كتاب :22 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
=الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ
جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ "اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ" وَعَنْ
الأَعْمَشِ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ فَإِنَّ الْبَرَاءَ يَقُولُ
اهْتَزَّ السَّرِيرُ فَقَالَ إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ
ضَغَائِنُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
"اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ"
3804-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أُنَاسًا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ
الْمَسْجِدِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا إِلَى خَيْرِكُمْ أَوْ
سَيِّدِكُمْ فَقَالَ يَا سَعْدُ إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ قَالَ
فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى
ذَرَارِيُّهُمْ قَالَ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ أَوْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ"
قوله: "باب مناقب سعد بن معاذ" أي ابن النعمان بن امرئ القيس بن عبد
الأشهل، وهو كبير الأوس، كما أن سعد بن عبادة كبير الخزرج، وإياهما أراد الشاعر
بقوله:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف
قوله: "أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير" الذي أهداها له أكيدر
دومة، كما بينه أنس في حديثه المتقدم في كتاب الهبة.قوله: "رواه قتادة
والزهري سمعا أنسا عن النبي صلى الله عليه وسلم" أما رواية قتادة فوصلها
المؤلف في الهبة، وأما رواية الزهري فوصلها في اللباس، ويأتي ما يتعلق بها هناك إن
شاء الله تعالى.قوله: "حدثنا فضل بن مساور "بضم الميم وتخفيف المهملة،
هو بصري يكنى أبا المساور، وكان ختن أبي عوانة، وليس له في البخاري إلا هذا
الموضع.قوله: "ختن أبي عوانة" بفتح المعجمة والمثناة أي صهره زوج ابنته،
والختن يطلق على كل من كان من أقارب المرأة.قوله: "وعن الأعمش" هو معطوف
على الإسناد الذي قبله، وهذا من شأن البخاري في حديث أبي سفيان طلحة بن نافع صاحب
جابر لا يخرج له إلا مقرونا بغيره أو استشهادا.قوله: "فقال رجل لجابر"
لم أقف على اسمه.قوله: "فإن البراء يقول: اهتز السرير" أي الذي حمل
عليه.قوله: "إنه كان بين هذين الحيين" أي الأوس والخزرج. قوله:
"ضغائن" بالضاد والغين المعجمتين جمع ضغينة وهي الحقد، قال الخطابي:
إنما قال جابر ذلك لأن سعدا كان من الأوس والبراء خزرجي والخزرج لا تقر للأوس
بفضل، كذا قال وهو خطأ فاحش، فإن البراء أيضا أوسي لأنه ابن عازب بن الحارث بن عدي
بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، يجتمع مع سعد بن
معاذ في الحارث بن الخزرج، والخزرج والد الحارث بن الخزرج، وليس هو الخزرج الذي
يقابل الأوس وإنما هي على اسمه.نعم الذي من الخزرج الذين هم مقابلو الأوس جابر؛
وإنما قال جابر ذلك إظهارا للحق واعترافا بالفضل لأهله، فكأنه تعجب من البراء كيف
قال ذلك مع أنه أوسي، ثم قال: أنا وإن كنت خزرجيا وكان بين الأوس والخزرج ما كان،
لا يمنعني ذلك أن أقول الحق، فذكر الحديث.والعذر للبراء أنه لم يقصد تغطية فضل سعد
بن معاذ، وإنما فهم ذلك فجزم به، هذا الذي يليق أن يظن به، وهو دال على عدم
تعصبه.ولما جزم الخطابي بما تقدم احتاج هو ومن تبعه إلى الاعتذار عما صدر من جابر
في حق البراء وقالوا في ذلك ما محصله: إن البراء معذور لأنه لم يقل ذلك على سبيل
العداوة لسعد، وإنما فهم شيئا محتملا فحمل الحديث عليه، والعذر لجابر أنه ظن أن
(7/123)
البراء أراد الغض من سعد فساغ له أن ينتصر له، والله أعلم. وقد أنكر ابن عمر ما أنكره البراء فقال: إن العرش لا يهتز لأحد، ثم رجع عن ذلك وجزم بأنه اهتز له عرش الرحمن، أخرج ذلك ابن حبان من طريق مجاهد عنه، والراد باهتزاز العرش استبشاره وسروره بقدوم روحه، يقال لكل من فرح بقدوم قادم عليه اهتز له، ومنه اهتزت الأرض بالنبات إذا اخضرت وحسنت، ووقع ذلك من حديث ابن عمر عند الحاكم بلفظ: "اهتز العرش فرحا به" لكنه تأوله كما تأوله البراء بن عازب فقال: اهتز العرش فرحا بلقاء الله سعدا حتى تفسخت أعواده على عواتقنا، قال ابن عمر: يعني عرش سعد الذي حمل عليه، وهذا من رواية عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عمر، وفي حديث عطاء مقال لأنه ممن اختلط في آخر عمره، ويعارض روايته أيضا ما صححه الترمذي من حديث أنس قال: "لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة كانت تحمله " قال الحاكم: الأحاديث التي تصرح باهتزاز عرش الرحمن مخرجة في الصحيحين. وليس لمعارضها في الصحيح ذكر، انتهى. وقيل: المراد باهتزاز العرش اهتزاز حملة العرش، ويؤيده حديث: "إن جبريل قال: من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واستبشر به أهلها" أخرجه الحاكم، وقيل: هي علامة نصبها الله لموت من يموت من أوليائه ليشعر ملائكته بفضله. وقال الحربي: إذا عظموا الأمر نسبوه إلى عظيم كما يقولون قامت لموت فلان القيامة وأظلمت الدنيا ونحو ذلك، وفي هذه منقبة عظيمة لسعد، وأما تأويل البراء على أنه أراد بالعرش السرير الذي حمله عليه فلا يستلزم ذلك فضلا له لأنه يشركه في ذلك كل ميت، إلا أنه يريد اهتز حملة السرير فرحا بقدومه على ربه فيتجه. ووقع لمالك نحو ما وقع لابن عمر أولا، فذكر صاحب "العتبية" فيها أن مالكا سئل عن هذا الحديث فقال: أنهاك أن تقوله، وما يدعو المرء أن يتكلم بهذا وما يدري ما فيه من الغرور. قال أبو الوليد بن رشد في "شرح العتبية" إنما نهى مالك لئلا يسبق إلى وهم الجاهل أن العرش إذا تحرك يتحرك الله بحركته كما يقع للجالس منا على كرسيه، وليس العرش بموضع استقرار الله، تبارك الله وتنزه عن مشابهة خلقه. انتهى ملخصا. والذي يظهر أن مالكا ما نهى عنه لهذا، إذ لو خشي من هذا لما أسند في "الموطأ" حديث: "ينزل الله إلى سماء الدنيا" لأنه أصرح في الحركة من اهتزاز العرش، ومع ذلك فمعتقد سلف الأئمة وعلماء السنة من الخلف أن الله منزه عن الحركة والتحول والحلول ليس كمثله شيء، ويحتمل الفرق بأن حديث سعد ما ثبت عنده فأمر بالكف عن التحدث به بخلاف حديث النزول فإنه ثابت فرواه ووكل أمره إلى فهم أولي العلم الذين يسمعون في القرآن استوى على العرش، ونحو ذلك. وقد جاء حديث اهتزاز العرش لسعد بن معاذ عن عشرة من الصحابة أو أكثر وثبت في الصحيحين، فلا معنى لإنكاره. قوله: "أن أناسا نزلوا على حكم سعد" هم بنو قريظة، وسيأتي شرح ذلك في المغازي. وقوله في هذه الرواية: "فلما بلغ قريبا من المسجد" أي الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم أيام محاصرته لبني قريظة للصلاة فيه. وأخطأ من زعم أنه غلط من الراوي لظنه أنه أراد بالمسجد المسجد النبوي بالمدينة وقال إن الصواب ما وقع عند أبي داود من طريق شعبة أيضا بهذا الإسناد بلفظ: "فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم: "انتهى، وإذا حمل على ما قررته لم يكن بين اللفظين تناف وقد أخرجه مسلم كما أخرجه البخاري كذلك.
(7/124)
13 - باب مَنْقَبَةُ أُسَيْدِ بْنِ
حُضَيْرٍ وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
2805-حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلاَلٍ
حَدَّثَنَا هَمَّامٌ أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(7/124)
أَنَّ رَجُلَيْنِ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَإِذَا
نُورٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى تَفَرَّقَا فَتَفَرَّقَ النُّورُ مَعَهُمَا
وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ "إِنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ
وَرَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ" وَقَالَ حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ
أَنَسٍ "كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب منقبة أسيد بن حضير وعباد بن بشر" هو أسيد بن حضير بن سماك
بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري الأوسي الأشهلي،
يكنى أبا يحيى وقيل: غير ذلك، ومات في سنة عشرين في خلافة عمر على الأصح. وعباد بن
بشر هو ابن وقش كما سأبينه، وفي تاريخ البخاري ومسند أبي يعلى وصححه الحاكم من
طريق ابن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أبيه عن عائشة قالت: "ثلاثة من الأنصار لم
يكن أحد يعتد عليهم فضلا كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد
بن بشر". قوله: "أن رجلين" ظهر من رواية معمر أن أسيد بن حضير
أحدهما، ومن رواية حماد أن الثاني عباد بن بشر ولذلك جزم به المؤلف في الترجمة
وأشار إلى حديثهما، فأما رواية معمر فوصلها عبد الرزاق في مصنفه عنه، ومن طريقه
الإسماعيلي بلفظ: "أن أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار تحدثا عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى ذهب من الليل ساعة في ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل
منهما عصية، فأضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريق
أضاءت عصا الآخر فمشى كل منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله" وأما رواية حماد بن
سلمة فوصلها أحمد والحاكم في "المستدرك" بلفظ: "أن أسيد بن حضير
وعباد بن بشر كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء حندس، فلما خرجا
أضاءت عصا أحدهما فمشيا في ضوئها، فلما افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر".
قوله: "عباد بن بشر" كذا للأكثر بكسر الموحدة وسكون المعجمة. وفي رواية
أبي الحسن القابسي "بشير" بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية وهو غلط،
وفي الصحابة عباد بن بشر بن قيظي، وعباد بن بشر بن نهيك، وعباد بن بشر بن وقش،
وصاحب هذه القصة هو هذا الثالث، ووهم من زعم خلاف ذلك.
(7/125)
3 - باب مَنَاقِبُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3806-حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن عمرو عن أبراهيم عن مسروق عن
عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول
"استقرئو القرآن من أربعة: من ابن مسعود, وسالم مولى أبي حذيفة وأبي, ومعاذ
بن جبل"
قوله: "مناقب معاذ بن جبل" أي ابن عمرو بن أوس، من بني أسد بن شاردة بن
يزيد بفتح المثناة الفوقانية ابن جشم بن الخزرج الخزرجي، يكنى أبا عبد الرحمن، شهد
بدرا والعقبة، وكان أميرا للنبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، ورجع بعده إلى
المدينة، ثم خرج إلى الشام مجاهدا فمات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة. ذكر فيه
حديث عبد الله بن عمرو"استقرئوا القرآن" وقد تقدم شرحه قريبا، وقد أخرج
ابن حبان والترمذي من حديث أبي هريرة رفعه: "نعم الرجل معاذ بن جبل" كان
عقبيا بدريا من فقهاء الصحابة، وقد أخرج الترمذي وابن ماجه عن أنس رفعه:
(7/125)
"أرحم أمتي أبو بكر - وفيه - وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ" ورجاله ثقات، وصح عن عمر أنه قال: "من أراد الفقه فليأت معاذا"، وسيأتي له ذكر في تفسير سورة النحل، وعاش معاذ ثلاثا وثلاثين سنة على الصحيح.
(7/126)
15 - باب مَنْقَبَةُ سَعْدِ بْنِ
عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا
3807- حدثنا إسحاق حدثنا عبد الصمد حدثنا شعبة حدثنا قتادة قال سمعت أنس بن مالك
رضي الله عنه قال أبو أسيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير دور
الأنصار بنو النجار, ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحارث بن الخزرج, ثم بنو ساعدة,
وفي كل دور الأنصار خير" . فقال سعد بن عبادة- وكان ذا قدم في الإسلام -:أرى
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فضل علينا. فقيل له: قد فضلكم على ناس كثير"
قوله: "منقبة سعد بن عبادة" أي ابن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة
بن طريف بن الخزرج بن ساعدة يكنى أبا ثابت، وهو والد قيس بن سعد أحد مشاهير الصحابة،
وكان سعد كبير الخزرج وأحد المشهورين بالجود، ومات بحوران من أرض الشام سنة أربع
عشرة أو خمس عشرة في خلافة عمر. ثم ذكر فيه حديث أبي أسيد في دور الأنصار وقد تقدم
قريبا، وأورده هنا لقوله في هذه الطريق" وكان ذا قدم في الإسلام".قوله:
"وقالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلا صالحا" هذا طرف من حديث الإفك الطويل،
وسيأتي بتمامه في تفسير سورة النور إن شاء الله تعالى، وذكرت عائشة فيه ما دار بين
سعد بن عبادة وأسيد بن حضير حيث قال: "وإن كان من إخواننا من الخزرج فمرنا
بأمرك، فقال له سعد بن عبادة: لا تستطيع قتله" فثار بينهم الكلام إلى أن
أسكتهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأشارت عائشة إلى أن سعد بن عبادة كان قبل أن
يقول تلك المقالة رجلا صالحا، ولا يلزم من ذلك أن يكون خرج عن هذه الصفة إذ ليس في
الخبر تعرض لما بعد تلك المقالة، والظاهر استمرار ثبوت تلك الصفة له لأنه معذور في
تلك المقالة لأنه كان فيها متأولا، فلذلك أوردها المصنف في مناقبه، ولم يبد منه ما
يعاب به قبل هذه المقالة، وعذر سعد فيها ظاهر، لأنه تخيل أن الأوسي أراد الغض من
قبيلة الخزرج لما كان بين الطائفتين فرد عليه، ثم لم يقع من سعد بعد ذلك شيء يعاب
به إلا أنه امتنع من بيعة أبي بكر فيما يقال وتوجه إلى الشام فمات بها، والعذر له
في ذلك أنه تأول أن للأنصار في الخلافة استحقاقا فبنى على ذلك، وهو معذور وإن كان
ما اعتقده من ذلك خطأ.
(7/126)
16 - باب مَنَاقِبُ أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3808- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن إبراهيمعن مسروق قال
"ذكر عبد الله بن مسعود عند عبد الله بن عمرو فقال: ذاك رجل لاأزال أحبه,
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خذو القرآن من أربعة,من عبد الله بن
مسعود –فبدأ به- وسالم مولى أبي حذيفة,ومعاذ بن جبل, وأبي بن كعب" .
(7/126)
17- باب مَنَاقِبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3810- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنْ
الأَنْصَارِ أُبَيٌّ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَبُو زَيْدٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
قُلْتُ لِأَنَسٍ مَنْ أَبُو زَيْدٍ قَالَ أَحَدُ عُمُومَتِي"
[الحديث 3810- أطرافه في 5004,5003,3996]
قوله: "باب مناقب زيد بن ثابت" أي ابن الضحاك بن زيد بن لوذان، من بني
مالك بن النجار، كاتب الوحي وأحد فقهاء الصحابة.مات سنة خمس وأربعين.قوله:
"جمع القرآن" أي استظهره حفظا. قوله: "وأبو زيد. ثم قال أنس: هو
أحد عمومتي" ذكر علي بن المديني أن اسمه أوس، وعن يحيى بن معين هو ثابت بن زيد،
وقيل
(7/127)
هو سعد بن عبيد بن النعمان وبذلك جزم الطبراني عن شيخه أبي بكر بن صدقة قال: وهو الذي كان يقال له القارئ وكان على القادسية واستشهد بها، وهو والد عمير بن سعد. وعن الواقدي: هو قيس بن السكن بن قيس بن زعور بن حرام الأنصاري النجاري، ويرجحه قول أنس" أحد عمومتي" فإنه من قبيلة بني حرام، وليس في هذا ما يعارض حديث عبد الله بن عمرو "استقرئوا القرآن من أربعة" فذكر اثنين من الأربعة ولم يذكر اثنين، لأنه إما أن يقال لا يلزم من الأمر بأخذ القراءة عنهم أن يكونوا كلهم استظهروه جميعه، وإما أن لا يؤخذ بمفهوم حديث أنس لأنه لا يلزم من قوله: "جمعه أربعة" أن لا يكون جمعه غيرهم، فلعله أراد أنه لم يقع جمعه لأربعة من قبيلة واحدة إلا لهذه القبيلة وهي الأنصار، وسيأتي الكلام على جمع القرآن في كتاب فضائل القرآن.
(7/128)
3 - باب مَنَاقِبُ أَبِي طَلْحَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3811- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ
انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو
طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ
بِهِ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ
الْقِدِّ يَكْسِرُ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ
مَعَهُ الْجَعْبَةُ مِنْ النَّبْلِ فَيَقُولُ انْشُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ
فَأَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى
الْقَوْمِ فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي
لاَ تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ
وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا
لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تُنْقِزَانِ الْقِرَبَ عَلَى
مُتُونِهِمَا تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ثُمَّ تَرْجِعَانِ
فَتَمْلاَنِهَا ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ
وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ
وَإِمَّا ثَلاَثًا
قوله: "باب مناقب أبي طلحة" هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري
الخزرجي النجاري، هو زوج أم سليم والدة أنس، وقد تقدم بيان وفاته وتاريخها في
الجهاد. قوله: "مجوب" بفتح الجيم وكسر الواو المشددة أي مترس عليه يقيه
بها، ويقال للترس جوبة، والحجفة بمهملة ثم جيم مفتوحتين الترس. قوله: "شديد
القد يكسر" كذا للأكثر بنصب"شديدا" وبعدها "لقد" بلام ثم
قد، ولبعضهم بالإضافة "شديد القد" بسكون اللام وكسر القاف، والقد سير من
جلد غير مدبوغ، ويريد أنه شديد وتر القوس، وبهذا جزم الخطابي وتبعه ابن التين، وقد
روي بالميم المفتوحة بدل القاف. وسيأتي بقية ما يتعلق بهذا الحديث في المغازي إن
شاء الله تعالى.
(7/128)
باب مناقب عبدالله بن سلام رضي الله
عنه
...
19 - باب مَنَاقِبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3812- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكًا يُحَدِّثُ
عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ
أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلاَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ قَالَ وَفِيهِ نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} الْآيَةَ
قَالَ لاَ أَدْرِي قَالَ مَالِكٌ الْآيَةَ أَوْ فِي الحديث".
(7/128)
20 - باب تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ وَفَضْلِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
3815- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"حَدَّثَنِي صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ
سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ" .
3816- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ كَتَبَ
إِلَيَّ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا
غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ
عَلَى خَدِيجَةَ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ
يَذْكُرُهَا وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ وَإِنْ
كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلاَئِلِهَا مِنْهَا مَا
يَسَعُهُنَّ".
[الحديث 3816- أطرافه في: 7484,6004,5229,3818,3817]
3817- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى
خَدِيجَةَ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِيَّاهَا قَالَتْ وَتَزَوَّجَنِي بَعْدَهَا بِثَلاَثِ سِنِينَ وَأَمَرَهُ رَبُّهُ
عَزَّ وَجَلَّ أَوْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي
الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ"
3818- حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَنٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا
حَفْصٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ
مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا وَلَكِنْ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا وَرُبَّمَا
ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ
خَدِيجَةَ فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ
إِلاَّ خَدِيجَةُ فَيَقُولُ إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا
وَلَدٌ "
3819- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ قُلْتُ
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَشَّرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ "قَالَ نَعَمْ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ
لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ"
3820- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ
عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
(7/133)
عَنْهُ قَالَ "أَتَى جِبْرِيلُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ
خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ
فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي
وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ
نَصَبَ"
[الحديث 3820- طرفه في 7497]
3821- وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ
هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ
اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاعَ
لِذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَالَةَ قَالَتْ فَغِرْتُ فَقُلْتُ مَا تَذْكُرُ مِنْ
عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ
قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا"
قوله: "باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها" كذا في
النسخ" تزويج" وتفعيل قد يجيء بمعنى تفعل وهو المراد هنا، أو فيه حذف
تقديره تزويجه من نفسه. قوله: "خديجة" هي أول من تزوجها صلى الله عليه
وسلم، وهي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، تجتمع مع النبي صلى الله عليه
وسلم في قصي، وهي من أقرب نسائه إليه في النسب؛ ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا
أم حبيبة، وتزوجها سنة خمس وعشرين من مولده في قول الجمهور، زوجه إياها أبوها
خويلد ذكره البيهقي من حديث الزهري بإسناده عن عمار بن ياسر، وقيل: عمها عمرو بن
أسد ذكره الكلبي، وقيل: أخوها عمرو بن خويلد ذكره ابن إسحاق، وكانت قبله عند أبي
هالة بن النباش بن زرارة التميمي حليف بني عبد الدار، واختلف في اسم هالة فقيل
مالك قاله الزبير، وقيل: زرارة حكاه ابن منده، وقيل: هند جزم به العسكري، وقيل:
اسمه النباش جزم به أبو عبيد، وابنه هند روى عنه الحسن بن علي فقال: "حدثني
خالي" لأنه أخو فاطمة لأمها، ولهند هذا ولد اسمه هند ذكره الدولابي وغيره،
فعلى قول العسكري فهو ممن اشترك مع أبيه وجده في الاسم، ومات أبو هالة في
الجاهلية، وكانت خديجة قبله عند عتيق بن عائذ المخزومي. وكان النبي صلى الله عليه
وسلم قبل أن يتزوج خديجة قد سافر في مالها مقارضا إلى الشام، فرأى منه ميسرة
غلامها ما رغبها في تزوجه، قال الزبير: وكانت خديجة تدعى في الجاهلية الطاهرة،
وماتت على الصحيح بعد المبعث بعشر سنين في شهر رمضان، وقيل: بثمان، وقيل: بسبع،
فأقامت معه صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة على الصحيح. وقال ابن عبد البر
أربعا وعشرين سنة وأربعة أشهر، وسيأتي من حديث عائشة ما يؤيد الصحيح في أن موتها
قبل الهجرة بثلاث سنين، وذلك بعد المبعث على الصواب بعشر سنين، وقد تقدم في أبواب
بدء الوحي بيان تصديقها للنبي صلى الله عليه وسلم في أول وهلة، ومن ثباتها في
الأمر ما يدل على قوة يقينها ووفور عقلها وصحة عزمها، لا جرم كانت أفضل نسائه على
الراجح، وقد تقدم في ذكر مريم من أحاديث الأنبياء بيان شيء من هذا. وروى الفاكهي
في "كتاب مكة" عن أنس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي
طالب، فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة فأذن له، وبعث بعده جارية له يقال لها نبعة
فقال لها: انظري ما تقول له خديجة؟ قالت نبعة: فرأيت عجبا، ما هو إلا أن سمعت به
خديجة فخرجت إلى الباب فأخذت بيدها فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت: بأبي وأمي،
والله ما أفعل هذا لشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستبعث، فإن
(7/134)
تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الذي يبعثك لي. قالت: فقال لها: والله لئن كنت أنا هو قد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا " ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث لا تصريح فيها بما في الترجمة، إلا أن ذلك يؤخذ بطريق اللزوم من قول عائشة" ما غرت على امرأة" من قوله صلى الله عليه وسلم: "وكان لي منها ولد" وغير ذلك. قوله: "حدثني محمد" هو ابن سلام كما جزم به ابن السكن، وعبدة هو ابن سليمان. قوله: "سمعت عبد الله بن جعفر" هو ابن أبي طالب، ووقع عند عبد الرزاق عن ابن جريج" عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن جعفر" وهو من المزيد في متصل الأسانيد لتصريح عبدة في هذه الرواية بسماع عروة عن عبد الله بن جعفر: "سمعت علي بن أبي طالب" زاد مسلم من رواية أبي أسامة عن هشام" بالكوفة" واتفق أصحاب هشام على ذكر علي فيه"، وقصر به محمد بن إسحاق فرواه عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم لكن بلفظ مغاير لهذا اللفظ، فالظاهر أنهما حديثان، وفي الإسناد رواية تابعي عن تابعي هشام عن أبيه وصحابي عن صحابي عبد الله بن جعفر عن عمه. قوله: "خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة" قال القرطبي: الضمير عائد على غير مذكور، لكنه يفسره الحال والمشاهدة، يعني به الدنيا. وقال الطيبي: الضمير الأول يعود على الأمة التي كانت فيها مريم والثاني على هذه الأمة. قال ولهذا كرر الكلام تنبيها على أن حكم كل واحدة منها غير حكم الأخرى. قلت: ووقع عند مسلم من رواية وكيع عن هشام في هذا الحديث: "وأشار وكيع إلى السماء والأرض" فكأنه أراد أن يبين أن المراد نساء الدنيا، وأن الضميرين يرجعان إلى الدنيا. وبهذا جزم القرطبي أيضا. وقال الطيبي: أراد أنهما خير من تحت السماء وفوق الأرض من النساء، قال: ولا يستقيم أن يكون تفسيرا لقوله نسائها لأن هذا الضمير لا يصلح أن يعود إلى السماء. كذا قال. ويحتمل أن يريد أن الضمير الأول يرجع إلى السماء والثاني إلى الأرض إن ثبت أن ذلك صدر في حياة خديجة وتكون النكتة في ذلك أن مريم ماتت فعرج بروحها إلى السماء، فلما ذكرها أشار إلى السماء، وكانت خديجة إذ ذاك في الحياة فكانت في الأرض فلما ذكرها أشار إلى الأرض، وعلى تقدير أن يكون بعد موت خديجة فالمراد أنهما خير من صعد بروحهن إلى السماء وخير من دفن جسدهن في الأرض، وتكون الإشارة عند ذكر كل واحدة منهما. والذي يظهر لي أن قوله: "خير نسائها" خبر مقدم والضمير لمريم فكأنه قال مريم خير نسائها أي نساء زمانها، وكذا في خديجة. وقد جزم كثير من الشراح أن المراد نساء زمانها لما تقدم في أحاديث الأنبياء في قصة موسى وذكر آسية من حديث أبي موسى رفعه: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية" فقد أثبت في هذا الحديث الكمال لآسية كما أثبته لمريم، فامتنع حمل الخيرية في حديث الباب على الإطلاق، وجاء ما يفسر المراد صريحا، فروى البزار والطبراني من حديث عمار بن ياسر رفعه: "لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين" وهو حديث حسن الإسناد، واستدل بهذا الحديث على أن خديجة أفضل من عائشة. قال ابن التين: ويحتمل أن لا تكون عائشة دخلت في ذلك لأنها كان لها عند موت خديجة ثلاث سنين، فلعل المراد النساء البوالغ. كذا قال، وهو ضعيف، فإن المراد بلفظ النساء أعم من البوالغ، ومن لم تبلغ أعم ممن كان موجودة وممن ستوجد. وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية" وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل، قال القرطبي:
(7/135)
لم يثبت في حق واحدة من الأربع أنها نبية إلا مريم. وقد أورد ابن عبد البر من وجه آخر عن ابن عباس رفعه: "سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية" قال: وهذا حديث حسن يرفع الإشكال، قال: ومن قال إن مريم ليست بنبية أول هذا الحديث وغيره بأن" من" وإن لم تذكر في الخبر فهي مرادة. قلت الحديث الثاني الدال على الترتيب ليس بثابت، وأصله عند أبي داود والحاكم بغير صيغة ترتيب، وقد يتمسك بحديث الباب من يقول إن مريم ليست بنبية لتسويتها في حديث الباب بخديجة، وليست خديجة بنبية بالاتفاق. والجواب أنه لا يلزم من التسوية في الخيرية التسوية في جميع الصفات، وقد تقدم ما قيل في مريم في ترجمتها من أحاديث الأنبياء والله أعلم. قوله: "حدثنا الليث قال: كتب إلى هشام بن عروة" وقع عند الإسماعيلي من وجه آخر عن الليث" حدثني هشام بن عروة" فلعل الليث لقي هشام بعد أن كتب به إليه فحدثه به، أو كان من مذهبه إطلاق" حدثنا" في الكتابة، وقد نقل الخطيب ذلك عنه في علوم الحديث. قوله: "ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم" فيه ثبوت الغيرة وأنها غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء فضلا عمن دونهن، وأن عائشة كانت تغار من نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكن كانت تغار من خديجة أكثر، وقد بينت سبب ذلك وأنه لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إياها. ووقع في الرواية التي تلي هذه بأبين من هذا حيث قال فيها: "من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها" وأصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة. وقال القرطبي: مرادها بالذكر لها مدحها والثناء عليها. قلت: وقع عند النسائي من رواية النضر بن شميل عن هشام" من كثرة ذكره إياها وثنائه عليها" فعطف الثناء على الذكر من عطف الخاص على العام، وهو يقتضي حمل الحديث على أعم مما قاله القرطبي. قوله: "هلكت قبل أن يتزوجني" ذكر في الحديث الذي بعده قدر المدة، وسيأتي البحث فيه، وأشارت بذلك إلى أنها لو كانت موجودة في زمانها لكانت غيرتها منها أشد. قوله: "وأمره الله أن يبشرها إلخ" سيأتي شرحه بعد هذا، وهو أيضا من جملة أسباب الغيرة، لأن اختصاص خديجة بهذه البشرى مشعر بمزيد محبة من النبي صلى الله عليه وسلم فيها. ووقع عند الإسماعيلي من رواية الفضل بن موسى عن هشام بن عروة بلفظ: "ما حسدت امرأة قط ما حسدت خديجة حين بشرها النبي صلى الله عليه وسلم ببيت من قصب" قوله: "وإن كان ليذبح الشاة إلخ" إن مخففة من الثقيلة ويراد بها تأكيد الكلام، ولهذا أتت باللام في قولها" ليذبح". قوله: "في خلائلها" بالخاء المعجمة جمع خليلة أي صديقة، وهي أيضا من أسباب الغيرة لما فيه من الإشعار باستمرار حبه لها حتى كان يتعاهد صواحباتها.قوله: "منها" أي من الشاة. قوله: "ما يسعهن" أي ما يكفيهن كذا للأكثر.وفي رواية المستملي والحموي" ما يتسعهن" أي يتسع لهن. وفي رواية النسفي" يشبعهن" من الشبع بكسر المعجمة وفتح الموحدة وليس في روايته: "ما". قوله: "حدثنا حميد بن عبد الرحمن" هو الرؤاسي بضم الراء وعلى الواو همزة وبعد الألف مهملة. ثقة باتفاق، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الحدود. قوله: "وتزوجني بعدها بثلاث سنين" قال النووي: أرادت بذلك زمن دخولها عليه، وأما العقد فتقدم على ذلك بمدة سنة ونصف أو نحو ذلك، كذا قال، وسيأتي في "باب تزويج عائشة" ما يوضح أن المدة بين العقد عليها والدخول كان أكثر من ذلك. قوله: "وأمره ربه عز وجل أو جبريل" هو شك من الراوي، وسيأتي في حديث أبي هريرة في هذا الباب أن البشارة بذلك من الله كانت على لسان جبريل عليه السلام. قوله: "حدثني عمر بن محمد بن الحسن حدثنا أبي" هو الأسدي الذي يعرف بالتل بالمثناة وتشديد اللام، واسم والد الحسن الزبير، وعمر كوفي
(7/136)
ما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الزكاة، وهو من صغار شيوخه. وقد نزل البخاري في هذا الإسناد بالنسبة لحديث حفص بن غياث درجة، فإنه يروي الكثير عن ولده عمر بن حفص وغيره من أصحاب حفص، وهنا لم يصل لحفص إلا باثنين، وبالنسبة لرواية هشام بن عروة درجتين فإنه قد سمع من بعض أصحابه وأخرج هذا في الصحيح في كتاب العتق منه" حدثنا عبيد بن موسى عن هشام بن عروة من مسند أبي ذر"، والسبب في اختياره إيراد هذه الطريق النازلة ما اشتملت عليه من الزيادة على رواية غيره كما سأنبه عليه. قوله: "وما رأيتها" في رواية مسلم من هذا الوجه"ولم أدركها" ولم أر هذه اللفظة إلا في هذه الطريق، نعم أخرجها مسلم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة بلفظ: "وما رأيتها قط" ورؤية عائشة لخديجة كانت ممكنة، وأما إدراكها لها فلا نزاع فيه لأنه كان لها عند موتها ست سنين، كأنها أرادت بنفي الرؤية والإدراك النفي بقيد اجتماعهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، أي لم أرها وأنا عنده ولا أدركتها كذلك. وقد وقع في بعض طرقه عند أبي عوانة "ولقد هلكت قبل أن يتزوجني". قوله: "ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها" في رواية عبد الله البهي عن عائشة عند الطبراني "وكان إذا ذكر خديجة لم يسأم من ثناء عليها واستغفار لها". قوله: "فربما قلت إلخ" هذا كله زائد في هذه الرواية، فقد أخرج الحديث مسلم وأبو عوانة والإسماعيلي وأبو نعيم من طريق سهل بن عثمان والترمذي عن أبي هشام الرفاعي كلهم عن حفص بن غياث بدونها. قوله: "كأنه لم يكن" في رواية الكشميهني: "كأن لم" بحذف الهاء من كأنه. قوله: "إنها كانت وكانت" أي كانت فاضلة وكانت عاقلة ونحو ذلك، وعند أحمد من حديث مسروق عن عائشة "آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء". قوله: "وكان لي منها ولد" وكان جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة، إلا إبراهيم فإنه كان من جاريته مارية، والمتفق علبه من أولاده منها القاسم وبه كان يكنى، مات صغيرا قبل المبعث أو بعده، وبناته الأربع: زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة، وقيل: كانت أم كلثوم أصغر من فاطمة، وعبد الله ولد بعد المبعث فكان يقال له الطاهر والطيب، ويقال هما أخوان له، وماتت الذكور صغارا باتفاق، ووقع عند مسلم من طريق حفص بن غياث هذه في آخر الحديث: "قالت عائشة: فأغضبته يوما فقلت خديجة، فقال: إني رزقت حبها" قال القرطبي كان حبه صلى الله عليه وسلم لها لما تقدم ذكره من الأسباب، وهي كثيرة كل منها كان سببا في إيجاد المحبة. ومما كافأ النبي صلى الله عليه وسلم به خديجة في الدنيا أنه لم يتزوج في حياتها غيرها، فروى مسلم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت" وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار، وفيه دليل على عظم قدرها عنده وعلى مزيد فضلها لأنها أغنته عن غيرها واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين، لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاما انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاما وهي نحو الثلثين من المجموع، ومع طول المدة فصان قلبها فيها من الغيرة ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك، وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها. ومما اختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان، فسنت ذلك لكل من آمنت بعدها، فيكون لها مثل أجرهن، لما ثبت" أن من سن سنة حسنة" وقد شاركها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة إلى الرجال، ولا يعرف قدر ما لكل منهما من الثواب بسبب ذلك إلا الله عز وجل. وقال النووي: في هذه الأحاديث دلالة لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حيا وميتا، وإكرام معارف ذلك
(7/137)
الصاحب. الحديث الخامس قوله: "عن
إسماعيل" هو ابن أبي خالد. قوله: "قلت لعبد الله بن أبي أوفى إلخ"
هذا مما حمله التابعي عن الصحابي عرضا، وليس هذا من التلقين، لأن التلقين لا
استفهام فيه وإنما يقول الطالب للشيخ قل حدثنا فلان بكذا فيحدث به من غير أن يكون
عارفا به حديثه ولا بعدالة الطالب فلا يؤمن أن لا يكون ذلك الطالب ضابطا لذلك
القدر فيدل على تساهل الشيخ، فلذلك عابوه على من فعله. قوله: "بشر النبي صلى
الله عليه وسلم" هو استفهام محذوف الأداة. قوله: "قال نعم" في
رواية مسلم: "بشر خديجة ببيت من قصب، قال نعم إلخ" ووقع في رواية جرير
عن إسماعيل أنهم قالوا لعبد الله بن أبي أوفى" حدثنا ما قال لخديجة: قال:
قال: بشروا خديجة" فذكر الحديث، هكذا تقدم في أبواب العمرة من البخاري. قوله:
"من قصب" بفتح القاف والمهملة بعدها موحدة، قال ابن التين: المراد به
لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف. قلت: عند الطبراني في"الأوسط" من طريق
أخرى عن ابن أبي أوفى "يعني قصب اللؤلؤ"، وعنده في" الكبير"
من حديث أبي هريرة"بيت من لؤلؤة مجوفة" وأصله في مسلم، وعنده في
الأوسط" من حديث فاطمة قالت: قلت يا رسول الله أين أمي خديجة؟ قال: في بيت من
قصب، قلت أمن هذا القصب؟ قال: لا من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت"
قال السهيلي: النكتة في قوله: "من قصب" ولم يقل من لؤلؤ أن في لفظ القصب
مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها، ولذا وقعت هذه
المناسبة في جميع هذا الحديث انتهى. وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر
أنابيبه، وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها، إذ كانت حريصة على رضاه بكل
ممكن، ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها. وأما قوله: "ببيت"
فقال أبو بكر الإسكاف في"فوائد الأخبار": المراد به بيت زائد على ما أعد
الله لها من ثواب عملها، ولهذا قال: "لا نصب فيه": أي لم تتعب بسببه.
قال السهيلي: لذكر البيت معنى لطيف لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث ثم صارت ربة بيت
في الإسلام منفردة به، فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي صلى الله عليه
وسلم بيت إسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضا غيرها. قال: وجزاء الفعل
يذكر غالبا بلفظه وإن كان أشرف منه، فلهذا جاء في الحديث بلفظ البيت دون لفظ القصر
انتهى. وفي ذكر البيت معنى آخر، لأن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها،
لما ثبت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قالت أم سلمة"لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه
وسلم فاطمة وعليا والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي"
الحديث أخرجه الترمذي وغيره، ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة، لأن الحسنين من
فاطمة وفاطمة بنتها، وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها، فظهر
رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها.
قوله: "لا صخب فيه ولا نصب" الصخب بفتح المهملة والمعجمة بعدها موحدة:
الصياح والمنازعة برفع الصوت، والنصب بفتح النون والمهملة بعدها موحدة التعب.
وأغرب الداودي فقال: الصخب العيب، والنصب العوج. وهو تفسير لا تساعد عليه اللغة.
وقال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين - أعني المنازعة والتعب - أنه صلى الله
عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعا فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة
ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير،
فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها. قوله: "عن
عمارة" هو ابن القعقاع. قوله: "عن أبي هريرة" في رواية مسلم عن ابن
نمير عن ابن فضيل بهذا الإسناد" سمعت أبا هريرة". قوله: "أتى
جبريل" في رواية سعيد بن كثير عند الطبراني
(7/138)
أن ذلك كان وهو بحراء. قوله: "هذه خديجة قد أتت" في رواية مسلم: "قد أتتك" ومعناه توجهت إليك، وأما قوله ثانيا،"فإذا هي أتتك" فمعناه وصلت إليك. قوله: "إناء فيه إدام أو طعام أو شراب" شك من الراوي، وكذا عند مسلم. وفي رواية الإسماعيلي: "فيه إدام أو طعام وشراب" وفي رواية سعيد بن كثير المذكور عند الطبراني أنه كان حيسا. قوله: "فاقرأ عليها السلام من ربها ومني" زاد الطبراني في الرواية المذكورة" فقالت: هو السلام ومنه والسلام وعلى جبريل السلام" وللنسائي من حديث أنس قال: "قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله يقرئ خديجة السلام" يعني فأخبرها" فقالت: إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته" زاد ابن السني من وجه آخر "وعلى من سمع السلام، إلا الشيطان"، قال العلماء في هذا القصة دليل على وفور فقهها، لأنها لم تقل "وعليه السلام" كما وقع لبعض الصحابة حيث كانوا يقولون في التشهد" السلام على الله فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن الله هو السلام، فقولوا التحيات لله" فعرفت خديجة لصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين، لأن السلام اسم من أسماء الله، وهو أيضا دعاء بالسلامة، وكلاها لا يصلح أن يرد به على الله فكأنها قالت: كيف أقول عليه السلام والسلام اسمه، ومنه يطلب، ومنه يحصل. فيستفاد منه أنه لا يليق بالله إلا الثناء عليه فجعلت مكان رد السلام عليه الثناء عليه، ثم غايرت بين ما يليق بالله وما يليق بغيره فقالت: "وعلى جبريل السلام" ثم قالت: "وعليك السلام" ويستفاد منه رد السلام على من أرسل السلام وعلى من بلغه. والذي يظهر أن جبريل كان حاضرا عند جوابها فردت عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بالتخصيص ومرة بالتعميم، ثم أخرجت الشيطان ممن سمع لأنه لا يستحق الدعاء بذلك. قيل: إنما بلغها جبريل عليه السلام من ربها بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم احتراما للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك وقع له لما سلم على عائشة لم يواجهها بالسلام بل راسلها مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقد واجه مريم بالخطاب، فقيل لأنها نبية، وقيل: لأنها لم يكن معها زوج يحترم معه مخاطبتها. قال السهيلي: استدل بهذه القصة أبو بكر بن داود على أن خديجة أفضل من عائشة لأن عائشة سلم عليها جبريل من قبل نفسه، وخديجة أبلغها السلام من ربها. وزعم ابن العربي أنه لا خلاف في أن خديجة أفضل من عائشة، ورد بأن الخلاف ثابت قديما وإن كان الراجح أفضلية خديجة بهذا وبما تقدم. قلت: ومن صريح ما جاء في تفضيل خديجة ما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث ابن عباس رفعه: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد" قال السبكي الكبير كما تقدم: لعائشة من الفضائل ما لا يحصى، ولكن الذي نختاره وندين الله به أن فاطمة أفضل ثم خديجة ثم عائشة. واستدل لفضل فاطمة بما تقدم في ترجمتها أنها سيدة نساء المؤمنين. قلت: وقال بعض من أدركناه: الذي يظهر أن الجمع بين الحديثين أولى، وأن لا نفضل إحداهما على الأخرى. وسئل السبكي: هل قال أحد إن أحدا من نساء النبي صلى الله عليه وسلم غير خديجة وعائشة أفضل من فاطمة؟ فقال: قال به من لا يعتد بقوله: وهو من فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الصحابة لأنهن في درجته في الجنة. قال: وهو قول ساقط مردود انتهى. وقائله هو أبو محمد بن حزم وفساده ظاهر. قال السبكي: ونساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وعائشة متساويات في الفضل، وهن أفضل النساء لقول الله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} الآية، ولا يستثنى من ذلك إلا من قيل إنها نبية كمريم، والله أعلم. ومما نبه عليه أنه وقع عند الطبراني من رواية أبي يونس عن عائشة أنها وقع لها نظير ما وقع لخديجة من السلام والجواب، وهي رواية شاذة، والعلم عند الله تعالى. قوله: "وقال إسماعيل بن
(7/139)
خليل" كذا في جميع النسخ التي اتصلت إلينا بصيغة التعليق، لكن صنيع المزي يقتضي أنه أخرجه موصولا، وقد أخرجه أبو عوانة عن محمد بن يحيى الذهلي عن إسماعيل المذكور، وأخرجه مسلم عن سويد بن سعيد والإسماعيلي من طريق الوليد بن شجاع كلاهما عن علي بن مسهر. قوله: "استأذنت هالة بنت خويلد" هي أخت خديجة، وكانت زوج الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس والد أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكروها في الصحابة وهو ظاهر هذا الحديث، وقد هاجرت إلى المدينة لأن دخولها كان بها أي بالمدينة، ويحتمل أن تكون دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حيث كانت عائشة معه في بعض سفراته، ووقع عند المستغفري من طريق حماد بن سلمة عن هشام بهذا السند" قدم ابن لخديجة يقال له هالة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم في قائلته كلام هالة، فانتبه وقال: هالة هالة" قال المستغفري: الصواب هالة أخت خديجة انتهى. وروى الطبراني في "الأوسط" من طريق تميم بن زيد بن هالة عن أبي هالة عن أبيه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو راقد فاستيقظ فضمه إلى صدره وقال: "هالة هالة" وذكر ابن حبان وابن عبد البر في الصحابة هالة بن أبي هالة التميمي، فلعله كان لخديجة أيضا ابن اسمه هالة والله أعلم. قوله: "فعرف استئذان خديجة" أي صفته لشبه صوتها بصوت أختها فتذكر خديجة بذلك، وقوله: "ارتاع" من الروع بفتح الراء أي فزع، والمراد من الفزع لازمه وهو التغير. ووقع في بعض الروايات "ارتاح" بالحاء المهملة أي اهتز لذلك سرورا، وقوله: "اللهم هالة" فيه حذف تقديره اجعلها هالة، فعلى هذا فهو منصوب، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه هالة وعلى هذا هو مرفوع، وفي الحديث أن من أحب شيئا أحب محبوباته وما يشبهه وما يتعلق به. قوله: "حمراء الشدقين" بالجر، قال أبو البقاء: يجوز في حمراء الرفع على القطع والنصب على الصفة أو الحال، ثم الموجود في جميع النسخ وفي مسلم: "حمراء" بالمهملتين، وحكى ابن التين أنه روي بالجيم والزاي ولم يذكر له معنى، وهو تصحيف والله أعلم. قال القرطبي: قيل: معنى حمراء الشدقين بيضاء الشدقين، والعرب تطلق على الأبيض الأحمر كراهة اسم البياض لكونه يشبه البرص، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة يا حميراء. ثم استبعد القرطبي هذا لكون عائشة أوردت هذه المقالة مورد التنقيص، فلو كان الأمر كما قيل لنصت على البياض لأنه كان يكون أبلغ في مرادها. قال: والذي عندي أن المراد بذلك نسبتها إلى كبر السن، لأن من دخل في سن الشيخوخة مع قوة في بدنه يغلب على لونه غالبا الحمرة المائلة إلى السمرة، كذا قال، والذي يتبادر أن المراد بالشدقين ما في باطن الفم فكنت بذلك عن سقوط أسنانها حتى لا يبقى داخل فمها إلا اللحم الأحمر من اللثة وغيرها، وبهذا جزم النووي وغيره. قوله: "قد أبدلك الله خيرا منها" قال ابن التين: في سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المقالة دليل على أفضلية عائشة على خديجة إلا أن يكون المراد بالخيرية هنا حسن الصورة وصغر السن انتهى. ولا يلزم من كونه لم ينقل في هذه الطريق أنه صلى الله عليه وسلم رد عليها عدم ذلك، بل الواقع أنه صدر منه رد لهذه المقالة، ففي رواية أبي نجيح عن عائشة عند أحمد والطبراني في هذه القصة" قالت عائشة فقلت أبدلك الله بكبيرة السن حديثة السن، فغضب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير" وهذا يؤيد ما تأوله ابن التين في الخيرية المذكورة، والحديث يفسر بعضه بعضا. وروى أحمد أيضا والطبراني من طريق مسروق عن عائشة في نحو هذه القصة" فقال صلى الله عليه وسلم: ما أبدلني الله خيرا منها آمنت بي إذ كفر بي الناس" الحديث، قال عياض قال الطبري وغيره من العلماء الغيرة مسامح للنساء ما يقع فيها ولا عقوبة عليهن في تلك الحالة لما جبلن عليه منها، ولهذا لم يزجر النبي صلى الله عليه وسلم
(7/140)
عائشة عن ذلك. وتعقبه عياض بأن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها وأول شبيبتها، فلعلها لم تكن بلغت حينئذ. قلت: وهو محتمل مع ما فيه من نظر، قال القرطبي: لا تدل قصة عائشة هذه على أن الغيرة لا تؤاخذ بما يصدر منها، لأن الغيرة هنا جزء سبب، وذلك أن عائشة اجتمع فيها حينئذ الغيرة وصغر السن والإدلال، قال فإحالة الصفح عنها على الغيرة وحدها تحكم، نعم الحامل لها على ما قالت الغيرة لأنها هي التي نصت عليها بقولها "فغرت" وأما الصفح فيحتمل أن يكون لأجل الغيرة وحدها، ويحتمل أن يكون لها ولغيرها من الشباب والإدلال. قلت: الغيرة محققة بتنصيصها، والشباب محتاج إلى دليل، فإنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي بنت تسع وذلك في أول زمن البلوغ، فمن أين له أن ذلك القول وقع في أوائل دخوله عليها وهي بنت تسع. وأما إدلال المحبة فليس موجبا للصفح عن حق الغير، بخلاف الغيرة فإنما يقع الصفح بها لأن من يحصل لها الغيرة لا تكون في كمال عقلها، فلهذا تصدر منها أمور لا تصدر منها في حال عدم الغيرة، والله أعلم.
(7/141)
باب ذكر جرير بن عبدالله البجلي رضي
الله عنه
...
