأتي بيانه في الباب الآتي، وبلغ المسلمين غدرهم فاشتد بهم البلاء، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي عيينة بن حصن ومن معه ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا، فمنعه من ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وقالا كنا نحن وهم على الشرك لا يطمعون منا في شيء من ذلك، فكيف نفعله بعد أن أكرمنا الله عز وجل بالإسلام وأعزنا بك؟ نعطيهم أموالنا، ما لنا بهذا من حاجة، ولا نعطيهم إلا السيف. فاشتد بالمسلمين الحصار، حتى تكلم معتب بن قشير وأوس بن قيظي وغيرهما من المنافقين بالنفاق، وأنزل الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} الآيات قال: وكان الذين جاءوهم من فوقهم بنو قريظة ومن أسفل منهم قريش وغطفان، قال ابن إسحاق في روايته: ولم يقع بينهم حرب إلا مراماة بالنبل لكن كان عمرو بن عبد ود العامري اقتحم هو ونفر منه خيولهم من ناحية ضيقة من الخندق حتى صاروا بالسبخة فبارزه علي فقتله، وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي فبارزه الزبير فقتله، ويقال قتله علي، ورجعت بقية الخيول منهزمة. وروى البيهقي في "الدلائل" من طريق زيد بن أسلم" أن رجلا قال لحذيفة: أدركتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندركه، فقال: يا بن أخي، والله لا تدري لو أدركته كيف تكون، لقد رأيتنا ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. من يذهب فيعلم لنا علم القوم جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة ، فوالله ما قام أحد، فقال لنا الثانية. جعله الله رفيقي ، فلم يقم أحد. فقال أبو بكر: ابعث حذيفة، فقال: اذهب ، فقلت أخشى أن أؤسر، قال: إنك لن تؤسر ، فذكر أنه انطلق، وأنهم تجادلوا، وبعث الله عليهم الريح فما تركت لهم بناء إلا هدمته ولا إناء إلا أكفأته" ومن طريق عمرو بن سريع بن حذيفة نحوه وفيه: "إن علقمة بن علاثة صار يقول: يا آل

(7/400)


عامر، إن الريح قاتلتي وتحملت قريش وإن الريح لتغلبهم على بعض أمتعتهم" وروى الحاكم من طريق عبد العزيز ابن أخي حذيفة عن أبي حذيفة قال: "لقد رأيتنا ليلة الأحزاب وأبو سفيان ومن معه من فوقنا، وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا أشد ظلمة ولا ريحا منها، فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون: إن بيوتنا عورة، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جاث على ركبتي ولم يبق معه إلا ثلاثمائة فقال: اذهب فأتني بخبر القوم ، قال: فدعا لي فأذهب الله عني القر والفزع، فدخلت عسكرهم فإذا الريح فيه لا تجاوزه شبرا، فلما رجعت رأيت فوارس في طريقي فقالوا: أخبر صاحبك أن الله عز وجل كفاه القوم" وأصل هذا الحديث عند مسلم باختصار، وسيأتي في الحديث الذي يليه شيء يتعلق بحديث عائشة. قوله: "عن البراء" سيأتي بعد حديث ابن عباس الطريق الأخرى لحديث البراء، وفيه تصريح أبي إسحاق بسماعه له من البراء. قوله: "حتى أغمر بطنه أو اغبر بطنه" كذا وقع بالشك بالغين المعجمة فيهما، فأما التي بالموحدة فواضح من الغبار، وأما التي بالميم فقال الخطابي: إن كانت محفوظة فالمعنى وارى التراب جلدة بطنه، ومنه غمار الناس وهو جمعهم إذا تكاثف ودخل بعضهم في بعض، قال: وروى أعفر بمهملة وفاء، والعفر بالتحريك التراب. وقال عياض: وقع للأكثر بمهملة وفاء ومعجمة وموحدة فمنهم من ضبطه بنصب بطنه ومنهم من ضبطه برفعها، وعند النسفي" حتى غبر بطنه أو اغبر" بمعجمة فيهما وموحدة، ولأبي ذر وأبي زيد "حتى أغمر" قال ولا وجه لها إلا أن يكون بمعنى ستر كما في الرواية الأخرى" حتى وارى عني التراب بطنه" قال: وأوجه هذه الروايات اغبر بمعجمة وموحدة وبرفع بطنه. قلت: وفي حديث أم سلمة عند أحمد بسند صحيح" كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاطيهم اللبن يوم الخندق، وقد اغبر شعر صدره" وفي الرواية الآتية "حتى وارى عني الغبار جلد بطنه وكان كثير الشعر" وظاهر هذا أنه كان كثير شعر الصدر، وليس كذلك فإن في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان دقيق المسربة أي الشعر الذي في الصدر إلى البطن، فيمكن أن يجمع بأنه كان مع دقته كثيرا أي لم يكن منتشرا بل كان مستطيلا والله أعلم. قوله: "يقول: والله لولا الله ما اهتدينا" بين في الرواية التي بعد هذه أن هذا الرجز من كلام عبد الله بن رواحة، وقوله: "إن الألى قد بغوا علينا" ليس بموزون، وتحريره أن الذين قد بغوا علينا فذكر الراوي الألى بمعني الذين وحذف قد، وزعم ابن التين أن المحذوف "قد" و "هم" قال: والأصل أن الألى هم قد بغوا علينا، وهو يتزن بما قال. لكن لا يتعين. وذكره بعض الرواة في مسلم بلفظ: "أبوا" بدل بغوا ومعناه صحيح، أي أبوا أن يدخلوا في ديننا. ووقع في الطريق الثانية لحديث البراء "إن الألى قد رغبوا علينا" كذا للسرخسي والكشميهني وأبي الوقت والأصيلي، وكذا في نسخة ابن عساكر، وللباقين "قد بغوا" كالأولى. وأما الأصيلي فضبطها بالغين المثقلة والموحدة، وضبطها في "المطالع" بالغين المعجمة، وضبطت في رواية أبي الوقت كذا لكن بزاي أوله والمشهور ما في "المطالع". قوله: "ورفع بها صوته: أبينا أبينا" كذا للأكثر بموحدة وفي آخر الرواية الآتية قال: "ثم يمد صوته بآخرها" وهو يبين أن المراد بقوله: "أبينا" ما وقع في آخر القسم الأخير وهو قوله: "إذا أرادوا فتنة أبينا" ويحتمل أن يريد ما وقع في القسم الأخير وهو قوله: "إنا إذا صيح بنا أبينا" فإنه روي بالوجهين، ووقع في رواية أبي ذر وأبي الوقت وكريمة: "أتينا" بمثناة بدل الموحدة، والأصيلي والسجزي بمثناة، قال عياض: كلاهما صحيح المعنى، أما الأول فمعناه إذا صيح بنا لفزع أو حادث أبينا الفرار وثبتنا، وأما الثاني فمعناه جئنا

(7/401)


وأقدمنا على عدونا. قال: والرواية في هذا القسم بالمثناة أوجه لأن إعادة الكلمة في قوافي الرجز عن قرب عيب معلوم عنده، فالراجح أن قوله: "إذا أرادوا فتنة أبينا" بالموحدة، وقوله: "إنا إذا صيح بنا أتينا" بالمثناة، والله أعلم. ووقع في بعض النسخ" وإن أرادونا على فتنة أبينا" وهو تغيير. قوله: "نصرت بالصبا" بفتح المهملة وتخفيف الموحدة وهي الريح الشرقية، والدبور هي الريح الغربية، وروى أحمد من حديث أبي سعيد قال. "قلنا يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء تقوله؟ قد بلغت القلوب الحناجر، قال: نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا. قال: فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح، فهزمهم الله عز وجل بالريح" وروى ابن مردويه في التفسير من طريق أخرى عن ابن عباس أيضا قال: "قالت الصبا للشمال: اذهبي بنا ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن الحرائر لا تهب بالليل، فغضب الله عليها فجعلها عقيما" وفي رواية له من هذا الوجه" فكانت الريح التي نصر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبا" وقد تقدم في الاستسقاء ذكر النكتة في تخصيص الدبور بعاد والصبا بالمسلمين، وعرف بهذا وجه إيراد المصنف هذا الحديث هنا، وأن الله نصر نبيه في غزوة الخندق بالريح، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} قال مجاهد: سلط الله عليهم الريح فكفأت قدورهم، ونزعت خيامهم حتى أظعنتهم. وذكر ابن إسحاق في سبب رحيلهم" أن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ولم يعلم به قومه، فقال له: خذل عنا. فمضى إلى بني قريظة - وكان نديما لهم - فقال: قد عرفتم محبتي، قالوا: نعم. فقال: إن قريشا وغطفان ليست هذه بلادهم، وإنهم إن رأوا فرصة انتهزوها وإلا رجعوا إلى بلادهم وتركوكم في البلاء مع محمد، ولا طاقة لكم به. قالوا: فما ترى؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا رهنا منهم. فقبلوا رأيه. فتوجه إلى قريش فقال لهم: إن اليهود ندموا على الغدر بمحمد فراسلوه في الرجوع إليه، فراسلهم بأنا لا نرضي حتى تبعثوا إلى قريش فتأخذوا منهم رهنا فاقتلوهم. ثم جاء غطفان بنحو ذلك. قال: فلما أصبح أبو سفيان بعث عكرمة بن أبي جهل إلى بني قريظة بأنا قد ضاق بنا المنزل ولم نجد مرعى، فأخرجوا بنا حتى نناجز محمدا. فأجابوهم: إن اليوم يوم السبت ولا نعمل فيه شيئا، ولا بد لنا من الرهن منكم لئلا تعذروا بنا. فقالت قريش: هذا ما حذركم نعيم، فراسلوهم ثانيا أن لا نعطيكم رهنا، فإن شئتم أن تخرجوا فافعلوا. فقالت قريظة: هذا ما أخبرنا نعيم" قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة" أن نعيما كان رجلا نموما، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إن اليهود بعثت إلي إن كان يرضيك أن تأخذ من قريش وغطفان رهنا ندفعهم إليك فتقتلهم فعلنا ، فرجع نعيم مسرعا إلى قومه فأخبرهم، فقالوا: والله ما كذب محمد عليهم، وإنهم لأهل غدر. وكذلك قال لقريش. فكان ذلك سبب خذلانهم ورحيلهم" وقد تقدم في الحديث السادس بيان ما أرسل عليهم من الريح. قوله: "حدثنا عبد الصمد" هو ابن عبد الوارث بن سعيد. قوله: "أول مشهد شهدته يوم الخندق" أي باشرت فيه القتال، وهذا يوافق رواية نافع عنه الماضية في أول الباب. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: "بعثني خالي عثمان بن مظعون في حاجة، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لي وقال: من لقيت فقل لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا، قال: فلا والله ما عطف علي منهم اثنان".
4108- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ وَأَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ وَنَسْوَاتُهَا تَنْطُفُ قُلْتُ قَدْ كَانَ

(7/402)


مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا تَرَيْنَ فَلَمْ يُجْعَلْ لِي مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ فَقَالَتْ الْحَقْ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ فِي احْتِبَاسِكَ عَنْهُمْ فُرْقَةٌ فَلَمْ تَدَعْهُ حَتَّى ذَهَبَ فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ قَالَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الأَمْرِ فَلْيُطْلِعْ لَنَا قَرْنَهُ فَلَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ قَالَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَهَلاَ أَجَبْتَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَحَلَلْتُ حُبْوَتِي وَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ أَحَقُّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْكَ مَنْ قَاتَلَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَخَشِيتُ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَمْعِ وَتَسْفِكُ الدَّمَ وَيُحْمَلُ عَنِّي غَيْرُ ذَلِكَ فَذَكَرْتُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي الْجِنَانِ قَالَ حَبِيبٌ حُفِظْتَ وَعُصِمْتَ قَالَ مَحْمُودٌ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ "وَنَوْسَاتُهَا"
الحديث العاشر قوله: "هشام" هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "قال وأخبرني ابن طاوس" قائل ذلك هو معمر، واسم ابن طاوس عبد الله. قوله: "دخلت على حفصة" أي بنت عمر أخته. قوله: "ونسواتها" بفتح النون والمهملة. قال الخطابي: كذا وقع، وليس بشيء، وإنما هو "نوساتها" أي ذوائبها، ومعنى تنطف أي تقطر كأنها قد اغتسلت، والنوسات جمع نوسة والمراد أن ذوائبها كانت تنوس أي تتحرك، وكل شيء تحرك فقد ناس، والنوس والاضطراب، ومنه قول المرأة في حديث أم زرع "أناس من حلى أذني" قال ابن التين: قوله نوسات هو بسكون الواو وضبط بفتحها، وأما نسوات فكأنه على القلب. قوله: "قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يجعل لي من الأمر شيء" مراده بذلك ما وقع بين علي ومعاوية من القتال في صفين يوم اجتماع الناس على الحكومة بينهم فيما اختلفوا فيه، فراسلوا بقايا الصحابة من الحرمين وغيرهما وتواعدوا على الاجتماع لينظروا في ذلك، فشاور ابن عمر أخته في التوجه إليهم أو عدمه فأشارت عليه باللحاق بهم خشية أن ينشأ من غيبته اختلاف يفضي إلى استمرار الفتنة. قوله: "فلما تفرق الناس" أي بعد أن اختلف الحكمان، وهما أبو موسى الأشعري وكان من قبل علي وعمرو بن العاص وكان من قبل معاوية. ووقع في رواية عبد الرزاق عن معمر في هذا الحديث: "فلما تفرق الحكمان" وهو يفسر المراد ويعين أن القصة كانت بصفين، وجوز بعضهم أن يكون المراد الاجتماع الأخير الذي كان بين معاوية والحسن بن علي ورواية عبد الرزاق ترده، وعلى هذا تقدير الكلام، فلم تدعه حتى ذهب إليهم في المكان الذي فيه الحكمان فحضر معهم، فلما تفرقوا خطب معاوية إلخ، وأبعد من ذلك قول ابن الجوزي في "كشف المشكل" أشار بذلك إلى جعل عمر الخلافة شورى في ستة ولم يجعل له من الأمر شيئا فأمرته باللحاق، قال: وهذا حكاية الحال التي جرت قبل، وأما قوله فلما تفرق الناس خطب معاوية، كان هذا في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده، كذا قال ولم يأت له بمستند، والمعتمد ما صرح به في رواية عبد الرزاق. ثم وجدت في رواية حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر قال: "لما كان في اليوم الذي اجتمع فيه معاوية بدومة الجندل قالت حفصة: إنه لا يجمل بك أن تتخلف عن صلح يصلح الله به بين أمة محمد. وأنت صهر رسول الله وابن عمر بن الخطاب، قال فأقبل معاوية يومئذ على بختي عظيم فقال: من يطمع في هذا الأمر أو يرجوه أو يمد إليه عنقه" الحديث أخرجه الطبراني. قوله: "أن يتكلم في هذا الأمر" أي الخلافة. قوله: "فليطلع لنا قرنه" بفتح القاف، قال ابن التين يحتمل أن يريد بدعته كما جاء في الخبر الآخر "كلما نجم قرن" أي طلع قرن، ويحتمل أن يكون المعنى

(7/403)


فليبد لنا صفحة وجهه، والقرن من شأنه أن يكون في الوجه، والمعنى فليظهر لنا نفسه ولا يخفيها. قيل: أراد عليا وعرض بالحسن والحسين، وقيل: أراد عمر وعرض بابنه عبد الله، وفيه بعد لأن معاوية كان يبالغ في تعظيم عمر ووقع في رواية حبيب بن أبي ثابت أيضا قال ابن عمر: ما حدثت نفسي بالدنيا قبل يومئذ أردت أن أقول له يطمع فيه من ضربك وأباك على الإسلام حتى أدخلكما فيه، فذكرت الجنة فأعرضت عنه. ومن هنا يظهر مناسبة إدخال هذه القصة في غزوة الخندق، لأن أبا سفيان كان قائد الأحزاب يومئذ. قوله: "قال حبيب بن مسلمة" أي ابن مالك الفهري، صحابي صغير، ولأبيه صحبة، وكان قد سكن الشام وأرسله معاوية في عسكر لنصر عثمان فقتل عثمان قبل أن يصل، فرجع فكان مع معاوية وولاه غزوة الروم، فكان يقال له حبيب الروم لكثرة دخوله عليهم ومات في خلافة معاوية. قوله: "فهلا أجبته" أي هلا أجبت معاوية عن تلك المقالة، فأعلمه ابن عمر بالذي منعه عن ذلك قال: حللت حبوتي إلخ، ووقع في رواية عبد الرزاق عند قوله: "فلنحن أحق به منه ومن أبيه "يعرض بابن عمر فعرف بهذه الزيادة مناسبة قول حبيب بن مسلمة لابن عمر: هلا أجبته. والحبوة بضم المهملة وسكون الموحدة ثوب يلقى على الظهر ويربط طرفاه على الساقين بعد ضمهما. قوله: "من قاتلك وأباك على الإسلام" يعني يوم أحد ويوم الخندق، ويدخل في هذه المقاتلة علي وجميع من شهدها من المهاجرين، ومنهم عبد الله بن عمر. ومن هنا تظهر مناسبة إدخال هذه القصة في غزوة الخندق لأن أبا سفيان والد معاوية كان رأس الأحزاب يومئذ. ووقع في رواية حبيب بن أبي ثابت أيضا: "قال ابن عمر فما حدثت نفسي بالدنيا قبل يومئذ، أردت أن أقول له يطمع فيه من قاتلك وأباك على الإسلام حتى أدخلكما فيه فذكرت الجنة فأعرضت عنه "وكان رأي معاوية في الخلافة تقديم الفاضل في القوة والرأي والمعرفة على الفاضل في السبق إلى الإسلام والدين والعبادة، فلهذا أطلق أنه أحق، ورأى ابن عمر بخلاف ذلك، وأنه لا يبايع المفضول إلا إذا خشي الفتنة، ولهذا بايع بعد ذلك معاوية ثم ابنه يزيد ونهى بنيه عن نقض بيعته كما سيأتي في الفتن، وبايع بعد ذلك لعبد الملك بن مروان. قوله: "ويحمل عني غير ذلك" أي غير ما أردت، ووقع في رواية منقطعة عند سعيد بن منصور أخرجها عن إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب قال: "نبئت أن ابن عمر لما قال معاوية من أحق بهذا الأمر منا ومن ينازعنا، فهممت أن أقول الذين قاتلوك وأباك على الإسلام، فخشيت أن يكون في قولي هراقة الدماء، وأن يحمل قولي على غير الذي أردت". قوله: "فذكرت ما أعد الله في الجنان" أي لمن صبر وآثر الآخرة على الدنيا. قوله: "قال حبيب" أي ابن مسلمة المذكور "حفظت وعصمت" بضم أولهما أي أنه صوب رأيه في ذلك. وقد قدمنا أن حبيب بن مسلمة المذكور كان من أصحاب معاوية. قوله: "قال محمود عن عبد الرزاق: ونوساتها" أي إن عبد الرزاق روى عن معمر شيخ هشام بن يوسف هذا الحديث كما رواه هشام فخالف في هذه اللفظة فقال: "نوساتها" وهذا هو الصواب كما تقدم، وطريق محمود هذا وهو ابن غيلان المروزي وصلها محمد بن قدامة الجوهري في كتاب "أخبار الخوارج" له قال: حدثنا محمود بن غيلان المروزي أنبأنا عبد الرزاق عن معمر فذكره بالإسنادين معا، وساق المتن بتمامه، وأوله "دخلت على حفصة ونوساتها تنطف" وقد ذكرت ما في روايته من فائدة زائدة، وكذلك أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن عبد الرزاق.

