الجمعة، 6 مايو 2022

الكتاب :16 و 17.فتح الباري المؤلف : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

 الكتاب : 16.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

----
 جعل أحق بها لما يقتضيه صيغة أفعل من الاشتراك، وأيضا فما ذكروه ينتقض بالشفعة، وأيضا فقد ورد التنصيص في حديث الباب على أنه في صورة المبيع، وذلك فيما رواه سفيان الثوري في جامعه وأخرجه من طريقه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد بلفظ: "إذا ابتاع الرجل سلعة ثم أفلس وهي عنده بعينها فهو أحق بها من الغرماء" ولابن حبان من طريق هشام بن يحيى المخزومي عن أبي هريرة بلفظ: "إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته" والباقي مثله، ولمسلم في رواية ابن أبي حسين المشار إليها قبل "إذا وجد عنده المتاع أنه لصاحبه الذي باعه" وفي مرسل ابن أبي مليكة عند عبد الرزاق "من باع سلعة من رجل لم ينقده ثم أفلس الرجل فوجدها بعينها فليأخذها من بين الغرماء" ، وفي مرسل مالك المشار إليه "أيما رجل باع متاعا" وكذا هو عند من قدمنا أنه وصله، فظهر أن الحديث وارد في صورة البيع، ويلتحق به القرض وسائر ما ذكر من باب الأولى. "تنبيه": وقع في الرافعي سياق الحديث بلفظ الثوري الذي قدمته، فقال السبكي في "شرح المنهاج" هذا الحديث أخرجه مسلم بهذا اللفظ وهو صريح في المقصود، فإن اللفظ المشهور أي الذي في البخاري عام أو محتمل، بخلاف لفظ البيع فإنه نص لا احتمال فيه وهو لفظ مسلم، قال: وجاء بلفظه بسند آخر صحيح انتهى. واللفظ المذكور ما هو في صحيح مسلم وإنما فيه ما قدمته والله المستعان. وحمله بعض الحنفية أيضا على ما إذا أفلس المشتري قبل أن يقبض السلعة، وتعقب بقوله في حديث الباب: "عند رجل" ولابن حبان من طريق سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد "ثم أفلس وهي عنده" وللبيهقي من طريق ابن شهاب عن يحيى "إذا أفلس الرجل وعنده متاع" فلو كان لم يقبضه ما نص في الخبر على أنه عنده، واعتذارهم بكونه خبر واحد فيه نظر، فإنه مشهور من غير هذا الوجه، أخرجه ابن حبان من حديث ابن عمر وإسناده صحيح، وأخرجه أحمد وأبو داود من حديث سمرة وإسناده حسن، وقضى به عثمان وعمر بن عبد العزيز كما مضى، وبدون هذا يخرج الخبر عن كونه فردا غريبا، قال ابن المنذر: لا نعرف لعثمان في هذا مخالفا من الصحابة. وتعقب بما روى ابن أبي شيبة عن علي أنه أسوة الغرماء، وأجيب بأنه اختلف على علي في ذلك بخلاف عثمان. وقال القرطبي في "المفهم": تعسف بعض الحنفية في تأويل هذا الحديث بتأويلات لا تقوم على أساس، وقال النووي: تأوله بتأويلات ضعيفة مردودة انتهى. واختلف القائلون في صورة - وهي ما إذا مات ووجدت السلعة - فقال الشافعي: الحكم كذلك وصاحب السلعة أحق بها من غيره. وقال مالك وأحمد: هو أسوة الغرماء، واحتجا بما في مرسل مالك "وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء " وفرقوا بين الفلس والموت بأن الميت خربت ذمته فليس للغرماء محل يرجعون إليه فاستووا في ذلك، بخلاف المفلس. واحتج الشافعي بما رواه من طريق عمر بن خلدة قاضي المدينة عن أبي هريرة قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه" وهو حديث حسن يحتج بمثله، أخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم، وزاد بعضهم في آخره: "إلا أن يترك صاحبه وفاء" ورجحه الشافعي على المرسل وقال: يحتمل أن يكون آخره من رأى أبي بكر بن عبد الرحمن، لأن الذين وصلوه عنه لم يذكروا قضية الموت، وكذلك الذين رووا عن أبي هريرة وغيره لم يذكروا ذلك، بل صرح ابن خلدة عن أبي هريرة بالتسوية بين الإفلاس والموت فتعين المصير إليه لأنها زيادة من ثقة. وجزم ابن العربي المالكي بأن الزيادة التي في مرسل مالك من قول الراوي، وجمع الشافعي أيضا بين الحديثين بحمل حديث ابن خلدة على ما إذا مات مفلسا، وحديث أبي بكر بن

(5/64)


عبد الرحمن على ما إذا مات مليئا والله أعلم. ومن فروع المسألة ما إذا أراد الغرماء أو الورثة إعطاء صاحب السلعة الثمن، فقال مالك: يلزمه القبول، وقال الشافعي وأحمد: لا يلزمه ذلك لما فيه من المنة، ولأنه ربما ظهر غريم آخر فزاحمه فيما أخذ. وأغرب ابن التين فحكى عن الشافعي أنه قال: لا يجوز له ذلك، ليس له إلا سلعته. ويلتحق بالمبيع المؤجر فيرجع مكتري الدابة أو الدار إلى عين دابته وداره ونحو ذلك، وهذا هو الصحيح عن الشافعية والمالكية. وإدراج الإجارة في هذا الحكم متوقف على أن المنافع يطلق عليها اسم المتاع أو المال، أو يقال اقتضى الحديث أن يكون أحق بالعين، ومن لوازم ذلك الرجوع في المنافع، فثبت بطريق اللزوم. واستدل به على حلول الدين المؤجل بالفلس من حيث أن صاحب الدين أدرك متاعه بعينه فيكون أحق به، ومن لوازم ذلك أن يجوز له المطالبة بالمؤجل وهو قول الجمهور، لكن الراجح عند الشافعية أن المؤجل لا يحل بذلك لأن الأجل حق مقصود له فلا يفوت، واستدل به على أن لصاحب المتاع أن يأخذه وهو الأصح من قولي العلماء، والقول الآخر يتوقف على حكم الحاكم كما يتوقف ثبوت الفلس، واستدل به على فسخ البيع إذا امتنع المشتري من أداء الثمن مع قدرته بمطل أو هرب قياسا على الفلس بجامع تعذر الوصول إليه حالا، والأصح من قولي العلماء أنه لا يفسخ، واستدل به على أن الرجوع إنما يقع في عين المتاع دون زوائده المنفصلة لأنها حدثت على ملك المشتري وليست بمتاع البائع. والله أعلم.

(5/65)


باب من أخر الغريم إلى الغد أو نحوه ولم بر ذلك مطلا
...
15 - باب: مَنْ أَخَّرَ الْغَرِيمَ إِلَى الْغَدِ أَوْ نَحْوِهِ وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مَطْلًا
وَقَالَ جَابِرٌ: "اشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ فِي دَيْنِ أَبِي فَسَأَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي فَأَبَوْا فَلَمْ يُعْطِهِمْ الْحَائِطَ وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ وَقَالَ: سَأَغْدُو عَلَيْكَ غَدًا فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ فَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ، فَقَضَيْتُهُمْ"
قوله: "باب من أخر الغريم إلى الغد أو نحوه ولم ير ذلك مطلا" ذكر فيه حديث جابر في قصة دين أبيه معلقا، وقد تقدم موصولا قريبا من طريق ابن كعب بن مالك عن جابر، لكنه ليس فيه قوله: "ولم يكسره لهم" وذكرها في حديثه في كتاب الهبة كما سيأتي، واستنبط من قوله صلى الله عليه وسلم: "سأغدو عليكم" جواز تأخير القسمة لانتظار ما فيه مصلحة لمن عليه الدين ولا يعد ذلك مطلا. "تنبيه" سقطت هذه الترجمة وحديثها من رواية النسفي، ولم يذكرها ابن بطال ولا أكثر الشراح.

(5/65)


16 - باب: مَنْ بَاعَ مَالَ الْمُفْلِسِ أَوْ الْمُعْدِمِ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَوْ أَعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ
2403- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أَعْتَقَ رَجُلٌ غُلاَمًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَخَذَ ثَمَنَهُ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ"
قوله: "باب من باع مال المفلس أو المعدم فقسمه بين الغرماء، أو أعطاه حتى ينفق على نفسه" ذكر فيه حديث

(5/16)


باب ‘ذا أقرضه إلى أجل مسمى أو أجله في البيع
...
17 - باب: إِذَا أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَوْ أَجَّلَهُ فِي الْبَيْعِ
قَالَ: ابْنُ عُمَرَ فِي الْقَرْضِ إِلَى أَجَلٍ لاَ بَأْسَ بِهِ وَإِنْ أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ
وَقَالَ عَطَاءٌ: وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ هُوَ إِلَى أَجَلِهِ فِي الْقَرْضِ
2404- وَقَالَ: اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قوله: "باب إذا أقرضه إلى أجل مسمى أو أجله في البيع" أما القرض إلى أجل فهو مما اختلف فيه، والأكثر على جوازه في كل شيء، ومنعه الشافعي. وأما البيع إلى أجل فجائز اتفاقا. وكأن البخاري احتج للجواز في القرض بالجواز في البيع مع ما استظهر به من أثر ابن عمر وحديث أبي هريرة. قوله: "وقال ابن عمر الخ" وصله ابن أبي شيبة من طريق المغيرة قال: "قلت لابن عمر: إني أسلف جيراني إلى العطاء فيقضوني أجود من دراهمي، قال: لا بأس به ما لم تشترط". وروى مالك في "الموطأ" بإسناد صحيح "أن ابن عمر استسلف من رجل دراهم فقضاه خيرا منها" وقد تقدم الكلام على هذا الشق في "باب استقراض الإبل". قوله: "وقال عطاء وعمرو بن دينار: هو إلى أجله في القرض" وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنهما. قوله: "وقال الليث الخ" ذكر طرفا من حديث الذي أسلف ألف دينار، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في "باب الكفالة".

(5/66)


باب الشفاعة في وضع اليدين
...
1 - باب: الشَّفَاعَةِ فِي وَضْعِ الدَّيْنِ
2405- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أُصِيبَ عَبْدُ اللَّهِ وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا فَطَلَبْتُ إِلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ أَنْ يَضَعُوا بَعْضًا مِنْ دَيْنِهِ فَأَبَوْا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَشْفَعْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا فَقَالَ: صَنِّفْ تَمْرَكَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ: عِذْقَ ابْنِ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَاللِّينَ عَلَى حِدَةٍ وَالْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ ثُمَّ أَحْضِرْهُمْ حَتَّى آتِيَكَ فَفَعَلْتُ ثُمَّ جَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ عَلَيْهِ وَكَالَ لِكُلِّ رَجُلٍ حَتَّى اسْتَوْفَى وَبَقِيَ التَّمْرُ كَمَا هُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ"
2406- وَغَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاضِحٍ لَنَا فَأَزْحَفَ الْجَمَلُ فَتَخَلَّفَ عَلَيَّ فَوَكَزَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَلْفِهِ قَالَ: بِعْنِيهِ وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا دَنَوْنَا اسْتَأْذَنْتُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ: ثَيِّبًا أُصِيبَ عَبْدُ اللَّهِ وَتَرَكَ جَوَارِيَ صِغَارًا فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا تُعَلِّمُهُنَّ وَتُؤَدِّبُهُنَّ ثُمَّ قَالَ: ائْتِ أَهْلَكَ فَقَدِمْتُ فَأَخْبَرْتُ خَالِي بِبَيْعِ الْجَمَلِ فَلاَمَنِي فَأَخْبَرْتُهُ بِإِعْيَاءِ الْجَمَلِ، وَبِالَّذِي كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَكْزِهِ إِيَّاهُ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالْجَمَلِ فَأَعْطَانِي ثَمَنَ الْجَمَلِ وَالْجَمَلَ وَسَهْمِي مَعَ الْقَوْمِ"
قوله: "باب الشفاعة في وضع الدين" أي في تخفيفه، ذكر فيه حديث جابر في دين أبيه، وفيه حديثه في قصة بيع الجمل جمعهما في سياق واحد، والمقصود منه قوله: "فطلبت إلى أصحاب الدين أن يضعوا بعضا فأبوا، فاستشفعت بالنبي صلى الله عليه وسلم عليهم فأبوا" الحديث. وقوله في هذه الرواية: "صنف تمرك" أي اجعل كل صنف وحده، وقوله: "على حدة" بكسر الحاء وتخفيف الدال أي على انفراد، وقوله: "عذق ابن زيد" بفتح العين وسكون الذال المعجمة نوع جيد من التمر، والعذق بالفتح النخلة، واللين بكسر اللام وسكون التحتانية نوع من التمر، وقيل هو الرديء. وقوله: "فأزحف" بفتح الهمزة وسكون الزاي وفتح المهملة أي كل وأعيا، وأصله أن البعير إذا تعب يجر رسنه وكأنهم كنوا بقولهم أزحف رسنه أي جره من الإعياء ثم حذفوا المفعول لكثرة الاستعمال. وحكى ابن التين أن في بعض النسخ بضم الهمزة وزعم أن الصواب زحف الجمل من الثلاثي، وكأنه لم يقف على ما قدمناه. وقوله: "ووكزه" كذا للأكثر بالواو أي ضربه بالعصا، وفي رواية أبي ذر عن المستملي والحموي "وركزه" بالراء أي ركز فيه العصا والمراد المبالغة في ضربه بها، سيأتي بقية الكلام على دين أبيه في علامات النبوة، وعلى بيع جمله في الشروط إن شاء الله تعالى.