21- باب ذِكْرُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3822- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ بَيَانٍ عَنْ
قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِي إِلاَّ ضَحِكَ"
3823- وَعَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْخَلَصَةِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ
الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَةُ أَوْ الْكَعْبَةُ الشَّأْمِيَّةُ فَقَالَ لِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَنْتَ مُرِيحِي مِنْ ذِي
الْخَلَصَةِ قَالَ فَنَفَرْتُ إِلَيْهِ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ
قَالَ فَكَسَرْنَا وَقَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا عِنْدَهُ فَأَتَيْنَاهُ
فَأَخْبَرْنَاهُ فَدَعَا لَنَا وَلِأَحْمَسَ"
(7/131)
قوله: "باب ذكر جرير بن عبد الله البجلي" أي ابن جابر بن مالك من بني أنمار بن أراش، نسبوا إلى أمهم بجيلة، يكنى أبا عمرو على المشهور، واختلف في إسلامه والصحيح أنه في سنة الوفود سنة تسع، ووهم من قال إنه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما لما ثبت في الصحيح" إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له استنصت الناس "في حجة الوداع وذلك قبل موته صلى الله عليه وسلم بأكثر من ثمانين يوما، وكان موت جرير سنة خمسين وقيل: بعدها. قوله: "ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي ما منعني من الدخول إليه إذا كان في بيته فاستأذنت عليه، وليس كما حمله بعضهم على إطلاقه فقال كيف جاز له أن يدخل على محرم بغير حجاب؟ ثم تكلف في الجواب أن المراد مجلسه المختص بالرجال، أو أن المراد بالحجاب منع ما يطلبه منه. قلت: وقوله: "ما حجبني" يتناول الجميع مع بعد إرادة الأخير. قوله: "ولا رآني إلا ضحك" في رواية الحميدي عن إسماعيل "إلا تبسم في وجهي" وروى أحمد وابن حبان من طريق المغيرة بن شبيل عن جرير قال: "لما دنوت من المدينة أنخت ثم لبست حلتي فدخلت، فرماني الناس بالحدق، فقلت: هل ذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: نعم، ذكرك بأحسن ذكر فقال: يدخل عليكم رجل من خير ذي يمن، على وجهه مسحة ملك". قوله: "وعن قيس" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "ذو الخلصة" بفتح المعجمة واللام والصاد المهملة وحكي إسكان اللام. وقوله: "اليمانية" بتخفيف الياء وحكي تشديدها، وقوله: "أو الكعبة الشامية" استشكل الجمع بين هذين الوصفين، وسيأتي جوابه مع شرح هذه القصة في أواخر المغازي مع الكلام على قوله الكعبة اليمانية أو الكعبة الشامية إن شاء الله تعالى.
(7/132)
22 - باب ذِكْرُ حُذَيْفَةَ بْنِ
الْيَمَانِ الْعَبْسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3724-حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ رَجَاءٍ
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ هَزِيمَةً بَيِّنَةً
فَصَاحَ إِبْلِيسُ أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ عَلَى
أُخْرَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ أُخْرَاهُمْ فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ
بِأَبِيهِ فَنَادَى أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أَبِي أَبِي فَقَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا
احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ
أَبِي فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى
لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ"
قوله: "باب ذكر حذيفة بن اليمان العبسي" بالموحدة، واسم اليمان حسل
بمهملتين وكسر أوله وسكون ثانيه ثم لام ابن جابر له ولأبيه صحبة. قوله: "لما
هزم"1 بضم أوله، وقوله: "وأخراكم" أي اقبلوا أخراكم أو احذروا
أخراكم أو انصروا أخراكم، وقوله: "احتجزوا" أي انفصلوا من القتال وامتنع
بعضهم من بعض، وسيأتي بقية شرح هذه القصة في كتاب المغازي. قوله: "قال
أبي" القائل هو هشام بن عروة، نقله عن أبيه عروة وفصله من حديث عائشة فصار
مرسلا، وقوله: "ما زالت في حذيفة منها" أي من هذه الكلمة أي بسببها،
وقوله: "بقية خير" يؤخذ منه أن فعل الخير تعود بركته على صاحبه في طول
حياته. "تنبيه": وقع ذكر جرير وحذيفة مؤخرا عن
ـــــــ
1 قال مصحح طبعة بولاق: هكذا بالنسخ, ورواية الصحيح الذي بايدينا "لما كان
يوم احد هزم الخ"
(7/132)
ذكر خديجة عليها السلام، وفي بعضها مقدما وهو أليق، فإن الذي يظهر أنه أخر ذكر خديجة عمدا لكون غالب أحوالها متعلقة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث فوقع له في ذلك حسن التخلص من المناقب التي استطرد من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فلما فرغ منها رجع إلى بقية سيرته ومغازيه، والله أعلم.
(7/133)
23 - باب ذِكْرُ هِنْدٍ بِنْتِ
عُتْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
3825- وَقَالَ عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ
الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ
جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ عَلَى
ظَهْرِ الأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ
خِبَائِكَ ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ
أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ قَالَتْ وَأَيْضًا
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ
رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ
عِيَالَنَا قَالَ لاَ أُرَاهُ إِلاَّ بِالْمَعْرُوفِ".
قوله: "باب ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة" أي ابن عبد شمس، وهي والدة
معاوية، قتل أبوها ببدر كما سيأتي في المغازي، وشهدت مع زوجها أبي سفيان أحدا،
وحرضت على قتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم لكونه قتل عمها شيبة وشرك في قتل
أبيها عتبة فقتله وحشي بن حرب كما سيأتي بيان ذلك في حديث وحشي، ثم أسلمت هند يوم
الفتح، وكانت من عقلاء النساء، وكانت قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة
المخزومي ثم طلقها في قصة جرت، فتزوجها أبو سفيان فأنتجت عنده، وهي القائلة للنبي
صلى الله عليه وسلم لما شرط على النساء المبايعة ولا يسرقن ولا يزنين" وهل
تزني الحرة "؟ وماتت هند في خلافة عمر. قوله: "وقال عبدان" كذا
للجميع بصيغة التعليق، وكلام أبي نعيم في "المستخرج" يقتضي أن البخاري
أخرجه موصولا عن عبدان، وقد وصله البيهقي أيضا من طريق أبي الموجه عن عبدان. قوله:
"خباء" بكسر المعجمة وتخفيف الموحدة مع المد هي خيمة من وبر أو صوف، ثم
أطلقت على البيت كيف ما كان. قوله: "قال وأيضا والذي نفسي بيده" قال ابن
التين: فيه تصديق لها فيما ذكرته، كأنه رأى أن المعنى: وأنا أيضا بالنسبة إليك مثل
ذلك. تعقب من جهة طرفي البغض والحب، فقد كان في المشركين من كان أشد أذى للنبي صلى
الله عليه وسلم من هند وأهلها، وكان في المسلمين بعد أن أسلمت من هو أحب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم منها ومن أهلها، فلا يمكن حمل الخبر على ظاهره. وقال غيره:
المعنى بقوله: "وأيضا"ستزيدين في المحبة كلما تمكن الإيمان من قلبك
وترجعين عن البغض المذكور حتى لا يبقى له أثر، فأيضا خاص بما يتعلق بها لا أن
المراد بها أني كنت في حقك كما
(7/141)
ذكرت في البغض ثم صرت على خلافه في الحب بل ساكت عن ذلك، ولا يعكر على هذا قوله في بعض الروايات"وأنا" إن ثبتت الرواية بذلك. قوله: "إن أبا سفيان رجل مسيك" سيأتي شرحه في كتاب النفقات إن شاء الله تعالى، وفي الحديث دلالة على وفور عقل هند وحسن تأتيها في المخاطبة، ويؤخذ منه أن صاحب الحاجة يستحب له أن يقدم بين يدي نحواه اعتذارا إذا كان في نفس الذي يخاطبه عليه موجدة، وأن المعتذر يستحب له أن يقدم ما يتأكد به صدقه عند من يعتذر إليه، لأن هندا قدمت الاعتراف بذكر ما كانت عليه من البغض ليعلم صدقها فيما ادعته من المحبة، وقد كانت هند في منزلة أمهات نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأن أم حبيبة إحدى زوجاته بنت زوجها أبي سفيان.
(7/142)
24 - باب حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ نُفَيْلٍ
3826- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ
سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ
نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُفْرَةٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ
إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلاَ آكُلُ إِلاَّ
مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ
عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ وَأَنْزَلَ
لَهَا مِنْ السَّمَاءِ الْمَاءَ وَأَنْبَتَ لَهَا مِنْ الأَرْضِ ثُمَّ
تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا
لَهُ".
[الحديث 3826- طرفه في: 5499]
3827- قَالَ مُوسَى حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُهُ
إِلاَّ تَحَدَّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ "أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ
نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ فَلَقِيَ
عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ فَقَالَ إِنِّي لَعَلِّي أَنْ
أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي فَقَالَ لاَ تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى
تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ قَالَ زَيْدٌ مَا أَفِرُّ إِلاَّ مِنْ
غَضَبِ اللَّهِ وَلاَ أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى
أَسْتَطِيعُهُ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ حَنِيفًا قَالَ زَيْدٌ وَمَا الْحَنِيفُ قَالَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ
يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلاَ يَعْبُدُ إِلاَّ اللَّهَ فَخَرَجَ
زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ لَنْ
تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ قَالَ
مَا أَفِرُّ إِلاَّ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلاَ أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ
وَلاَ مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ فَهَلْ تَدُلُّنِي
عَلَى غَيْرِهِ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا قَالَ وَمَا
الْحَنِيفُ قَالَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا
وَلاَ يَعْبُدُ إِلاَّ اللَّهَ فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلاَم خَرَجَ فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ
إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ"
(7/142)
3828- وَقَالَ اللَّيْثُ كَتَبَ
إِلَيَّ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَتْ "رَأَيْتُ
زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ
يَقُولُ يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ
غَيْرِي وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ
يَقْتُلَ ابْنَتَهُ لاَ تَقْتُلْهَا أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا
فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا
إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا"
"باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل" هو ابن عم عمر بن الخطاب بن نفيل، وقد
تقدم نسبه في ترجمته.
وهو والد سعيد بن زيد أحد العشرة؛ وكان ممن طلب التوحيد وخلع الأوثان وجانب الشرك،
لكنه مات قبل المبعث، فروى محمد بن سعد والفاكهي من حديث عامر بن ربيعة حليف بني
عدي بن كعب قال: "قال لي زيد بن عمرو: إني خالفت قومي، واتبعت ملة إبراهيم
وإسماعيل وما كانا يعبدان، وكانا يصليان إلى هذه القبلة، وأنا أنتظر نبيا من بني
إسماعيل يبعث، ولا أراني أدركه، وأنا أومن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، وإن طالت بك
حياة فأقره مني السلام. قال عامر: فلما أسلمت أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم
بخبره قال: فرد عليه السلام وترحم عليه، قال: ولقد رأيته في الجنة يسحب
ذيولا" وروى البزار والطبراني من حديث سعيد بن زيد قال: "خرج زيد بن
عمرو وورقة بن نوفل يطلبان الدين، حتى أتيا الشام، فتنصر ورقة وامتنع زيد، فأتى
الموصل فلقي راهبا فعرض عليه النصرانية فامتنع" وذكر الحديث نحو حديث ابن عمر
الآتي في ترجمته وفيه: "قال سعيد بن زيد فسألت أنا وعمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن زيد فقال: غفر الله له ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم"، وروى
الزبير بن بكار من طريق هشام بن عروة قال: "بلغنا أن زيدا كان بالشام، فبلغه
مخرج النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأقبل يريده فقتل بمضيعة من أرض البلقاء"
وقال ابن إسحاق: لما توسط بلاد لخم قتلوه، وقيل: إنه مات قبل المبعث بخمس سنين عند
بناء قريش الكعبة. قوله: "بأسفل بلدح" هو مكان في طريق التنعيم بفتح
الموحدة والمهملة بينهما لام ساكنة وآخره مهملة، ويقال هو واد. قوله:
"فقدمت" بضم القاف. قوله: "إلى النبي صلى الله عليه وسلم" كذا
للأكثر. وفي رواية الجرجاني" فقدم إليه النبي صلى الله عليه وسلم سفرة"
قال عياض: الصواب الأول، قلت: رواية الإسماعيلي توافق رواية الجرجاني، وكذا أخرجه
الزبير بن بكار والفاكهي وغيرهما. وقال ابن بطال: كانت السفرة لقريش قدموها للنبي
صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأكل منها فقدمها النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن
عمرو فأبى أن يأكل منها وقال مخاطبا لقريش الذين قدموها أولا: "إنا لا نأكل ما
ذبح على أنصابكم" انتهى. وما قاله محتمل، لكن لا أدري من أين له الجزم بذلك،
فإني لم أقف عليه في رواية أحد. وقد تبعه ابن المنير في ذلك وفيه ما فيه. قوله:
"على أنصابكم" بالمهملة جمع نصب بضمتين وهي أحجار كانت حول الكعبة
يذبحون عليها للأصنام، قال الخطابي: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل مما
يذبحون عليها للأصنام، ويأكل ما عدا ذلك وإن كانوا لا يذكرون اسم الله عليه، لأن
الشرع لم يكن نزل بعد، بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه إلا
بعد المبعث بمدة طويلة. قلت: وهذا الجواب أولى مما ارتكبه ابن بطال، وعلى تقدير أن
يكون حارثة ذبح على الحجر المذكور فإنما يحمل على أنه إنما ذبح عليه لغير الأصنام،
وأما قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} فالمراد به ما ذبح عليها
للأصنام، ثم قال الخطابي: وقيل: لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم
ذلك شيء. قلت: وفيه نظر، لأنه كان قبل المبعث فهو من تحصيل الحاصل: وقد وقع في
حديث سعيد بن زيد الذي قدمته وهو عند أحمد" وكان ابن
(7/143)
زيد يقول: عذت بما عاذ به إبراهيم، ثم يخر ساجدا للكعبة، قال: فمر بالنبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما فدعياه فقال: يا ابن أخي لا آكل مما ذبح على النصب، قال: فما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل مما ذبح على النصب من يومه ذلك". وفي حديث زيد بن حارثة عند أبي يعلى والبزار وغيرهما قال: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من مكة وهو مردفي، فذبحنا شاة على بعض الأنصاب فأنضجناها، فلقينا زيد بن عمرو" فذكر الحديث مطولا وفيه: "فقال زيد: إني لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه" قال الداودي: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث يجانب المشركين في عاداتهم، لكن لم يكن يعلم ما يتعلق بأمر الذبح، وكان زيد قد علم ذلك من أهل الكتاب الذين لقيهم. وقال السهيلي: فإن قيل فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أولى من زيد بهذه الفضيلة، فالجواب أنه ليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أكل منها، وعلى تقدير أن يكون أكل فزيد إنما كان يفعل ذلك برأي يراه لا بشرع بلغه، وإنما كان عند أهل الجاهلية بقايا من دين إبراهيم، وكان في شرع إبراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، وإنما نزل تحريم ذلك في الإسلام، والأصح أن الأشياء قبل الشرع لا توصف بحل ولا بحرمة، مع أن الذبائح لها أصل في تحليل الشرع، واستمر ذلك إلى نزول القرآن، ولم ينقل أن أحدا بعد المبعث كف عن الذبائح حتى نزلت الآية. قلت: وقوله إن زيدا فعل ذلك برأيه أولى من قول الداودي إنه تلقاه عن أهل الكتاب، فإن حديث الباب بين فيما قال السهيلي، وإن ذلك قاله زيد باجتهاد لا بنقل عن غيره، ولا سيما وزيد يصرح عن نفسه بأنه لم يتبع أحدا من أهل الكتابين. وقد قال القاضي عياض في الملة المشهورة في عصمة الأنبياء قبل النبوة إنها كالممتنع لأن النواهي إنما تكون بعد تقرير الشرع، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا قبل أن يوحى إليه بشرع من قبله على الصحيح، فعلى هذا فالنواهي إذا لم تكن موجودة فهي معتبرة في حقه والله أعلم. فإن فرعنا على القول الآخر فالجواب عن قوله: "ذبحنا شاة على بعض الأنصاب" يعني الحجارة التي ليست بأصنام ولا معبودة، إنما هي من آلات الجزار التي يذبح عليها، لأن النصب في الأصل حجر كبير، فمنها ما يكون عندهم من جملة الأصنام فيذبحون له وعلى اسمه، ومنها ما لا يعبد بل يكون من آلات الذبح فيذبح الذابح عليه لا للصنم، أو كان امتناع زيد منها حسما للمادة. قوله: "فإن زيد بن عمرو" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "قال موسى" هو ابن عقبة، والخبر موصول بالإسناد المذكور إليه، وقد شك فيه الإسماعيلي فقال: ما أدري هذه القصة الثانية من رواية الفضيل بن موسى أم لا.ثم ساقها مطولة من طريق عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة، وكذا أوردها الزبير بن بكار والفاكهي بالإسنادين معا. قوله: "لا أعلمه إلا يحدث به عن ابن عمر" قد ساق البخاري الحديث الأول في الذبائح من طريق عبد العزيز بن المختار عن موسى بغير شك، وساق الإسماعيلي هذا الثاني من رواية عبد العزيز المذكور بالشك أيضا فكان الشك فيه من موسى بن عقبة. قوله: "يسأل عن الدين" أي دين التوحيد. قوله: "ويتبعه" بتشديد المثناة بعدها موحدة. وللكشميهني بسكون الموحدة بعدها مثناة مفتوحة ثم عين معجمة أي يطلبه. قوله: "فلقي عالما من اليهود" لم أقف على اسمه، وفي حديث زيد بن حارثة المذكور" إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن عمرو: ما لي أرى قومك قد شنفوا عليك" أي أبغضوك، وهو بفتح الشين المعجمة وكسر النون بعدها فاء" قال خرجت أبتغي الدين فقدمت على الأحبار فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به". قوله: "فلقي عالما من النصارى" لم أقف على اسمه أيضا، ووقع في حديث زيد بن حارثة" قال لي شيخ من أحبار الشام: إنك لتسألني عن دين ما أعلم أحدا
(7/144)
يعبد الله به إلا شيخا بالجزيرة. قال فقدمت عليه فقال: إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك، وجميع من رأيتهم في ضلال" وفي رواية الطبراني من هذا الوجه" وقد خرج في أرضك نبي، أو هو خارج، فارجع وصدقه وآمن به. قال زيد: فلم أحس بشيء بعد". قلت: وهذا مع ما تقدم يدل على أن زيدا رجع إلى الشام فبعث النبي صلى الله عليه وسلم به فرجع ومات، والله أعلم. قوله: "وأنا أستطيع" أي والحال أن لي قدرة على عدم حمل ذلك، كذا للأكثر بتخفيف النون ضمير القائل. وفي رواية بتشديد النون بمعنى الاستبعاد، والمراد بغضب الله إرادة إيصال العقاب كما أن المراد بلعنة الله الإبعاد عن رحمته. قوله: "فلما برز" أي خارج أرضهم. قوله: "اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم" بكسر الهمزة الأولى وفتح الثانية. وفي حديث سعيد بن زيد" فانطلق زيد وهو يقول: لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا.ثم يخر فيسجد لله". قوله: "وقال الليث: كتب إلى هشام" أي ابن عروة، وهذا التعليق رويناه موصولا في حديث زغبة من رواية أبي بكر بن أبي داود عن عيسى بن حماد وهو المعروف بزغبة عن الليث. وأخرج ابن إسحاق عن هشام بن عروة هذا الحديث بتمامه، وأخرجه الفاكهي من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد والنسائي وأبو نعيم في "المستخرج" من طريق أبي أسامة كلهم عن هشام بن عروة. قوله: "ما منكم على دين إبراهيم غيري" زاد أبو أسامة في روايته: "وكان يقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم" وفي رواية ابن أبي الزناد" وكان قد ترك عبادة الأوثان، وترك أكل ما يذبح على النصب" في رواية ابن إسحاق" وكان يقول: اللهم لو أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك به، ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على الأرض براحته". قوله: "وكان يحيي الموءودة" هو مجاز، والمراد بإحيائها إبقاؤها. وقد فسره في الحديث. ووقع في رواية ابن أبي الزناد" وكان يفتدي الموءودة أن تقتل" والموءودة مفعولة من وأد الشيء إذا أثقل، وأطلق عليها اسم الوأد اعتبارا بما أريد بها وإن لم يقع. وكان أهل الجاهلية يدفنون البنات وهن بالحياة، ويقال كان أصلها من الغيرة عليهن لما وقع لبعض العرب حيث سبى بنت آخر فاستفرشها، فأراد أبوها أن يفتديها منه فخيرها فاختارت الذي سباها، فحلف أبوها ليقتلن كل بنت تولد له، فتبع على ذلك. وقد شرحت ذلك مطولا في كتابي في"الأوائل" وأكثر من كان يفعل ذلك منهم من الإملاق كما قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وقصة زيد هذه تدل على هذا المعنى الثاني، فيحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين كان سببا. قوله: "أكفيك مؤنتها" كذا لأبي ذر، ولغيره: "أكفيكها مؤنتها" زاد أبو أسامة في روايته: "وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن زيد فقال: يبعث يوم القيامة أمة وحده بيني وبين عيسى ابن مريم" وروى البغوي في "الصحابة" من حديث جابر نحو هذه الزيادة، وساق له ابن إسحاق أشعارا قالها في مجانبة الأوثان لا نطيل بذكرها.
(7/145)
25 - باب بُنْيَانُ الْكَعْبَةِ
3829- حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنِي
ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "لَمَّا بُنِيَتْ الْكَعْبَةُ
ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ
الْحِجَارَةَ فَقَالَ عَبَّاسٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ يَقِيكَ مِنْ الْحِجَارَةِ فَخَرَّ إِلَى
الأَرْضِ وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ
(7/145)
أَفَاقَ فَقَالَ إِزَارِي إِزَارِي
فَشَدَّ عَلَيْهِ إِزَارَهُ".
3830- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالاَ "لَمْ
يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ
الْبَيْتِ حَائِطٌ كَانُوا يُصَلُّونَ حَوْلَ الْبَيْتِ حَتَّى كَانَ عُمَرُ
فَبَنَى حَوْلَهُ حَائِطًا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ جَدْرُهُ قَصِيرٌ فَبَنَاهُ
ابْنُ الزُّبَيْرِ"
قوله: "باب بنيان الكعبة" أي على يد قريش في حياة النبي صلى الله عليه
وسلم قبل بعثته، وقد تقدم ما يتعلق ببناء إبراهيم عليه السلام قبل بناء قريش، وما
يتعلق ببناء عبد الله بن الزبير في الإسلام. وروى الفاكهي من طريق ابن جريج عن عبد
الله بن عبيد الله بن عمير قال: "كانت الكعبة فوق القامة، فأرادت قريش رفعها
وتسقيفها" وسيأتي بيان ذلك في الباب الذي يليه. وروى يعقوب بن سفيان بإسناد
صحيح عن الزهري" أن امرأة جمرت الكعبة، فطارت شرارة في ثياب الكعبة
فأحرقتها" فذكر قصة بناء قريش لها، وسيأتي في الحديث الثالث من الباب الذي
يليه تتمة هذه القصة. وذكر ابن إسحاق وغيره أن قريشا لما بنت الكعبة كان عمر النبي
صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة. وروى إسحاق بن راهويه من طريق خالد بن عرعرة
عن علي في قصة بناء إبراهيم البيت قال: "فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته
العمالقة، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته جرهم، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته قريش،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ شاب، فلما أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود
اختصموا فيه فقالوا: نحكم بيننا أول من يخرج من هذه السكة، فكان النبي صلى الله
عليه وسلم أول من خرج منها، فحكم بينهم أن يجعلوه في ثوب ثم يرفعه من كل قبيلة
رجل" وذكر أبو داود الطيالسي في هذا الحديث أنهم قالوا نحكم أول من يدخل من
باب بني شيبة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من دخل منه، فأخبروه، فأمر بثوب
فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فرفعوه، ثم أخذه فوضعه
بيده" وروى الفاكهي أن الذي أشار عليهم أن يحكموا أول داخل أبو أمية بن
المغيرة المخزومي أخو الوليد، وقد تقدم في أوائل الحج من حديث أبي الطفيل قصة بناء
قريش الكعبة مطولا فأغنى عن إعادته هنا. وعند موسى بن عقبة أن الذي أشار عليهم
بذلك هو الوليد بن المغيرة المخزومي، وأنه قال لهم "لا تجعلوا فيها مالا أخذ
غصبا، ولا قطعت فيه رحم، ولا انتهكت فيه ذمة" وعند ابن إسحاق أن الذي أشار
عليهم أن لا يبنوها إلا من مال طيب هو أبو وهب بن عمرو بن عامر بن عمران بن مخزوم.
قوله: في حديث جابر "لما بنيت الكعبة" هو من مراسيل الصحابة، ولعل جابرا
سمعه من العباس بن عبد المطلب، وتقدم بيان ذلك واضحا في كتاب الحج. وقوله:
"يقك من الحجارة فخر إلى الأرض" فيه حذف تقديره: ففعل ذلك فخر. وفي حديث
أبي الطفيل المذكور آنفا" فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة
معهم إذ انكشفت عورته، فنودي يا محمد غط عورتك، فذلك في أول ما نودي، فما رؤيت له
عورة قبل ولا بعد" وقوله: "طمحت عيناه إلى السماء" أي ارتفعت. وذكر
ابن إسحاق في المبعث "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لي يحدث
عما كان الله يحفظه في صغره أنه قال: لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل حجارة لبعض
مما تلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة،
إذ لكمني لاكم ما أراه، ثم قال: شد عليك إزارك، قال فشددته علي، ثم جعلت أحمل
وإزاري علي من بين أصحابي" قال السهيلي: إنما وردت هذه القصة في بنيان
الكعبة، فإن صح أن ذلك كان في صغره فهي قصة أخرى: مرة في الصغر ومرة في حال
الاكتهال. قلت: وقد يطلق على الكبير
(7/146)
غلام إذا فعل فعل الغلمان فلا يستحيل اتحاد القصة اعتمادا على التصريح بالأولية في حديث أبي الطفيل. قوله: "قالا: لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حول البيت حائط" هذا مرسل، وقيل: منقطع، لأن عمرو بن دينار وعبيد الله بن أبي يزيد من أصاغر التابعين. وأما قوله: "حتى كان عمر" فمنقطع فإنهما لم يدركا عمر أيضا. وأما قوله: "قال عبيد الله جدره قصير" هو بفتح الجيم، والجدر والجدار بمعنى. وقوله: "فبناه ابن الزبير" هذا القدر هو الموصول من هذا الحديث، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق حماد بن زيد عن عبيد الله بن أبي يزيد بتمامه وقال فيه: "وكان أول من جعل الحائط على البيت عمر" قال عبيد الله وكان جدره قصيرا حتى كان زمن ابن الزبير فزاد فيه: "وذكر الفاكهي أن المسجد كان محاطا بالدور على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فضاق على الناس، فوسعه عمر واشترى دورا فهدمها، وأعطى من أبى أن يبيع ثمن داره، ثم أحاط عليه بجدار قصير دون القامة، ورفع المصابيح على الجدر" قال: "ثم كان عثمان فزاد في سعته من جهات أخر، ثم وسعه عبد الله بن الزبير، ثم أبو جعفر المنصور، ثم ولده المهدي" قال: "ويقال إن ابن الزبير سقفه أو سقف بعضه، ثم رفع عبد الملك بن مروان جدرانه وسقفه بالساج، وقيل: بل الذي صنع ذلك ولده الوليد وهو أثبت، وكان ذلك سنة ثمان وثمانين".
(7/147)
26 - باب أَيَّامُ الْجَاهِلِيَّةِ
3832- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَانَ
يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ فَلَمَّا قَدِمَ
الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ
شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لاَ يَصُومُهُ"
3832- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كَانُوا
يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ الْفُجُورِ فِي الأَرْضِ
وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَقُولُونَ إِذَا بَرَا الدَّبَرْ
وَعَفَا الأَثَرْ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ قَالَ فَقَدِمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَابِعَةً مُهِلِّينَ
بِالْحَجِّ وَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ قَالَ الْحِلُّ
كُلُّهُ"
3833- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ كَانَ
عَمْرٌو يَقُولُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
قَالَ "جَاءَ سَيْلٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَسَا مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ
قَالَ سُفْيَانُ وَيَقُولُ إِنَّ هَذَا لَحَدِيثٌ لَهُ شَأْنٌ"
3834- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ بَيَانٍ
أَبِي بِشْرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى
امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ فَرَآهَا لاَ تَكَلَّمُ فَقَالَ
مَا لَهَا لاَ تَكَلَّمُ قَالُوا حَجَّتْ مُصْمِتَةً قَالَ لَهَا تَكَلَّمِي
فَإِنَّ هَذَا لاَ يَحِلُّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَكَلَّمَتْ
فَقَالَتْ مَنْ أَنْتَ قَالَ امْرُؤٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَالَتْ أَيُّ
الْمُهَاجِرِينَ قَالَ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَتْ مِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ أَنْتَ قَالَ
إِنَّكِ لَسَئُولٌ أَنَا
(7/147)
أَبُو بَكْرٍ قَالَتْ مَا بَقَاؤُنَا
عَلَى هَذَا الأَمْرِ الصَّالِحِ الَّذِي جَاءَ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ
الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ بَقَاؤُكُمْ عَلَيْهِ مَا اسْتَقَامَتْ بِكُمْ أَئِمَّتُكُمْ
قَالَتْ وَمَا الأَئِمَّةُ قَالَ أَمَا كَانَ لِقَوْمِكِ رُءُوسٌ وَأَشْرَافٌ
يَأْمُرُونَهُمْ فَيُطِيعُونَهُمْ قَالَتْ بَلَى قَالَ فَهُمْ أُولَئِكِ عَلَى
النَّاسِ"
3835- حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ
مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ
فِي الْمَسْجِدِ قَالَتْ فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا فَإِذَا
فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ:
وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا ... أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ
الْكُفْرِ أَنْجَانِي
فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ قَالَتْ
خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ فَسَقَطَ
مِنْهَا فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا وَهِيَ تَحْسِبُهُ لَحْمًا
فَأَخَذَتْهُ فَاتَّهَمُونِي بِهِ فَعَذَّبُونِي حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي
أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي قُبُلِي فَبَيْنَاهُمْ حَوْلِي وَأَنَا فِي كَرْبِي إِذْ
أَقْبَلَتْ الْحُدَيَّا حَتَّى وَازَتْ بِرُءُوسِنَا ثُمَّ أَلْقَتْهُ فَأَخَذُوهُ
فَقُلْتُ لَهُمْ هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ وَأَنَا مِنْهُ
بَرِيئَةٌ"
3836- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلاَ مَنْ كَانَ
حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاللَّهِ فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ
بِآبَائِهَا فَقَالَ لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ"
3837- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ
أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ أَنَّ
الْقَاسِمَ كَانَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ الْجَنَازَةِ وَلاَ يَقُومُ لَهَا
وَيُخْبِرُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُومُونَ
لَهَا يَقُولُونَ إِذَا رَأَوْهَا كُنْتِ فِي أَهْلِكِ مَا أَنْتِ
مَرَّتَيْنِ"
3838- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لاَ يُفِيضُونَ مِنْ
جَمْعٍ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ فَخَالَفَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ"
3839- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ حَدَّثَكُمْ
يَحْيَى بْنُ الْمُهَلَّبِ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَكَأْسًا
دِهَاقًا} قَالَ: مَلْأَى مُتَتَابِعَةً"
(7/148)
3840- قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ "اسْقِنَا كَأْسًا
دِهَاقًا"
3841- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ
أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلٌ وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي
الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ"
[الحديث 3841- طرفاه في: 6489,6147]
3842- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ
الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ
"كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ وَكَانَ أَبُو
بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو
بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ أَتَدْرِي مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا
هُوَ قَالَ كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ
الْكِهَانَةَ إِلاَّ أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا
الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي
بَطْنِهِ".
3843- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي
نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كَانَ أَهْلُ
الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُونَ لُحُومَ الْجَزُورِ إِلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ
قَالَ وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ
تَحْمِلَ الَّتِي نُتِجَتْ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ"
3844- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ قَالَ غَيْلاَنُ بْنُ
جَرِيرٍ "كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَيُحَدِّثُنَا عَنْ
الأَنْصَارِ وَكَانَ يَقُولُ لِي فَعَلَ قَوْمُكَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا
وَكَذَا وَفَعَلَ قَوْمُكَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا"
قوله: "باب أيام الجاهلية" أي مما كان بين المولد النبوي والمبعث، هذا
هو المراد به هنا، ويطلق غالبا على ما قبل البعثة ومنه {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ
غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} وقوله: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ومنه أكثر أحاديث الباب، وأما جزم النووي في عدة مواضع
من شرح مسلم أن هذا هو المراد حيث أتى ففيه نظر فإن هذا اللفظ وهو
"الجاهلية" يطلق على ما مضى والمراد ما قبل إسلامه، وضابط آخره غالبا
فتح مكة، ومنه قول مسلم في مقدمة صحيحه "أن أبا عثمان وأبا رافع أدركا
الجاهلية" وقول أبي رجاء العطاردي" رأيت في الجاهلية قردة زنت"
وقول ابن عباس "سمعت أبي يقول في الجاهلية: اسقنا كأسا دهاقا" وابن عباس
إنما ولد بعد البعثة، وأما قول عمر "نذرت في الجاهلية" فمحتمل، وقد نبه
على ذلك شيخنا العراقي في الكلام على المخضرمين من علوم الحديث. وذكر فيه أحاديث:
قوله: "كان عاشوراء" تقدم شرحه في كتاب الصيام، وذكرت هناك احتمالا أنهم
أخذوا ذلك عن أهل الكتاب، ثم وجدت في بعض الأخبار أنهم كانوا أصابهم قحط ثم رفع
عنهم
(7/149)
فصاموه شكرا.الثاني حديث ابن عباس قوله: "كانوا يرون" أي يعتقدون أن أشهر الحج لا ينسك فيها إلا بالحج وأن غيرها من الأشهر للعمرة، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الحج. قوله: "كان عمرو" هو ابن دينار. وفي رواية الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن بشر عن سفيان "حدثنا عمرو بن دينار". قوله: "عن جده" هو حزن بفتح المهملة وسكون الزاي وهو ابن أبي وهب الذي قدمنا أنه أشار على قريش بأن تكون النفقة في بناء الكعبة من مال طيب. قوله: "جاء سيل في الجاهلية فطبق ما بين الجبلين" أي ملأ ما بين الجبلين اللذين في جانبي الكعبة. قوله: "قال سفيان ويقول إن هذا الحديث له شأن" أي قصة، وذكر موسى بن عقبة أن السيل كان يأتي من فوق الردم الذي بأعلى مكة فيجريه، فتخوفوا أن يدخل الماء الكعبة فأرادوا تشييد بنيانها، وكان أول من طلعها وهدم منها شيئا الوليد بن المغيرة، وذكر القصة في بنيان الكعبة قبل المبعث النبوي. وأخرج الشافعي في "الأم" بسند له عن عبد الله بن الزبير أن كعبا قال له وهو يعمل بناء مكة اشدده وأوثقه، فإنا نجد في الكتب أن السيول ستعظم في آخر الزمان ا هـ. فكان الشأن المشار إليه أنهم استشعروا من ذلك السيل الذي لم يعهدوا مثله أنه مبدأ السيول المشار إليها. قوله: "دخل" أي أبو بكر الصديق. قوله: "على امرأة من أحمس" بمهملتين وزن أحمد، وهي قبيلة من بجيلة. وأغرب ابن التين فقال: المراد امرأة من الحمس وهي من قريش. قوله: "يقال لها زينب بنت المهاجر" روى حديثها محمد بن سعد في الطبقات من طريق عبد الله بن جابر الأحمسي عن عمته زينب بنت المهاجر قالت: "خرجت حاجة" فذكر الحديث، وذكر أبو موسى المديني في "ذيل الصحابة" أن ابن مندة ذكر في "تاريخ النساء" له أن زينب بنت جابر أدركت النبي صلى الله عليه وسلم وروت عن أبي بكر، وروى عنها عبد الله بن جابر وهي عمته قال: وقيل: هي بنت المهاجر بن جابر، وذكر الدار قطني في "العلل" أن في رواية شريك وغيره عن إسماعيل بن أبي خالد في حديث الباب أنها زينب بنت عوف، قال: وذكر ابن عيينة عن إسماعيل أنها جدة إبراهيم بن المهاجر، والجمع بين هذه الأقوال ممكن بأن من قال بنت المهاجر نسبها إلى أبيها أو بنت جابر نسبها إلى جدها الأدنى أو بنت عوف نسبها إلى جد لها أعلى، والله أعلم. قوله: "مصمتة" بضم الميم وسكون المهملة أي ساكته يقال أصمت وصمت بمعنى. قوله: "فإن هذا لا يحل" يعني ترك الكلام. ووقع عند الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي بكر الصديق أن المرأة قالت له: "كان بيننا وبين قومك في الجاهلية شر، فحلفت إن الله عافانا من ذلك أن لا أكلم أحدا حتى أحج، فقال: إن الإسلام يهدم ذلك، فتكلمي" وللفاكهي من طريق زيد بن وهب عن أبي بكر نحوه، وقد استدل بقول أبي بكر هذا من قال بأن من حلف أن لا يتكلم استحب له أن يتكلم ولا كفارة عليه، لأن أبا بكر لم يأمرها بالكفارة، وقياسه أن من نذر أن لا يتكلم لم ينعقد نذره، لأن أبا بكر أطلق أن ذلك لا يحل وأنه من فعل الجاهلية وأن الإسلام هدم ذلك ولا يقول أبو بكر مثل هذا إلا عن توقيف فيكون في حكم المرفوع، ويؤيد ذلك حديث ابن عباس في قصة أبي إسرائيل الذي نذر أن يمشي ولا يركب ولا يستظل ولا يتكلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يركب ويستظل ويتكلم، وحديث علي رفعه: "لا يتم بعد احتلام ولا صمت يوم إلى الليل" أخرجه أبو داود، قال الخطابي في شرحه: كان من نسك أهل الجاهلية الصمت، فكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة ويصمت، فنهوا عن ذلك وأمروا بالنطق بالخير، وقد تقدمت الإشارة إلى حديث ابن عباس في كتاب الحج، ويأتي الكلام عليه في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. وقال ابن قدامة في "المغني": ليس من شريعة الإسلام الصمت عن الكلام، وظاهر الأخبار تحريمه، واحتج
(7/150)
بحديث أبي بكر وبحديث علي المذكور قال: فإن نذر ذلك لم يلزمه الوفاء به، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا ا هـ. وكلام الشافعية يقتضي أن مسألة النذر ليست منقولة، فإن الرافعي ذكر في كتاب النذر أن في تفسير أبي نصر القشيري عن القفال قال من نذر أن لا يكلم الآدميين يحتمل أن يقال يلزمه لأنه مما يتقرب به. ويحتمل أن يقال لا، لما فيه من التضييق والتشديد وليس ذلك من شرعنا، كما لو نذر الوقوف في الشمس، قال أبو نصر: فعلى هذا يكون نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا، ذكره في تفسير سورة مريم عند قولها {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} وفي "التتمة" لأبي سعيد المتولي: من قال شرع من قبلنا شرع لنا جعل ذلك قربة. وقال ابن الرفعة في قول الشيخ أبي إسحاق في"التنبيه": ويكره له صمت يوم إلى الليل، قال في شرحه: إذ لم يؤثر ذلك بل جاء في حديث ابن عباس النهي عنه. ثم قال: نعم، قد ورد في شرع من قبلنا، فإن قلنا إنه شرع لنا لم يكره، إلا أنه لا يستحب قاله ابن يونس، قال: وفيه نظر، لأن الماوردي قال: روي عن ابن عمر مرفوعا صمت الصائم تسبيح، قال؛ فإن صح دل على مشروعية الصمت، وإلا فحديث ابن عباس أقل درجاته الكراهة. قال: وحيث قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا، فذاك إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه انتهى. وهو كما قال. وقد ورد النهي. والحديث المذكور لا يثبت. وقد أورده صاحب"مسند الفردوس" من حديث ابن عمر وفي إسناده الربيع بن بدر وهو ساقط، ولو ثبت لما أفاد المقصود لأن لفظه: "صمت الصائم تسبيح، ونومه عبادة، ودعاؤه مستجاب" فالحديث مساق في أن أفعال الصائم كلها محبوبة، لا أن الصمت بخصوصه مطلوب. وقد قال الروياني في"البحر" في آخر الصيام: فرع جرت عادة الناس بترك الكلام في رمضان، وليس له أصل في شرعنا بل في شرع من قبلنا، فيخرج جواز ذلك على الخلاف في المسألة انتهى. وليتعجب ممن نسب تخريج مسألة النذر إلى نفسه من المتأخرين، وأما الأحاديث الواردة في الصمت وفضله كحديث: "من صمت نجا" أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث: "أيسر العبادة الصمت" أخرجه ابن أبي الدنيا بسند مرسل رجاله ثقات، إلى غير ذلك، فلا يعارض ما جزم به الشيخ أبو إسحاق من الكراهة لاختلاف المقاصد في ذلك، فالصمت المرغب فيه ترك الكلام الباطل، وكذا المباح إن جر إلى شيء من ذلك، والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه، وكذا المباح المستوي الطرفين والله أعلم. قوله: "إنك" بكسر الكاف. قوله: "لسئول" أي كثيرة السؤال، وهذه الصيغة يستوي فيها المذكر والمؤنث. قوله: "ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح" أي دين الإسلام وما اشتمل عليه من العدل واجتماع الكلمة ونصر المظلوم ووضع كل شيء في محله. قوله: "ما استقامت بكم" في رواية الكشميهني: "لكم". قوله: "أئمتكم" أي لأن الناس على دين ملوكهم، فمن حاد من الأئمة عن الحال مال وأمال. حديث عائشة في قصة المرأة السوداء، لم أقف على اسمها، وذكر عمر بن شبة في طريق له أنها كانت بمكة وأنه لما وقع لها ذلك هاجرت إلى المدينة. قوله: "وكان لها حفش" بكسر المهملة وسكون الفاء بعدها معجمة هو البيت الضيق الصغير. وقال أبو عبيدة: الحفش هو الدرج في الأصل ثم سمي به البيت الصغير لشبهه به في الضيق. قوله: "وازت" أي قابلت، وقد تقدم شرح هذه القصة في أبواب المساجد من كتاب الصلاة، ووجه دخولها هنا من جهة ما كان عليه أهل الجاهلية من الجفاء في الفعل والقول. حديث ابن عمر في النهي عن الحلف بالآباء، وسيأتي شرحه في كتاب الأيمان والنذور. قوله: "أن القاسم" هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق. قوله: "ولا يقوم لها" أي الجنازة. قوله: "كان أهل الجاهلية يقومون لها" ظاهره أن عائشة
(7/151)
لم يبلغها أمر الشارع بالقيام لها، فرأت أن ذلك من الأمور التي كانت في الجاهلية وقد جاء الإسلام بمخالفتهم، وقد قدمت في الجنائز بيان الاختلاف في المسألة وهل نسخ هذا الحكم أم لا؟ وعلى القول بأنه نسخ هل نسخ الوجوب ويقي الاستحباب أم لا؟ أو مطلق الجواز؟ واختار بعض الشافعية الأخير، وأكثر الشافعية الكراهة، وادعى المحاملي فيه الاتفاق، وخالف المتولي فقال: يستحب، واختاره النووي وقال: هذا من جملة الأحكام التي استدركتها عائشة على الصحابة لكن كان جانبهم فيها أرجح. قوله: "كنت في أهلك ما أنت مرتين" أي يقولون ذلك مرتين وما موصولة وبعض الصلة محذوف والتقدير: كنت في أهلك الذي كنت فيه أي الذي أنت فيه الآن كنت في الحياة مثله، لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث بل كانوا يعتقدون أن الروح إذا خرجت تطير طيرا فإن كان ذلك من أهل الخير كان روحه من صالحي الطير إلا فبالعكس، ويحتمل أن يكون قولهم هذا دعاء للميت، ويحتمل أن تكون"ما" نافية ولفظ: "مرتين" من تمام الكلام أي لا تكوني في أهلك مرتين: المرة الواحد التي كنت فيهم انقضت وليست بعائدة إليهم مرة أخرى. ويحتمل أن تكون "ما" استفهامية أي كنت في أهلك شريفة فأي شيء أنت الآن؟ يقولون ذلك حزنا وتأسفا عليه. حديث عمر في قولهم "أشرق ثبير" وقد تقدم شرحه في كتاب الحج مستوفى، وقوله: "حتى تشرق الشمس" قال ابن التين: ضبط بفتح أوله وضم الراء، والمعروف بضم أوله وكسرها. قوله: "حدثكم يحيى بن المهلب" هو البجلي يكنى أبا كدينة بالتصغير والنون، وهو كوفي موثق ماله في البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "ملأى متتابعة" كذا جمع بينهما، وهما قولان لأهل اللغة تقول: أدهقت الكأس إذا ملأتها، وأدهقت له إذا تابعت له السقي، وقيل: أصل الدهق الضغط، والمعنى أنه ملأ اليد بالكأس حتى لم يبق فيها متسع لغيرها. قوله: "قال وقال ابن عباس" القائل هو عكرمة، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "سمعت أبي" هو العباس بن عبد المطلب. قوله: "في الجاهلية" أي وقع سماعي لذلك منه في الجاهلية، والمراد بها جاهلية نسبية لا المطلقة لأن ابن عباس لم يدرك ما قبل البعثة، بل لم يولد إلا بعد البعث بنحو عشر سنين، فكأنه أراد أنه سمع العباس يقول ذلك قبل أن يسلم. قوله: "اسقنا كأسا دهاقا" في رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن حصين عن عكرمة عن ابن عباس"سمعت أبي يقول لغلامه: ادهق لنا، أي املأ لنا، أو تابع لنا" انتهى. وهو بمعنى ما ساقه البخاري. قوله: "سفيان" هو الثوري. قوله: "عن عبد الملك" هو ابن عمير، ولأحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن الثوري "حدثنا عبد الملك بن عمير". ولمسلم من هذا الوجه عن عبد الملك "حدثنا أبو سلمة"، وله من طريق إسرائيل عن عبد الملك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن "سمعت أبا هريرة". قوله: "أصدق كلمة قالها الشاعر" يحتمل أن يريد بالكلمة البيت الذي ذكر شطره، ويحتمل أن يريد القصيدة كلها، ويؤيد الأول رواية مسلم من طريق شعبة وزائدة فرقهما عن عبد الملك بلفظ: "إن أصدق بيت قاله الشاعر" وليس في رواية شعبة "إن" ووقع عنده في رواية شريك عن عبد الملك بلفظ: "أشعر كلمة تكلمت بها العرب" فلولا أن في حفظ شريك مقالا لرفع هذا اللفظ الإشكال الذي أبداه السهيلي على لفظ رواية الصحيح بلفظ: "أصدق" إذ لا يلزم من لفظ: "أشعر" أن يكون أصدق، نعم السؤال باق في التعبير بوصف كل شيء بالبطلان مع اندراج الطاعات والعبادات في ذلك وهي حق لا محالة، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه بالليل "أنت الحق وقولك الحق والجنة حق والنار حق إلخ" وأجيب عن ذلك بأن المراد بقول الشاعر ما عدا الله أي ما عداه وعدا صفاته الذاتية
(7/152)
والفعلية من رحمته وعذابه وغير ذلك، فلذلك
ذكر الجنة والنار، أو المراد في البيت بالبطلان الفناء لا الفساد، فكل شيء سوى
الله جائز عليه الفناء لذاته حتى الجنة والنار، وإنما يبقيان بإبقاء الله لهما
وخلق الدوام لأهلهما، والحق على الحقيقة من لا يجوز عليه الزوال، ولعل هذا هو السر
في إثبات الألف واللام في قوله: "أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق"
وحذفهما عند ذكر غيرهما والله أعلم. وفي إيراد البخاري هذا الحديث في هذا الباب
تلميح بما وقع لعثمان بن مظعون بسبب هذا البيت مع ناظمه لبيد بن ربيعة قبل إسلامه،
والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة وقريش في غاية الأذية للمسلمين، فذكر ابن
إسحاق عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عمن حدثه عن عثمان بن مظعون أنه
"لما رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة دخل مكة في جوار الوليد بن المغيرة،
فلما رأى المشركين يؤذون المسلمين وهو آمن رد على الوليد جواره، فبينما هو في مجلس
لقريش وقد وفد عليهم لبيد بن ربيعة فقعد ينشدهم من شعره فقال لبيد" ألا كل
شيء ما خلا الله باطل"فقال عثمان بن مظعون: صدقت، فقال لبيد" وكل نعيم
لا محالة زائل" فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول. فقال لبيد: متى كان
يؤذي جليسكم يا معشر قريش؟ فقام رجل منهم فلطم عثمان فاخضرت عينه، فلامه الوليد
على رد جواره فقال: قد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: إن عيني الأخرى لما أصاب
أختها لفقيرة، فقال له الوليد: فعد إلى جوارك، فقال: بل أرضي بجوار الله تعالى.
قلت: وقد أسلم لبيد بعد ذلك، وهو ابن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن
ربيعة بن عامر العامري ثم الكلابي ثم الجعفري، يكنى أبا عقيل. وذكره في الصحابة
البخاري وابن أبي خيثمة وغيرهما. وقال لعمر لما سأله عما قاله من الشعر في
الإسلام: قد أبدلني الله بالشعر سورة البقرة. ثم سكن الكوفة ومات بها في خلافة
عثمان، وعاش مائة وخمسين سنة وقيل: أكثر، وهو القائل:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس: كيف لبيد؟
وهذا يعكر على من قال إنه لم يقل شعرا منذ أسلم، إلا أن يريد القطع المطولة لا
البيت والبيتين. والله أعلم. قوله: "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم"
اسم أبي الصلت ربيعة بن عوف بن عقدة بن غيرة - بكسر المعجمة وفتح التحتانية - ابن
عوف بن ثقيف الثقفي، وقيل في نسبه غير ذلك، أبو عثمان. كان ممن طلب الدين ونظر في
الكتب ويقال إنه ممن دخل في النصرانية، وأكثر في شعره من ذكر التوحيد والبعث يوم
القيامة، وزعم الكلاباذي أنه كان يهوديا. وروى الطبراني من حديث معاوية بن أبي
سفيان عن أبيه أنه سافر مع أمية، فذكر قصته وأنه سأله عن عتبة بن ربيعة وعن سنه
ورياسته فأعلمه أنه متصف بذلك فقال: أزرى به ذلك، فغضب أبو سفيان، فأخبره أمية أنه
نظر في الكتب أن نبيا يبعث من العرب أظل زمانه، قال: فرجوت أن أكونه قال: ثم نظرت
فإذا هو من بني عبد مناف، فنظرت فيهم فلم أر مثل عتبة، فلما قلت لي إنه رئيس وإنه
جاوز الأربعين عرفت أنه ليس هو، قال أبو سفيان: فما مضت الأيام حتى ظهر محمد صلى
الله عليه وسلم فقلت لأمية، قال: نعم إنه لهو، قلت أفلا نتبعه؟ قال: أستحيي من
نسيات ثقيف، إني كنت أقول لهن إنني أنا هو ثم أصير تابعا لغلام من بني عبد مناف.