(7/404)


4109- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "يَوْمَ الأَحْزَابِ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَنَا "
[الحديث 4109- طرفه في: 4110]
4110- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ يَقُولُ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ أَجْلَى الأَحْزَابَ عَنْهُ الْ آنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ "
4111- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَلاَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلاَةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ "
4112- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ جَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا فَنَزَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ لِلصَّلاَةِ وَتَوَضَّأْنَا لَهَا فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ"
الحديث الحادي عشر حديث سليمان بن صرد بضم الصاد المهملة وفتح الراء بعدها مهملة ابن الجون بفتح الجيم الخزاعي صحابي مشهور، يقال كان اسمه يسار فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، ليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في صفة إبليس، وله طريق في الأدب. وقد صرح في الرواية الثانية بسماع أبي إسحاق له منه، وكان سليمان المذكور أسن من خرج من أهل الكوفة في طلب ثأر الحسين بن علي فقتل هو وأصحابه بعين الوردة في سنة خمس وستين. قوله: "نغزوهم ولا يغزوننا" في رواية أبي نعيم في "المستخرج" من طريق بشر بن موسى عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه: "الآن نغزوهم" وهي في رواية إسرائيل التي تلو هذه، وقوله في رواية إسرائيل "حين أجلي" بضم الهمزة وسكون الجيم وكسر اللام أي رجعوا عنه، وفيه إشارة إلى أنهم رجعوا بغير اختيارهم بل بصنع الله تعالى لرسوله، وذكر الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد أن انصرفوا، وذلك لسبع بقين من ذي القعدة، وفيه علم من أعلام النبوة فإنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في السنة المقبلة فصدته قريش عن البيت ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها فكان ذلك سبب فتح مكة، فوقع الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم. وأخرج البزار بإسناد حسن من حديث جابر شاهدا لهذا الحديث ولفظه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب وقد جمعوا له جموعا كثيرة: لا يغزونكم بعد هذا أبدا، ولكن أنتم تغزونهم ".الحديث الثاني عشرحديث علي. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن منصور، وهشام كنت ذكرت في الجهاد أنه الدستوائي لكن جزم المزي في الأطراف أنه ابن حسان، ثم وجدته مصرحا به في عدة طرق

(7/405)


فهذا هو المعتمد، وأما تضعيف الأصيلي للحديث به فليس بمعتمد كما سأوضحه في التفسير إن شاء الله تعالى. قوله: "عن محمد" هو ابن سيرين وعبيدة بفتح العين هو ابن عمرو السلماني. قوله: "قال يوم الخندق" في رواية الجهاد "يوم الأحزاب" وهو بالمعنى. وفي رواية يحيى بن الجزار عن علي عند مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم الأحزاب قاعدا على فرصة من فرص الخندق فذكره. قوله: "كما شغلونا" في رواية الكشميهني: "كلما شغلونا" بزيادة لام وهو خطأ. قوله: "الصلاة الوسطى" زاد مسلم: "صلاة العصر" وسيأتي الكلام عليها وعلى شرح هذا الحديث مستوفى في تفسير سورة البقرة. قوله: "حدثنا هشام" أي ابن عبد الله الدستوائي، ويحيى هو ابن كثير. قوله: "جعل يسب كفار قريش" قد سبق شرح هذا الحديث في المواقيت من كتاب الصلاة وبينت فيه المذاهب في ترتيب فائتة الصلاة.
4113- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَوْمَ الأَحْزَابِ مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ أَنَا ثُمَّ قَالَ مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ أَنَا ثُمَّ قَالَ مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ أَنَا ثُمَّ قَالَ إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيَّ وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ "
4114- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ أَعَزَّ جُنْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَغَلَبَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَلاَ شَيْءَ بَعْدَ هُ"
4115- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ وَعَبْدَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الأَحْزَابِ فَقَالَ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ ".
4116- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ وَنَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ الْغَزْوِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ يَبْدَأُ فَيُكَبِّرُ ثَلاَثَ مِرَارٍ ثُمَّ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ "
الحديث الرابع عشر حديث جابر أيضا في ذكر الزبير، وقد تقدم شرحه في المناقب. قوله: "من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير أنا" ذكرها ثلاث مرات، وقد تقدم في الجهاد في "باب فضل الطليعة" ذكرها مرتين، ومضى شرح الحديث في مناقب الزبير، وقد استشكل ذكر الزبير في هذه القصة فقال شيخنا ابن الملقن: اعلم أنه وقع هنا أن الزبير هو الذي ذهب لكشف خبر بني قريظة والمشهور كما قاله شيخنا أبو الفتح اليعمري أن الذي توجه ليأتي بخبر

(7/406)


القوم حذيفة كما رويناه من طريق ابن إسحاق وغيره. قلت: وهذا الحصر مردود، فإن القصة التي ذهب لكشفها غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها، فقصة الزبير كانت لكشف خبر بني قريظة هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين، وقصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق وتمالأت عليهم الطوائف ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف وحذرت كل طائفة من الأخرى وأرسل الله تعالى عليهم الريح واشتد البرد تلك الليلة فانتدب النبي صلى الله عليه وسلم من يأتيه بخبر قريش، فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلب ذلك، وقصته في ذلك مشهورة لما دخل بين قريش في الليل وعرف قصتهم ورجع وقد اشتد عليه البرد، فغطاه النبي صلى الله عليه وسلم حتى دفيء، وبين الواقدي أن المراد بالقوم بنو قريظة، وروى ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة "أن رجلا من المشركين قال يوم الخندق: من يبارز؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قم يا زبير ، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: واحدي يا رسول الله، فقال: قم يا زبير ، فقام الزبير فقتله ثم جاء بسلبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنفله إياه". الحديث قوله: "عن أبيه" هو أبو سعيد المقبري. قوله: "وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده" هو من السجع المحمود، والفرق بينه وبين المذموم ما يأتي بتكلف واستكراه، والمحمود ما جاء بانسجام واتفاق، ولهذا قال في مثل الأول: أسجع مثل سجع الكهان؟ وكذا قال: كان يكره السجع في الدعاء. ووقع في كثير من الأدعية والمخاطبات ما وقع مسجوعا لكنه في غاية الانسجام المشعر بأنه وقع بغير قصد، ومعنى قوله: "لا شيء بعده" أي جميع الأشياء بالنسبة إلى وجوده كالعدم، أو المراد أن كل شيء يفنى وهو الباقي، فهو بعد كل شيء فلا شيء بعده كما قال تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} . الحديث السادس عشر قوله: "حدثني محمد بن سلام" والفزاري هو مروان بن معاوية، وعبدة هو ابن سليمان. قوله: "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب" قد تقدم شرحه في "باب لا تتمنوا لقاء العدو" من كتاب الجهاد. قوله: "أو الحج أو العمرة" ليست أو للشك بل هي للتنويع، وذكره هنا لقوله: "وهزم الأحزاب وحده" وسيأتي شرحه في الدعوات إن شاء الله تعالى.

(7/407)


30 - باب مَرْجِعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الأَحْزَابِ
وَمَخْرَجِهِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَمُحَاصَرَتِهِ إِيَّاهُمْ
4117- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلاَحَ وَاغْتَسَلَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم فَقَالَ قَدْ وَضَعْتَ السِّلاَحَ وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَاهُ فَاخْرُجْ إِلَيْهِمْ قَالَ فَإِلَى أَيْنَ قَالَ هَا هُنَا وَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ"
4118- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْغُبَارِ سَاطِعًا فِي زُقَاقِ بَنِي غَنْمٍ مَوْكِبَ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ"
4119- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا

(7/407)


قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ الأَحْزَابِ لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمْ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ"
قوله: "باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب" أي من الموضع الذي كان يقاتل فيه الأحزاب إلى منزله بالمدينة. قوله: "ومخرجه إلى بني قريظة، ومحاصرته إياهم" قد تقدم السبب في ذلك، وهو ما وقع من بني قريظة من نقض عهده وممالأتهم لقريش وغطفان عليه، وتقدم نسب بني قريظة في غزوة بني النضير، وذكر عبد الملك بن يوسف في "كتاب الأنواء" له أنهم كانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب نبي الله عليه السلام وهو بمحتمل وإن شعيبا كان من بني جذام القبيلة المشهورة وهو بعيد جدا، وتقدم أن توجه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم كان لسبع بقين من ذي القعدة، وأنه خرج إليهم في ثلاثة آلاف. وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسا. حديث عائشة رضي الله عنها، ذكره مختصرا وسيأتي مطولا في الباب مع شرحه. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل التبوذكي. قوله: "كأني أنظر إلى الغبار" يشير إلى أنه يستحضر القصة حتى كأنه ينظر إليها مشخصة له بعد تلك المدة الطويلة. قوله: "ساطعا" أي مرتفعا. قوله: "بني غنم" بفتح المعجمة وسكون النون، كما تقدم شرحه في أوائل بدء الخلق، وتقدم إعراب قوله: "موكب جبريل" ووقع هذا الحديث عند ابن سعد من طريق سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال مطولا لكن ليس فيه أنس، وأوله "كان بين بني قريظة وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، فلما جاءت الأحزاب نقضوه وظاهروهم. فلما هزم الله عز وجل الأحزاب تحصنوا، فجاء جبريل ومن معه من الملائكة فقال: يا رسول الله انهض إلى بني قريظة، فقال: إن في أصحابي جهدا قال: انهض إليهم فلأضعضعنهم. قال: فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار". قوله: "جويرية" بالجيم مصغر هو عم عبد الله الراوي عنه. قوله: "لا يصلين أحد العصر" كذا وقع في جميع النسخ عند البخاري، ووقع في جميع النسخ عند مسلم: "الظهر" مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد بإسناد واحد، وقد وافق مسلما أبو يعلى وآخرون، وكذلك أخرجه ابن سعد عن أبي عتبان مالك بن إسماعيل عن جويرية بلفظ: "الظهر" وابن حبان من طريق أبي عتبان1 كذلك، ولم أره من رواية جويرية إلا بلفظ: "الظهر" غير أن أبا نعيم في "المستخرج" أخرجه من طريق أبي حفص السلمي عن جويرية فقال: "العصر" وأما أصحاب المغازي فاتفقوا على أنها العصر، قال ابن إسحاق: لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق راجعا إلى المدينة أتاه جبريل الظهر فقال: إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فأمر بلالا فأذن في الناس: من كان سامعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وكذلك أخرجه الطبراني والبيهقي في "الدلائل" بإسناد صحيح إلى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن عمه عبيد الله بن كعب" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب وجمع عليه اللأمة واغتسل واستجمر تبدى له جبريل فقال: عذيرك من محارب، فوثب فزعا، فعزم على الناس أن لا يصلوا العصر حتى يأتوا بني قريظة، قال فلبس الناس السلاح فلم يأتوا
ـــــــ
1 في هامش طبعة بولاق في نسخة "أبي غسان"

(7/408)


قريظة حتى غربت الشمس، قال فاختصموا عند غروب الشمس فصلت طائفة العصر وتركتها طائفة وقالت: إنا في عزمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس علينا إثم، فلم يعنف واحدا من الفريقين" وأخرجه الطبراني من هذا الوجه موصولا بذكر كعب بن مالك فيه، وللبيهقي من طريق القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها نحوه مطولا وفيه: "فصلت طائفة إيمانا واحتسابا وتركت طائفة إيمانا واحتسابا" وهذا كله يؤيد رواية البخاري في أنها العصر، وقد جمع بعض العلماء بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر وبعضهم لم يصلها فقيل لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر ولمن صلاها لا يصلين أحد العصر. وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة فقيل للطائفة الأولى الظهر وقيل للطائفة التي بعدها العصر، وكلاهما جمع لا بأس به، لكن يبعده اتحاد مخرج الحديث لأنه عند الشيخين كما بيناه بإسناد واحد من مبدئه إلى منتهاه، فيبعد أن يكون كل من رجال إسناده قد حدث به على الوجهين، إذ لو كان كذلك لحمله واحد منهم عن بعض رواته على الوجهين ولم يوجد ذلك. ثم تأكد عندي أن الاختلاف في اللفظ المذكور من حفظ بعض رواته فإن سياق البخاري وحده مخالف لسياق كل من رواه عن عبد الله بن محمد بن أسماء وعن عمه جويرية، ولفظ البخاري" قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم" ولفظ مسلم وسائر من رواه "نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف عن الأحزاب أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة ، فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة. وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، قال فما عنف واحدا من الفريقين "فالذي يظهر من تغاير اللفظين أن عبد الله بن محمد بن أسماء شيخ الشيخين فيه لما حدث به البخاري حدث به على هذا اللفظ، ولما حدث به الباقين حدثهم به على اللفظ الأخير وهو اللفظ الذي حدث به جويرية، بدليل موافقة أبي عتبان له عليه بخلاف اللفظ الذي حدث به البخاري أو أن البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك، بخلاف مسلم فإنه يحافظ على اللفظ كثيرا، وإنما لم يجوز عكسه لموافقة من وافق مسلما على لفظه بخلاف البخاري، لكن موافقة أبي حفص السلمي له تؤيد الاحتمال الأول، وهذا كله من حيث حديث ابن عمر، أما بالنظر إلى حديث غيره فالاحتمالان المتقدمان في كونه قال الظهر لطائفة والعصر لطائفة متجه فيحتمل أن تكون رواية الظهر هي التي سمعها ابن عمر ورواية العصر هي التي سمعها كعب بن مالك وعائشة رضي الله عنها والله أعلم. قال السهيلي وغيره. في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه، وفيه أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب، قال السهيلي: ولا يستحيل أن يكون الشيء صوابا في حق إنسان وخطأ في حق غيره وإنما المحال أن يحكم في النازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد، قال: والأصل في ذلك أن الحظر والإباحة صفات أحكام لا أعيان قال: فكل مجتهد وافق اجتهاده وجها من التأويل فهو مصيب انتهى. والمشهور أن الجمهور ذهبوا إلى أن المصيب في القطعيات واحد، وخالف الجاحظ والعنبري. وأما ما لا قطع فيه فقال الجمهور أيضا: المصيب واحد، وقد ذكر ذلك الشافعي وقرره، ونقل عن الأشعري أن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله تابع لظن المجتهد. وقال بعض الحنفية وبعض الشافعية. وهو مصيب باجتهاده، وإن لم يصب ما في نفس الأمر فهو مخطئ وله أجر واحد، وسيأتي بسط هذه المسألة في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. ثم الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق

(7/409)


ليس بواضح. وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه. وحاصل ما وقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحا للنهي الثاني على النهي الأول وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق فقد تقدم حديث جابر المصرح بأنهم صلوا العصر بعدما غربت الشمس وذلك لشغلهم بأمر الحرب، فجوزوا أن يكون ذلك عاما في كل شغل يتعلق بأمر الحرب ولا سيما والزمان زمان التشريع، والبعض الآخر حملوا النهي على غير الحقيقة وأنه كناية عن الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة. وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدا من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم، واستدل به ابن حبان على أن تارك الصلاة حتى يخرج وقتها لا يكفر، وفيه نظر لا يخفى. واستدل به غيره على جواز الصلاة على الدواب في شدة الخوف، وفيه نظر قد أوضحته في باب صلاة الخوف. وعلى أن الذي يتعمد تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها يقضيها بعد ذلك لأن الذين لم يصلوا العصر صلوها بعد ذلك كما وقع عند ابن إسحاق أنهم صلوها في وقت العشاء، وعند موسى بن عقبه أنهم صلوها بعد أن غابت الشمس، وكذا في حديث كعب بن مالك، وفيه نظر أيضا لأنهم لم يؤخروها إلا لعذر تأولوه، والنزاع إنما هو فيمن أخر عمدا بغير تأويل، وأغرب ابن المنير فادعى أن الطائفة الذين صلوا العصر لما أدركتهم في الطريق إنما صلوها وهم على الدواب، واستند إلى أن النزول إلى الصلاة ينافي مقصود الإسراع في الوصول، قال: فإن الذين لم يصلوا عمدوا بالدليل الخاص وهو الأمر بالإسراع فترك عموم إيقاع العصر في وقتها إلى أن فات، والذين صلوا جمعوا بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإسراع فصلوا ركبانا، لأنهم لو صلوا نزولا لكان مضادة لما أمروا به من الإسراع ولا يظن ذلك بهم مع ثقوب أفهامهم انتهى. وفيه نظر لأنه لم يصرح لهم بترك النزول، فلعلهم فهموا أن المراد بأمرهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة المبالغة في الأمر بالإسراع فبادروا إلى امتثال أمره، وخصوا وقت الصلاة من ذلك لما تقرر عندهم من تأكيد أمرها، فلا يمتنع أن ينزلوا فيصلوا ولا يكون في ذلك مضادة لما أمروا به، ودعوى أنهم صلوا ركبانا يحتاج إلى دليل ولم أره صريحا في شيء من طرق هذه القصة، وقد تقدم بحث ابن بطال في ذلك في "باب صلاة الخوف". وقال ابن القيم في الهدى ما حاصله: كل من الفريقين مأجور بقصده، إلا أن من صلى حاز الفضيلتين: امتثال الأمر في الإسراع، وامتثال الأمر في المحافظة على الوقت ولا سيما ما في هذه الصلاة بعينها من الحث على المحافظة عليها وأن من فاتته حبط عمله، وإنما لم يعنف الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر، ولأنهم اجتهدوا فأخروا لامتثالهم الأمر. لكنهم لم يصلوا إلى أن يكون اجتهادهم أصوب من اجتهاد الطائفة الأخرى. وأما من احتج لمن أخر بأن الصلاة حينئذ كانت تؤخر كما في الخندق وكان ذلك بين في قوله صلى الله عليه وسلم لعمر لما قال له ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال: والله ما صليتها. لأنه لو كان ذاكرا لها لبادر إليها كما صنع عمر انتهى. وقد تقدم تأخير الصلاة في الخندق في كتاب الصلاة بما يغني عن إعادته.
4120- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ ح و حَدَّثَنِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخَلاَتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ وَإِنَّ أَهْلِي أَمَرُونِي

(7/410)


أَنْ آتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلَهُ الَّذِي كَانُوا أَعْطَوْهُ أَوْ بَعْضَهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَعْطَاهُ أُمَّ أَيْمَنَ فَجَاءَتْ أُمُّ أَيْمَنَ فَجَعَلَتْ الثَّوْبَ فِي عُنُقِي تَقُولُ كَلاَ وَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لاَ يُعْطِيكَهُمْ وَقَدْ أَعْطَانِيهَا أَوْ كَمَا قَالَتْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكِ كَذَا وَتَقُولُ كَلاَ وَاللَّهِ حَتَّى أَعْطَاهَا حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ عَشَرَةَ أَمْثَالِهِ أَوْ كَمَا قَالَ"
الحديث الرابع قوله: "حدثني ابن أبي الأسود" هو عبد الله كما تقدم بيانه في كتاب الخمس، وساق هذا الحديث عنه هناك أتم وتقدم باختصاره في غزوة بني النضير، وتقدم ما يتعلق بالزيادة التي فيه هنا في حديث الزهري عن أنس في كتاب الهبة، وحاصله أن الأنصار كانوا واسوا المهاجرين بنخيلهم لينتفعوا بثمرها، فلما فتح الله النضير ثم قريظة قسم في المهاجرين من غنائمهم فأكثر، وأمرهم برد ما كان للأنصار لاستغنائهم عنه، ولأنهم لم يكونوا ملكوهم رقاب ذلك، وامتنعت أم أيمن من رد ذلك ظنا أنها ملكت الرقبة، فلاطفها النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لها عليه من حق الحضانة حتى عوضها عن الذي كان بيدها بما أرضاها. قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أم أيمن، فجاءت أم أيمن" في هذا السياق حذف يوضحه رواية مسلم من هذا الوجه بلفظ: "أعطاه أم أيمن فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيه. فجاءت أم أيمن". قوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لك كذا" أي يقول لأم أيمن لك كذا، في رواية مسلم: "والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا أم أيمن اتركيه ولك كذا " وقوله: ولك كذا كناية عن القدر الذي ذكره لها النبي صلى الله عليه وسلم، قال النووي: ظنت أم أيمن أن تلك المنحة مؤبدة فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليها هذا الظن تطييبا لقلبها لكونها حاضنته وزادها من عنده حتى طاب قلبها. قوله: "أو كما قالت" إشارة إلى شك وقع في اللفظ مع حصول المعنى. قوله: "حتى أعطاها، حسبت أنه قال عشرة أمثاله أو كما قال" في رواية مسلم: "حتى أعطاها عشرة أمثاله أو قريبا من عشرة أمثاله" وعرف بهذا أن معنى قوله: "ولك كذا" أي مثل الذي لك مرة، ثم شرع يزيدها مرتين أو ثلاثا إلى أن بلغها عشرة. وفي الحديث مشروعية هبة المنفعة دون الرقبة، وفرط جود النبي صلى الله عليه وسلم وكثرة حلمه وبره، ومنزلة أم أيمن عند النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها وهي والدة أسامة بن زيد، وابنها أيمن أيضا له صحبة واستشهد بحنين، وهو أسن من أسامة، وعاشت أم أيمن بعد النبي صلى الله عليه وسلم قليلا رضي الله عنهم. المناقب عاليا، وكذا في المغازي قبل هذا بقليل.
4121- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَعْدٍ فَأَتَى عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا دَنَا مِنْ الْمَسْجِدِ قَالَ لِلْأَنْصَارِ قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ أَوْ خَيْرِكُمْ فَقَالَ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ فَقَالَ تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ وَتَسْبِي ذَرَارِيَّهُمْ قَالَ قَضَيْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرُبَّمَا قَالَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ "
4122- حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ وَهُوَ حِبَّانُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ بَنِي مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ رَمَاهُ فِي الأَكْحَلِ فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخَنْدَقِ وَضَعَ السِّلاَحَ وَاغْتَسَلَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنْ الْغُبَارِ فَقَالَ قَدْ وَضَعْتَ السِّلاَحَ وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ

(7/411)


اخْرُجْ إِلَيْهِمْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَأَيْنَ فَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَرَدَّ الْحُكْمَ إِلَى سَعْدٍ قَالَ فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ قَالَ هِشَامٌ فَأَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَعْدًا قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجُوهُ اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْءٌ فَأَبْقِنِي لَهُ حَتَّى أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ فَافْجُرْهَا وَاجْعَلْ مَوْتَتِي فِيهَا فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِهِ فَلَمْ يَرُعْهُمْ وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ إِلاَّ الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا فَمَاتَ مِنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ"
الحديث الخامس حديث ابي سعيد أورده من طريق شعبة بنزول وقد تقدم له المناقب عاليا, وكذا في المغازي قبل هذا بقليل قوله: "عن سعد بن إبراهيم عن أبي أمامة بن سهل" هكذا رواه شعبة عن سعد بن إبراهيم، ورواه محمد بن صالح بن دينار التمار المدني عن سعد بن إبراهيم فقال: "عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه" أخرجه النسائي، ورواية شعبة أصح، ويحتمل أن يكون لسعد بن إبراهيم فيه إسنادان. قوله: "نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ" سيأتي بيان ذلك في الحديث الذي يليه. وفي رواية محمد بن صالح المذكورة" حكم أن يقتل منهم كل من جرت عليه الموسى" وفيه زيادة بيان الفرق بين المقاتلة والذرية. قوله: "فلما دنا من المسجد" قيل: المراد المسجد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم أعده للصلاة فيه في ديار بني قريظة أيام حصارهم، وليس المراد به المسجد النبوي بالمدينة، لكن كلام ابن إسحاق يدل على أنه كان مقيما في مسجد المدينة حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم في بني قريظة فإنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل سعدا في خيمة رفيدة عند مسجده، وكانت امرأة تداوي الجرحى فقال: اجعلوه في خيمتها لأعوده من قريب، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة وحاصرهم وسأله الأنصار أن ينزلوا على حكم سعد أرسل إليه فحملوه على حمار ووطؤوا له وكان جسيما" فدل قوله: "فلما خرج إلى بني قريظة" أن سعدا كان في مسجد المدينة. قوله: "قوموا إلى سيدكم" يأتي البحث فيه في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى، وفيه البيان عما اختلف فيه هل المخاطب بذلك الأنصار خاصة أم هم وغيرهم، ووقع في مسند عائشة رضي الله عنها من مسند أحمد من طريق علقمة بن وقاص عنها في أثناء حديث طويل" قال أبو سعيد: فلما طلع قال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه، فقال عمر: السيد هو الله". قوله: "حكمت فيه بحكم الله، وربما قال بحكم الملك" هو بكسر اللام، والشك فيه من أحد رواته أي اللفظين قال. وفي رواية محمد بن صالح المذكورة" لقد حكمت فيهم اليوم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات" وفي حديث جابر عند ابن عائذ" فقال: احكم فيهم يا سعد، قال: الله ورسوله أحق بالحكم. قال: قد أمرك الله تعالى أن تحكم فيهم" وفي رواية ابن إسحاق من مرسل علقمة بن وقاص "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" وأرقعة بالقاف جمع رقيع وهو من أسماء السماء، قيل: سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم، وهذا كله يدفع ما وقع عند الكرماني بحكم الملك بفتح اللام وفسره بجبريل، لأنه الذي ينزل بالأحكام، قال السهيلي: قوله: "من فوق سبع سماوات" معناه أن الحكم نزل من فوق، قال ومثله قول

(7/412)