(5/67)


باب ما ينهى عن إضاعة المال وقوله (والله لا يحب الفساد)
...
19 - باب: مَا يُنْهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وَ {لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تعالى {أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ

(5/67)


نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} وَقَالَ تعالى {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} وَمَا يُنْهَى عَنْ الْخِدَاعِ
2407- حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار سمعت بن عمر رضي الله عنهما قال: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أخدع في البيوع، فقال: إذا بايعت فقل لا خلابة فكان الرجل يقوله"
2408- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ"
قوله: "باب ما ينهى عن إضاعة المال، وقول الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} كذا للأكثر، ووقع في رواية النسفي "إن الله لا يحب الفساد" والأول هو الذي وقع في التلاوة. قوله: "ولا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ" كذا للأكثر، ولابن شبويه والنسفي "لا يحب" بدل لا يصلح، قيل وهو سهو، ووجهه عندي - إن ثبت - أنه لم يقصد التلاوة لأن أصل التلاوة {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} . قوله: "وقال: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ} - إلى قوله: - {مَا نَشَاءُ} قال المفسرون: كان ينهاهم عن إفسادها فقالوا ذلك، أي إن شئنا حفظناها وان شئنا طرحناها. قوله: "وقال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} الآية" قال الطبري بعد أن حكى أقوال المفسرين في المراد بالسفهاء: الصواب عندنا أنها عامة في حق كل سفيه صغيرا كان أو كبيرا ذكرا كان أو أنثى، والسفيه هو الذي يضيع المال ويفسده بسوء تدبيره. قوله: "والحجر في ذلك" أي في السفه، وهو معطوف على قوله: "إضاعة المال" والحجر في اللغة المنع، وفي الشرع المنع من التصرف في المال، فتارة يقع لمصلحة المحجور عليه وتارة لحق غير المحجور عليه، والجمهور على جواز الحجر على الكبير، وخالف أبو حنيفة وبعض الظاهرية ووافق أبو يوسف ومحمد، قال الطحاوي لم أر عن أحد من الصحابة منع الحجر عن الكبير ولا عن التابعين إلا عن إبراهيم النخعي وابن سيرين، ومن حجة الجمهور حديث ابن عباس أنه كتب إلى نجدة "وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما أخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم" وهو وإن كان موقوفا فقد ورد ما يؤيده كما سيأتي بعد بابين. قوله: "وما ينهى عن الخداع" أي في حق من يسيء التصرف في ماله وإن لم يحجر عليه. ثم ساق المصنف حديث ابن عمر في قصة الذي كان يخدع في البيوع، وقد تقدم الكلام عليه في "باب ما يكره من الخداع في البيع" من كتاب البيوع، وفيه توجيه الاحتجاج به للحجر على الكبير، ورد قول من احتج به لمنع ذلك والله المستعان. قوله: "حدثني عثمان" هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، والإسناد كله كوفيون لكن سكن جرير الري، ومنصور وشيخه وشيخ شيخه تابعيون في نسق. قوله: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات" يل خص الأمهات بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء، ولينبه على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك، والمقصود من إيراد هذا الحديث هنا قوله فيه: "وإضاعة المال" وقد قال الجمهور: إن المراد به السرف في إنفاقه، وعن سعيد بن جبير إنفاقه في الحرام، وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى.

(5/68)


20 – باب: الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَلاَ يَعْمَلُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
2409- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ فَسَمِعْتُ هَؤُلاَءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"
قوله: "باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه" ذكر فيه حديث ابن عمر "كلكم راع ومسئول عن رعيته" وفيه: "والخادم في مال سيده وهو مسئول" كذا في رواية أبي ذر ولغيره: "في مال سيده راع وهو مسئول" ولفظ الترجمة يأتي في النكاح من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر فذكر الحديث وفيه: "والعبد راع على مال سيده وهو مسئول " وكأن المصنف استنبط قوله: "ولا يعمل إلا بإذنه" من قوله: "وهو مسئول" لأن الظاهر أنه يسأل هل جاوز ما أمره به أو وقف عنده. قوله: "فسمعت هؤلاء من النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال: والرجل راع في مال أبيه" هذا ظاهر في أن القائل "وأحسب" هو ابن عمر، وقد قدمت جزم الكرماني في "باب الجمعة في القرى" بأنه يونس الراوي له عن الزهري وتعقبته، وسيأتي الكلام على شرح الحديث في أول الأحكام إن شاء الله تعالى.

(5/69)


كتاب الخصومات
باب مايذكر في الإشخاص والخصومة بين المسلم واليهود
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
44 - كتاب الخصومات
1 - باب: مَا يُذْكَرُ فِي الإِشْخَاصِ، وَالْخُصُومَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْيَهُودِ
2410- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ أَخْبَرَنِي قَالَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: "سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلاَفَهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ قَالَ شُعْبَةُ أَظُنُّهُ قَالَ: لاَ تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا"
[الحديث2410 – أطرافه في: 1408 ، 3414 ، 3476 ، 4813 ، 5063 ، 6517 ، 6518 ، 7428 ، 7477]
2411- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "اسْتَبَّ رَجُلاَنِ: رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ قَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَصْعَقُ مَعَهُمْ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَنِبَ الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ"
2412- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ جَاءَ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ ضَرَبَ وَجْهِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِكَ فَقَالَ مَنْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ ادْعُوهُ فَقَالَ: أَضَرَبْتَهُ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ بِالسُّوقِ يَحْلِفُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ قُلْتُ أَيْ خَبِيثُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ ضَرَبْتُ وَجْهَهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ أَمْ حُوسِبَ بِصَعْقَةِ الأُولَى"
[الحديث 2412- أطرافه في: 3398 ، 4638 ، 6916 ، 6917 ، 7427]

(5/70)


2413- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ "يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ قِيلَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ أَفُلاَنٌ أَفُلاَنٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ"
[الحديث 2413 - أطرافه في: 2746 ، 5295 ، 6876 ، 6877 ، 6879 ، 6884 ، 6885]
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - ما يذكر في الإشخاص والخصومة بين المسلم واليهود" كذا للأكثر، ولبعضهم "واليهودي" بالإفراد، زاد أبو ذر أوله "في الخصومات" وزاد في أثنائه "والملازمة". والإشخاص بكسر الهمزة إحضار الغريم من موضع إلى موضع، يقال شخص بالفتح من بلد إلى بلد وأشخص غيره. والملازمة مفاعلة من اللزوم، والمراد أن يمنع الغريم غريمه من التصرف حتى يعطيه حقه. ثم ذكر في هذا الباب أربعة أحاديث. الأول قوله: "عبد الملك بن ميسرة أخبرني" هو من تقديم الراوي على الصيغة وهو جائز عندهم، وابن ميسرة المذكور هلالي كوفي تابعي يقال له الزراد بزاي ثم راء ثقيلة، وشيخه النزال بفتح النون وتشديد الزاي ابن سبرة بفتح المهملة وسكون الموحدة هلالي أيضا من كبار التابعين، وذكره بعضهم في الصحابة لإدراكه، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود وآخر في الأشربة عن علي، وقد أعاد حديث الباب في أحاديث الأنبياء وفي فضائل القرآن، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك، والمقصود منه هنا قوله: "فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنه المناسب للترجمة. قوله: "سمعت رجلا" سيأتي أنه يحتمل أن يفسر بعمر رضي الله عنه. قوله: "آية" في "المبهمات" للخطيب أنها من سورة الأحقاف. قوله: "قال شعبة" و بالإسناد المذكور، وقوله: "أظنه قال: "فاعل القول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالإسناد المذكور. الثاني والثالث حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد في قصة اليهودي الذي لطمه المسلم حيث قال: "والذي اصطفى موسى" وسيأتي الكلام عليهما في أحاديث الأنبياء ؛ وقوله في حديث أبي سعيد "والذي اصطفى موسى على البشر" كذا للأكثر، وللكشميهني: "على النبيين". الحديث الرابع حديث أنس في قصة اليهودي الذي رض رأس الجارية، وسيأتي الكلام عليه في كتاب الديات إن شاء الله تعالى".

(5/71)


2 - باب: مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ الْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الإِمَامُ
وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ قَبْلَ النَّهْيِ ثُمَّ نَهَاهُ
وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ وَلَهُ عَبْدٌ لاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ فَأَعْتَقَهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ
قوله: "باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام" يعني وفاقا لابن القاسم، وقصره أصبغ على من ظهر سفهه. وقال غيره من المالكية لا يرد مطلقا إلا ما تصرف فيه بعد الحجر وهو قول الشافعية وغيرهم، واحتج ابن القاسم بقصة المدبر حيث رد النبي صلى الله عليه وسلم بيعه قبل الحجر عليه؛ واحتج غيره بقصة الذي كان يخدع في البيوع حيث لم يحجر عليه ولم يفسخ ما تقدم من بيوعه. وأشار البخاري بما ذكر من أحاديث الباب إلى التفصيل بين من ظهرت منه الإضاعة فيرد تصرفه فيما إذا كان في الشيء الكثير أو المستغرق وعليه تحمل قصة المدبر، وبين ما إذا كان في الشيء اليسير أو جعله له شرطا يأمن به من إفساد ماله فلا يرد وعليه تحمل قصة الذي كان

(5/71)


يخدع. قوله: "ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على المتصدق قبل النهي ثم نهاه" قال عبد الحق: مراده قصة الذي دبر عبده فباعه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا أشار إلى ذلك ابن بطال ومن بعده حتى جعله مغلطاي حجة في الرد على ابن الصلاح حيث قرر أن الذي يذكره البخاري بغير صيغة الجزم لا يكون حاكما بصحته فقال مغلطاي: قد ذكره بغير صيغة الجزم هنا وهو صحيح عنده، وتعقبه شيخنا في "النكت على ابن الصلاح" بأن البخاري لم يرد بهذا التعليق قصة المدبر، وإنما أراد قصة الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فأمرهم فتصدقوا عليه فجاء في الثانية فتصدق عليه بأحد ثوبيه فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال وهو حديث ضعيف أخرجه الدار قطني وغيره. قلت: لكن ليس هو من حديث جابر وإنما هو حديث أبي سعيد الخدري، وليس بضعيف بل هو إما صحيح وإما حسن، أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم، وقد بسطت ذلك فيما كتبته على ابن الصلاح، والذي ظهر لي أولا أنه أراد حديث جابر في قصة الرجل الذي جاء ببيضة من ذهب أصابها في معدن فقال: "يا رسول الله خذها مني صدقة فوالله مالي مال غيرها فأعرض عنه، فأعاد فحذفه بها، ثم قال: يأتي أحدكم بماله لا يملك غيره فيتصدق به ثم يقعد بعد ذلك يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى" وهو عند أبي داود وصححه ابن خزيمة. ثم ظهر لي أن البخاري إنما أراد قصة المدبر كما قال عبد الحق، وإنما لم يجزم به لأن القدر الذي يحتاج إليه في هذه الترجمة ليس على شرطه، وهو من طريق أبي الزبير عن جابر أنه قال: "أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دبر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألك مال غيره؟ فقال لا" الحديث وفيه: "ثم قال ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك" الحديث، وهذه الزيادة تفرد بها أبو الزبير عن جابر وليس هو من شرط البخاري والبخاري لا يجزم غالبا إلا بما كان على شرطه. والله أعلم. قوله: "وقال مالك الخ" هكذا أخرجه ابن وهب في موطئه عنه، وأخذ مالك ذلك من قصة المدبر كما ترى.

(5/72)


3- باب: من باع على الضعيف ونحوه فدفع ثمنه إليه وأمره بالإصلاح والقيام بشأنه فإن أفسد بعد منعه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال ، وقال للذي يخدع في البيع: إذا بعت فقل: لاخلابة ،ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ماله
2414- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا عبد الله بن دينار قال: سمعت بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رجل يخدع في البيع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إذا بايعت فقل لا خلابة فكان يقوله"
2415- حدثنا عاصم بن علي حدثنا بن أبي ذئب عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه "أن رجلا أعتق عبدا له ليس له مال غيره فرده النبي صلى الله عليه وسلم فابتاعه منه نعيم بن النحام"
قوله: "ومن باع على الضعيف ونحوه فدفع ثمنه إليه وأمره بالإصلاح الخ" هكذا للجميع، ولأبي ذر هنا "باب من باع الخ" والأول أليق، وقد تقدم توجيه ما ذكره في هذا الموضع وأنه لا يمنع من التصرف إلا بعد ظهور الإفساد، وقد مضى الكلام على حديث النهي عن إضاعة المال قبل بابين، وحديث الذي يخدع في كتاب البيوع،

(5/72)


ويأتي حديث المدبر في كتاب العتق إن شاء الله تعالى.