وذكر أبو الفرج الأصبهاني أنه قال عند موته: أنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك
يداخلني في محمد. وروى الفاكهي وابن منده من حديث ابن عباس "أن الفارعة بنت
أبي الصلت أخت أمية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فأنشدته من شعره فقال:
(7/153)
آمن شعره وكفر قلبه" وروى مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: "ردفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل معك من شعر أمية؟ قلت: نعم، فأنشدته مائة بيت، فقال: لقد كاد أن يسلم في شعره " وروى ابن مردويه بإسناد قوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} قال: نزلت في أمية بن أم الصلت. وروي من أوجه أخرى أنها نزلت في بلعام الإسرائيلي وهو المشهور. وعاش أمية حتى أدرك وقعة بدر ورثى من قتل بها من الكفار كما سيأتي من ذلك في أبواب الهجرة، ومات أمية بعد ذلك سنة تسع، وقيل: مات سنة اثنتين ذكره سبط ابن الجوزي، واعتمد في ذلك ما نقله عن ابن هشام: أن أمية قدم من الشام على أن يأخذ ماله من الطائف ويهاجر إلى المدينة، فنزل في طريقه ببدر، قيل له: أتدري من في القليب؟ قال لا، قيل: فيه عتبة وشيبة وهما ابنا خالك وفلان وفلان، فشق ثيابه وجدع ناقته وبكى ورجع إلى الطائف فمات بها. قلت: ولا يلزم من قوله فمات بها أن يكون مات في تلك السنة. وأغرب الكلاباذي فقال: إنه مات في حصار الطائف. فإن كان محفوظا فذلك سنة ثمان، ولموته قصة طويلة أخرجها البخاري في تاريخه والطبراني وغيرهما. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وأخوه أبو بكر عبد الحميد، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، والإسناد كله مدنيون، وفيه رواية القرين عن القرين ورواية الأكبر سنا عن الأصغر منه يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم، وقد أخرجه البيهقي في "الشعب" من طريق جعفر الفريابي عن أحمد بن محمد المقدمي عن إسماعيل بن أبي أويس بهذا السند، لكن قال فيه عن عبيد بن عمر بدل عبد الرحمن بن القاسم، فلعل ليحيى بن سعيد فيه شيخين. قوله: "كان لأبي بكر غلام" لم أقف على اسمه، ووقع لأبي بكر مع النعيمان بن عمرو أحد الأحرار من الصحابة قصة ذكرها عبد الرزاق بإسناد صحيح" أنهم نزلوا بماء، فجعل النعيمان يقول لهم: يكون كذا، فيأتونه بالطعام فيرسله إلى أصحابه. فبلغ أبا بكر فقال: أراني آكل كهانة النعيمان منذ اليوم، ثم أدخل يده في حلقه فاستقاءه "وفي" الورع لأحمد "عن إسماعيل عن أيوب عن ابن سيرين" لم أعلم أحدا استقاء من طعام غير أبي بكر فإنه أتي بطعام فأكل ثم قيل له جاء به ابن النعيمان، قال فأطعمتموني كهانة ابن النعيمان، ثم استقاء" ورجاله ثقات لكنه مرسل، ولأبي بكر قصة أخرى في نحو هذا أخرجها يعقوب بن أبي شيبة في مسنده من طريق نبيح العنزي عن أبي سعيد قال: "كنا ننزل رفاقا، فنزلت في رفقه فيها أبو بكر على أهل أبيات فيهن امرأة حبلى ومعنا رجل، فقال لها: أبشرك أن تلدي ذكرا، قالت نعم، فسجع لها أسجاعا. فأعطته شاة فذبحها وجلسنا نأكل، فلما علم أبو بكر بالقصة قام فتقايأ كل شيء أكله". قوله: "يخرج له الخراج" أي يأتيه بما يكسبه، والخراج ما يقرره السيد على عبده من مال يحضره له من كسبه. قوله: "يأكل من خراجه" في رواية الإسماعيلي من وجه آخر من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم"كان لأبي بكر غلام، فكان يجيء بكسبه فلا يأكل منه حتى يسأله، فأتاه ليلة بكسبه فأكل منه ولم يسأله، ثم سأله". قوله: "كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية" لم أعرف اسمه ويحتمل أن يكون المرأة المذكورة في حديث أبي سعيد. قوله: "فأعطاني بذلك" أي عوض تكهني له، قال ابن التين: إنما استقاء أبو بكر تنزها لأن أمر الجاهلية وضع ولو كان في الإسلام لغرم مثل ما أكل أو قيمته ولم يكفه القيء، كذا قال، والذي يظهر أن أبا بكر إنما قاء لما ثبت عنده من النهي عن حلوان الكاهن، وحلوان الكاهن ما يأخذه على كهانته، والكاهن من يخبر بما سيكون عن غير دليل شرعي، وكان ذلك قد كثر في الجاهلية خصوصا قبل ظهور
(7/154)
النبي صلى الله عليه وسلم.الحديث الثاني عشر حديث ابن عمر في حبل الحبلة، وقد تقدم شرحه مستوفى في البيوع، والغرض منه قوله: "إنهم كانوا يتبايعونه في الجاهلية". حديث أنس الذي تقدم في أول مناقب الأنصار، وأدخله هنا لقوله: "فعل قومك كذا يوم كذا" لأنه يحتمل أن يشير به إلى وقائعهم في الجاهلية كما يحتمل أن يشير به إلى وقائعهم في الإسلام أو لما هو أعم من ذلك، وخاطب أنس غيلان بأن الأنصار قومه، وليس هو من الأنصار، لكن ذلك باعتبار النسبية الأعمية إلى الأزد فإنها تجمعهم، والله أعلم.
(7/155)
27- باب الْقَسَامَةُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ
3845- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا قَطَنٌ
أَبُو الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ الْمَدَنِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ إِنَّ أَوَّلَ قَسَامَةٍ كَانَتْ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَفِينَا بَنِي هَاشِمٍ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
اسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ فَخِذٍ أُخْرَى فَانْطَلَقَ مَعَهُ فِي
إِبِلِهِ فَمَرَّ رَجُلٌ بِهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ قَدْ انْقَطَعَتْ عُرْوَةُ
جُوَالِقِهِ فَقَالَ أَغِثْنِي بِعِقَالٍ أَشُدُّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِي لاَ
تَنْفِرُ الإِبِلُ فَأَعْطَاهُ عِقَالًا فَشَدَّ بِهِ عُرْوَةَ جُوَالِقِهِ
فَلَمَّا نَزَلُوا عُقِلَتْ الإِبِلُ إِلاَّ بَعِيرًا وَاحِدًا فَقَالَ الَّذِي
اسْتَأْجَرَهُ مَا شَأْنُ هَذَا الْبَعِيرِ لَمْ يُعْقَلْ مِنْ بَيْنِ الإِبِلِ
قَالَ لَيْسَ لَهُ عِقَالٌ قَالَ فَأَيْنَ عِقَالُهُ قَالَ فَحَذَفَهُ بِعَصًا
كَانَ فِيهَا أَجَلُهُ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ
أَتَشْهَدُ الْمَوْسِمَ قَالَ مَا أَشْهَدُ وَرُبَّمَا شَهِدْتُهُ قَالَ هَلْ أَنْتَ
مُبْلِغٌ عَنِّي رِسَالَةً مَرَّةً مِنْ الدَّهْرِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَكَتَبَ
إِذَا أَنْتَ شَهِدْتَ الْمَوْسِمَ فَنَادِ يَا آلَ قُرَيْشٍ فَإِذَا أَجَابُوكَ
فَنَادِ يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَسَلْ عَنْ أَبِي طَالِبٍ
فَأَخْبِرْهُ أَنَّ فُلاَنًا قَتَلَنِي فِي عِقَالٍ وَمَاتَ الْمُسْتَأْجَرُ
فَلَمَّا قَدِمَ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ أَتَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ مَا فَعَلَ
صَاحِبُنَا قَالَ مَرِضَ فَأَحْسَنْتُ الْقِيَامَ عَلَيْهِ فَوَلِيتُ دَفْنَهُ
قَالَ قَدْ كَانَ أَهْلَ ذَاكَ مِنْكَ فَمَكُثَ حِينًا ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ
الَّذِي أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ يُبْلِغَ عَنْهُ وَافَى الْمَوْسِمَ فَقَالَ يَا
آلَ قُرَيْشٍ قَالُوا هَذِهِ قُرَيْشٌ قَالَ يَا آلَ بَنِي هَاشِمٍ قَالُوا هَذِهِ
بَنُو هَاشِمٍ قَالَ أَيْنَ أَبُو طَالِبٍ قَالُوا هَذَا أَبُو طَالِبٍ قَالَ أَمَرَنِي
فُلاَنٌ أَنْ أُبْلِغَكَ رِسَالَةً أَنَّ فُلاَنًا قَتَلَهُ فِي عِقَالٍ فَأَتَاهُ
أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ اخْتَرْ مِنَّا إِحْدَى ثَلاَثٍ إِنْ شِئْتَ أَنْ
تُؤَدِّيَ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ فَإِنَّكَ قَتَلْتَ صَاحِبَنَا وَإِنْ شِئْتَ
حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْ قَوْمِكَ إِنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ فَإِنْ أَبَيْتَ
قَتَلْنَاكَ بِهِ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالُوا نَحْلِفُ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ
بَنِي هَاشِمٍ كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ وَلَدَتْ لَهُ فَقَالَتْ يَا
أَبَا طَالِبٍ أُحِبُّ أَنْ تُجِيزَ ابْنِي هَذَا بِرَجُلٍ مِنْ الْخَمْسِينَ
وَلاَ تُصْبِرْ يَمِينَهُ حَيْثُ تُصْبَرُ الأَيْمَانُ فَفَعَلَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ
مِنْهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَرَدْتَ خَمْسِينَ رَجُلًا أَنْ يَحْلِفُوا
مَكَانَ مِائَةٍ مِنْ الإِبِلِ يُصِيبُ كُلَّ رَجُلٍ بَعِيرَانِ هَذَانِ
بَعِيرَانِ فَاقْبَلْهُمَا عَنِّي
(7/155)
وَلاَ تُصْبِرْ يَمِينِي حَيْثُ
تُصْبَرُ الأَيْمَانُ فَقَبِلَهُمَا وَجَاءَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَحَلَفُوا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنْ
الثَّمَانِيَةِ وَأَرْبَعِينَ عَيْنٌ تَطْرِفُ"
3846- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ
هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "كَانَ
يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ
افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِّلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وَجُرِّحُوا قَدَّمَهُ اللَّهُ
لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُخُولِهِمْ فِي
الإِسْلاَمِ"
3847- وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ
أَنَّ كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "لَيْسَ السَّعْيُ بِبَطْنِ الْوَادِي بَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سُنَّةً إِنَّمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ
يَسْعَوْنَهَا وَيَقُولُونَ لاَ نُجِيزُ الْبَطْحَاءَ إِلاَّ شَدًّا"
3848- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ سَمِعْتُ أَبَا السَّفَرِ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا
مِنِّي مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأَسْمِعُونِي مَا تَقُولُونَ وَلاَ تَذْهَبُوا
فَتَقُولُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ
فَلْيَطُفْ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ وَلاَ تَقُولُوا الْحَطِيمُ فَإِنَّ الرَّجُلَ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ يَحْلِفُ فَيُلْقِي سَوْطَهُ أَوْ نَعْلَهُ أَوْ
قَوْسَهُ"
3849- حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ
عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ "رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً
اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا
مَعَهُمْ"
3850- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "خِلاَلٌ مِنْ
خِلاَلِ الْجَاهِلِيَّةِ الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ وَنَسِيَ
الثَّالِثَةَ قَالَ سُفْيَانُ وَيَقُولُونَ إِنَّهَا الِاسْتِسْقَاءُ
بِالأَنْوَاءِ"
الحديث الرابع عشر حديث القسامة في الجاهلية بطوله، وثبت عند أكثر الرواة عن
الفربري هنا ترجمة "القسامة في الجاهلية"، ولم يقع عند النسفي وهو أوجه،
لأن الجميع من ترجمة أيام الجاهلية، ويظهر ذلك من الأحاديث التي أوردها تلو هذا
الحديث. قوله: "حدثنا قطن" بفتح القاف والمهملة ثم نون هو ابن كعب
القطعي بضم القاف البصري، ثقة عندهم، وشيخه أبو يزيد المدني بصري أيضا ويقال له
المديني بزيادة تحتانية، ولعل أصله كان من المدينة، ولكن لم يرو عنه أحد من أهل
المدينة، وسئل عنه مالك فلم يعرفه ولا يعرف اسمه وقد وثقه ابن معين وغيره، ولا له
ولا للراوي عنه في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: "إن أول قسامة" بفتح
القاف وتخفيف المهملة اليمين، وهي في عرف الشرع حلف معين عند التهمة بالقتل على
الإثبات أو النفي. وقيل: هي مأخوذة من قسمة الأيمان على الحالفين.
(7/156)
وسيأتي بيان الاختلاف في حكمها في كتاب
الديات إن شاء الله تعالى. وقوله: "لفينا بني هاشم" اللام للتأكيد وبني
هاشم مجرور على البدل من الضمير المجرور. ويحتمل أن يكون نصبا على التمييز، أو على
النداء بحذف الأداة. قوله: "كان رجل من بني هاشم" هو عمرو بن علقمة بن
المطلب بن عبد مناف، جزم بذلك الزبير بن بكار في هذه القصة فكأنه نسب هذه الرواية
إلى بني هاشم مجازا لما كان بين بني هاشم وبني المطلب من المودة والمؤاخاة والمناصرة،
وسماه ابن الكلبي عامرا. قوله: "استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى" كذا
في رواية الأصيلي وأبي ذر، وكذا أخرجه الفاكهي من وجه آخر عن أبي معمر شيخ البخاري
فيه. وفي رواية كريمة وغيرها "استأجر رجلا من قريش" وهو مقلوب، والأول
هو الصواب. والفخذ بكسر المعجمة وقد تسكن. وجزم الزبير بن بكار بأن استأجر المذكور
هو خداش - بمعجمتين ودال مهملة - ابن عبد الله بن أبي قيس العامري. قوله:
"فمر به" أي بالأجير "رجل من بني هاشم" لم أقف على اسمه.
وقوله: "عروة جوالقه" بضم الجيم وفتح اللام الوعاء من جلود وثياب وغيرها،
فارسي معرب، وأصله كواله: وجمعه جواليق وحكي جوالق بحذف التحتانية، والعقال الحبل.
قوله: "فأين عقاله؟ قال فحذفه" كذا في النسخ وفيه حذف يدل عليه سياق
الكلام، وقد بينته رواية الفاكهي" فقال مر بي رجل من بني هاشم قد انقطع عروة:
جوالقه، واستغاث بي فأعطيته، فحذفه" أي رماه. قوله: "كان فيها أجله"
أي أصاب مقتله. وقوله: "فمات" أي أشرف على الموت، بدليل قوله: "فمر
به رجل من أهل اليمن قبل أن يقضي1 ولم أقف على اسم هذا المار أيضا. قوله:
"أتشهد الموسم" أي موسم الحج. قوله: "فكتب" بالمثناة ثم
الموحدة ولغير أبي ذر والأصيلي بضم الكاف وسكون النون ثم المثناة والأول أوجه. وفي
رواية الزبير بن بكار" فكتب إلى أبي طالب يخبره بذلك ومات منها" وفي ذلك
يقول أبو طالب:
أفي فضل حبل لا أبالك ضربه ... بمنسأة، قد جاء حبل أو أحبل
قوله: "يا آل قريش" بإثبات الهمزة وبحذفها على الاستغاثة. قوله:
"قتلني في عقال" أي بسبب عقال. قوله: "ومات المستأجر" بفتح
الجيم أي بعد أن أوصى اليماني بما أوصاه به. قوله: "فوليت" بكسر اللام.
وفي رواية ابن الكلبي" فقال أصابه قدره، فصدقوه ولم يظنوا به غير ذلك"
وقوله: "وافى الموسم أي أتاه". قوله: "يا بني هاشم" في رواية
الكشميهني: "يا آل بني هاشم". قوله: "من أبو طالب" في رواية
الكشميهني: "أين أبو طالب" زاد ابن الكلبي" فأخبره بالقصة وخداش
يطوف بالبيت لا يعلم بما كان، فقام رجال من بني هاشم إلى خداش فضربوه وقالوا: قتلت
صاحبنا، فجحد". قوله: "اختر منا إحدى ثلاث" يحتمل أن تكون هذه
الثلاث كانت معروفة بينهم، ويحتمل أن تكون شيئا اخترعه أبو طالب. وقال ابن التين:
لم ينقل أنهم تشاوروا في ذلك ولا تدافعوا فدل على أنهم كانوا يعرفون القسامة قبل
ذلك. كذا قال، وفيه نظر، لقول ابن عباس راوي الحديث: "أنها أول قسامة"
ويمكن أن يكون مراد ابن عباس الوقوع وإن كانوا يعرفون الحكم قبل ذلك. وحكى الزبير
بن بكار أنهم تحاكموا في ذلك إلى الوليد بن المغيرة فقضى أن يحلف خمسون رجلا من
بني عامر عند البيت ما قتله خداش، وهذا
ـــــــ
1 قوله "فمات" ثم قوله "قبل أن يقضى" ليس في نسخ الصحيح.
(7/157)
يشعر بالأولية مطلقا. قوله: "فأتته امرأة من بني هاشم" هي زينب بنت علقمة أخت المقتول "كانت تحت رجل منهم" هو عبد العزى بن أبي قيس العامري، واسم ولدها منه حويطب بمهملتين مصغر، وذكر ذلك الزبير. وقد عاش حويطب بعد هذا دهرا طويلا، وله صحبة، وسيأتي حديثه في كتاب الأحكام. ونسبتها إلى بني هاشم مجازية والتقدير كانت زوجا لرجل من بني هاشم. ويحتمل قولها فولدت له ولدا أي غير حويطب. قوله: "أن تجيز ابني" بالجيم والزاي، أي تهبه ما يلزمه من اليمين. وقولها: "ولا تصبر يمينه" بالمهملة ثم الموحدة، أصل الصبر الحبس والمنع، ومعناه في الأيمان الإلزام، تقول صبرته أي ألزمته أن يحلف بأعظم الأيمان حتى لا يسعه أن لا يحلف. قوله: "حيث تصبر الأيمان" أي بين الركن والمقام، قاله ابن التين. قال: ومن هنا استدل الشافعي على أنه لا يحلف بين الركن والمقام على أقل من عشرين دينارا نصاب الزكاة، كذا قال، ولا أدري كيف يستقيم هذا الاستدلال، ولم يذكر أحد من أصحاب الشافعي أن الشافعي استدل لذلك بهذه القصة. قوله: "فأتاه رجل منهم" لم أقف على اسمه ولا على اسم أحد من سائر الخمسين إلا من تقدم، وزاد ابن الكلبي" ثم حلفوا عند الركن أن خداشا بريء من دم للمقتول". قوله: "فو الذي نفسي بيده" قال ابن التين: كأن الذي أخبر ابن عباس بذلك جماعة اطمأنت نفسه إلى صدقهم حتى وسعه أن يحلف على ذلك. قلت: يعني أنه كان حين القسامة لم يولد، ويحتمل أن يكون الذي أخبره بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أمكن في دخول هذا الحديث في الصحيح. قوله: "فما حال الحول" أي من يوم حلفوا. قوله: "ومن الثمانية وأربعين" في رواية أبي ذر "وفي الثمانية" وعند الأصيلي: "والأربعين" قوله: "عين تطرف" بكسر الراء أي تتحرك. زاد ابن الكلبي "وصارت رباع الجميع لحويطب، فبذلك كان أكثر من بمكة رباعا". وروى الفاكهي من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه قال: "حلف ناس عند البيت قسامة على باطل، ثم خرجوا فنزلوا تحت صخرة فانهدمت عليهم" ومن طريق طاوس قال: "كان أهل الجاهلية لا يصيبون في الحرم شيئا إلا عجلت لهم عقوبته" ومن طريق حويطب إن أمة في الجاهلية عاذت بالبيت. فجاءتها سيدتها فجبذتها فشلت يدها" وروينا في" كتاب مجابي الدعوة لابن أبي الدنيا" في قصة طويلة في معنى سرعة الإجابة بالحرم للمظلوم فيمن ظلمه قال: "فقال عمر: كان يفعل بهم ذلك في الجاهلية ليتناهوا عن الظلم لأنهم كانوا لا يعرفون البعث، فلما جاء الإسلام أخر القصاص إلى يوم القيامة" وروى الفاكهي من وجه آخر عن طاوس قال: "يوشك أن لا يصيب أحد في الحرم شيئا إلا عجلت له العقوبة" فكأنه أشار إلى أن ذلك يكون في آخر الزمان عند قبض العلم وتناسى أهل ذلك الزمان أمور الشريعة فيعود الأمر غريبا كما بدأ، والله أعلم. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة. قوله: "يوم بعاث" تقدم شرحه في أول مناقب الأنصار وأنه كان قبل البعث على الراجح، وقوله فيه: "وجرحوا" بالجيم المضمومة ثم الحاء المهملة، ولبعضهم" وخرجوا" بفتح المعجمة وتخفيف الراء بعدها جيم، والأول أرجح، وقد تقدم من تسمية من جرح منهم في تلك الوقعة حضير الكتائب والد أسيد فمات منها. قوله: "قال ابن وهب إلخ" وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق حرملة بن يحيى عن عبد الله بن وهب. قوله: "ليس السعي" أي شدة المشي. قوله: "سنة" في رواية الكشميهني: "بسنة" قال ابن التين خولف ابن عباس في ذلك بل قالوا إنه فريضة. قلت: لم يرد ابن عباس أصل السعي، وإنما أراد شدة العدو، وليس ذلك فريضة. وقد تقدم في أحاديث الأنبياء في ترجمة إبراهيم عليه السلام في قصة هاجر أن مبدأ السعي بين الصفا والمروة كان من
(7/158)
هاجر، وهو من رواية ابن عباس أيضا، فظهر أن الذي أراد أن مبدأه من أهل الجاهلية هي شدة العدو. نعم قوله: "ليس بسنة" إن أراد به أنه لا يستحب فهو يخالف ما عليه الجمهور، وهو نظير إنكاره استحباب الرمل في الطواف. ويحتمل أن يريد بالسنة الطريقة الشرعية وهي تطلق كثيرا على المفروض، ولم يرد السنة باصطلاح أهل الأصول، وهو ما ثبت دليل مطلوبيته من غير تأثيم تاركه. قوله: "لا نجيز" بضم أوله أي لا نقطع. والبطحاء مسيل الوادي، تقول جزت الموضع إذا سرت فيه، وأجزته إذا خلفته وراءك. وقيل: هما بمعنى. وقوله: إلا شدا أي لا نقطعها إلا بالعدو الشديد. قوله: "أخبرنا مطرف" بالمهملة وتشديد الراء هو ابن طريف بالمهملة أيضا الكوفي، وأبو السفر بفتح المهملة والفاء هو سعيد بن يحمد بالتحتانية المضمومة والمهملة الساكنة كوفي أيضا. قوله: "يا أيها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم وأسمعوني" بهمزة قطع أي أعيدوا علي قولي لأعرف أنكم حفظتموه، كأنه خشي أن لا يفهموا ما أراد فيخبروا عنه بخلاف ما قال، فكأنه قال: اسمعوا مني سماع ضبط وإتقان، ولا تقولوا" قال: "من قبل أن تضبطوا. قوله: "من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر" في رواية ابن أبي عمر عن سفيان" وراء الجدر" والمراد به الحجر، والسبب فيه أن الذي يلي البيت إلى جهة الحجر من البيت، وقد تقدم بيانه وما قيل في مقداره في أوائل كتاب الحج. قوله: "ولا تقولوا الحطيم" في رواية سعيد بن منصور عن خديج بن معاوية عن أبي إسحاق عن أبي السفر في هذه القصة" فقال رجل: ما الحطيم؟ فقال ابن عباس: إنه لا حطيم، كان الرجل إلخ" زاد أبو نعيم في "المستخرج" من طريق خالد الطحان عن مطرف" فإن أهل الجاهلية كانوا يسمونه - أي الحجر - الحطيم، كانت فيه أصنام قريش" وللفاكهي من طريق يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر نحوه وقال: "كان أحدهم إذا أراد أن يحلف وضع محجنه ثم حلف، فمن طاف فليطف من ورائه". قوله: "كان يحلف" بالحاء المهملة الساكنة وتخفيف اللام المكسورة. وفي رواية خالد الطحان المذكورة" كان إذا حلف" بضم المهملة وتشديد اللام والأول أوجه، والمعنى أنهم كانوا إذا حالف بعضهم بعضا ألقى الحليف في الحجر نعلا أو سوطا أو قوسا أو عصا علامة لقصد حلفهم فسموه الحطيم لذلك، لكونه يحطم أمتعتهم، وهو فعيل بمعنى فاعل، ويحتمل أن يكون ذلك كان شأنهم إذا أرادوا أن يحلفوا على نفي شيء، وقيل: إنما سمي الحطيم لأن بعضهم كان إذا دعا على من ظلمه في ذلك الموضع هلك. وقال ابن الكلبي: سمي الحجر حطيما لما تحجر عليه، أو لأنه قصر به عن ارتفاع البيت وأخرج عنه، فعلى هذا فعيل بمعنى مفعول، أو لأن الناس يحطم فيه بعضهم بعضا من الزحام عند الدعاء فيه. وقال غيره: الحطيم هو بئر الكعبة التي كان يلقى فيها ما يهدى لها. وقيل: بين الركن الأسود والمقام. وقيل: من أول الركن الأسود إلى أول الحجر يسمى الحطيم. وحديث ابن عباس حجة في رد أكثر هذه الأقوال، زاد في رواية خديج" ولكنه الجدر" بفتح الجيم وسكون المهملة، وهو من البيت. ووقع عند الإسماعيلي والبرقاني في آخر الحديث عن ابن عباس "وأيما صبي حج به أهله فقد قضى حجه ما دام صغيرا، فإذا بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج به أهله" الحديث، وهذه الزيادة عند البخاري أيضا في غير الصحيح، وحذفها منه عمدا لعدم تعلقها بالترجمة ولكونها موقوفة، وأما أول الحديث فهو وإن كان موقوفا من حديث ابن عباس إلا أن الغرض منه حاصل بالنسب لنقل ابن عباس ما كان في الجاهلية مما رآه النبي صلى الله عليه وسلم فأقره أو أزاله، فمهما لم ينكره واستمرت مشروعيته فيكون له حكم المرفوع، ومهما أنكره فالشرع بخلافه.الحديث الثامن عشر
(7/159)
قوله: "حدثنا نعيم بن حماد" في رواية بعضهم حدثنا نعيم غير منسوب، وهو المروزي نزيل مصر، وقل أن يخرج له البخاري موصولا بل عادته أن يذكر عنه بصيغة التعليق. ووقع في رواية القابسي "حدثنا أبو نعيم" وصوبه بعضهم وهو غلط. قوله: "عن حصين" في رواية البخاري في"التاريخ" في هذا الحديث: "حدثنا حصين" فأمن بذلك ما يخشى من تدليس هشيم الراوي عنه، وقرن فيه أيضا مع حصين أبا المليح. قوله: "رأيت في الجاهلية قردة" بكسر القاف وسكون الراء واحدة القرود، وقوله: "اجتمع عليها قردة" بفتح الراء جمع قرد، وقد ساق الإسماعيلي هذه القصة من وجه آخر مطولة من طريق عيسى بن حطان عن عمرو بن ميمون قال: "كنت في اليمن في غنم لأهلي وأنا على شرف، فجاء قرد من قردة فتوسد يدها، فجاء قرد أصغر منه فغمزها، فسلت يدها من تحت رأس القرد الأول سلا رفيقا وتبعته، فوقع عليها وأنا أنظر، ثم رجعت فجعلت تدخل يدها تحت خد الأول برفق، فاستيقظ فزعا، فشمها فصاح، فاجتمعت القرود، فجعل يصيح ويومئ إليها بيده، فذهب القرود يمنة ويسرة، فجاءوا بذلك القرد أعرفه، فحفروا لهما حفرة فرجموهما، فلقد رأيت الرجم في غير بني آدم" قال ابن التين: لعل هؤلاء كانوا من نسل الذين مسخوا فبقي فيهم ذلك الحكم. ثم قال: أن الممسوخ لا ينسل قلت: وهذا هو المعتمد، لما ثبت في صحيح مسلم: "أن الممسوخ لا نسل له" وعنده من حديث ابن مسعود مرفوعا: "إن الله لم يهلك قوما فيجعل لهم نسلا" وقد ذهب أبو إسحاق الزجاج وأبو بكر بن العربي إلى أن الموجود من القردة من نسل الممسوخ، وهو مذهب شاذ اعتمد من ذهب إليه ما ثبت أيضا في صحيح مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بالضب قال: لعله من القرون التي مسخت " وقال في الفأر" فقدت أمة من بني إسرائيل لا أراها إلا الفأر " وأجاب الجمهور عن ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يوحى إليه بحقيقة الأمر في ذلك، ولذلك لم يأت الجزم عنه بشيء من ذلك، بخلاف النفي فإنه جزم به كما في حديث ابن مسعود، ولكن لا يلزم أن تكون القرود المذكورة من النسل، فيحتمل أن يكون الذين مسخوا لما صاروا على هيئة القردة مع بقاء أفهامهم عاشرتهم القردة الأصلية للمشابهة في الشكل فتلقوا عنهم بعض ما شاهدوه من أفعالهم فحفظوها وصارت فيهم، واختص القرد بذلك لما فيه من الفطنة الزائدة على غيره من الحيوان وقابلية التعليم لكل صناعة مما ليس لأكثر الحيوان، ومن خصاله أنه يضحك ويطرب ويحكي ما يراه، وفيه من شدة الغيرة ما يوازي الآدمي ولا يتعدى أحدهم إلى غير زوجته، فلا يدع في الغالب أن يحملها ما ركب فيها من غيرة على عقوبة من اعتدى إلى ما لم يختص به من الأنثى، ومن خصائصه أن الأنثى تحمل أولادها كهيئة الآدمية، وربما مشى القرد على رجليه لكن لا يستمر على ذلك، ويتناول الشيء بيده ويأكل بيده، وله أصابع مفصلة إلى أنامل وأظفار، ولشفر عينيه أهداب. وقد استنكر ابن عبد البر قصة عمرو بن ميمون هذه وقال: فيها إضافة الزنا إلى غير مكلف وإقامة الحد على البهائم وهذا منكر عند أهل العلم، قال: فإن كانت الطريق صحيحة فلعل هؤلاء كانوا من الجن لأنهم من جملة المكلفين، وإنما قال ذلك لأنه تكلم على الطريق التي أخرجها الإسماعيلي حسب، وأجيب بأنه لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم أن يكون ذلك زنا حقيقة ولا حدا، وإنما أطلق ذلك عليه لشبهه به، فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان. وأغرب الحميدي في الجمع بين الصحيحين فزعم أن هذا الحديث وقع في بعض نسخ البخاري، وأن أبا مسعود وحده ذكره في "الأطراف" قال: وليس في نسخ البخاري أصلا فلعله من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري. وما قاله مردود، فإن الحديث المذكور في معظم الأصول التي وقفنا عليها،
(7/160)
وكفى بإيراد أبي ذر الحافظ له عن شيوخه
الثلاثة الأئمة المتقنين عن الفربري حجة، وكذا إيراد الإسماعيلي وأبي نعيم في
مستخرجيهما وأبي مسعود له في أطرافه، نعم سقط من رواية النسفي وكذا الحديث الذي
بعده، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون في رواية الفربري، فإن روايته تزيد على رواية
النسفي عدة أحاديث قد نبهت على كثير منها فيما مضى وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى،
وأما تجويزه أن يزاد في صحيح البخاري ما ليس منه فهذا ينافي ما عليه العلماء من
الحكم بتصحيح جميع ما أورده البخاري في كتابه، ومن اتفاقهم على أنه مقطوع بنسبته
إليه، وهذا الذي قاله تخيل فاسد يتطرق منه عدم الوثوق بجميع ما في الصحيح، لأنه
إذا جاز في واحد لا بعينه جاز في كل فرد فرد، فلا يبقى لأحد الوثوق بما في الكتاب
المذكور، واتفاق العلماء ينافي ذلك، والطريق التي أخرجها البخاري دافعة لتضعيف ابن
عبد البر للطريق التي أخرجها الإسماعيلي، وقد أطنبت في هذا الموضع لئلا يغتر ضعيف
بكلام الحميدي فيعتمده، وهو ظاهر الفساد، وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في
"كتاب الخيل" له من طريق الأوزاعي أن مهرا أنزي على أمه فامتنع، فأدخلت
في بيت وجللت بكساء وأنزي عليها فنزى، فلما شم ريح أمه عمد إلى ذكره فقطعه بأسنانه
من أصله، فإذا كان هذا الفهم في الخيل مع كونها أبعد في الفطنة من القرد فجوازها
في القرد أولى. قوله: "عن عبيد الله" بالتصغير وهو ابن أبي يزيد المكي.
قوله: "عن ابن عباس"1 في نسخة أنس وهو غلط. قوله: "خلال من خلال
الجاهلية" أي من خصال. قوله: "الطعن في الأنساب" أي القدح من بعض
الناس في نسب بعض بغير علم. قوله: "والنياحة" أي على الميت، وقد تقدم
ذكر حكمها في كتاب الجنائز في" باب ما يكره من النياحة على الميت" وقد
تقدم هناك الكلام على حديث أنس" ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى
الجاهلية". قوله: "ونسي الثالثة" وقع في رواية ابن أبي عمر عن
سفيان" ونسي عبيد الله الثالثة" فعين الناسي أخرجه الإسماعيلي. قوله:
"ويقولون إنها الاستسقاء بالأنواء" أي يقولون: مطرنا بنوء كذا، وقد تقدم
شرح ذلك في كتاب الاستسقاء، ووقع عند أبي نعيم من رواية شريح بن يونس عن سفيان
مدرجا ولفظه: "والأنواء" ولم يقل" ونسي إلخ" ومن رواية عبد
الجبار بن العلاء عن سفيان بدل قوله: ونسي الثالثة" والتفاخر بالأحساب"
وهو وهم منهما، لما بينته رواية ابن أبي عمر، وعلي شيخ البخاري فيه هو ابن
المديني، وقد جاء من حديث أنس ذكر هذه الثلاثة، وهي الطعن والنياحة والاستسقاء
أخرجه أبو يعلى بإسناد قوي، وجاء عن ابن عباس من وجه آخر ذكر فيه الخصال الأربع
أخرجه ابن عدي من طريق عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عنه، والمحفوظ في
هذا ما أخرجه مسلم وابن حبان وغيرهما من طريق أبان بن يزيد وغيره عن يحيى بن أبي كثير
عن زيد بن سلام عن أبي سلام عن أبي مالك الأشعري مرفوعا بلفظ: "أربع في أمتي
من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء
بالأنواء؛ والنياحة".
"خاتمة": اشتملت أحاديث المناقب وما اتصل بها من ذكر بعض ما وقع قبل
البعث من الأحاديث المرفوعة على مائتي حديث وثلاثة وثلاثين حديثا، المعلق منها
ثلاثة وثلاثون طريقا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى
ـــــــ
1 الذي في نسخ الصحيح سمع بن عباس
(7/161)
مائة وثمانية وثلاثون حديثا والخالص خمسة وتسعون حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عائشة" كان أبو بكر في الغار" وحديث ابن عباس فيه، وحديث أبي سعيد فيه، وحديث ابن عمر "كنا نخير" وحديث ابن الزبير "لو كنت متخذا خليلا" وحديث ابن عمار "وما معه إلا خمسة" وحديث أبي الدرداء" قد غامر"، وحديث عائشة في طرف من حديث السقيفة، وحديث علي "خير الناس"، وحديث عبد الله بن عمرو "أشد ما صنع المشركون"، وحديث ابن مسعود "ما زلنا أعزة" وحديث ابن عمر في شأن عمر، وحديث عبد الله بن هشام فيه، وحديث عثمان "ما بايعت"، وحديث علي "اقضوا كما كنتم تقضون"، وحديث أبي هريرة في جعفر، وحديث ابن عمر فيه، وحديث أبي بكر "ارقبوا" وحديثه "لقرابة رسول الله أحب إلي"، وحديث عثمان في الزبير، وحديث ابن عباس فيه، وحديث الزبير في اليرموك، وحديث طلحة وسعد، وحديث مس يد طلحة، وحديث سعد في إسلامه، وحديث ابن عمر في ابن أسامة، وحديث أسامة"إني أحبهما"، وحديث أنس في الحسين، وحديثه في الحسن، وحديث ابن عمر فيهما، وحديث عمر في بلال، وحديث حذيفة في ابن مسعود، وحديث معاوية في الوتر، وحديث ابن عباس في عائشة، وحديث عمار فيها، وحديث أنس في الأنصار، وحديث زيد بن أرقم فيهم، وحديث سعد في عبد الله بن سلام، وحديث ابن سلام مع أبي بردة، وحديث ابن عمر، وحديث ابن عمر في زيد بن عمرو، وحديث أسماء فيه، وحديث ابن الزبير في بناء المسجد الحرام، وحديث جد سعيد بن المسيب، وحديث أبي بكر مع امرأة من أحمس، وحديث عائشة في القيام للجنازة، وحديث ابن عباس في كأسا دهاقا، وحديث أبي بكر مع الذي تكهن، وحديث ابن عباس في القسامة، وحديثه في السعي، وحديثه في الحطيم، وحديث عمرو بن ميمون في القردة، وحديث ابن عباس" ثلاث من خلال الجاهلية" فجملة ذلك اثنان وخمسون حديثا ما بين معلق وموصول، فوافقه منها على ثلاثة وأربعين حديثا فقط، والسبب في ذلك أن الكثير منها صورته أنه موقوف وإن كان قد يتمحل له حكم المرفوع، ومسلم في الغالب يحرص على تخريج الأحاديث الصريحة في الرفع. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة عشر أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(7/162)
28 - باب مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلاَبِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعبِ بْنِ لؤَيِّ بْنِ
غالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ
بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ
عَدْنَانَ
3851- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ
"أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
ابْنُ أَرْبَعِينَ فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ أُمِرَ
بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَكَثَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ
تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 3851- أطرافه في 4979,4465,3903,3902]
(7/162)
قوله: "باب مبعث النبي صلى الله
عليه وسلم" المبعث من البعث، وأصله الإثارة، ويطلق على التوجيه في أمر ما،
رسالة أو حاجة، ومنه: بعثت البعير إذا أثرته من مكانه، وبعثت العسكر إذا وجهتهم
للقتال، وبعثت النائم من نومه إذا أيقظته. قد تقدم في أول الكتاب في الكلام على
حديث عائشة كثير مما يتعلق بهذه الترجمة، وساق المصنف هنا النسب الشريف. قوله:
"محمد" ذكر البيهقي في "الدلائل" بإسناد مرسل" أن عبد
المطلب لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم عمل له مأدبة، فلما أكلوا سألوا ما
سميته؟ قال محمدا، قالوا فما رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله
في السماء وخلقه في الأرض". قوله: "ابن عبد الله" لم يختلف في
اسمه، واختلف متى مات؟ فقيل مات قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل بعد
أن ولد، والأول أثبت. واختلف في مقدار عمره صلى الله عليه وسلم لما مات أبوه،
والراجح أنه دون السنة. قوله: "ابن عبد المطلب" اسمه شيبة الحمد عند
الجمهور، وزعم ابن قتيبة أن اسمه عامر، وسمي عبد المطلب واشتهر بها لأن أباه لما
مات بغزة كان خرج إليها تاجرا فترك أم عبد المطلب بالمدينة، فأقامت عند أهلها من
الخزرج فكبر عبد المطلب، فجاء عمه المطلب فأخذه ودخل به مكة فرآه الناس مردفه
فقالوا: هذا عبد المطلب، فغلبت عليه في قصة طويلة ذكرها ابن إسحاق وغيره. قوله:
"ابن هاشم" اسمه عمرو، وقيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد لأهل الموسم
ولقومه أولا في سنة المجاعة، وفيه يقول الشاعر:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
قوله: "ابن عبد مناف" اسمه المغيرة، روى السراج في تاريخه من طريق أحمد
بن حنبل "سمعت الشافعي يقول: اسم عبد المطلب شيبة الحمد، واسم هاشم عمرو،
واسم عبد مناف المغيرة، واسم قصي زيد".
قوله: "ابن قصي" بصيغة التصغير، تلقب بذلك لأنه بعد عن ديار قومه في
بلاد قضاعة في قصة طويل ذكرها ابن إسحاق. قوله: "ابن كلاب" بكسر أوله
وتخفيف اللام، قال السهيلي: هو منقول من المصدر الذي في معنى المكالبة، تقول:
كالبت فلانا مكالبة وكلابا، أو هو بلفظ جمع كلب كما تسمت العرب بسباع وأنمار وغير
ذلك انتهى. وذكر ابن سعد أن اسمه المهذب، وزعم محمد بن سعد أن اسمه حكيم، وقيل
عروة وأنه لقب كلابا لمحبته كلاب الصيد وكان يجمعها فمن مرت به فسأل عنها قيل له
هذه كلاب ابن مرة فلقب كلابا. قوله: "ابن مرة" قال السهيلي: منقول من
وصف الحنظلة، أو الهاء للمبالغة والمراد أنه قوي. قوله: "ابن كعب" قال
السهيلي: قيل بذلك لستره على قومه ولين جانبه لهم، منقول من كعب القدم. وقال ابن
دريد: من كعب القناة، وكذا قال غيره سمي بذلك لارتفاعه على قومه وشرفه فيهم فلذلك
كانوا يخضعون له حتى أرخوا بموته، وهو أول من جمع قومه يوم الجمعة، وكانوا يسمونه
يوم العروبة حتى جاء الإسلام. قوله: "ابن لؤي" قال ابن الأنباري: هو
تصغير لأي بوزن عصا، واللأي هو الثور. وقال السهيلي: هو عندي لأي بوزن عبد وهو
البطء، ويؤيده قول الشاعر:
فدونكم بني لأي أخاكم ... ودونك مالكا يا أم عمر
انتهى. وهذا قد ذكره ابن الأنباري أيضا احتمالا. وقد قال الأصمعي: هو تصغير لواء
الجيش زيدت فيه همزة. قوله: "ابن غالب" لا إشكال فيه كما لا إشكال في
مالك والنضر. قوله: "ابن فهر" قيل هو قريش، نقل الزبير عن الزهري أن أمه
سمته به، وسماه أبوه فهرا، وقيل فهر لقبه، وقيل بالعكس، والفهر الحجر الصغير.
قوله: "ابن
(7/163)
كنانة" هو بلفظ وعاء السهام إذا كانت من جلود قاله ابن دريد، عن أبي عامر العدواني أنه قال: رأيت كنانة بن خزيمة شيخا مسنا عظيم القدر تحج إليه العرب لعلمه وفضله بينهم. قوله: "ابن خزيمة" تصغير خزمة بمعجمتين مفتوحتين وهي مرة واحدة من الخزم وهو شد الشيء وإصلاحه. وقال الزجاجي: يجوز أن يكون من الجزم بفتح ثم سكون تقول خزمته فهو مخزوم إذا أدخلت في أنفه الخزام. قوله: "ابن مدركة" اسمه عمرو عند الجمهور. وقال ابن إسحاق: عامر. قوله: "ابن إلياس" بكسر الهمزة عند ابن الأنباري، قال وهو إفعال من قولهم أليس الشجاع الذي لا يفر، قال الشاعر أليس كالنشوان وهو صاحي وقال غيره: هو بهمزة وصل وهو ضد الرجاء واللام فيه للمح الصفة، قاله قاسم بن ثابت وأنشد قول قصي: أمهتي خندف واليأس أبي قوله: "ابن مضر" قيل سمي بذلك لأنه كان يحب شرب اللبن الماضر وهو الحامض، وقيل سمي بذلك لبياضه، وقيل لأنه كان يمضر القلوب لحسنه وجماله. قوله: "ابن نزار" هو من النزر أي القليل، قال أبو الفرج الأصبهاني: سمي بذلك لأنه كان فريد عصره. قوله: "ابن معد" بفتح الميم والمهملة وتشديد الدال، قال ابن الأنباري: يحتمل أن يكون مفعلا من العد، أو هو من معد في الأرض إذا أفسد، قال الشاعر: وخاربين خربا فمعدا وقيل غير ذلك. قوله: "ابن عدنان" بوزن فعلان من العدن تقول عدن أقام، وقد روى أبو جعفر بن حبيب في تاريخه" المحبر" من حديث ابن عباس قال: "كان عدنان ومعد وربيعة ومضر وخزيمة وأسد على ملة إبراهيم، فلا تذكروهم إلا بخير" وروى الزبير بن بكار من وجه آخر مرفوعا: "لا تسبوا مضر ولا ربيعة فأنهما كانا مسلمين" وله شاهد عند ابن حبيب من مرسل سعيد بن المسيب. "تنبيه": اقتصر البخاري من النسب الشريف على عدنان، وقد أخرج في التاريخ عن عبيد بن يعيش عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق مثل هذا النسب، وزاد بعد عدنان" ابن أدد بن المقوم بن تارح بن يشجب بن يعرب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم" وقد قدمت في أول الترجمة النبوية الاختلاف فيمن بين عدنان وإبراهيم وفيمن بين إبراهيم وآدم بما يغني عن الإعادة. وأخرج ابن سعد من حديث ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معد بن عدنان". قوله: "حدثنا النضر" هر ابن شميل. قوله: "عن هشام" هو ابن حسان. قوله: "عن عكرمة" في رواية روح عن هشام الآتية في الهجرة "حدثنا عكرمة". قوله: "أنزله على رسوله الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين" هذا هو المقصود من هذا الحديث في هذا الباب، وهو متفق عليه، وقد مضى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم حديث أنس" أنه صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين" وتقدم في بدء الوحي أنه أنزل عليه في شهر رمضان، فعلى الصحيح المشهور أن مولده في شهر ربيع الأول يكون حين أنزل عليه ابن أربعين سنة وستة أشهر، وكلام ابن الكلبي يؤذن بأنه ولد في رمضان فإنه قال: مات وله اثنتان وستون سنة ونصف سنة، وقد أجمعوا على أنه مات في ربيع الأول فيستلزم ذلك أن يكون ولد في رمضان، وبه جزم الزبير بن بكار وهو شاذ، وفي مولده أقوال أخرى أشد شذوذا من هذا. قوله: "بمكة ثلاث عشرة سنة" هذا أصح مما رواه مسلم من طريق عمار بن أبي عمار عن ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة خمس عشرة سنة" وسيأتي البحث في ذلك في أبواب الهجرة إن شاء الله تعالى.
(7/164)
باب مالقى النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه من المشركين بمكه
...