زينب بنت جحش "زوجني الله من نبيه من فوق سبع سموات" أي نزل تزويجها من فوق، قال ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله لا على المعنى الذي يسبق إلى الوهم من التحديد الذي يفضي إلى التشبيه، وبقية الكلام على هذا الحديث في الذي بعده. قوله: "أصيب سعد" في الرواية التي في المناقب "سعد بن معاذ". قوله: "حبان" بكسر المهملة وتشديد الموحدة "ابن العرقة" بفتح المهملة وكسر الراء ثم قاف. قوله: "وهو حبان بن قيس" يعني أن العرقة أمه وهي بنت سعيد بن سعد بن سهم. قوله: "من بني معيص" بفتح الميم وكسر المهملة ثم تحتانية ساكنة ثم مهملة، وهو حبان بن قيس ويقال ابن أبي قيس بن علقمة بن عبد مناف. قوله: "رماه في الأكحل" بفتح الهمزة والمهملة بينهما كاف ساكنة وهو عرق في وسط الذراع، قال الخليل: هو عرق الحياة ويقال إن في كل عضو منه شعبة فهو في اليد الأكحل وفي الظهر الأبهر وفي الفخذ النسا إذا قطع لم يرقأ الدم. قوله: "خيمة في المسجد" تقدم بيانها في الذي قبله "فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل فأتاه جبريل" هذا السياق يبين أن الواو زائدة في الطريق التي في الجهاد حيث وقع فيه بلفظ: "لما رجع يوم الخندق ووضع السلاح فأتاه جبريل" وهو أولى من دعوى القرطبي أن الفاء زائدة قال: وكأنها زيدت كما زيدت الواو في جواب لما، انتهى. ودعوى زيادة الواو في قوله: "وضع" أولى من دعوى زيادة الفاء لكثرة مجيء الواو زائدة، ووقع في أول هذه الغزاة" لما رجع من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل" فمن هنا ادعى القرطبي أن الفاء زائدة، ووقع عند الطبراني والبيهقي من طريق القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سلم علينا رجل ونحن في البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا، فقمت في أثره فإذا بدحية الكلبي فقال: هذا جبريل" وفي حديث علقمة "يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة" وذلك لما رجع من الخندق، قالت: فكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل، وفي حديث علقمة بن وقاص عن عائشة عند أحمد والطبراني "فجاءه جبريل وإن على ثناياه ليقع الغبار، وفي مرسل يزيد بن الأصم عند ابن سعد "فقال له جبريل: عفا الله عنك، وضعت السلاح ولم تضعه ملائكة الله" وفي رواية حماد بن سلمة عن هشام بن عروة في حديث الباب: "قالت عائشة: لقد رأيته من خلل الباب قد عصب التراب رأسه". وفي رواية جابر عند ابن عائذ "فقال: قم فشد عليه سلاحك، فوالله لأدقنهم دق البيض على الصفا". قوله: "فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي فحاصرهم، وروى ابن عائذ من مرسل قتادة قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي، فنادى: يا خيل الله اركبي" وفي رواية أبي الأسود عن عروة عند الحاكم والبيهقي" وبعث عليا على المقدمة ودفع إليه اللواء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثره" وعند موسى بن عقبة نحوه وزاد: "وحاصرهم بضع عشرة ليلة "وعند ابن سعد "خمس عشرة" وفي حديث علقمة بن وقاص المذكور "خمسا وعشرين" ومثلها عند ابن إسحاق عن أبيه عن معبد بن كعب قال: "حاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار وقذف في قلوبهم الرعب، فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا، أو يقتلوا نساءهم وأبناءهم ويخرجوا مستقتلين، أو يبيتوا المسلمين ليلة السبت. فقالوا: لا نؤمن، ولا نستحل ليلة السبت، وأي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟ فأرسلوا إلى أبي لبابة بن عبد المنذر وكانوا حلفاءه فاستشاروه في النزول على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إلى حلقه - يعني الذبح - ثم ندم، فتوجه إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فارتبط به حتى تاب الله عليه". قوله: "فنزلوا على حكمه، فرد الحكم إلى سعد" كأنهم أذعنوا للنزول على حكمه صلى الله عليه وسلم، فلما سأله الأنصار فيهم رد الحكم إلى سعد. ووقع بيان ذلك عند ابن إسحاق قال: "لما

(7/413)


اشتد بهم الحصار أذعنوا إلى أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله قد فعلت في موالي الخزرج - أي بني قينقاع، ما علمت. فقال: ألا ترضون أي يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. قال: فذلك إلى سعد بن معاذ" وفي كثير من السير أنهم نزلوا على حكم سعد، ويجمع بأنهم نزلوا على حكمه قبل أن يحكم فيه سعد. وفي رواية علقمة بن وقاص المذكورة" فلما اشتد بهم البلاء قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استشاروا أبا لبابة قال ننزل على حكم سعد بن معاذ" ونحوه في حديث جابر عند ابن عائذ، فحصل في سبب رد الحكم إلى سعد بن معاذ أمران: أحدهما: سؤال الأوس، والآخر: إشارة أبي لبابة، ويحتمل أن تكون الإشارة إثر توقفهم، ثم لما اشتد الأمر بهم في الحصار عرفوا سؤال الأوس فأذعنوا إلى النزول على حكم النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأيقنوا بأنه يرد الحكم إلى سعد. وفي رواية علي بن مسهر عن هشام بن عروة عند مسلم: "فرد الحكم فيهم إلى سعد وكانوا حلفاءه". قوله: "فإني أحكم فيهم" أي في هذا الأمر. وفي رواية النسفي "وإني أحكم فيهم". قوله: "أن تقتل المقاتلة" قد تقدم في الذي قبله بيان ذلك، وذكر ابن إسحاق أنهم حبسوا في دار بنت الحارث. وفي رواية أبي الأسود عن عروة في دار أسامة بن زيد، ويجمع بينهما بأنهم جعلوا في بيتين. ووقع في حديث جابر عند ابن عائذ التصريح بأنهم جعلوا في بيتين، قال ابن إسحاق: فخندقوا لهم خنادق فضربت أعناقهم فجرى الدم في الخنادق، وقسم أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأسهم للخيل فكان أول يوم وقعت فيه السهمان لها. وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال "أن سعد بن معاذ حكم أيضا أن تكون دارهم للمهاجرين دون الأنصار، فلامه فقال: إني أحببت أن تستغنوا عن دورهم " واختلف في عدتهم: فعند ابن إسحاق أنهم كانوا ستمائة وبه جزم أبو عمرو في ترجمة سعد بن معاذ، وعند ابن عائذ من مرسل قتادة "كانوا سبعمائة" وقال السهيلي: المكثر يقول إنهم ما بين الثمانمائة إلى التسعمائة. وفي حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل، فيحتمل في طريق الجمع أن يقال إن الباقين كانوا أتباعا، وقد حكى أبو إسحاق أنه قيل: إنهم كانوا تسعمائة. قوله: "قال هشام فأخبرني أبي" هو موصول بالإسناد المذكور أولا، وقد تقدم هذا القدر من هذا الحديث موصولا من طريق أخرى عن هشام في أوائل الهجرة. وفي رواية عبد الله بن نمير عن هشام عند مسلم قال: "قال سعد وتحجر كلمه للبرء: اللهم إنك تعلم إلخ" أي أنه دعا بذلك لما كاد جرحه أن يبرأ، ومعنى تحجر أي يبس. قوله: "فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم" قال بعض الشراح: ولم يصب في هذا الظن لما وقع من الحروب في الغزوات بعد ذلك، قال فيحمل على أنه دعا بذلك فلم تقع الإجابة وادخر له ما هو أفضل من ذلك كما ثبت في الحديث الآخر في دعاء المؤمن، أو أن سعدا أراد بوضع الحرب أي في تلك الغزوة الخاصة لا فيما بعدها. وذكر ابن التين عن الداودي أن الضمير لقريظة، قال ابن التين: وهو بعيد جدا لنصه على قريش. قلت: وقد تقدم الرد عليه أيضا في أول الهجرة في الكلام على هذا الحديث، والذي يظهر لي أن ظن سعد كان مصيبا. وأن دعاءه في هذه القصة كان مجابا، وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداء القصد فيها من المشركين، فإنه صلى الله عليه وسلم تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة وكاد الحرب أن يقع بينهم فلم يقع كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} ثم وقعت الهدنة واعتمر صلى الله عليه وسلم من قابل، واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد، فتوجه إليهم غازيا ففتحت مكة. فعلى هذا فالمراد بقوله: "أظن أنك وضعت الحرب" أي أن

(7/414)


يقصدونا محاربين، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي قريبا في أواخر غزوة الخندق "إلا أن نغزوهم ولا يغزوننا" قوله: "فأبقني له" أي للحرب، في رواية الكشميهني: "فأبقني لهم". قوله: "فافجرها" أي الجراحة. قوله: "فانفجرت من لبته" بفتح اللام وتشديد الموحدة هي موضع القلادة من الصدر، وهي رواية مسلم والإسماعيلي. وفي رواية الكشميهني: "من ليلته" وهو تصحيف. فقد رواه حماد بن سلمة عن هشام فقال في روايته: "فإذا لبته قد انفجرت من كلمه" أي من جرحه، أخرجه ابن خزيمة. وكان موضع الجرح ورم حتى اتصل الورم إلى صدره فانفجر من ثم. قوله: "فانفجرت" بين سبب ذلك في مرسل حميد بن هلال عند ابن سعد ولفظه: "أنه مرت به عنز وهو مضطجع فأصاب ظلفها موضع الجرح فانفجر حتى مات". قوله: "فلم يرعهم" بالمهملة أي أهل المسجد، أي لم يفزعهم. قوله: "وفي المسجد خيمة" هي جملة حالية. قوله: "خيمة من بني غفار" تقدم أن ابن إسحاق ذكر أن الخيمة كانت لرفيدة الأسلمية، فيحتمل أن تكون كان لها زوج من بني غفار. قوله: "يغذو" بغين وذال معجمتين أي يسيل. قوله: "فمات منها" في رواية ابن خزيمة في آخر هذه القصة "فإذا الدم له هدير" ووقع في رواية علقمة بن وقاص عن عائشة عند أحمد "فانفجر كلمه وكان قد برئ إلا مثل الخرص" وهو بضم المعجمة وسكون الراء ثم مهملة، وهو من حلي الأذن. ولمسلم من طريق عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة" فما زال الدم يسيل حتى مات". قال فذلك حين يقول الشاعر:
ألا يا سعد سعد بني معاذ ... لما فعلت قريظة والنضير
لعمرك إن سعد بني معاذ ... غداة تحملوا لهم الصبور
تركتم قدركم لا شيء فيها ... وقدر القوم حامية تفور
وقد قال الكريم أبو حباث ... أقيموا قينقاع ولا تسيروا
وقد كانوا ببلدتهم ثفالا ... كما ثفلت بميطان الصخور
وقوله: "أبو حباث" بضم المهملة وتخفيف الموحدة وآخرها مثلثة هو عبد الله بن أبي رئيس الخزرج، وكان شفع في بني قينقاع فوهبهم النبي صلى الله عليه وسلم له وكانوا حلفاءه، وكانت قريظة حلفاء سعد بن معاذ فحكم بقتلهم فقال هذا الشاعر يوبخه بذلك. وقوله: "تركتم قدركم" أراد به ضرب المثل، وميطان موضع في بلاد مزينة من الحجاز كثير الأوعار، وأشار بذلك إلى أن بني قريظة كانوا في بلادهم راسخين من كثرة ما لهم من القوة والنجدة والمال، كما رسخت الصخور بتلك البلدة. وذكر ابن إسحاق أن هذه الأبيات لجبل بن جوال الثعلبي وهو بفتح الجيم والموحدة وأبوه بالجيم وتشديد الواو والثعلبي بمثلثة ومهملة ثم موحدة، ووقع عنده بدل قوله: "وقد قال الكريم" البيت:
وأما الخزرجي أبو حباث ... فقال لقينقاع لا تسيروا
وزاد فيها أبياتا منها:
أقيموا يا سراة الأوس فيها ... كأنكم من المخزاة غور
وأراد بذلك توبيخ سعد بن معاذ لأنه رئيس الأوس، وكان جبل بن جوال حينئذ كافرا. ولعل قصيدة كعب بن مالك التي قدمناها في غزوة بني النضير كانت جوابا لجبل، والله أعلم. وذكر ابن إسحاق لحسان بن ثابت قصيدة

(7/415)


على هذا الوزن والقافية يقول فيها:
تفاقد معشر نصروا قريشا ... وليس لهم ببلدتهم نصير
وهم أوتوا الكتاب فضيعوه ... فهم عمي عن التوراة بور
وهي من جملة قصيدته التي تقدم بعضها في غزوة بني النضير، وأجابه أبو سفيان بن الحارث عنها. وفي قصة بني قريظة من الفوائد وخبر سعد بن معاذ جواز تمني الشهادة، وهو مخصوص من عموم النهي عن تمني الموت. وفيها تحكيم الأفضل من هو مفضول. وفيها جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي خلافية في أصول الفقه، والمختار الجواز سواء كان بحضور النبي صلى الله عليه وسلم أم لا، وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن مع إمكان القطع، ولا يضر ذلك، لأنه بالتقرير يصير قطعيا، وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته صلى الله عليه وسلم كما في هذه القصة وقصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قتيل أبي قتادة كما سيأتي في غزوة حنين وغير ذلك، وسيأتي مزيد له في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى.
4123- حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيٌّ أَنَّهُ سَمِعَ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِحَسَّانَ اهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ "
4124- وَزَادَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ قُرَيْظَةَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ اهْجُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ مَعَكَ "
الحديث السابع قوله: "عدي" هو ابن ثابت. قوله: "اهجهم أو هاجهم" بالشك، والثاني أخص من الأول. قوله: "وزاد إبراهيم بن طهمان" وصله النسائي وإسناده على شرط البخاري، وأبو إسحاق هو الشيباني واسمه سليمان، وزيادته في هذا الحديث معينة أن الأمر له بذلك وقع يوم قريظة، ووقع في حديث جابر رضي الله عنه عند ابن مردويه "لما كان يوم الأحزاب وردهم الله بغيظهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يحمي أعراض المسلمين؟ فقام كعب وابن رواحة وحسان، فقال لحسان: اهجهم أنت فإنه سيعينك عليهم روح القدس " فهذا يؤيد زيادة الشيباني المذكورة، فإن يوم بني قريظة مسبب عن يوم الأحزاب والله أعلم. ولا مانع أن يتعدد وقوع الأمر له بذلك. وأورد ابن إسحاق لحسان في شأن بني قريظة عدة قصائد وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في الحديث الذي قبله.

(7/416)


31 - باب غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ
"وَهِيَ غَزْوَةُ مُحَارِبِ خَصَفَةَ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطَفَانَ فَنَزَلَ نَخْلًا وَهِيَ بَعْدَ خَيْبَرَ لِأَنَّ أَبَا مُوسَى جَاءَ بَعْدَ خَيْبَرَ"
4125- و قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي الْخَوْفِ فِي غَزْوَةِ السَّابِعَةِ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ قَالَ ابْنُ

(7/416)


عَبَّاسٍ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوْفَ بِذِي قَرَدٍ"
[الحديث 4125- أطرافه في: 4137,4130,4127,4126]
4126- وَقَالَ بَكْرُ بْنُ سَوَادَةَ حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ جَابِرًا حَدَّثَهُمْ "صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ يَوْمَ مُحَارِبٍ وَثَعْلَبَةَ"
4127- وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ سَمِعْتُ جَابِرًا "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ فَلَقِيَ جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ فَلَمْ يَكُنْ قِتَالٌ وَأَخَافَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْ الْخَوْفِ"
وَقَالَ يَزِيدُ عَنْ سَلَمَةَ "غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقَرَدِ"
4128- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا وَنَقِبَتْ قَدَمَايَ وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي وَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ مِنْ الْخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا وَحَدَّثَ أَبُو مُوسَى بِهَذَا ثُمَّ كَرِهَ ذَاكَ قَالَ مَا كُنْتُ أَصْنَعُ بِأَنْ أَذْكُرَهُ كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ".
قوله: "باب غزوة ذات الرقاع" هذه الغزوة اختلف فيها متى كانت، واختلف في سبب تسميتها بذلك. وقد جنح البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدل لذلك في هذا الباب بأمور سيأتي الكلام عليها مفصلا، ومع ذلك فذكرها قبل خيبر فلا أدري هل تعمد ذلك تسليما لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها كما سيأتي، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين كما أشار إليه البيهقي، على أن أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون في زمانها، فعند ابن إسحاق أنها بعد بني النضير وقبل الخندق سنة أربع، قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بني النضير شهر ربيع وبعض جمادى - يعني من سنته - وغزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، حتى نزل نخلا وهي غزوة ذات الرقاع. وعند ابن سعد وابن حبان أنها كانت في المحرم سنة خمس، وأما أبو معشر فجزم بأنها كانت بعد بني قريظة والخندق، وهو موافق لصنيع المصنف، وقد تقدم أن غزوة قريظة كانت في ذي القعدة سنة خمس فتكون ذات الرقاع في آخر السنة وأول التي تليها، وأما موسى بن عقبة فجزم بتقديم وقوع غزوة ذات الرقاع، لكن تردد في وقتها فقال: لا ندري كانت قبل بدر أو بعدها أو قبل أحد أو بعدها، وهذا التردد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به أنها بعد غزوه بني قريظة، لأنه تقدم أن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فدل على تأخرها بعد الخندق، وسأذكر بيان ذلك واضحا في الكلام على رواية هشام عن أبي الزبير عن جابر في هذا الباب إن شاء الله تعالى. قوله: "وهي غزوة محارب خصفة" كذا فيه، وهو متابع في ذلك لرواية مذكورة

(7/417)


في أواخر الباب، وخصفة بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة ثم الفاء هو ابن قيس بن عيلان بن إلياس بن مضر، ومحارب هو ابن خصفة، والمحاربيون من قيس ينسبون إلى محارب بن خصفة هذا، وفي مضر محاربيون أيضا لكونهم ينسبون إلى محارب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة من إلياس بن مضر، وهم بطن من قريش منهم حبيب بن مسلمة الذي ذكره في أواخر غزوة الخندق. ولم يحرر الكرماني في هذا الموضع فإنه قال: قوله محارب هي قبيلة من فهر، وخصفة هو ابن قيس بن عيلان. وفي شرح قول البخاري محارب خصفة بهذا الكلام من الفساد ما لا يخفى، ويوضحه أن بني فهر لا ينسبون إلى قيس بوجه، نعم وفي العرنيين محارب بن صباح، وفي عبد القيس محارب بن عمرو ذكر ذلك الدمياطي وغيره، فلهذه النكتة أضيفت محارب إلى خصفة لقصد التمييز عن غيرهم من المحاربيين، كأنه قال محارب الذين ينسبون إلى خصفة لا الذين ينسبون إلى فهر ولا غيرهم. قوله: "من بني ثعلبة بن غطفان" بفتح الغين المعجمة والطاء المهملة بعدها فاء، كذا وقع فيه، وهو يقتضي أن ثعلبة جد لمحارب وليس كذلك. ووقع في رواية القابسي "خصفة بن ثعلبة "وهو أشد في الوهم، والصواب ما وقع عند ابن إسحاق وغيره: "وبني ثعلبة" بواو العطف فإن غطفان هو ابن سعد بن قيس بن عيلان، فمحارب وغطفان ابنا عم فكيف يكون الأعلى منسوبا إلى الأدنى؟ وسيأتي في الباب من حديث جابر بلفظ: "محارب وثعلبة" بواو العطف على الصواب. وفي قوله: "ثعلبة بن غطفان" بباء موحدة ونون نظر أيضا. والأولى ما وقع عند ابن إسحاق "وبني ثعلبة من غطفان" بميم ونون فإنه ثعلبة بن سعد بن دينار بن معيص بن ريث بن غطفان، على أن لقوله: "ابن غطفان" وجها بأن يكون نسبه إلى جده الأعلى، وسيأتي في الباب من رواية بكر بن سوادة "يوم محارب وثعلبة" فغاير بينهما، وليس في جميع العرب من ينسب إلى بني ثعلبة بالمثلثة والمهملة الساكنة واللام المفتوحة بعدها موحدة إلا هؤلاء، وفي بني أسد بنو ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة وهم قليل. والثعلبيون يشتبهون بالتغلبيين بالمثناة ثم المعجمة واللام المكسورة فأولئك قبائل أخرى ينسبون إلى تغلب بن وائل أخي بكر بن وائل وهم من ربيعة إخوة مضر. قوله: "فنزل" أي النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "نخلا" هو مكان من المدينة على يومين، وهو بواد يقال له شرخ بشين معجمة بعدها مهملة ساكنة ثم خاء معجمة، وبذلك الوادي طوائف من قيس من بني فزارة وأنمار وأشجع، ذكره أبو عبيد البكري. "تنبيه": جمهور أهل المغازي على أن غزوة ذات الرقاع هي غزوة محارب كما جزم به ابن إسحاق، وعند الواقدي أنهما ثنتان، وتبعه القطب الحلبي في شرح السيرة، والله أعلم بالصواب. قوله: "وهي" أي هذه الغزوة "بعد خيبر، لأن أبا موسى جاء بعد خيبر" هكذا استدل به، وقد ساق حديث أبي موسى بعد قليل، وهو استدلال صحيح، وسيأتي الدليل على أن أبا موسى إنما قدم من الحبشة بعد فتح خيبر في "باب غزوة خيبر" ففيه في حديث طويل "قال أبو موسى: فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر" وإذا كان كذلك ثبت أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع، ولزم أنها كانت بعد خيبر. وعجبت من ابن سيد الناس كيف قال: جعل البخاري حديث أبي موسى هذا حجة في أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر، قال: وليس في خبر أبي موسى ما يدل على شيء من ذلك انتهى. وهذا النفي مردود والدلالة من ذلك واضحة كما قررته. وأما شيخه الدمياطي فادعى غلط لحديث الصحيح، وأن جميع أهل السير على خلافه، وقد قدمت أنهم مختلفون في زمانها، فالأولى الاعتماد على ما ثبت في الحديث الصحيح، وقد ازداد قوة بحديث أبي هريرة وبحديث ابن عمر كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقد قيل إن الغزوة التي شهدها أبو موسى

(7/418)