(5/73)


4 - باب: كَلاَمِ الْخُصُومِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ
2416 ، 2417 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ قَالَ فَقَالَ الأَشْعَثُ فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ قُلْتُ لاَ قَالَ فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ احْلِفْ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ"
2418- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى يَا كَعْبُ قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَيْ الشَّطْرَ قَالَ لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قُمْ فَاقْضِهِ"
2419- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِيهَا وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا فَقَالَ لِي أَرْسِلْهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ اقْرَأْ فَقَرَأَ قَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ لِي اقْرَأْ فَقَرَأْتُ فَقَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ
[الحديث 2419- أطرافه في: 4992 ، 5041 ، 6936 ، 7550]
قوله: "باب كلام الخصوم بعضهم في بعض" أي فيما لا يوجب حدا ولا تعزيرا فلا يكون ذلك من الغيبة المحرمة، ذكر فيه أربعة أحاديث: الأول والثاني حديث ابن مسعود والأشعث في نزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} وقد تقدم قريبا في "باب الخصومة في البئر" والغرض منه قوله: "قلت يا رسول الله إذا يحلف ويذهب بمالي" فإنه نسبه إلى الحلف الكاذب، ولم يؤاخذ بذلك لأنه أخبر بما يعلمه منه في حال التظلم منه. الثالث حديث كعب بن

(5/73)


مالك "أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا" الحديث، وقد تقدم الكلام عليه في "باب التقاضي والملازمة في المسجد" وليس الغرض منه هنا قوله: "فارتفعت أصواتهما" فإنه غير دال على ما ترجم به، لكن أشار إلى قوله في بعض طرقه: "فتلاحيا" وقد تقدم أن ذلك كان سببا لرفع ليلة القدر. فدل على أنه كان بينهما كلام يقتضي ذلك وهو الذي يثبت ما ترجم به. الرابع حديث عمر في قصته مع هشام بن حكيم في قراءة سورة الفرقان، وفيه مع إنكاره عليه بالقول إنكاره عليه بالفعل، وذلك على سبيل الاجتهاد منه، ولذلك لم يؤاخذ به. وسيأتي الكلام عليه في فضائل القرآن.

(5/74)


باب إحراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة وقد أخرج عمرأخت أبي بكر حين ناحت
...
5 – باب: إِخْرَاجِ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْخُصُومِ مِنْ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ
2420- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ"
قوله: "باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة" أي بأحوالهم، أو بعد معرفتهم بالحكم ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم. قوله: "وقد أخرج عمر أخت أبي بكر حين ناحت" وصله ابن سعد في "الطبقات" بإسناد صحيح من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "لما توفي أبو بكر أقامت عائشة عليه النوح، فبلغ عمر فنهاهن فأبين، فقال لهشام بن الوليد: اخرج إلى بيت أبي قحافة - يعني أم فروة - فعلاها بالدرة ضربات فتفرق النوائح حين سمعن بذلك" ووصله إسحاق بن راهويه في مسنده من وجه آخر عن الزهري وفيه: "فجعل يخرجهن امرأة امرأة وهو يضربهن بالدرة". ثم ذكر المصنف حديث أبي هريرة في إرادة تحريق البيوت على الذين لا يشهدون الصلاة، وقد مضى الكلام عليه في "باب وجوب صلاة الجماعة" وغرضه منه أنه إذا أحرقها عليهم بادروا بالخروج منها فثبت مشروعية الاقتصار على إخراج أهل المعصية من باب الأولى، ومحل إخراج الخصوم إذا وقع منهم من المراء واللدد ما يقتضي ذلك.

(5/74)


6 - بَاب: دَعْوَى الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ
2421- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصَانِي أَخِي إِذَا قَدِمْتُ أَنْ أَنْظُرَ ابْنَ أَمَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنِي وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَخِي وَابْنُ أَمَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي فَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ"

(5/74)


7 - باب التَّوَثُّقِ مِمَّنْ تُخْشَى مَعَرَّتُهُ
وَقَيَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِكْرِمَةَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ
2422- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ قَالَ عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - فقَالَ أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ"
قوله: "باب التوثق ممن يخشى معرته" بفتح الميم والمهملة وتشديد الراء، أي فساده وعبثه. قوله: "وقيد ابن عباس عكرمة على تعليم القرآن والسنن والفرائض" وصله ابن سعد في "الطبقات" وأبو نعيم في "الحلية" من طريق حماد بن زيد عن الزبير بن الخريت - بكسر المعجمة والراء المشددة بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة - عن عكرمة قال: "كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل" فذكره، والكبل بفتح الكاف وسكون الموحدة بعدها لام هو القيد. ثم ذكر حديث أبي هريرة في قصة ثمامة بن أثال مختصرا، والشاهد منه قوله: "فربطوه بسارية من سواري المسجد" وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى.

(5/75)


8 – باب: الرَّبْطِ وَالْحَبْسِ فِي الْحَرَمِ
وَاشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَلَى أَنَّ عُمَرَ إِنْ رَضِيَ فَالْبَيْعُ بَيْعُهُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُ مِائَةِ دِينَارٍ وَسَجَنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ
2423- حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا الليث قال حدثنا سعيد بن أبي سعيد سمع أبا هريرة قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن آثال فربطوه بسارية من سواري المسجد"
قوله: "باب الربط والحبس في الحرم" كأنه أشار بذلك إلى رد ما ذكر عن طاوس، فعند ابن أبي شيبة من طريق قيس بن سعد عنه أنه "كان يكره السجن بمكة ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة. فأراد البخاري معارضة قول طاوس بأثر عمر وابن الزبير: وصفوان ونافع وهم من الصحابة. وقوي ذلك بقصة ثمامة وقد ربط في مسجد المدينة وهي أيضا حرم فلم يمنع ذلك من الربط فيه. قوله: "واشترى نافع بن عبد الحارث دارا للسجن

(5/75)


9 - باب: فِي الْمُلاَزَمَةِ
2424- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَقَالَ: غَيْرُهُ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ دَيْنٌ فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ فَتَكَلَّمَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا كَعْبُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ النِّصْفَ فَأَخَذَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ وَتَرَكَ نِصْفًا
قوله: "باب في الملازمة" ذكر فيه حديث كعب بن مالك أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد دين، وقد تقدم

(5/76)


الكلام عليه في باب التقاضي والملازمة في المسجد. قوله فيه: "حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن جعفر" وقال غيره: "حدثني الليث قال: حدثني جعفر بن ربيعة" وصله الإسماعيلي من طريق شعيب بن الليث عن أبيه، ووقع في رواية الأصيلي وكريمة قبل هذه الترجمة بسملة وسقطت للباقين.

(5/77)


10 - باب: التَّقَاضِي
2425- حدثنا إسحاق حدثنا وهب بن جرير بن حازم أخبرنا شعبة عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن خباب قال: "كنت قينا في الجاهلية وكان لي على العاص بن وائل دراهم فأتيته أتقاضاه فقال لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يميتك الله ثم يبعثك قال فدعني حتى أموت ثم أبعث فأوتى مالا وولدا ثم أقضيك فنزلت {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} الآية"
قوله: "باب التقاضي" أي المطالبة، ذكر فيه حديث خباب بن الأرت في مطالبة العاصي بن وائل، وسيأتي شرحه في تفسير سورة مريم إن شاء الله تعالى.
"خاتمة": اشتمل كتاب الاستقراض وما معه من الحجر والتفليس وما اتصل به من الإشخاص والملازمة على خمسين حديثا، المعلق منها ستة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثمانية وثلاثون حديثا والبقية خالصة، وافقه مسلم على جميعها سوى حديث أبي هريرة "من أخذ أموال الناس يريد إتلافها" وحديث: "ما أحب أن لي أحدا ذهبا" وحديث: "لي الواجد" وحديث ابن مسعود في الاختلاف في القراءة. وفيه من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم اثنا عشر أثرا. والله أعلم.

(5/77)


كتاب اللقطة
باب إذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
45 - كِتَاب فِي اللُّقَطَةِ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب اللقطة" كذا للمستملي والنسفي، واقتصر الباقون على البسملة وما بعدها. واللقطة الشيء الذي يلتقط، وهو بضم اللام وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدثين. وقال عياض: لا يجوز غيره. وقال الزمخشري في الفائق: اللقطة بفتح القاف والعامة تسكنها. كذا قال، وقد جزم الخليل بأنها بالسكون قال: وأما بالفتح فهو اللاقط: وقال الأزهري: هذا الذي قاله هو القياس، ولكن الذي سمع من العرب وأجمع عليه أهل اللغة والحديث الفتح. وقال ابن بري: التحريك للمفعول نادر، فاقتضى أن الذي قاله الخليل هو القياس. وفيها لغتان أيضا: لقاطة بضم اللام، ولقطة بفتحها. وقد نظم الأربعة ابن مالك حيث قال:
لقاطة ولقطة ولقطه ... ولقطة ما لاقط قد لقطه
ووجه بعض المتأخرين فتح القاف في المأخوذ أنه للمبالغة، وذلك لمعنى فيها اختصت به، وهو أن كل من يراها يميل لأخذها فسميت باسم الفاعل لذلك.
1 - باب: إِذَا أَخْبَرَهُ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالْعَلاَمَةِ دَفَعَ إِلَيْهِ
2426- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ: لَقِيتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: "أَصَبتُ صُرَّةً فيها مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلاَثًا فَقَالَ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا، فَاسْتَمْتَعْتُ. فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ: لاَ أَدْرِي ثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلًا وَاحِدًا"
[الحديث 2426- طرفه في: 2437]
قوله: "باب إذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه" أورد فيه حديث أبي بن كعب "أصبت صرة فيها مائة دينار" كذا للمستملي، وللكشميهني: "وجدت" وللباقين "أخذت". ولم يقع في سياقه ما ترجم به صريحا، وكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه كما سيأتي ذكره. قوله: "حدثنا آدم حدثنا شعبة، وحدثني محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة" هكذا ساقه عاليا ونازلا، والسياق للإسناد النازل. وقد أخرجه البيهقي من طريق آدم مطولا. قوله: "فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها" في رواية حماد بن سلمة وسفيان الثوري وزيد بن أنيسة عند مسلم وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طريق الثوري وأحمد وأبو داود من طريق حماد كلهم عن سلمة بن كهيل في هذا الحديث: "فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه" لفظ مسلم. وأما قول أبي داود: إن هذه الزيادة زادها حماد بن سلمة وهي غير محفوظة فتمسك بها من حاول تضعيفها فلم يصعب، يل هي صحيحة، وقد عرفت من وافق

(5/78)


حمادا عليها وليست شاذة. وقد أخذ بظاهرها مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي: إن وقع في نفسه صدقه جاز أن يدفع إليه، ولا يجبر على ذلك إلا ببينة، لأنه قد يصيب الصفة. وقال الخطابي: إن صحت هذه اللفظة لم يجز مخالفتها، وهي فائدة قوله: "اعرف عفاصها الخ" وإلا فالاحتياط مع من لم ير الرد إلا بالبينة، قال: ويتأول قوله: "اعرف عفاصها" على أنه أمره بذلك لئلا تختلط بماله. أو لتكون الدعوى فيها معلومة. وذكر غيره من فوائد ذلك أيضا أن يعرف صدق المدعي من كذبه، وأن فيه تنبيها على حفظ الوعاء وغيره لأن العادة جرت بإلقائه إذا أخذت النفقة، وأنه إذا نبه على حفظ الوعاء كان فيه تنبيه على حفظ المال من باب الأولى. قلت: قد صحت هذه الزيادة فتعين المصير إليها، وسيأتي أيضا في حديث زيد بن خالد في آخر أبواب اللقطة، وما اعتل به بعضهم من أنه إذا وصفها فأصاب فدفعها إليه فجاء شخص آخر فوصفها فأصاب لا يقتضي الطعن في الزيادة، فإنه يصير الحكم حينئذ كما لو دفعها إليه بالبينة فجاء آخر فأقام بينة أخرى أنها له، وفي ذلك تفاصيل للمالكية وغيرهم. وقال بعض متأخري الشافعية: يمكن أن يحمل وجوب الدفع لمن أصاب الوصف على ما إذا كان ذلك قبل التملك. لأنه حينئذ مال ضائع لم يتعلق به حق ثان، بخلاف ما بعد التملك فإنه حينئذ يحتاج المدعي إلى البينة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" ثم قال: أما إذا صحت الزيادة فتخص صورة الملتقط من عموم "البينة على المدعي" والله أعلم. وقوله: "احفظ وعاءها وعددها ووكاءها" الوعاء بالمد وبكسر الواو وقد تضم، وقرأ بها الحسن في قوله: {قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} وقرأ سعيد بن جبير "إعاء" بقلب الواو المكسورة همزة. والوعاء ما يجعل فيه الشيء، سواء كان من جلد أو خزف أو خشب أو غير ذلك. والوكاء بكسر الواو والمد الخيط الذي يشد به الصرة وغيرها. وزاد في حديث زيد بن خالد "العفاص" وسيأتي ذكره وشرحه وحكم هذه العلامات في الباب الذي بعده. قوله: "فلقيته بعد بمكة" القائل شعبة، والذي قال: "لا أدري" هو شيخه سلمة بن كهيل، وقد بينه مسلم من رواية بهز بن أسد عن شعبة أخبرني سلمة بن كهيل واختصر الحديث، قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: "عرفها عاما واحدا". وقد بينه أبو داود الطيالسي في مسنده أيضا فقال في آخر الحديث: "قال شعبة فلقيت سلمة بعد ذلك فقال لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا" . وأغرب ابن بطال فقال: الذي شك فيه هو أبي بن كعب، والقائل هو سويد بن غفلة انتهى. ولم يصب في ذلك إن تبعه جماعة منهم المنذري، بل الشك فيه من أحد رواته وهو سلمة لما استثبته فيه شعبة، وقد رواه غير شعبة عن سلمة بن كهيل بغير شك جماعة وفيه هذه الزيادة، وأخرجها مسلم من طريق الأعمش والثوري وزيد بن أبي أنيسة وحماد بن سلمة كلهم عن سلمة وقال: قالوا في حديثهم جميعا ثلاثة أحوال، إلا حماد بن سلمة فإن في حديثه عامين أو ثلاثة. وجمع بعضهم بين حديث أبي هذا وحديث زيد بن خالد الآتي في الباب الذي يليه فإنه لم يختلف عليه في الاقتصار على سنة واحدة فقال: يحمل حديث أبي بن كعب على مزيد الورع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها، وحديث زيد على ما لا بد منه، أو لاحتياج الأعرابي واستغناء أبي. قال المنذري: لم يقل أحد من أئمة الفتوى أن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام، إلا شيء جاء عن عمر انتهى. وقد حكاه الماوردي عن شواذ من الفقهاء. وحكى بن المنذر عن عمر أربعة أقوال: يعرفها ثلاثة أحوال، عاما واحدا، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام. ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها. وزاد ابن حزم عن عمر قولا خامسا وهو أربعة أشهر. وجزم ابن حزم وابن الجوزي بأن هذه الزيادة غلط. قال: والذي يظهر أن سلمة أخطأ فيها ثم