29 - باب مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ
مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمكَّةَ
3852- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا بَيَانٌ
وَإِسْمَاعِيلُ قَالاَ سَمِعْنَا قَيْسًا يَقُولُ سَمِعْتُ خَبَّابًا يَقُولُ
(7/164)
"أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ
الْكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ
"لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ
عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُوضَعُ
الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ
ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ
الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إلاَّ اللَّهَ"
زَادَ بَيَانٌ "وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ"
3854- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
"قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجْمَ فَسَجَدَ
فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلاَّ سَجَدَ إِلاَّ رَجُلٌ رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ
حَصًا فَرَفَعَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ وَقَالَ هَذَا يَكْفِينِي فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ
بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا بِاللَّهِ"
3854- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي
مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا
السَّلاَم فَأَخَذَتْهُ مِنْ ظَهْرِهِ وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ فَقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلاَ مِنْ قُرَيْشٍ أَبَا جَهْلِ
بْنَ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ
بْنَ خَلَفٍ أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ شُعْبَةُ الشَّاكُّ فَرَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا
يَوْمَ بَدْرٍ فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ غَيْرَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أَوْ أُبَيٍّ
تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ فَلَمْ يُلْقَ فِي الْبِئْرِ"
3855- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ
مَنْصُورٍ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى قَالَ
سَلْ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا أَمْرُهُمَا [الأنعام
151,الإسراء 33]: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [93
النساء]: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ
فَقَالَ لَمَّا أُنْزِلَتْ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ قَالَ مُشْرِكُو أَهْلِ
مَكَّةَ فَقَدْ قَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَدَعَوْنَا مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَقَدْ أَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ [الفرقان
70] {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} الْآيَةَ فَهَذِهِ لِأُولَئِكَ وَأَمَّا الَّتِي
فِي النِّسَاءِ[93] الرَّجُلُ إِذَا عَرَفَ الإِسْلاَمَ وَشَرَائِعَهُ ثُمَّ
قَتَلَ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ فَذَكَرْتُهُ لِمُجَاهِدٍ فَقَالَ إِلاَّ مَنْ
نَدِمَ"
[الحديث 3855- أطرافه في: 4766,4765,4764,4763,4762,4590]
3856- حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ
حَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ
سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ
(7/165)
صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ
عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا
شَدِيدًا فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ
يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} الْآيَةَ [28 غافر] تَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو وَقَالَ عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قِيلَ لِعَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَنِي عَمْرُو
بْنُ الْعَاصِ"
قوله: "باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة"
أي من وجه الأذى، وذكر فيه أحاديث في المعنى، وقد تقدم في "ذكر
الملائكة" من بدء الخلق حديث عائشة أنها" قالت للنبي صلى الله عليه وسلم
هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت:
منهم " فذكر قصته بالطائف. وروى أحمد والترمذي وابن حبان من طريق حماد بن
سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أوذيت في
الله وما يؤذي أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد" الحديث. وأخرج ابن عدي من
حديث جابر رفعه: "ما أوذي أحد ما أوذيت" ذكره في ترجمة يوسف بن محمد بن
المنكدر عن أبيه عن جابر، ويوسف ضعيف، وقد استشكل بما جاء من صفات ما أوذي به
الصحابة كما سيأتي لو ثبت، وهو محمول على معنى حديث أنس، وقيل معناه أنه أوحي إليه
ما أوذي به من قبله فتأذى بذلك زيادة على ما آذاه قومه به، وروى ابن إسحاق من حديث
ابن عباس وذكر الصحابة فقال: "والله كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه
حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون
الله، فيقول: نعم" وروى ابن ماجه وابن حبان من طريق زر بن مسعود قال أول من
أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية،
وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما
أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد
وأوقفوهم في الشمس" الحديث. وأجيب بأن جميع ما أوذي به أصحابه كان يتأذى هو
به لكونه بسببه. واستشكل أيضا بما أوذي به الأنبياء من القتل كما في قصة زكريا
وولده يحيى. ويجاب بأن المراد هنا غر إزهاق الروح. قوله: "حدثنا بيان"
هو ابن بشر، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وخباب بالمعجمة
والموحدتين الأولى ثقيلة. قوله: "بردة" كذا للأكثر بالتنوين، وللكشميهني
بالهاء والأول أرجح فقد تقدم في" علامات النبوة" من وجه آخر بلفظ: "بردة
له". قوله: "ألا تدعو الله لنا" زاد في الرواية التي في المبعث
"ألا تستنصر لنا". قوله: "فقعد وهو محمر وجهه" أي من أثر
النوم، ويحتمل أن يكون من الغضب وبه جزم ابن التين. قوله: "لقد كان من قبلكم
ليمشط بمشاط الحديد" كذا للأكثر بكسر الميم، وللكشميهني: "أمشاط"
هو جمع مشط بكسر الميم وبضمها، يقال مشاط وأمشاط كرماح وأرماح، وأنكر ابن دريد
الكسر في المفرد، والأشهر في الجمع مشاط ورماح. قوله: "ما دون عظامه من لحم
أو عصب" في الرواية الماضية ما دون لحمه من عظم أو عصب. قوله: "ويوضع
الميشار" بكسر الميم وسكون التحتانية بهمز وبغير همز، تقول وشرت الخشبة
وأشرتها، ويقال فيه بالنون وهي أشهر في الاستعمال
(7/166)
ووقع في الرواية الماضية" يحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار" قال ابن التين: كان هؤلاء الذين فعل بهم ذلك أنبياء أو أتباعهم، قال: وكان في الصحابة من لو فعل به ذلك لصبر، إلى أن قال: وما زال خلق من الصحابة وأتباعهم فمن بعدهم يؤذون في الله، ولو أخذوا بالرخصة لساغ لهم. قوله: "وليتمن الله هذا الأمر" بالنصب، وفي الرواية الماضية "والله ليتمن هذا الأمر" بالرفع، والمراد بالأمر الإسلام. قوله: "زاد بيان: والذئب على غنمه" هذا يشعر بأن في الرواية الماضية إدراجا، فإنه أخرجها من طريق يحيى القطان عن إسماعيل وحده وقال في آخرها "ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه"، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن الصباح بن أسلم وعبدة بن عبد الرحيم كلهم عن ابن عيينة به مدرجا، وطريق الحميدي أصح، وقد وافقه ابن أبي عمر أخرجه الإسماعيلي من طريقه مفصلا أيضا. "تنبيه": قوله: "والذئب" هو بالنصب عطفا على المستثنى منه لا المستثنى، كذا جزم به الكرماني، ولا يمتنع أن يكون عطفا على المستثنى، والتقدير: ولا يخاف إلا الذئب على غنمه، لأن مساق الحديث إنما هو للأمن من عدوان بعض الناس على بعض كما كانوا في الجاهلية، لا للأمن من عدوان الذئب فإن ذلك إنما يكون في آخر الزمان عند نزول عيسى. حديث ابن مسعود قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم فسجد" سبق الكلام عليه في سجود القرآن من كتاب الصلاة، ويأتي بقيته في تفسير سورة النجم، وقد تقدم هناك تسمية الذي لم يسجد، وزعم الواقدي أن ذلك كان في رمضان سنة خمس من المبعث. "تنبيه": كان حق هذا الحديث أن يذكر في "باب الهجرة إلى الحبشة" المذكور بعد قليل فسيأتي فيها أن سجود المشركين المذكور فيه سبب رجوع من هاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة لظنهم أن المشركين كلهم أسلموا، فلما ظهر لهم خلاف ذلك هاجروا الهجرة الثانية. حديث ابن مسعود في قصة عقبة بن أبي معيط وإلقائه سلا الجزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، وقد سبق الكلام عليه مستوفى في أواخر كتاب الوضوء. "تنبيه": كانت هذه القصة بعد الهجرة الثانية إلى الحبشة، لأن من جملة من دعى عليه عمارة بن الوليد أخو أبي جهل، وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن قريشا بعثوه مع عمرو بن العاص إلى النجاشي ليرد إليهم من هاجر إليه فلم يفعل، واستمر عمارة بالحبشة إلى أن مات. "تنبيه آخر": أغرب الشيخ عماد الدين بن كثير فزعم أن الحديث الوارد عن خباب عند مسلم وأصحاب السنن" شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا" طرف من حديث الباب، وأن المراد أنهم شكوا ما يلقونه من المشركين من تعذيبهم بحر الرمضاء وغيره، فسألوه أن يدعو على المشركين فلم يشكهم، أي لم يزل شكواهم، وعدل إلى تسليتهم بمن مضى ممن قبلهم، ولكن وعدهم بالنصر انتهى. ويبعد هذا الحمل أن في بعض طرق حديث مسلم عند ابن ماجه: "الصلاة في الرمضاء" وعند أحمد "يعني الظهر وقال: إذا زالت الشمس فصلوا" وبهذا تمسك من قال إنه ورد في تعجيل الظهر، وذلك قبل مشروعية الإيراد، وهو المعتمد، والله أعلم. "تنبيه آخر": عبد الله المذكور هو ابن مسعود جزما، وذكر ابن التين أن الداودي قال: الظاهر أنه عبد الله بن مسعود لأنهم في الأكثر إنما يطلقون عبد الله غير منسوب عليه. قلت: وليس ذلك مطردا، وإنما يعرف ذلك من جهة الرواة، وبسط ذلك مقرر في علوم الحديث، وقد صنف فيه الخطيب كتابا حافلا سماه "المجمل لبيان المهمل" ووقع في شرح شيخنا ابن الملقن أن الداودي قال: لعله عبد الله بن عمرو لا ابن عمر، ثم تعقبه بأن البخاري صرح في كتاب الصلاة بأنه ابن مسعود،
(7/167)
قلت: ولم أر ما نسبه إلى الداودي في
كلام غيره فالله أعلم. حديث ابن عباس في توبة القاتل، وسيأتي شرحه في تفسير سورة
النساء إن شاء الله تعالى، والغرض منه الإشارة إلى أن صنع المشركين بالمسلمين من
قتل وتعذيب وغير ذلك سقط عنهم بالإسلام. "تنبيه": قوله هنا" ولا
تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" كذا وقع في الرواية، والذي في التلاوة
{وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} هكذا في
سورة الفرقان [68] وهي التي ذكرت في بقية الحديث، فتعين أنها المراد في أوله،
ويمكن الجواب عن ذلك والله أعلم. حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأبيه عمرو بن
العاص على الاختلاف في ذلك. قوله: "حدثنا عياش ابن الوليد حدثنا الوليد بن
مسلم" عياش شيخه بالتحتانية والمعجمة هو الرقام، وله شيخ آخر لا ينسبه في
غالب ما يخرج عنه، قال الجياني: وقع هنا عند الأصيلي غير مقيد، وزعم بعضهم أنه
العباس بن الوليد بن مربد وهو بالموحدة والمهملة، ثم نقل عن أبي زفر1 أن البخاري
ومسلما ما أخرجا لابن مربد شيئا، قال: ولا أعلم له رواية عن الوليد بن مسلم. قوله:
"حدثني يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم" في رواية علي بن المديني
الآتية في تفسير غافر" حدثني محمد بن إبراهيم". قوله: "حدثني
عروة" كذا قال الوليد بن مسلم، وخالفه أيوب بن خالد الحراني فقال: "عن
الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة قال: قلت لعبد الله بن عمرو"
أخرجه الإسماعيلي، وقول الوليد أرجح. قوله: "سألت ابن عمرو" في رواية
علي المذكورة"قلت لعبد الله بن عمرو". قوله: "بأشد شيء صنعه
إلخ" هذا الذي أجاب به عبد الله بن عمرو ويخالف ما تقدم في "ذكر
الملائكة" من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال لها " وكان أشد ما
لقيت من قومك" فذكر قصته بالطائف مع ثقيف. والجمع بينهما أن عبد الله بن عمرو
استند إلى ما رواه، ولم يكن حاضرا للقصة التي وقعت بالطائف. وقد روى الزبير بن
بكار والدار قطني في "الأفراد" من طريق عبد الله بن عروة عن عروة"
حدثني عمرو بن عثمان عن أبيه عثمان قال: أكثر ما نالت قريش من رسول الله صلى الله
عليه وسلم أني رأيته يوما، قال: وذرفت عينا عثمان فذكر قصة يخالف سياقها حديث عبد
الله بن عمرو هذا، فهذا الاختلاف ثابت على عروة في السند، لكن سنده ضعيف، فإن كان
محفوظا حمل على التعدد، وليس ببعيد لما سأبينه. قوله: "يصلي في حجر الكعبة إذ
أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه" في حديث عثمان المذكور
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر، وفي
الحجر عقبة بن أبي معيط وأبو جهل وأمية بن خلف فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأسمعوه بعض ما يكره ثلاث مرات، فلما كان في الشوط الرابع ناهضوه، وأراد أبو جهل
أن يأخذ بمجامع ثوبه فدفعته، ودفع أبو بكر أمية بن خلف، ودفع رسول الله صلى الله
عليه وسلم عقبة" فهذا السياق مغاير لحديث عبد الله بن عمرو، وفي حديث عبد
الله قول أبي بكر" أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟" وفي حديث عثمان أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم " أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم العقاب
عاجلا، فأخذتهم الرعدة" الحديث، وهذا يقوي التعدد. قوله: "تابعه ابن
إسحاق" قال: "حدثني يحيى بن عروة إلخ" وصله أحمد من طريق إبراهيم
بن سعد والبزار من طريق بكر بن سليمان كلاهما عن ابن إسحاق بهذا السند، وفي أول
سياقه من الزيادة قال: "حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحجر فذكروا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل صبرنا عليه، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا،
وغير
ـــــــ
1 في هامش طبعة بولاق: في نسخة "عن أبي ذر"
(7/168)
ديننا، وفرق جماعتنا. فبينما هم في ذلك إذ أقبل، فاستلم الركن، فلما مر بهم غمزوه، وذكر أنه قال لهم في الثالثة" لقد جئتكم بالذبح" وأنهم قالوا له" يا أبا القاسم ما كنت جاهلا، فانصرف راشدا، فانصرف. فلما كان من الغد اجتمعوا فقالوا: ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك إذ طلع فقالوا: قوموا إليه وثبة رجل واحد، قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ثيابه، وقام أبو بكر دونه وهو يبكي فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه". قوله: "وقال عبدة عن هشام" أي ابن عروة "عن أبيه قيل لعمرو بن العاص" هكذا خالف هشام بن عروة أخاه يحيى بن عروة في الصحابي، فقال يحيى: "عبد الله بن عمرو" وقال هشام: "عمرو بن العاص" ويرجح رواية يحيى موافقة محمد بن إبراهيم التيمي عن عروة، على أن قول هشام غير مدفوع، لأن له أصلا من حديث عمرو بن العاص، بدليل رواية أبي سلمة عن عمرو الآتية عقب هذا، فيحتمل أن يكون عروة سأله مرة وسأل أباه أخرى، ويؤيده اختلاف السياقين، وقد ذكرت أن عبد الله بن عروة رواه عن أبيه بإسناد آخر عن عثمان فلا مانع من التعدد، نعم لم تتفق الرواة عن هشام على قوله: "عمرو بن العاص" فإن سليمان بن بلال وافق عبدة على ذلك، وخالفهما محمد بن فليح فقال: "عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو" ذكره البيهقي. قوله: "وقال محمد بن عمرو عن أبي سلمة: حدثني عمرو بن العاص" وصله البخاري في "خلق أفعال العباد" من طريقه، وأخرجه أبو يعلى وابن حبان عنه من وجه آخر عن محمد بن عمرو ولفظه: "ما رأيت قريشا أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يوما أغروا به وهم في ظل الكعبة جلوس وهو يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه لركبتيه وتصايح الناس، وأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فلما قضى صلاته مر بهم فقال: والذي بيده ما أرسلت إليكم إلا بالذبح، فقال له أبو جهل: يا محمد ما كنت جهولا، فقال: أنت منهم". ويدل على التعدد أيضا ما أخرجه البيهقي في "الدلائل" من حديث ابن عباس عن فاطمة عليها السلام قالت: "اجتمع المشركون في الحجر فقالوا: إذا مر محمد ضربه كل رجل منا ضربة، فسمعت ذلك فأخبرته فقال: اسكتي يا بنية. ثم خرج فدخل عليهم، فرفعوا رءوسهم ثم نكسوا، قالت فأخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم ثم قال: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلا منهم إلا قتل يوم بدر كافرا" وقد أخرج أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح عن أنس قال: "لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حتى غشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ فتركوه وأقبلوا على أبي بكر" وهذا من مراسيل الصحابة، وقد أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن مطولا من حديث أسماء بنت أبي بكر أنهم" قالوا لها ما أشد ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "؟ فذكر نحو سياق ابن إسحاق المتقدم قريبا وفيه: "فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحك، فخرج من عندنا وله غدائر أربع وهو يقول: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ فلهوا عنه، وأقبلوا إلى أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا رجع معه". ولقصة أبي بكر هذه شاهد من حديث علي أخرجه البزار من رواية محمد بن علي عن أبيه أنه خطب فقال: "من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت قال: أما أني ما بارزني أحد إلا أنصفت منه، ولكنه أبو بكر، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلقاه ويقولون له أنت تجعل الآلهة إلها واحدا، فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويدفع هذا ويقول: ويلكم أتقتلون
(7/169)
رجلا أن يقول ربي الله؟، ثم بكى علي ثم قال. أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال علي: والله لساعة من أبي بكر خير منه، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا يعلن بإيمانه".
(7/170)
30 - باب إِسْلاَمُ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3857- حدثني عبد الله بن حماد الآملي قال حدثني يحيى بن معين حدثنا اسماعيل بن
مجالد عن بيان بن وبرة عن همام بن الحارث قال"قال عمار بن ياسر: رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ومامعه إلآ خمسة أعبد وامرأتان وأبوبكر"
قوله: "باب إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه" ذكر فيه حديث عمار، وقد
تقدم شرحه في" مناقب أبي بكر رضي الله عنه" وعبد الله شيخه قال ابن
السكن في روايته: "حدثني عبد الله بن محمد" فتوهم أبو علي الجياني أنه
أراد المسندي فقال: لم يصنع شيئا. قلت: وفي كلامه نظر، فقد وقع في تفسير التوبة
"حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا يحيى بن معين" لكن عمدة الجياني هنا أن
أبا نصر الكلاباذي جزم بأن عبد الله هنا هو ابن حماد الآملي، وكذا وقع في رواية أبي
ذر الهروي منسوبا، وهو عبد الله بن حماد، وهو من أقران البخاري، بل هو أصغر منه،
فلقد لقي البخاري يحيى بن معين وهو أقدم من ابن معين، وبيان هو ابن بشر، ووبرة
بفتح الواو والموحدة واكتفى بهذا الحديث لأنه لم يجد شيئا على شرطه غيره، وفيه
دلالة على قدم إسلام أبي بكر إذ لم يذكر عمار أنه رأى مع النبي صلى الله عليه وسلم
من الرجال غيره، وقد اتفق الجمهور على أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال، وذكر ابن
إسحاق أنه كان يتحقق أنه سيبعث، لما كان يسمعه ويرى من أدلة ذلك، فلما دعاه بادر
إلى تصديقه من أول وهلة. "تنبيه": كان حق هذا الباب أن يكون متقدما جدا،
إما في "باب المبعث" أو عقبه لكن وجهه هنا ما وقع في حديث عمرو بن العاص
الذي قبله أنه قام بنصر النبي صلى الله عليه وسلم وتلا الآية المذكورة، فدل ذلك
على أن إسلامه متقدم على غيره، بحيث أن عمارا مع تقدم إسلامه لم ير مع النبي صلى
الله عليه وسلم غير أبي بكر وبلال، وعنى بذلك الرجال، وبلال إنما اشتراه أبو بكر
لينقذه من تعذيب المشركين لكونه أسلم.
(7/170)
31 - باب إِسْلاَمُ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3858- حدثني إسحاق أخبرني أبو سلمة حدثنا هاشم قال سمعت سعيد بن المسيب قال سمعت أبا
إسحاق سعد بن ابي وقاص يقول"ماأسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه, ولقد
مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام".
قوله: "باب إسلام سعد" ذكر فيه حديثه، وقد تقدم شرحه في مناقبه مستوفى،
ومناسبته لما قبله، واجتماعهما في أن كلا منهما يقتضي سبق من ذكر فيه إلى الإسلام
خاصة، لكنه محمول على ما أطلع عليه، وإلا فقد أسلم قبل إسلام بلال وسعد خديجة وسعد
بن حارثة وعلي بن أبي طالب وغيرهم.
(7/170)
32 - باب ذِكْرُ الْجِنِّ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ
الْجِنِّ}
3859- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ
حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ مَعْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي
قَالَ: "سَأَلْتُ مَسْرُوقًا مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ حَدَّثَنِي أَبُوكَ
يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ أَنَّهُ آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ".
3860- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَدِّي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
"أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِدَاوَةً لِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَتْبَعُهُ بِهَا فَقَالَ
مَنْ هَذَا فَقَالَ أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ ابْغِنِي أَحْجَارًا
أَسْتَنْفِضْ بِهَا وَلاَ تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثَةٍ فَأَتَيْتُهُ
بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا فِي طَرَفِ ثَوْبِي حَتَّى وَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ
ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مَشَيْتُ فَقُلْتُ مَا بَالُ الْعَظْمِ
وَالرَّوْثَةِ قَالَ هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ
نَصِيبِينَ وَنِعْمَ الْجِنُّ فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ
أَنْ لاَ يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلاَ بِرَوْثَةٍ إِلاَّ وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَمًا
".
قوله: "باب ذكر الجن" تقدم الكلام على الجن في أوائل بدء الخلق بما يغني
عن إعادته. قوله: "وقول الله عز وجل: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ
اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} الآية" يريد تفسير هذه الآية، وقد أنكر ابن
عباس أنهم اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الصلاة من طريق أبي يشر
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "ما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الجن
ولا رآهم" الحديث، وحديث أبي هريرة في هذا الباب وإن كان ظاهرا في اجتماع
النبي صلى الله عليه وسلم بالجن وحديثه معهم، لكنه ليس فيه أنه قرأ عليهم، ولا
أنهم الجن الذين استمعوا القرآن. لأن في حديث أبي هريرة أنه كان مع النبي صلى الله
عليه وسلم ليلتئذ، وأبو هريرة إنما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة
السابعة المدينة، وقصة استماع الجن للقرآن كان بمكة قبل الهجرة، وحديث ابن عباس
صريح في ذلك، فيجمع بين ما نفاه وما أثبته غيره بتعدد وفود الجن على النبي صلى
الله عليه وسلم، فأما ما وقع في مكة فكان لاستماع القرآن والرجوع إلى قومهم منذرين
كما وقع في القرآن، وأما في المدينة فللسؤال عن الأحكام، وذلك بين في الحديثين
المذكورين، ويحتمل أن يكون القدوم الثاني كان أيضا بمكة، وهو الذي يدل عليه حديث
ابن مسعود كما سنذكره، وأما حديث أبى هريرة فليس فيه تصريح بأن ذلك وقع بالمدينة،
ويحتمل تعدد القدوم بمكة مرتين وبالمدينة أيضا، قال البيهقي: حديث ابن عباس حكى ما
وقع في أول الأمر عندما علم الجن بحاله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الوقت لم يقرأ
عليهم ولم يرهم، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب منه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد
الله بن مسعود انتهى، وأشار بذلك إلى ما أخرجه أحمد والحاكم من طريق زر بن حبيش عن
عبد الله بن مسعود قال: "هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن
ببطن نخل، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، وكانوا سبعة أحدهم زوبعة". قلت: وهذا
يوافق حديث ابن عباس.وأخرج مسلم من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة قال:
"قلت لعبد الله بن مسعود: هل صحب أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة
الجن؟ قال: لا.
(7/171)
ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا: اغتيل، استطير. فبتنا شر ليلة. فلما كان عند السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فذكرنا له، فقال: أتاني داعي الجن، فأتيتهم فقرأت عليهم ، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم" وقول ابن مسعود في هذا الحديث إنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم أصح مما رواه الزهري" أخبرني أبو عثمان بن شيبة الخزاعي أنه سمع ابن مسعود يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو بمكة: من أحب منكم أن ينظر الليلة أثر الجن فليفعل ، قال: فلم يحضر منهم أحد غيري، فلما كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق، ثم قرأ القرآن، فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم انطلقوا وفرغ منهم مع الفجر فانطلق" الحديث، قال البيهقي: يحتمل أن يكون قوله في الصحيح "ما صحبه منا أحد" أراد به في حال إقرائه القرآن لكن قوله في الصحيح: إنهم فقدوه يدل على أنهم لم يعلموا بخروجه، إلا أن يحمل على أن الذي فقده غير الذي خرج معه، فالله أعلم. ولرواية الزهري متابع من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن ابن مسعود قال: "استتبعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن نفرا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتونني الليلة فأقرأ عليهم القرآن ، فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد، فخط لي خطا" فذكر الحديث نحوه أخرجه الدار قطني وابن مردويه وغيرهما. وأخرج ابن مردويه من طريق أبي الجوزاء عن ابن مسعود نحوه مختصرا، وذكر ابن إسحاق أن استماع الجن كان بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف لما خرج إليها يدعو ثقيفا إلى نصره، وذلك بعد موت أبي طالب، وكان ذلك في سنة عشر من المبعث، كما جزم ابن سعد بأن خروجه إلى الطائف كان في شوال، وسوق عكاظ التي أشار إليها ابن عباس كانت تقام في ذي القعدة. وقول ابن عباس في حديثه "وهو يصلي بأصحابه" لم يضبط ممن كان معه في تلك السفرة غير زيد بن حارثة، فلعل بعض الصحابة تلقاه لما رجع، والله أعلم. وقول من قال إن وفود الجن كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف ليس صريحا في أولية قدوم بعضهم. والذي يظهر من سياق الحديث الذي فيه المبالغة في رمي الشهب لحراسة السماء من استراق الجن السمع دال على أن ذلك كان قبل المبعث النبوي وإنزال الوحي إلى الأرض، فكشفوا ذلك إلى أن وقفوا على السبب، ولذلك لم يقيد الترجمة بقدوم ولا وفادة، ثم لما انتشرت الدعوة وأسلم من أسلم قدموا فسمعوا فأسلموا وكان ذلك بين الهجرتين، ثم تعدد مجيئهم حتى في المدينة. قوله: "حدثني عبيد الله بن سعيد" هو أبو قدامة السرخسي، وهو بالتصغير مشهور بكنيته، وفي طبقته عبد الله بن سعيد مكبر وهو أبو سعيد الأشج. قوله: "عن معن بن عبد الرحمن" أي ابن عبد الله بن مسعود، وهو كوفي ثقة ما له في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: "من آذن" بالمد أي أعلم. قوله: "أنه آذنت بهم شجرة" في رواية إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي أسامة بهذا الإسناد" آذنت بهم سمرة" بفتح المهملة وضم الميم. قوله: في حديث أبي هريرة "أخبرني جدي" هو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص. قوله: "ابغني" قال ابن التين: هو موصول من الثلاثي تقول: بغيت الشيء طلبته وأبغيتك الشيء أعنتك على طلبه. قوله: "أحجارا استنفض بها" تقدم شرح ذلك في كتاب الطهارة. قوله: "وإنه أتاني وفد جن نصيبين" يحتمل أن يكون خبرا عما وقع في تلك الليلة، ويحتمل أن يكون خبرا عما مضى قبل ذلك. ونصيبين بلدة مشهورة بالجزيرة. ووقع في كلام ابن التين أنها بالشام وفيه تجوز، فإن الجزيرة بين الشام والعراق، ويجوز صرف نصيبين وتركه. قوله: "فسألوني الزاد" أي مما يفضل عن الأنس، وقد يتعلق به من يقول إن الأشياء قبل الشرع على الحظر حتى ترد الإباحة، ويجاب عنه بمنع الدلالة على ذلك، بل لا حكم قبل الشرع على الصحيح. قوله:
(7/172)
"فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعما" في رواية السرخسي " إلا وجدوا عليها طعاما" قال ابن التين: يحتمل أن يجعل الله ذلك عليها، ويحتمل أن يذيقهم منها طعاما. الطعام فيه على طعام الدواب.
(7/173)
33 - باب إِسْلاَمُ أَبِي ذَرٍّ
الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3861- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِأَخِيهِ "ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي
فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ
الْخَبَرُ مِنْ السَّمَاءِ وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي"
فَانْطَلَقَ الأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي
ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ وَكَلاَمًا مَا
هُوَ بِالشِّعْرِ فَقَالَ مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ
شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يَعْرِفُهُ وَكَرِهَ أَنْ
يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ فَاضْطَجَعَ فَرَآهُ عَلِيٌّ
فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ
وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلاَ يَرَاهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَمْسَى فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ
فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ
فَأَقَامَهُ فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ لاَ يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ
شَيْءٍ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ فَعَادَ عَلِيٌّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ
فَأَقَامَ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ أَلاَ تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ قَالَ
إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنِّي فَعَلْتُ فَفَعَلَ
فَأَخْبَرَهُ قَالَ فَإِنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِي فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ
شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ فَإِنْ مَضَيْتُ
فَاتْبَعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي فَفَعَلَ فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى
دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ مَعَهُ
فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى
يَأْتِيَكَ أَمْرِي قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ
ظَهْرَانَيْهِمْ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ وَأَتَى الْعَبَّاسُ
فَأَكَبَّ عَلَيْهِ قَالَ وَيْلَكُمْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ
وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارِكُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ ثُمَّ عَادَ
مِنْ الْغَدِ لِمِثْلِهَا فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ فَأَكَبَّ الْعَبَّاسُ
عَلَيْهِ"
قوله: "باب إسلام أبي ذر الغفاري" هو جندب - وقيل بريد - ابن جنادة بضم
الجيم والنون الخفيفة ابن سفيان - وقيل سفير - ابن عبيد بن حرام بالمهملتين ابن
غفار، وغفار من بني كنانة. قوله: "حدثنا المثنى" هو ابن سعيد الضبعي، له
في البخاري حديثان: هذا وآخر تقدم في ذكر بني إسرائيل، وأبو جمرة هو بالجيم نصر بن
(7/173)
عمران. قوله: "إن أبا ذر قال لأخيه" هو أنيس. قوله: "اركب إلى هذا الوادي" أي وادي مكة، وفي أول رواية أبي قتيبة الماضية في مناقب قريش" قال لنا ابن عباس: "ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قال: قلنا: بلى. قال: قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار" وهذا السياق يقتضي أن ابن عباس تلقاه من أبي ذر، وقد أخرج مسلم قصة إسلام أبي ذر من طريق عبد الله بن الصامت عنه وفيها مغايرة كثيرة لسياق ابن عباس، ولكن الجمع بينهما ممكن وأول حديثه" خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال لنا، فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس، فذكر لنا ذلك فقلنا له: أما ما مضى لنا من معروفك فقد كدرته، فتحملنا عليه، وجلس يبكي، فانطلقنا نحو مكة، فنافر أخي أنيس رجلا إلى الكاهن، فخير أنيسا، فأتانا بصرمتنا ومثلها معها، قال وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، قلت: لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجه؟ قال: حيث يوجهني ربي. قال: فقال لي أنيس: إن لي حاجة بمكة فانطلق، ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله. قلت فما يقول الناس؟ قال يقولون: شاعر كاهن ساحر. وكان أنيس شاعرا، فقال: لقد سمعت كلام الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم عليها، والله إنه لصادق. قلت: وهذا الظاهر مغاير لقوله في حديث الباب: "إن أبا ذر قال لأخيه ما شفيتني" ويمكن الجمع بأنه كان أراد منه أن يأتيه بتفاصيل من كلامه وأخباره فلم يأته إلا بمجمل. قوله: "فانطلق الأخ" في رواية الكشميهني: "فانطلق الآخر" أي أنيس، قال عياض: وقع عند بعضهم" فانطلق الأخ الآخر" والصواب الاقتصار على أحدهما لأنه لا يعرف لأبي ذر إلا أخ واحد وهو أنيس. قلت: وعند مسلم من طريق عبد الرحمن بن مهدي - أي عن المثنى -" فانطلق الآخر" حسب. قوله: "حتى قدمه" أي الوادي وادي مكة. وفي رواية ابن مهدي "فانطلق الآخر حتى قدم مكة". قوله: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر" كذا في هذه الرواية، ووافقها عبد الرحمن بن مهدي عند مسلم، وقوله: "وكلاما" منصوب بالعطف على الضمير المنصوب، وفيه إشكال لأن الكلام لا يرى. ويجاب عنه بأنه من قبيل "علفتها تبنا وماء باردا" وفيه الوجهان: الإضمار أي وسقيتها، أو ضمن العلف معنى الإعطاء. وهنا يمكن أن يقال: التقدير رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعته يقول كلاما ما هو بالشعر. أو ضمن الرؤية معنى الأخذ عنه. ووقع في رواية أبي قتيبة" رأيته يأمر بالخير وينهى عن الشر" ولا إشكال فيها. قوله: "وكره أن يسأل عنه" لأنه عرف أن قومه يؤذون من يقصده أو يؤذونه بسبب قصد من يقصده، أو لكراهتهم في ظهور أمره لا يدلون من يسأل عنه عليه، أو يمنعونه من الاجتماع به، أو يخدعونه حتى يرجع عنه. قوله: "فرآه علي بن أبي طالب" وهذا يدل على أن قصة أبي ذر وقعت بعد المبعث بأكثر من سنتين بحيث يتهيأ لعلي أن يستقل بمخاطبة الغريب ويضيفه، فإن الأصح في سن علي حين المبعث كان عشر سنين وقيل: أقل من ذلك، هذا الخبر يقوي القول الصحيح في سنه. قوله: "فعرف أنه غريب" في رواية: أبي قتيبة" فقال، كأن الرجل غريب.قلت: نعم".قوله: "فلما رآه تبعه" في رواية أبي قتيبة" قال فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه".قوله: "أما نال للرجل" أي أما حان، يقال نال له بمعنى آن له، ويروى "أما آن" بمد الهمزة و "أني" بالقصر وبفتح النون وكلها بمعنى، وقد تقدم في قصة الهجرة في قول أبي بكر الصديق "أما آن للرحيل" مثله وقوله: "أن يعلم منزله" أي مقصده، ويحتمل أن يكون علي أشار بذلك إلى دعوته إلى بيته لضيافته ثانيا، وتكون
(7/174)
إضافة المنزل إليه مجازية لكونه قد نزل به مرة، ويؤيد الأول قول أبي ذر في جوابه" قلت لا" كما في رواية أبي قتيبة. قوله: "يوم الثالث" كذا فيه، وهو كقولهم مسجد الجامع، وليس من إضافة الشيء إلى نفسه عند التحقيق. قوله: "فعاد علي على مثل ذلك" في رواية الكشميهني: "فغدا على مثل ذلك" وفي رواية أبي قتيبة" فقال فانطلق معي". قوله: "لترشدنني" كذا للأكثر بنونين. وفي رواية الكشميهني بواحدة مدغمة. قوله: "فأخبرته" كذا للأكثر وفيه التفات. وفي رواية الكشميهني: "فأخبره" على نسق ما تقدم". قوله: "قمت كأني أريق الماء" في رواية أبي قتيبة "كأني أصلح نعلي" ويحمل على أنه قالهما جميعا. قوله: "فانطلق يقفوه" أي يتبعه. قوله: "ودخل منه" قال الداودي: فيه الدخول بدخول المتقدم، وكأن هذا قبل آية الاستئذان، وتعقبه ابن التين فقال: لا تؤخذ الأحكام من مثل هذا. قلت: وفي كلام كل منهما من النظر ما لا يخفى. قوله: "فسمع من قوله وأسلم مكانه" كأنه كان يعرف علامات النبي، فلما تحققها لم يتردد في الإسلام، هكذا في هذه الرواية، ومقتضاها أن التقاء أبي ذر بالنبي صلى الله عليه وسلم كان بدلالة علي. وفي رواية عبد الله بن الصامت" أن أبا ذر لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في الطواف بالليل، قال: فلما قضى صلاته قلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، قال: فكنت أول من حياه بالسلام، قال: من أين أنت؟ قلت من بني غفار، قال: فوضع يده على جبهته، فقلت كره أن انتميت إلى غفار" فذكر الحديث في شأن زمزم، وأنه استغنى بها عن الطعام والشراب ثلاثين من بين يوم وليلة، وفيه: "فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، وأنه أطعمه من زبيب الطائف" الحديث وأكثره مغاير لما في حديث ابن عباس هذا عن أبي ذر، ويمكن التوفيق بينهما بأنه لقيه أولا مع علي ثم لقيه في الطواف أو بالعكس، وحفظ كل منهما عنه ما لم يحفظ الآخر، كما في رواية عبد الله بن الصامت من الزيادة ما ذكرناه ففي رواية ابن عباس أيضا من الزيادة قصته مع علي وقصته مع العباس وغير ذلك. وقال القرطبي: في التوفيق بين الروايتين تكلف شديد، ولا سيما أن في حديث عبد الله بن الصامت أن أبا ذر أقام ثلاثين لا زاد له، وفي حديث ابن عباس أنه كان معه زاد وقربة ماء إلى غير ذلك. قلت: ويحتمل الجمع بأن المراد بالزاد في حديث ابن عباس ما تزوده لما خرج من قومه ففرغ لما أقام بمكة، والقربة التي كانت معه كان فيها الماء حال السفر فلما أقام بمكة لم يحتج إلى ملئها ولم يطرحها، ويؤيده أنه وقع في رواية أبي قتيبة المذكورة" فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد" الحديث. قوله: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري" في رواية أبي قتيبة" اكتم هذا الأمر، وارجع إلى قومك فأخبرهم، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل" وفي رواية عبد الله بن الصامت" إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل، فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك" فذكر قصة إسلام أخيه أنيس وأمه وأنهم توجهوا إلى قومهم غفار فأسلم نصفهم، الحديث. قوله: "لأصرخن بها" أي بكلمة التوحيد، والمراد أنه يرفع صوته جهارا بين المشركين، وكأنه فهم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالكتمان ليس على الإيجاب بل على سبيل الشفقة عليه، فأعلمه أن به قوة على ذلك، ولهذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، يؤخذ منه جواز قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله وإن كان السكوت جائزا، والتحقيق أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد، وبحسب ذلك مترتب وجود الأجر وعدمه. قوله: "ثم قام القوم" في رواية أبي قتيبة" فقالوا قوموا إلى هذا الصابي" بالياء اللينة" فقاموا"
(7/175)
وكانوا يسمون من أسلم صابيا لأنه من
صبا يصبو إذا انتقل من شيء إلى شيء. قوله: "فضربوه حتى أوجعوه" في رواية
أبي قتيبة" فضربت لأموت" أي ضربت ضربا لا يبالي من ضربني أن لو أموت
منه. قوله: "فأقلعوا عني"1 أي كفوا. قوله: "فأكب العباس عليه"
في رواية أبي قتيبة" فقال مثل مقالته بالأمس" وفي الحديث ما يدل على حسن
تأتي العباس وجودة فطنته حيث توصل إلى تخليصه منهم بتخويفهم من قومه أن يقاصوهم
بأن يقطعوا طرق متجرهم، وكان عيشهم من التجارة. فلذلك بادروا إلى الكف عنه. وفي
الحديث دلالة على تقدم إسلام أبي ذر، لكن الظاهر أن ذلك كان بعد المبعث بمده طويلة
لما فيه من الحكاية عن علي كما قدمناه، ومن قوله أيضا في رواية عبد الله بن
الصامت" إني وجهت إلى أرض ذات نخل"، فإن ذلك يشعر بأن وقوع ذلك كان قرب
الهجرة والله أعلم.
ـــــــ
1 هذه الجملة ليست في رواية الباب هنا, وإنما هي في رواية أب قتيبة التي تقدمت
برقم 3522
(7/176)
34 - باب إِسْلاَمُ سَعِيدِ بْنِ
زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3862- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ
عَنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي
مَسْجِدِ الْكُوفَةِ يَقُولُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنَّ عُمَرَ
لَمُوثِقِي عَلَى الإِسْلاَمِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عُمَرُ وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا
ارْفَضَّ لِلَّذِي صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ محقوقا أن يرفض".
[الحديث 3862- طرفاه في: 6942,3867]
قوله: "باب إسلام سعيد بن زيد" أي ابن عمرو بن نفيل، وأبو تقدم ذكره
وأنه ابن ابن عم عمر بن الخطاب.قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة،
وإسماعيل هو ابن أبي خالد؛ وقيل هو ابن أبي حازم. قوله: "لقد رأيتني"
بضم المثناة، والمعنى رأيت نفسي "وإن عمر لموثقي على الإسلام" أي ربطه
بسبب إسلامه إهانة له وإلزاما بالرجوع عن الإسلام. وقال الكرماني في معناه: كان
يثبتني على الإسلام ويسددني، كذا قال، وكأنه ذهل عن قوله هنا" قبل أن
يسلم"، فإن وقوع التثبيت منه وهو كافر لضمره على الإسلام بعيد جدا، مع أنه
خلاف الواقع، وسيأتي في كتاب الإكراه" باب من اختار الضرب والقتل والهوان على
الكفر" وكأن السبب في ذلك أنه كان زوج فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، ولهذا ذكر
في آخر باب إسلام عمر" رأيتني موثقي عمر على الإسلام أنا وأخته" وكان
إسلام عمر متأخرا عن إسلام أخته وزوجها، لأن أول الباعث له على دخوله في الإسلام
ما سمع في بيتها من القرآن في قصة طويلة ذكرها الدار قطني وغيره. قوله: "ولو
أن أحدا ارفض" أي زال من مكانه، في الرواية الآتية"انقض" بالنون
والقاف بدل الراء والفاء أي سقط، وزعم ابن التين أنه أرجح الروايات. وفي رواية
الكشميهني بالنون والفاء وهو بمعنى الأول. قوله: "لكان" في الرواية
الآتية" لكان محقوقا أن ينقض" وفي رواية الإسماعيلي: "لكان
حقيقا" أي واجبا تقول حق عليك أن تفعل كذا وأنت حقيق أن تفعله، وإنما قال ذلك
سعيد لعظم قتل عثمان، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ
دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} قال ابن التين: قال سعيد ذلك على سبيل التمثيل.
وقال الداودي: معناه لو تحركت القبائل وطلبت بثار عثمان لكان أهلا لذلك، وهذا بعيد
من التأويل.
(7/176)
35 - باب إِسْلاَمُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
3863- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ
عُمَرُ
3864- حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ فَأَخْبَرَنِي جَدِّي زَيْدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "بَيْنَمَا هُوَ فِي الدَّارِ
خَائِفًا إِذْ جَاءَهُ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو عَلَيْهِ
حُلَّةُ حِبَرَةٍ وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ وَهُمْ
حُلَفَاؤُنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ لَهُ مَا بَالُكَ قَالَ زَعَمَ قَوْمُكَ
أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي إِنْ أَسْلَمْتُ قَالَ لاَ سَبِيلَ إِلَيْكَ بَعْدَ أَنْ
قَالَهَا أَمِنْتُ فَخَرَجَ الْعَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمْ
الْوَادِي فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُونَ فَقَالُوا نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الْخَطَّابِ
الَّذِي صَبَا قَالَ لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ فَكَرَّ النَّاسُ"
[الحديث 3864- طرفه في: 3865]
3865- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرُو
بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُهُ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا "لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدَ دَارِهِ
وَقَالُوا صَبَا عُمَرُ وَأَنَا غُلاَمٌ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِي فَجَاءَ رَجُلٌ
عَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ فَقَالَ قَدْ صَبَا عُمَرُ فَمَا ذَاكَ فَأَنَا
لَهُ جَارٌ قَالَ فَرَأَيْتُ النَّاسَ تَصَدَّعُوا عَنْهُ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا
قَالُوا الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ"
3866- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ
حَدَّثَنِي عُمَرُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
قَالَ "مَا سَمِعْتُ عُمَرَ لِشَيْءٍ قَطُّ يَقُولُ إِنِّي لاَظُنُّهُ كَذَا
إِلاَّ كَانَ كَمَا يَظُنُّ بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ
جَمِيلٌ فَقَالَ لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ عَلَيَّ الرَّجُلَ فَدُعِيَ لَهُ
فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ
مُسْلِمٌ قَالَ فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلاَّ مَا أَخْبَرْتَنِي قَالَ كُنْتُ
كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ
جِنِّيَّتُكَ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ
فِيهَا الْفَزَعَ فَقَالَتْ أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلاَسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ
بَعْدِ إِنْكَاسِهَا وَلُحُوقَهَا بِالْقِلاَصِ وَأَحْلاَسِهَا قَالَ عُمَرُ
صَدَقَ بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ
فَذَبَحَهُ فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا
مِنْهُ يَقُولُ يَا جَلِيحْ أَمْرٌ نَجِيحْ رَجُلٌ فَصِيحْ يَقُولُ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ فَوَثَبَ الْقَوْمُ قُلْتُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا
وَرَاءَ هَذَا ثُمَّ نَادَى يَا جَلِيحْ أَمْرٌ نَجِيحْ رَجُلٌ فَصِيحْ يَقُولُ
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقُمْتُ فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ هَذَا
نَبِيٌّ"
(7/177)
3867- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ
سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ
يَقُولُ لِلْقَوْمِ "لَوْ رَأَيْتُنِي مُوثِقِي عُمَرُ عَلَى الإِسْلاَمِ
أَنَا وَأُخْتُهُ وَمَا أَسْلَمَ وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا انْقَضَّ لِمَا صَنَعْتُمْ
بِعُثْمَانَ لَكَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ"
قوله: "باب إسلام عمر بن الخطاب" قد تقدم نسبه في مناقبه. قوله:
"أنبأنا سفيان" هو الثوري. قوله: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر"
زاد الإسماعيلي من طريق أبي داود الحفري عن سفيان في حديث ذكره أي من كلام ابن
مسعود، وقد تقدم في مناقب عمر الإلمام بشيء من ذلك. قوله: "فأخبرني جدي"
ظاهر السياق أنه معطوف على شيء تقدم، وقد رواه الإسماعيلي من طريق ابن وهب هذه
فقال فيها عن ابن وهب" أخبرني عمر بن محمد". قوله: "وعليه حلة
حبر" بكسر المهملة وفتح الموحدة وهو برد مخطط بالوشي. وفي رواية حبرة بزيادة
هاء. قوله: "أن أسلمت" بفتح الألف وتخفيف النون أي لأجل إسلامي. قوله: "لا
سبيل عليك بعد أن قالها" أي الكلمة المذكورة، وهي قوله: "لا سبيل
عليك". قوله: "أمنت" بفتح الهمزة وكسر الميم وسكون النون وضم
المثناة أي حصل الأمان في نفسي بقوله ذلك، ووقع في رواية الأصيلي بمد الهمزة، وهو
خطأ فإنه كان قد أسلم قبل ذلك، ذكر عياض أن في رواية الحميدي بالقصر أيضا لكنه
بفتح المثناة، وهو خطأ أيضا لأنه يصير من كلام العاص بن وائل، وليس كذلك بل هو من
كلام عمر، يريد أنه أمن لما قال له العاص بن وائل تلك المقالة، ويؤيده الحديث الذي
بعده. قوله: "اجتمع الناس عند داره" في رواية الكشميهني: "اجتمع
الناس إليه". قوله: "وأنا غلام"في رواية أخرى أنه" كان ابن
خمس سنين" وإذا كان كذلك خرج منه أن إسلام عمر كان بعد المبعث بست سنين أو
بسبع، لأن ابن عمر كما سيأتي في المغازي كان يوم أحد ابن أربع عشرة سنة وذلك بعد
المبعث بست عشرة سنة فيكون مولده بعد المبعث بسنتين. قوله: "على ظهر
بيتي" قال الداودي هو غلط والمحفوظ "ظهر بيتنا" وتعقبه ابن التين
بأن ابن عمر أراد أنه الآن بيته أي عند مقالته تلك، وكان قبل ذلك لأبيه. ولا يخفى
عدم الاحتياج إلى هذا التأويل، وإنما نسب ابن عمر البيت إلى نفسه مجازا، أو مراده
المكان الذي كان يأوي فيه سواء كان ملكه أم لا، وأيضا فإنه إن أراد نسبته إليه حال
مقالته تلك لم يصح، لأن بني عدي بن كعب رهط عمر لما هاجروا استولى غيرهم على
بيوتهم كما ذكره ابن إسحاق وغيره فلم يرجعوا فيها، وأيضا فإن ابن عمر لم ينفرد
بالإرث من عمر فتحتاج دعوى أن يكون اشترى حصص غيره إلى نقل، فيتعين الذي قلته.
قوله: "فما ذاك" أي فلا بأس، أو لا قتل أو لا يعترض له. وقوله:
"أنا له جار" أي أجرته من أن يظلمه ظالم، وقوله: "تصدعوا" أي
تفرقوا عنه. فقوله: "قالوا العاص بن وائل" زاد ابن أبي عمر في روايته عن
سفيان قال: "فعجبت من عزته" وكذا عند الإسماعيلي من وجهين عن سفيان. وفي
رواية عبد الله بن داود عن عمر بن محمد عند الإسماعيلي: "فقلت لعمر: من الذي
ردهم عنك يوم أسلمت؟ قال: يا بني، ذاك العاص بن وائل" أي ابن هاشم بن سعيد
بالتصغير بن سهم القرشي السهمي، مات على كفره قبل الهجرة بمدة، والعاص بمهملتين من
العوص لا من العصيان، والصاد مرفوعة ويجوز كسرها، وقيل: إنه من العصيان فهو بالكسر
جزما، ويجوز إثبات الياء كالقاضي، ويؤيده كتاب عمر إلى عمرو وهو عامله على مصر
"إلى العاصي ابن العاصي" وأطلق عليه ذلك لكونه خالف شيئا مما كان أمره
به في ولايته على مصر لما ظهر له
(7/178)
من المصلحة. الحديث الرابع, قوله:
"حدثني عمر" هو ابن محمد بن زيد، وهو شيخ ابن وهب في الحديث الثاني،
ووهم من زعم أنه عمر بن الحارث كالكلاباذي فقد وقع في رواية الإسماعيلي عن عمر بن
محمد. قوله: "ما سمعت عمر يقول لشيء إني لأظنه كذا إلا كان" أي عن شيء،
واللام قد تأتي بمعنى عن كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا
لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} . قوله: "إلا كان كما يظن"
هو موافق لما تقدم في مناقبه أنه كان محدثا بفتح الدال، وتقدم شرحه. قوله:
"إذ مر به رجل جميل" هو سواد - بفتح المهملة وتخفيف الواو وآخره مهملة -
ابن قارب بالقاف والموحدة، وهو سدوسي أو دوسي. وقد أخرج ابن أبي خيثمة وغيره من
طريق أبي جعفر الباقر قال: "دخل رجل يقال له سواد بن قارب السدوسي على عمر،
فقال. يا سواد أنشدك الله، هل تحسن من كهانتك شيئا" فذكر القصة. وأخرج
الطبراني والحاكم وغيرهما من طريق محمد بن كعب القرظي قال: "بينما عمر قاعد
في المسجد" فذكر مثل سياق أبي جعفر وأتم منه، وهما طريقان مرسلان يعضد أحدهما
الآخر. وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني من طريق عباد بن عبد الصمد عن سعيد بن
جبير قال: "أخبرني سواد بن قارب قال: كنت نائما" فذكر قصته الأولى دون
قصته مع عمر. وهذا إن ثبت ذلك على تأخر وفاته، لكن عبادا ضعيف. ولابن شاهين من
طريق أخرى ضعيفة عن أنس قال: "دخل رجل من دوس يقال له سواد بن قارب على النبي
صلى الله عليه وسلم: "فذكر قصته أيضا، وهذه الطرق يقوى بعضها ببعض، وله طرق أخرى
سأذكر ما فيها من فائدة. قوله: "لقد أخطأ ظني" في رواية ابن عمر عند
البيهقي" لقد كنت ذا فراسة، وليس لي الآن رأي إن لم يكن هذا الرجل ينظر في
الكهانة". قوله: "أو" بسكون الواو "على دين قومه في
الجاهلية"1 أي مستمر على عبادة ما كانوا يعبدون. قوله: "أو" بسكون الواو
أيضا "لقد كان كاهنهم" أي كان كاهن قومه. وحاصله أن عمر ظن شيئا مترددا
بين شيئين أحدهما يتردد بين شيئين كأنه قال: هذا الظن إما خطأ أو صواب فإن كان
صوابا فهذا الآن إما باق على كفره وإما كان كاهنا. وقد أظهر الحال القسم الأخير،
وكأنه ظهرت له من صفة مشيه أو غير ذلك قرينة أثرت له ذلك الظن، فالله أعلم. قوله:
"علي" بالتشديد "الرجل" بالنصب أي أحضروه إلي وقربوه مني.