وسميت ذات الرقاع غير غزوة ذات الرقاع التي وقعت فيها صلاة الخوف، لأن أبا موسى قال في روايته أنهم كانوا ستة أنفس، والغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف كان المسلمون فيها أضعاف ذلك، والجواب عن ذلك أن العدد الذي ذكره أبو موسى محمول على من كان موافقا له من الرامة لا أنه أراد جميع من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل على التعدد أيضا بقول أبي موسى إنها سميت ذات الرقاع لما لفوا في أرجلهم من الخرق، وأهل المغازي ذكروا في تسميتها بذلك أمورا غير هذا، قال ابن هشام وغيره: سميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، وقيل: بشجر بذلك الموضع يقال له ذات الرقاع، وقيل: بل الأرض التي كانوا نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرقاع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض قاله ابن حبان. وقال الواقدي: سميت بجبل هناك فيه بقع، وهذا لعله مستند ابن حبان ويكون قد تصحف جبل بخيل، وبالجملة فقد اتفقوا على غير السبب الذي ذكره أبو موسى، لكن ليس ذلك مانعا من اتحاد الواقعة ولازما للتعدد، وقد رجح السهيلي السبب الذي ذكره أبو موسى، وكذلك النووي ثم قال: ويحتمل أن تكون سميت بالمجموع، وأغرب الداودي فقال: سميت ذات الرقاع لوقوع صلاة الخوف فيها فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها. ومما يدل على التعدد أنه لم يتعرض أبو موسى في حديثه إلى أنهم صلوا صلاة الخوف ولا أنهم لقوا عدوا، ولكن عدم الذكر لا يدل على عدم الوقوع، فإن أبا هريرة في ذلك نظير أبي موسى لأنه إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر كما سيأتي هناك، ومع ذلك فقد ذكر في حديثه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في غزوة نجد كما سيأتي في أواخر هذا الباب واضحا، وكذلك عبد الله بن عمر ذكر أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بنجد، وقد تقدم أن أول مشاهده الخندق فتكون ذات الرقاع بعد الخندق. قوله: "وقال لي عبد الله بن رجاء" كذا لأبي ذر، ولغيره: "قال عبد الله بن رجاء" ليس فيه: "لي" وعبد الله بن رجاء هذا هو الغداني البصري قد سمع منه البخاري، وأما عبد الله بن رجاء المكي فلم يدركه. وقد وصله أبو العباس السراج في مسنده المبوب فقال: "حدثنا جعفر بن هاشم حدثنا عبد الله بن رجاء" فذكره. قوله: "أخبرنا عمران القطان" هو بصري لم يخرج له البخاري إلا استشهادا. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف" زاد السراج أربع ركعات، صلى بهم ركعتين ثم ذهبوا ثم جاء أولئك فصلى بهم ركعتين. وسيأتي في آخر الباب من وجه آخر عن يحيى بن أبي كثير بسنده، وهذا بزيادة فيه، وذلك كله في غزوة ذات الرقاع. ولجابر حديث آخر فيه ذكر صلاة الخوف على صفة أخرى، وسيأتي الكلام فيه قريبا. قوله: "في غزوة السابعة" هي من إضافة الشيء إلى نفسه على رأي، أو فيه حذف تقديره غزوة السفرة السابعة. وقال الكرماني وغيره غزوة السنة السابعة أي من الهجرة. قلت: وفي هذا التقدير نظر، إذ لو كان مرادا لكان هذا نصا في أن غزوة ذات الرقاع تأخرت بعد خيبر، ولم يحتج المصنف إلى تكلف الاستدلال لذلك بقصة أبي موسى وغير ذلك مما ذكره في الباب. نعم في التنصيص على أنها سابع غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم تأييد لما ذهب إليه البخاري من أنها بعد خيبر، فإنه إن كان المراد الغزوات التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه مطلقا وإن لم يقاتل فإن السابعة منها تقع قبل أحد، ولم يذهب أحد إلى أن ذات الرقاع قبل أحد إلا ما تقدم من تردد موسى بن عقبة، وفيه نظر لأنهم متفقون على أن صلاة الخوف متأخرة عن غزوة الخندق، فتعين أن تكون ذات الرقاع بعد بني قريظة فتعين أن المراد الغزوات التي وقع فيها القتال، والأولى منها بدر والثانية أحد والثالثة الخندق والرابعة قريظة والخامسة المريسيع والسادسة خيبر، فيلزم من هذا أن تكون ذات الرقاع بعد

(7/419)


خيبر للتنصيص على أنها السابعة، فالمراد تاريخ الوقعة لا عدد المغازي، وهذه العبارة أقرب إلى إرادة السنة من العبارة التي وقعت عند أحمد بلفظ: "وكانت صلاة الخوف في السابعة" فإنه يصح أن يكون التقدير في الغزوة السابعة كما يصح في غزوة السنة السابعة. قوله: "وقال ابن عباس: صلى النبي صلى الله عليه وسلم - يعني صلاة الخوف - بذي قرد" بفتح القاف والراء هو موضع على نحو يوم من المدينة مما يلي بلاد غطفان، وحديث ابن عباس هذا وصله النسائي والطبراني من طريق أبي بكر بن أبي الجهم عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد صلاة الخوف مثل صلاة حذيفة" وأخرجه أحمد وإسحاق من هذا الوجه بلفظ: "فصف الناس خلفه صفين: صف موازي العدو وصف خلفه. فصلى بالذي يليه ركعة ثم ذهبوا إلى مصاف الآخرين، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة أخرى" انتهى. وقد تقدم حديث ابن عباس في "باب صلاة الخوف" من طريق الزهري عن عبيد الله به نحو هذا، لكن ليس فيه: "بذي قرد" وزاد فيه: "والناس كلهم في صلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضا" وحمله الجمهور على أن العدو كانوا في جهة القبلة كما سيأتي بعد قليل. وهذه الصفة تخالف الصفة التي وصفها جابر، فيظهر أنهما قصتان، لكن البخاري أراد من إيراد حديث ابن عباس وحديث سلمة بن الأكوع الموافق له في تسميته الغزوة الإشارة أيضا إلى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد خيبر، لأن في حديث سلمة التنصيص على أنها كانت بعد الحديبية، وخيبر كانت قرب الحديبية، لكن يعكر عليه اختلاف السبب والقصد، فإن سبب غزوة ذات الرقاع ما قيل لهم إن محارب يجمعون لهم فخرجوا إليهم إلى بلاد غطفان، وسبب غزوة القرد إغارة عبد الرحمن بن عيينة على لقاح المدينة فخرجوا في آثارهم، ودل حديث سلمة على أنه بعد أن هزمهم وحده واستنقذ اللقاح منهم أن المسلمين لم يصلوا في تلك الخرجة إلى بلاد غطفان فافترقا، وأما الاختلاف في كيفية صلاة الخوف بمجرده فلا يدل على التغاير لاحتمال أن تكون وقعت في الغزوة الواحدة على كيفيتين في صلاتين في يومين بل في يوم واحد. قوله: "وقال بكر بن سوادة: حدثني زياد بن نافع عن أبي موسى أن جابرا حدثهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يوم محارب وثعلبة" أما بكر بن سوادة فهو الجذامي المصري يكنى أبا ثمامة، وكان أحد الفقهاء بمصر، وأرسله عمر بن عبد العزيز إلى أهل إفريقية ليفقههم فمات بها سنة ثمان وعشرين ومائة. وثقه ابن معين والنسائي، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق، وقد وصله سعيد بن منصور والطبري من طريقه بهذا الإسناد. وأما زياد بن نافع فهو التجيبي المصري تابعي صغير، وليس له أيضا في البخاري سوى هذا الموضع، وأما أبو موسى فيقال إنه علي بن رباح، وهو تابعي معروف أخرج له مسلم، ويقال هو الغافقي واسمه مالك بن عبادة وهو صحابي معروف أيضا ويقال أنه مصري لا يعرف اسمه، وليس له في البخاري أيضا إلا هذا الموضع. وقوله: "يوم محارب وثعلبة" يؤيد ما وقع من الوهم في أول الترجمة. قوله: "وقال ابن إسحاق سمعت وهب بن كيسان سمعت جابرا قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذات الرقاع من نخل فلقي جمعا من غطفان إلخ" لم أر هذا الذي ساقه عن ابن إسحاق هكذا في شيء من كتب المغازي ولا غيرها، والذي في السير تهذيب ابن هشام" قال ابن إسحاق حدثني وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي صعب" فساق قصة الجمل. وكذلك أخرجه أحمد من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق. وقال ابن إسحاق قبل ذلك "وغزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلا وهي غزوة ذات الرقاع فلقي بها جمعا من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب، وقد أخاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(7/420)


بالناس صلاة الخوف ثم انصرف الناس" وهذا القدر هو الذي ذكره البخاري تعليقا مدرجا بطريق وهب بن كيسان عن جابر، وليس هو عند ابن إسحاق عن وهب كما أوضحته إلا أن يكون البخاري اطلع على ذلك من وجه آخر لم نقف عليه، أو في النسخة تقديم وتأخير فظنه موصولا بالخبر المسند، فالله أعلم. ولم أر من نبه على ذلك في هذا الموضع. ونخل بالخاء المعجمة كما تقدم: موضع من نجد من أراضي غطفان، قال أبو عبيدة البكري: لا يصرف وغفل من قال إن المراد نخل بالمدينة، واستدل به على مشروعية صلاة الخوف في الحضر، وليس كما قال. وصلاة الخوف في الحضر قال بها الشافعي والجمهور إذا حصل الخوف، وعن مالك تختص بالسفر، والحجة للجمهور قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} فلم يقيد ذلك بالسفر، والله أعلم. قوله: "وقال يزيد عن سلمة: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم القرد" أما يزيد فهو ابن أبي عبيد، وأما سلمة فهو ابن الأكوع، وسيأتي حديثه هذا موصولا قبل غزوة خيبر، وترجم له المصنف" غزوة ذي قرد وهي الغزوة التي أغاروا فيها على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم ساقه مطولا، وليس فيه لصلاة الخوف ذكر، وإنما ذكره هنا من أجل حديث ابن عباس المذكور قبل أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بذي قرد، ولا يلزم من ذكر ذي قرد في الحديثين أن تتحد القصة، كما لا يلزم من كونه صلى الله عليه وسلم صلى الخوف في مكان أن لا يكون صلاها في مكان آخر، قال البيهقي: الذي لا نشك فيه أن غزوة ذي قرد كانت بعد الحديبية وخيبر، وحديث سلمة بن الأكوع مصرح بذلك، وأما غزوة ذات الرقاع فمختلف فيها، فظهر تغاير القصتين كما حررته واضحا. قوله: "عن أبي موسى" هو الأشعري. قوله: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن في ستة نفر" لم أقف على أسمائهم وأظنهم من الأشعريين. قوله: "بيننا بعير نعتقبه" أي نركبه عقبة عقبة، وهو أن يركب هذا قليلا ثم ينزل فيركب الآخر بالنوبة حتى يأتي على سائرهم. قوله: "فنقبت أقدامنا" بفتح النون وكسر القاف بعدها موحدة أي رقت، يقال نقب البعير إذا رق خفه. قوله: "لما كنا" أي من أجل ما فعلناه من ذلك. قوله: "نعصب" بفتح أوله وكسر الصاد المهملة. قوله: "وحدث أبو موسى بهذا" هو موصول بالإسناد المذكور، وهو مقول أبي بردة بن أبي موسى. قوله: "كره ذلك" أي لما خاف من تزكية نفسه. قوله: "كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه" وذكر أن كتمان العمل الصالح أفضل من إظهاره، إلا لمصلحة راجحة كمن يكون ممن يقتدي به وعند الإسماعيلي في رواية منقطعة قال: والله يجزي به.
4129- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَمَّنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَّى صَلاَةَ الْخَوْفِ "أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ الْعَدُوِّ فَصَلَّى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلاَتِهِ ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ"
4130- وَقَالَ مُعَاذٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَخْلٍ فَذَكَرَ صَلاَةَ الْخَوْفِ قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ"
تَابَعَهُ اللَّيْثُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَهُ "صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي أَنْمَارٍ"

(7/421)


4131- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ يَقُومُ الإِمَامُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ قِبَلِ الْعَدُوِّ وُجُوهُهُمْ إِلَى الْعَدُوِّ فَيُصَلِّي بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ يَقُومُونَ فَيَرْكَعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً وَيَسْجُدُونَ سَجْدَتَيْنِ فِي مَكَانِهِمْ ثُمَّ يَذْهَبُ هَؤُلاَءِ إِلَى مَقَامِ أُولَئِكَ فَيَرْكَعُ بِهِمْ رَكْعَةً فَلَهُ ثِنْتَانِ ثُمَّ يَرْكَعُونَ وَيَسْجُدُونَ سَجْدَتَيْنِ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ يَحْيَى سَمِعَ الْقَاسِمَ أَخْبَرَنِي صَالِحُ بْنُ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلٍ حَدَّثَهُ قَوْلَهُ
4132- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ فَصَافَفْنَا لَهُمْ"
4133- حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين, والطائفة الأخرى مواجهة العدو, ثم انصرفوا فقاموا في مقام أصحابهم,فجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم سلم عليهم ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم وقام هؤلاء فقضو ركعتهم"
قوله: "عن صالح بن خوات" بفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو وآخره مثناة أي ابن جبير بن النعمان الأنصاري، وصالح تابعي ثقة ليس له في البخاري إلا هذا الحديث الواحد، وأبوه أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وهو صحابي جليل أول مشاهده أحد ومات بالمدينة سنة أربعين. قوله: "عمن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف" قيل إن اسم هذا المبهم سهل ابن أبي حثمة، لأن القاسم بن محمد روى حديث صلاة الخوف عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة، وهذا هو الظاهر من رواية البخاري، ولكن الراجح أنه أبوه خوات بن جبير، لأن أبا أويس روى هذا الحديث عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه فقال: "عن صالح بن خوات عن أبيه" أخرجه ابن منده في "معرفة الصحابة" من طريقه، وكذلك أخرجه البيهقي من طريق عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن أبيه، وجزم النووي في تهذيبه بأنه خوات بن جبير وقال: أنه محقق من رواية مسلم وغيره. قلت: وسبقه لذلك الغزالي فقال: إن صلاة ذات الرقاع في رواية خوات بن جبير. وقال الرافعي في شرح الوجيز اشتهر هذا في كتب الفقه، والمنقول في كتب الحديث رواية صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة وعمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: فلعل المبهم هو خوات والد صالح. قلت: وكأنه لم يقف على رواية خوات التي ذكرتها وبالله التوفيق. ويحتمل أن صالحا سمعه من أبيه ومن سهل بن أبي حثمة فلذلك يبهمه تارة ويعينه أخرى، إلا أن تعيين كونها كانت ذات الرقاع إنما هو في روايته عن أبيه وليس في رواية صالح عن سهل أنه صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وينفع هذا فيما سنذكره قريبا من استبعاد أن يكون سهل بن أبي حثمة كان في سن من يخرج في تلك الغزاة، فإنه لا يلزم من ذلك أن لا يرويها فتكون روايته إياها مرسل صحابي،

(7/422)


فبهذا يقوى تفسير الذي صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم بخوات والله أعلم. قوله: "أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو" وجاه بكسر الواو وبضمها أي مقابل. قوله: "فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت وأتموا لأنفسهم" هذه الكيفية تخالف الكيفية التي تقدمت عن جابر في عدد الركعات، وتوافق الكيفية التي تقدمت عن ابن عباس في ذلك، لكن تخالفها في كونه صلى الله عليه وسلم ثبت قائما حتى أتمت الطائفة لأنفسها ركعة أخرى، وفي أن الجميع استمروا في الصلاة حتى سلموا بسلام النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقال معاذ حدثنا هشام" كذا للأكثر، وعند النسفي "وقال معاذ بن هشام حدثنا هشام" وفيه رد على أبي نعيم ومن تبعه في الجزم بأن معاذا هذا هو ابن فضالة شيخ البخاري، ومعاذ بن هشام ثقة صاحب غرائب، وقد تابعه ابن علية عن أبيه هشام وهو الدستوائي أخرجه الطبري في تفسيره، وكذلك أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن هشام عن أبي الزبير، ولمعاذ بن هشام عن أبيه فيه إسناد آخر أخرجه الطبري عن بندار عن معاذ بن هشام عن أبيه عن سليمان اليشكري عن جابر، وسأذكر ما في رواياتهم من الاختلاف قريبا إن شاء الله تعالى. قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بنخل فذكر صلاة الخوف" أورده مختصرا معلقا لأن غرضه الإشارة إلى أن روايات جابر متفقة على أن الغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف هي غزوة ذات الرقاع، لكن فيه نظر لأن سياق رواية هشام عن أبي الزبير هذه تدل على أنه حديث آخر في غزوة أخرى، وبيان ذلك أن في هذا الحديث عند الطيالسي وغيره: "أن المشركين قالوا: دعوهم فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم. قال فنزل جبريل فأخبره، فصلى بأصحابه العصر، وصفهم صفين" فذكر صفة صلاة الخوف، وهذه القصة إنما هي في غزوة عسفان، وقد أخرج مسلم هذا الحديث من طريق زهير بن معاوية عن أبي الزبير بلفظ يدل على مغايرة هذه القصة لغزوة محارب في ذات الرقاع، ولفظه عن جابر قال: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم قوما من جهينة، فقاتلونا قتالا شديدا، فلما أن صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة واحدة لأفظعناهم، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال وقالوا: ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد" فذكر الحديث. وروى أحمد والترمذي وصححه النسائي من طريق عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضبحان وعسفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم" فذكر الحديث في نزول جبريل لصلاة الخوف، وروى أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان من حديث أبي عياش الزرقي قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان فصلى بنا الظهر وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد، فقالوا: لقد أصبنا منهم غفلة، ثم قال: إن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم، فنزلت صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى بنا العصر ففرقنا فرقتين" الحديث وسياقه نحو رواية زهير عن أبي الزبير عن جابر، وهو ظاهر في اتحاد القصة. وقد روى الواقدي من حديث خالد بن الوليد قال: "لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية لقيته بعسفان فوقفت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر، فهممنا أن نغير عليهم فلم يعزم لنا، فأطلع الله نبيه على ذلك فصلى بأصحابه العصر صلاة الخوف" الحديث، وهو ظاهر فيما قررته أن صلاة الخوف بعسفان غير صلاة الخوف بذات الرقاع، وأن جابرا روى القصتين معا. فأما رواية أبي الزبير عنه ففي قصة عسفان، وأما رواية أبي سلمة ووهب بن كيسان وأبي موسى المصري عنه ففي غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب وثعلبة، وإذا تقرر أن أول ما صليت صلاة الخوف في عسفان وكانت في عمرة الحديبية وهي بعد الخندق وقريظة وقد صليت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع وهي بعد عسفان فتعين تأخرها

(7/423)


عن الخندق وعن قريظة وعن الحديبية أيضا، فيقوى القول بأنها بعد خيبر، لأن غزوة خيبر كانت عقب الرجوع من الحديبية، وأما قول الغزالي إن غزوة ذات الرقاع آخر الغزوات فهو غلط واضح، وقد بالغ ابن الصلاح في إنكاره. وقال بعض من انتصر للغزالي: لعله أراد آخر غزوة صليت فيها صلاة الخوف، وهذا انتصار مردود أيضا، لما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أبي بكرة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، وإنما أسلم أبو بكرة في غزوة الطائف باتفاق، وذلك بعد غزوة ذات الرقاع قطعا، وإنما ذكرت هذا استطرادا لتكمل الفائدة. قوله: "قال مالك" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف" يقتضي أنه سمع في كيفيتها صفات متعددة، وهو كذلك، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة صلاة الخوف كيفيات حملها بعض العلماء على اختلاف الأحوال، وحملها آخرون على التوسع والتخيير، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في "باب صلاة الخوف" وما ذهب إليه مالك من ترجيح هذه الكيفية وافقه الشافعي وأحمد وداود على ترجيحها لسلامتها من كثرة المخالفة ولكونها أحوط لأمر الحرب، مع تجويزهم الكيفية التي في حديث ابن عمر. ونقل عن الشافعي أن الكيفية التي في حديث ابن عمر منسوخة ولم يثبت ذلك عنه، وظاهر كلام المالكية عدم إجازة الكيفية التي في حديث ابن عمر، واختلفوا في كيفية رواية سهل بن أبي حثمة في موضع واحد وهو أن الإمام هل يسلم قبل أن تأتي الطائفة الثانية بالركعة الثانية أو ينتظرها في التشهد ليسلموا معه؟ فبالأول قال المالكية، وزعم ابن حزم أنه لم يرد عن أحد من السلف القول بذلك والله أعلم. ولم تفرق المالكية والحنفية حيث أخذوا بالكيفية التي في هذا الحديث بين أن يكون العدو في جهة القبلة أم لا، وفرق الشافعي والجمهور فحملوا حديث سهل على أن العدو كان في غير جهة القبلة فلذلك صلى بكل طائفة وحدها جميع الركعة، وأما إذا كان العدو في جهة القبلة فعلى ما تقدم في حديث ابن عباس أن الإمام يحرم بالجميع ويركع بهم، فإذا سجد سجد معه صف وحرس صف إلخ. ووقع عند مسلم من حديث جابر "صفنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة" وقال السهيلي: اختلف العلماء في الترجيح، فقالت طائفة يعمل منها بما كان أشبه بظاهر القرآن. وقالت طائفة يجتهد في طلب الأخير منها فإنه الناسخ لما قبله. وقالت طائفة يؤخذ بأصحها نقلا وأعلاها رواة. وقالت طائفة يؤخذ بجميعها على حساب اختلاف أحوال الخوف، فإذا أشتد الخوف أخذ بأيسرها مؤنة، والله أعلم. قوله: "تابعه الليث عن هشام عن زيد بن أسلم أن القاسم بن محمد حدثه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمار" قلت: لم يظهر لي مراد البخاري بهذه المتابعة، لأنه إن أراد المتابعة في المتن لم يصح، لأن الذي قبله غزوة محارب وثعلبة بنخل، وهذه غزوة أنمار، ولكن يحتمل الاتحاد لأن ديار بني أنمار تقرب من ديار بني ثعلبة، وسيأتي بعد باب أن أنمار في قبائلهم منهم بطن من غطفان، وإن أراد المتابعة في الإسناد فليس كذلك، بل الروايتان متخالفتان من كل وجه: الأولى متصلة بذكر الصحابي وهذه مرسلة، ورجال الأولى غير رجال الثانية، ولعل بعض من لا بصر له بالرجال يظن أن هشاما المذكور قبل هو هشام المذكور ثانيا، وليس كذلك فإن هشاما الراوي عن أبي الزبير هو الدستوائي كما بينته قبل وهو بصري، وهشام شيخ الليث فيه هو ابن سعد وهو مدني، والدستوائي لا رواية له عن زيد بن أسلم ولا رواية لليث بن سعد عنه، وقد وصل البخاري في تاريخه هذا المعلق قال: "قال لي يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا الليث عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم سمع القاسم بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في غزوة بني أنمار نحوه" يعني نحو حديث صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة

(7/424)