(5/79)


تثبت واستذكر واستمر على عام واحد، ولا يؤخذ إلا بما لم يشك فيه راويه. وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عرف أن تعريفها لم يقع على الوجه الذي ينبغي، فأمر أبيا بإعادة التعريف كما قال للمسيء صلاته "ارجع فصل فإنك لم تصل" انتهى. ولا يخفى بعد هذا على مثل أبي مع كونه من فقهاء الصحابة وفضلائهم. وقد حكى صاحب الهداية من الحنفية رواية عندهم أن الأمر في التعريف مفوض لأمر الملتقط، فعليه أن يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك، والله أعلم. وسيأتي بقبة الكلام على حديث أبي بن كعب في أواخر أبواب اللقطة قريبا إن شاء الله تعالى.

(5/80)


2 - باب: ضَالَّةِ الإِبِلِ
2427- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ رَبِيعَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فَقَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا وَإِلاَ فَاسْتَنْفِقْهَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ ضَالَّةُ الإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ"
قوله: "باب ضالة الإبل" أي هل تلتقط أم لا؟ والضال الضائع، والضال في الحيوان كاللقطة في غيره، والجمهور على القول بظاهر الحديث في أنها لا تلتقط. وقال الحنفية: الأولى أن تلتقط، وحمل بعضهم النهي على من التقطها ليتملكها لا ليحفظها فيجوز له، وهو قول الشافعية. وكذا إذا وجدت بقرية فيجوز التملك على الأصح عندهم، والخلاف عند المالكية أيضا، قال العلماء حكمة النهي عن التقاط الإبل أن بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبه لها في رحال الناس. وقالوا: في معنى الإبل كل ما امتنع بقوته عن صغار السباع. قوله: "حدثنا عبد الرحمن" هو ابن مهدي، وسفيان هو الثوري. قوله: "عن ربيعة" هو ابن أبي عبد الرحمن المعروف بالرأي بسكون الهمزة، وقد رواه ابن وهب عن الثوري وغيره: "أن ربيعة حدثهم" أخرجه مسلم. قوله: "مولى المنبعث" بضم الميم وسكون النون وفتح الموحدة وكسر المهملة بعدها مثلثة، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد ذكره في العلم والشرب وهنا في مواضع، ويأتي في الطلاق والأدب. قوله: "جاء أعرابي" في رواية مالك عن ربيعة "جاء رجل" وزعم ابن بشكوال وعزاه لأبي داود وتبعه بعض المتأخرين أن السائل المذكور هو بلال المؤذن، ولم أر عند أبي داود في شيء من النسخ شيئا من ذلك، وفيه بعد أيضا لأنه لا يوصف بأنه أعرابي، وقيل السائل هو الراوي وفيه بعد أيضا لما ذكرناه. ومستند من قال ذلك ما رواه الطبراني من وجه آخر عن ربيعة بهذا الإسناد فقال فيه: "إنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم لكن رواه أحمد من وجه آخر عن زيد بن خالد فقال فيه: "أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أو أن رجلا سأل" على الشك. وأيضا فإن في رواية ابن وهب المذكورة عن زيد بن خالد "أتى رجل وأنا معه" فدل هذا على أنه غيره، ولعله نسب السؤال إلى نفسه لكونه كان مع السائل. ثم ظفرت بتسمية السائل وذلك فيما أخرجه الحميدي والبغوي وابن السكن والبارودي والطبراني كلهم من طريق محمد بن معن الغفاري عن ربيعة

(5/80)


عن عقبة بن سويد الجهني عن أبيه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: عرفها سنة ثم أوثق وعاءها" فذكر الحديث. وقد ذكر أبو داود طرفا منه تعليقا ولم يسق لفظه. وكذلك البخاري في تاريخه. وهو أولى ما يفسر به هذا المبهم لكونه من رهط زيد بن خالد. وروى أبو بكر بن أبي شيبة والطبراني من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: "قلت يا رسول الله الورق يوجد عند القرية، قال: عرفها حولا" الحديث، وفيه سؤاله عن الشاة والبعير وجوابه وهو في أثناء حديث طويل أخرج أصله النسائي. وروى الإسماعيلي في "الصحابة" من طريق مالك بن عمير عن أبيه أنه "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: إن وجدت من يعرفها فادفعها إليه" الحديث وإسناده واه جدا، وروى الطبراني من حديث الجارود العبدي قال: "قلت يا رسول الله اللقطة نجدها، قال: أنشدها ولا تكتم ولا تغيب" الحديث. قوله: "فسأله عما يلتقطه" في أكثر الروايات أنه سأل عن اللقطة، زاد مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن يزيد مولى المنبعث "الذهب والفضة" وهو كالمثال وإلا فلا فرق بينهما وبين الجوهر واللؤلؤ مثلا وغير ذلك مما يستمتع به غير الحيوان في تسميته لقطة وفي إعطائه الحكم المذكور. ووقع لأبي داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن أبيه بلفظ: "وسئل عن اللقطة". قوله: "عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها" في رواية العقدي عن سليمان بن بلال الماضية في العلم "اعرف وكاءها أو قال عفاصها" ولمسلم من طريق بشير بن سعيد عن زيد بن خالد "فاعرف عفاصها ووعاءها وعددها" زاد فيه العدد كما في حديث أبي بن كعب. ووقع في رواية مالك كما سيأتي بعد باب "اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة" ووافقه الأكثر. نعم وافق الثوري ما أخرجه أبو داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث بلفظ: "عرفها حولا، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإلا اعرف وكاءها وعفاصها ثم اقبضها في مالك" الحديث. وهو يقتضي أن التعريف يقع بعد معرفة ما ذكر من العلامات. ورواية الباب تقتضي أن التعريف يسبق المعرفة. وقال النووي: يجمع بينهما بأن يكون مأمورا بالمعرفة في حالتين، فيعرف العلامات أول ما يلتقط حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها كما تقدم، ثم بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها فيعرفها مرة أخرى تعرفا وافيا محققا ليعلم قدرها وصفتها فيردها إلى صاحبها. قلت: ويحتمل أن تكون "ثم" في الروايتين بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبا ولا تقتضي تخالفا يحتاج إلى الجمع، ويقويه كون المخرج واحد والقصة واحدة، وإنما يحسن ما تقدم أن لو كان المخرج مختلفا فيحمل على تعدد القصة، وليس الغرض إلا أن يقع التعرف والتعريف مع قطع النظر عن أيهما أسبق. واختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء أظهرهما الوجوب لظاهر الأمر، وقيل يستحب. وقال بعضهم يجب عند الالتقاط، ويستحب بعده. والعفاص بكسر المهملة وتخفيف الفاء وبعد الألف مهملة: الوعاء الذي تكون فيه النفقة جلدا كان أو غيره، وقيل له العفاص أخذا من العفص وهو الثني لأن الوعاء يثنى على ما فيه وقد وقع في "زوائد المسند" لعبد الله بن أحمد من طريق الأعمش عن سلمة في حديث أبي "وخرقتها" بدل عفاصها، والعفاص أيضا الجلد الذي يكون على رأس القارورة، وأما الذي يدخل فم القارورة من جلد أو غيره فهو الصمام بكسر الصاد المهملة. قلت: فحيث ذكر العفاص مع الوعاء فالمراد الثاني، وحيث لم يذكر العفاص مع الوعاء فالمراد به الأول، والغرض معرفة الآلات التي تحفظ النفقة. ويلتحق بما ذكر حفظ الجنس والصفة والقدر والكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن والذرع فيما يذرع. وقال جماعة من الشافعية: يستحب تقييدها بالكتابة خوف النسيان، واختلفوا فيما إذا عرف بعض الصفات دون بعض بناء على القول بوجوب الدفع لمن عرف الصفة، قال ابن القاسم:

(5/81)


لا بد من ذكر جميعها، وكذا قال أصبغ. لكن قال لا يشترط معرفة العدد، وقول ابن القاسم أقوى لثبوت ذكر العدد في الرواية الأخرى، وزيادة الحافظ حجة. وقوله: "عرفها" بالتشديد وكسر الراء أي اذكرها للناس، قال العلماء: محل ذلك المحافل كأبواب المساجد والأسواق ونحو ذلك، يقول: من ضاعت له نفقة أو نحو ذلك من العبارات، ولا يذكر شيئا من الصفات. وقوله: "سنة" أي متوالية فلو عرفها سنة متفرقة لم يكف كأن يعرفها في كل سنة شهرا فيصدق أنه عرفها سنة في اثنتي عشرة سنة. وقال العلماء: يعرفها في كل يوم مرتين ثم مرة ثم في كل أسبوع ثم في كل شهر، ولا يشترط أن يعرفها بنفسه بل يجوز بوكيله، ويعرفها في مكان سقوطها وفي غيره. قوله: "فإن جاء أحد يخبرك بها" جواب الشرط محذوف تقديره فأدها إليه. وفي رواية محمد بن يوسف عن سفيان كما سيأتي في آخر أبواب اللقطة "فإن جاء أحد يخبرك بعفاصها ووكائها" وقد تقدم البحث فيه. قوله: "وإلا فاستنفقها" سيأتي البحث فيه بعد أبواب، واستدل به على أن الملتقط يتصرف فيها سواء كان غنيا أو فقيرا. وعن أبي حنيفة إن كان غنيا تصدق بها وإن جاء صاحبها تخير بين إمضاء الصدقة أو تغريمه، قال صاحب الهداية: إلا إن كان يأذن الإمام فيجوز للغني كما في قصة أبي بن كعب، وبهذا قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين. قوله: "قال يا رسول الله فضالة الغنم" أي ما حكمها؟ فحذف ذلك للعلم به. قال العلماء: الضالة لا تقع إلا على الحيوان، وما سواه يقال له لقطة. ويقال للضوال أيضا الهوامي والهوافي بالميم والفاء والهوامل. قوله: "لك أو لأخيك أو للذئب" فيه إشارة إلى جواز أخذها، كأنه قال: هي ضعيفة لعدم الاستقلال معرضة للهلاك مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك، والمراد به ما هو أعم من صاحبها أو من ملتقط آخر، والمراد بالذئب جنس ما يأكل الشاة من السباع. وفيه حث له على أخذها لأنه إذا علم أنه إن لم يأخذها بقيت للذئب كان ذلك أدعى له إلى أخذها. ووقع في رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة كما سيأتي بعد أبواب "فقال: خذها، فإنما هي لك" الخ، وهو صريح في الأمر بالأخذ، ففيه دليل على رد إحدى الروايتين عن أحمد في قوله: "يترك التقاط الشاة"، وتمسك به مالك في أنه يملكها بالأخذ ولا يلزمه غرامة ولو جاء صاحبها. واحتج له بالتسوية بين الذئب والملتقط، والذئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط. وأجيب بأن اللام ليست للتمليك لأن الذئب لا يملك وإنما يملكها الملتقط على شرط ضمانها. وقد أجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط لأخذها فدل على أنها باقية على ملك صاحبها، ولا فرق بين قوله في الشاة "هي لك أو لأخيك أو للذئب" وبين قوله في اللقطة "شأنك بها أو خذها" بل هو أشبه بالتملك لأنه لم يشرك معه ذئبا ولا غيره، ومع ذلك فقالوا في النفقة يغرمها إذا تصرف فيها ثم جاء صاحبها. وقال الجمهور: يجب تعريفها، فإذا انقضت مدة التعريف أكلها إن شاء وغرم لصاحبها، إلا أن الشافعي قال: لا يجب تعريفها إذا وجدت في الفلاة، وأما في القرية فيجب في الأصح. قال النووي: احتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى "فإن جاء صاحبها فأعطها إياه" وأجابوا عن رواية مالك بأنه لم يذكر الغرامة ولا نفاها فثبت حكمها بدليل آخر انتهى. وهو يوهم أن الرواية الأولى من روايات مسلم فيها ذكر حكم الشاة إذا أكلها الملتقط، ولم أر ذلك في شيء من روايات مسلم ولا غيره في حديث زيد بن خالد، نعم عند أبي داود والترمذي والنسائي والطحاوي والدار قطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في ضالة الشاة "فاجمعها حتى يأتيها باغيها" . قوله: "فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم" هو بالعين المهملة الثقيلة أي تغير، وأصله في الشجر إذا قل ماؤه فصار قليل النضرة عديم الإشراق، ويقال للوادي المجدب أمعر، ولو روي تمغر بالغين المعجمة لكان له وجه أي صار بلون المغرة وهو حمرة شديدة إلى كمودة،

(5/82)


ويقويه أن قوله في رواية إسماعيل بن جعفر "فغضب حتى احمرت وجنتاه أو وجهه". قوله: "مالك ولها" زاد في رواية سليمان بن بلال عن ربيعة السابقة في العلم "فذرها حتى يلقاها ربها" . قوله: "معها حذاؤها وسقاؤها" الحذاء بكسر المهملة بعدها معجمة مع المد أي خفها، وسقاؤها أي جوفها وقيل عنقها، وأشار بذلك إلى استغنائها عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش وتناول المأكول بغير تعب لطول عنقها فلا تحتاج إلى ملتقط.