قوله: "فقال له ذلك" أي ما قاله في غيبته من التردد. وفي رواية محمد بن
كعب" فقال له فأنت على ما كنت عليه من كهانتك" فغضب، وهذا من تلطف عمر،
لأنه اقتصر على أحسن الأمرين. قوله: "ما رأيت كاليوم" أي رأيت شيئا مثل
ما رأيت اليوم. قوله: "استقبل" بضم التاء على البناء للمجهول. قوله:
"رجل مسلم" في رواية النسفي وأبي ذر "رجلا مسلما" ورأيته
مجودا بفتح تاء "استقبل" على البناء للفاعل وهو محذوف تقديره أحد، وضبطه
الكرماني استقبل بضم التاء وأعرب رجلا مسلما على أنه مفعول رأيت، وعلى هذا فالضمير
في قوله: "به" يعود على الكلام، ويدل عليه السياق، وبينه البيهقي في
رواية مرسلة" قد جاء الله بالإسلام، فما لنا ولذكر الجاهلية". قوله:
"فإني أعزم عليك" أي ألزمك. وفي رواية محمد بن كعب" ما كنا عليه من
الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك". قوله: "إلا أخبرتني" أي ما
أطلب منك إلا الإخبار. قوله: "كنت كاهنهم في الجاهلية" الكاهن الذي
يتعاطى الخبر من الأمور المغيبة، وكانوا في الجاهلية كثيرا، فمعظمهم كان يعتمد على
تابعة من الجن، وبعضهم كان يدعي معرفة ذلك بمقدمات أسباب يستدل بها على
ـــــــ
1 الذي في المتن "على دينه في الجاهلية
(7/179)
مواقعها من كلام من يسأله، وهذا الأخير
يسمى العراف بالمهملتين، وسيأتي حكم ذلك واضحا في كتاب الطب، وتقدم طرف منه في آخر
البيوع. ولقد تلطف سواد في الجواب إذ كان سؤال عمر عن حاله في كهانته إذ كان من
أمر الشرك، فلما ألزمه أخبره بآخر شيء وقع له لما تضمن من الإعلام بنبوة محمد صلى
الله عليه وسلم وكان سببا لإسلامه. قوله: "ما أعجب" بالضم و
"ما" استفهامية. قوله: "جنيتك" بكسر الجيم والنون الثقيلة أي
الواحدة من الجن كأنه أنت تحقيرا، ويحتمل أن يكون عرف أن تابع سواد منهم كان أنثى،
أو هو كما يقال تابع الذكر يكون أنثى وبالعكس. قوله: "أعرف فيها الفزع"
بفتح الفاء والزاي أي الخوف. وفي رواية محمد بن كعب" إن ذلك كان وهو بين
النائم واليقظان". قوله: "ألم تر الجن وإبلاسها" بالموحدة والمهملة
والمراد به اليأس ضد الرجاء. وفي رواية أبي جعفر "عجبت للجن وإبلاسها"
وهو أشبه بإعراب بقية الشعر، ومثله لمحمد بن كعب لكن قال:"وتحساسها"
بفتح المثناة وبمهملات، أي أنها فقدت أمرا فشرعت تفتش عليه. قوله: "ويأسها من
بعد إنكاسها" اليأس بالتحتانية ضد الرجاء والإنكاس الانقلاب، قال ابن قارس:
معناه أنها يئست من استراق السمع بعد أن كانت قد ألفته، فانقلبت عن الاستراق قد
يئست من السمع. ووقع في شرح الداودي بتقديم السين على الكاف، وفسره بأنه المكان
الذي ألفته، قال: ووقع في رواية: "من بعد إيناسها" أي أنها كانت أنست
بالاستراق، ولم أر ما قاله في شيء من الروايات، وقد شرح الكرماني على اللفظ الأول
الذي ذكره الداودي وقال: الإنساك جمع نسك، والمراد به العبادة، ولم أر هذا القسيم
في غير الطريق التي أخرجها البخاري. وزاد في رواية الباقر ومحمد بن كعب وكذا عند
البيهقي موصولا من حديث البراء بن عازب بعد قوله: "وأحلاسها ":
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فاسم إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها
وفي روايتهم أن الجني عاوده ثلاث ليال ينشده هذه الأبيات مع تغير قوافيها، فجعل
بدل قوله إبلاسها "تطلابها" أوله مثناة، وتارة" تجآرها" بجيم
وهمزة، وبدل قوله أحلاسها "أقتابها" بقاف ومثناة جمع قتب، وتارة"
أكوارها" وبدل قوله. ما مؤمنوها مثل أرجاسها" ليس قداماها
كأذنابها" وتارة" ليس ذوو الشر كأخيارها" وبدل قوله: رأسها"
نابها" وتارة قال: "ما مؤمنو الجن ككفارها". وعندهم من الزيادة
أيضا أنه في كل مرة يقول له" قد بعث محمد، فانهض إليه ترشد"، وفي
الرواية المرسلة قال: "فارتعدت فرائصي حتى وقعت"، وعندهم جميعا أنه لما
أصبح توجه إلى مكة فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر، فأتاه فأنشده أبياتا
يقول فيها:
أتاني رئى بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك نبي من لؤي بن غالب
يقول في آخرها:
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
وفي آخر الرواية المرسلة" فالتزمه عمر وقال: لقد كنت أحب أن أسمع هذا
منك". قوله: "ولحوقها بالقلاص وأحلاسها" القلاص بكسر القاف
وبالمهملة جمع قلص بضمتين وهو جمع قلوص وهي الفتية من النياق، والأحلاس جمع حلس
بكسر أوله وسكون ثانيه وبالمهملتين وهو ما يوضع على ظهور الإبل تحت الرحل. ووقع
هذا القسيم
(7/180)
غير موزون. وفي رواية الباقر" ورحلها العيس بأحلاسها" وهذا موزون، والعيس بكسر أوله وسكون التحتانية وبالمهملتين: الإبل. قوله: "قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم" ظاهر هذا أن الذي قص القصة الثانية هو عمر. وفي رواية ابن عمر وغيره أن الذي قصها هو سواد بن قارب، ولفظ ابن عمر عند البيهقي قال: "لقد رأى عمر رجلا - فذكر القصة - قال فأخبرني عن بعض ما رأيت، قال: إني ذات ليلة بواد إذ سمعت صائحا يقول: يا جليح، خبر نجيح، رجل فصيح، يقول لا إله إلا الله. عجبت للجن وإبلاسها" فذكر القصة، ثم ساق من طريق أخرى مرسلة قال: "مر عمر برجل فقال: لقد كان هذا كاهنا" الحديث وفيه: "فقال عمر أخبرني، فقال: نعم، بينا أنا جالس إذ قالت لي: ألم تر إلى الشياطين وإبلاسها" الحديث: "قال عمر: الله أكبر، فقال: أتيت مكة فإذا برجل عند تلك الأنصاب" فذكر قصة العجل، وهذا يحتمل فيه ما احتمل في حديث الصحيح أن يكون القائل" أتيت مكة" هو عمر أو صاحب القصة. قوله: "عند آلهتهم" أي أصنامهم. قوله: "إذ جاء رجل" لم أقف على اسمه" لكن عند أحمد من وجه آخر أنه ابن عبس، فأخرج من طريق مجاهد عن شيخ أدرك الجاهلية يقال له ابن عبس قال: "كنت أسوق بقرة لنا، فسمعت من جوفها" فذكر الرجز قال: "فقدمنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث" ورجاله ثقات، وهو شاهد قوي لما في رواية ابن عمر وأن الذي حدث بذلك هو سواد بن قارب، وسأذكر بعد هذا ما يقوي أن الذي سمع ذلك هو عمر فيمكن أن يجمع بينهما بتعدد ذلك لهما. قوله: "يا جليح" بالجيم والمهملة بوزن عظيم ومعناه الوقح المكافح بالعداوة، قال ابن التين: يحتمل أن يكون نادى رجلا بعينه، ويحتمل أن يكون أراد من كان بتلك الصفة قلت: ووقع في معظم الروايات التي أشرت إليها "يا آل ذريح" بالذال المعجمة والراء وآخره مهملة، وهم بطن مشهور في العرب. قوله: "رجل فصيح" من الفصاحة. وفي رواية الكشميهني بتحتانية أوله بدل الفاء من الصياح ووقع في حديث ابن عبس "قول فصيح رجل يصيح". قوله: "يقول لا إله إلا أنت" وفي رواية الكشميهني: "لا إله إلا الله" وهو الذي في بقية الروايات. قوله: "فما نشبنا" بكسر المعجمة وسكون الموحدة أي لم نتعلق بشيء من الأشياء حتى سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، يريد أن ذلك كان بقرب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. "تنبيهان": أحدهما: ذكر ابن التين أن الذي سمعه سواد بن قارب من الجني كان من أثر استراق السمع، وفي جزمه بذلك نظر، والذي يظهر أن ذلك كان من أثر منع الجن من استراق السمع، ويبين ذلك ما أخرجه المصنف في الصلاة ويأتي في تفسير سورة الجن عن ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث منع الجن من استراق السمع، فضربوا المشارق والمغارب يبحثون عن سبب ذلك، حتى رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه صلاة الفجر" الحديث. "التنبيه الثاني": لمح المصنف بإيراد هذه القصة في" باب إسلام عمر" بما جاء عن عائشة وطلحة عن عمر من أن هذه القصة كانت سبب إسلامه، فروى أبو نعيم في "الدلائل" أن أبا جهل" جعل لمن يقتل محمدا مائة ناقة، قال عمر: فقلت له: يا أبا الحكم آلضمان صحيح؟ قال: نعم. قال فتقلدت سيفي أريده، فمررت على عجل وهم يريدون أن يذبحوه، فقمت أنظر إليهم، فإذا صائح يصيح من جوف العجل: يا آل ذريح، أمر نجيح، رجل يصيح بلسان فصيح. قال عمر: فقلت في نفسي إن هذا الأمر ما يراد به إلا أنا، قال فدخلت على أختي فإذا عندها سعيد بن زيد" فذكر القصة في سبب إسلامه بطولها. وتأمل ما في إيراده حديث سعيد بن زيد الذي بعد هذا. قوله: "انقض" بنون وقاف، وللكشميهني بفاء بدل القاف في الموضعين، ولأبي نعيم في "المستخرج" بالفاء والراء
(7/181)
ومعانيها متقاربة، والله أعلم. "تنبيه": جعل ابن إسحاق إسلام عمر بعد هجرة الحبشة، ولم يذكر انشقاق القمر، فاقتضى صنيع المصنف أنه وقع في تلك الأيام. وقد ذكر ابن إسحاق من وجه آخر أن إسلام عمر كان عقب هجرة الحبشة الأولى.
(7/182)
36 - باب انْشِقَاقُ الْقَمَرِ
3868- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمْ
الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا"
3869- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ "انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمِنًى فَقَالَ اشْهَدُوا وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ نَحْوَ الْجَبَلِ"
وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ "انْشَقَّ
بِمَكَّةَ"
وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ
عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
3870- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ قَالَ
حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ عَلَى زَمَانِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
3871- حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا إبراهيم عن أبي معمر عن عبد
الله رضي الله عنه قال "انشق القمر"
قوله: "باب انشقاق القمر" أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل
المعجزة له، وقد ترجم بمعنى ذلك في علامات النبوة. قوله: "عن أنس" زاد
في الرواية التي في علامات النبوة أنه حدثهم. قوله: "أن أهل مكة" هذا من
مراسيل الصحابة، لأن أنسا لم يدرك هذه القصة، وقد جاءت هذه القصة من حديث ابن عباس
وهو أيضا ممن لم يشاهدها، ومن حديث ابن مسعود وجبير بن مطعم وحذيفة وهؤلاء
شاهدوها، ولم أر في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس،
فلعله سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. ثم وجدت في بعض طرق حديث ابن عباس بيان
صورة السؤال، وهو وإن كان لم يدرك القصة لكن في بعض طرقه ما يشعر بأنه حمل الحديث
عن ابن مسعود كما سأذكره، فأخرج أبو نعيم في" الدلائل" من وجه ضعيف عن
ابن عباس قال: "اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد
بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والنضر بن الحارث
ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين،
فسأل ربه فانشق". قوله: "شقتين" بكسر المعجمة أي
(7/182)
نصفين، وتقدم في العلامات من طريق سعيد
وشيبان عن قتادة بدون هذه اللفظة. وأخرجه مسلم من الوجه الذي أخرجه منه البخاري من
حديث سعيد عن قتادة بلفظ: "فأراهم انشقاق القمر مرتين" وأخرجه من طريق
معمر عن قتادة قال بمعنى حديث شيبان. قلت: وهو في مصنف عبد الرزاق عن معمر بلفظ:
"مرتين" أيضا، وكذلك أخرجه الإمامان أحمد وإسحاق في مسنديهما عن عبد
الرزاق، وقد اتفق الشيخان عليه من رواية شعبة عن قتادة بلفظ: "فرقتين" قال
البيهقي: قد حفظ ثلاثة من أصحاب قتادة عنه" مرتين". قلت: لكن اختلف عن
كل منهم في هذه اللفظة ولم يختلف على شعبة وهو أحفظهم، ولم يقع في شيء من طرق حديث
ابن مسعود بلفظ: "مرتين" إنما فيه: "فرقتين أو فلقتين" بالراء
أو اللام وكذا في حديث ابن عمر "فلقتين" وفي حديث جبير بن مطعم
"فرقتين" وفي لفظ عنه "فانشق باثنتين" وفي رواية عن ابن عباس
عند أبي نعيم في الدلائل "فصار قمرين" وفي لفظ: "شقتين" وعند
الطبراني من حديثه" حتى رأوا شقيه" ووقع في نظم السيرة لشيخنا الحافظ
أبي الفضل: وانشق مرتين بالإجماع. ولا أعرف من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق
في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرض لذلك أحد من شراح الصحيحين وتكلم ابن القيم
على هذه الرواية فقال: المرات يراد بها الأفعال تارة والأعيان أخرى، والأول أكثر.
ومن الثاني "انشق القمر مرتين" وقد خفي على بعض الناس فادعى أن انشقاق
القمر وقع مرتين، وهذا مما يعلم أهل الحديث والسير أنه غلط فإنه لم يقع إلا مرة
واحدة. وقد قال العماد بن كثير: في الرواية التي فيها "مرتين" نظر، ولعل
قائلها أراد فرقتين. قلت: وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات.
ثم راجعت نظم شيخنا فوجدته يحتمل التأويل المذكور، ولفظه:
فصار فرقتين فرقة علت ... وفرقة للطود منه نزلت
وذاك مرتين بالإجماع ... والنص والتواتر السماع
فجمع بين قوله: "فرقتين" وبين قوله: "مرتين" فيمكن أن يتعلق
قوله بالإجماع بأصل الانشقاق لا بالتعدد، مع أن في نقل الإجماع في نفس الانشقاق
نظرا سيأتي بيانه. قوله: "حتى رأوا حراء بينهما" أي بين الفرقتين، وحراء
تقدم ضبطه في بدء الوحي وهو على يسار السائر من مكة إلى منى. قوله: "عن أبي
حمزة" بالمهملة والزاي هو محمد بن ميمون السكري المروزي. قوله: "عن
الأعمش عن إبراهيم" وقع في رواية السرخسي والكشميهني في آخر الباب من وجه آخر
عن الأعمش "حدثنا إبراهيم". قوله: "عن أبي معمر" هذا هو
المحفوظ. ووقع في رواية سعدان بن يحيى ويحيى بن عيسى الرملي" عن الأعمش عن
إبراهيم عن علقمة" أخرجه ابن مردويه، ولأبي نعيم نحوه من طريق غريبة عن شعبة
"عن الأعمش" والمحفوظ عن شعبة كما سيأتي في التفسير" عن الأعمش عن
إبراهيم عن أبي عمر" وهو المشهور، وقد أخرجه مسلم من طريق أخرى عن شعبة"
عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر" وسيأتي للمصنف معلقا أن مجاهدا رواه" عن
أبي معمر عن ابن مسعود" فالله أعلم هل عند مجاهد فيه إسنادان أو قول من قال
ابن عمر وهم من أبي معمر. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود قوله:
"انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى" في رواية مسلم من
طريق علي بن مسهر عن الأعمش "بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى إذ
انفلق القمر" وهذا لا يعارض قول أنس أن ذلك كان بمكة، لأنه لم يصرح بأن النبي
صلى الله عليه وسلم كان ليلتئذ بمكة، وعلى تقدير تصريحه فمنى
(7/183)
من جملة مكة فلا تعارض، وقد وقع عند الطبراني من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: "انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين" وهو محمول على ما ذكرته، وكذا وقع في غير هذه الرواية، وقد وقع عند ابن مردويه بيان المراد فأخرجه من وجه آخر عن ابن مسعود قال: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكة قبل أن نصير إلى المدينة" فوضح أن مراده بذكر مكة الإشارة إلى أن ذلك وقع قبل الهجرة، ويجوز أن ذلك وقع وهم ليلتئذ بمنى. قوله: "فقال اشهدوا" أي اضبطوا هذا القدر بالمشاهدة. قوله: "وقال أبو الضحى إلخ" يحتمل أن يكون معطوفا على قوله: "عن إبراهيم" فإن أبا الضحى من شيوخ الأعمش فيكون للأعمش فيه إسنادان، ويحتمل أن يكون معلقا وهو المعتمد، فقد وصله أبو داود الطيالسي عن أبي عوانة، ورويناه في "فوائد أبي طاهر الذهلي" من وجه آخر عن أبي عوانة، وأخرجه أبو نعيم في "الدلائل" من طريق هشيم كلاهما عن مغيرة عن أبي الضحى بهذا الإسناد بلفظ: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت كفار قريش: هذا سحر سحركم ابن أبي كبشة، فانظروا إلى السفار، فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق، قال: فما قدم عليهم أحد إلا أخبرهم بذلك" لفظ هشيم، وعند أبي عوانة" انشق القمر بمكة - نحوه وفيه - فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم". قوله: "وتابعه محمد بن مسلم" هو الطائفي، وابن أبي نجيح اسمه عبد الله، واسم أبيه يسار بتحتانية ثم مهملة خفيفة، ومراده أنه تابع إبراهيم في روايته عن أبي معمر في قوله إن ذلك كان بمكة لا في جميع سياق الحديث، والجمع بين قول ابن مسعود "تارة بمنى وتارة بمكة" إما باعتبار التعدد إن ثبت، وإما بالحمل على أنه كان بمنى، ومن قال كان بمكة لا ينافيه لأن من كان بمنى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن الرواية التي فيها بمنى قال فيها: "ونحن بمنى" والرواية التي فيها بمكة لم يقل فيها "ونحن" وإنما قال: "انشق القمر بمكة" يعني أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا يندفع دعوى الداودي أن بين الخبرين تضادا، والله أعلم. وابن أبي نجيح رواه عن مجاهد عن أبي معمر، وهذه الطريق وصلها عبد الرزاق في مصنفه، ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" عن ابن عيينة ومحمد بن مسلم جميعا عن ابن أبي نجيح بهذا الإسناد بلفظ: "رأيت القمر منشقا شقتين: شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء" والسويداء بالمهملة والتصغير ناحية خارجة مكة عندها جبل، وقول ابن مسعود "على أبي قبيس" يحتمل أن يكون رآه كذلك وهو بمنى كأن يكون على مكان مرتفع بحيث رأى طرف جبل أبي قبيس، ويحتمل أن يكون القمر استمر منشقا حتى رجع ابن مسعود من منى إلى مكة فرآه كذلك وفيه بعد، والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب غروبه، ويؤيد ذلك إسنادهم الرؤية إلى جهة الجبل، ويحتمل أن يكون الانشقاق وقع أول طلوعه فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر، أو التعبير بأبي قبيس من تغيير بعض الرواة، لأن الغرض ثبوت رؤيته منشقا إحدى الشقتين على جبل والأخرى على جبل آخر، ولا يغاير ذلك قول الراوي الآخر رأيت الجبل بينهما أي بين الفرقتين لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل وفرقة عن يساره مثلا صدق أنه بينهما، وأي جبل آخر كان من جهة يمينه أو يساره صدق أنها عليه أيضا، وسيأتي في تفسير سورة القمر من وجه آخر عن مجاهد بلفظ آخر وهو قوله: "انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اشهدوا اشهدوا" وليس فيه تعيين مكان. وأخرجه ابن مردويه من رواية ابن جريج عن مجاهد بلفظ آخر وهو قوله: "انشق القمر، قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} يقول: كما شققت القمر كذلك أقيم الساعة". قوله: "أن القمر انشق على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم" هكذا أورده مختصرا،
(7/184)
وعند أبي نعيم من وجه آخر" انشق القمر فلقتين، قال ابن مسعود لقد رأيت جبل حراء من بين فلقتي القمر" وهذا يوافق الرواية الأولى في ذكر حراء. وقد أنكر جمهور الفلاسفة انشقاق القمر متمسكين بأن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام؛ وكذا قالوا في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء إلى غير ذلك من إنكارهم ما يكون يوم القيامة من تكوير الشمس وغير ذلك، وجواب هؤلاء إن كانوا كفارا أن يناظروا أولا على ثبوت دين الإسلام ثم يشركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين، ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض ألزم التناقض، ولا سبيل إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في القيامة فيستلزم جواز وقوع ذلك معجزة لنبي الله صلى الله عليه وسلم وقد أجاب القدماء عن ذلك، قال أبو إسحاق الزجاج في "معاني القرآن": أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله يفعل فبه ما يشاء كما يكوره يوم البعث ويفنيه، وأما قول بعضهم: لو وقع لجاء متواترا واشترك أهل الأرض في معرفته ولما اختص بها أهل مكة، فجوابه أن ذلك وقع ليلا وأكثر الناس نيام والأبواب مغلقة وقل من يراصد السماء إلا النادر، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر، وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الآحاد، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها، ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم. وقال الخطابي. انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لو وقع ذلك لم يحز أن يخفى أمره على عوام الناس لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب ونقل ما لم يعهد، فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير والتنجيم، إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلاله شأنه ووضوح أمره. والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها لأنه شيء طلبه خاص من الناس فوقع ليلا لأن القمر لا سلطان له بالنهار ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نياما ومستكنين بالأبنية، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان يحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولا بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر. ثم أبدى حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شيء منها مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه إلا القرآن بما حاصله: إن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامة أعقبت هلاك من كذب به من قومه للاشتراك في إدراكها بالحس، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذين بعث منهم لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام، ولو كان إدراكها عاما لعوجل من كذب به كما عوجل من قبلهم. وذكر أبو نعيم في "الدلائل" نحو ما ذكره الخطابي وزاد: ولا سيما إذا وقعت الآية في بلدة كان عامة أهلها يومئذ الكفار الذين يعتقدون أنها سحر ويجتهدون في إطفاء نور الله. قلت: وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نقل ذلك من"الصحابة" وأما من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه فجوابه أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه، وهذا كاف، فإن الحجة فيمن أثبت لا فيمن يوجد عنه صريح النفي، حتى
(7/185)
إن من وجد عنه صريح النفي يقدم عليه من وجد منه صريح الإثبات. وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين. ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، ويؤيد ذلك بالآية الكريمة، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر. ثم أجاب بنحو جواب الخطابي وقال: وقد يطلع على قوم قبل طلوعه على آخرين، وأيضا فإن زمن الانشقاق لم يطل ولم تتوفر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ومع ذلك فقد بعث أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك فجاءت السفار وأخبروا بأنهم عاينوا ذلك، وذلك لأن المسافرين في الليل غالبا يكونون سائرين في ضوء القمر ولا يخفى عليهم ذلك. وقال القرطبي: الموانع من مشاهدة ذلك إذا لم يحصل القصد إليه غير منحصرة، ويحتمل أن يكون الله صرف جميع أهل الأرض غير أهل مكة وما حولها عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة ليختص بمشاهدته أهل مكة كما اختصوا بمشاهدة أكثر الآيات ونقلوها إلى غيرهم ا ه. وفي كلامه نظر لأن أحدا لم ينقل أن أحدا من أهل الآفاق غير أهل مكة ذكروا أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة المعينة فلم يشاهدوا انشقاقه، فلو نقل ذلك لكان الجواب الذي أبداه القرطبي جيدا، ولكن لم ينقل عن أحد من أهل الأرض شيء من ذلك، فالاقتصار حينئذ على أن الجواب الذي ذكره الخطابي ومن تبعه أوضح، والله أعلم. وأما الآية فالمراد بها قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} لكن ذهب بعض أهل العلم من القدماء أن المراد بقوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي سينشق كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} أي سيأتي، والنكتة في ذلك إرادة المبالغة في تحقق وقوع ذلك، فنزل منزلة الواقع. والذي ذهب إليه الجمهور أصح كما جزم به ابن مسعود وحذيفة وغيرهما، ويؤيده قوله تعالى: بعد ذلك: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} وقوع انشقاقه، لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة، وإذا تبين أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا تبين وقوع الانشقاق وأنه المراد بالآية التي زعموا أنها سحر، ووقع ذلك صريحا في حديث ابن مسعود كما بيناه قبل، ونقل البيهقي في أوائل البعث والنشور عن الحليمي أن من الناس من يقول: إن المراد بقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي سينشق، قال الحليمي: فإن كان كذلك فقد وقع في عصرنا، فشاهدت الهلال ببخارى في الليلة الثالثة منشقا نصفين عرض كل واحد منهما كعرض القمر ليلة أربع أو خمس، ثم اتصلا فصار في شكل أترجة إلى أن غاب. قال: وأخبرني بعض من أثق به أنه شاهد ذلك في ليلة أخرى أ ه. ولقد عجبت من البيهقي كيف أقر هذا مع إيراده حديث ابن مسعود المصرح بأن المراد بقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أن ذلك وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ساقه هكذا من طريق ابن مسعود في هذه الآية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال: لقد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساق حديث ابن مسعود" لقد مضت آية الدخان والروم والبطشة وانشقاق القمر" وسيأتي الكلام على هذا الحديث الأخير في تفسير سورة الدخان إن شاء الله تعالى.
(7/186)
37 - باب هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أُرِيتُ دَارَ
هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ"
فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ
بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ
(7/186)
فِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى وَأَسْمَاءَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
3872- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ
أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ
بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ قَالاَ
لَهُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُكَلِّمَ خَالَكَ عُثْمَانَ فِي أَخِيهِ الْوَلِيدِ
بْنِ عُقْبَةَ وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيمَا فَعَلَ بِهِ قَالَ عُبَيْدُ
اللَّهِ فَانْتَصَبْتُ لِعُثْمَانَ حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقُلْتُ لَهُ
إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً وَهِيَ نَصِيحَةٌ فَقَالَ أَيُّهَا الْمَرْءُ أَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنْكَ فَانْصَرَفْتُ فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلاَةَ جَلَسْتُ إِلَى
الْمِسْوَرِ وَإِلَى ابْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فَحَدَّثْتُهُمَا بِالَّذِي قُلْتُ
لِعُثْمَانَ وَقَالَ لِي فَقَالاَ قَدْ قَضَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْكَ
فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ مَعَهُمَا إِذْ جَاءَنِي رَسُولُ عُثْمَانَ فَقَالاَ
لِي قَدْ ابْتَلاَكَ اللَّهُ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا
نَصِيحَتُكَ الَّتِي ذَكَرْتَ آنِفًا قَالَ فَتَشَهَّدْتُ ثُمَّ قُلْتُ إِنَّ
اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ
الْكِتَابَ وَكُنْتَ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنْتَ بِهِ وَهَاجَرْتَ الْهِجْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ
وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَيْتَ
هَدْيَهُ وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَحَقٌّ
عَلَيْكَ أَنْ تُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَقَالَ لِي يَا ابْنَ أَخِي آدْرَكْتَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قُلْتُ لاَ
وَلَكِنْ قَدْ خَلَصَ إِلَيَّ مِنْ عِلْمِهِ مَا خَلَصَ إِلَى الْعَذْرَاءِ فِي
سِتْرِهَا قَالَ فَتَشَهَّدَ عُثْمَانُ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ
وَكُنْتُ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَآمَنْتُ بِمَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهَاجَرْتُ الْهِجْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ كَمَا قُلْتَ وَصَحِبْتُ
رَسُولَ اللَّهِ وَبَايَعْتُهُ وَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ حَتَّى
تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَخْلَفَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَوَاللَّهِ مَا
عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ
وَلاَ غَشَشْتُهُ ثُمَّ اسْتُخْلِفْتُ أَفَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمْ مِثْلُ الَّذِي
كَانَ لَهُمْ عَلَيَّ قَالَ بَلَى قَالَ فَمَا هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي
تَبْلُغُنِي عَنْكُمْ فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ
فَسَنَأْخُذُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ قَالَ فَجَلَدَ الْوَلِيدَ
أَرْبَعِينَ جَلْدَةً وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَجْلِدَهُ وَكَانَ هُوَ
يَجْلِدُهُ"
وَقَالَ يُونُسُ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ "أَفَلَيْسَ
لِي عَلَيْكُمْ مِنْ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ {بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ} مَا ابْتُلِيتُمْ بِهِ مِنْ
شِدَّةٍ وَفِي مَوْضِعٍ الْبَلاَءُ الِابْتِلاَءُ وَالتَّمْحِيصُ مَنْ بَلَوْتُهُ
وَمَحَّصْتُهُ أَيْ اسْتَخْرَجْتُ مَا عِنْدَهُ يَبْلُو يَخْتَبِرُ مُبْتَلِيكُمْ
مُخْتَبِرُكُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ {بَلاَءٌ عَظِيمٌ} النِّعَمُ وَهِيَ مِنْ
أَبْلَيْتُهُ وَتِلْكَ مِنْ ابْتَلَيْتُهُ.
3873- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ
قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ
(7/187)
أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ
ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا
للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "إِنَّ أُولَئِكَ
إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ
مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِيكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ
اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
3874- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
سَعِيدٍ السَّعِيدِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قَالَتْ:
"قَدِمْتُ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأَنَا جُوَيْرِيَةٌ فَكَسَانِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمِيصَةً لَهَا أَعْلاَمٌ فَجَعَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ الأَعْلاَمَ بِيَدِهِ
وَيَقُولُ سَنَاهْ سَنَاهْ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ يَعْنِي حَسَنٌ حَسَنٌ".
3875- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ
سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَيَرُدُّ عَلَيْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ
عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا فَقُلْنَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا قَالَ
إِنَّ فِي الصَّلاَةِ شُغْلًا فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ كَيْفَ تَصْنَعُ أَنْتَ
قَالَ: أَرُدُّ فِي نَفْسِي"
3876- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ
حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا
سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "لَكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ"
قوله: "باب هجرة الحبشة" أي هجرة المسلمين من مكة إلى أرض الحبشة، وكان
وقوع ذلك مرتين، وذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث،
وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وقيل: وامرأتان، وقيل: كانوا اثني
عشر رجلا وقيل: عشرة، وأنهم خرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار،
وذكر ابن إسحاق أن السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما رأى
المشركين يؤذونهم ولا يستطيع أن يكفهم عنهم " إن بالحبشة ملكا لا يظلم عنده
أحد، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجا" ، فكان أول من خرج منهم عثمان
بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأخرج يعقوب بن
سفيان بسند موصول إلى أنس قال."أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم
خبرهما، فقدمت امرأة فقالت له.لقد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال:
صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط". قلت: وبهذا تظهر النكتة
في تصدير البخاري الباب بحديث عثمان، وقد سرد ابن إسحاق أسماءهم، فأما الرجال فهم
عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وأبو حذيفة بن عتبة ومصعب بن
عمير وأبو سلمة بن عبد الأسود وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وأبو
سبرة بن أبي رهم العامري، قال ويقال بدله حاطب بن عمرو العامري، قال: فهؤلاء
العشرة أول من
(7/188)
خرج من المسلمين إلى الحبشة. قال ابن هشام. وبلغني أنه كان عليهم عثمان بن مظعون، وأما النسوة فهن رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم وسهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة وأم سلمة بنت أبي أمية امرأة أبي سلمة وليلى بنت أبي حثمة امرأة عامر بن ربيعة، ووافقه الواقدي في سردهن وزاد اثنين عبد الله بن مسعود وحاطب بن عمرو، مع أنه ذكر في أول كلامه أنهم كانوا أحد عشر رجلا فالصواب ما قال ابن إسحاق أنه اختلف في الحادي عشر هل هو أبو سبرة أو حاطب، وأما ابن مسعود فجزم ابن إسحاق بأنه إنما كان في الهجرة الثانية، ويؤيده ما روى أحمد بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: "بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا فيهم عبد الله بن مسعود وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون وأبو موسى الأشعري" فذكر الحديث. وقد استشكل ذكر أبي موسى فيهم، لأن المذكور في الصحيح أن أبا موسى خرج من بلاده هو وجماعة قاصدا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فألقتهم السفينة بأرض الحبشة فحضروا مع جعفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، ويمكن الجمع بأن يكون أبو موسى هاجر أولا إلى مكة فأسلم فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع من بعث إلى الحبشة فتوجه إلى بلاد قومه وهم مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحقق استقرار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة فألقتهم السفينة لأجل هيجان الريح إلى الحبشة، فهذا محتمل، وفيه جمع بين الأخبار فليعتمد، والله أعلم. وعلى هذا فقول أبي موسى" بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم" أي إلى المدينة، وليس المراد بلغنا مبعثه، ويؤيده أنه يبعد كل البعد أن يتأخر علم مبعثه إلى مضي نحو عشرين سنة، ومع الحمل على مخرجه إلى المدينة فلا بد فيه من زيادة استقراره بها وانتصافه ممن عاداه ونحو ذلك، وإلا فبعيد أيضا أن يخفى عنهم خبر خروجه إلى المدينة ست سنين، ويحتمل أن إقامة أبي موسى بأرض الحبشة طالت لأجل تأخر جعفر عن الحضور إلى المدينة حتى يأتيه الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوم، وأما عثمان بن مظعون فذكر فيهم وإن كان مذكورا في الأول، لأن ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أهل السير ذكروا أن المسلمين بلغهم وهم بأرض الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فرجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكة فلم يجدوا ما أخبروا به من ذلك صحيحا، فرجعوا، وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية. وسرد ابن إسحاق أسماء أهل الهجرة الثانية وهم زيادة على ثمانين رجلا. وقال ابن جرير الطبري: كانوا اثنين وثمانين رجلا سوى نسائهم وأبنائهم، وشك في عمار بن ياسر هل كان فيهم وبه تتكمل العدة ثلاثة وثمانين، وقيل: إن عدة نسائهم كانت ثماني عشرة امرأة. قوله: "وقالت عائشة أريت دار هجرتكم إلخ" هذا وقع بعد الهجرة الثانية إلى الحبشة كما سيأتي بيانه موصولا مطولا في "باب الهجرة إلى المدينة". قوله فيه "عن أبي موسى وأسماء" أما حديث أبي موسى فسيأتي في آخر الباب، وأما حديث أسماء وهي بنت عميس فسيأتي في غزوة خيبر من طريق أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه" بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن - فذكر الحديث وفيه - ودخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة، وقد كانت أسماء هاجرت فيمن هاجر إلى النجاشي" الحديث. قصة الوليد بن عقبة التي مضت في مناقب عثمان تقدم شرحها مستوفي بتمامه، وفيه قوله هنا: "أن تكلم خالك" والغرض منها قول عثمان" وهاجرت الهجرتين الأوليين" كما قالت و "الأوليين" بضم الهمزة وتحتانيتين تثنية أولى، وهو على طريق التغليب بالنسبة إلى هجرة الحبشة فإنها كانت أولى وثانية، وأما إلى المدينة فلم تكن إلا واحدة، ويحتمل أن تكون الأولية بالنسبة إلى أعيان من هاجر فإنهم هاجروا متفرقين فتعدد بالنسبة إليهم، فمن أول من هاجر عثمان. قوله: "وقال يونس" هو ابن يزيد "وابن أخي
(7/189)
الزهري" هو محمد بن عبد الله بن مسلم "عن الزهري" بالإسناد المذكور. وطريق يونس وصلها المؤلف في مناقب عثمان، وأما طريق ابن أخي الزهري فوصلها قاسم بن أصبغ في مصنفه ومن طريقه ابن عبد البر في تمهيده وهو باللفظ الذي علقه المصنف، وهذا التعليق عن هذين وكذا الذي بعده من التفسير في رواية المستملي وحده. قوله: "قال أبو عبد الله بلاء من ربكم إلخ" وقع في رواية المستملي وحده أيضا، وأورده هنا لقوله: "قد ابتلاك الله" والمراد به الاختيار، ولهذا قال: "هو من بلوته إذا استخرجت ما عنده" واستشهد بقوله نبلو أي نختبر، ومبتليكم أي مختبركم، ثم استطرد فقال وأما قوله بلاء من ربكم عظيم أي نعيم، وهو من ابتليته إذا أنعمت عليه، والأول من ابتليته إذا امتحنته، وهذا كله كلام أبي عبيدة في "المجاز" فرقه في مواضعه، وتحرير ذلك أن لفظ البلاء من الأضداد، يطلق ويراد به النعمة، ويطلق ويراد به النقمة، ويطلق أيضا على الاختبار، ووقع ذلك كله في القرآن كقوله تعالى: {بَلاءً حَسَناً} فهذا من النعمة والعطية، وقوله: {بلاء عظيم} فهذا من النقمة، ويحتمل أن يكون من الاختبار، وكذلك قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} والابتلاء بلفظ الافتعال يراد به النقمة والاختيار أيضا. حديث عائشة" أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة" الحديث كانت أم سلمة قد هاجرت في الهجرة الأولى إلى الحبشة مع زوجها أبي سلمة بن عبد الأسد كما تقدم بيانه، وهاجرت أم حبيبة وهي بنت أبي سفيان في الهجرة الثانية مع زوجها عبيد الله بن جحش فمات هناك، ويقال إنه قد تنصر، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعده، وقد تقدم شرح الحديث في كتاب الجنائز. حديث أم خالد بنت خالد وهو ابن سعيد بن العاص بن أمية، وكان أبوها ممن هاجر في الهجرة الثانية إلى الحبشة، وولدت له هناك فسماها أمة وكناها أم خالد، وأمها أمينة بالتصغير ويقال همينة بالهاء بدل الهمزة بنت خلف الخزاعية. قوله: "حدثنا إسحاق بن سعيد السعيدي" هو ابن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، وجد أبيه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص الأصغر هو ابن عم أم خالد المذكورة، وسيأتي شرح الحديث في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. حديث عبد الله وهو ابن مسعود، وسليمان في الإسناد هو الأعمش. قوله: "فلما رجعنا من عند النجاشي" قد قدمت من عند أحمد حديث ابن مسعود أنه كان ممن هاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية، وتقدم شرح حديث الباب مستوفى في آخر الصلاة، وبينت هناك أن رجوع ابن مسعود من الحبشة وقع لما بلغ المسلمين الذين بالحبشة أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة، فوصل منهم إلى مكة أكثر من ثلاثين رجلا، وكان وصول ابن مسعود إلى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر، وظهر بما تقدم من أسماء أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة وهم من زعم أن ابن مسعود كان منهم وإنما كان من أهل الهجرة الثانية. حديث أبي موسى وهو الأشعري قال: "بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم: "أي مبعثه. قوله: "ونحن باليمن" أي من بلاد قومهم. قوله: "فركبنا سفينة" أي لنصل فيها إلى مكة. قوله: "فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي" كأن الريح هاجت عليهم فما ملكوا أمرهم حتى أوصلتهم بلاد الحبشة. قوله: في آخر الحديث "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكم أنتم أهل السفينة هجرتان" سيأتي هذا الحديث في غزوة خيبر مطولا، وفيه البيان بأن هذه الجملة الأخيرة إنما هي من حديث أسماء بنت عميس كما أشرت إليه أول الباب والله أعلم. "تكملة": أرض الحبشة بالجانب الغربي من بلاد اليمن ومسافتها طويلة جدا، وهم أجناس، وجميع فرق السودان يعطون الطاعة لملك الحبشة، وكان في القديم يلقب بالنجاشي، وأما اليوم فيقال له الحطي بفتح المهملة وكسر الطاء المهملة الخفيفة بعدها
(7/190)
تحتانية خفيفة، ويقال إنهم من ولد حبش بن كوش بن حام، قال ابن دريد: جمع الحبش أحبوش بضم أوله، وأما قولهم الحبشة فعلى غير القياس، وقد قالوا أيضا حبشان وقالوا أحبش، وأصل التحبيش التجميع، والله أعلم.
(7/191)
38 - باب مَوْتُ النَّجَاشِيِّ
3877- حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ
جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "حِينَ مَاتَ النَّجَاشِيُّ مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ
فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ"
3878- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ عَطَاءً حَدَّثَهُمْ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ
نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ
فَصَفَّنَا وَرَاءَهُ فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ"
3879- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ
فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا" تَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ.
3880- حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو
سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى لَهُمْ النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ فِي الْيَوْمِ
الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَقَالَ اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ "
3881- وَعَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفَّ بِهِمْ فِي الْمُصَلَّى
فَصَلَّى عَلَيْهِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا
"باب موت النجاشي" تقدم ذكر اسمه واسم أبيه في الجنائز، وأن النجاشي لقب
من ملك الحبشة، وأفاد ابن التين أنه بسكون الياء يعني أنها أصلية لا ياء النسب،
وحكى غيره تشديدها أيضا، وحكى ابن دحية كسر نونه.وذكر موته هنا استطرادا لكون
المسلمين هاجروا إليه، وإنما وقعت وفاته بعد الهجرة سنة تسع عند الأكثر، وقيل: سنة
ثمان قبل فتح مكة كما ذكره البيهقي في" دلائل النبوة" وقد استشكل كونه
لم يترجم بإسلامه وهذا موضعه وترجم بموته، وإنما مات بعد ذلك بزمن طويل، والجواب
أنه لما لم يثبت عنده القصة الواردة في صفة إسلامه وثبت عنده الحديث الدال على
إسلامه وهو صريح في موته ترجم به ليستفاد من الصلاة عليه أنه كان قد أسلم. قوله:
"فصلوا على أخيكم أصحمة" بمهملتين وزن أربعة، تقدم ضبطه في كتاب الجنائز
وبيان الاختلاف فيه وأنه قيل فيه بالخاء المعجمة. قوله: "حدثنا سعيد" هو
ابن أبي عروبة. قوله: "عن سليم" هو بفتح أوله. قوله: "تابعه عبد
الصمد" هو ابن عبد الوارث أي أن عبد الصمد تابع يزيد بن هارون في روايته
(7/191)
إياه عن سليم بن حبان، وقد تقدم بيان من وصله في كتاب الجنائز. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان. قوله: "وعن صالح عن ابن شهاب" هو معطوف على الإسناد الموصول. قوله: "حدثني سعيد" هو ابن المسيب، ووقع في رواية الكشميهني وحده" وأبو سلمة بن عبد الرحمن" وهو زيادة لم يتابع عليها ولم يذكرها مسلم في إسناد هذا الحديث، وقد تقدم الكلام على مباحث حديثي الباب في كتاب الجنائز.
(7/192)
39 - باب تَقَاسُمُ الْمُشْرِكِينَ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
3882- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "حِينَ أَرَادَ حُنَيْنًا مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ "
قوله: "باب تقاسم المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم" كان ذلك أول
يوم من المحرم سنة سبع من البعثة وكان النجاشي قد جهز جعفرا ومن معه، فقدموا
والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وذلك في صفر منها، فلعله مات بعد أن جهزهم، وفي
"الدلائل" للبيهقي أنه مات قبل الفتح وهو أشبه، قال ابن إسحاق وموسى ابن
عقبة وغيرهما من أصحاب المغازي: لما رأت قريش أن الصحابة قد نزلوا أرضا أصابوا بها
أمانا وأن عمر أسلم وأن الإسلام فشا في القبائل أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه إلى ذلك حتى كفارهم
فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية، فلما رأت قريش ذلك أجمعوا أن يكتبوا بينهم وبين
بني هاشم والمطلب كتابا أن لا يعاملوهم ولا يناكحوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ففعلوا ذلك، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وكان كاتبها منصور
بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فشلت أصابعه، ويقال إن
الذي كتبها النضر بن الحارث، وقيل: طلحة بن أبي طلحة العبدري، قال ابن إسحاق،
فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فكانوا معه كلهم إلا أبا لهب فكان مع
قريش، وقيل: كان ابتداء حصرهم في المحرم سنة سبع من المبعث، قال ابن إسحاق:
فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، وجزم موسى بن عقبة بأنها كانت ثلاث سنين حتى
جهدوا ولم يكن يأتيهم شيء من الأقوات إلا خفية، حتى كانوا يؤذون من اطلعوا على أنه
أرسل إلى بعض أقاربه شيئا من الصلات، إلى أن قام في نقض الصحيفة نفر من أشدهم في
ذلك صنيعا هشام بن عمرو بن الحارث العامري، وكانت أم أبيه تحت هاشم بن عبد مناف
قبل أن يتزوجها جده، فكان يصلهم وهم في الشعب، ثم مشى إلى زهير بن أبي أمية وكانت
أمه عاتكة بنت عبد المطلب فكلمه في ذلك فوافقه، ومشيا جميعا إلى المطعم بن عدي
وإلى زمعة بن الأسود فاجتمعوا على ذلك، فلما جلسوا بالحجر تكلموا في ذلك وأنكروه
وتواطئوا عليه فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل. وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة
فمزقوها وأبطلوا حكمها. وذكر ابن هشام أنهم وجدوا الأرضة قد أكلت جميع ما فيها إلا
اسم الله تعالى. وأما ابن إسحاق وموسى بن عقبة وعروة فذكروا عكس ذلك أن الأرضة لم
تدع اسما لله تعالى إلا أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعة، فالله أعلم. وذكر
الواقدي أن خروجهم من الشعب كان في سنة عشر من المبعث، وذلك قبل الهجرة بثلاث
سنين، ومات أبو
(7/192)
طالب بعد أن خرجوا بقليل. قال ابن إسحاق ومات هو وخديجة في عام واحد، فنالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تنله في حياة أبي طالب. ولما لم يثبت عند البخاري شيء من هذه القصة اكتفى بإيراد حديث أبي هريرة لأن فيه دلالة على أصل القصة، لأن الذي أورده أهل المغازي من ذلك كالشرح لقوله في الحديث: "تقاسموا على الكفر". قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حين أراد حنينا: منزلنا غدا إن شاء الله تعالى بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر " هكذا أورده مختصرا، وقد تقدم في الحج من طريق شعيب عن ابن شهاب الزهري بهذا الإسناد بلفظ: "قال حين أراد قدوم مكة" وهذا لا يعارض ما في الباب، لأنه يحمل أنه قال ذلك حين أراد دخول مكة في غزوة الفتح، وفي ذلك القدوم غزا حنينا، ولكن تقدم أيضا من طريق شعيب عن الزهري بلفظ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من الغد يوم النحر وهو بمنى: نحن نازلون غدا" الحديث، وهذا ظاهر في أنه قاله في حجة الوداع فيحمل قوله في رواية الأوزاعي" حين أراد قدوم مكة" أي صادرا من منى إليها لطواف الوداع، ويحتمل التعدد، وسيأتي بيان ذلك مع بقية شرح الحديث في غزوة الفتح من كتاب المغازي إن شاء الله تعالى.
(7/193)
3 - باب قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ
3883- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْمَلِكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإِنَّهُ كَانَ
يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ قَالَ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلاَ أَنَا
لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ"
[الحديث 3883- طرفاه في: 6572,6208]
3884- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ
لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ أَ يْ عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ
كَلَّمَهُمْ بِهِ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ فَنَزَلَتْ {مَا كَانَ
لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ
كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ
الْجَحِيمِ} [113 التوبة] وَنَزَلَتْ {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [56
القصص]
3885- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا
ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ فَقَالَ لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ
شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ
كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ "
[الحديث 3885- طرفه في: 6564]
قوله: "باب قصة أبي طالب" واسمه عند الجميع عبد مناف، وشذ من قال عمران،
بل هو قول باطل نقله ابن
(7/193)
تيمية في كتاب الرد على الرافضي أن بعض
الروافض زعم أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ
إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} أن آل عمران هم آل أبي طالب وأن اسم أبي طالب عمران
واشتهر بكنيته. وكان شقيق عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أوصى
به عبد المطلب عند موته فكفله إلى أن كبر، واستمر على نصره بعد أن بعث إلى أن مات
أبو طالب، وقد ذكرنا أنه مات بعد خروجهم من الشعب، وذلك في آخر السنة العاشرة من
المبعث، وكان يذب عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرد عنه كل من يؤذيه، وهو مقيم مع
ذلك على دين قومه.