في صلاة الخوف. قلت: فظهر لي من هذا وجه المتابعة، وهو أن حديث سهل بن أبي حثمة في غزوة ذات الرقاع متحد مع حديث جابر، لكن لا يلزم من اتحاد كيفية الصلاة في هذه وفي هذه أن تتحد الغزوة، وقد أفرد البخاري غزوة بني أنمار بالذكر كما سيأتي بعد باب. نعم ذكر الواقدي أن سبب غزوة ذات الرقاع أن أعرابيا قدم بجلب إلى المدينة فقال: إني رأيت ناسا من بني ثعلبة ومن بني أنمار وقد جمعوا لكم جموعا وأنتم في غفلة عنهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في أربعمائة ويقال سبعمائة، فعلى، هذا فغزوة بني أنمار متحدة مع غزوة بني محارب وثعلبة، وهي غزوة ذات الرقاع، والله أعلم. ويحتمل أن يكون موضع هذه المتابعة بعد حديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات فيكون متأخرا عنه، ويكون تقديمه من بعض النقلة عن البخاري، ويؤيد ذلك ما ذكرته عن تاريخ البخاري فإنه بين في ذلك، والله أعلم. قوله: "حدثنا يحيى عن يحيى" الأول هو ابن سعيد القطان وشيخه هو ابن سعيد الأنصاري، والقاسم بن محمد أي ابن أبي بكر الصديق، وصالح بن خوات تقدم التعريف به، ففي الإسناد ثلاثة من التابعين المدنيين في نسق: يحيى الأنصاري فمن فوقه وسهل بن أبي حثمة بفتح المهملة وسكون المثناة واسمه عبد الله وقيل عامر وقيل اسم أبيه عبد الله وأبو حثمة جده واسمه عامر بن ساعدة، وهو أنصاري من بني الحارث بن الخزرج، اتفق أهل العلم بالأخبار على أنه كان صغيرا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما ذكر ابن أبي حاتم عن رجل من ولد سهل أنه حدثه أنه بايع تحت الشجرة وشهد المشاهد إلا بدرا وكان الدليل ليلة أحد. وقد تعقب هذا جماعة من أهل المعرفة وقالوا: إن هذه الصفة لأبيه، وأما هو فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين، وممن جزم بذلك الطبري وابن حبان وابن السكن وغير واحد، وعلى هذا فتكون روايته لقصة صلاة الخوف مرسلة ويتعين أن يكون مراد صالح بن خوات ممن شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف غيره، والذي يظهر أنه أبوه كما تقدم والله أعلم. قوله: "يقوم الإمام" هذا ذكره موقوفا، وقد أخرجه المصنف بعد حديث من طريق ابن أبي حاتم واسمه عبد العزيز عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وأورده من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه مرفوعا. قوله: "عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله" أي مثل المتن الموقوف من رواية يحيى عن يحيى، وقد أورده مسلم وأبو داود من هذا الوجه بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف فصفهم خلفه صفين" فذكر الحديث، وهو مما يقوي ما قدمته أن سهل بن أبي حثمة لم يشهد ذلك وأن المراد بقول صالح بن خوات ممن شهد أبوه لا سهل والله أعلم. قوله: "أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فوازينا" بالزاي أي قاتلنا "العدو فصاففنا لهم" وقد تقدم في "باب صلاة الخوف" أن رواية الكشميهني: "فصففناهم" وكذا أخرجه أحمد عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه، وهكذا أورده البخاري من طريق شعيب هنا مقتصرا منها على هذا القدر، وعقبها بطريق معمر فلم يتعرض لصدر الحديث بل أوله "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين والطائفة الأخرى مواجهة العدو" الحديث، فأما رواية شعيب فتقدمت في "باب صلاة الخوف" تامة، وأما رواية معمر فأخرجها أبو داود عن مسدد شيخ البخاري فيه كذلك، ووقع في آخرها "ثم قام فقضوا ركعتهم، وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم" ولفظ القضاء فيها على معنى الأداء لا على معنى القضاء الاصطلاحي، وقد وقع في رواية شعيب "فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين" وهي تبين المراد في رواية ابن جريج عن الزهري عند أحمد نحوه، وقد تقدم الكلام على بقية هذا الحديث في "باب صلاة الخوف".

(7/425)


4134- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سِنَانٌ وَأَبُو سَلَمَةَ أَنَّ جَابِرًا أَخْبَرَ "أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ...."
4135- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَفَلَ مَعَهُ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ سَمُرَةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ قَالَ جَابِرٌ فَنِمْنَا نَوْمَةً ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا فَجِئْنَاهُ فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا فَقَالَ لِي مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قُلْتُ اللَّهُ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
4136- وَقَالَ أَبَانُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَاتِ الرِّقَاعِ فَإِذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَسَيْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلَّقٌ بِالشَّجَرَةِ فَاخْتَرَطَهُ فَقَالَ تَخَافُنِي قَالَ لاَ قَالَ فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ اللَّهُ فَتَهَدَّدَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعٌ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ وَقَالَ مُسَدَّدٌ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ اسْمُ الرَّجُلِ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ وَقَاتَلَ فِيهَا مُحَارِبَ خَصَفَةَ"
4137- وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَخْلٍ فَصَلَّى الْخَوْفَ" وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ نَجْدٍ صَلاَةَ الْخَوْفِ" وَإِنَّمَا جَاءَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ خَيْبَرَ.
قوله: "حدثني سنان وأبو سلمة" أما سنان فهو ابن أبي سنان الدؤلي كما في الرواية الثانية، والدؤلي بضم المهملة وفتح الهمزة، وهو مدني اسم أبيه يزيد بن أمية، وثقه العجلي وغيره وما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر من روايته عن أبي هريرة في الطب، وأما أبو سلمة فهو عبد الرحمن بن عوف كذا رواه شعيب عنهما، ورواه إبراهيم بن سعد كما تقدم في الجهاد فلم يذكر فيه أبا سلمة، وكذا رواه مسلم عن محمد بن جعفر الوركاني عن إبراهيم بن سعد، ورواه الحارث بن أبي أسامة عن محمد الوركاني هذا فأثبت فيه أبا سلمة، ورواه ابن أبي عتيق عن الزهري فلم يذكر أبا سلمة، ورواه معمر عن الزهري كما سيأتي بعد أحاديث قليلة فلم يذكر سنانا، فكأن الزهري كان تارة يجمعهما وتارة يفرد أحدهما. وإسماعيل في الرواية الثانية هو ابن أبي أويس،

(7/426)


وأخوه هو عبد الحميد، وسليمان شيخه هو ابن بلال، ومحمد بن أبي عتيق نسب إلى جده، فإن أبا عتيق هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ومحمد هذا الراوي هو ابن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، وقد ساق البخاري الحديث على لفظ ابن أبي عتيق فيه ذكر أبي سلمة، وذكر من طريق شعيب وهي عن سنان وأبي سلمة معا قطعة يسيرة، فإن جابرا أخبر أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، وتقدم في الجهاد عن أبي اليمان وحده بتمامه، ورأيتها موافقة لرواية ابن أبي عتيق إلا في آخره كما سأبينه. وأما رواية إبراهيم بن سعد ففيها اختصار. وقد رواه عن جابر أيضا سليمان بن قيس كما في رواية مسدد التي بعد هذه بحديث. ورواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة كما في الرواية المعلقة بعده، فذكر بعض ما في حديث الزهري وزاد قصة صلاة الخوف. قوله: "أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد" في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع". قوله: "فأدركتهم القائلة" أي وسط النهار وشدة الحر. قوله: "كثير العضاه" بكسر المهملة وتخفيف الضاد المعجمة: كل شجر يعظم له شوك، وقيل هو العظيم من السمر مطلقا، وقد تقدم غير مرة. قوله: "فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة" أي شجرة كثيرة الورق. وفي رواية معمر "فاستظل بها" ويفسره ما في رواية يحيى" فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "قال جابر" هو موصول بالإسناد المذكور، وسقط ذلك من رواية معمر. قوله: "فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئناه، فإذا عنده أعرابي" هذا السياق يفسر رواية يحيى، فإن فيها "فجاء رجل من المشركين إلخ" فبينت هذه الرواية أن هذا القدر لم يحضره الصحابة وإنما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن دعاهم واستيقظوا. قوله: "أعرابي جالس" في رواية معمر "فإذا أعرابي قاعد بين يديه" وسيأتي ذكر اسمه قريبا. قوله: "وهو في يده صلتا" بفتح المهملة وسكون اللام بعدها مثناة، أي مجردا عن غمده. قوله: "فقال لي: من يمنعك مني"؟ في رواية يحيى "فقال: تخافني؟ قال: لا. قال: فمن يمنعك مني "؟ وكرر ذلك في رواية أبي اليمان في الجهاد ثلاث مرات، وهو استفهام إنكار، أي لا يمنعك مني أحد، لأن الأعرابي كان قائما والسيف في يده والنبي صلى الله عليه وسلم جالس لا سيف معه. ويؤخذ من مراجعة الأعرابي له في الكلام أن الله سبحانه وتعالى منع نبيه صلى الله عليه وسلم منه، وإلا فما أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الحظوة عند قومه بقتله، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه "الله" أي يمنعني منك إشارة إلى ذلك، ولذلك أعادها الأعرابي فلم يزده على الجواب، وفي ذلك غاية التهكم به وعدم المبالاة به أصلا. قوله: "فها هو ذا جالس ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية يحيى بن أبي كثير "فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهرها يشعر بأنهم حضروا القصة وأنه إنما رجع عما كان عزم عليه بالتهديد، وليس كذلك، بل وقع في رواية إبراهيم بن سعد في الجهاد بعد قوله: قلت الله "فشام السيف" وفي رواية معمر "فشامه" والمراد أغمده، وهذه الكلمة من الأضداد، يقال شامه إذا استله وشامه إذا أغمده، قاله الخطابي وغيره، وكأن الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم وعرف أنه حيل بينه وبينه تحقق صدقه وعلم أنه لا يصل إليه فألقى السلاح وأمكن من نفسه. ووقع في رواية ابن إسحاق بعد قوله قال الله "فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك أنت مني؟ قال: لا أحد. قال: قم فاذهب لشأنك . فلما ولى قال: أنت خير مني" وأما قوله في الرواية: "فها هو جالس ثم لم يعاقبه" فيجمع مع رواية ابن إسحاق بأن قوله: "فاذهب" كان بعد أن أخبر الصحابة بقصته، فمن عليه لشدة رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في استئلاف الكفار ليدخلوا في

(7/427)


الإسلام، ولم يؤخذ بما صنع، بل عفا عنه. وقد ذكر الواقدي في نحو هذه القصة وأنه أسلم وأنه رجع إلى قومه فاهتدى به خلق كثير. ووقع في رواية ابن إسحاق التي أشرت إليها" ثم أسلم بعد". قوله: "وقال أبان" هو ابن يزيد العطار، وروايته هذه وصلها مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عنه بتمامه. قوله: "وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين إلخ" هذه الكيفية مخالفة للكيفية التي في طريق أبي الزبير عن جابر، وهو مما يقوي أنهما واقعتان. قوله: "وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث، وقاتل فيها محارب خصفة" هكذا أورده مختصرا من الإسناد ومن المتن، فأما الإسناد فأبو عوانة هو الوضاح البصري وأما أبو بشر فهو جعفر بن أبي وحشية، وبقية الإسناد ظاهر فيما أخرجه مسدد في مسنده رواية معاذ بن المثنى عنه، وكذلك أخرجها إبراهيم الحربي في كتاب "غريب الحديث: "له عن مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر عن سليمان بن قيس عن جابر، وأما المتن فتمامه عن جابر قال: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفه بنخل فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف" فذكره وفيه: "فقال الأعرابي: غير أني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله. فجاء إلى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس. فلما حضرت الصلاة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس". الحديث. وغورث وزن جعفر وقيل بضم أوله وهو بغين معجمة وراء ومثلثة مأخوذ من الغرث وهو الجوع، ووقع عند الخطيب بالكاف بدل المثلثة، وحكى الخطابي فيه غويرث بالتصغير، وحكى عياض أن بعض المغاربة قال في البخاري بالعين المهملة قال: وصوابه بالمعجمة. ومحارب خصفة تقدم بيانه في أول الباب. ووقع عند الواقدي في سبب هذه القصة أن اسم الأعرابي دعثور وأنه أسلم، لكن ظاهر كلامه أنهما قصتان في غزوتين فالله أعلم. وفي الحديث فرط شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوة يقينه وصبره على الأذى وحلمه عن الجهال. وفيه جواز تفرق العسكر في النزول ونومهم، وهذا محله إذا لم يكن هناك ما يخافون منه. قوله: "وقال أبو الزبير عن جابر: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخل فصلى الخوف" تقدمت الإشارة إلى ذكر من وصله قبل مع التنبيه على ما فيه من المغايرة. قوله: "وقال أبو هريرة صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة نجد صلاة الخوف" وصله أبو داود وابن حبان والطحاوي من طريق أبي الأسود أنه سمع عروة يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة هل صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال هريرة: نعم قال مروان: متى؟ قال: عام غزوة نجد. قوله: "وإنما جاء أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيام خيبر" يريد بذلك تأكيد ما ذهب إليه من أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد خيبر. لكن لا يلزم من كون الغزوة كانت من جهة نجد أن لا تتعدد، فإن نجدا وقع القصد إلى جهتها في عدة غزوات، وقد تقدم تقرير كون جابر روى قصتين في صلاة الخوف بما يغني عن إعادته، فيحتمل أن يكون أبو هريرة حضر التي بعد خيبر لا التي قبل خيبر.

(7/428)


باب غزوة بني المصطلق من خزاعة المريسيع
...
32 - باب غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ
وَهِيَ غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: "وَذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ" وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: "سَنَةَ أَرْبَعٍ" وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ: "كَانَ حَدِيثُ الإِفْكِ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ"
4138- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى

(7/428)


بْنِ حَبَّانَ عَنْ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّهُ قَالَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْعَزْلِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ فَأَرَدْنَا أَنْ نَعْزِلَ وَقُلْنَا نَعْزِلُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ "
4139- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ نَجْدٍ فَلَمَّا أَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ وَهُوَ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَاسْتَظَلَّ بِهَا وَعَلَّقَ سَيْفَهُ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الشَّجَرِ يَسْتَظِلُّونَ وَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْنَا فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ قَاعِدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ إِنَّ هَذَا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاخْتَرَطَ سَيْفِي فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي مُخْتَرِطٌ صَلْتًا قَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قُلْتُ اللَّهُ فَشَامَهُ ثُمَّ قَعَدَ فَهُوَ هَذَا قَالَ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"

(7/429)


33 - باب غَزْوَةِ أَنْمَارٍ
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُرَاقَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ أَنْمَارٍ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا قِبَلَ الْمَشْرِقِ مُتَطَوِّعًا".
قوله: "باب" هكذا وقع هنا، وذكر ما يتعلق بها. ثم أورد حديث أبي سعيد في العزل ثم قال بعد ذلك "حدثني محمود "يعني ابن غيلان" حدثنا عبد الرزاق" فذكر حديث جابر في غزوة نجد، وفيه قصة الأعرابي، وهذا محله في غزوة ذات الرقاع. وقد وقع في رواية أبي ذر عن المستملي: "في غزوة ذات الرقاع" وهو أنسب. ثم ذكر بعد هذه ترجمة وهي غزوة أنمار ذكر فيها حديث جابر "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أنمار يصلي على راحلته" وهذا الحديث قد تقدم في "باب قصر الصلاة" وكان محل هذا قبل غزوة بني المصطلق لأنه عقبه بترجمة حديث الإفك والإفك كان في غزوة بني المصطلق فلا معنى لإدخال غزوة أنمار بينهما، بل غزوة أنمار يشبه أن تكون هي غزوة محارب وبني ثعلبة، لما تقدم من قول أبي عبيد: إن الماء لبني أشجع وأنمار وغيرهما من قيس، والذي يظهر أن التقديم والتأخير في ذلك من النساخ والله أعلم. ولم يذكر أهل المغازي غزوة أنمار، وذكر مغلطاي أنها غزوة أمر بفتح الهمزة وكسر الميم، فقد ذكر ابن إسحاق أنها كانت في صفر، وعند ابن سعد" قدم قادم بجلب فأخبر أن أنمار وثعلبة قد جمعوا لهم، فخرج لعشر خلون من المحرم فأتى محلهم بذات الرقاع" وقيل: إن غزوة أنمار وقعت في أثناء غزوة بني المصطلق لما روى أبو الزبير عن جابر "أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى بني المصطلق، فأتيته وهو يصلي على بعير" الحديث. ويؤيده رواية الليث عن القاسم بن محمد "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في غزوة بني أنمار صلاة الخوف" ويحتمل أن رواية جابر لصلاته صلى الله عليه وسلم تعددت. قوله:

(7/429)


"غزوة بني المصطلق من خزاعة وهي غزوة المريسيع" أما المصطلق فهو بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء المهملة وكسر اللام بعدها قاف، وهو لقب، واسمه جذيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة، بطن من بني خزاعة. وقد تقدم بيان نسب خزاعة في أوائل السيرة النبوية. وأما المريسيع فبضم الميم وفتح الراء وسكون التحتانيتين بينهما مهملة مكسورة وآخره عين مهملة، هو ماء لبني خزاعة بينه وبين الفرع مسيرة يوم. وقد روى الطبراني من حديث سفيان بن وبرة قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع غزوة بني المصطلق". قوله: "قال ابن إسحاق وذلك سنة ست" كذا هو في مغازي ابن إسحاق رواية يونس بن بكير وغيره عنه وقال: في شعبان وبه جزم خليفة والطبري، وروى البيهقي من رواية قتادة وعروة وغيرهما أنها كانت في شعبان سنة خمس، وكذا ذكرها أبو معشر قبل الخندق. قوله: "وقال موسى بن عقبة سنة أربع" كذا ذكره البخاري، وكأنه سبق قلم أراد أن يكتب سنة خمس فكتب سنة أربع. والذي في مغازي موسى بن عقبة من عدة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابوري والبيهقي في الدلائل وغيرهم سنة خمس، ولفظه عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب "ثم قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس" ويؤيده ما أخرجه البخاري في الجهاد "عن ابن عمر أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق في شعبان سنة أربع" ولم يؤذن له في القتال لأنه إنما أذن له فيه في الخندق كما تقدم وهي بعد شعبان سواء قلنا إنها كانت سنة خمس أو سنة أربع. وقال الحاكم في "الإكليل" قول عروة وغيره إنها كانت في سنة خمس أشبه من قول ابن إسحاق. قلت: ويؤيده ما ثبت في حديث الإفك أن سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك كما سيأتي، فلو كان المريسيع في شعبان سنة ست مع كون الإفك كان فيها لكان ما وقع في الصحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطا لأن سعد بن معاذ مات أيام قريظة وكانت سنة خمس على الصحيح كما تقدم تقريره، وإن كانت كما قيل سنة أربع فهي أشد، فيظهر أن المريسيع كانت سنة خمس في شعبان لتكون قد وقعت قبل الخندق لأن الخندق كانت في شوال من سنة خمس أيضا فتكون بعدها فيكون سعد بن معاذ موجودا في المريسيع ورمي بعد ذلك بسهم في الخندق ومات من جراحته في قريظة. وسأذكر ما وقع لعياض من ذلك في أثناء الكلام على حديث الإفك إن شاء الله تعالى. ويؤيده أيضا أن حديث الإفك كان سنة خمس إذ الحديث فيه التصريح بأن القصة وقعت بعد نزول الحجاب والحجاب كان في ذي القعدة سنة أربع عند جماعة فيكون المريسيع بعد ذلك فيرجح أنها سنة خمس، أما قول الواقدي إن الحجاب كان في ذي القعدة سنة خمس فمردود، وقد جزم خليفة وأبو عبيدة وغير واحد بأنه كان سنة ثلاث، فحصلنا في الحجاب على ثلاثة أقوال أشهرها سنة أربع والله أعلم. قوله: "وقال النعمان بن راشد عن الزهري: كان حديث الإفك في غزوة المريسيع" وصله الجوزقي والبيهقي في "الدلائل" من طريق حماد بن زيد عن النعمان بن راشد ومعمر عن الزهري عن عائشة فذكر قصة الإفك في غزوة المريسيع، وبهذا قال ابن إسحاق وغير واحد من أهل المغازي إن قصة الإفك كانت في رجوعهم من غزوة المريسيع. وذكر ابن إسحاق عن مشايخه عاصم بن عمر بن قتادة وغيره أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار فخرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع قريبا من الساحل، فزاحف الناس واقتتلوا، فهزمهم الله، وقتل منهم، ونفل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وأبناءهم وأموالهم. كذا ذكر ابن إسحاق بأسانيد مرسلة، والذي في الصحيح كما تقدم في كتاب العتق من حديث ابن عمر يدل على أنه أغار عليهم

(7/430)


على حين غفلة منهم فأوقع بهم ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقي على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم" الحديث، فيحتمل أن يكون حين الإيقاع بهم ثبتوا قليلا، فلما كثر فيهم القتل انهزموا بأن يكون لما دهمهم وهم على الماء ثبتوا وتصافوا ووقع القتال بين الطائفتين ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم، وقد ذكر هذه القصة ابن سعد نحو ما ذكر ابن إسحاق، وأن الحارث كان جمع جموعا وأرسل عينا تأتيه بخبر المسلمين فظفروا به فقتلوه، فلما بلغه ذلك هلع وتفرق الجمع وانتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى الماء وهو المريسيع فصف أصحابه للقتال ورموهم بالنبل ثم حملوا عليهم حملة واحدة فما أفلت منهم إنسان بل قتل منهم عشرة وأسر الباقون رجالا ونساء، وساق ذلك اليعمري في "عيون الأثر" ثم ذكر حديث ابن عمر ثم قال: أشار ابن سعد إلى حديث ابن عمر ثم قال: الأول أثبت. قلت: آخر كلام ابن سعد، والحكم بكون الذي في السير أثبت مما في الصحيح مردود، ولا سيما مع إمكان الجمع والله أعلم. ثم ذكر المصنف حديث ابن محيريز واسمه عبد الله ومحيريز بمهملة وراء ثم زاي بصيغة التصغير عن أبي سعيد في قصة العزل، وسيأتي شرحه في كتاب النكاح إن شاء تعالى، والغرض منه هنا ذكر غزوة بني المصطلق في الجملة، وقد أشرت إلى قصتها مجملا ولله الحمد.