(5/83)


3 - باب: ضَالَّةِ الْغَنَمِ
2428- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً " يَقُولُ يَزِيدُ إِنْ لَمْ تُعْرَفْ اسْتَنْفَقَ بِهَا صَاحِبُهَا وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ قَالَ يَحْيَى فَهَذَا الَّذِي لاَ أَدْرِي أَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِهِ" ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ " قَالَ يَزِيدُ: وَهِيَ تُعَرَّفُ أَيْضًا" ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الإِبِلِ قَالَ فَقَالَ: دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا"
قوله: "باب ضالة الغنم" كأنه أفردها بترجمة ليشير إلى افتراق حكمها عن الإبل، وقد انفرد مالك بتجويز أخذ الشاة وعدم تعريفها متمسكا بقوله: "هي لك" وأجيب بأن اللام ليست للتمليك كما أنه قال أو للذئب والذئب لا يملك باتفاق، وقد أجمعوا على أن مالكها لو جاء قبل أن يأكلها الواجد لأخذها منه. قوله: "حدثنا إسماعيل بن عبد الله" هو ابن أبي أويس، وقد روى الكثير عن شيخه هنا سليمان بن بلال بواسطة. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد الأنصاري، وسبق في العلم من وجه آخر عن سليمان بن بلال عن ربيعة فكأن له فيه شيخين، وقد أخرجه الطحاوي من طريق عبد الله بن محمد الفهمي عن سليمان بن بلال عنهما جميعا عن يزيد مولى المنبعث، وأخرجه النسائي وابن ماجة والطحاوي من طريق ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن ربيعة عن يزيد فجعل ربيعة شيخ يحيى لا رفيقه، لكن سيأتي في آخر الطلاق من رواية سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن يزيد مرسلا "قال سفيان قال يحيى وقال ربيعة عن يزيد بن خالد قال سفيان ولقيت ربيعة فحدثني به" فالحاصل أن من رواه عن يحيى عن يزيد عن زيد يكون قد سوى الإسناد فإن يحيى إنما سمع ذكر زيد فيه بواسطة ربيعة، ويحتمل أن يكون يحيى لما حدث به سفيان كان ذاهلا عنه ثم ذكره لما حدث به سليمان والله أعلم. قوله: "فزعم" أي قال. والزعم يستعمل في القول المحقق كثيرا. قوله: "ثم عرفها سنة، يقول يزيد إن لم تعرف استنفق بها صاحبها" أي ملتقطها وكانت وديعة عنده "قال يحيى هذا الذي لا أدري أهو في الحديث أم شيء من عنده" أي من عند يزيد، والقائل يقول يزيد هو يحيى بن سعيد الأنصاري. والقائل "قال: "هو سليمان، وهما موصولان بالإسناد المذكور "والغرض أن يحيى بن سعيد شك هل قوله: "ولتكن وديعة عنده" مرفوع أو لا، وهذا القدر المشار إليه بهذا دون ما قبله لثبوت ما قبله في أكثر الروايات وخلوها عن ذكر الوديعة، وقد جزم يحيى بن سعيد برفعه مرة أخرى وذلك فيما أخرجه مسلم عن القعنبي

(5/83)


والإسماعيلي من طريق يحيى بن حسان كلاهما عن سليمان بن بلال عن يحيى فقال فيه: "فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك" وكذلك جزم برفعها خالد بن مخلد عن سليمان بن ربيعة عند مسلم، والفهمي عن سليمان عن يحيى وربيعة جميعا عند الطحاوي، وقد أشار البخاري إلى رجحان رفعها فترجم بعد أبواب "إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه، لأنها وديعة عنده" وسيأتي الكلام على المراد بكونها وديعة هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "قال يزيد وهي تعرف أيضا" هو بتشديد الراء وهو موصول بالإسناد المذكور، ولم يشك يحيى في كون هذه الجملة موقوفة على يزيد، ولم أرها مرفوعة في شيء من الطرق؛ وقد تقدم حكاية الخلاف فيه في الباب الذي قبله.

(5/84)


4 - باب: إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا
2429- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَ فَشَأْنَكَ بِهَا قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ. قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا"
قوله: "باب إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها" أي غنيا كان أو فقيرا كما تقدم، أورد فيه حديث زيد بن خالد المذكور من جهة مالك عن ربيعة وفيه قوله: "ثم عرفها ستة، فإن جاء صاحبها وإلا شأنك بها" فيه حذف تقديره فإن جاء صاحبها فأدها إليه وإن لم يجيء فشأنك بها، فحذف من هذه الرواية جواب الشرط الأول وشرط "إن" الثانية والفاء من جوابها قاله ابن مالك في حديث أبي الآتي في أواخر أبواب اللقطة بلفظ: "فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها" وإنما وقع الحذف من بعض الرواة دون بعض، فقد تقدم حديث أبي في أول اللقطة بلفظ: "فاستمتع بها" بإثبات الفاء في الجواب الثاني، ومضى من رواية الثوري عن ربيعة في حديث الباب بلفظ: "وإلا فاستنفقها" ومثله ما سيأتي بعد أبواب من رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة بلفظ: "ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه" ولمسلم من طريق ابن وهب المقدم ذكرها "فإذا لم يأت لها طالب فاستنفقها" . واستدل به على أن اللاقط يملكها بعد انقضاء مدة التعريف، وهو ظاهر نص الشافعي، فإن قوله: "شأنك بها" تفويض إلى اختياره، وقوله: "فاستنفقها" الأمر فيه للإباحة، والمشهور عند الشافعية اشتراط التلفظ بالتمليك، وقيل تكفي النية وهو الأرجح دليلا، وقيل تدخل في ملكه بمجرد الالتقاط، وقد روى الحديث سعيد بن منصور عن الدراوردي عن ربيعة بلفظ: "وإلا فتصنع بها ما تصنع بمالك" . قوله: "شأنك بها" الشأن الحال أي تصرف فيها، وهو بالنصب أي الزم شأنك بها، ويجوز الرفع بالابتداء والخبر "بها" أي شأنك متعلق بها، واختلف العلماء فيما إذا تصرف في اللقطة بعد تعريفها سنة ثم جاء صاحبها هل يضمنها له أم لا؟ فالجمهور على وجوب الرد إن كانت العين موجودة، أو البدل إن كانت استهلكت، وخالف في ذلك الكرابيسي صاحب الشافعي ووافقه صاحباه البخاري وداود بن علي إمام الظاهرية، لكن وافق داود الجمهور إذا كانت العين قائمة، ومن حجة الجمهور قوله في الرواية

(5/84)


الماضية "ولتكن وديعة عندك" وقوله أيضا عند مسلم في رواية بشر بن سعيد عن زيد بن خالد "فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه" فإن ظاهر قوله: "فإن جاء صاحبها الخ". بعد قوله: "كلها" يقتضي وجوب ردها بعد أكلها فيحمل على رد البدل، ويحتمل أن يكون في الكلام حذف يدل عليه بقية الروايات، والتقدير فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها إن لم يجيء صاحبها فإن جاء صاحبها فأدها إليه، وأصرح من ذلك رواية أبي داود من هذا الوجه بلفظ: "فإن جاء باغيها فأدها إليه، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء باغيها فأدها إليه" فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده، وهي أقوى حجة للجمهور، وروى أبو داود أيضا من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن أبيه عن زيد بن خالد في هذا الحديث: "فإن جاء صاحبها دفعتها إليه وإلا عرفت وكاءها وعفاصها ثم اقبضها في مالك فإن جاء صاحبها فادفعها إليه" وإذا تقرر هذا أمكن حمل قول المصنف في الترجمة "فهي لمن وجدها" أي في إباحة التصرف فيها حينئذ، وأما أمر ضمانها بعد ذلك فهو ساكت عنه، قال النووي: إن جاء صاحبها قبل أن يتملكها الملتقط أخذها بزوائدها المتصلة والمنفصلة، وأما بعد التملك فإن لم يجيء صاحبها فهي لمن وجدها ولا مطالبة عليه في الآخرة، وإن جاء صاحبها فإن كانت موجومة بعينها استحقها بزوائدها المتصلة ومهما تلف منها لزم الملتقط غرامته للمالك وهو قول الجمهور. وقال بعض السلف: لا يلزمه، وهو ظاهر اختيار البخاري والله أعلم. وسأذكر بقية فوائد حديث زيد بن خالد بعد أربعة أبواب إن شاء الله تعالى.

(5/85)


5 - باب: إِذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِي الْبَحْرِ أَوْ سَوْطًا أَوْ نَحْوَهُ
2430- وَقَالَ: اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ فَخَرَجَ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا هُوَ بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ"
قوله: "باب إذا وجد خشبة في البحر أو سوطا أو نحوه" أي ماذا يصنع به، هل يأخذه أو يتركه؟ وإذا أخذه هل يتملكه أو يكون سبيله سبيل اللقطة؟ وقد اختلف العلماء في ذلك. قوله: "وقال الليث الخ" تقدم الكلام عليه مستوفى في الكفالة، وأورده هنا مختصرا، وسبق توجيه استنباط الترجمة منه وأنها من جهة أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما يخالفه، ولا سيما إذا ساقه الشارع مساق الثناء على فاعله، فبهذا التقدير تم المراد من جواز أخذ الخشبة من البحر. وقد اختلف العلماء في ذلك على ما سأذكره. وأما السوط وغيره فلم يقع له ذكر في الباب، فاعترضه ابن المنير بسبب ذلك، وأجيب بأنه استنبطه بطريق الإلحاق. ولعله أشار بالسوط إلى أثر يأتي بعد أبواب في حديث أبي بن كعب، أو أشار إلى ما أخرجه أبو داود من حديث جابر قال: "رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به" وفي إسناده ضعف، واختلف في رفعه ووقفه، والأصح عند الشافعية أنه لا فرق في اللقطة بين القليل والكثير في التعريف وغيره، وفي وجه لا يجب التعريف أصلا، وقيل تعرف مرة وقيل ثلاثة أيام وقيل زمنا يظن أن فاقده أعرض عنه، وهذا كله في قليل له قيمة أما ما لا قيمة له كالحبة الواحدة فله الاستبداد به على الأصح، وفي الباب الذي يليه في حديث التمرة حجة لذلك،

(5/85)


وعند الحنفية أن كل شيء يعلم أن صاحبه لا يطلبه كالنواة جاز أخذه والانتفاع به من غير تعريف، إلا أنه يبقى على ملك صاحبه. وعند المالكية كذلك إلا أنه يزول ملك صاحبه عنه، فإن كان له قدر ومنفعة وجب تعريفه. واختلفوا في مدة التعريف، فإن كان مما يتسارع إليه الفساد جاز أكله ولا يضمن على الأصح.