وقد تقدم قريبا حديث ابن مسعود" وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه
الله بعمه" وأخباره في حياطته والذب عنه معروفة مشهورة، ومما اشتهر من شعره
في ذلك قوله:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
وقوله:
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا ... ولما نقاتل حوله ونناضل
وقد تقدم شيء من هذه القصيدة في كتاب الاستسقاء، وحديث ابن عباس في هذا الباب يشهد
لذلك. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد القطان، وسفيان هو الثوري، وعبد
الملك هو ابن عمير، وعبد الله بن الحارث هو ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب،
والعباس عم جده. قوله: "ما أغنيت عن عمك" يعني أبا طالب. قوله:
"كان يحوطك" بضم الحاء المهملة من الحياطة وهي المراعاة، وفيه تلميح إلى
ما ذكره ابن إسحاق قال: "ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد قبل الهجرة
بثلاث سنين، وكانت خديجة له وزيرة صدق على الإسلام يسكن إليها، وكان أبو طالب له
عضدا وناصرا على قومه، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه
وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش
فعمر على رأسه ترابا: فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: فدخل رسول الله صلى الله
عليه وسلم بيته يقول ما نالتني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب". قوله:
"ويغضب لك" يشير إلى ما كان يرد به عنه من قول وفعل. قوله: "هو في
ضحضاح" بمعجمتين ومهملتين هو استعارة، فإن الضحضاح من الماء ما يبلغ الكعب،
ويقال أيضا لما قد قرب من الماء وهو ضد الغمرة، والمعنى أنه خفف عنه العذاب. وقد
ذكر في حديث أبي سعيد ثالث أحاديث الباب أنه" يجعل في ضحضاح يبلغ كعبيه يغلي
منه دماغه". ووقع في حديث ابن عباس عند مسلم: "إن أهون أهل النار عذابا
أبو طالب له نعلان يغلي منهما دماغه" ولأحمد من حديث أبي هريرة مثله لكن لم
يسم أبا طالب، وللبزار من حديث جابر" قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هل نفعت
أبا طالب؟ قال: أخرجته من النار إلى ضحضاح منها" وسيأتي في أواخر الرقاق من
حديث النعمان بن بشير نحوه وفي آخره: "كما يغلي المرجل بالقمقم" والمرجل
بكسر الميم وفتح الجيم الإناء الذي يغلي فيه الماء وغيره، والقمقم بضم القافين
وسكون الميم الأولى معروف وهو الذي يسخن فيه الماء. قال ابن الأثير: كذا وقع
"كما يغلي المرجل بالقمقم" وفيه نظر. ووقع في نسخة" كما يغلي
المرجل والقمقم" وهذا أوضح إن ساعدته الرواية، انتهى. ويحتمل أن تكون الباء
بمعنى مع، وقيل: القمقم هو البسر كانوا يغلونه على النار استعجالا لنضجه فإن ثبت
هذا زال الإشكال. "تنبيه": في سؤال العباس عن حال أبي طالب ما يدل على
ضعف ما أخرجه ابن إسحاق من حديث ابن عباس بسند فيه من لم يسم" أن أبا طالب
لما تقارب منه الموت بعد أن عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا
الله فأبى، قال فنظر العباس إليه وهو يحرك شفتيه فأصغى إليه فقال:
(7/194)
يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة
التي أمرته أن يقولها" وهذا الحديث لو كان طريقه صحيحا لعارضه هذا الحديث
الذي هو أصح منه فضلا عن أنه لا يصح. وروى أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن الجارود
من حديث علي قال: "لما مات أبو طالب قلت: يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد
مات، قال: اذهب فواره. قلت: إنه مات مشركا، فقال: اذهب فواره" الحديث. ووقفت
على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي
طالب ولا يثبت من ذلك شيء، وبالله التوفيق. وقد لخصت ذلك في ترجمة أبي طالب من
كتاب الإصابة. قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان. قوله: "عن
أبيه" هو حزن بفتح المهملة وسكون الزاي أي ابن أبي وهب المخزومي. قوله:
"أن أبا طالب لما حضرته الوفاة" أي قبل أن يدخل في الغرغرة قوله:
"أحاج" بتشديد الجيم وأصله أحاجج، وقد تقدم في أواخر الجنائز بلفظ:
"أشهد لك بها عند الله" وكأنه عليه الصلاة والسلام فهم من امتناع أبي
طالب من الشهادة في تلك الحالة أنه ظن أن ذلك لا ينفعه لوقوعه عند الموت أو لكونه
لم يتمكن من سائر الأعمال كالصلاة وغيرها، فلذلك ذكر له المحاججة. وأما لفظ
الشهادة فيحتمل أن يكون ظن أن ذلك لا ينفعه إذ لم يحضره حينئذ أحد من المؤمنين مع
النبي صلى الله عليه وسلم، فطيب قلبه بأن يشهد له بها فينفعه. وفي رواية أبي حازم
عن أبي هريرة عند أحمد" فقال أبو طالب: لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله
عليه إلا جزع الموت لأقررت بها عينك" وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس نحوه.
قوله: "وعبد الله بن أبي أمية" أي ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن
مخزوم، وهو أخو أم سلمة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، قد أسلم
عبد الله يوم الفتح واستشهد في تلك السنة في غزاة حنين. قوله: "على ملة عبد
المطلب" خبر مبتدأ محذوف، أي هو. وثبت كذلك في طريق أخرى. قوله: "فنزلت:
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعدما
تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. ونزلت إنك لا تهدي من أحببت" أما نزول هذه الآية
الثانية فواضح في قصة أبي طالب، وأما نزول التي قبلها ففيه نظر، ويظهر أن المراد
أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه وفي حق
غيره، ويوضح ذلك ما سيأتي في التفسير بلفظ: "فأنزل الله بعد ذلك {مَا كَانَ
لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية. وأنزل في أبي طالب {إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ} ولأحمد من طريق أبي حازم عن أبي هريرة في قصة أبي طالب" قال
فأنزل الله {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وهذا كله ظاهر في أنه مات على
غير الإسلام. ويضعف ما ذكره السهيلي أنه رأى في بعض كتب المسعودي1 أنه أسلم، لأن
مثل ذلك لا يعارض ما في الصحيح. قوله: "حدثني ابن الهاد" هو يزيد بن عبد
الله بن أسامة بن الهاد، وهو المراد بقوله في الرواية الثانية" عن يزيد
بهذا" أي الإسناد والمتن إلا ما نبه عليه. قوله: "عن عبد الله بن
خباب" أي المدني الأنصاري مولاهم، وكان من ثقات المدنيين، ولم أر له رواية عن
غير أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وروى عنه جماعة من التابعين من أقرانه ومن
بعده. قوله: "وذكر عنده عمه" زاد في رواية أخرى عن ابن الهاد الآتية في
الرقاق "أبو طالب" ويؤخذ من الحديث الأول أن الذاكر هو العباس بن عبد
المطلب لأنه الذي سأل عن ذلك. قوله: "يبلغ كعبيه" قال السهيلي: الحكمة
فيه أن أبا طالب كان تابعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بجملته، إلا أنه استمر
ثابت القدم على دين قومه، فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على دين
قومه، كذا قال، ولا يخلو عن نظر.
ـــــــ
1 المسعودي المؤرخ شيعي قح من دعاتهم.
(7/195)
قوله: "يغلي منه دماغه" وفي
الرواية التي تليها" يغلي منه أم دماغه" قال الداودي: المراد أم رأسه،
وأطلق على الرأس الدماغ من تسمية الشيء بما يقاربه ويجاوره. ووقع في رواية ابن
إسحاق" يغلي منه دماغه حتى يسيل على قدمه" وفي الحديث جواز زيارة القريب
المشرك وعيادته، وأن التوبة مقبولة ولو في شدة مرض الموت، حتى يصل إلى المعاينة
فلا يقبل، لقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنَا} ، وأن الكافر إذا شهد شهادة الحق نجا من العذاب لأن الإسلام يجب ما قبله،
وأن عذاب الكفار متفاوت، والنفع الذي حصل لأبي طالب من خصائصه ببركة النبي صلى
الله عليه وسلم وإنما عرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يقول لا إله إلا الله
ولم يقل فيها محمد رسول الله لأن الكلمتين صارتا كالكلمة الواحدة، ويحتمل أن يكون
أبو طالب كان يتحقق أنه رسول الله ولكن لا يقر بتوحيد الله، ولهذا قال في الأبيات
النونية:
ودعوتني وعلمت أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت قبل أمينا
فاقتصر على أمره بقول لا إله إلا الله، فإذا أقر بالتوحيد لم يتوقف على الشهادة
بالرسالة. "تكملة": من عجائب الاتفاق أن الذين أدركهم الإسلام من أعمام
النبي صلى الله عليه وسلم أربعة: لم يسلم منهم اثنان. وأسلم اثنان. وكان اسم من لم
يسلم ينافي أسامي المسلمين، وهما أبو طالب واسمه عبد مناف وأبو لهب واسمه عبد
العزى، بخلاف من أسلم وهما حمزة والعباس.
(7/196)
41 - باب حَدِيثِ الإِسْرَاءِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}
3886- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "سَمِعْتُ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي
قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلاَ اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ
أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" .
[الحديث 3886- طرفه في: 4710]
قوله: "حديث الإسراء، وقول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلاً} سيأتي البحث في لفظ {أَسْرَى} في تفسير سورة سبحان إن شاء
الله تعالى. قال ابن دحية: جنح البخاري إلى أن ليلة الإسراء كانت غير ليلة
المعراج، لأنه أفرد لكل منهما ترجمة. قلت: ولا دلالة في ذلك على التغاير عنده، بل
كلامه في أول الصلاة ظاهر في اتحادهما، وذلك أنه ترجم" باب كيف فرضت الصلاة
ليلة الإسراء" والصلاة إنما فرضت في المعراج، فدل على اتحادهما عنده، وإنما
أفرد كلا منهما بترجمة لأن كلا منهما يشتمل على قصة مفردة وإن كانا وقعا معا، وقد
روى كعب الأحبار أن باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، فأخذ
منه بعض العلماء أن الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج ليحصل العروج
مستويا من غير تعويج، وفيه نظر، لورود أن
(7/196)
في كل سماء بيتا معمورا، وأن الذي في السماء الدنيا حيال الكعبة، وكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور بغير تعويج، لأنه صعد من سماء إلى سماء إلى البيت المعمور، وقد ذكر غيره مناسبات أخرى ضعيفة فقيل الحكمة في ذلك أن يجمع صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة بين رؤية القبلتين، أو لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله فحصل له الرحيل إليه في الجملة ليجمع بين أشتات الفضائل، أو لأنه محل الحشر وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية، فكان المعراج منه أليق بذلك، أو للتفاؤل بحصول أنواع التقديس له حسا ومعنى، أو ليجتمع بالأنبياء جملة كما سيأتي بيانه، وسيأتي مناسبة أخرى للشيخ ابن أبي جمرة قريبا، والعلم عند الله. وقد اختلف السلف بحسب اختلاف الأخبار الواردة: فمنهم من ذهب إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه بعد المبعث، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل، نعم جاء في بعض الأخبار ما يخالف بعض ذلك، فجنح لأجل ذلك بعض أهل العلم منهم إلى أن ذلك كله وقع مرتين مرة في المنام توطئة وتمهيدا، ومرة ثانية في اليقظة كما وقع نظير ذلك في ابتداء مجيء الملك بالوحي، فقد قدمت في أول الكتاب ما ذكره ابن ميسرة التابعي الكبير وغيره أن ذلك وقع في المنام، وأنهم جمعوا بينه وبين حديث عائشة بأن ذلك وقع مرتين، وإلى هذا ذهب المهلب شارح البخاري وحكاه عن طائفة وأبو نصر بن القشيري ومن قبلهم أبو سعيد في" شرف المصطفى" قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم معاريج، منها ما كان في اليقظة ومنها ما كان في المنام، وحكاه السهيلي عن ابن العربي واختاره، وجوز بعض قائلي ذلك أن تكون قصة المنام وقعت قبل المبعث لأجل قول شريك في روايته عن أنس" وذلك قبل أن يوحى إليه" وقد قدمت في آخر صفة النبي صلى الله عليه وسلم بيان ما يرتفع به الإشكال ولا يحتاج معه إلى هذا التأويل، ويأتي بقية شرحه في الكلام على حديث شريك، وبيان ما خالفه فيه غيره من الرواة والجواب عن ذلك وشرحه مستوفى في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. وقال بعض المتأخرين: كانت قصة الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة، متمسكا بما ورد في حديث أنس من رواية شريك من ترك ذكر الإسراء، وكذا في ظاهر حديث مالك بن صعصعة هذا، ولكن ذلك لا يستلزم التعدد بل هو محمول على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر كما سنبينه. وذهب بعضهم إلى أن الإسراء كان في اليقظة والمعراج كان في المنام، أو أن الاختلاف في كونه يقظة أو مناما خاص بالمعراج لا بالإسراء، ولذلك لما أخبر به قريشا كذبوه في الإسراء واستبعدوا وقوعه ولم يتعرضوا للمعراج، وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} فلو وقع المعراج في اليقظة لكان ذلك أبلغ في الذكر، فلما لم يقع ذكره في هذا الموضع مع كونه شأنه أعجب وأمره أغرب من الإسراء بكثير دل على أنه كان مناما، وأما الإسراء فلو كان مناما لما كذبوه ولا استنكروه لجواز وقوع مثل ذلك وأبعد منه لآحاد الناس، وقيل كان الإسراء مرتين في اليقظة فالأولى رجع من بيت المقدس وفي صبيحته أخبر قريشا بما وقع، والثانية أسري به إلى بيت المقدس ثم عرج به من ليلته إلى السماء إلى آخر ما وقع، ولم يقع لقريش في ذلك اعتراض لأن ذلك عندهم من جنس قوله إن الملك يأتيه من السماء في أسرع من طرفة عين، وكانوا يعتقدون استحالة ذلك مع قيام الحجة على صدقه بالمعجزات الباهرة، لكنهم عاندوا في ذلك واستمروا على تكذيبه فيه، بخلاف إخباره أنه جاء بيت المقدس في ليلة واحدة ورجع،
(7/197)
فإنهم صرحوا بتكذيبه فيه فطلبوا منه نعت بيت المقدس لمعرفتهم به وعلمهم بأنه ما كان رآه قبل ذلك فأمكنهم استعلام صدقه في ذلك بخلاف المعراج، ويؤيد وقوع المعراج عقب الإسراء في ليلة واحدة رواية ثابت عن أنس عند مسلم، ففي أوله "أتيت بالبراق فركبت حتى أتيت بيت المقدس" فذكر القصة إلى أن قال: "ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا" وفي حديث أبي سعيد الخدري عند ابن إسحاق " فلما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج" فذكر الحديث، ووقع في أول حديث مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به فذكر الحديث، فهو وإن لم يذكر الإسراء إلى بيت المقدس فقد أشار إليه وصرح به في روايته فهو المعتمد. واحتج من زعم أن الإسراء وقع مفردا بما أخرجه البزار والطبراني وصححه البيهقي في "الدلائل" من حديث شداد بن أوس قال: "قلت يا رسول الله كيف أسري بك؟ قال: صليت صلاة العتمة بمكة فأتاني جبريل بدابة " فذكر الحديث في مجيئه بيت المقدس وما وقع له فيه، قال: "ثم انصرف بي، فمررنا بعير لقريش بمكان كذا" فذكره قال: "ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة" وفي حديث أم هانئ عند ابن إسحاق وأبي يعلى نحو ما في حديث أبي سعيد هذا، فإن ثبت أن المعراج كان مناما على ظاهر رواية شريك عن أنس فينتظم من ذلك أن الإسراء وقع مرتين. مرة على انفراده ومرة مضموما إليه المعراج وكلاهما في اليقظة، والمعراج وقع مرتين مرة في المنام على انفراده توطئة وتمهيدا، ومرة في اليقظة مضموما إلى الإسراء. وأما كونه قبل البعث فلا يثبت، ويأتي تأويل ما وقع في رواية شريك إن شاء الله تعالى. وجنح الإمام أبو شامة إلى وقوع المعراج مرارا، واستند إلى ما أخرجه البزار وسعيد بن منصور من طريق أبي عمران الجوني عن أنس رفعه قال: "بينا أنا جالس إذ جاء جبريل فوكز ببن كتفي، فقمنا إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر، فقعدت في أحدهما وقعد جبريل في الآخر، فارتفعت حتى سدت الخافقين" الحديث وفيه: "ففتح لي باب من السماء، ورأيت النور الأعظم، وإذا دونه حجاب رفرف الدر والياقوت" ورجاله لا بأس بهم، إلا أن الدار قطني ذكر له علة تقتضي إرساله، وعلى كل حال فهي قصة أخرى الظاهر أنها وقعت بالمدينة، ولا بعد في وقوع أمثالها، وإنما المستبعد وقوع التعدد في قصة المعراج التي وقع فيها سؤاله عن كل نبي وسؤال أهل كل باب هل بعث إليه وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك فإن تعدد ذلك في اليقظة لا يتجه، فيتعين رد بعض الروايات المختلفة إلى بعض أو الترجيح إلا أنه لا بعد في جميع وقوع ذلك في المنام توطئة ثم وقوعه في اليقظة على وفقه كما قدمته. ومن المستغرب قول ابن عبد السلام في تفسيره: كان الإسراء في النوم واليقظة، ووقع بمكة والمدينة. فإن كان يريد تخصيص المدينة بالنوم ويكون كلامه على طريق اللف والنشر غير المرتب فيحتمل ويكون الإسراء الذي اتصل به المعراج وفرضت فيه الصلوات في اليقظة بمكة والآخر في المنام بالمدينة، وينبغي أن يزاد فيه أن الإسراء في المنام تكرر في المدينة النبوية، وفي الصحيح حديث سمرة الطويل الماضي في الجنائز، وفي غيره حديث عبد الرحمن بن سمرة الطويل، وفي الصحيح حديث ابن عباس في رؤياه الأنبياء، وحديث ابن عمر في ذلك وغير ذلك، والله أعلم. قوله: {سُبْحَانَ} أصلها للتنزيه وتطلق في موضع التعجب، فعلى الأول المعنى تنزه الله عن أن يكون رسوله كذابا، وعلى الثاني عجب الله عباده بما أنعم به على رسوله، ويحتمل أن تكون بمعنى الأمر أي سبحوا الذي أسرى. قوله: {أَسْرَى} مأخوذ من السرى وهو سير الليل، تقول أسرى وسرى إذا سار ليلا بمعنى، هذا قول الأكثر. وقال الحوفي: أسرى سار ليلا، وسرى سار نهارا، وقيل أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره وهذا أقرب. والمراد بقوله: {أَسْرَى
(7/198)
بِعَبْدِهِ} أي جعل البراق يسري به كما يقال أمضيت كذا أي جعلته يمضي، وحذف المفعول لدلالة السياق عليه ولأن المراد ذكر المسرى به لا ذكر الدابة، والمراد بقوله: {بِعَبْدِهِ} محمد عليه الصلاة والسلام اتفاقا والضمير لله تعالى والإضافة للتشريف، وقوله: {لَيْلاً} ظرف للإسراء وهو للتأكيد، وفائدته رفع توهم المجاز لأنه قد يطلق على سير النهار أيضا، ويقال بل هو إشارة إلى أن ذلك وقع في بعض الليل لا في جميعه، والعرب تقول سرى فلان ليلا إذا سار بعضه، وسرى ليلة إذا سار جميعها، ولا يقال أسرى إلا إذا وقع سيره في أثناء الليل، وإذا وقع في أوله يقال أدلج ومن هذا قوله تعالى في قصة موسى وبني إسرائيل {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} أي من وسط الليل. قوله: "سمعت جابر بن عبد الله" كذا في رواية الزهري عن أبي سلمة وخالفه عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة فقال: "عن أبي هريرة" أخرجه مسلم، وهو محمول على أن لأبي سلمة فيه شيخين لأن في رواية عبد الله بن الفضل زيادة ليست في رواية الزهري. قوله: "لما كذبني" في رواية الكشميهني: "كذبتني" بزيادة مثناة وكلاهما جائز، وقد وقع بيان ذلك في طرق أخرى: فروى البيهقي في"الدلائل" من طريق صالح بن كيسان عن الزهري عن أبي سلمة قال: "افتتن ناس كثير - يعني عقب الإسراء - فجاء ناس إلى أبي بكر فذكروا له فقال: أشهد أنه صادق. فقالوا: وتصدقه بأنه أتى الشام في ليلة واحدة ثم رجع إلى مكة؟ قال نعم، إني أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء قال فسمي بذلك الصديق" قال سمعت جابر يقول فذكر الحديث، وفي حديث ابن عباس عند أحمد والبزار بإسناد حسن قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كان ليلة أسري بي وأصبحت بمكة مر بي عدو الله أبو جهل فقال: هل كان من شيء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم، قال فإن دعوت قومك أتحدثهم بذلك؟ قال: نعم. قال: يا معشر بني كعب بن لؤي. قال فانفضت إليه المجالس حتى جاءوا إليهما فقال: حدث قومك بما حدثني، فحدثتهم، قال فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا، قالوا وتستطيع أن تنعت لنا المسجد" الحديث. ووقع في غير هذه الرواية بيان ما رآه ليلة الإسراء، فمن ذلك ما وقع عند النسائي من رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل" الحديث وفيه: "فركبت ومعي جبريل، فسرت فقال: انزل فصل، ففعلت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة" يعني بفتح الجيم، ووقع في حديث شداد بن أوس عند البزار والطبراني أنه " أول ما أسري به مر بأرض ذات نخل، فقال له جبريل انزل فصل، فنزل فصلى، فقال: صليت بيثرب" ثم قال في روايته: "ثم قال: انزل فصل مثل الأول، قال: صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى ثم قال: انزل - فذكر مثله - قال صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى" وقال في رواية شداد بعد قوله يثرب "ثم مر بأرض بيضاء فقال: انزل فصل، فقال: صليت بمدين" وفيه أنه دخل المدينة من بابها اليماني فصلى في المسجد، وفيه أنه مر في رجوعه بعير لقريش فسلم عليهم فقال بعضهم: هذا صوت محمد، وفيه أنه أعلمهم بذلك وأن عيرهم تقدم في يوم كذا، فقدمت الظهر يقدمهم الجمل الذي وصفه، وزاد في رواية يزيد بن أبي مالك " ثم دخلت بيت المقدس، فجمع لي الأنبياء، فقدمني جبريل حتى أممتهم" وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة عن أنس عند البيهقي في "الدلائل" " أنه مر بشيء يدعوه متنحيا عن الطريق، فقال له جبريل: سر، وأنه مر على عجوز فقال: ما هذه: فقال سر، وأنه مر بجماعة فسلموا فقال له جبريل اردد عليهم" وفي آخره "فقال له: الذي دعاك إبليس، والعجوز الدنيا، والذين سلموا
(7/199)
إبراهيم وموسى وعيسى" . وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني والبزار أنه "مر بقوم يزرعون ويحصدون، كلما حصدوا عاد كما كان، قال جبريل: هؤلاء المجاهدون. ومر بقوم ترضخ رءوسهم بالصخر كلما رضخت عادت، قال: هؤلاء الذين تثاقل رءوسهم عن الصلاة. ومر بقوم على عوراتهم رقاع يسرحون كالأنعام، قال: هؤلاء الذين لا يؤدون الزكاة. ومر بقوم يأكلون لحما نيئا خبيثا ويدعون لحما نضيجا طيبا قال: هؤلاء الزناة. ومر برجل جمع حزمة حطب لا يستطيع حملها ثم هو يضم إليها غيرها، قال: هذا الذي عنده الأمانة لا يؤديها وهو يطلب أخرى. ومر بقوم تقرض ألسنتهم وشفاههم، كلما قرضت عادت قال: هؤلاء خطباء الفتنة. ومر بثور عظيم يخرج من ثقب صغير يريد أن يرجع فلا يستطيع، قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة فيندم فيريد أن يردها فلا يستطيع" وفي حديث أبي هريرة عند البزار والحاكم أنه صلى ببيت المقدس مع الملائكة وأنه أتي هناك بأرواح الأنبياء فأثنوا على الله، وفيه قول إبراهيم "لقد فضلكم محمد" وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم عن أنس" ثم بعث له آدم فمن دونه فأمهم تلك الليلة" أخرجه الطبراني. وعند مسلم من رواية عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة رفعه: "ثم حانت الصلاة فأممتهم" وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط"ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمدا" وفيه: "ثم مر بقوم بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خر، وأن جبريل قال له: هم آكلو الربا. وأنه مر بقوم مشافرهم كالإبل يلتقمون حجرا فيخرج من أسافلهم، وأن جبريل قال له: هؤلاء أكلة أموال اليتامى". قوله: "فجلى الله لي بيت المقدس" قيل معناه كشف الحجب بيني وبينه حتى رأيته، ووقع في رواية عبد الله بن الفضل عن أم سلمة عند مسلم المشار إليها" قال فسألوني عن أشياء لم أثبتها، فكربت كربا لم أكرب مثله قط، فرفع الله لي بيت المقدس أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا نبأتهم به" ويحتمل أن يريد أنه حمل إلى أن وضع بحيث يراه ثم أعيد، وفي حديث ابن عباس المذكور" فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع عند دار عقيل فنعته وأنا أنظر إليه" وهذا أبلغ في المعجزة، ولا استحالة فيه، فقد أحضر عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان، وهو يقتضي أنه أزيل من مكانه حتى أحضر إليه، وما ذاك في قدرة الله بعزيز. ووقع في حديث أم هانئ عند ابن سعد" فخيل لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته" فإن لم يكن مغيرا من قوله: "فجلى" وكان ثابتا احتمل أن يكون المراد أنه مثل قريبا منه، كما تقدم نظيره في حديث: "رأيت الجنة والنار" وتأول قوله: "جيء بالمسجد" أي جيء بمثاله والله أعلم. ووقع حديث شداد بن أوس عند البزار والطبراني ما يؤيد الاحتمال الأول ففيه: "ثم مررت بعير لقريش - فذكر القصة ثم أتيت أصحابي بمكة قبل الصبح، فأتاني أبو بكر فقال: أين كنت الليلة؟ فقال: إني أتيت بيت المقدس، فقال: إنه مسيرة شهر فصفه لي. قال ففتح لي شراك كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه" وفي حديث أم هانئ أيضا أنهم" قالوا له كم للمسجد باب؟ قال: ولم أكن عددتها، فجعلت أنظر إليه وأعدها بابا بابا" وفيه عند أبي يعلى أن الذي سأله عن صفة بيت المقدس هو المطعم بن عدي والد جبير بن مطعم، وفيه من الزيادة" فقال رجل من القوم: هل مررت بإبل لنا في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم والله، قد وجدتهم قد أضلوا بعيرا لهم فهم في طلبه، ومررت بإبل بني فلان انكسرت لهم ناقة حمراء، قالوا فأخبرنا عن عدتها وما فيها من الرعاة، قال: كنت عن عدتها مشغولا، فقام فأتى الإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاء ثم أتى قريشا فقال: هي كذا وكذا، وفيها من الرعاء فلان وفلان"فكان كما قال". قال الشيخ أبو محمد بن أبي
(7/200)
جمرة: الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحق لمعاندة من يريد إخماده، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلا إلى البيان والإيضاح، فلما ذكر أنه أسري به إلى بيت المقدس سألوه عن تعريفات جزئيات من بيت المقدس كانوا رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكره، فكان ذلك زيادة في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد والمعاند، انتهى ملخصا.
(7/201)
42 - باب الْمِعْرَاجِ
3887- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى
حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ "بَيْنَمَا أَنَا فِي
الْحَطِيمِ وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدَّ
قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ
وَهُوَ إِلَى جَنْبِي مَا يَعْنِي بِهِ قَالَ مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى
شِعْرَتِهِ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مِنْ قَ صِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ فَاسْتَخْرَجَ
قَلْبِي ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا فَغُسِلَ
قَلْبِي ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ
وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا
حَمْزَةَ قَالَ أَنَسٌ نَعَمْ يَ ضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ
فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ
الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ
قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا
بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ
فَقَالَ هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ
السَّلاَمَ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ
هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ
إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ
فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ قَالَ هَذَا
يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ثُمَّ قَالاَ
مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى
السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ
وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ
مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا
يُوسُفُ قَالَ هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ
ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ
بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ
جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ
قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ فَلَمَّا
خَلَصْتُ إِلَى إِدْرِيسَ قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ
الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ
قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ
(7/201)
قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ
قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ
الْمَجِيءُ جَاءَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ قَالَ هَذَا هَارُونُ
فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا بِالأَخِ
الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ
السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ مَنْ مَعَكَ
قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَرْحَبًا
بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى قَالَ هَذَا
مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ مَرْحَبًا
بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى قِيلَ
لَهُ مَا يُبْكِيكَ قَالَ أَبْكِي لِأَنَّ غُلاَمًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي ثُمَّ صَعِدَ بِي
إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ
جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ
قَالَ نَعَمْ قَالَ مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَلَمَّا خَلَصْتُ
فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ قَالَ فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلاَمَ قَالَ مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ
الصَّالِحِ ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبْقُهَا
مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرَ وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ قَالَ هَذِهِ
سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ
وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ فَقُلْتُ مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ أَمَّا الْبَاطِنَانِ
فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ ثُمَّ
رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ
مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ هِيَ الْفِطْرَةُ
الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ
خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ بِمَا
أُمِرْتَ قَالَ أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ
لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ
جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ
الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ
فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ
فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ
فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ
فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ فَقَالَ
مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ إِلَى
مُوسَى فَقَالَ بِمَ أُمِرْتَ قُلْتُ أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ
قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي
قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ
الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ
قَالَ سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ قَالَ
فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي"
3888- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي
(7/202)
قَوْلِهِ تَعَالَى [60 الإسراء]:
{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ}
قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ
[الحديث 3888- طرفاه في: 6613,4716]
قوله: "باب المعراج" كذا للأكثر، وللنسفي "قصة المعراج" وهو
بكسر الميم وحكي ضمها من عرج بفتح الراء يعرج بضمها إذا صعد. وقد اختلف في وقت
المعراج فقيل كان قبل المبعث، وهو شاذ إلا إن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام كما
تقدم، وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث. ثم اختلفوا فقيل قبل الهجرة بسنة قاله
ابن سعد وغيره وبه جزم النووي، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه، وهو مردود فإن في
ذلك اختلافا كثيرا يريد على عشرة أقوال، منها ما حكاه ابن الجوزي أنه كان قبلها
بثمانية أشهر، وقيل بسنة أشهر وحكى هذا الثاني أبو الربيع بن سالم، وحكى ابن حزم
مقتضى الذي قبله لأنه قال: كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة، وقيل بأحد عشر
شهرا جزم به إبراهيم الحربي حيث قال: كان في ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، ورجحه
ابن المنير في شرح السيرة لابن عبد البر، وقيل قبل الهجرة بسنة وشهرين حكاه ابن
عبد البر وقيل قبلها بسنة وثلاثة أشهر حكاه ابن فارس، وقيل بسنة وخمسة أشهر قاله
السدي وأخرجه من طريقه الطبري والبيهقي، فعلى هذا كان في شوال، أو في رمضان على
إلغاء الكسرين منه ومن ربيع الأول وبه جزم الواقدي، وعلى ظاهره ينطبق ما ذكره ابن
قتيبة وحكاه ابن عبد البر أنه كان قبلها بثمانية عشر شهرا، وعند ابن سند عن ابن
أبي سبرة أنه كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، وقيل كان في رجب حكاه ابن
عبد البر وجزم به النووي في الروضة، وقيل قبل الهجرة بثلاث سنين حكاه ابن الأثير،
وحكى عياض وتبعه القرطبي والنووي عن الزهري أنه كان قبل الهجرة بخمس سنين ورجحه
عياض ومن تبعه واحتج بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها
توفيت قبل الهجرة إما بثلاث أو نحوها وإما بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة
الإسراء. قلت: في جميع ما نفاه من الخلاف نظر، أما أولا فإن العسكري حكى أنها ماتت
قبل الهجرة بسبع سنين وقيل بأربع، وعن ابن الأعرابي أنها ماتت عام الهجرة. وأما
ثانيا فإن فرض الصلاة اختلف فيه فقيل كان من أول البعثة وكان ركعتين بالغداة
وركعتين بالعشي، وإنما الذي فرض ليلة الإسراء الصلوات الخمس. وأما ثالثا فقد تقدم
في ترجمة خديجة في الكلام على حديث عائشة في بدء الخلق أن عائشة جزمت بأن خديجة
ماتت قبل أن تفرض الصلاة، فالمعتمد أن مراد من قال بعد أن فرضت الصلاة ما فرض قبل
الصلوات الخمس إن ثبت ذلك، ومراد عائشة بقولها ماتت قبل أن تفرض الصلاة أي الخمس،
فيجمع بين القولين بذلك، ويلزم منه أنها ماتت قبل الإسراء. وأما رابعا ففي سنة موت
خديجة اختلاف آخر، فحكى العسكري عن الزهري أنها ماتت لسبع مضين من البعثة، وظاهره
أن ذلك قبل الهجرة بست سنين، فرعه العسكري على قول من قال إن المدة بين البعثة
والهجرة كانت عشرا. قوله: "عن أنس" تقدم في أول بدء الخلق من وجه آخر عن
قتادة "حدثنا أنس". قوله: "عن مالك بن صعصعة" أي ابن وهب بن
عدي بن مالك الأنصاري من بني النجار، ماله في البخاري ولا في غيره سوى هذا الحديث،
ولا يعرف من روى عنه إلا أنس بن مالك. قوله: "حدثه عن ليلة أسرى" كذا
للأكثر، وللكشميهني: "أسري به" وكذا للنسفي، وقوله: "أسري به"
(7/203)
صفة ليلة أي أسري به فيها. قوله: "في الحطيم وربما قال في الحجر" هو شك من قتادة كما بينه أحمد عن عفان عن همام ولفظه: "بينا أنا نائم في الحطيم، وربما قال قتادة: "في الحجر" والمراد بالحطيم هنا الحجر، وأبعد من قال المراد به ما بين الركن والمقام أو بين زمزم والحجر، وهو وإن كان مختلفا في الحطيم هل هو الحجر أم لا كما تقدم قريبا في"باب بنيان الكعبة" لكن المراد هنا بيان البقعة التي وقع ذلك فيها، ومعلوم أنها لم تتعدد لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها، وقد تقدم في أول بدء الخلق بلفظ: "بينا أنا عند البيت" وهو أعم، ووقع في رواية الزهري عن أنس عن أبي ذر" فرج سقف بيتي وأنا بمكة" وفي رواية الواقدي بأسانيده أنه أسري به من شعب أبي طالب، وفي حديث أم هانئ عند الطبراني أنه بات في بيتها قال: "ففقدته من الليل فقال إن جبريل أتاني" والجمع بين هذه الأقوال أنه نام في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته - وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه - فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس؛ ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد فأركبه البراق. وقد وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع. وقيل الحكمة في نزوله عليه من السقف الإشارة إلى المبالغة في مفاجأته بذلك، والتنبيه على أن المراد منه أن يعرج به إلى جهة العلو. قوله: "مضطجعا" زاد في بدء الخلق "بين النائم واليقظان" وهو محمول على ابتداء الحال، ثم لما أخرج به إلى باب المسجد فأركبه البراق استمر في يقظته، وأما ما وقع في رواية شريك الآتية في التوحيد في آخر الحديث: "فلما استيقظت" فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حمل على أن المراد باستيقظت أفقت، أي أنه أفاق مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الملكوت ورجع إلى العالم الدنيوي. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لو قال صلى الله عليه وسلم إنه كان يقظا لأخبر بالحق، لأن قلبه في النوم واليقظة سواء، وعينه أيضا لم يكن النوم تمكن منها، لكنه تحرى صلى الله عليه وسلم الصدق في الإخبار بالواقع، فيؤخذ منه أنه لا يعدل عن حقيقة اللفظ للمجاز إلا لضرورة. قوله: "إذ أتاني آت" هو جبريل كما تقدم، ووقع في بدء الخلق بلفظ: "وذكر بين الرجلين" وهو مختصر، وقد أوضحته رواية مسلم من طريق سعيد عن قتادة بلفظ: "إذ سمعت قائلا يقول أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بي" وتقدم في أول الصلاة أن المراد بالرجلين حمزة وجعفر وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نائما بينهما، ويستفاد منه ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من التواضع وحسن الخلق، وفيه جواز نوم جماعة في موضع واحد، وثبت من طرق أخرى أنه يشترط أن لا يجتمعوا في لحاف واحد. قوله: "فقد" بالقاف والدال الثقيلة "قال وسمعته يقول فشق" القائل قتادة والمقول عنه أنس، ولأحمد" قال قتادة: وربما سمعت أنسا يقول فشق". قوله: "فقلت للجارود" لم أر من نسبه من الرواة، ولعله ابن أبي سيرة البصري صاحب أنس، فقد أخرج له أبو داود من روايته عن أنس حديثا غير هذا. قوله: "من ثغرة" بضم المثلثة وسكون المعجمة، وهي الموضع المنخفض الذي بين الترقوتين. قوله: "إلى شعرته" بكسر المعجمة أي شعر العانة. وفي رواية مسلم: "إلى أسفل بطنه" وفي بدء الخلق" من النحر إلى مراق بطنه" وتقدم ضبطه في أوائل الصلاة. قوله: "من قصه" بفتح القاف وتشديد المهملة أي رأس صدره. قوله: "إلى شعرته" ذكر الكرماني أنه وقع" إلى ثنته" بضم المثلثة وتشديد النون ما بين السرة والعانة، وقد استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الإسراء وقال: إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك، فقد تواردت الروايات به. وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة كما أخرجه أبو
(7/204)
نعيم في"الدلائل" ولكل منها حكمة، فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس" فأخرج علقمة فقال: هذا حظ الشيطان منك" وكان هذا في زمن الطفولية فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن تكون الحكمة في انفراج سقف بيته الإشارة إلى ما سيقع من شق صدره وأنه سيلتئم بغير معالجة يتضرر بها. وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة فلا يستحيل شيء من ذلك، قال القرطبي في"المفهم": لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء لأن رواته ثقات مشاهير، ثم ذكر نحو ما تقدم. قوله: "بطست" بفتح أوله وبكسره وبمثناة وقد تحذف وهو الأكثر وإثباتها لغة طيئ، وأخطأ من أنكرها. قوله: "من ذهب" خص الطست لكونه أشهر آلات الغسل عرفا، والذهب لكونه أعلى أنواع الأواني الحسية وأصفاها، ولأن فيه خواص ليست لغيره ويظهر لها هنا مناسبات: منها أنه من أواني الجنة ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب ولا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر فناسب ثقل الوحي. وقال السهيلي وغيره: إن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهاب الرجس عنه، ولكونه وقع عند الذهاب إلى ربه، وأن نظر إلى معناه فلوضاءته ونقائه وصفائه ولثقله ورسوبته، والوحي ثقيل قال الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ولأنه أعز الأشياء في الدنيا، والقول هو الكتاب العزيز، ولعل ذلك كان قبل أن يحرم استعمال الذهب في هذه الشريعة ولا يكفي أن يقال إن المستعمل له كان ممن لم يحرم عليه ذلك من الملائكة لأنه لو كان قد حرم عليه استعماله لنزه أن يستعمله غيره في أمر يتعلق ببدنه المكرم. ويمكن أن يقال إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع في تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب فيلحق بأحكام الآخرة. قوله: "مملوءة" كذا بالتأنيث، وتقدم في أول الصلاة البحث فيه. قوله: "إيمانا" زاد في بدء الخلق" وحكمة" وهما بالنصب على التمييز، قال النووي: معناه أن الطست كان فيها شيء يحصل به زيادة في كمال الإيمان وكمال الحكمة وهذا الملء يحتمل أن يكون على حقيقته، وتجسيد المعاني جائز كما جاء أن سورة البقرة تجيء يوم القيامة كأنما ظلمة، والموت في صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك من أحوال الغيب. وقال البيضاوي: لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرا، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس. وقال ابن أبي جمرة: فيه أن الحكمة ليس بعد الإيمان أجل منها، ولذلك قرنت معه، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وأصح ما قيل في الحكمة أنها وضع الشيء في محله، أو الفهم في كتاب الله، فعلى التفسير الثاني قد توجد الحكمة دون الإيمان وقد لا توجد، وعلى الأول فقد يتلازمان لأن الإيمان يدل على الحكمة. قوله: "فغسل قلبي" في رواية مسلم: "فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم" وفيه فضيلة ماء زمزم على جميع المياه، قال ابن أبي جمرة: وإنما لم يغسل بماء الجنة لما اجتمع في ماء زمزم من كون أصل مائها من الجنة ثم استقر في الأرض فأريد بذلك بقاء بركة النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض. وقال السهيلي: لما كانت زمزم هزمة جبريل روح القدس لأم إسماعيل جد النبي صلى الله عليه وسلم ناسب أن يغسل بمائها عند دخول حضرة القدس ومناجاته ومن
(7/205)
المناسبات المستبعدة قول بعضهم: إن الطست يناسب {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} . قوله: "ثم حشي ثم أعيد" زاد في رواية مسلم مكانه "ثم حشي إيمانا وحكمة" وفي رواية شريك" فحشى به صدره ولغاديده" بلام وغين معجمة أي عروق حلقه، وقد اشتملت هذه القصة من خوارق العادة على ما يدهش سامعه فضلا عمن شاهده، فقد جرت العادة بأن من شق بطنه وأخرج قلبه يموت لا محالة، ومع ذلك فلم يؤثر فيه ذلك ضررا ولا وجعا فضلا عن غير ذلك. قال ابن أبي جمرة: الحكمة في شق قلبه - مع القدرة على أن يمتلئ إيمانا وحكمة بغير شق - الزيادة في قوة اليقين، لأنه أعطي برؤية شق بطنه وعدم تأثره بذلك ما أمن معه من جميع المخاوف العادية، فلذلك كان أشجع الناس وأعلاهم حالا ومقالا، ولذلك وصف بقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} واختلف هل كان شق صدره وغسله مختصا به أو وقع لغيره من الأنبياء؟ وقد وقع عند الطبراني في قصة تابوت بني إسرائيل أنه كان فيه الطست التي يغسل فيها قلوب الأنبياء، وهذا مشعر بالمشاركة، وسيأتي نظير هذا البحث في ركوب البراق. قوله: "ثم أتيت بدابة" قيل الحكمة في الإسراء به راكبا مع القدرة على طي الأرض له إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسا له بالعادة في مقام خرق العادة، لأن العادة جرت بأن الملك إذا استدعى من يختص به يبعث إليه بما يركبه. قوله: "دون البغل وفوق الحمار أبيض" كذا ذكر باعتبار كونه مركوبا أو بالنظر للفظ البراق، والحكمة لكونه بهذه الصفة الإشارة إلى أن الركوب كان في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة. قوله: "فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم" هذا يوضح أن الذي وقع في رواية بدء الخلق بلفظ دون البغل وفوق الحمار البراق، أي هو البراق وقع بالمعنى لأن أنسا لم يتلفظ بلفظ البراق في رواية قتادة. قوله: "يضع خطوه" بفتح المعجمة أوله المرة الواحدة، وبضمها الفعلة. قوله: "عند أقصى طرفه" بسكون الراء وبالفاء أي نظره، أي يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره. وفي حديث ابن مسعود عند أبي يعلى والبزار" إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه وإذا هبط ارتفعت يداه" وفي رواية لابن سعد عن الواقدي بأسانيده "له جناحان" ولم أرها لغيره، وعند الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس في صفة البراق" لها خد كخد الإنسان وعرف كالفرس وقوائم كالإبل وذنب كالبقر، وكان صدره ياقوتة حمراء" قيل ويؤخذ من ترك تسمية سير البراق طيرانا أن الله إذا أكرم عبدا بتسهيل الطريق له حتى قطع المسافة الطويلة في الزمن اليسير أن لا يخرج بذلك عن اسم السفر وتجري عليه أحكامه. والبراق بضم الموحدة وتخفيف الراء مشتق من البريق، فقد جاء في لونه أنه أبيض، أو من البرق لأنه وصفه بسرعة السير، أو من قولهم شاة برقاء إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سود، ولا ينافيه وصفه في الحديث بأن البراق أبيض لأن البرقاء من الغنم معدودة في البياض انتهى. ويجتمل أن لا يكون مشتقا، قال ابن أبي جمرة: خص البراق بذلك إشارة إلى الاختصاص به لأنه لم ينقل أن أحدا ملكه، بخلاف غير جنسه من الدواب. قال: والقدرة كانت صالحة لأن يصعد بنفسه من غير براق، ولكن ركوب البراق كان زيادة له في تشريفه لأنه لو صعد بنفسه لكان في صورة ماش، والراكب أعز من الماشي. قوله: "فحملت عليه" في رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى" فكان الذي أمسك بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل" وفي رواية معمر عن قتادة عن أنس" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به أتي بالبراق مسرجا ملجما فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما حملك على هذا؟ فوالله ما ركبك خلق قط أكرم على الله منه، قال فارفض عرقا" أخرجه الترمذي
(7/206)
وقال: حسن غريب، وصححه ابن حبان. وذكر ابن إسحاق عن قتادة" أنه لما شمس وضع جبريل يده على معرفته فقال: أما تستحي "؟ فذكر نحوه مرسلا لم يذكر أنسا. وفي رواية وثيمة عن ابن إسحاق" فارتعشت حتى لصقت بالأرض فاستويت عليها" وللنسائي وابن مردويه من طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس نحوه موصولا وزاد: "وكانت تسخر للأنبياء قبله" ونحوه في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق، وفيه دلالة على أن البراق كان معدا لركوب الأنبياء، خلافا لمن نفى ذلك كابن دحية وأول قول جبريل "فما ركبك أكرم على الله منه" أي ما ركبك أحد قط فكيف يركبك أكرم منه، وقد جزم السهيلي أن البراق إنما استصعب عليه لبعد عهده بركوب الأنبياء قبله، قال النووي قال الزبيدي في "مختصر العيني" وتبعه صاحب "التحرير ": كان الأنبياء يركبون البراق، قال وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. قلت: قد ذكرت النقل بذلك، ويؤيده ظاهر قوله: "فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء" ووقع في "المبتدأ لابن إسحاق" من رواية وثيمة في ذكر الإسراء "فاستصعبت البراق، وكانت الأنبياء تركبها قبلي وكانت بعيدة العهد بركوبهم لم تكن ركبت في الفتنة" وفي "مغازي ابن عائذ" من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "البراق هي الدابة التي كان يزور إبراهيم عليها إسماعيل" وفي الطبراني من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالبراق فحمله بين يديه" وعند أبي يعلى والحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: "أتيت بالبراق فركبت خلف جبريل" وفي حديث حذيفة عند الترمذي والنسائي: "فما زايلا ظهر البراق" وفي" كتاب مكة "للفاكهي والأزرقي" أن إبراهيم كان يحج على البراق" وفي أوائل الروض للسهيلي" أن إبراهيم حمل هاجر على البراق لما سار إلى مكة بها وبولدها" فهذه آثار يشد بعضها بعضا. وجاءت آثار أخرى تشهد لذلك لم أر الإطالة بإيرادها. ومن الأخبار الواهية في صفة البراق ما ذكره الماوردي عن مقاتل وأورده القرطبي في "التذكرة" ومن قبله الثعلبي من طريق ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: الموت والحياة جسمان فالموت كبش لا يجد ريحه شيء إلا مات، والحياة فرس بلقاء أنثى، وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي. ومنها أن البراق لما عاتبه جبريل قال له معتذرا: إنه مس الصفراء اليوم، وإن الصفراء صنم من ذهب كان عند الكعبة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم مر به فقال: تبا لمن يعبدك من دون الله، وإنه صلى الله عليه وسلم نهى زيد بن حارثة أن يمسه بعد ذلك وكسره يوم فتح مكة. قال ابن المنير: إنما استصعب البراق تيها وزهوا بركوب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وأراد جبريل استنطاقه فلذلك خجل وارفض عرقا من ذلك. وقريب من ذلك رجفة الجبل به حتى قال له: "اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيد" فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب. ووقع في حديث حذيفة عند أحمد قال: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق فلم يزايل ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس" فهذا لم يسنده حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه قال عن اجتهاد، ويحتمل أن يكون قوله هو وجبريل يتعلق بمرافقته في السير لا في الركوب، قال ابن دحية وغيره: معناه وجبريل قائد أو سائق أو دليل، قال وإنما جزمنا بذلك لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم فلا مدخل لغيره فيها. قلت: ويرد التأويل المذكور أن في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود أن جبريل حمله على البراق رديفا له. وفي رواية الحارث في مسنده أتي بالبراق فركب خلف جبريل فسار بهما، فهذا صريح في ركوبه معه فالله أعلم. وأيضا فإن ظاهره أن المعراج وقع للنبي صلى الله عليه وسلم على ظهر البراق إلى أن صعد السماوات كلها ووصل إلى ما وصل ورجع وهو على حاله، وفيه نظر لما سأذكره، ولعل حذيفة إنما أشار إلى ما وقع في ليلة الإسراء المجردة التي لم يقع فيها معراج
(7/207)