(7/431)


34 - باب حَدِيثِ الإِفْكِ
وَالأَفَكُ بِمَنْزِلَةِ النِّجْسِ وَالنَّجَسِ يُقَالُ إِفْكُهُمْ وَأَفْكُهُمْ وَأَفَكُهُمْ
فَمَنْ قَالَ {أَفَكَهُمْ} يَقُولُ صَرَفَهُمْ عَنْ الإِيمَانِ وَكَذَّبَهُمْ
كَمَا قَالَ[9 الذاريات]: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} : يُصْرَفُ عَنْهُ مَنْ صُرِفَ
4141- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتَ لَهُ اقْتِصَاصًا وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ قَالُوا قَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فَأَيُّهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَكُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ قَالَتْ وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يُرَحِّلُونِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ عَلَيْهِ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَهْبُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ

(7/431)


خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ وَحَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ فَسَارُوا وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْهُمْ دَاعٍ وَلاَ مُجِيبٌ فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي وَ وَاللَّهِ مَا تَكَلَّمْنَا بِكَلِمَةٍ وَلاَ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ وَهَوَى حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ وَهُمْ نُزُولٌ قَالَتْ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَ الإِفْكِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ قَالَ عُرْوَةُ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ كَانَ يُشَاعُ وَيُتَحَدَّثُ بِهِ عِنْدَهُ فَيُقِرُّهُ وَيَسْتَمِعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ وَقَالَ عُرْوَةُ أَيْضًا لَمْ يُسَمَّ مِنْ أَهْلِ الإِفْكِ أَيْضًا إِلاَّ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ فِي نَاسٍ آخَرِينَ لاَ عِلْمَ لِي بِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ عُصْبَةٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّ كِبْرَ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ قَالَ عُرْوَةُ كَانَتْ عَائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانُ وَتَقُولُ إِنَّهُ الَّذِي قَالَ:
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لاَ أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ كَيْفَ تِيكُمْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَذَلِكَ يَرِيبُنِي وَلاَ أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ حِينَ نَقَهْتُ فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَكَانَ مُتَبَرَّزَنَا وَكُنَّا لاَ نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا قَالَتْ وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي الْبَرِّيَّةِ قِبَلَ الْغَائِطِ وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا قَالَتْ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَهَا بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَتْ أَيْ هَنْتَاهْ وَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ قَالَتْ وَقُلْتُ مَا قَالَ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ قَالَتْ فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي فَلَمَّا

(7/432)


رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ كَيْفَ تِيكُمْ فَقُلْتُ لَهُ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ قَالَتْ وَأُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا قَالَتْ فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لِأُمِّي يَا أُمَّتَاهُ مَاذَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ قَالَتْ يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلاَّ كَثَّرْنَ عَلَيْهَا قَالَتْ فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا قَالَتْ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي قَالَتْ وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْأَلُهُمَا وَيَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ قَالَتْ فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ أُسَامَةُ أَهْلَكَ وَلاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا وَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَسَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ قَالَتْ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ غَيْرَ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ قَالَتْ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ فِي أَهْلِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا وَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي قَالَتْ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْذِرُكَ فَإِنْ كَانَ مِنْ الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ قَالَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْخَزْرَجِ وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ فَخِذِهِ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ قَالَتْ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدٍ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطِكَ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ قَالَتْ فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَتْ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ قَالَتْ فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ كُلَّهُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ قَالَتْ وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى إِنِّي لاَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي فَبَيْنَا أَبَوَايَ جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا

(7/433)


فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي قَالَتْ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ قَالَتْ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ قَالَتْ فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَتْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لِأَبِي أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي فِيمَا قَالَ فَقَالَ أَبِي وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لِأُمِّي أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ قَالَتْ أُمِّي وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ كَثِيرًا إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي فَوَاللَّهِ لاَ أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ حِينَ قَالَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ثُمَّ تَحَوَّلْتُ وَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي حِينَئِذٍ بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى لَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِنْ الْعَرَقِ مِثْلُ الْجُمَانِ وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ قَالَتْ فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَتْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ قَالَتْ فَقَالَتْ لِي أُمِّي قُومِي إِلَيْهِ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ فَإِنِّي لاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَتْ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى [11 النور] {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ...} الْعَشْرَ الْآيَاتِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى [22 النور] {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لاَحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ لِزَيْنَبَ مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلاَّ خَيْرًا قَالَتْ عَائِشَةُ وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَصَمَهَا

(7/434)


اللَّهُ بِالْوَرَعِ قَالَتْ وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنِي مِنْ حَدِيثِ هَؤُلاَءِ الرَّهْطِ ثُمَّ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ وَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ لَيَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا كَشَفْتُ مِنْ كَنَفِ أُنْثَى قَطُّ قَالَتْ ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
قوله: "باب حديث الإفك" قد تقدم وجه مناسبة إيراده هنا لما ذكره عن الزهري أن قصة الإفك كانت في غزوة المريسيع. قوله: "الإفك والإفك بمنزلة النجس والنجس" أي هما في الاسم لغتان بكسر الهمزة وسكون الفاء وهي المشهورة، وبفتحهما معا. وقوله: "بمنزلة" أي نظير ذلك الجنس في الضبط وكونهما لغتين. قوله: "يقال إفكهم وأفكهم" أي في قوله تعالى: {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} فقرئ في المشهور بكسر الهمزة وسكون الفاء وبضم الكاف، وأما بالفتحات فقرئ بالشاذ، وهو عن عكرمة وغيره بثلاث فتحات فعلا ماضيا أي صرفهم، ووراء ذلك قراآت أخرى في الشواذ كالمشهور لكن بفتح أوله وهو عن ابن عباس ومثل الثاني لكن بتشديد الفاء وهو عن أبي عياض بصيغة التكبير، وبالمد أوله وفتح الفاء والكاف وهو عن ابن الزبير وغير ذلك مما يستوعب في موضعه. قوله: "فمن قال أفكهم" أي جعله فعلا ماضيا يقال معناه صرفهم عن الإيمان كما قال: {يُؤْفَكُ عَنْهُ} من أفك أي يصرف عنه من صرف. ذكر المصنف حديث الإفك بطوله من طريق صالح وهو ابن كيسان عن ابن شهاب، وقد تقدم بطوله في الشهادات من طريق فليح عن ابن شهاب، وذكرت أني أورد شرحه مستوفى في سورة النور، وسأذكر هناك مع شرحه بيان ما اختلفوا فيه من ألفاظه وسياقه إن شاء الله تعالى.
4142- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَمْلَى عَلَيَّ هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ مِنْ حِفْظِهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ "قَالَ لِي الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبَلَغَكَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ فِيمَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ؟ قُلْتُ لاَ وَلَكِنْ قَدْ أَخْبَرَنِي رَجُلاَنِ مِنْ قَوْمِكَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَهُمَا كَانَ عَلِيٌّ مُسَلِّمًا فِي شَأْنِهَا فَرَاجَعُوهُ فَلَمْ يَرْجِعْ وَقَالَ مُسَلِّمًا بِلاَ شَكٍّ فِيهِ وَعَلَيْهِ كَانَ فِي أَصْلِ الْعَتِيقِ كَذَلِكَ"
4143- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَسْرُوقُ بْنُ الأَجْدَعِ قَالَ حَدَّثَتْنِي أُمُّ رُومَانَ وَهِيَ أُمُّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ "بَيْنَا أَنَا قَاعِدَةٌ أَنَا وَعَائِشَةُ إِذْ وَلَجَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَتْ فَعَلَ اللَّهُ بِفُلاَنٍ وَفَعَلَ فَقَالَتْ أُمُّ رُومَانَ وَمَا ذَاكَ قَالَتْ ابْنِي فِيمَنْ حَدَّثَ الْحَدِيثَ قَالَتْ وَمَا ذَاكَ قَالَتْ كَذَا وَكَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ نَعَمْ قَالَتْ وَأَبُو بَكْرٍ قَالَتْ نَعَمْ فَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا فَمَا أَفَاقَتْ إِلاَّ وَعَلَيْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ فَطَرَحْتُ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا فَغَطَّيْتُهَا فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا شَأْنُ هَذِهِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَتْهَا الْحُمَّى بِنَافِضٍ قَالَ فَلَعَلَّ فِي

(7/435)


حَدِيثٍ تُحُدِّثَ بِهِ قَالَتْ: نَعَمْ فَقَعَدَتْ عَائِشَةُ فَقَالَتْ وَاللَّهِ لَئِنْ حَلَفْتُ لاَ تُصَدِّقُونِي وَلَئِنْ قُلْتُ لاَ تَعْذِرُونِي مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ قَالَتْ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهَا قَالَتْ بِحَمْدِ اللَّهِ لاَ بِحَمْدِ أَحَدٍ وَلاَ بِحَمْدِكَ"
4144- حَدَّثَنِي يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "كَانَتْ تَقْرَأُ {إِذْ تَلِقُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [15 النور] وَتَقُولُ الْوَلْقُ الْكَذِبُ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَكَانَتْ أَعْلَمَ مِنْ غَيْرِهَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا"
[الحديث 4144- طرفه في: 4752]
4145- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: "لاَ تَسُبَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ كَيْفَ بِنَسَبِي قَالَ لاَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنْ الْعَجِينِ" وقال مُحَمَّدُ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ فَرْقَدٍ سَمِعْتُ هِشَامًا عَنْ أَبِيهِ قَالَ "سَبَبْتُ حَسَّانَ وَكَانَ مِمَّنْ كَثَّرَ عَلَيْهَا...."
4146- حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ "دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعِنْدَهَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُنْشِدُهَا شِعْرًا يُشَبِّبُ بِأَبْيَاتٍ لَهُ وَقَالَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ لَكِنَّكَ لَسْتَ كَذَلِكَ قَالَ مَسْرُوقٌ فَقُلْتُ لَهَا لِمَ تَأْذَنِينَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْكِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فَقَالَتْ وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَى قَالَتْ لَهُ إِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ أَوْ يُهَاجِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 4146- طرفاه في: 4756,4755]
وذكر المصنف بعد سياقه قصة الإفك أحاديث تتعلق بها: الأول قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي. قوله: "أملى علي هشام بن يوسف" هو الصنعاني. قوله: "من حفظه" فيه إشارة إلى أن الإملاء قد يقع من الكتاب. قوله: "قال لي الوليد بن عبد الملك" أي ابن مروان، في رواية عبد الرزاق عن معمر" كنت عند الوليد بن عبد الملك" أخرجه الإسماعيلي. قوله: "أبلغك أن عليا كان فيمن قذف عائشة" في رواية عبد الرزاق" فقال الذي تولى كبره منهم علي، قلت: لا" كذا في رواية عبد الرزاق وزاد: "ولكن حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيد الله كليهم عن عائشة قال: الذي تولى كبره عبد الله بن أبي قال فما كان جزمه، وفي ترجمة الزهري عن "حلية أبي نعيم"، من طريق ابن عيينة عن الزهري" كنت عند الوليد بن عبد الملك فتلا هذه الآية: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ

(7/436)


مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فقال: نزلت في علي بن أبي طالب. قال الزهري: أصلح الله الأمير ليس الأمر كذلك، أخبرني عروة عن عائشة. قال: وكيف أخبرك؟ قلت: أخبرني عروة عن عائشة أنها نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول" ولابن مرديه من وجه آخر عن الزهري" كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي وهو يقرأ سورة النور مستلقيا، فلما بلغ هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} حتى بلغ {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} جلس ثم قال: يا أبا بكر من تولى كبره منهم؟ أليس علي بن أبي طالب؟ قال فقلت في نفسي: ماذا أقول؟ لئن قلت لا لقد خشيت أن ألقى منه شرا، ولئن قلت نعم لقد جئت بأمر عظيم، قلت في نفسي: لقد عودني الله على الصدق خيرا، قلت: لا، قال فضرب بقضيبه على السرير ثم قال: فمن فمن؟ حتى ردد ذلك مرارا، قلت: لكن عبد الله بن أبي". قوله: "ولكن قد أخبرني رجلان من قومك" أي من قريش، لأن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث مخزومي وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف زهري يجمعهما مع بني أمية رهط الوليد مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. قوله: "كان علي مسلما في شأنها" كذا في نسخ البخاري بكسر اللام الثقيلة وفي رواية الحموي بفتح اللام. قوله: "فراجعوه فلم يرجع" المراجعة في ذلك وقعت مع هشام بن يوسف فيما أحسب، وذلك أن عبد بن الرزاق رواه عن معمر فخالفه فرواه بلفظ: "مسيئا" كذلك أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في المستخرجين، وزعم الكرماني أن المراجعة وقعت في ذلك عند الزهري، قال وقوله: "فلم يرجع" أي لم يجب بغير ذلك، قال: ويحتمل أن يكون المراد فلم يرجع الزهري إلى الوليد. قلت ويقوي رواية عبد الرزاق ما في رواية ابن مردويه المذكورة بلفظ: "أن عليا أساء في شأني والله يغفر له" انتهى. وقال ابن التين: قوله: "مسلما" هو بكسر اللام وضبط أيضا بفتحها والمعنى متقارب. قلت: وفيه نظر، فرواية الفتح تقتضي سلامته من ذلك، ورواية الكسر تقتضي تسليمه لذلك، قال ابن التين: وروي "مسيئا" وفيه بعد. قلت: بل هو الأقوى من حيث تقل الرواية، وقد ذكر عياض أن النسفي رواه عن البخاري بلفظ: "مسيئا" قال: وكذلك رواه أبو علي بن السكن عن الفربري. وقال الأصيلي بعد أن رواه بلفظ: "مسلما" كذا قرأناه والأعرف غيره، وإنما نسبته إلى الإساءة لأنه لم يقل كما قال أسامة" أهلك ولا نعلم إلا خيرا" بل ضيق على بريرة وقال: "لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير" ونحو ذلك من الكلام كما سيأتي بسطه في مكانه، وتوجيه العذر عنه. وكأن بعض من لا خير فيه من الناصية تقرب إلى بني أمية بهذه الكذبة فحرفوا مول عائشة إلى غير وجهه لعلمهم بانحرافهم عن علي فظنوا صحتها، حتى بين الزهري للوليد أن الحق خلاف ذلك، فجزاه الله تعالى خيرا. وقد جاء عن الزهري أن هشام بن عبد الملك كان يعتقد ذلك أيضا، فأخرج يعقوب بن شيبة في مسنده عن الحسن بن علي الحلواني عن الشافعي قال: حدثا عمي قال: "دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له: يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال: عبد الله بن أبي. قال: كذبت، هو علي. قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول. فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟ قال ابن أبي. قال: كذبت هو علي، فقال أنا أكذب لا أبالك، والله لو نادى مناد من السماء أن الله أحل الكذب ما كذبت، حدثني عروة وسعيد وعبيد الله وعلقمة عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي - فذكر له قصة مع هشام في آخرها - لحن هيجنا الشيخ" هذا أو معناه. قوله: "عن حصين" هو أبي عبد الرحمن الواسطي. قوله: "عن أبي وائل" هو شقيق بن سلمة الأسدي. قوله: "عن مسروق حدثتني أم رومان" بضم الراء وسكون الواو وتقدم ذكرها في علامات النبوة وتسميتها، وقد

(7/437)


استشكل قول مسروق "حدثتني أم رومان" مع أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومسروق ليست له صحبة لأنه لم يقدم من اليمن إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر أو عمر، قال الخطيب: لا نعلمه روى هذا الحديث عن أبي وائل غير حصين؛ ومسروق لم يدرك أم رومان وكان يرسل هذا الحديث عنها ويقول: "سئلت أم رومان" فوهم حصين فيه حيث جعل السائل لها مسروقا، أو يكون بعض النقلة كتب سئلت بألف فصارت "سألت" فقرئت بفتحتين، قال علي: إن بعض الرواة قد رواه عن حصين على الصواب يعني العنعنة، قال وأخرج البخاري هذا الحديث بناء على ظاهر الاتصال ولم يظهر له علة انتهى. وقد حكى المزي كلام الخطيب هذا في التهذيب وفي الأطراف ولم يتعقبه بل أقره وزاد أنه روى عن مسروق عن ابن مسعود عن أم رومان، وهو أشبه بالصواب. كذا قال. وهذه الرواية شاذة وهي من المزيد في متصل الأسانيد على ما سنوضحه. والذي ظهر لي بعد التأمل أن الصواب مع البخاري، لأن عمدة الخطيب ومن تبعه في دعوى الوهم الاعتماد على قول من قال إن أم رومان ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم سنة أربع وقيل سنة خمس وقيل سنة ست، وهو شيء ذكره الواقدي، ولا يتعقب الأسانيد الصحيحة بما يأتي عن الواقدي. وذكره الزبير بن بكار بسند منقطع فيه ضعف أن أم رومان ماتت سنة ست في ذي الحجة، وقد أشار البخاري إلى رد ذلك في تاريخه الأوسط والصغير فقال بعد أن ذكر أم رومان في فصل من مات في خلافة عثمان: روى علي بن يزيد عن القاسم قال ماتت أم رومان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست، قال البخاري وفيه نظر وحديث مسروق أسند، أي أقوى إسنادا وأبين اتصالا انتهى. وقد جزم إبراهيم الحربي بأن مسروقا سمع من أم رومان وله خمس عشرة سنة، فعلى هذا يكون سماعه منها في خلافة عمر لأن مولد مسروق كن في سنة الهجرة ولهذا قال أبو نعيم الأصبهاني: عاشت أم رومان بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تعقب ذلك كله الخطيب معتمدا على ما تقدم عن الواقدي والزبير، وفيه نظر، لما وقع عند أحمد من طريق أبي سلمة عن عائشة قالت: "لما نزلت آية التخيير بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة فقال: يا عائشة إني عارض عليك أمرا فلا تفتاتي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان " الحديث، وأصله في الصحيحين دون تسمية أم رومان، وآية التخيير نزلت سنة تسع اتفاقا، فهذا دال على تأخير موت أم رومان عن الوقت الذي ذكره الواقدي والزبير أيضا، فقد تقدم في علامات النبوة من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر في قصة أضياف أبي بكر قال عبد الرحمن: "وإنما هو أنا وأبي وأمي وامرأتي وخادم" وفيه عند المصنف في الأدب "فلما جاء أبو بكر قالت له أمي احتبست عن أضيافك" الحديث، وعبد الرحمن إنما هاجر في هدنة الحديبية وكانت الحديبية في ذي القعدة سنه ست وهجرة عبد الرحمن في سنة سبع في قول ابن سعد، وفي قول الزبير فيها أو في التي بعدها، لأنه روى أن عبد الرحمن خرج في فئة من قريش قبل الفتح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون أم رومان تأخرت عن الوقت الذي ذكراه فيه، وفي بعض هذا كفاية في التعقب على الخطيب ومن تبعه فيما تعقبوه على هذا الجامع الصحيح والله المستعان. وقد تلقى كلام الخطيب بالتسليم صاحب المشارق والمطالع والسهيلي وابن سيد الناس، وتبع المزي الذهبي في مختصراته والعلائي في المراسيل وآخرون، وخالفهم صاحب الهدى. قلت. وسأذكر ما في حديث أم رومان من قصة الإفك مخالفا لحديث عائشة ووجه التوفيق بينهما في التفسير إن شاء الله تعالى. قوله: "عن ابن أبي مليكة" هو عبد الله بن عبيد الله قوله: "عن عائشة" في رواية ابن جريح عن ابن أبي مليكة "سمعت عائشة" وسيأتي في التفسير. قوله: "كانت تقرأ إذ تلقونه" أي بكسر

(7/438)


اللام وضم القاف مخففا، وقد فسر في الخبر حيث قال: "وتقول الولق الكذب" والولق بفتح الواو واللام بعدها قاف وقال الخطابي: هو الإسراع في الكذب. قوله: "قال ابن أبي مليكة وكانت أعلم من غيرها بذلك لأنه نزل فيها" قلت لكن القراءة المشهورة بفتح اللام وتشديد القاف من التلقي وإحدى التاءين فيه محذوفة، وسيأتي مزيد لذلك في تفسير سورة النور إن شاء الله تعالى. قول عائشة في حسان ذكره بألفاظ، وسيأتي شرحه أيضا في تفسير سورة النور. وقوله: "وقال محمد" ابن عقبة أي الطحان الكوفي يكنى أبا جعفر وأبا عبد الله وهو من شيوخ البخاري، ووقع في رواية كريمة والأصيلي: "حدثنا محمد" بغير زيادة، وقد عرف نسبه من رواية الآخرين، وسيأتي له ذكر في كتاب الأحكام. وشيخه عثمان بن فرقد بصري له عند البخاري شيخ آخر تقدم في آخر البيوع. حديث مسروق " دخلنا على عائشة وعندها حسان" يأتي شرحه في تفسير النور إن شاء الله تعالى.