(5/86)


6 - باب: إِذَا وَجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ
2431- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ قَالَ لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لاَكَلْتُهَا"
2432- وقال: يحيى حدثنا سفيان حدثني منصور. وقال زائدة عن منصور عن طلحة حدثنا أنس وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِّي لاَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا"
قوله: "باب إذا وجد تمرة في الطريق" أي يجوز له أخذها وأكلها وكذا نحوها من المحقرات، وهو المشهور المجزوم به عند الأكثر، وأشار الرافعي إلى تخريج وجه فيه. وقد روى ابن أبي شيبة من طريق ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها وجدت تمرة فأكلتها وقالت: لا يحب الله الفساد، تعني أنها لو تركت فلم تؤخذ فتؤكل فسدت. قوله: "عن طلحة" هو ابن مصرف. قوله: "لأكلتها" ظاهر في جواز أكل ما يوجد من المحقرات ملقى في الطرقات، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لم يمتنع من أكلها إلا تورعا لخشية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه، لا لكونها مرمية في الطريق فقط. وقد أوضح ذلك قوله في حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب: "على فراشي" فإنه ظاهر في أنه ترك أخذها تورعا لخشية أن تكون صدقة، فلو لم يخش ذلك لأكلها، ولم يذكر تعريفا فدل على أن مثل ذلك يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف، لكن هل يقال إنها لقطة لأن اللقطة ما من شأنه أن يتملك دون ما لا قيمة له؟ وقد استشكل بعضهم تركه صلى الله عليه وسلم التمرة في الطريق مع أن الإمام يأخذ المال الضائع للحفظ وأجيب باحتمال أن يكون أخذها كذلك لأنه ليس في الحديث ما ينفيه، أو تركها عمدا لينتفع بها من يجدها ممن تحل له الصدقة، وإنما يجب على الإمام حفظ المال الذي يعلم تطلع صاحبه له، لا ما جرت به العادة بالإعراض عنه لحقارته. والله أعلم. قوله: "وقال يحيى" أي ابن سعيد القطان، وقد وصله مسدد في مسنده عنه، أخرجه الطحاوي من طريق مسدد. قلت: ولسفيان فيه إسناد آخر أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عنه بهذا الإسناد إلى طلحة فقال: "عن ابن عمر أنه وجد تمرة فأكلها". قوله: "وقال زائدة الخ" وصله مسلم من طريق أبي أسامة عن زائدة. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في أوائل البيوع.

(5/86)


7 - باب: كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ؟
وَقَالَ: طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا"

(5/86)


8 - باب: لاَ تُحْتَلَبُ مَاشِيَةُ أَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ
2435- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ فَلاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ"
قوله: "باب لا تحتلب ماشية أحد بغير إذنه" هكذا أطلق الترجمة على وفق ظاهر الحديث إشارة إلى الرد على من

(5/88)


خصصه أو قيده. قوله: "عن نافع" في "موطأ محمد بن الحسن" عن مالك أخبرنا نافع. وفي رواية أبي قطن في "الموطآت للدار قطني" قلت لمالك أحدثك نافع. قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية يزيد بن الهاد عن مالك عند الدار قطني أيضا أنه "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول". قوله: "لا يحلبن" كذا في البخاري وأكثر الموطآت بضم اللام. وفي رواية ابن الهاد المذكورة "لا يحتلبن بكسرها وزيادة المثناة قبلها. قوله: "ماشية امرئ" في رواية ابن الهاد وجماعة من رواة الموطأ "ماشية رجل" وهو كالمثال وإلا فلا اختصاص لذلك بالرجال، وذكره بعض شراح الموطأ بلفظ: "ماشية أخيه" وقال: هو للغالب إذ لا فرق في هذا الحكم بين المسلم والذمي، وتعقب بأنه لا وجود لذلك في الموطأ وبإثبات الفرق عند كثير من أهل العلم كما سيأتي في فوائد هذا الحديث، وقد رواه أحمد من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ: "نهى أن يحتلب مواشي الناس إلا بإذنهم" والماشية تقع على الإبل والبقر والغنم، ولكنه في الغنم يقع أكثر قاله في النهاية. قوله: "مشربته" بضم الراء وقد تفتح أي غرفته، والمشربة مكان الشرب بفتح الراء خاصة والمشربة بالكسر إناء الشرب. قوله: "خزانته" الخزانة المكان أو الوعاء الذي يخزن فيه ما يراد حفظه، وفي رواية أيوب عند أحمد "فيكسر بابها". قوله: "فينتقل" بالنون والقاف وضم أوله يفتعل من النقل أي تحول من مكان إلى آخر، كذا في أكثر الموطآت عن مالك، ورواه بعضهم كما حكاه ابن عبد البر، وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة وغيره بلفظ: "فينتثل" بمثلثة بدل القاف، والنثل النثر مرة واحدة بسرعة، وقيل الاستخراج وهو أخص من النقل، وهكذا أخرجه مسلم من رواية أيوب وموسى بن عقبة وغيرهما عن نافع، ورواه عن الليث عن نافع بالقاف، وهو عند ابن ماجة من هذا الوجه بالمثلثة. قوله: "تخزن" بالخاء المعجمة الساكنة والزاي المضمومة بعدها نون. وفي رواية الكشميهني: "تحرز" بضم أوله وإهمال الحاء وكسر الراء بعدها زاي. قوله: "ضروع" الضرع للبهائم كالثدي للمرأة. قوله: "أطعماتهم" هو جمع أطعمة والأطعمة جمع طعام والمراد به هنا اللبن، قال ابن عبد البر: في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئا إلا بإذنه، وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه فنبه به على ما هو أولى منه، وبهذا أخذ الجمهور، لكن سواء كان بإذن خاص أو إذن عام، واستثنى كثير من السلف ما إذا علم بطيب نفس صاحبه، وإن لم يقع منه إذن خاص ولا عام، وذهب كثير منهم إلى الجواز مطلقا في الأكل والشرب سواء علم بطيب نفسه أو لم يعلم، والحجة لهم ما أخرجه أبو داود والترمذي وصححه من رواية الحسن عن سمرة مرفوعا: "إذا أتى أحدكم على ماشية فإن لم يكن صاحبها فيها فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحلب وليشرب ولا يحمل" إسناده صحيح إلى الحسن، فمن صحح سماعه من سمرة صححه ومن لا أعله بالانقطاع، لكن له شواهد من أقواها حديث أبي سعيد مرفوعا: "إذا أتيت على راع فناده ثلاثا، فإن أجابك وإلا فاشرب من غير أن تفسد، وإذا أنيت على حائط بستان" فذكر مثله أخرجه ابن ماجة والطحاوي وصححه ابن حبان والحاكم، وأجيب عنه بأن حديث النهي أصح، فهو أولى بأن يعمل به، وبأنه معارض للقواعد القطعية في تحريم مال المسلم بغير إذنه فلا يلتفت إليه، ومنهم من جمع بين الحديثين بوجوه من الجمع: منها حمل الإذن على ما إذا علم طيب نفس صاحبه، والنهي على ما إذا لم يعلم. ومنها تخصيص الإذن بابن السبيل دون عمره أو بالمضطر أو بحال المجاعة مطلقا وهي متقاربة، وحكى ابن بطال عن بعض شيوخه أن حديث الإذن كان في زمنه صلى الله عليه وسلم وحديث النهي أشار به إلى ما سيكون بعده من التشاح وترك المواساة. ومنهم من حمل حديث

(5/89)


النهي على ما إذا كان المالك أحوج من المار لحديث أبي هريرة "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة فثبنا إليها فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم، أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب؟ قلنا: لا، قال: فإن ذلك كذلك" أخرجه أحمد وابن ماجة واللفظ له. وفي حديث أحمد "فابتدرها القوم ليحلبوها" قالوا فيحمل حديث الإذن على ما إذا لم يكن المالك محتاجا، وحديث النهي على ما إذا كان مستغنيا. ومنهم من حمل الإذن على ما إذا كانت غير مصرورة والنهي على ما إذا كانت مصرورة لهذا الحديث، لكن وقع عند أحمد في آخره: "فإن كنتم لا بد فاعلين فاشربوا ولا تحملوا" فدل على عموم الإذن في المصرور وغيره، لكن بقيد عدم الحمل ولا بد منه. واختار ابن العربي الحمل على العادة قال: وكانت عادة أهل الحجاز والشام وغيرهم المسامحة في ذلك بخلاف بلدنا، قال: ورأى بعضهم أن مهما كان على طريق لا يعدل إليه ولا يقصد جاز للمار الأخذ منه، وفيه إشارة إلى قصر ذلك على المحتاج. وأشار أبو داود في "السنن" إلى قصر ذلك على المسافر في الغزو، وآخرون إلى قصر الأذن على ما كان لأهل الذمة والنهي على ما كان للمسلمين، واستؤنس بما شرطه الصحابة على أهل الذمة من ضيافة المسلمين وصح ذلك عن عمر. وذكر ابن وهب عن مالك في المسافر ينزل بالذمي قال: لا يأخذ منه شيئا إلا بإذنه، قيل له: فالضيافة التي جعلت عليهم؟ قال: كانوا يومئذ يخفف عنهم بسببها؛ وأما الآن فلا. وجنح بعضهم إلى نسخ الأذن وحملوه على أنه كان قبل إيجاب الزكاة، قالوا: وكانت الضيافة حينئذ واجبة ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة. قال الطحاوي: وكان ذلك حين كانت الضيافة واجبة ثم نسخت فنسخ ذلك الحكم وأورد الأحاديث في ذلك. وسيأتي الكلام على حكم الضيافة في المظالم قريبا إن شاء الله تعالى. وقال النووي في "شرح المهذب": اختلف العلماء فيمن مر ببستان أو زرع أو ماشية، قال الجمهور: لا يجوز أن يأخذ منه شيئا إلا في حال الضرورة فيأخذ ويغرم عند الشافعي والجمهور. وقال بعض السلف: لا يلزمه شيء، وقال أحمد: إذا لم يكن على البستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة في أصح الروايتين ولو لم يحتج لذلك، وفي الأخرى إذا احتاج ولا ضمان عليه في الحالين، وعلق الشافعي القول بذلك على صحة الحديث، قال البيهقي: يعني حديث ابن عمر مرفوعا: "إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ خبيئة" أخرجه الترمذي واستغربه، قال البيهقي: لم يصح، وجاء من أوجه أخر غير قوية. قلت: والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح، وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها، وقد بينت ذلك في كتابي "المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة". وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للإفهام وتمثيل ما قد يخفى بما هو أوضح منه، واستعمال القياس في النظائر، وفيه ذكر الحكم بعلته وإعادته بعد ذكر العلة تأكيدا وتقريرا، وأن القياس لا يشترط في صحته مساواة الفرع للأصل بكل اعتبار، بل ربما كانت للأصل مزية لا يضر سقوطها في الفرع إذا تشاركا في أصل الصفة، لأن الضرع لا يساوي الخزانة في الحرز كما أن الصر لا يساوي القفل فيه، ومع ذلك فقد ألحق الشارع الضرع المصرور في الحكم بالخزانة المقفلة في تحريم تناول كل منهما بغير إذن صاحبه، أشار إلى ذلك ابن المنير: وفيه إباحة خزن الطعام واحتكاره إلى وقت الحاجة إليه خلافا لغلاة المتزهدة المانعين من الادخار مطلقا قاله القرطبي. وفيه أن اللبن يسمى طعاما فيحنث به من حلف لا يتناول طعاما إلا أن يكون له نية في إحراج اللبن قاله النووي. قال: وفيه أن بيع لبن الشاة بشاة في ضرعها لبن باطل، وبه قال الشافعي والجمهور، وأجازه الأوزاعي. وفيه أن الشاة إذا كان لها لبن مقدور على حلبه قابله قسط من الثمن قاله الخطابي؛ وهو يؤيد خبر المصراة ويثبت حكمها في تقويم اللبن. وفيه أن من حلب من ضرع ناقة أو غيرها في

(5/90)


مصرورة محرزة بغير ضرورة ولا تأويل ما تبلغ قيمته ما يجب فيه القطع أن عليه القطع إن لم يأذن له صاحبها تعضهم أو إجمالا، لأن الحديث قد أفصح بأن ضروع الأنعام خزائن الطعام، وحكى القرطبي عن بعضهم وجوب القطع ولو لم تكن الغنم في حرز اكتفاء بحرز الضرع للبن، وهو الذي يقتضيه طاهر الحديث.

(5/91)


9 - باب: إِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ رَدَّهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ
2436- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ - أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ - ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا"
قوله: "باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنه ردها عليه لأنها وديعة عنده" أورد فيه حديث زيد بن خالد من طريق إسماعيل بن جعفر عن ربيعة، وليس فيه ذكر الوديعة فكأنه أشار إلى رجحان رفع رواية سليمان بن بلال الماضية قبل خمسة أبواب وقد تقدم بيانها. وقال ابن بطال: استراب البخاري بالشك المذكور فترجمه بالمعنى، وقال ابن المنير: أسقطها لفظا وضمنها معنى لأن قوله: "فإن جاء صاحبها فأدها إليه" يدل على بقاء ملك صاحبها خلافا لمن أباحها بعد الحول بلا ضمان. وقوله: "ولتكن وديعة عندك" قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون المراد بعد الاستنفاق، وهو ظاهر السياق، فتجوز بذكر الوديعة عن وجوب رد بدلها، لأن حقيقة الوديعة أن تبقى عينها، والجامع وجوب رد ما يجد المرء لغيره وإلا فالمأذون في استنفاقه لا تبقى عينه، ويحتمل أن تكون الواو في قوله: "ولتكن" بمعنى أو، أي إما أن تستنفقها وتغرم بدلها وأما أن تتركها عندك على سبيل الوديعة حتى يجيء صاحبها فتعطيها له، ويستفاد من تسميتها وديعة أنها لو تلفت لم يكن عليه ضمانها وهو اختيار البخاري تبعا لجماعة من السلف، وقال ابن المنير: يستدل به لأحد الأقوال عند العلماء إذا أتلفها الملتقط بعد التعريف وانقضاء زمنه ثم أخرج بدلها ثم هلكت أن لا ضمان عليه في الثانية، وإذا ادعى أنه أكلها ثم غرمها ثم ضاعت قبل قوله أيضا وهو الراجح من الأقوال، وتقدم الكلام على بقية فوائده قبل أربعة أبواب. وقوله هنا: "حتى احمرت وجنتاه أو احمر وجهه" شك من الراوي، والوجنة ما ارتفع من الخدين، وفيها أربع لغات: بالواو والهمزة والفتح فيهما والكسر.