على ما تقدم من تقرير وقوع الإسراء مرتين. قوله: "فانطلق بي جبريل" في رواية بدء الخلق"فانطلقت مع جبريل" ولا مغايرة بينهما، بخلاف ما نحا إليه بعضهم من أن رواية بدء الخلق تشعر بأنه ما احتاج إلى جبريل في العروج، بل كانا معا بمنزلة واحدة، لكن معظم الروايات جاء باللفظ الأول، وفي حديث أبي ذر في أول الصلاة" ثم أخذ بيدي فعرج بي" والذي يظهر أن جبريل في تلك الحالة كان دليلا له فيما قصد له فلذلك جاء سياق الكلام يشعر بذلك. قوله: "حتى أتى السماء الدنيا" ظاهره أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء، وهو مقتضى كلام ابن أبي جمرة المذكور قريبا، وتمسك به أيضا من زعم أن المعراج كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، فأما العروج ففي غير هذه الرواية من الأخبار أنه لم يكن على البراق بل رقي المعراج، وهو السلم كما وقع مصرحا به في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق والبيهقي في "الدلائل" ولفظه: "فإذا أنا بدابة كالبغل مضطرب الأذنين يقال له البراق، وكانت الأنبياء تركبه قبلي، فركبته" فذكر الحديث قال: "ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصليت، ثم أتيت بالمعراج" وفي رواية ابن إسحاق "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج فلم أر قط شيئا كان أحسن منه، وهو الذي يمد إليه الميت عينيه إذا حضر، فأصعدني صاحبي فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء" الحديث. وفي رواية كعب" فوضعت له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب حتى عرج هو وجبريل" وفي رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى أنه "أتى بالمعراج من جنة الفردوس وأنه منضد باللؤلؤ وعن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة" وأما المحتج بالتعدد فلا حجة له لاحتمال أن يكون التقصير في ذلك الإسراء من الراوي، وقد حفظه ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق - فوصفه قال - فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل بإناءين - فذكر القصة قال - ثم، عرج بي إلى السماء" وحديث أبي سعيد دال على الاتحاد، وقد تقدم شيء من هذا البحث في أول الصلاة، وقوله في رواية ثابت فربطته بالحلقة، أنكره حذيفة، فروى أحمد والترمذي من حديث حذيفة قال: "تحدثون أنه ربطه، أخاف أن يفر منه وقد سخره له عالم الغيب والشهادة "؟ قال البيهقي: الميت مقدم على النافي، يعني من أثبت ربط البراق والصلاة في بيت المقدس معه زيادة علم على نفي ذلك، فهو أولى بالقبول. ووقع في رواية بريدة عند البزار" لما كان ليلة أسري به فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع إصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق" ونحوه للترمذي، وأنكر حذيفة أيضا في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى في بيت المقدس، واحتج بأنه لو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه كما كتب عليكم الصلاة في البيت العتيق، والجواب عنه منع التلازم في الصلاة إن كان أراد بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} الفرض وإن أراد التشريع فنلتزمه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في بيت المقدس فقرنه بالمسجد الحرام ومسجده في شد الرحال، وذكر فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديث، وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي " حتى أتيت بيت المقدس فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها - وفيه - فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين" وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه نحوه وزاد: "ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أقيمت الصلاة فأممتهم" وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم " فلم ألبث إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن فأقيمت الصلاة فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل فقدمني فصليت بهم" وفي حديث ابن
(7/208)
مسعود عند مسلم: "وحانت الصلاة فأممتهم" وفي حديث ابن عباس عند أحمد" فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى قام يصلي، فإذا النبيون أجمعون يصلون معه" وفي حديث عمر عند أحمد أيضا أنه" لما دخل بيت المقدس قال: أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة فصلى" وقد تقدم شيء من ذلك في الباب الذي قبله، قال عياض يحتمل أن يكون صلى بالأنبياء جميعا في بيت المقدس، ثم صعد منهم إلى السماوات من ذكر أنه صلى الله عليه وسلم رآه، ويحتمل أن تكون صلاته بهم بعد أن هبط من السماء فهبطوا أيضا. وقال غيره: رؤيته إياهم في السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى لما ثبت أنه رفع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضا ذلك، وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس فيحتمل الأرواح خاصة، ويحتمل الأجساد بأرواحها، والأظهر أن صلاته بهم ببيت المقدس كان قبل العروج، والله أعلم. قوله: "السماء الدنيا" في حديث أبي سعيد في ذكر الأنبياء عند البيهقي"إلى باب من أبواب السماء يقال له باب الحفظة، وعليه ملك يقال له إسماعيل وتحت يده اثنا عشر ألف ملك". قوله: "فاستفتح" تقدم القول فيه في أول الصلاة وأن قولهم "أرسل إليه" أي للعروج، وليس المراد أصل البعث لأن ذلك كان قد اشتهر في الملكوت الأعلى، وقيل: سألوا تعجبا من نعمة الله عليه بذلك أو استبشارا به، وقد علموا أن بشرا لا يترقى هذا الترقي إلا بإذن الله تعالى، وأن جبريل لا يصعد بمن لم يرسل إليه. وقوله: "من معك" يشعر بأنهم أحسوا معه برفيق وإلا لكان السؤال بلفظ: "أمعك أحد" وذلك الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما بأمر معنوي كزيادة أنوار أو نحوها يشعر بتجدد أمر يحسن معه السؤال بهذه الصيغة، وفي قول "محمد" دليل على أن الاسم أولى في التعريف من الكنية، وقيل: الحكمة في سؤال الملائكة "وقد بعث إليه"؟ أن الله أراد إطلاع نبيه على أنه معروف عند الملأ الأعلى لأنهم قالوا: "أو بعث إليه" فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له؛ وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد؟ مثلا. قوله: "مرحبا به" أي أصاب رحبا وسعة، وكنى بذلك عن الانشراح، واستنبط منه ابن المنير جواز رد السلام بغير لفظ السلام، وتعقب بأن قول الملك "مرحبا به" ليس ردا للسلام فإنه كان قبل أن يفتح الباب والسياق يرشد إليه، وقد نبه على ذلك ابن أبي جمرة، ووقع هنا أن جبريل قال له عند كل واحد منهم "سلم عليه قال: فسلمت عليه فرد علي السلام" وفيه إشارة إلى أنه رآهم قبل ذلك. قوله: "فنعم المجيء جاء" قيل: المخصوص بالمدح محذوف، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير "جاء فنعم المجيء مجيئه" وقال ابن مالك: في هذا الكلام شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول أو الصفة عن الموصوف في باب نعم، لأنها تحتاج إلى فاعل هو المجيء، وإلى مخصوص بمعناها وهو مبتدأ مخبر عنه بنعم وفاعلها، فهو في هذا الكلام وشبهه موصول أو موصوف بجاء، والتقدير نعم المجيء الذي جاء، أو نعم المجيء مجيء جاءه، وكونه موصولا أجود لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفة أولى من كونه نكرة. قوله: "فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم" زاد في رواية أنس عن أبي ذر أول الصلاة ذكر النسم التي عن يمينه وعن شماله، وتقدم القول فيه، وذكرت هناك احتمالا أن يكون المراد بالنسم المرئية لآدم هي التي لم تدخل الأجساد بعد. ثم ظهر لي الآن احتمال آخر وهو أن يكون المراد بها من خرجت من الأجساد حين خروجها لأنها مستقرة، ولا يلزم من رؤية آدم لها وهو في السماء الدنيا أن يفتح لها أبواب السماء ولا تلجها، وقد وقع في حديث أبي سعيد عند البيهقي ما يؤيده ولفظه: "فإذا أنا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين. ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح
(7/209)
خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين" وفي حديث أبي هريرة عند البزار" فإذا عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة" الحديث. فظهر من الحديثين عدم اللزوم المذكور، وهذا أولى مما جمع به القرطبي في "المفهم" أن ذلك في حالة مخصوصة. قوله: "بالابن الصالح والنبي الصالح" قيل: اقتصر الأنبياء على وصفه بهذه الصفة وتواردوا عليها لأن الصلاح صفة تشمل خلال الخير، ولذلك كررها كل منهم عند كل صفة، والصالح هو الذي يقوم بما يلزمه من حقوق الله وحقوق العباد، فمن ثم كانت كلمة جامعة لمعاني الخير، وفي قول آدم" بالابن الصالح" إشارة إلى افتخاره بأبوة النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي في التوحيد بيان الحكمة في خصوص منازل الأنبياء من السماء. قوله: "ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية" وفيه: "فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة" قال النووي قال ابن السكيت: يقال ابنا خالة ولا يقال ابنا عمة، ويقال ابنا عم ولا يقال ابنا خالاه. ولم يبين سبب ذلك، والسبب فيه أن ابني الخالة أم كل منهما خالة الآخر لزوما، بخلاف ابني العمة، وقد توافقت هذه الرواية مع رواية ثابت عن أنس عند مسلم أن في الأولى آدم وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم وخالف ذلك الزهري في روايته عن أنس عن أبي ذر أنه لم يثبت أسماءهم وقال فيه: "وإبراهيم في السماء السادسة" ووقع في رواية شريك عن أنس أن إدريس في الثالثة، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة، وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم أيضا كما صرح به الزهري، ورواية من ضبط أولى ولا سيما مع اتفاق قتادة وثابت وقد وافقهما يزيد بن أبي مالك عن أنس، إلا أنه خالف في إدريس وهارون فقال هارون في الرابعة، وإدريس في الخامسة: ووافقهم أبو سعيد إلا أن في رواية يوسف في الثانية، وعيسى ويحيى في الثالثة، والأول أثبت. وقد استشكل رؤية الأنبياء في السماوات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض، وأجيب بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم أو أحضرت أجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفا له وتكريما، ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم عن أنس ففيه: "وبعث له آدم فمن دونه من الأنبياء" فافهم، وقد تقدمت الإشارة إليه في الباب الذي قبله. قوله: "فلما خلصت إذا يوسف" زاد مسلم في رواية ثابت عن أنس "فإذا هو قد أعطي شطر الحسن" وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي وأبي هريرة عند ابن عائذ والطبراني "فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، قد فصل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب" وهذا ظاهره أن يوسف عليه السلام كان أحسن من جميع الناس، لكن روى الترمذي من حديث أنس ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا فعلى هذا فيحمل حديث المعراج على أن المراد غير النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه، وأما حديث الباب فقد حمله ابن المنير على أن المراد أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. وقد اختلف في الحكمة في اختصاص كل منهم بالسماء التي التقاه بها، فقيل ليظهر تفاضلهم في الدرجات، وقيل: لمناسبة تتعلق بالحكمة في الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، فقيل أمروا بملاقاته فمنهم من أدركه في أول وهلة ومنهم من تأخر فلحق ومنهم من فاته، وهذا زيفه السهيلي فأصاب، وقيل: الحكمة في الاقتصار على هؤلاء المذكورين للإشارة إلى ما سيقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه من نظير ما وقع لكل منهم، فأما آدم فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض بما سيقع للنبي صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة وكراهة فراق ما ألفه من الوطن،
(7/210)
ثم كان مآل كل منهما أن يرجع إلى موطنه الذي أخرج منه، وبعيسى ويحيى على ما وقع له من أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم على البغي عليه وإرادتهم وصول السوء إليه، وبيوسف على ما وقع له من إخوته من قريش في نصبهم الحرب له وإرادتهم هلاكه وكانت العاقبة له، وقد أشار إلى ذلك بقوله لقريش يوم الفتح" أقول كما قال يوسف: لا تثريب عليكم" وبإدريس على رفيع منزلته عند الله، وبهارون على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه، وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه وقد أشار إلى ذلك بقوله: "لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر" وبإبراهيم في استناده إلى البيت المعمور بما ختم له صلى الله عليه وسلم في آخر عمره من إقامة منسك الحج وتعظيم البيت، وهذه مناسبات لطيفة أبداها السهيلي فأوردتها منقحة ملخصة. وقد زاد ابن المنير في ذلك أشياء أضربت عنها إذ أكثرها في المفاضلة بين الأنبياء والإشارة في هذا المقام عندي أولى من تطويل العبارة. وذكر في مناسبة لقاء إبراهيم في السماء السابعة معنى لطيفا زائدا، وهو ما اتفق له صلى الله عليه وسلم من دخول مكة في السنة السابعة وطوافه بالبيت، ولم يتفق له الوصول إليها بعد الهجرة قبل هذه، بل قصدها في السنة السادسة فصدوه عن ذلك كما تقدم بسطه في كتابه الشروط قال ابن أبي جمرة: الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا لأنه أول الأنبياء وأول الآباء وهو أصل فكان أولا في الأولى، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة، وعيسى في الثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدا من محمد، ويليه يوسف لأن أمة محمد تدخل الجنة على صورته، وإدريس في الرابعة لقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} والرابعة من السبع وسط معتدل، وهارون لقربه من أخيه موسى، أرفع منه لفضل كلام الله، وإبراهيم لأنه الأب الأخير فناسب أن يتجدد للنبي صلى الله عليه وسلم بلقيه أنس لتوجهه بعده إلى عام آخر، وأيضا فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته، فلذلك ارتفع النبي صلى الله عليه وسلم عن منزلة إبراهيم إلى قاب قوسين أو أدنى. قوله: في قصة موسى "فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي" وفي رواية شريك عن أنس "لم أظن أحدا يرفع علي" وفي حديث أبي سعيد: قال موسى: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم على الله، وهذا أكرم على الله مني زاد الأموي في روايته: "ولو كان هذا وحده هان علي، ولكن معه أمته وهم أفضل الأمم عند الله" وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أنه "مر بموسى عليه السلام وهو يرفع صوته فيقول: أكرمته وفضلته، فقال جبريل: هذا موسى، قلت: ومن يعاتب قال: يعاتب ربه فيك، قلت: ويرفع صوته على ربه؟ قال: إن الله قد عرف له حدته" وفي حديث ابن مسعود عند الحارث وأبي يعلى والبزار "وسمعت صوتا وتذمرا، فسألت جبريل فقال: هذا موسى، قلت على من تذمره؟ قال: على ربه. قلت: على ربه؟ قال: إنه يعرف ذلك منه" قال العلماء: لم يكن بكاء موسى حسدا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد المؤمنين فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان أسفا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزم لتنقيص أجره، لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمته في العدد دون من اتبع نبينا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لهذه الأمة. وأما قوله: "غلام" فليس على سبيل النقص، بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه إذ أعطى لمن كان في ذلك السن ما لم يعطه أحدا قبله ممن هو أسن منه. وقد وقع من موسى من العناية بهذه الأمة من أمر الصلاة ما لم يقع لغيره، ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة عند الطبري والبزار، قال عليه الصلاة
(7/211)
والسلام "كان موسى أشدهم علي حين مررت به: وخيرهم لي حين رجعت إليه" وفي حديث أبي سعيد "فأقبلت راجعا، فمررت بموسى ونعم الصاحب كان لكم، فسألني: كم فرض عليك ربك"؟ الحديث قال ابن أبي جمرة: إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل الرحمة في قلوب غيرهم، لذلك بكى رحمة لأمته، وأما قوله: "هذا غلام" فأشار إلى صغر سنه بالنسبة إليه، قال الخطابي: العرب تسمي الرجل المستجمع السن غلاما ما دامت فيه بقية من القوة ا ه. ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا عليهما الصلاة والسلام من استمرار القوة في الكهولية وإلى أن دخل في سن الشيخوخة ولم يدخل على بدنه هرم ولا اعترى قوته نقص، حتى أن الناس في قدومه المدينة كما سيأتي من حديث أنس لما رأوه مردفا أبا بكر أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبي بكر اسم الشيخ مع كونه في العمر أسن من أبي بكر، والله أعلم. وقال القرطبي: الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة لعلها لكون أمة موسى كلفت من الصلوات بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد من مثل ذلك. ويشير إلى ذلك قوله. "إني قد جربت الناس قبلك" انتهى. وقال غيره لعلها من جهة أنه ليس في الأنبياء من له أكثر من موسى ولا من له كتاب أكبر ولا أجمع للأحكام من هذه الجهة مضاهيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب أن يتمنى أن يكون له مثل ما أنعم به عليه من غير أن يريد زواله عنه، وناسب أن يطلعه على ما وقع له وينصحه فيما يتعلق به، ويحتمل أن يكون موسى لما غلب عليه في الابتداء الأسف على نقص حظ أمته بالنسبة لأمة محمد حتى تمنى ما تمنى أن يكون، استدرك ذلك ببدل النصيحة لهم والشفقة عليهم ليزيل ما عساه أن يتوهم عليه فيما وقع منه في الابتداء. وذكر السهيلي أن الحكمة في ذلك أنه كان رأى في مناجاته صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فدعا الله أن يجعله منهم، فكان إشفاقه عليهم كعناية من هو منهم. وتقدم في أول الصلاة شيء من هذا، ومما يتعلق بأمر موسى بالترديد مرارا، والعلم عند الله تعالى. وقد وقع من موسى عليه السلام في هذه القصة من مراعاة جانب النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمسك عن جميع ما وقع له حتى فارقه النبي صلى الله عليه وسلم أدبا معه وحسن عشرة، فلما فارقه بكى وقال ما قال. قوله: "فإذا إبراهيم" في حديث أبي سعيد "فإذا أنا بإبراهيم خليل الرحمن مسندا ظهره إلى البيت المعمور كأحسن الرجال" وفي حديث أبي هريرة عند الطبري "فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي". "تكملة": اختلف في حال الأنبياء عند لقي النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ليلة الإسراء هل أسري بأجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، أو أن أرواحهم مستقرة في الأماكن التي لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم وأرواحهم مشكلة بشكل أجسادهم كما جزم به أبو الوفاء بن عقيل، واختار الأول بعض شيوخنا، واحتج بما ثبت في مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت موسى ليلة أسري بي قائما يصلي في قبره" فدل على أنه أسري به لما مر به. قلت: وليس ذلك بلازم بل يجوز أن يكون لروحه اتصال بجسده في الأرض، فلذلك يتمكن من الصلاة وروحه مستقرة في السماء. قوله: "ثم رفعت إلى سدرة المنتهى" كذا للأكثر بضم الراء وسكون العين وضم التاء من "رفعت" بضمير المتكلم وبعده حرف جر، وللكشميهني: "رفعت" بفتح العين وسكون التاء أي السدرة لي باللام أي من أجلي، وكذا تقدم في بدء الخلق، ويجمع بين الروايتين بأن المراد أنه رفع إليها أي ارتقى به وظهرت له، والرفع إلى الشيء يطلق على التقريب منه، وقد قيل في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي تقترب لهم، ووقع بيان سبب تسميتها سدرة المنتهى في حديث ابن مسعود عند مسلم ولفظه: "لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انتهى بي إلى سدرة المنتهى وهي في السماء
(7/212)
السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط فيقبض منها" وقال النووي سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها، ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا لا يعارض حديث ابن مسعود المتقدم، لكن حديث ابن مسعود ثابت في الصحيح فهو أولى بالاعتماد. قلت: وأورد النووي هذا بصيغة التمريض فقال: وحكي عن ابن مسعود أنها سميت بذلك إلخ. كذا أورده فأشعره بضعفه عنده، ولا سيما ولم يصرح برفعه، وهو صحيح مرفوع. وقال القرطبي في "المفهم ": ظاهر حديث أنس أنها في السابعة لقوله بعد ذكر السماء السابعة "ثم ذهب بي إلى السدرة" وفي حديث ابن مسعود أنها في السادسة، وهذا تعارض لا شك فيه، وحديث أنس هو قول الأكثر، وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي إليها علم كل نبي مرسل وكل ملك مقرب على ما قال كعب، قال: وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله أو من أعلمه، وبهذا جزم إسماعيل بن أحمد. وقال غيره: إليها منتهى أرواح الشهداء، قال: ويترجح حديث أنس بأنه مرفوع، وحديث ابن مسعود موقوف، كذا قال، ولم يعرج على الجمع بل جزم بالتعارض. قلت: ولا يعارض قوله إنها في السادسة ما دلت عليه بقية الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل السماء السابعة لأنه يحمل على أن أصلها في السماء السادسة وأغصانها وفروعها في السابعة، وليس في السادسة منها إلا أصل ساقها، وتقدم في حديث أبي ذر أول الصلاة" فغشيها ألوان لا أدري ما هي" وبقية حديث ابن مسعود المذكور" قال الله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: فراش من ذهب" كذا فسر المبهم في قوله: {مَا يَغْشَى} بالفراش. ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس "جراد من ذهب" قال البيضاوي: "وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب لصفاء لونها وإضاءتها في نفسها" انتهى. ويجوز أن يكون من الذهب حقيقة ويخلق فيه الطيران، والقدرة صالحة لذلك. وفي حديث أبي سعيد وابن عباس "يغشاها الملائكة" وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي "على كل ورقة منها ملك" ووقع في رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من جنسها" وفي رواية حميد عن أنس عند ابن مردويه نحوه لكن قال تحولت قوتا ونحو ذلك. قوله: "فإذا نبقها" بفتح النون وكسر الموحدة وسكونها أيضا، قال ابن دحية: والأول هو الذي ثبت في الرواية، أي التحريك. والنبق معروف وهو ثمر السدر. قوله: "مثل قلال هجر" قال الخطابي: القلال بالكسر جمع قلة بالضم هي الجرار، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وكانت معروفة عند المخاطبين فلذلك وقع التمثيل بها، قال: وهي التي وقع تحديد الماء الكثير بها في قوله: "إذا بلغ الماء قلتين"، وقوله: "هجر" بفتح الهاء والجيم بلدة لا تنصرف للتأنيث والعلمية، ويجوز الصرف. قوله: "وإذا ورقها مثل آذان الفيلة" بكسر الفاء وفتح التحتانية بعدها لام جمع فيل، ووقع في بدء الخلق"مثل آذان الفيول" وهو جمع فيل أيضا قال ابن دحية: اختيرت السدرة دون غيرها لأن فيها ثلاثة أوصاف: ظل ممدود، وطعام لذيذ، ورائحة زكية فكانت بمنزلة الإيمان الذي يجمع القول والعمل والنية، والظل بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النية، والرائحة بمنزلة القول. قوله: "وإذا أربعة أنهار" في بدء الخلق" فإذا في أصلها - أي في أصل سدرة المنتهى - أربعة أنهار" ولمسلم: "يخرج من أصلها" ووقع في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة "أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسيحان وجيحان" فيحتمل أن تكون
(7/213)
سدرة المنتهى مغروسة في الجنة والأنهار
تخرج من تحتها فيصح أنها من الجنة. قوله: "أما الباطنان ففي الجنة1" قال
ابن أبي جمرة فيه أن الباطن أجل من الظاهر، لأن الباطن جعل في دار البقاء والظاهر
جعل في دار الفناء، ومن ثم كان الاعتماد على ما في الباطن كما صلى الله عليه وسلم:
"إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم". قوله: "وأما
الظاهران فالنيل والفرات" وقع في رواية شريك كما سيأتي في التوحيد أنه رأى في
السماء الدنيا نهرين يطردان فقال له جبريل هما النيل والفرات عنصرهما والجمع
بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة ورآهما في السماء
الدنيا دون نهري الجنة وأراد بالعنصر عنصر امتيازهما بسماء الدنيا كذا قال ابن
دحية، ووقع في حديث شريك أيضا: "ومضى به يرقى السماء فإذا هو بنهر آخر عليه
قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا
الكوثر الذي خبأ لك ربك". ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي
حاتم أنه بعد أن رأى إبراهيم قال: "ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة حتى
انتهى إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت،
قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري على
رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضا من اللبن، قال فأخذت من آنيته فاغترفت
من ذلك الماء فشربت فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك" وفي حديث أبي
سعيد "فإذا فيها عين تجري يقال لها السلسبيل فينشق منها نهران أحدهما الكوثر
والآخر يقال له نهر الرحمة". قلت: فيمكن أن يفسر بهما النهران الباطنان
المذكوران في حديث الباب. وكذا روي عن مقاتل قال: الباطنان السلسبيل والكوثر. وأما
الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ: "سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار
الجنة" فلا يغاير هذا لأن المراد به أن في الأرض أربعة أنهار أصلها من الجنة،
وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيحون أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل
والفرات عليهما بذلك. وأما الباطنان المذكوران في حديث الباب فهما غير سيحون
وجيحون، والله أعلم. قال النووي: في هذا الحديث أن أصل النيل والفرات من الجنة،
وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض،
ثم يسيران فيها ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر
فليعتمد. وأما قول عياض: إن الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض لكونه
قال: إن النيل والفرات يخرجان من أصلها وهما بالمشاهدة يخرجان من الأرض فيلزم منه
أن يكون أصل السدرة في الأرض، وهو متعقب، فإن المراد بكونهما يخرجان من أصلها غير
خروجهما بالنبع من الأرض. والحاصل أن أصلها في الجنة وهما يخرجان أولا من أصلها ثم
يسيران إلى أن يستقرا في الأرض ثم ينبعان. واستدل به على فضيلة ماء النيل والفرات
لكون منبعهما من الجنة، وكذا سيحان وجيحان. قال القرطبي: لعل ترك ذكرهما في حديث
الإسراء لكونهما ليسا أصلا برأسهما. وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات. قال:
وقيل: وإنما أطلق على هذه الأنهار أنها من الجنة تشبيها لها بأنهار الجنة لما فيها
من شدة العذوبة والحسن والبركة، والأول أولى، والله أعلم. "تنبيه":
الفرات بالمثناة في الخط في حالتي الوصل والوقف في القراءات المشهورة،
ـــــــ
1 الذي في نسخ الصحيح "أما الباطنان فنهران في الجنة"
(7/214)
وجاء في قراءة شاذة أنها هاء تأنيث، وشبهها أبو المظفر بن الليث بالتابوت والتابوه. قوله: "ثم رفع لي البيت المعمور" زاد الكشميهني: "يدخله كل يوم سبعون ألف ملك" وتقدمت هذه الزيادة في بدء الخلق بزيادة "إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم" وكذا وقع مضموما إلى رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، وقد بينت في بدء الخلق أنه مدرج، وذكرت من فصله من رواية قتادة عن الحسن عن أبي هريرة، وقد قدمت ما يتعلق بالبيت المعمور هناك، ووقعت هذه الزيادة أيضا عند مسلم من طريق ثابت عن أنس وفيه أيضا: "ثم لا يعودون إليه أبدا" وزاد ابن إسحاق في حديث أبي سعيد" إلى يوم القيامة" وفي حديث أبي هريرة عند البزار أنه رأى هناك أقواما بيض الوجوه وأقواما في ألوانهم شيء فدخلوا نهرا فاغتسلوا فخرجوا وقد خلصت ألوانهم، فقال له جبريل "هؤلاء من أمتك خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا". وفي رواية أبي سعيد عند الأموي والبيهقي أنهم "دخلوا معه البيت المعمور وصلوا فيه جميعا" واستدل به على أن الملائكة أكثر المخلوقات لأنه لا يعرف من جميع العوامل من يتجدد من جنسه في كل يوم سبعون ألفا غير ما ثبت عن الملائكة في هذا الخبر. قوله: "ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها" أي دين الإسلام. قال القرطبي يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي صلى الله عليه وسلم إليه دون غيره لكونه كان مألوفا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة، وقد وقع في هذه الرواية أن إتيانه الآنية كان بعد وصوله إلى سدرة المنتهى، وسيأتي في الأشربة من طريق شعبة عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفعت لي سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار" فذكره قال: "وأتيت بثلاثة أقداح" الحديث وهذا موافق لحديث الباب؛ إلا أن شعبة لم يذكر في الإسناد مالك بن صعصعة. وفي حديث أبي هريرة عند ابن عائذ في حديث المعراج بعد ذكر إبراهيم قال: "ثم انطلقنا، فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال جبريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك؟ فتناولت إحداهما فإذا هو عسل فشربت منه قليلا، ثم تناولت الآخر فإذا هو لبن فشربت منه حتى رويت، فقال: ألا تشرب من الثالث؟ قلت: قد رويت.قال: وفقك الله" وفي رواية البزار من هذا الوجه أن الثالث كان خمرا، لكن وقع عنده أن ذلك كان ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء ولما يذكر العسل. وفي حديث ابن عباس عند أحمد" فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلي، فلما انصرف جيء بقدحين في أحدهما لبن وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن" الحديث، وقد وقع عند مسلم من طريق ثابت عن أنس أيضا أن إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج ولفظه: "ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاء جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة.ثم عرج إلى السماء" وفي حديث شداد بن أوس فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر عسل، فعدلت بينهما، ثم هداني الله فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يدي - يعني لجبريل - أخذ صاحبك الفطرة" وفي حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق في قصة الإسراء" فصلى بهم - يعني الأنبياء - ثم أتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء، فأخذت اللبن" الحديث. وفي مرسل الحسن عنده نحوه لكن لم يذكر إناء الماء، ووقع بيان مكان عرض الآنية في رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عند المصنف كما سيأتي في أول الأشربة ولفظه: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بإناء فيه خمر وإنا فيه لبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي
(7/215)
هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك" وهو عند مسلم وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة عن أنس عند البيهقي" فعرض عليه الماء والخمر واللبن فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك" ويجمع بين هذا الاختلاف إما بحمل "ثم" على غير بابها من الترتيب وإنما هي بمعنى الواو هنا، وإما بوقوع عرض الآنية مرتين: مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس وسببه ما وقع له من العطش، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة. أما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، ومجموعها أربعة آنية فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى. ووقع في حديث أبي هريرة عند الطبري لما ذكر سدرة المنتهى "يخرج أصلها من أنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى" فلعله عرض عليه من كل نهر إناء. وجاء عن كعب أن نهر العسل نهر النيل ونهر اللبن نهر جيحان ونهر الخمر نهر الفرات ونهر الماء سيحان، والله أعلم. قوله: "ثم فرضت علي الصلاة" تقدم ما يتعلق بها في الكلام على حديث أبي ذر في أول الصلاة، والحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم لما عرج به رأى في تلك الليلة تعبد الملائكة وأن منهم القائم فلا يقعد والراكع فلا يسجد والساجد فلا يقعد، فجمع الله له ولأمته تلك العبادات كلها في كل ركعة يصليها العبد، بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. وقال في اختصاص فرضيتها بليلة الإسراء إشارة إلى عظيم بيانها، ولذلك اختص فرضها بكونه بغير واسطة بل بمراجعات تعددت على ما سبق بيانه. قوله: "ولكن أرضى وأسلم" في رواية الكشميهني: "ولكني أرضى وأسلم" وفيه حذف تقدير الكلام: سألت ربي حتى استحييت فلا أرجع، فإني إن رجعت صرت غير راض ولا مسلم، ولكني أرضى وأسلم. قوله: "أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي" تقدم أول الصلاة من رواية أنس عن أبي ذر" هن خمس وهن خمسون" وتقدم شرحه. وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "حتى قال: يا محمد هي خمس صلوات في كل يوم وليلة، كل صلاة عشرة فتلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة" الحديث، وسيأتي الكلام على هذه الزيادة في الرقاق. وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند النسائي: "وأتيت سدرة المنتهى فغشيتني ضبابة، فخررت ساجدا، فقيل لي: إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك" فذكر مراجعته مع موسى وفيه: "فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما" وقال في آخره: "فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك، قال فعرفت أنها عزمة من الله، فرجعت إلى موسى فقال لي ارجع، فلم أرجع". قوله: "فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي" هذا من أقوى ما استدل به على أن الله سبحانه وتعالى كلم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بغير واسطة. "تكملة": وقع في غير هذه الرواية زيادات رآها صلى الله عليه وسلم بعد سدرة المنتهى لم تذكر في هذه الرواية، منها ما تقدم في أول الصلاة" حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام" وفي رواية شريك عن أنس كما سيأتي في التوحيد" حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة تبارك وتعالى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه خمسين صلاة" الحديث. وقد استشكلت هذه الزيادة ويأتي الكلام على ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى في كتاب التوحيد. وفي رواية أبي ذر من الزيادة أيضا: "ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك" وعند مسلم من طريق همام عن قتادة
(7/216)
عن أنس رفعه: "بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، وإذا طينه مسك أذفر، فقال جبريل: هذا الكوثر" وله من طريق شيبان عن قتادة عن أنس "لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم: "فذكر نحوه. وعند ابن أبي حاتم وابن عائذ من طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس "ثم انطلق حتى انتهى بي إلى الشجرة، فغشيني من كل سحابة فيها من كل لون، فتأخر جبريل. وخررت ساجدا" وفي حديث ابن مسعود عند مسلم: "وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وخواتم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته المقحمات، يعني الكبائر" وفي هذه الرواية من الزيادة "ثم انجلت عني السحابة وأخذ بيدي جبريل، فانصرفت سريعا فأتيت على إبراهيم فلم يقل شيئا، ثم أتيت على موسى فقال: ما صنعت" الحديث. وفيه أيضا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لجبريل: ما لي لم آت أهل سماء إلا رحبوا وضحكوا إلي، غير رجل واحد فسلمت عليه فرد علي السلام ورحب بي ولم يضحك إلي؟ قال: يا محمد ذاك مالك خازن جهنم، لم يضحك منذ خلق، ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك ، وفي حديث حذيفة عند أحمد والترمذي" حتى فتحت لهما أبواب السماء فرأيا الجنة والنار، ووعد الآخرة أجمع" وفي حديث أبي سعيد" أنه عرض عليه الجنة، وإذا رمانها كأنه الدلاء؛ وإذا طيرها كأنها البخت، وأنه عرضت عليه النار، فإذا هي لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها" وفي حديث شداد بن أوس "فإذا جهنم تكشف عن مثل الزرابي، ووجدتها مثل الحمة السخنة" وزاد فيه أنه رآها في وادي بيت المقدس. وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم "أن جبريل قال: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال نعم: قال: قال: فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن. قال: فأتيت إليهن فسلمت، فرددت فقلت: من أنتن؟ فقلن: "خيرات حسان" الحديث. وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه "أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا بني إنك لاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل" وفي رواية الواقدي بأسانيده في أول حديث الإسراء "كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كانت ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا وهو نائم في بيته ظهرا أتاه جبريل وميكائيل فقالا: انطلق إلى ما سألت، فانطلقا به إلى ما بين المقام وزمزم، فأتي بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرا، فعرجا به إلى السماوات، فلقي الأنبياء، وانتهى إلى سدرة المنتهى، ورأى الجنة والنار، وفرض عليه الخمس" فلو ثبت هذا لكان ظاهرا في أنه معراج آخر لقوله إنه كان ظهرا، وأن المعراج كان من مكة، وهو مخالف لما في الروايات الصحيحة في الأمرين معا. ويعكر على التعدد قوله إن الصلوات فرضت حينئذ، إلا إن حمل على أنه أعيد ذكره تأكيدا، أو فرع على أن الأول كان مناما وهذا يقظة أو بالعكس، والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن للسماء أبوابا حقيقة وحفظة موكلين بها، وفيه إثبات الاستئذان، وأنه ينبغي لمن يستأذن أن يقول أنا فلان، ولا يقتصر على أنا لأنه ينافي مطلوب الاستفهام، وأن المار يسلم على القاعد وإن كان المار أفضل من القاعد، وفيه استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء، وجواز مدح الإنسان المأمون عليه الافتتان في وجهه، وفيه جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وغيره مأخوذ من استناد إبراهيم إلى البيت المعمور وهو كالكعبة في أنه قبلة من كل جهة، وفيه جواز نسخ الحكم قبل وقوع الفعل، وقد سبق البحث فيه في أول الصلاة، وفيه فضل السير بالليل على السير بالنهار لما وقع من الإسراء بالليل، ولذلك كانت أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل، وكان أكثر سفره صلى الله عليه وسلم بالليل. وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالدلجة فإن الأرض
(7/217)
تطوى بالليل" وفيه أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، يستفاد ذلك من قول موسى عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم أنه عالج الناس قبله وجربهم، ويستفاد منه تحكيم العادة، والتنبيه بالأعلى على الأدنى لأن من سلف من الأمم كانوا أقوى أبدانا من هذه الأمة، وقد قال موسى في كلامه إنه عالجهم على أقل من ذلك فما وافقوه، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة قال: ويستفاد منه أن مقام الخلة مقام الرضا والتسليم، ومقام التكليم مقام الإدلال والانبساط، ومن ثم استبد موسى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بطلب التخفيف دون إبراهيم عليه السلام، مع أن للنبي صلى الله عليه وسلم من الاختصاص بإبراهيم أزيد مما له من موسى لمقام الأبوة ورفعة المنزلة والاتباع في الملة. وقال غيره: الحكمة في ذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام في نفس الحديث من سبقه إلى معالجة قومه في هذه العبادة بعينها وأنهم خالفوه وعصوه. وفيه أن الجنة والنار قد خلقتا، لقوله في بعض طرقه التي بينتها "عرضت علي الجنة والنار" وقد تقدم البحث فيه في بدء الخلق. وفيه استحباب الإكثار من سؤال الله تعالى وتكثير الشفاعة عنده، لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في إجابته مشورة موسى في سؤال التخفيف. وفيه فضيلة الاستحياء، وبذل النصيحة لمن يحتاج إليها وإن لم يستشر الناصح في ذلك. قوله: "حدثنا عمرو" هو ابن دينار. قوله: "في قوله" أي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال: هي رؤيا أعين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس" قلت: وإيراد هذا الحديث في باب المعراج مما يؤيد أن المصنف يرى اتحاد ليلة الإسراء والمعراج، بخلاف ما فهم عنه من إفراد الترجمتين، وقد قدمت أن ترجمته في أول الصلاة تدل على ذلك حيث قال: "فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء" وقد تمسك بكلام ابن عباس هذا من قال الإسراء كان في المنام ومن قال إنه كان في اليقظة، فالأول أخذ من لفظ الرؤيا قال: لأن هذا اللفظ مختص برؤيا المنام، ومن قال بالثاني فمن قوله أريها ليلة الإسراء، والإسراء إنما كان في اليقظة، لأنه لو كان مناما ما كذبه الكفار فيه ولا فيما هو أبعد منه كما تقدم تقريره، وإذا كان ذلك في اليقظة وكان المعراج في تلك الليلة تعين أن يكون في اليقظة أيضا إذ لم يقل أحد إنه نام لما وصل إلى بيت المقدس ثم عرج به وهو نائم، وإذا كان في اليقظة فإضافة الرؤيا إلى العين للاحتراز عن رؤيا القلب، وقد أثبت الله تعالى رؤيا القلب في القرآن فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ورؤيا العين فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى} وروى الطبراني في الأوسط بإسناد قوي عن ابن عباس قال: "رأى محمد ربه مرتين" ومن وجه آخر قال: "نظر محمد إلى ربه" جعل الكلام لموسى والخلة لإبراهيم والنظر لمحمد، فإذا تقرر ذلك ظهر أن مراد ابن عباس هنا برؤية العين المذكورة جميع ما ذكره صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة من الأشياء التي تقدم ذكرها، وفي ذلك رد لمن قال: المراد بالرؤيا في هذه الآية رؤياه صلى الله عليه وسلم أنه دخل المسجد الحرام المشار إليها بقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} قال القائل: والمراد ب قوله: {فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ما وقع من صد المشركين له في الحديبية عن دخول المسجد الحرام انتهى. وهذا وإن كان يمكن أن يكون مراد الآية لكن الاعتماد في تفسيرها على ترجمان القرآن أولى، والله أعلم. واختلف السلف هل رأى ربه في ملك الليلة أم لا؟ على قولين مشهورين، وأنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها وطائفة، وأثبتها ابن عباس وطائفة. وسيأتي بسط ذلك في الكلام على حديث عائشة حيث ذكره المصنف بتمامه في تفسير سورة النجم من كتاب التفسير إن شاء الله تعالى. قوله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قال: "هي شجرة الزقوم" يريد تفسير الشجرة المذكورة في بقية الآية، وقد قيل فيها غير ذلك كما سيأتي في موضعه في
(7/218)
التفسير إن شاء الله تعالى.
(7/219)
43 - باب وُفُودِ الأَنْصَارِ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَبَيْعَةِ الْعَقَبَةِ
3889- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ ح
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ
حِينَ عَمِيَ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِطُولِهِ
قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ فِي حَدِيثِهِ "وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى
الإِسْلاَمِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ
أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا"
3890- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ كَانَ
عَمْرٌو يَقُولُ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
يَقُولُ "شَهِدَ بِي خَالاَيَ الْعَقَبَةَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ أَحَدُهُمَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ".
[الحديث 3890- طرفه في: 3891]
3891- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ
جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ "أَنَا وَأَبِي وَخَالِي
مِنْ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ"
3892- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ
أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ
مِنْ الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمِنْ أَصْحَابِهِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ تَعَالَوْا بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا
وَلاَ تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ وَلاَ تَأْتُوا
بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلاَ تَعْصُونِي
فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ
مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَمَنْ
أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ
شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ قَالَ فَبَايَعْناهُ عَلَى
ذَلِكَ"
3893- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ قَالَ إِنِّي مِنْ النُّقَبَاءِ
الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ
بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ نَسْرِقَ وَلاَ
نَزْنِيَ وَلاَ نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَلاَ نَنْتَهِبَ
وَلاَ نَقضِيَ بِالْجَنَّةِ
(7/219)
إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَإِنْ غَشِينَا
مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ".
قوله: "باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة
العقبة" ذكر ابن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد موت أبي
طالب قد خرج إلى ثقيف بالطائف يدعوهم إلى نصره، فلما امتنعوا منه كما تقدم في بدء
الخلق شرحه رجع إلى مكة فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج، وذكر
بأسانيد متفرقة أنه أتى كندة وبني كعب وبني حذيفة وبني عامر بن صعصعة وغيرهم فلم يجبه
أحد منهم إلى ما سأل. وقال موسى بن عقبة عن الزهري: "فكان في تلك السنين - أي
التي قبل الهجرة - يعرض نفسه على القبائل، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم إلا أن
يؤوه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحدا منكم على شيء، بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى
أبلغ رسالة ربي، فلا يقبله أحد بل يقولون: قوم الرجل أعلم به" وأخرج البيهقي
وأصله عند أحمد وصححه ابن حبان من حديث ربيعة بن عباد بكسر المهملة وتخفيف الموحدة
قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق ذي المجاز يتبع الناس في
منازلهم يدعوهم إلى الله عز وجل" الحديث. وروى أحمد وأصحاب السنن وصححه
الحاكم من حديث جابر "كان رسول الله يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: هل
من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي. فأتاه رجل من همدان
فأجابه، ثم خشي أن لا يتبعه قومه فجاء إليه فقال: آتي قومي فأخبرهم ثم آتيك من
العام المقبل. قال: نعم. فانطلق الرجل وجاء وفد الأنصار في رجب" وقد أخرج
الحاكم وأبو نعيم والبيهقي في "الدلائل" بإسناد حسن عن ابن عباس"
حدثني علي بن أبي طالب قال: لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج
وأنا منه وأبو بكر إلى منى، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدم أبو بكر
وكان نسابة فقال: من القوم؟ فقالوا: من ربيعة. فقال من أي ربيعة أنتم؟ قالوا: من
ذهل - ذكروا حديثا طويلا في مراجعتهم وتوقفهم أخيرا عن الإجابة - قال: ثم دفعنا
إلى مجلس الأوس والخزرج، وهم الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار
لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره، قال: فما نهضوا حتى بايعوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم": انتهى. وذكر ابن إسحاق أن أهل العقبة الأولى كانوا ستة نفر وهم:
أبو أمامة أسعد بن زرارة النجاري ورافع ابن مالك بن العجلان العجلاني وقطبة بن
عامر بن حديدة وجابر بن عبد الله بن رثاب، وعقبة بن عامر - وهؤلاء الثلاثة من بني
سلمة - وعوف بن الحارث بن رفاعة من بني مالك بن النجار. وقال موسى بن عقبة عن
الزهري وأبو الأسود عن عروة: هم أسعد بن زرارة ورافع بن مالك ومعاذ بن عفراء ويزيد
بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة، ويقال كان فيهم عبادة بن الصامت
وذكوان. قال ابن إسحاق: "حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قال
لما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أنتم؟ قالوا من الخزرج. قال: أفلا
تجلسون أكلمكم؟ قالوا: نعم. فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم
القرآن. وكان مما صنع الله لهم أن اليهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب،
وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبينا سيبعث
الآن قد أظل زمانه نتبعه، فنقتلكم معه، فلما كلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا
النعت، فقال بعضهم لبعض: لا تسبقنا إليه يهود، فآمنوا وصدقوا، وانصرفوا إلى بلادهم
ليدعوا قومهم، فلما أخبروهم لم يبق دور من قومهم إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله
عليه وسلم، حتى إذا كان الموسم وافاه منهم اثنا عشر رجلا". حديث كعب بن مالك
في قصة توبته، ذكر منه طرفا وسيأتي مطولا في مكانه والغرض منه قوله: "ولقد
شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة". وعنبسة هو ابن خالد بن يزيد
الإيلي
(7/220)
يروي عن عمه يونس بن يزيد، وقوله: "قال ابن بكير في حديثه" يريد أن اللفظ المساق لعقيل لا ليونس، وقوله: "تواثقنا" بالمثلثة والقاف أي وقع بيننا الميثاق على ما تبايعنا عليه، وقوله: "وما أحب أن لي بها مشهد بدر" لأن من شهد بدرا وإن كان فاضلا بسبب أنها أول غزوة نصر فيها الإسلام، لكن بيعة العقبة كانت سببا في فشو الإسلام، ومنها نشأ مشهد بدر، وقوله: "أذكر منها" هو أفعل تفضيل بمعنى المذكور، أي أكثر ذكرا بالفضل وشهرة بين الناس. قلت: وكان كعب من أهل العقبة الثانية، وقد عمد ثالثة كما أشرت إليه قبل، ولعل المصنف لمح بما أخرجه ابن إسحاق وصححه ابن حبان من طريقه بطوله، قال ابن إسحاق" حدثني معبد بن كعب بن مالك أن أخاه عبد الله - وكان من أعلم الأنصار - حدثه أن أباه كعبا حدثه، وكان ممن شهد العقبة وبايع بها قال: خرجنا حجاجا مع مشركي قومنا وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا - فذكر شأن صلاته إلى الكعبة قال -: فلما وصلنا إلى مكة ولم نكن رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، سألنا عنه فقيل: هو مع العباس في المسجد، فدخلنا فجلسنا إليه، فسأله البراء عن القبلة، ثم خرجنا إلى الحج، وواعدناه العقبة ومعنا عبد الله بن عمرو والد جابر ولم يكن أسلم قبل فعرفناه أمر الإسلام فأسلم حينئذ وصار من النقباء، قال فاجتمعنا عند العقبة ثلاثة وسبعين رجلا، ومعنا امرأتان أم عمارة بنت كعب إحدى نساء بني مازن وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة، قال فجاء ومعه العباس فتكلم فقال: إن محمدا منا من حيث علمتم، وقد منعناه وهو في عز، فإن كنتم تريدون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وذاك، وإلا فمن الآن. قال فقلنا: تكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ما أحببت. فتكلم، فدعا إلى الله وقرأ القرآن ورغب في الإسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال فأخذ البراء بن معرور بيده فقال: نعم" فذكر الحديث وفيه: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أ سالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم. ثم قال: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا " وذكر ابن إسحاق النقباء وهم أسعد بن زرارة ورافع بن مالك والبراء بن معرور وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن حرام وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو بن حبيش وأسيد بن حضير وسعد بن خيثمة وأبو الهيثم بن التيهان، وقيل بدله: رفاعة بن عبد المنذر". وفي "المستدرك" عن ابن عباس" كان البراء بن معرور أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة. قال ابن إسحاق: "حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، قالوا: نعم" وذكر أيضا أن قريشا بلغهم أمر البيعة فأنكروا عليهم، فحلف المشركون منهم وكانوا أكثر منهم - قيل: كانوا خمسمائة نفس - أن ذلك لم يقع، وذلك لأنهم ما علموا بشيء مما جرى. قوله: "كان عمرو" هو ابن دينار. قوله: "شهد بي خالاي العقبة" لم يسمهما في هذه الرواية؛ ونقل عن عبد الله بن محمد - وهو الجعفي - أن ابن عيينة قال: أحدهما: البراء بن معرور، كذا في رواية أبي ذر، ولغيره: قال أبو عبد الله يعني المصنف، فعلى هذا فتفسير المبهم من كلامه، لكنه ثبت أنه من كلام ابن عيينة من وجه آخر عند الإسماعيلي، فترجحت رواية أبي ذر. ووقع في رواية الإسماعيلي: "قال سفيان: خالاه البراء بن معرور وأخوه" ولم يسمه. والبراء بتخفيف الراء ومعرور بمهملات يقال إنه كان أول من أسلم من الأنصار، وأول من بايع في العقبة الثانية كما تقدم، ومات قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر واحد. وهو أول من صلى إلى الكعبة في قصة ذكرها ابن إسحاق وغيره، وقد تعقبه الدمياطي فقال: أم جابر هي أنيسة بنت غنمة بن عدي وأخواها .