(7/439)


35 - باب غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [18 الفتح]:
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}
4147- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَصَابَنَا مَطَرٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَقَالَ قَالَ اللَّهُ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَبِرِزْقِ اللَّهِ وَبِفَضْلِ اللَّهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ كَافِرٌ بِي "
4148- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُ قَالَ "اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلَّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلاَّ الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَةً مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ"
4149- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ "انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ أُحْرِمْ"
قوله: "باب غزوة الحديبية" في رواية أبي ذر عن الكشميهني: "عمرة" بدل غزوة. والحديبية بالتثقيل والتخفيف لغتان، وأنكر كثير من أهل اللغة التخفيف. وقال أبو عبيد البكري: أهل العراق يثقلون وأهل الحجاز يخففون. قوله: "وقول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية" يشير

(7/439)


إلى أنها نزلت في قصة الحديبية، وقد تقدم شرح معظم هذه القصة في كتاب الشروط، وأذكر هنا ما لم يتقدم له ذكر هناك، وكان توجهه صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الاثنين مستهل ذي القعدة سنة ست فخرج قاصد إلى العمرة فصده المشركون عن الوصول إلى البيت، ووقعت بينهم المصالحة على أن يدخل مكة في العام المقبل. وجاء عن هشام بن عروة عن أبيه أنه خرج في رمضان واعتمر في شوال، وشذ بذلك، وقد وافق أبو الأسود عن عروة الجمهور، ومضى في الحج قول عائشة "ما اعتمر إلا في ذي القعدة". حديث زيد بن خالد الجهني في النهي عن قول "مطرنا بنجم كذا" الحديث، وقد تقدم شرحه في الاستسقاء، والغرض منه قوله: "خرجنا عام الحديبية". حديث أنس "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر" تقدم شرحه في الحج. حديث أبي قتادة "انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأحرم أصحابه ولم أحرم" هكذا ذكره مختصرا، وقد تقدم بطوله في كتاب الحج مشروحا، ويستفاد منه أن بعض من خرج إلى الحديبية لم يكن أحرم بالعمرة فلم يحتج إلى التحلل منها كما سأشير إليه في الحديث الذي بعده. الحديث الرابع حديث البراء في تكثير ماء البئر بالحديبية ببركة بصاق النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ذكره من وجهين عن أبي إسحاق عن البراء، ووقع في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء كنا أربع عشرة مائة. وفي رواية زهير عنه أنهم كانوا ألفا وأربعمائة أو أكثر، ووقع في حديث جابر الذي بعده من طريق سالم بن أبي الجعد عنه أنهم كانوا عشرة مائة، ومن طريق قتادة "قلت لسعيد بن المسيب بلغني عن جابر أنهم كانوا أربع عشرة مائة، فقال سعيد: حدثني جابر أنهم كانوا خمس عشرة مائة" ومن طريق عمرو بن دينار عن جابر "كانوا ألفا وأربعمائة" ومن طريق عبد الله بن أبي أوفى "كانوا ألفا وثلاثمائة" ووقع عند ابن أبي شيبة من حديث مجمع بن حارثة "كانوا ألفا وخمسمائة" والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال ألفا وخمسمائة. جبر الكسر، ومن قال ألفا وأربعمائة ألغاه، ويؤيده قوله في الرواية الثالثة من حديث البراء "ألفا وأربعمائة أو أكثر" واعتمد على هذا الجمع النووي، وأما البيهقي فمال إلى الترجيح وقال: إن رواية من قال ألف وأربعمائة أصح، ثم ساقه من طريق أبي الزبير ومن طريق أبي سفيان كلاهما عن جابر كذلك، ومن رواية معقل بن يساد وسلمة بن الأكوع والبراء بن عازب، ومن طريق قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه. قلت: ومعظم هذه الطرق عند مسلم، ووقع عند ابن سعد في حديث معقل بن يسار زهاء ألف وأربعمائة وهو ظاهر في عدم التحديد. وأما قول عبد الله بن أبي أوفى ألفا وثلاثمائة فيمكن حمله على ما اطلع هو عليه، واطلع غيره على زيادة ناس لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة، أو العدد الذي ذكره جملة من ابتداء الخروج من المدينة والزائد تلاحقوا بهم بعد ذلك، أو العدد الذي ذكره هو عدد المقاتلة والزيادة عليها من الأتباع من الخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم. وأما قول ابن إسحاق إنهم كانوا سبعمائة فلم يوافق عليه لأنه قاله استنباطا من قول جابر: "نحرنا البدنة عن عشرة "وكانوا نحروا سبعين بدنة وهذا لا يدل على أنهم لم ينحروا غير البدن، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلا. وسيأتي في هذا الباب في حديث المسور ومروان أنهما خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بضع عشرة مائة، فيجمع أيضا بأن الذين بايعوا كانوا كما تقدم، وما زاد على ذلك كانوا غائبين عنها كمن توجه مع عثمان إلى مكة، على أن لفظ البضع يصدق على الخمس والأربع فلا تخالف، وحزم موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفا وستمائة، وفي حديث سلمة بن الأكوع عند ابن أبي شيبة ألفا وسبعمائة، وحكى ابن سعد أنهم كانوا ألفا

(7/440)


وخمسمائة وخمسة وعشرين، وهذا إن ثبت تحرير بالغ. ثم وجدته موصولا عن ابن عباس عند ابن مردويه، وفيه رد على ابن دحية حيث زعم أن سبب الاختلاف في عددهم أن الذي ذكر عددهم لم يقصد التحديد وإنما ذكره بالحدس والتخمين، والله أعلم.
4150- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "تَعُدُّونَ أَنْتُمْ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ فَنَزَحْنَاهَا فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهَا فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ مَضْمَضَ وَدَعَا ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ إِنَّهَا أَصْدَرَتْنَا مَا شِئْنَا نَحْنُ وَرِكَابَنَا"
4151- حَدَّثَنِي فَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيَنَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَرَّانِيُّ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ أَنْبَأَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَنَزَلُوا عَلَى بِئْرٍ فَنَزَحُوهَا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى الْبِئْرَ وَقَعَدَ عَلَى شَفِيرِهَا ثُمَّ قَالَ ائْتُونِي بِدَلْوٍ مِنْ مَائِهَا فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ فَدَعَا ثُمَّ قَالَ دَعُوهَا سَاعَةً فَأَرْوَوْا أَنْفُسَهُمْ وَرِكَابَهُمْ حَتَّى ارْتَحَلُوا"
4152- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا ثُمَّ أَقْبَلَ النَّاسُ نَحْوَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا لَكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ بِهِ وَلاَ نَشْرَبُ إِلاَّ مَا فِي رَكْوَتِكَ قَالَ فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ قَالَ فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا فَقُلْتُ لِجَابِرٍ كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ قَالَ لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً"
قوله: "ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان" يعني قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} وهذا موضع وقع فيه اختلاف قديم، والتحقيق أنه يختلف باختلاف المراد من الآيات، فقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} المراد بالفتح هنا الحديبية لأنها كانت مبدأ الفتح المبين على المسلمين، لما ترتب على الصلح الذي وقع منه الأمن ورفع الحرب وتمكن من يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة من ذلك كما وقع لخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما، ثم تبعت الأسباب بعضها بعضا إلى أن كمل الفتح، وقد ذكر ابن إسحاق في المغازي عن الزهري قال: لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه، وإنما كان الكفر حيث القتال، فلما أمن الناس كلهم كلم بعضهم بعضا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة ولم يكن أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا بادر إلى الدخول فيه، فلقد دخل في تلك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: ويدل

(7/441)


عليه أنه صلى الله عليه وسلم خرج في الحديبية في ألف وأربعمائة ثم خرج بعد سنين إلى فتح مكة في عشرة آلاف انتهى. وهذه الآية نزلت منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية كما في هذا الباب من حديث عمر، وأما قوله تعالى في هذه السورة: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} فالمراد بها فتح خيبر على الصحيح لأنها هي التي وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين. وقد روى أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن حارثة قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا عند كراع الغميم وقد جمع الناس قرأ عليهم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} الآية فقال رجل: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: أي والذي نفسي بيده إنه لفتح . ثم قسمت خيبر على أهل الحديبية. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبي في قوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} قال: صلح الحديبية، وغفر له ما تقدم وما تأخر، وتبايعوا بيعة الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس وفرح المسلمون بنصر الله. وأما قوله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} فالمراد الحديبية، وأما قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح" فالمراد به فتح مكة باتفاق، فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال بعون الله تعالى. قوله: "والحديبية بئر" يشير إلى أن المكان المعروف بالحديبية سمي بئر كانت هنالك، هذا اسمها ثم عرف المكان كله بذلك، وقد مضى بأبسط من هذا في أواخر الشروط. قوله: "فنزحناها" كذا للأكثر، ووقع في شرح ابن التين "فنزفناها" بالفاء بدل الحاء المهملة قال: والنزف والنزح واحد وهو أخذ الماء شيئا بعد شيء إلى أن لا يبقى منه شيء. قوله: "فلم نترك فيها قطرة" في رواية: "فوجدنا الناس قد نزحوها". قوله: "فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء" في رواية زهير "ثم قال: ائتوني بدلو من مائها". قوله: "ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد" في رواية زهير "فبصق فدعا ثم قال دعوها ساعة". قوله: "ثم أنها أصدرتنا" أي رجعتنا، يعني أنهم رجعوا عنها وقد رووا. وفي رواية زهير "فأرووا أنفسهم وركابهم" والركاب الإبل التي يسار عليها. قوله: "ابن فضيل" هو محمد، وحصين هو ابن عبد الرحمن، وسالم هو ابن أبي الجعد، والكل كوفيون كما أن الإسناد الذي بعده إلى قتادة بصريون. قوله: "فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه" هذا مغاير لحديث البراء أنه صب ماء وضوئه في البئر فكثر الماء في البئر، وجمع ابن حبان بينهما بأن ذلك وقع مرتين، وسيأتي في الأشربة البيان بأن حديث جابر في نبع الماء كان حين حضرت صلاة العصر عند إرادة الوضوء، وحديث البراء كان لإرادة ما هو أعم من ذلك، ويحتمل أن يكون الماء لما تفجر من أصابعه ويده في الركوة وتوضئوا كلهم وشربوا أمر حينئذ بصب الماء الذي بقي في الركوة في البئر فتكاثر الماء فيها، وقد أخرج أحمد من حديث جابر من طريق نبيح العنزي عنه وفيه: "فجاء رجل بإداوة فيها شيء من ماء ليس في القوم ماء غيره، فصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدح ثم توضأ فأحسن ثم انصرف وترك القدح، قال فتزاحم الناس على القدح، فقال: على رسلكم ، فوضع كفه في القدح ثم قال: أسبغوا الوضوء ، قال فلقد رأيت العيون عيون الماء تخرج من بين أصابعه" ووقع في حديث البراء أن تكثر الماء كان بصب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءه في البئر. وفي رواية أبي الأسود عن عروة في "دلائل البيهقي" أنه أمر بسهم فوضع في قعر البئر فجاشت بالماء، وقد تقدم وجه الجميع في الكلام على حديث المسور ومروان في آخر الشروط، وتقدم الكلام على اختلافهم في كيفية نبع الماء في علامات النبوة، وأن نبع الماء من بين أصابعه وقع مرارا في الحضر وفي السفر. والله أعلم.

(7/442)


4153- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ "قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
بَلَغَنِي أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ يَقُولُ كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً فَقَالَ لِي سَعِيدٌ حَدَّثَنِي جَابِرٌ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً الَّذِينَ بَايَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ"
تَابَعَهُ أَبُو دَاوُدَ "حَدَّثَنَا قُرَّةُ عَنْ قَتَادَةَ". تابعه محمد بن بشار "حدثنا أبو داود حدثنا شعبة".
4154- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ وَكُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ وَلَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ الْيَوْمَ لاَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَةِ" تَابَعَهُ الأَعْمَشُ "سَمِعَ سَالِمًا سَمِعَ جَابِرًا أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ"
4155- وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "كَانَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ أَلْفًا وَثَلاَثَ مِائَةٍ وَكَانَتْ أَسْلَمُ ثُمْنَ الْمُهَاجِرِينَ"
تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ "حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ"
قوله: "تابعه أبو داود" هو سليمان بن داود الطيالسي "قال حدثنا قرة" هو ابن خالد "عن قتادة"، وهذه الطريق وصلها الإسماعيلي من طريق عمرو بن علي الفلاس عن أبي داود الطيالسي بهذا الإسناد إلى قتادة قال: "سألت سعيد بن المسيب كم كانوا في بيعة الرضوان "؟ فذكر الحديث وقال فيه: أوهم يرحمه الله، هو حدثني أنهم كانوا ألفا وخمسمائة. قوله: "قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: أنتم خير أهل الأرض " هذا صريح في فضل أصحاب الشجرة، فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما، وعند أحمد بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري قال: "لما كان بالحديبية قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا توقدوا نارا بليل ، فلما كان بعد ذلك قال: أوقدوا واصطنعوا فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم " وعند مسلم من حديث جابر مرفوعا: "لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية" وروى مسلم أيضا من حديث أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل النار أحد من أصحاب الشجرة" وتمسك به بعض الشيعة في تفضيل علي على عثمان لأن عليا كان من جملة من خوطب بذلك وممن بايع تحت الشجرة وكان عثمان حينئذ غائبا كما تقدم في المناقب من حديث ابن عمر، لكن تقدم في حديث ابن عمر المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع عنه فاستوى معهم عثمان في الخيرية المذكورة، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل بعضهم على بعض، واستدل به أيضا على أن الخضر ليس بحي لأنه لو كان حيا مع ثبوت كونه نبيا للزم تفضيل غير النبي على النبي وهو باطل فدل على أنه ليس بحي حينئذ، وأجاب من زعم أنه حي باحتمال أن يكون حينئذ حاضرا معهم ولم يقصد إلى تفضيل بعضهم على بعض أو لم يكن على وجه الأرض بل كان في البحر، والثاني جواب ساقط، وعكس ابن التين فاستدل به على أن الخضر ليس بنبي فبنى الأمر على أنه حي وأنه دخل في عموم من فضل النبي صلى الله عليه وسلم أهل الشجرة عليهم، وقد قدمنا الأدلة الواضحة على ثبوت نبوة الخضر في أحاديث الأنبياء. وأغرب ابن التين فجزم أن إلياس ليس بنبي وبناه على قول من زعم أنه أيضا حي، وهو ضعيف أعني كونه حيا، وأما كونه ليس

(7/443)


بنبي فنفي باطل ففي القرآن العظيم {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} فكيف يكون أحد من بني آدم مرسلا وليس بنبي؟. قوله: "ولو كنت أبصر اليوم" يعني أنه كان عمي في آخر عمره. قوله: "تابعه الأعمش سمع سالما" يعني ابن أبي الجعد "سمع جابرا ألفا وأربعمائة" أي في قوله ألفا وأربعمائة، وهذه الطريق وصلها المؤلف في آخر كتاب الأشربة وساق الحديث أتم مما هنا، وبين في آخره الاختلاف فيه على سالم ثم على جابر في العدد المذكور، وقد بينت وجه الجمع قريبا. وقيل: إنما عدل الصحابي عن قوله: ألف وأربعمائة إلى قوله: أربع عشرة مائة للإشارة إلى أن الجيش كان منقسما إلى المئات وكانت كل مائة ممتازة عن الأخرى ما بالنسبة إلى القبائل وإما بالنسبة إلى الصفات. قال ابن دحية: الاختلاف في عددهم دال على أنه قيل بالتخمين. وتعقب بإمكان الجمع كما تقدم. حديث عبد الله بن أبي أوفى. قوله: "وقال عبيد الله بن معاذ" كذا ذكره بصيغة التعليق، وقد وصله أبو نعيم في "المستخرج على مسلم": من طريق الحسن بن سفيان "حدثنا عبيد الله بن معاذ به" وقال مسلم: "حدثنا عبيد الله بن معاذ به". قوله: "ألفا وثلاثمائة" في رواية علي بن قادم عن شعبة عن عمرو بن مرة عند ابن مردويه "ألفا وأربعمائة" وهي شاذة. قوله: "وكانت أسلم" أي قبيلته. قوله: "ثمن المهاجرين" بضم المثلثة وسكون الميم وضمها ولم أعرف عدد من كان بها من المهاجرين خاصة ليعرف عدد الأسلميين، إلا أن الواقدي جزم بأنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية من أسلم مائة رجل، فعلى هدا كان المهاجرون ثمانمائة. قوله: "تابعه محمد بن بشار" هو بندار "حدثنا أبو داود" هو الطيالسي، وهذه الطريق وصلها الإسماعيلي عن ابن عبد الكريم عن بندار به، وأخرجه مسلم عن أبي موسى محمد بن المثنى عن أبي داود به.
4156- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ أَنَّهُ "سَمِعَ مِرْدَاسًا الأَسْلَمِيَّ يَقُولُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ يُقْبَضُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ وَتَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ شَيْئًا"
[الحديث 4156- طرفه في: 6434]
4158,4157- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالاَ "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَ وَأَحْرَمَ مِنْهَا لاَ أُحْصِي كَمْ سَمِعْتُهُ مِنْ سُفْيَانَ حَتَّى سَمِعْتُهُ يَقُولُ لاَ أَحْفَظُ مِنْ الزُّهْرِيِّ الإِشْعَارَ وَالتَّقْلِيدَ فَلاَ أَدْرِي يَعْنِي مَوْضِعَ الإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ أَوْ الْحَدِيثَ كُلَّهُ"
4159- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ خَلَفٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ وَرْقَاءَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ وَقَمْلُهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْلِقَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ

(7/444)


مَسَاكِينَ أَوْ يُهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ"
الحديث السابع قوله: "أخبرنا عيسى" هو ابن يونس، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، ومرداس الأسلمي هو ابن مالك وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، ولا يعرف أحد روى عنه إلا قيس بن أبي حازم وجزم بذلك البخاري وأبو حاتم ومسلم وآخرون. وقال ابن السكن: زعم أهل الحديث أن مرداس بن عروة الذي روى عنه زياد بن علاقة هو الأسلمي، قال: والصحيح أنهما اثنان. قلت: وفي هذا تعقب على المزي في قوله في ترجمة مرداس الأسلمي" روى عنه قيس بن أبي حازم وزياد بن علاقة"، ووضح أن شيخ زياد بن علاقة غير مرداس الأسلمي، والله أعلم. قوله: "سمع مرداسا الأسلمي يقول وكان من أصحاب الشجرة: يقبض الصالحون" كذا ذكره عنه موقوفا هنا، وأورده في الرقاق من طريق بيان عن قيس مرفوعا، ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى. والغرض منه بيان أنه كان من أصحاب الشجرة، والحفالة بالمهملة والفاء بمعنى الحثالة بالمثلثة، والفاء قد تقع موضع الثاء، والمراد بها الرديء من كل شيء. حديث المسور ومروان في قصة الحديبية، ذكره مختصرا جدا من رواية سفيان - وهو ابن عيينة - عن الزهري وقال فيه: "لا أحصي كم سمعته من سفيان، حتى سمعته يقول: لا أحفظ من الزهري الأشعار والتقليد إلخ" وهذا كلام علي بن المديني، وسيأتي هذا الحديث في هذا الباب من رواية عبيد الله بن محمد الجعفي عن سفيان بن عيينة أتم من رواية علي، ولكن قال فيه: "حفظت بعضه وثبتني معمر" وسأذكر ما يتعلق بشرحه، وهو الحديث الخامس والعشرون فيه. وأغرب الكرماني فحمل قول علي بن المديني "لا أحصي كم سمعته من سفيان" على أنه شك في العدد الذي سمعه منه هل قال ألف وخمسمائة أو ألف وأربعمائة أو ألف وثلاثمائة، ويكفي في التعقب عليه أن حديث سفيان هذا ليس فيه تعرض للتردد في عددهم، بل الطرق كلها جازمة بأن الزهري قال في روايته: "كانوا بضع عشرة مائة" وكذلك كل من رواه عن سفيان، وإنما وقع الاختلاف في حديث جابر والبراء كما تقدم مبسوطا. قوله: "حدثنا الحسن بن خلف" هو الواسطي، ثقة من صغار شيوخ البخاري، وما له عنه في الصحيح سوى هذا الموضع. قوله: "عن أبي بشر ورقاء" هو ابن عمر اليشكري، وهو مشهور باسمه. وابن أبي نجيح اسمه عبد الله واسم أبي نجيح يسار بمهملة، وحديث كعب بن عجرة هذا ذكره المصنف من وجهين عن مجاهد في آخر هذا الباب، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج.
4161,4160- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى السُّوقِ فَلَحِقَتْ عُمَرَ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ فَقَالَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلَكَ زَوْجِي وَتَرَكَ صِبْيَةً صِغَارًا وَاللَّهِ مَا يُنْضِجُونَ كُرَاعًا وَلاَ لَهُمْ زَرْعٌ وَلاَ ضَرْعٌ وَخَشِيتُ أَنْ تَأْكُلَهُمْ الضَّبُعُ وَأَنَا بِنْتُ خُفَافِ بْنِ إِيْمَاءَ الْغِفَارِيِّ وَقَدْ شَهِدَ أَبِي الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَفَ مَعَهَا عُمَرُ وَلَمْ يَمْضِ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِنَسَبٍ قَرِيبٍ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرٍ ظَهِيرٍ كَانَ مَرْبُوطًا فِي الدَّارِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ غِرَارَتَيْنِ مَلاَهُمَا طَعَامًا وَحَمَلَ بَيْنَهُمَا نَفَقَةً وَثِيَابًا ثُمَّ نَاوَلَهَا بِخِطَامِهِ ثُمَّ قَالَ اقْتَادِيهِ فَلَنْ يَفْنَى حَتَّى يَأْتِيَكُمْ اللَّهُ بِخَيْرٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَكْثَرْتَ

(7/445)


لَهَا قَالَ عُمَرُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَاللَّهِ إِنِّي لاَرَى أَبَا هَذِهِ وَأَخَاهَا قَدْ حَاصَرَا حِصْنًا زَمَانًا فَافْتَتَحَاهُ ثُمَّ أَصْبَحْنَا نَسْتَفِيءُ سُهْمَانَنا فِيهِ"
الحديث العاشر والحادي عشر قوله: "فلحقت عمر امرأة شابة" لم أقف على اسمها ولا على اسم زوجها ولا اسم أحد من أولادها، وزوجها صحابي لأن من كان له في ذلك الزمان أولاد يدل على أن له دراكا، وهذه بنت صحابي لا يبعد أن يكون لها رؤية، فالذي يظهر أن زوجها صحابي أيضا. وفي رواية معن عن مالك عند الإسماعيلي: "فلقينا امرأة قد شبثت بثيابه" وللدار قطني من هذا الوجه "إني امرأة مؤتمة" وله من طريق سعيد بن داود عن مالك "فتعلقت بثيابه". قوله: "وترك صبية صغارا" في رواية سعيد بن داود "وخلف صبيين صغيرين" فيحتمل أن يكون معهما بنت أو أكثر. قوله: "فقالت يا أمير المؤمنين" زاد الدار قطني من طريق عبد العزيز بن يحيى عن مالك" فقال من معه: دعي أمير المؤمنين". قوله: "ما ينضجون" بضم أوله وسكون النون وكسر الضاد المعجمة بعدها جيم. قوله: "كراعا" بضم الكاف هو ما دون الكعب من الشاة، قال الخطابي: معناه أنهم لا يكفون أنفسهم معالجة ما يأكلونه، ويحتمل أن يكون المراد لا كراع لهم فينضجونه. قوله: "ليس لهم ضرع" بفتح الضاد المعجمة وسكون الراء: ليس لهم ما يحلبونه. وقوله: "ولا زرع" أي ليس لهم نبات. قوله: "وخشيت أن تأكلهم الضبع" أي السنة المجدبة، ومعنى تأكلهم أي تهلكهم. قوله: "وأنا بنت خفاف" بضم المعجمة وفاءين الأولى خفيفة. قوله: "إيماء" بكسر الهمزة ويقال بفتحها وسكون التحتانية والمد، وخفاف صحابي مشهور قيل له ولأبيه ولجده صحبة حكاه ابن عبد البر، قال: وكانوا ينزلون غيقة يعني بغين معجمة وتحتانية ساكنة وقاف ويأتون المدينة كثيرا، ولخفاف هذا حديث عند مسلم موصول. قوله: "شهد أبي الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" ذكر الواقدي من حديث أبي رهم الغفاري قال: "لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالأبواء أهدى له إيماء بن رحضة الغفاري مائة شاة وبعيرين يحملان لبنا، وبعث بها مع ابنه خفاف، فقبل هديته وفرق الغنم في أصحابه ودعا بالبركة". قوله: "بنسب قريب" يحتمل أن يريد قرب نسب غفار من قريش، لأن كنانة تجمعهم. أو أراد أنها انتسبت إلى شخص واحد معروف. قوله: "بعير ظهير" أي قوي الظهر معد للحاجة. قوله: "اقتاديه" بقاف ومثناة وفي رواية سعيد بن داود "وقودي هذا البعير". قوله: "حتى يأتيكم الله بخير" في رواية سعيد بن داود "بالرزق". قوله: "فقال رجل" لم أقف على اسمه. قوله: "ثكلتك أمك" هي كلمة تقولها العرب للإنكار ولا تريد بها حقيقتها. قوله: "إني لأرى أبا هذه" يعني خفافا. قوله: "وأخاها" لم أقف على اسمه وكان لخفاف ابنان الحارث ومخلد لكنهما تابعيان فوهم من فسر الأخ الذي ذكره عمر بأحدهما، لأن مقتضى هذه القصة أن يكون الولد المذكور صحابيا، وإذا ثبت ما ذكره ابن عبد البر أن لخفاف وأبيه وجده صحبة اقتضى أن يكون هؤلاء أربعة في نسق لهم صحبة، وهم ولد خفاف وخفاف وإيماء ورحضة، فتذاكر بهم مع بيت الصديق خلافا لمن زعم أنه لم يوجد أربعة في نسق لهم صحبة لا في بيت الصديق، وقد جمعت من وقع له ذلك ولو من طريق ضعيف فبلغوا عشرة أمثلة، منهم زيد بن حارث وأبوه وولده أسامة وولد أسامة، لأن الواقدي وصف أسامه بأنه تزوج في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وولد له. قوله: "قد حاصرا حصنا" لم أعرف الغزوة التي وقع فيها ذلك، ويحتمل احتمالا قريبا أن تكون خيبر لأنها كانت بعد الحديبية وحوصرت حصونها.
قوله: "نستفئ" بالمهملة وبالفاء وبالهمز أي نسترجع، يقول