(5/91)


باب هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع حتى لا يأخ1ذها من لا يستحق؟
...
10 - باب: هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلاَ يَدَعُهَا تَضِيعُ حَتَّى لاَ يَأْخُذَهَا مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ؟
2437- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ فِي غَزَاةٍ فَوَجَدْتُ سَوْطًا فَقَالاَ لِي أَلْقِهِ قُلْتُ لاَ وَلَكِنْ إِنْ وَجَدْتُ صَاحِبَهُ وَإِلاَ اسْتَمْتَعْتُ بِهِ فَلَمَّا رَجَعْنَا حَجَجْنَا فَمَرَرْتُ بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ

(5/91)


11 - باب: مَنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى السُّلْطَانِ
2438- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد رضي الله عنه "أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللقطة قال: عرفها سنة فإن جاء أحد يخبرك بعفاصها ووكائها وإلا فاستنفق بها وسأله عن ضالة الإبل فتمعر وجهه وقال: ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر، دعها حتى يجدها ربها وسأله عن ضالة الغنم فقال: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب"
قوله: "باب من عرف اللقطة ولم يدفعها إلى السلطان" في رواية الكشميهني: "يرفعها" بالراء بدل الدال، وكأنه أشار بالترجمة إلى رد قول الأوزاعي في التفرقة بين القليل والكثير فقال: "إن كان قليلا عرفه وإن كان مالا كثيرا رفعه إلى بيت المال" والجمهور على خلافه، نعم فرق بعضهم بين اللقطة والضوال، وبعض المالكية والشافعية بين المؤتمن وغيره فقال: يعرف المؤتمن؛ وأما غير المؤتمن فيدفعها إلى السلطان ليعطيها المؤتمن ليعرفها. وقال بعض المالكية إن كانت اللقطة بين قوم مأمونين والسلطان جائز فالأفضل أن لا يلتقطها فإن التقطها لا يدفعها له، وإن كان عادلا فكذلك ويخير في دفعها له، وإن كانت بين قوم مأمونين والإمام جائر تخير الملتقط وعمل بما يترجح عنده، وإن كان عادلا فكذلك.

(5/93)


باب حدثني إسحاق بن إبراهيم أخبرنا النضر أخبرنا إسرائيل .....
...
12 باب
2439- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ أَخْبَرَنِي الْبَرَاءُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ح حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "انْطَلَقْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ - فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ - فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ فَقَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي قَالَ نَعَمْ فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنْ الْغُبَارِ ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ هَكَذَا ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى - فَحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ"
[الحديث 2439- أطرافه في: 3615 ، 3652 ، 3908 ، 3917 ، 5607]

(5/93)


كتاب المظالم
باب قصاص المظالم
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
46 - كِتَاب الْمَظَالِمِ وَالْغَصْبِ
في المظالم والغضب، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} : رَافِعِي الْمُقْنِعُ وَالْمُقْمِحُ وَاحِدٌ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب المظالم. في المظالم والغصب" كذا للمستملي، وسقط "كتاب" لغيره، وللنسفي "كتاب الغصب باب في المظالم". والمظالم جمع مظلمة مصدر ظلم يظلم واسم لما أخذ بغير حق، والظلم وضع الشيء في غير موضعه الشرعي، والغصب أخذ حق الغير بغير حق. قوله: "وقول الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} - إلى – {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} " كذا لأبي ذر. وساق غيره الآية. قوله: " {مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} : رافعي رءوسهم، المقنع والمقمح واحد" سقط للمستملي والكشميهني قوله: "رافعي رءوسهم" وهو تفسير مجاهد أخرجه الفريابي من طريقه وهو قول أكثر أهل اللغة والتفسير وكذا قاله أبو عبيدة في "المجاز" واستشهد بقول الراجز:
أنهض نحوي رأسه وأقنعا ... كأنما أبصر شيئا أطمعا
وحكى ثعلب أنه مشترك، يقال أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع إذا طأطأه، ويحتمل أن يراد الوجهان: أن يرفع رأسه ينظر، ثم يطأطئه ذلا وخضوعا قاله ابن التين، وأما قوله: "المقنع والمقمح واحد" فذكره أبو عبيدة أيضا في "المجاز" في تفسير سورة يس وزاد: معناه أن يجذب الذقن حتى تصير في الصدر ثم يرفع رأسه، وهذا يساعد قول ابن التين لكنه بغير ترتيب. قوله: "وقال مجاهد: مهطعين مديمي النظر. وقال غيره: مسرعين" ثبت هذا هنا لغير أبي ذر ووقع له هو في ترجمة الباب الذي بعده، وتفسير مجاهد وصله الفريابي أيضا، وأما تفسير غيره فالمراد به أبو عبيدة أيضا فكذا قاله واستشهد عليه، وهو قول قتادة والمعروف في اللغة، ويحتمل أن يكون المراد كلا من الأمرين، وقال ثعلب: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع لا يقطع بصره. قوله: "وأفئدتهم هواء يعني جوفا لا عقول لهم" وهو تفسير أبي عبيدة أيضا في "المجاز" واستشهد بقول حسان:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوف نخب هواء
والهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، أي لا قوة في قلوبهم ولا جراءة. وقال ابن عرفة: معناه نزعت أفئدتهم من أجوافهم.
1 - باب: قِصَاصِ الْمَظَالِمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مُهْطِعِينَ} مُدِيمِي النَّظَرِ وَيُقَالُ مُسْرِعِينَ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} يَعْنِي جُوفًا لاَ عُقُولَ لَهُمْ {وَأَنْذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ

(5/95)


ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلاَ تَحْسِبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}
2440- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا"
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ
[الحديث 2440- طرفه في: 6535]
قوله: "باب قصاص المظالم" يعني يوم القيامة، ذكر فيه حديث أبي سعيد الخدري، وقد ترجم عليه في كتاب الرقاق "باب القصاص يوم القيامة" ويأتي الكلام عليه هناك. وقوله: "بقنطرة" الذي يظهر أنها طرف الصراط مما يلي الجنة، ويحتمل أن تكون من غيره بين الصراط والجنة. وقوله: "فيتقاصون" بتشديد المهملة يتفاعلون من القصاص، والمراد به تتبع ما بينهم من المظالم وإسقاط بعضها ببعض. وقوله: "حتى إذا نقوا" بضم النون بعدها قاف من التنقية، ووقع للمستملي هنا "تقصوا" بفتح المثناة والقاف وتشديد المهملة أي أكملوا التقاص. قوله: "وهذبوا" أي خلصوا من الآثام بمقاصصة بعضها ببعض، ويشهد لهذا الحديث قوله في حديث جابر الآتي ذكره في التوحيد "لا يحل لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد قبله مظلمة" والمراد بالمؤمنين هنا بعضهم، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى: قوله: "وقال يونس بن محمد الخ" وصله ابن منده في كتاب الإيمان، وأراد البخاري به تصريح قتادة عن أبي المتوكل بالتحديث، واسم أبي المتوكل علي بن دؤاد بضم الدال بعدها همزة.

(5/96)


2 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
2441- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "فِي النَّجْوَى فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ"
[الحديث 2441- أطرافه في: 4685 ، 6070 ، 7514]
قوله: "باب قول الله تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} " ذكر فيه حديث ابن عمر "يدني الله المؤمن فيضع عليه كنفه" الحديث وسيأتي الكلام عليه مستوفى في التوحيد، وفي كتاب الرقاق الإشارة إليه. قوله في هذه الرواية:

(5/96)


"كنفه" بفتح النون والفاء عند الجميع، ووقع لأبي ذر عن الكشميهني بكسر المثناة وهو تصحيف قبيح قاله عياض. ووجه دخوله في أبواب الغصب الإشارة إلى أن عموم قوله هنا "أغفرها لك" مخصوص بحديث أبي سعيد الماضي في الباب قبله.

(5/97)


3 - باب: لاَ يَظْلِمُ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ وَلاَ يُسْلِمُهُ
2442- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
[الحديث 2442- طرفه في: 6951]
قوله: "باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه" بضم أوله يقال: أسلم فلان فلانا إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوه، وهو عام في كل من أسلم لغيره، لكن غلب في الإلقاء إلى الهلكة. قوله: "المسلم أخو المسلم" هذه أخوة الإسلام، فإن كل اتفاق بين شيئين يطلق بينهما اسم الأخوة، ويشترك في ذلك الحر والعبد والبالغ والمميز. قوله: "لا يظلمه" هو خبر بمعنى الأمر، فإن ظلم المسلم للمسلم حرام، وقوله: "ولا يسلمه" أي لا يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم، وقد يكون ذلك واجبا وقد يكون مندوبا بحسب اختلاف الأحوال، وزاد الطبراني من طريق أخرى عن سالم "ولا يسلمه في مصيبة نزلت به" ولمسلم في حديث أبي هريرة "ولا يحقره" وهو بالمهملة والقاف، وفيه: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" . قوله: "ومن كان في حاجة أخيه" في حديث أبي هريرة عند مسلم: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" . قوله: "ومن فرج عن مسلم كربة" أي غمة، والكرب هو الغم الذي يأخذ النفس، وكربات بضم الراء جمع كربة ويجوز فتح راء كربات وسكونها. قوله: "ومن ستر مسلما" أي رآه على قبيح فلم يظهره أي للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه، ويحمل الأمر في جواز الشهادة عليه بذلك على ما إذا أنكر عليه ونصحه فلم ينته عن قبيح فعله ثم جاهر به، كما أنه مأمور بأن يستتر إذا وقع منه شيء، فلو توجه إلى الحاكم وأقر لم يمتنع ذلك، والذي يطهر أن الستر محله في معصية قد انقضت، والإنكار في معصية قد حصل التلبس بها فيجب الإنكار عليه وإلا رفعه إلى الحاكم، وليس من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة، وفيه إشارة إلى ترك الغيبة لأن من أظهر مساوئ أخيه لم يستره. قوله: "ستره الله يوم القيامة" في حديث أبي هريرة عند الترمذي "ستره الله في الدنيا والآخرة" وفي الحديث حض على التعاون وحسن التعاشر والألفة، وفيه أن المجازاة تقع من جنس الطاعات، وأن من حلف أن فلانا أخوه وأراد أخوة الإسلام لم يحنث. وفيه حديث عن سويد بن حنظلة في أبي داود في قصة له مع وائل بن حجر.

(5/97)


4 - باب: أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا
2443- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا"
[الحديث 2443- طرفاه في: 2444 ، 6952]
2444- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ"
قوله: "باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما" ترجم بلفظ الإعانة، وأورد الحديث بلفظ النصر، فأشار إلى ما ورد في بعض طرقه، وذلك فيما رواه خديج بن معاوية - وهو بالمهملة وآخره جيم مصغر - عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: "أعن أخاك ظالما أو مظلوما" الحديث أخرجه ابن عدي، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من الوجه الذي أخرجه منه البخاري بهذا اللفظ. قوله: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" كذا أورده مختصرا عن عثمان، وأخرجه الإسماعيلي من طرق عنه كذلك، وسيأتي في الإكراه من طريق أخرى عن هشيم عن عبيد الله وحده وفيه من الزيادة "فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره" وهكذا أخرجه أحمد عن هشيم عن عبيد الله وحده، وأخرجه الإسماعيلي من طرق أخرى عن هشيم عنهما نحوه. قوله: في الطريق الثانية "قال يا رسول الله" في رواية أبي الوقت في البخاري "قالوا" وفي الرواية التي في الإكراه "فقال رجل" ولم أقف على تسميته، قوله: "فقال تأخذ فوق يديه" كنى به عن كفه عن الظلم بالفعل إن لم يكف بالقول، وعبر بالفوقية إشارة إلى الأخذ بالاستعلاء والقوة، وفي رواية معاذ عن حميد عند الإسماعيلي: "فقال يكفه عن الظلم، فذاك نصره إياه" ولمسلم في حديث جابر نحو الحديث وفيه: "إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصرة" قال ابن بطال: النصر عند العرب الإعانة، وتفسيره لنصر الظالم بمنعه من الظلم من تسمية الشيء بما يؤول إليه، وهو من وجيز البلاغة، قال البيهقي: معناه أن الظالم مظلوم في نفسه فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حسا ومعنى، فلو رأى إنسانا يريد أن يجب نفسه لظنه أن ذلك يزيل مفسدة طلبه الزنا مثلا منعه من ذلك وكان ذلك نصرا له، واتحد في هذه الصورة الظالم والمظلوم. وقال ابن المنير: فيه إشارة إلى أن الترك كالفعل في باب الضمان وتحته فروع كثيرة. "تنبيه": ذكر مسلم في روايته من طريق أبي الزبير عن جابر سببا لحديث الباب يستفاد منه زمن وقوعه، وسيأتي ذكره في تفسير المنافقين إن شاء الله تعالى. "لطيفة": ذكر المفضل الضبي في كتابه "الفاخر" أن أول من قال: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، وأراد بذلك ظاهره وهو ما اعتادوه من حمية الجاهلية، لا على ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول شاعرهم:
إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم ... على القوم لم أنصر أخي حين يظلم