(7/221)
ثعلبة وعمرو وهما خالا جابر، وقد شهدا العقبة الأخيرة. وأما البراء بن معرور فليس من أخوال جابر قلت: لكن من أقارب أمه، وأقارب الأم يمسون أخوالا مجازا، وقد روى ابن عساكر بإسناد حسن عن جابر قال: "حملني خالي الحر بن قيس في السبعين راكبا الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، فخرج إلينا معه العباس عمه فقال: يا عم، خذ لي على أخوالك" فسمى الأنصار أخوال العباس لكون جدته أم أبيه عبد المطلب منهم، وسمى الحر بن قيس خاله لكونه من أقارب أمه وهو ابن عم البراء بن معرور، فلعل قول سفيان "وأخوه" عني به الحر بن قيس، وأطلق عليه أخا وهو ابن عم لأنهما في منزلة واحدة في النسب، وهذا أول من توهيم مثل ابن عيينة، لكن لم يذكر أحد من أهل السير الحر بن قيس في أصحاب العقبة، فكأنه لم يكن أسلم، فعلى هذا فالخال الآخر لجابر إما ثعلبة وإما عمرو، والله أعلم. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف الصنعاني، وعطاء هو ابن أبي رباح. قوله: "أنا وأبي" عبد الله بن عمرو بن حرام بالمهملتين، وقد تقدم أنه كان من النقباء. قوله: "وخالي" تقدم القول فيهما، وقرأت بخط مغلطاي: يريد عيسى بن عامر بن عدي بن سنان وخالد بن عمرو بن عدي بن سنان لأن أم جابر أنيسة بنت غنمة بن عدي بن سنان، يعني فكل منهما ابن عمها بمنزلة أخيها، فأطلق عليهما جابر أنهما خالاه مجازا. قلت: إن حمل على الحقيقة تعين كما قاله الدمياطي، وإلا فتغليط ابن عيينة مع أن كلامه يمكن حمله على المجاز بأمر فيه مجاز ليس بمتجه، والله المستعان. ووقع عند ابن التين "وخالى" بغير ألف وتشديد التحتانية وقال: لعل الواو واو المعية أي مع خالي، ويحتمل أن يكون بالإفراد بكسر اللام وتخفيف الياء. حديث عبادة بن الصامت في قصة البيعة ليلة العقبة، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل كتاب الإيمان مع مباحث نفيسة تتعلق بقوله في الحديث: "فعوقب به فهو كفارة له" وأوضحت هناك أن بيعة العقبة إنما كانت على الإيواء والنصر، وأما ما ذكره من الكفارة فتلك بيعة أخرى وقعت بعد فتح مكة، ثم رأيت ابن إسحاق جزم بأن بيعة العقبة وقعت بما صدر في الرواية الثانية التي في هذا الباب ففال: "حدثني يزيد بن أبي حبيب" فذكر بسند الباب: "عن عبادة قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، فكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء" أي على وفق بيعة النساء التي نزلت بعد ذلك عند فتح مكة، وهذا محتمل، لكن ليست الزيادة في طريق الليث بن سعد عن يزيد في الصحيحين، وعلى تقدير ثبوتها فليس فيه ما ينافي ما قررته من أن قوله: "فهو كفارة" إنما ورد بعد ذلك، لأنه يعارضه حديث أبي هريرة "ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا" مع تأخر إسلام أبي هريرة عن ليلة العقبة، كما استوفيت مباحثه هناك. وممن ذكر صورة بيعة العقبة كعب بن مالك كما أسلفته آنفا عنه، وروى البيهقي من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبد الله بن رفاعة عن أبيه قال: "قال عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل" فذكر الحديث وفيه: "وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب بما نمنع به أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا. ولنا الجنة.فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بايعناه عليها" وعند أحمد بإسناد حسن وصححه الحاكم وابن حبان عن جابر مثله وأوله" مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسب بمنى وغيرها يقول: من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ حتى بعثنا الله له من يثرب فصدقناه" فذكر الحديث حتى قال: "فرحل إليه منا سبعون رجلا، فوعدناه بيعة العقبة، فقلنا: علام نبايعك؟ فقال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر،
(7/222)
وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة " الحديث. ولأحمد من وجه آخر عن جابر قال: "كان العباس آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغنا قال رسول الله: أخذت وأعطيت " وللبزار من وجه آخر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للنقباء من الأنصار: تؤوني، وتمنعوني؟ قالوا: نعم.قالوا: فما لنا؟ قال: "الجنة" وروى البيهقي بإسناد قوي عن الشعبي، ووصله الطبراني من حديث أبي موسى الأنصاري قال: "انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه العباس عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة فقال له أبو أمامة - يعني أسعد بن زرارة - سل يا محمد لربك ولنفسك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب. قال: أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم ، قالوا: فما لنا؟ قال: الجنة . قالوا: ذلك لك" وأخرجه أحمد من الوجهين جميعا. قوله: "ولا نقضي" بالقاف والضاد المعجمة للأكثر، وفي بعض النسخ عن شيوخ أبي ذر"ولا نعصي" بالعين والصاد المهملتين، وقد بينت الصواب من ذلك في أوائل كتاب الإيمان. وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع الاثني عشر رجلا مصعب بن عمير العبدري، وقيل: بعثه إليهم بعد ذلك بطلبهم ليفقههم ويقرئهم، فنزل على أسعد بن زرارة، فروى أبو داود من طريق عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: "كان أبي إذا سمع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسألته، فقال: كان أول من جمع بنا بالمدينة" وللدار قطني من حديث ابن عباس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير أن اجمع بهم" ا ه، فأسلم خلق كثير من الأنصار على يد مصعب بن عمير بمعاونة أسعد بن زرارة حتى فشا الإسلام بالمدينة، فكان ذلك سبب رحلتهم في السنة المقبلة، حتى وافى منهم العقبة سبعون مسلما وزيادة، فبايعوا كما تقدم.
(7/223)
44 - باب تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ وَقُدُومِهَا الْمَدِينَةَ وَبِنَائِهِ
بِهَا
3894- حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ "تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا
بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ
بْنِ خَزْرَجٍ فَوُعِكْتُ فَتَمَرَّقَ شَعَرِي فَوَفَى جُمَيْمَةً فَأَتَتْنِي
أُمِّي أُمُّ رُومَانَ وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي
فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا لاَ أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي فَأَخَذَتْ بِيَدِي
حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ وَإِنِّي لاَنْهِجُ حَتَّى سَكَنَ
بَعْضُ نَفَسِي ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي
وَرَأْسِي ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فِي
الْبَيْتِ فَقُلْنَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ
فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى فَأَسْلَمَتْنِي
إِلَيْهِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ"
[الحديث 3894- أطرافه في: 5160,5158,5156,5134,5133,3896]
3895- حَدَّثَنَا مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ
أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ
عَنْهَا
(7/223)
فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ
يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"
[الحديث 3895- أطرافه في: 7012,7011,5125,5078,]
3896- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ
هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاَثِ
سِنِينَ فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهِيَ
بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ"
قوله: "باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة" سقط لفظ:
"باب" لأبي ذر. قوله: "وقدومها المدينة" أي بعد الهجرة. قوله:
"وبنائه بها" أي بالمدينة. وكان دخولها عليه في شوال من السنة الأولى
وقيل: من الثانية، وقد تعقب قوله: "بنائه بها" اعتمادا على قول صاحب
الصحاح: العامة تقول بنى بأهله وهو خطأ، وإنما يقال بني على أهله. والأصل فيه أن
الداخل على أهله يضرب عليه قبة ليلة الدخول، ثم قيل لكل داخل بأهله بأن، انتهى.
ولا معنى لهذا التغليط لكثرة استعمال الفصحاء له، وحسبك بقول عائشة" بنى
بي" وبقول عروة في آخر الحديث الثالث "وبنى بها". قوله في الحديث:
"تزوجني وأنا بنت ست سنين" أي عقد علي. وقولها: "فنزلنا في بني
الحارث بن الخزرج" أي لما قدمت هي وأمها وأختها أسماء بنت أبي بكر كما
سأبينه، وأما أبوها فقدم قبل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فتمزق
شعري" بالزاي أي تقطع، وللكشميهني: "فتمرق" بالراء أي انتتف. قوله:
"فوفى" أي كثر، وفي الكلام حذف تقديره"ثم فصلت من الوعك فتربى شعري
فكثر، وقولها" جميمة" بالجيم مصغر الجمة بالضم وهي مجتمع شعر الناصية،
ويقال للشعر إذا سقط عن المنكبين جمة، وإذا كان إلى شحمة الأذنين وفرة. وقولها:
"في أرجوحة" بضم أوله معروفة وهي التي تلعب بها الصبيان، وقوله:
"أنهج" أي أتنفس تنفسا عاليا، وقولهن"على خير طائر" أي على
خير حظ ونصيب، وقولها: "فلم يرعني" بضم الراء وسكون العين أي لم يفزعني
شيء إلا دخوله علي، وكنت بذلك عن المفاجأة بالدخول على غير عالم بذلك فإنه يفزع
غالبا، وروى أحمد من وجه آخر هذه القصة مطولة" قالت عائشة: قدمنا المدينة
فنزلنا في بني الحارث، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا، فجاءت بي
أمي وأنا في أرجوحة ولي جميمة، ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت بي
تقودني حتى وقفت بي عند الباب حتى سكن نفسي" الحديث، وفيه: "فإذا رسول
الله صلى الله عليه وسلم جالس على سريره وعنده رجال ونساء من الأنصار فأجلستني في
حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك يا رسول الله، بارك الله فيهم فوثب الرجال والنساء، وبنى
بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا وأنا يومئذ بنت تسع سنين". قوله:
"أريتك" بضم أوله. قوله: "سرقة" بفتح المهملة والراء والقاف
أي قطعة، أي يريه صورتها. قوله: "ويقول" في رواية الكشميهني:
"وقال: ويأتي في النكاح بلفظ: "فقال لي هذه امرأتك". قوله:
"فإذا هي أنت" سيأتي الكلام على شرحه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.
قوله: "عن أبيه" هذا صورته مرسل، لكنه لما كان من رواية عروة مع كثرة
خبرته بأحوال عائشة يحمل على أنه حمله عنها. قوله: "توفيت خديجة قبل مخرج
النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فلبث سنتين أو قريبا من ذلك ونكح عائشة وهي
بنت ست سنين ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين" فيه إشكال لأن ظاهره
(7/224)
يقتضي أنه لم يبن بها إلا بعد قدومه المدينة بسنتين ونحو ذلك، لأن قوله: "فلبث سنتين أو نحو ذلك" أي بعد موت خديجة، وقوله: "ونكح عائشة" أي عقد عليها لقوله بعد ذلك" وبنى بها وهي بنت تسع" فيخرج من ذلك أنه بنى بها بعد قدومه المدينة بسنتين، وليس كذلك، لأنه وقع عند المصنف في النكاح من رواية الثوري عن هشام بن عروة في هذا الحديث: "ومكثت عنده تسعا" وسيأتي ما قيل من إدراج النكاح في هذه الطريق، وهو في الجملة صحيح، فإن عند مسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة في هذا الحديث: "وزفت إليه وهي بنت تسع ولعبتها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة" وله من طريق الأسود عن عائشة نحوه، ومن طريق عبد الله بن عروة عن أبيه عن عائشة" تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال" فعلى هذا فقوله: "فلبث سنتين أو قريبا من ذلك" أي لم يدخل على أحد من النساء، ثم دخل على سودة بنت زمعة قبل أن يهاجر، ثم بنى بعائشة بعد أن هاجر، فكأن ذكر سودة سقط على بعض رواته. وقد روى أحد والطبراني بإسناد حسن عن عائشة قالت: "لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون: يا رسول الله ألا تزوج؟ قال: نعم، فما عندك؟ قالت: بكر وثيب، البكر بنت أحب خلق الله إليك عائشة، والثيب سودة بنت زمعة.قال: فاذهبي فاذكريهما علي فدخلت على أبي بكر فقال: إنما هي بنت أخيه، قال: قولي له أنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي.فجاءه فأنكحه.ثم دخلت على سودة فقالت لها: أخبري أبي، فذكرت له، فزوجه" وذكر ابن إسحاق وغيره أنه دخل على سودة بمكة.وأخرج الطبراني من وجه آخر عن عائشة قالت."لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفنا بمكة، فلما استقر بالمدينة بعث زيد بن حارثة وأبا رافع، وبعث أبو بكر عبد الله بن أريقط وكتب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يحمل معه أم رومان وأم أبي بكر وأنا وأختي أسماء، فخرج بنا، وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة، وأخذ زيد امرأته أم أيمن وولديها أيمن وأسامة، واصطحبنا، حتى قدمنا المدينة فنزلت في عيال أبي بكر، ونزل آل النبي صلى الله عليه وسلم: عنده، وهو يومئذ يبني المسجد وبيوته، فأدخل سودة بنت زمعة أحد تلك البيوت، وكان يكون عندها، فقال له أبو بكر: ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ فبني بي" الحديث. قال الماوردي: الفقهاء يقولون: تزوج عائشة قبل سودة، والمحدثون يقولون: تزوج سودة قبل عائشة، وقد يجمع بينهما بأنه عقد على عائشة ولم يدخل بها ودخل بسودة. قلت: والرواية التي ذكرتها عن الطبراني ترفع الإشكال وتوجه الجمع المذكور، والله أعلم. وقد أخرج الإسماعيلي من طريق عبد الله بن محمد بن يحيى عن هشام عن أبيه" أنه كتب إلى الوليد: إنك سألتني متى توفيت خديجة؟ وإنها توفيت قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بثلاث سنين أو قريب من ذلك، نكح النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بعد متوفى خديجة، وعائشة بنت ست سنين. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بها بعدما قدم المدينة وهي بنت تسع سنين" وهذا السياق لا إشكال فيه، ويرتفع به ما تقدم من الإشكال أيضا، والله أعلم. إذا ثبت أنه بنى بها في شوال من السنة الأولى من الهجرة قوي قول من قال إنه دخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر، وقد وهاه النووي في تهذيبه، وليس بواه إذا عددناه من ربيع الأول، وجزمه بأن دخوله بها كان في السنة الثانية يخالف ما ثبت كما تقدم أنه دخل بها بعد خديجة بثلاث سنين. وقال الدمياطي في السيرة له: ماتت خديجة في رمضان، وعقد على سودة في شوال ثم على عائشة، ودخل بسودة قبل عائشة.
(7/225)
45 - باب هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَوْلاَ الْهِجْرَةُ
لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَار"ِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا
نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ
الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ" .
3897- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ
قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ عُدْنَا خَبَّابًا فَقَالَ "هَاجَرْنَا
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ
فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ
شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً
فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا
رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ
إِذْخِرٍ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا"
3898- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ قَالَ سَمِعْتُ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ
إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا
هَاجَرَ إِلَيْهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ"
3899- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي
لُبَابَةَ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ الْمَكِّيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ
الْفَتْحِ".
[الحديث 3899- أطرافه في: 4311,4310,4309]
3900- قَالَ يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ وَحَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي رَبَاحٍ قَالَ زُرْتُ عَائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ
فَسَأَلْنَاهَا عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَتْ "لاَ هِجْرَةَ الْيَوْمَ كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ
فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ وَالْيَوْمَ يَعْبُدُ
رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ".
3901- حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ
هِشَامٌ فَأَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
(7/226)
"أَنَّ سَعْدًا قَالَ اللَّهُمَّ
إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ
مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجُوهُ
اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ"
وَقَالَ أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ أَخْبَرَتْنِي
عَائِشَةُ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا نَبِيَّكَ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ قُرَيْشٍ.
3902- حَدَّثَنَي مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ
حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ "بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ
ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ
ثَلاَثٍ وَسِتِّينَ"
3903- حَدَّثَنَي مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ
حَدَّثَنَا زكرياء بن اسحاق حَدَّثَنَا عمرو بن دينار عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ"مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة؛ وتوفي وهو بن ثلاث
وستين"
3904- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ
أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عُبَيْدٍ
يَعْنِي ابْنَ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى
الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ
زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ
فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا
فَعَجِبْنَا لَهُ وَقَالَ النَّاسُ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ
بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ وَهُوَ
يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ
أَعْلَمَنَا بِهِ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَمَنِّ
النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا
خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ إِلاَّ خُلَّةَ الإِسْلاَمِ لاَ
يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ"
قوله: "باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة" أما
النبي صلى الله عليه وسلم فجاء عن ابن عباس أنه أذن له في الهجرة إلى المدينة
بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ
صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} أخرجه الترمذي وصححه هو
والحاكم، وذكر الحاكم أن خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة كان بعد بيعة العقبة
بثلاثة أشهر أو قريبا منها، وجزم ابن إسحاق بأنه خرج أول يوم من ربيع الأول، فعلى
هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يوما، وكذا جزم به الأموي في المغازي عن ابن
إسحاق فقال: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال، قال وخرج لهلال ربيع الأول
وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول. قلت: وعلى هذا خرج يوم الخميس، وأما
أصحابه فتوجه معه منهم أبو بكر الصديق وعامر بن فهيرة، وتوجه قبل ذلك بين العقبتين
جماعة منهم ابن أم مكتوم، ويقال إن أول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد
الأشهل المخزومي زوج أم سلمة، وذلك
(7/227)
أنه أوذي لما رجع من الحبشة، فعزم على الرجوع إليها، فبلغه قصة الاثني عشر من الأنصار فتوجه إلى المدينة، ذكر ذلك ابن إسحاق، وأسند عن أم سلمة أن أبا سلمة أخذها معه فردها قومها فحبسوها سنة، ثم انطلقت فتوجهت في قصة طويلة وفيها" فقدم أبو سلمة المدينة بكرة، وقدم بعده عامر بن ربيعة حليف بني عدي عشية" ثم توجه مصعب بن عمير كما تقدم آنفا ليفقه من أسلم من الأنصار، ثم كان أول من هاجر بعد بيعة العقبة عامر بن ربيعة حليف بني عدي على ما ذكر ابن إسحاق، وسيأتي ما يخالفه في الباب الذي يليه وهو قول البراء" أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير" إلخ توجه باقي الصحابة شيئا فشيئا كما سيأتي في الباب الذي يليه. ثم لما توجه النبي صلى الله عليه وسلم واستقر بها خرج من بقي من المسلمين، وكان المشركون يمنعون من قدروا على منعه منهم، فكان أكثرهم يخرج سرا إلى أن لم يبق منهم بمكة إلا من غلب على أمره من المستضعفين. ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث: الأول والثاني: قوله: "وقال عبد الله بن زيد وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار" أما حديث عبد الله بن زيد فيأتي موصولا في غزوة حنين، وأما حديث أبي هريرة فتقدم موصولا في مناقب الأنصار، وقوله: "من الأنصار" أي كنت أنصاريا صرفا فما كان لي مانع من الإقامة بمكة، لكنني اتصفت بصفة الهجرة، والمهاجر لا يقيم بالبلد الذي هاجر منها مستوطنا، فينبغي أن يحصل لكم الطمأنينة بأني لا أتحول عنكم، وذلك أنه إنما قال لهم ذلك في جواب قولهم: أما الرجل فقد أحب الإقامة بموطنه، وسيأتي لذلك مزيد في غزوة حنين إن شاء الله تعالى. الحديث الثالث: قوله: "وقال أبو موسى إلخ" يأتي شرحه مستوفى في غزوة أحد، وقوله فيه: "فذهب وهلي" بفتح الواو والهاء أي ظني، يقال وهل بالفتح يهل بالكسر وهلا بالسكون إذا ظن شيئا فتبين الأمر بخلافه، وقوله: "أو هجر" بفتح الهاء والجيم بلد معروف من البحرين وهي من مساكن عبد القيس، وقد سبقوا غيرهم من القرى إلى الإسلام كما سبق بيانه في كتاب الإيمان. ووقع في بعض نسخ أبي ذر"أو الهجر" بزيادة ألف ولام والأول أشهر، وزعم بعض الشراح أن المراد بهجر هنا قرية قريبة من المدينة، وهو خطأ فإن الذي يناسب أن يهاجر إليه لا بد وأن يكون بلدا كبيرا كثير الأهل، وهذه القرية التي قيل إنها كانت قرب المدينة يقال لها هجر لا يعرفها أحد، وإنما زعم ذلك بعض الناس في قوله: "قلال هجر" أن المراد بها قرية كانت قرب المدينة كان يصنع بها القلال، وزعم آخرون بأن المراد بها هجر التي بالبحرين كأن القلال كانت تعمل بها وتجلب إلى المدينة وعملت بالمدينة على مثالها، وأفاد ياقوت أن هجر أيضا بلد باليمن، فهذا أولى بالتردد بينها وبين اليمامة لأن اليمامة بين مكة واليمن، وقوله: "فإذا هي المدينة يثرب" كان ذلك قبل أن يسميها صلى الله عليه وسلم طيبة، ووقع. عند البيهقي من حديث صهيب رفعه: "أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين، فإما أن تكون هجر أو يثرب" ولم يذكر اليمامة، وللترمذي من حديث جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى أوحى إلي أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك: المدينة أو البحرين أو قنسرين" استغربه الترمذي، وفي ثبوته نظر لأنه مخالف لما في الصحيح من ذكر اليمامة، لأن قنسرين من أرض الشام من جهة حلب، وهي بكسر القاف وفتح النون الثقيلة بعدها مهملة ساكنة، بخلاف اليمامة فإنها إلى جهة اليمن، إلا إن حمل على اختلاف المأخذ فإن الأول جرى على مقتضى الرؤيا التي أريها، والثاني يخير بالوحي، فيحتمل أن يكون أري أولا ثم خير ثانيا فاختار المدينة. حديث خباب"هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم": أي بإذنه، وإلا فلم يرافق النبي صلى الله عليه وسلم سوى أبي بكر وعامر بن فهيرة كما تقدم، وقد أعاد
(7/228)
المصنف هذا الحديث في هذا الباب، وستأتي الإشارة إليه بعد بضعة عشر حديثا، وسيأتي شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الرقاق، ومضى شيء منه في كتاب الجنائز. حديث عمر "الأعمال بالنية" أورده مختصرا، وقد تقدم شرحه مستوفى في أول الكتاب، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري، وهو الذي لا يثبت هذا الحديث إلا من طريقه. قوله: "حدثني إسحاق ابن يزيد الدمشقي" هو إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الفراديسي الدمشقي أبو النضر، نسبه هنا إلى جده، وكذلك في الزكاة وفي الجهاد، وجزم بأنه الفراديسي الكلاباذي وآخرون، وتفرد الباجي فأفرده بترجمة ونسبه خراسانيا، ولم يعرف من حاله على ذلك، وقول الجماعة أولى. قوله: "عن عبدة بن أبي لبابة" بضم اللام والموحدتين الأولى خفيفة الأسدي كوفي نزل دمشق وكنيته أبو القاسم، ولا يعرف اسم أبيه. قال الأوزاعي: لم يقدم علينا من العراق أفضل منه. قوله: "أن عبد الله بن عمر كان يقول لا هجرة بعد الفتح" هذا موقوف، وسيأتي شرحه في الذي بعده. قوله: "قال يحيى بن حمزة: وحدثني الأوزاعي" هو معطوف على الذي قبله، وقد أفردهما في أواخر غزوة الفتح، وأورد كل واحد منهما عن إسحاق بن يزيد المذكور بإسناده. وأخرج ابن حبان الثاني من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال: "سألته عن انقطاع فضيلة الهجرة إلى الله ورسوله فقال: "فذكره. قوله: "عن عطاء" في رواية ابن حبان: "حدثنا عطاء". قوله: "زرت عائشة مع عبيد بن عمير الليثي" تقدم في أبواب الطواف من الحج أنها كانت حينئذ مجاورة في جبل ثبير. قوله: "فسألها عن الهجرة" أي التي كانت قبل الفتح واجبة إلى المدينة ثم نسخت بقوله: "لا هجرة بعد الفتح" وأصل الهجرة هجر الوطن، وأكثر ما يطلق على من رحل من البادية إلى القرية، ووقع عند الأموي في المغازي من وجه آخر عن عطاء" فقالت إنما كانت الهجرة قبل فتح مكة والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة". قوله: "لا هجرة اليوم" أي بعد الفتح. قوله: "كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلخ" أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت، ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل الجهاد في" باب وجوب النفير" في الجمع بين حديث ابن عباس"لا هجرة بعد الفتح" وحديث عبد الله بن السعدي "لا تنقطع الهجرة" وقال الخطابي: كانت الهجرة أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت لما هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل سقطت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب. وقال البغوي في "شرح السنة": يحتمل الجمع بينهما بطريق أخرى. بقوله: "لا هجرة بعد الفتح" أي من مكة إلى المدينة، وقوله: "لا تنقطع" أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام، قال: ويحتمل وجها آخر وهو أن قوله لا هجرة أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذن، وقوله: "لا تنقطع" أي هجرة من هاجر على غير هذا الوصف من الأعراب ونحوهم. قلت: الذي يظهر أن المراد بالشق الأول وهو المنفي ما ذكره في الاحتمال الأخير، وبالشق الآخر المثبت ما ذكره في الاحتمال الذي قبله، وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه
(7/229)
الإسماعيلي بلفظ: "انقطعت الهجرة
بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل
الكفار" أي ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي
أن يفتن عن دينه، ومفهومه أنه لو قدر أن يبقى في الدنيا دار كفر أن الهجرة تنقطع
لانقطاع موجبها والله أعلم. وأطلق ابن التين أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت
واجبة وأن من أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بغير عذر
كان كافرا، وهو إطلاق مردود، والله أعلم. قوله: "عن هشام" هو ابن عروة.
قوله: "أن سعدا" هو ابن معاذ، وسيأتي شرح هذا في غزوة بني قريظة، وأورده
هنا مختصرا لما يتعلق بقريش الذين أحوجوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج عن
وطنه. قوله: "وقال أبان بن يزيد هو العطار إلخ" يعني أن أبان وافق ابن
نمير في روايته عن هشام لهذا الحديث وأفصح بتعيين القوم الذين أبهموا وأنهم قريش،
وزعم الداودي أن المراد بالقوم قريظة، ثم قال في الرواية المعلقة: هذا ليس بمحفوظ،
وهو إقدام منه على رد الروايات الثابتة بالظن الخائب، وذلك أن في رواية ابن نمير
أيضا ما يدل على أن المراد بالقوم قريش، وإنما تفرد أبان بذكر قريش في الموضع
الأول، وإلا فسيأتي في المغازي في بقية هذا الحديث من كلام سعد وقال: "اللهم
فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني له" الحديث، وأيضا ففي الموضع الذي اقتصر
الداودي، على النظر فيه ما يدل على أن المراد قريش، لأن فيه: "من قوم كذبوا
رسولك وأخرجوه" فإن هذه القصة مختصة بقريش لأنهم الذين أخرجوه، وأما قريظة
فلا. قوله: "حدثنا هشام" هو ابن حسان. قوله: "فمكث بمكة ثلاث
عشرة" هذا أصح مما أخرجه أحمد عن يحيى بن سعيد عن هشام بن حسان بهذا الإسناد
قال: "أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة
عشرا" وأصح مما أخرجه مسلم من وجه آخر عن ابن عباس" أن إقامة النبي صلى
الله عليه وسلم بمكة كانت خمس عشرة سنة" وقد تقدم بيان ذلك في كتاب المبعث،
وسيأتي بقية الكلام عليه في الوفاة إن شاء الله تعالى. وقوله هنا: "فهاجر عشر
سنين" أي أقام مهاجرا عشر سنين، وهو كقوله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ
مِائَةَ عَامٍ} . حديث أبي سعيد، تقدم شرحه في" مناقب أبي بكر" مستوفى،
وقوله فيه: "فقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ" في حديث ابن عباس عند
البلاذري في نحو هذه القصة" فقال له أبو سعيد الخدري. يا أبا بكر ما
يبكيك" فذكر الحديث.
3905- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ
ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ
"لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ
يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَلَمَّا ابْتُلِيَ
الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى
إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ
الْقَارَةِ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي قَالَ
ابْنُ الدَّغِنَةِ فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ
إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي
الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَأَنَا لَكَ جَارٌ ارْجِعْ
وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ
فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ
(7/230)
فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِصَلاَتِهِ وَلاَ يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلاَةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ وَإِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلاَنَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِلْمُسْلِمِينَ إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ قَالَ نَعَمْ فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ وَهُوَ الْخَبَطُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَمْرٌ قَالَتْ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي بَكْرٍ أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَ إِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بِالثَّمَنِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَجَهَّزْنَاهُمَا
(7/231)
أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا
لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً
مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ
ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ قَالَتْ ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ فَكَمَنَا فِيهِ
ثَلاَثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ
غُلاَمٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ
مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلاَ يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ
إِلاَّ وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلاَمُ
وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً
مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ
فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى
يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ
لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاَثِ وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ
وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيَا خِرِّيتًا وَالْخِرِّيتُ
الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ
السَّهْمِيِّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا
إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ
بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاَثٍ وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ
وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ"
الحديث الحادي عشر قوله: "لم أعقل أبوي" يعني أبا بكر وأم رومان.قوله:
"يدينان الدين" بالنصب على نزع الخافض أي يدينان بدين الإسلام، أو هو
مفعول به على التجوز. قوله: "فلما ابتلي المسلمون" أي بأذى المشركين لما
حصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في
الهجرة إلى الحبشة كما تقدم بيانه. قوله: "خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض
الحبشة" أي ليلحق بمن سبقه إليها من المسلمين، وقد قدمت أن الذين هاجروا إلى
الحبشة أولا ساروا إلى جدة وهي ساحل مكة ليركبوا منها البحر إلى الحبشة. قوله:
"برك الغماد" أما برك فهو بفتح الموحدة وسكون الراء بعدها كاف وحكي كسر
أوله، وأما الغماد فهو بكسر المعجمة وقد تضم وبتخفيف الميم، وحكى ابن فارس فيها ضم
الغين، موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن. وقال البكري: هي أقاصي هجر، وحكى
الهمداني في أنساب اليمن: هو في أقصى اليمنى، والأول أولى. وقال ابن خالويه حضرت
مجلس المحاملي وفيه زهاء ألف، فأملى عليهم حديثا فيه: "فقالت الأنصار لو
دعوتنا إلى برك الغماد" قالها بالكسر، فقلت للمستملي: هو بالضم، فذكر له ذاك،
فقال لي: وما هو؟ قلت: سألت ابن دريد عنه فقال: هو بقعة في جهنم. فقال المحاملي:
وكذا في كتابي على الغين ضمة.
قال ابن خالويه وأنشد ابن دريد:
وإذا تنكرت البلاد ... فأولها كنف البعاد
واجعل مقامك أو مقرك ... جانبي برك الغماد
لست ابن أم القاطنين ... ولا ابن عم للبلاد
قال ابن خالويه: وسألت أبا عمر - يعني غلام ثعلب - فقال: هو بالكسر والضم موضع
باليمن، قال وموضع باليمن أوله بالكسر لكن آخره راء مهملة، وهو عند بئر برهوت الذي
يقال إن أرواح الكفار تكون فيها ا هـ
(7/232)
واستبعد بعض المتأخرين ما ذكره ابن دريد فقال: القول بأنه موضع باليمن أنسب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعوهم إلى جهنم. وخفي عليهم أن هذا بطريق المبالغة فلا يراد به الحقيقة، ثم ظهر لي أن لا تنافي بين القولين، فيحمل قوله: جهنم على مجاز المجاورة بناء على القول بأن برهوت مأوى أرواح الكفار وهم أهل النار. قوله: "ابن الدغنة" بضم المهملة والمعجمة وتشديد النون عند أهل اللغة، وعند الرواة بفتح أوله وكسر ثانيه وتخفيف النون، قال الأصيلي وقرأه لنا المروزي بفتح الغين، وقيل: إن ذلك كان لاسترخاء في لسانه والصواب الكسر، وثبت بالتخفيف والتشديد من طريق، وهي أمه وقيل أم أبيه وقيل دابته، ومعنى الدغنة المسترخية وأصلها الغمامة الكثيرة المطر، واختلف في اسمه فعند البلاذري من طريق الواقدي عن معمر عن الزهري أنه الحارث بن يزيد، وحكى السهيلي أن اسمه مالك، ووقع في "شرح الكرماني" أن ابن إسحاق سماه ربيعة بن رفيع؛ وهو وهم من الكرماني فإن ربيعة المذكور آخر يقال له ابن الدغنة أيضا لكنه سلمي، والمذكور هنا من القارة فاختلفا، وأيضا السلمي إنما ذكره ابن إسحاق في غزوة حنين وأنه صحابي قتل دريد بن الصمة، ولم يذكره ابن إسحاق في قصة الهجرة. وفي الصحابة ثالث يقال له ابن الدغنة لكن اسمه حابس وهو كلبي، له قصة في سبب إسلامه وأنه رأى شخصا من الجن فقال له "يا حابس بن دغنة يا حابس" في أبيات، وهو مما يرجح رواية التخفيف في الدغنة. قوله: "وهو سيد القارة" بالقاف وتخفيف الراء، وهي قبيلة مشهورة من بني الهون، بالضم والتخفيف، ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش، وكانوا يضرب بهم المثل في قوة الرمي، قال الشاعر: قد أنصف القارة من راماها قوله: "أخرجني قومي"أي تسببوا في إخراجي. قوله: "فأريد أن أسيح" بالمهملتين، لعل أبا بكر طوى عن ابن الدغنة تعيين جهة مقصده لكونه كان كافرا، وإلا فقد تقدم أنه قصد التوجه إلى أرض الحبشة، ومن المعلوم أنه لا يصل إليها من الطريق التي قصدها حتى يسير في الأرض وحده زمانا فيصدق أنه سائح، لكن حقيقة السياحة أن لا يقصد موضعا بعينه يستقر فيه. قوله: "وتكسب المعدوم" في رواية الكشميهني: "المعدم" وقد تقدم شرح هذه الكلمات في حديث بدء الوحي أول الكتاب، وفي موافقة وصف ابن الدغنة لأبي بكر بمثل ما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على عظيم فضل أبي بكر واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال. قوله: "وأنا لك جار" أي مجير أمنع من يؤذيك. قوله: "فرجع" أي أبو بكر "وارتحل معه ابن الدغنة" وقع في الكفالة" وارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر" والمراد في الروايتين مطلق المصاحبة، إلا فالتحقيق ما في هذا الباب. قوله: "لا يخرج مثله" أي من وطنه باختياره على نية الإقامة في غيره مع ما فيه من النفع المتعدي لأهل بلده "ولا يخرج" أي ولا يخرجه أحد بغير اختياره للمعنى المذكور، واستنبط بعض المالكية من هذا أن من كانت فيه منفعة متعدية لا يمكن من الانتقال عن البلد إلى غيره بغير ضرورة راجحة. قوله: "فلم تكذب قريش" أي لم ترد عليه قوله في أمان أبي بكر، وكل من كذبك فقد رد قولك، فأطلق التكذيب وأراد لازمه، وتقدم في الكفارة بلفظ: "فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنت أبا بكر" وقد استشكل هذا مع ما ذكر ابن إسحاق في قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وسؤاله حين رجع الأخنس بن شريق أن يدخل في جواره فاعتذر بأنه حليف، وكان أيضا من حلفاء بني زهرة، ويمكن الجواب بأن ابن الدغنة رغب في إجارة أبي بكر، والأخنس لم يرغب فيما التمس منه فلم يثرب النبي صلى الله عليه وسلم عليه. قوله: "بجوار" بكسر الجيم وبضمها، وقد تقدم بيان المراد منه في كتاب الكفالة. قوله:
(7/233)
"مر أبا بكر فليعبد ربه" دخلت الفاء على شيء محذوف لا يخفى تقديره. قوله: "فلبث أبو بكر" تقدم في الكفالة بلفظ: "فطفق" أي جعل، ولم يقع لي بيان المدة التي أقام فيها أبو بكر على ذلك. قوله: "ثم بدا لأبي بكر" أي ظهر له رأي غير الرأي الأول. قوله: "بفناء داره" بكسر الفاء وتخفيف النون وبالمد أي أمامها. قوله: "فينقذف" بالمثناة والقاف والذال المعجمة الثقيلة، تقدم في الكفالة بلفظ: "فيتقصف" أي يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر، وأطلق يتقصف مبالغة، قال الخطابي: هو المحفوظ، وأما يتقذف فلا معنى له إلا أن يكون من القذف أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضا فيتساقطون عليه فيرجع إلى معنى الأول، وللكشميهني بنون وسكون القاف وكسر الصاد أي يسقط. قوله: "بكاء" بالتشديد أي كثير البكاء. قوله: "لا يملك عينيه" أي لا يطيق إمساكهما عن البكاء من رقة قلبه. وقوله: "إذا قرأ" إذا ظرفية والعامل فيه لا يملك، أو هي شرطية والجزاء مقدر. قوله: "فأفزع ذلك" أي أخاف الكفار لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب أن يميلوا إلى دين الإسلام. قوله: "فقدم عليهم" في رواية الكشميهني: "فقدم عليه" أي على أبي بكر. قوله: "أن يفتن نساءنا" بالنصب على المفعولية وفاعله أبو بكر، كذا لأبي ذر، وللباقين" أن يفتن" بضم أوله" نساؤنا" بالرفع على البناء للمجهول. قوله: "أجرنا" بالجيم والراء للأكثر، وللقابسي بالزاي أي أبحنا له، والأول أوجه، والألف مقصورة في الروايتين. قوله: "فاسأله" في رواية الكشميهني: "فسله". قوله: "ذمتك" أي أمانك له. قوله: "نخفرك" بضم أوله وبالخاء المعجمة وكسر الفاء أي نغدر بك، يقال خفره إذا حفظه، وأخفره إذا غدر به. قوله: "مقرين لأبي بكر الاستعلان" أي لا نسكت عن الإنكار عليه للمعنى الذي ذكروه من الخشية على نسائهم وأبنائهم أن يدخلوا في دينه.قوله: "وأرضى بجوار الله" أي أمانه وحمايته. وفيه جواز الأخذ بالأشد في الدين، وقوة يقين أبي بكر. قوله: "والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة" في هذا الفصل من فضائل الصديق أشياء كثيرة قد امتاز بها عمن سواه ظاهرة لمن تأملها. قوله: "بين لابتين وهما الحرتان" هذا مدرج في الخبر وهو من تفسير الزهري، والحرة أرض حجارتها سود، وهذه الرؤيا غير الرؤيا السابقة أول الباب من حديث أبي موسى التي تردد فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق، قال ابن التين: كأن النبي صلى الله عليه وسلم أري دار الهجرة بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم أري الصفة المختصة بالمدينة فتعينت. قوله: "ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة" أي لما سمعوا باستيطان المسلمين المدينة رجعوا إلى مكة فهاجر إلى أرض المدينة معظمهم لا جميعهم، لأن جعفرا ومن معه تخلفوا في الحبشة، وهذا السبب في مجيء مهاجرة الحبشة غير السبب المذكور في مجيء من رجع منهم أيضا في الهجرة الأولى، لأن ذاك كان بسبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في سورة النجم فشاع أن المشركين أسلموا وسجدوا فرجع من رجع من الحبشة فوجدوهم أشد ما كانوا كما سيأتي شرحه وبيانه في تفسير سورة النجم. قوله: "وتجهز أبو بكر قبل المدينة" بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة، وتقدم في الكفالة بلفظ: "وخرج أبو بكر مهاجرا" وهو منصوب على الحال المقدرة، والمعنى أراد الخروج طالبا للهجرة. وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عند ابن حبان: "استأذن أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج من مكة". قوله: "على رسلك" بكسر أوله أي على مهلك، والرسل السير الرفيق. وفي رواية ابن حبان: "فقال اصبر". قوله: "وهل ترجو ذلك بأبي أنت" لفظ: "أنت" مبتدأ وخبره "بأبي" أي مفدى بأبي، ويحتمل أن يكون أنت تأكيدا لفاعل ترجو وبأبي قسم. قوله: "فحبس نفسه" أي منعها من الهجرة. وفي رواية ابن حبان: "فانتظره أبو
(7/234)
بكر رضي الله عنه". قوله: "ورق السمر" بفتح المهملة وضم الميم. قوله: "وهو الخبط" مدرج أيضا في الخبر، وهو من تفسير الزهري، ويقال السمر شجرة أم غيلان، وقيل كل ماله ظل ثخين، وقيل: السمر ورق الطلح والخبط بفتح المعجمة والموحدة ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر قاله ابن فارس. قوله: "أربعة أشهر" فيه بيان المدة التي كانت بين ابتداء هجرة الصحابة بين العقبة الأولى والثانية وبين هجرته صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في أول الباب بين العقبة الثانية وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهرين وبعض شهر على التحرير. قوله: "قال ابن شهاب إلخ" هو بالإسناد المذكور أولا وقد أفرده ابن عائذ في المغازي من طريق الوليد بن محمد عن الزهري، ووقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبان مضموما إلى ما قبله، وعند موسى بن عقبة" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطئه يوم إلا أتى منزل أبي بكر أول النهار وآخره". قوله: "في نحر الظهيرة" أي أول الزوال وهو أشد ما يكون في حرارة النهار، والغالب في أيام الحر القيلولة فيها. وفي رواية ابن حبان: "فأتاه ذات يوم ظهرا" وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني" كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا بمكة كل يوم مرتين بكرة وعشية، فلما كان يوم من ذلك جاءنا في الظهيرة، فقلت يا أبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "هذا رسول الله متقنعا" أي مغطيا رأسه. وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب" قالت عائشة وليس عند أبي بكر إلا أنا وأسماء" قيل: فيه جواز لبس الطيلسان، وجزم ابن القيم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلبسه ولا أحد من أصحابه، وأجاب عن الحديث بأن التقنع يخالف التطيلس، قال: ولم يكن يفعل التقنع عادة بل للحاجة، وتعقب بأن في حديث أنس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر التقنع" أخرجه به، وفي طبقات ابن سعد مرسلا" ذكر الطيلسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا ثوب لا يؤدي شكره" قوله: "فداء له" بكسر الفاء وبالقصر. وفي رواية الكشميهني: "فداء" بالمد. قوله: "ما جاء به" في رواية يعقوب بن سفيان" إن جاء به" إن هي النافية بمعنى ما. وفي رواية موسى بن عقبة" فقال أبو بكر: يا رسول الله ما جاء بك إلا أمر حدث". قوله: "إنما هم أهلك" أشار بذلك إلى عائشة وأسماء كما فسره موسى بن عقبة، ففي روايته قال: "أخرج من عندك. قال: لا عين عليك، إنما هما ابنتاي" وكذلك في رواية هشام بن عروة. قوله: "فإني" في رواية الكشميهني: "فإنه". قوله: "الصحابة" بالنصب أي أريد المصاحبة، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله: "نعم" زاد ابن إسحاق في روايته: "قالت عائشة: فرأيت أبا بكر يبكي، وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح" وفي رواية هشام" فقال: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة" قوله: "إحدى راحلتي هاتين.قال: بالثمن" زاد ابن إسحاق" قال: لا أركب بعيرا ليس هو لي، قال: فهو لك، قال: لا ولكن بالثمن الذي ابتعتها به، قال: أخذتها بكذا وكذا، قال أخذتها بذلك، قال: هي لك" وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني "فقال: بثمنها يا أبا بكر، فقال: بثمنها إن شئت" ونقل السهيلي في"الروض" عن بعض شيوخ المغرب أنه سئل عن امتناعه من أخذ الراحلة مع أن أبا بكر أنفق عليه ماله، فقال: أحب أن لا تكون هجرته إلا من مال نفسه. وأفاد الواقدي أن الثمن ثمانمائة وأن التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر هي القصواء، وأنها كانت من نعم بني قشير، وأنها عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم قليلا وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع. وذكر ابن إسحاق أنها الجذعاء، وكانت من إبل بني الحريش، وكذا في رواية أخرجها ابن حبان من طريق هشام عن أبيه عن عائشة أنها الجذعاء. قوله: "أحث الجهاز" أحث بالمهملة والمثلثة أفعل تفضيل من الحث وهو الإسراع. وفي رواية لأبي ذر "أحب" بالموحدة،
(7/235)
والأول أصح. والجهاز بفتح الجيم وقد تكسر - ومنهم من أنكر الكسر - وهو ما يحتاج إليه في السفر. قوله: "وصنعنا لهما سفرة في جراب" أي زادا في جراب، لأن أصل السفرة في اللغة الزاد الذي يصنع للمسافر، ثم استعمل في وعاء الزاد، ومثله المزادة للماء، وكذلك الراوية. فاستعملت السفرة في هذا الخبر على أصل اللغة. وأفاد الواقدي أنه كان في السفرة شاة مطبوخة قوله: "ذات النطاق" يكسر النون، وللكشميهني النطاقين بالتثنية، والنطاق ما يشد به الوسط، وقيل: هو إزار فيه تكة، وقيل: هو ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل قاله أبو عبيدة الهروي، قال: وسميت ذات النطاقين لأنها كانت تجعل نطاقا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتجعل في الأخر الزاد ا ه. والمحفوظ كما سيأتي بعد هذا الحديث أنها شقت نطاقها نصفين فشدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الآخر، فمن ثم قيل لها ذات النطاق وذات النطاقين، فالتثنية والإفراد بهذين الاعتبارين. وعند ابن سعد من حديث الباب: "شقت نطاقها فأوكأت بقطعة منه الجراب وشدت فم القربة بالباقي فسميت ذات النطاقين". قوله: "قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في حبل ثور" بالمثلثة ذكر الواقدي أنهما خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر. وقال الحاكم تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس. قلت: يجمع بينهما بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين، لأنه أقام فيه ثلاث ليال، فهي ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وخرج في أثناء ليلة الاثنين. ووقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبان: "فركبا حتى أتيا الغار وهو ثور، فتواريا فيه: "وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: "فرقد علي على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يوري عنه، وباتت قريش تختلف وتأتمر أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى أصبحوا فإذا هم بعلي؛ فسألوه، فقال: لا علم لي فعلموا أنه فر منهم" وذكر ابن إسحاق نحوه وزاد: "أن جبريل أمره لا يبيت على فراشه، فدعا عليا فأمره أن يبيت على فراشه ويسجي ببرده الأخضر، ففعل. ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم على القوم ومعه حفنة من تراب، فجعل ينثرها على رءوسهم وهو يقرأ يس إلي: {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} . وذكر أحمد من حديث ابن عباس بإسناد حسن في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، قال: "تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج - النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، يعني ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه، فلما أصبحوا ورأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال". وذكر نحو ذلك موسى بن عقبة عن الزهري قال: "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلى بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثم إن مشركي قريش اجتمعوا" فذكر الحديث وفيه: "وبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم يوري عنه، وباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، فلما أصبحوا إذا هم بعلي" وقال في آخره: "فخرجوا في كل وجه يطلبونه" وفي مسند أبي بكر الصديق لأبي بكر بن علي المروزي شيخ النسائي من مرسل الحسن في قصة نسج العنكبوت نحوه، وذكر الواقدي أن قريشا بعثوا في أثرهما قائفين: أحدهما كرز بن علقمة، فرأى كرز بن
(7/236)
علقمة على الغار نسح العنكبوت فقال: هاهنا انقطع الأثر. ولم يسم الآخر وسماه أبو نعيم في "الدلائل" من حديث زيد بن أرقم وغيره سراقة بن جعشم. وقصة سراقة مذكورة في هذا الباب. وقد تقدم في "مناقب أبي بكر" حديث أنس عن أبي بكر. قوله: "فكمنا فيه" بفتح الميم ويجوز كسرها أي اختفيا. قوله: "ثلاث ليال" في رواية عروة بن الزبير "ليلتين" فلعله لم يحسب أول ليلة، وروى أحمد والحاكم من رواية طلحة النضري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبثت مع صاحي - يعني أبا بكر - في الغار بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا ثمر البرير" قال الحاكم: معناه مكثنا مختفين من المشركين في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما. قلت: لم يقع في رواية أحمد ذكر الغار، وهي زيادة في الخبر من بعض رواته، ولا يصح حمله على حالة الهجرة لما في الصحيح كما تراه من أن عامر بن فهيرة كان يروح عليهما في الغار باللبن، ولما وقع لهما في الطريق من لقي الراعي كما في حديث البراء في هذا الباب، ومن النزول بخيمة أم معبد وغير ذلك، فالذي يظهر أنها قصة أخرى، والله أعلم. وفي"دلائل النبوة للبيهقي" من مرسل محمد بن سيرين "أن أبا بكر ليلة انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار كان يمشي بين يديه ساعة ومن خلفه ساعة، فسأله فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي أمامك.فقال: لو كان شيء أحببت أن تقتل دوني؟ قال: أي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فاستبرأه" وذكر أبو القاسم البغوي من مرسل ابن أبي مليكة نحوه. وذكر ابن هشام من زياداته عن الحسن البصري بلاغا نحوه. قوله: "عبد الله بن أبي بكر" وقع في نسخة "عبد الرحمن" وهو وهم. قوله: "ثقف" بفتح المثلثة وكسر القاف ويجوز إسكانها وفتحها وبعدها فاء: الحاذق، تقول ثقفت الشيء إذا أقمت عوجه. قوله: "لقن" بفتح اللام وكسر القاف بعدها نون اللقن: السريع الفهم. قوله: "فيدلج" بتشديد الدال بعدها جيم أي يخرج بسحر إلى مكة. قوله: "فيصبح مع قريش بمكة كبائت" أي مثل البائت، يظنه من لا يعرف حقيقة أمره لشدة رجوعه بغلس. قوله: "يكتادان به" في رواية الكشميهني: "يكادان به" بغير مثناة أي يطلب لهما فيه المكروه، وهو من الكيد. قوله: "عامر بن فهيرة" تقدم ذكره في "باب الشراء من المشركين" من كت