(7/446)


هذا المال أخذته فيئا. وفي رواية الحموي بالقاف بغير همز. وقوله: "سهماننا" أي أنصباؤنا من الغنيمة.
4162- حَدَّثَنِا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ أَبُو عَمْرٍو الْفَزَارِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "لَقَدْ رَأَيْتُ الشَّجَرَةَ ثُمَّ أَتَيْتُهَا بَعْدُ فَلَمْ أَعْرِفْهَا"قال محمود "ثم أنسيتها بعد"
[الحديث 4162- أطرافه في: 4165,4164,4163]
4163- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ "انْطَلَقْتُ حَاجًّا فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ يُصَلُّونَ قُلْتُ مَا هَذَا الْمَسْجِدُ قَالُوا هَذِهِ الشَّجَرَةُ حَيْثُ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ فَأَتَيْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قَالَ فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ نَسِينَاهَا فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهَا فَقَالَ سَعِيدٌ إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَعَلِمْتُمُوهَا أَنْتُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ!"
4164- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا طَارِقٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَرَجَعْنَا إِلَيْهَا الْعَامَ الْمُقْبِلَ فَعَمِيَتْ عَلَيْنَا"
4165- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ طَارِقٍ قَالَ "ذُكِرَتْ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ الشَّجَرَةُ فَضَحِكَ فَقَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي وَكَانَ شَهِدَهَا...."
الحديث الثاني عشر حديث سعيد بن المسيب عن أبيه في الشجرة، أورده من طريق قتادة عنه، ومن طريق طارق بن عبد الرحمن عن سعيد من ثلاثة طرق إلى طارق. قوله: "لقد رأيت الشجرة" أي التي كانت بيعة الرضوان تحتها، ووقع في بعض النسخ" قال محمود ثم أنسيتها". قوله: "ثم أتيتها بعد فلم أعرفها" بين رواية طارق أنه أتاها في العام المقبل فلم يعرفها. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان، وعبيد الله هو ابن موسى وهو من شيوخ البخاري، وقد يحدث عنه بواسطة كما هنا. قوله: "انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون" لم أقف على اسم أحد منهم، وزاد الإسماعيلي من رواية قيس بن الربيع عن طارق "في مسجد الشجرة". قوله: "نسيناها" في رواية الكشميهني والمستملي: "أنسيناها" بضم الهمزة وسكون النون أي أنسينا موضعها بدليل "فلم نقدر عليها". قوله: "فقال سعيد" أي ابن المسيب" إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم؟ فأنتم أعلم" قال سعيد هذا الكلام منكرا، وقوله: "فأنتم أعلم" هو على سبيل التهكم. وفي رواية قيس بن الربيع "إن أقاويل الناس كثيرة". قوله: "فرجعنا إليها العام المقبل" في رواية عفان عن أبي عوانة عند الإسماعيلي: "فانطلقنا في قابل حاجين" كذا أطلق، وهم كانوا معتمرين، لكن يطلق عليها الحج كما يقال: العمرة الحج الأصغر. قوله: "فعميت علينا" أي أبهمت، في رواية عفان "فعمي علينا مكانها" وزاد: "فإن كانت بينت لكم فأنتم أعلم". قوله: "ذكرت عند سعيد بن المسيب الشجرة فضحك فقال: أخبرني أبي وكان شهدها" زاد الإسماعيلي من طريق أبي زرعة عن قبيصة شيخ البخاري فيه: "أنهم

(7/447)


أتوها من العام القابل فأنسيناها" وقد قدمت الحكمة في إخفائها عنهم في "باب البيعة على الحرب" من كتاب الجهاد عند الكلام على حديث ابن عمر في معنى ذلك، لكن إنكار سعيد بن المسيب على من زعم أنه عرفها معتمدا على قول أبيه إنهم لم يعرفوها في العام المقبل لا يدل على رفع معرفتها أصلا، فقد وقع عند المصنف من حديث جابر الذي قبل هذا" لو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة" فهذا يدل على أنه كان يضبط مكانها بعينه، وإذا كان في آخر عمره بعد الزمان الطويل يضبط موضعها ففيه دلالة على أنه كان يعرفها بعينها لأن الظاهر أنها حين مقالته تلك كانت هلكت إما بجفاف أو بغيره، واستمر هو يعرف موضعها بعينه. ثم وجدت عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة فيصلون عندها فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقطعت.
4166- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَةٍ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى ".
الحديث الثالث عشر حديث عبد الله بن أبي أوفى في قوله: "اللهم صل على آل أبي أوفى" وقد تقدم شرحه في كتاب الزكاة، وذكر هنا لقوله: "وكان من أصحاب الشجرة".
4167- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَخِيهِ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ قَالَ "لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحَرَّةِ وَالنَّاسُ يُبَايِعُونَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ عَلَى مَا يُبَايِعُ ابْنُ حَنْظَلَةَ النَّاسَ قِيلَ لَهُ عَلَى الْمَوْتِ قَالَ لاَ أُبَايِعُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ شَهِدَ مَعَهُ الْحُدَيْبِيَةَ"
الحديث الرابع عشر قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أويس، وأخوه أبو بكر عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال، وعمرو بن يحيى هو المازني، وعباد بن تميم أي ابن أبي زيد من عاصم المازني وكلهم مدنيون. قوله: "لما كان يوم الحرة" أي لما خلع أهل المدينة بيعة يزيد بن معاوية وبايعوا عبد الله بن حنظلة أي ابن أبي عامر الأنصاري. قوله: "فقال ابن زيد" هو عبد الله بن زيد بن عاصم عم عباد بن تميم. قوله: "ابن حنظلة" هو عبد الله، وصرح به الإسماعيلي في روايته، وقوله: "يبايع الناس" أي على الطاعة له وخلع يزيد بن معاوية. وعكس الكرماني فزعم أنه كان يبايع الناس ليزيد بن معاوية، وهو غلط كبير. قوله: "لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيه إشعار بأنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الموت وقد تقدم شرح ذلك مستوفي في "باب البيعة على الحرب" من كتاب الجهاد، وذكرت هناك ما وقع للكرماني من الخبط في شرح قوله ابن حنظلة. ووقع في رواية الإسماعيلي من الزيادة "وقتل عبد الله بن زيد يوم الحرة" وكان السبب في البيعة تحت الشجرة ما ذكر ابن إسحاق قال: "حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن عثمان قد قتل فقال: لئن كانوا قتلوه لأناجزنهم، فدعا الناس إلى البيعة فبايعوه على القتال على أن لا يفروا. قال: فبلغهم بعد ذلك أن الخبر باطل ورجع عثمان". وذكر أبو الأسود في المغازي عن عروة السبب في ذلك مطولا قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بالحديبية أحب

(7/448)


أن يبعث إلى قريش رجلا يخبرهم بأنه إنما جاء معتمرا، فدعا عمر ليبعثه فقال: والله لا آمنهم على نفسي، فدعا عثمان فأرسله وأمره أن يبشر المستضعفين من المؤمنين بالفتح قريبا، وأن الله سيظهر دينه. فتوجه عثمان فوجد قريشا نازلين ببلدح، قد اتفقوا على أن يمنعوا النبي صلى الله عليه وسلم من دخول مكة، فأجاره أبان بن سعيد بن العاص قال وبعثت قريش بديل بن ورقاء وسهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "فذكر القصة التي مضت مطولة في الشروط قال: "وآمن الناس بعضهم بعضا، وهم في انتظار الصلح، إذ رمى رجل من الفريقين رجلا من الفريق الآخر فكانت معاركة، وتراموا بالنبل والحجارة. فارتهن كل فريق من عندهم، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، فجاءه المسلمون وهو نازل تحت الشجرة التي كان يستظل بها، فبايعوه على أن لا يفروا، وألقى الله الرعب في قلوب الكفار فأذعنوا إلى المصالحة". وروى البيهقي في "الدلائل" من مرسل الشعبي قال: "كان أول من انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الناس إلى البيعة تحت الشجرة أبو سنان الأزدي" وروى مسلم في حديث سلمة بن الأكوع قال: "ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى البيعة فبايعه أول الناس" فذكر الحديث قال: "ثم إن المشركين راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض، قال: فاضطجعت في أصل شجرة فأتاني أربعة من المشركين فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحولت عنهم إلى شجرة أخرى، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا آل المهاجرين، قال فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم، ثم جئت بهم أسوقهم، وجاء عمي برجل يقال له مكرز في ناس من المشركين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثنياه ، فعفا عنهم، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} وروى مسلم أيضا من حديث أنس أن رجالا من أهل مكة هبطوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل التنعيم ليقاتلوه، فأخذهم، فعفا عنهم فأنزل الله الآية.
4168- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى الْمُحَارِبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ قَالَ "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ فِيهِ"
4169- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ "قُلْتُ لِسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ"
4170- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِشْكَابٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ الْعَلاَءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "لَقِيتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقُلْتُ طُوبَى لَكَ صَحِبْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَايَعْتَهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثْنَا بَعْدَهُ "
4171- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ هُوَ ابْنُ سَلاَمٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ "أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ".

(7/449)


الحديث الخامس عشر حديث مسلمة بن الأكوع في وقت صلاة الجمعة، أورده لقوله فيه: وكان من أصحاب الشجرة. قوله: "حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي" هو كوفي ثقة من قدماء شيوخ البخاري، مات سنة ست عشرة ومائتين، وأبوه يعلى بن الحارث المحاربي ثقة أيضا، مات سنة ثمان وستين ومائة، وما لهما في البخاري لا هذا الحديث. قوله: "ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل فيه" استدل به لمن يقول بأن صلاة الجمعة تجزئ قبل الزوال، لأن الشمس إذا زالت ظهرت الظلال. وأجيب بأن النفي إنما تسلط على وجود ظل يستظل به لا على وجود الظل مطلقا، والظل الذي يستظل به لا يتهيأ لا بعد الزوال بمقدار يختلف في الشتاء والصيف، وقد تقدم بسط هذه المسألة ونقل الخلاف فيها في كتاب الجمعة. قوله: "حدثنا حاتم" هو ابن إسماعيل. قوله: "على الموت" تقدم الكلام عليه في "باب البيعة على الحرب" من كتاب الجهاد، وذكرت كيفية الجمع بينه وبين قول جابر لهم "نبايعه على الموت" وكذا روى مسلم من حديث معقل بن يسار مثل حديث جابر، وحاصل الجمع أن من أطلق أن البيعة كانت على الموت أراد لازمها لأنه إذا بايع على أن لا يفر لزم من ذلك أن يثبت، والذي يثبت إما أن يغلب وإما أن يؤسر، والذي يؤسر إما أن ينجو وإما أن يموت، ولما كان الموت لا يؤمن في مثل ذلك أطلقه الراوي. وحاصله أن أحدهما حكى صورة البيعة، والآخر حكى ما تئول إليه. وجمع الترمذي بأن بعضا بايع على الموت وبعضا بايع على أن لا يفر. قوله: "عن العلاء بن المسيب" أي ابن رافع الكوفي، وهو وأبوه ثقتان، وما له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر في الدعوات، ولأبيه حديث آخر في الأدب من رواية منصور بن المعتمر عنه. قوله: "طوبى لك صحبت النبي صلى الله عليه وسلم" غبطه التابعي بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مما يغبط به، لكن سلك الصحابي مسلك التواضع في جوابه. وطوبى في الأصل شجرة في الجنة تقدم تفسيرها في صفة الجنة في بدء الخلق، وتطلق ويراد بها الخير أو الجنة أو أقصى الأمنية. وقيل: هي من الطيب أي طاب عيشكم. قوله: "فقال يا ابن أخي" في رواية الكشميهني يا ابن أخ بغير إضافة، وهي على عادة العرب في المخاطبة، أو أراد أخوة الإسلام. قوله: "إنك لا تدري ما أحدثناه بعده" يشير إلى ما وقع لهم من الحروب وغيرها فخاف غائلة ذلك، وذلك من كمال فضله. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن منصور، ويحيى بن صالح هو الوحاظي وهو من شيوخ البخاري، وقد يحدث عنه بواسطة كما هنا، ومعاوية بن سلام بالتشديد، ويحيى هو ابن أبي كثير. ووقع في رواية ابن السكن "عن زيد بن سلام" بدل يحيى بن أبي كثير قال أبو علي الجياني: ولم يتابع على ذلك، وقد وقع في رواية النسفي عن البخاري كما قال الجمهور، وكذا هو عند مسلم وأبي داود من طريق معاوية بن سلام عن يحيى. قوله: "أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة" هكذا أورده مختصرا مقتصرا على موضع حاجته منه، وبقية الحديث قد أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عن معاوية بهذا الإسناد وزاد: "وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال" الحديث، وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى.
4172- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قَالَ الْحُدَيْبِيَةُ قَالَ أَصْحَابُهُ هَنِيئًا مَرِيئًا فَمَا لَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} قَالَ شُعْبَةُ فَقَدِمْتُ الْكُوفَةَ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا كُلِّهِ

(7/450)


عَنْ قَتَادَةَ ثُمَّ رَجَعْتُ فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ أَمَّا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} فَعَنْ أَنَسٍ "وَأَمَّا هَنِيئًا مَرِيئًا" فَعَنْ عِكْرِمَةَ
[الحديث 4172- طرفه: 4834]
الحديث التاسع عشر قوله: "عن أنس بن مالك {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: الحديبية سيأتي الكلام عليه في تفسير سورة الفتح إن شاء الله تعالى، وأفاد هنا أن بعض الحديث عن قتادة عن أنس وبعضه عن عكرمة، وقد أورده الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد عن شعبة، وجمع في الحديث بين أنس وعكرمة وساقه مساقا واحدا، وقد أوضحته في "كتاب المدرج".
4174- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَجْزَأَةَ بْنِ زَاهِرٍ الأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الشَّجَرَةَ قَالَ "إِنِّي لاَوقِدُ تَحْتَ الْقِدْرِ بِلُحُومِ الْحُمُرِ إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَاكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ"
4174- وَعَنْ مَجْزَأَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ اسْمُهُ أُهْبَانُ بْنُ أَوْسٍ "وَكَانَ اشْتَكَى رُكْبَتَهُ وَكَانَ إِذَا سَجَدَ جَعَلَ تَحْتَ رُكْبَتِهِ وِسَادَةً"
4175- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ أُتُوا بِسَوِيقٍ فَلاَكُوهُ"
تَابَعَهُ مُعَاذٌ عَنْ شُعْبَةَ
4176- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ بَزِيعٍ حَدَّثَنَا شَاذَانُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ "سَأَلْتُ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ هَلْ يُنْقَضُ الْوِتْرُ قَالَ إِذَا أَوْتَرْتَ مِنْ أَوَّلِهِ فَلاَ تُوتِرْ مِنْ آخِرِهِ"
الحديث العشرون قوله: "حدثنا أبو عامر" هو عبد الملك بن عمرو العقدي، ووقع في رواية ابن السكن "حدثنا عثمان بن عمرو" بدل أبي عامر. قوله: "عن إسرائيل" كذا في الأصول ولا بد منه، وحكى بعض الشراح أنه وقع في بعض النسخ بإسقاطه. قلت: ولا أعتقد صحة ذلك، بل إن كان سقط من نسخة فتلك النسخة غير معتمدة. قوله: "عن مجزأة" بفتح الميم والزاي بينهما جيم ساكنة وبهمزة مفتوحة قبل الهاء وقال أبو على الجياني: المحدثون يسهلون الهمزة ولا يلفظون بها وقد يكسرون الميم، وأبوه زاهر هو ابن الأسود بن الحجاج، وليس له في البخاري لا هذا الحديث. قوله: "عن أبيه" كذا للجميع، ووقع في رواية الأصيلي عن أبي زيد المروزي "عن أنس" بدل قوله عن أبيه وهو تصحيف نبه عليه أبو علي الجياني. قوله: "إني لأوقد تحت القدور بلحوم الحمر" يعني يوم خيبر كما سيأتي فيها واضحا، وقد تعقب الداودي ما وقع هنا فقال: هذا وهم، فإن النهي عن لحوم الحمر الأهلية لم يكن بالحديبية وإنما كان بخيبر ا هـ. وليس في السياق أن ذلك كان في يوم الحديبية، وإنما ساق البخاري

(7/451)


الحديث في الحديبية لقوله فيه: "وكان ممن شهد الشجرة" ولم يتعرض لمكان النداء بذلك، مع أن غالب من بايع تحت الشجرة شهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بعد رجوعهم. قوله: "وعن مجزأة" يعني بالإسناد المذكور قبله، وليس لمجزأة في البخاري إلا هذا الحديث والذي قبله. قوله: "عن رجل منهم" يعني من بني أسلم. وقال الكرماني: أي من الصحابة. والأول أولى. قوله: "اسمه أهبان بن أوس" هو بضم الهمزة وسكون الهاء بعدها موحدة، وما له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد ذكره في التاريخ فقال: له صحبة، ونزل الكوفة، ويقال له وهبان أيضا. ثم ساق من طريق أنيس بن عمرو عن أهبان بن أوس أنه كان في غنم له فكلمه الذئب. قوله: "وكان "يعني أهبان "إذا سجد جعل تحت ركبته وسادة" ولعله كان كبر فكان يشق عليه تمكين ركبته من الأرض فوضع تحتها وسادة لينة لا تمنع اعتماده عليها من التمكين لاحتمال أن يبس الأرض كان يضر ركبته. قوله: "أتوا بسويق فلاكوه" هو طرف من حديث تقدم في الطهارة وفي الجهاد، وسيأتي بتمامه قريبا في غزوة خيبر إن شاء الله تعالى. قوله: "تابعه معاذ عن شعبة" يعني بالإسناد المذكور، وقد وصلها الإسماعيلي عن يحيى بن محمد عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه به مختصرا، وزاد فيه: "وذلك بعد أن رجعوا من خيبر" قوله: "حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع" بفتح الموحدة وكسر الزاي بوزن عظيم وآخره مهملة، وشاذان هو الأسود بن عامر. قوله: "عن أبي جمرة" بجيم وراء هو نصر بن عمران الضبعي ووقع في رواية أبي ذر عن الكشميهني بالمهملة والزاي وهو تصحيف. قوله: "سألت عائذ بن عمرو" هو بتحتانية مهموز وذال معجمة وهو ابن عمر بن هلال المزني، عاش إلى خلافة معاوية، ما له في البخاري لا هذا الحديث. قوله: "هل ينقض الوتر؟" يعني إذا أوتر المرء ثم نام وأراد أن يتطوع هل يصلي ركعة ليصير الوتر شفعا ثم يتطوع ما شاء ثم يوتر محافظة على قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" أو يصلي تطوعا ما شاء ولا ينقض وتره ويكتفي بالذي تقدم فأجاب باختيار الصفة الثانية فقال: "إذا أوترت من أوله فلا توتر من آخره" زاد الإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة بهذا الإسناد "إذا أوترت من آخره فلا توتر أوله" وزاد فيه أيضا: "وسألت ابن عباس عن نقض الوتر فذكر مثله" وهذه المسألة اختلف فيها السلف فكان ابن عمر ممن يرى نقض الوتر، والصحيح عند الشافعية أنه لا ينقض كما في حديث الباب، وهو قول المالكية.
4177- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا عُمَرُ نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُجِيبُكَ قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي قَالَ فَقُلْتُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ وَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْ سُ ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} .
[الحديث 4177- طرفاه في: 5012,4833]

(7/452)


الحديث الرابع والعشرون قوله: "عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وكان عمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر عن شيء الحديث" هذا صورته مرسل، ولكن بقيه تدل على أنه عن عمر، لقوله في أثنائه "قال عمر: فحركت بعيري إلخ" وقد أشبعت القول فيه في المقدمة، وقد أورده الإسماعيلي من طريق محمد بن خالد بن عثمة عن ملك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: "سمعت عمر بن الخطاب" فذكره، وسيأتي شرح المتن في تفسير سورة الفتح إن شاء الله تعالى. قوله: "نزرت" بنون وزاي ثقيلة أي ألححت. وقال أبو ذر الهروي: لم أسمعه إلا بالتخفيف.
4179,4178- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ حِينَ حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ حَفِظْتُ بَعْضَهُ وَثَبَّتَنِي مَعْمَرٌ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قَالاَ "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ بِغَدِيرِ الأَشْطَاطِ أَتَاهُ عَيْنُهُ قَالَ إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الأَحَابِيشَ وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ وَمَانِعُوكَ فَقَالَ أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيلَ إِلَى عِيَالِهِمْ وَذَرَارِيِّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنْ الْبَيْتِ فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَطَعَ عَيْنًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَإِلاَ تَرَكْنَاهُمْ مَحْرُوبِينَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لاَ تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ وَلاَ حَرْبَ أَحَدٍ فَتَوَجَّهْ لَهُ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ قَالَ امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ "
4181,4180- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنِي ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ يُخْبِرَانِ خَبَرًا مِنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَانَ فِيمَا أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْهُمَا "أَنَّهُ لَمَّا كَاتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى قَضِيَّةِ الْمُدَّةِ وَكَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا وَخَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَأَبَى سُهَيْلٌ أَنْ يُقَاضِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ عَلَى ذَلِكَ فَكَرِهَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ وَامَّعَضُوا فَتَكَلَّمُوا فِيهِ فَلَمَّا أَبَى سُهَيْلٌ أَنْ يُقَاضِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ عَلَى ذَلِكَ كَاتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلٍ يَوْمَئِذٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَجَاءَتْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ عَاتِقٌ فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ حَتَّى ==بعده

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............