(5/98)


3 - باب: نَصْرِ الْمَظْلُومِ
2445- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدٍ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ فَذَكَرَ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ وَرَدَّ السَّلاَمِ وَنَصْرَ الْمَظْلُومِ وَإِجَابَةَ الدَّاعِي وَإِبْرَارَ الْمُقْسِمِ"
2446- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ"
قوله: "باب نصر المظلوم" هو فرض كفاية، وهو عام في المظلومين، وكذلك في الناصرين بناء على أن فرض الكفاية مخاطب به الجميع وهو الراجح، ويتعين أحيانا على من له القدرة عليه وحده إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر، فلو علم أو غلب على ظنه أنه لا يفيد سقط الوجوب وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تخير، وشرط الناصر أن يكون عالما بكون الفعل ظلما. ويقع النصر مع وقوع الظلم وهو حينئذ حقيقة، وقد يقع قبل وقوعه كمن أنفذ إنسانا من يد إنسان طالبه بمال ظلما وهدده إن لم يبذله، وقد يقع بعد وهو كثير ثم أورد المصنف فيه حديثين. أحدهما حديث البراء في الأمر بسبع والنهي عن سبع فذكره مختصرا وسيأتي الكلام على شرحه مستوفى في كتاب الأدب واللباس إن شاء الله تعالى، والمقصود منه هنا قوله: "ونصر المظلوم" . ثانيهما حديث أبي موسى "المؤمن للمؤمن كالبنيان" وسيأتي الكلام عليه في الأدب إن شاء الله تعالى. وقوله: "يشد بعضه" في رواية الكشميهني يشد بعضهم بصيغة الجمع.

(5/99)


باب الانتصار من الظالم لقوله جل ذكره(لا يحب الله الجهر بالسوء ...الأية)
...
6 - باب: الِانْتِصَارِ مِنْ الظَّالِمِ لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:
{لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا
قوله: "باب الانتصار من الظالم، لقوله جل ذكره: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ. وَالَّذِينَ} يعني وقوله والذين "{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} " أما الآية الأولى فروى الطبري من طريق السدي قال في قوله: "إلا من ظلم" أي فانتصر بمثل ما ظلم به فليس عليه ملام، وعن مجاهد "إلا من ظلم" فانتصر فإن له أن يجهر بالسوء، وعنه نزلت في رجل نزل بقوم فلم يضيفوه فرخص له أن يقول فيهم. قلت: ونزولها في واقعة عين لا يمنع حملها على عمومها. وعن ابن عباس المراد بالجهر من القول الدعاء فرخص للمظلوم أن يدعو على من ظلمه، وأما الآية الثانية فروى الطبري من طريق السدي أيضا في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} قال: يعني ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا. وفي الباب حديث أخرجه النسائي وابن ماجة بإسناد حسن من طريق التيمي عن عروة عن عائشة قالت: "دخلت على زينب بنت جحش فسبتني، فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فأبت" فقال لي سبيها. فسببتها حتى جف ريقها في فمها فرأيت وجهه يتهلل" . قوله: "وقال إبراهيم" أي النخعي "كانوا" أي السلف "يكرهون أن يستذلوا" بالذال

(5/99)


المعجمة من الذل وهو بضم أوله وفتح المثناة، وهذا الأثر وصله عبد بن حميد وابن عيينة في تفسيرهما في تفسير الآية المذكورة.

(5/100)


باب عفو المظلوم لقوله تعالى (إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء ... الأية)
...
7 - باب: عَفْوِ الْمَظْلُومِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء 149] وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ}
[الشورى 40 - 44]
قوله: باب عفو المظلوم لقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} أي وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا إلخ} وكأنه يشير إلى ما أخرجه الطبري عن السدي في قوله: {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} أي عن ظلم، وروى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} قال: إذا شتمك شتمته بمثلها من غير أن تعتدي {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وعن الحسن رخص له إذا سبه أحد أن يسبه. وفي الباب حديث أخرجه أحمد وأبو داود من طريق عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: ما من عبد ظلم مظلمة فعفا عنها إلا أعز الله بها نصره" .

(5/100)


8 - باب: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
2447- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
قوله: "باب الظلم ظلمات يوم القيامة" أورد فيه حديث ابن عمر بهذا اللفظ من غير مزيد، وقد رواه أحمد من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر وزاد في أوله "يا أيها الناس اتقوا الظلم" وفي رواية: "إياكم والظلم" وأخرجه البيهقي في "الشعب" من هذا الوجه وزاد فيه: قال محارب أظلم الناس من ظلم لغيره. وأخرجه مسلم من حديث جابر في أول حديث بلفظ: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح" الحديث، مال ابن الجوزي: الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة، والمعصية فيه أشد من غيرها لأنه لا يقع غالبا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار، وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئا.

(5/100)


8 - بَاب: الِاتِّقَاءِ وَالْحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ
2448- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَكِّيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ

(5/100)


10 - باب: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلَمَتَهُ؟
2449- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ"
قَالَ: أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: "إِنَّمَا سُمِّيَ الْمَقْبُرِيَّ لِأَنَّهُ كَانَ نَزَلَ نَاحِيَةَ الْمَقَابِرِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَسَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ هُوَ مَوْلَى بَنِي لَيْثٍ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ وَاسْمُ أَبِي سَعِيدٍ كَيْسَانُ"
[الحديث 2449- طرفه في: 6534]
قوله: "باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له هل يبين مظلمته" ؟ المظلمة بكسر اللام على المشهور، وحكى ابن قتيبة وابن التين والجوهري فتحها وأنكره ابن القوطية، ورأيت بخط مغلطاي أن القزاز حكى الضم أيضا. وقوله: "هل يبين" فيه إشارة إلى الخلاف في صحة الإبراء من المجهول، وإطلاق الحديث يقوي قول من ذهب إلى صحته، وقد ترجم بعد باب "إذا حلله ولم يبين كم هو" وفيه إشارة إلى الإبراء من المجمل أيضا، وزعم ابن بطال أن في حديث الباب حجة لاشتراط التعيين، لأن قوله: "مظلمة" يقتضي أن تكون معلومة القدر مشارا إليها ا هـ. ولا يخفى ما فيه. قال ابن المنير: إنما وقع في الحديث التقدير حيث يقتص المظلوم من الظالم حتى يأخذ منه بقدر حقه، وهذا متفق عليه، والخلاف إنما هو فيما إذا أسقط المظلوم حقه في الدنيا هل يشترط أن يعرف قدره أم لا؟ وقد أطلق ذلك في الحديث. نعم قام الإجماع على صحة التحليل من المعين المعلوم، فإن كانت العين موجودة صحت هبتها دون الإبراء منها. قوله: "من كانت له مظلمة لأخيه" اللام في قوله: "له" بمعنى على، أي من كانت عليه مظلمة لأخيه، وسيأتي في الرقاق من رواية مالك عن المقبري بلفظ: "من كانت عنده مظلمة لأخيه" ، والترمذي من طريق زيد بن أبي أنيسة عن المقبري "رحم الله عبدا كانت له عند أخيه مظلمة". قوله: "من عرضه أو شيء" أي من الأشياء، وهو من عطف العام على الخاص فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها. وفي رواية الترمذي "من عرض أو مال" . قوله: "قبل أن لا يكون دينار ولا درهم" أي يوم القيامة، وثبت ذلك في رواية علي بن الجعد عن ابن أبي ذئب عند الإسماعيلي. قوله: "أخذ من سيئات صاحبه" أي صاحب المظلمة "فحمل عليه" أي على الظالم، وفي رواية مالك "فطرحت عليه" ، وهذا الحديث قد أخرج مسلم معناه من وجه آخر وهو أوضح سياقا من هذا

(5/101)


ولفظه: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسفك دم هذا وأكل مال هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه وطرح في النار" ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه ولم يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته، فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله تعالى في عباده، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قوله: "قال إسماعيل بن أبي أويس: إنما سمي المقبري إلخ" ثبت هذا في رواية الكشميهني وحده، وإسماعيل المذكور من شيوخ البخاري.

(5/102)


11 - باب: إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَلاَ رُجُوعَ فِيهِ
2450- حدثنا محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} قالت: "الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية في ذلك"
[الحديث 2450- أطرافه في: 2694 ، 4601 ، 5206]
قوله: "باب إذا حلله من ظلمه فلا رجوع فيه" أي معلوما عند من يشترطه أو مجهولا عند من يجيزه، وهو فيما مضى باتفاق، وأما فيما سيأتي ففيه الخلاف. ثم أورد المصنف حديث عائشة في قصة التي تختلع من زوجها وسيأتي الكلام عليه في تفسير سورة النساء، ومحمد شيخه هو ابن مقاتل، وعبد الله هو ابن المبارك. ومطابقته للترجمة من جهة إن الخلع عقد لازم فلا يصح الرجوع فيه، ويلتحق به كل عقد لازم كذلك، كذا قال الكرماني فوهم، ومورد الحديث والآية إنما هو في حق من تسقط حقها من القسمة، وليس من الخلع في شيء، فمن ثم وقع الإشكال فقال الداودي: ليست الترجمة بمطابقة للحديث، ووجهه ابن المنير بأن الترجمة تتناول إسقاط الحق من المظلمة الفائتة والآية مضمونها إسقاط الحق المستقبل حتى لا يكون عدم الوفاء به مظلمة لسقوطه، قال ابن المنير: لكن البخاري تلطف في الاستدلال فكأنه يقول إذا نفذ الإسقاط في الحق المتوقع فلأن ينفذ في الحق المحقق أولى. قلت: وسيأتي الكلام على هبة المرأة يومها في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.

(5/102)


باب إذا أذن له أو أحل ولم يبين كم هو
...
12 - باب: إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ
2451- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ - وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ - فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ فَقَالَ الْغُلاَمُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا قَالَ فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ"
قوله: "باب إذا أذن له" أي في استيفاء حقه "أو أحله" في رواية الكشميهني: "أو أحل له". "ولم يبين كم

(5/102)


13 - باب: إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئًا مِنْ الأَرْضِ
2452- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ ظَلَمَ مِنْ الأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"
[الحديث 2452– طرفه في: 3198]
2453- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبْ الأَرْضَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"
[الحديث 2453- طرفه في: 3195]
2454- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخَذَ مِنْ الأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ" . قال: الفربري قال: أبو جعفر بن أبي حاتم قال أبو عبد الله: هذا الحديث ليس بخراسان في كتب ابن المبارك، أملى عليهم بالبصرة.
[الحديث 2454- طرفه في: 3196]
قوله: "باب إثم من ظلم شيئا من الأرض" كأنه يشير إلى توجيه تصوير غصب الأرض، خلافا لمن قال لا يمكن ذلك. قوله: "حدثني طلحة بن عبد الله" أي ابن عوف، وكذا هو عند أحمد عن أبي اليمان، زاد الحميدي في مسنده من وجه آخر في هذا الحديث: "وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف". قوله: "عبد الرحمن بن عمرو بن سهل" هو المدني، وقد ينسب إلى جده، وقد نسبه المزي أنصاريا ولم أر ذلك في شيء من طرق حديثه، بل في رواية ابن إسحاق التي سأذكرها ما يدل على أنه قرشي، وقد ذكر الواقدي فيمن قتل بالحرة عبد الملك بن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر العامري القرشي وأظنه ولد هذا، وكانت الحرة بعد هذه القصة بنحو من عشر سنين، وليس لعبد الرحمن هذا في صحيح البخاري سوى هذا الحديث الواحد. وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق

(5/103)


14 - باب إِذَا أَذِنَ إِنْسَانٌ لِآخَرَ شَيْئًا جَازَ
2455- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَبَلَةَ كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فِي بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَصَابَنَا سَنَةٌ فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الإِقْرَانِ إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ"
[الحديث 2455- أطرافه في: 2489 ، 2490 ، 5446]
2456- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ "أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ كَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ اصْنَعْ لِي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ وَأَبْصَرَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُوعَ فَدَعَاهُ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا قَدْ اتَّبَعَنَا أَتَأْذَنُ لَهُ قَالَ: نَعَمْ"
قوله: "باب إذا أذن إنسان لآخر شيئا جاز" قال ابن التين: نصب "شيئا" على نزع الخافض، والتقدير في شيء كقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} وأورد المصنف فيه حديثين.أحدهما لابن عمر في النهي عن القران، والمراد به أن لا يقرن تمرة بتمرة عند الأكل لئلا يجحف برفقته، فإن أذنوا له في ذلك جاز لأنه حقهم فلهم أن يسقطوه، وهذا يقوي مذهب من يصحح هبة المجهول، وسيأتي الكلام على الحديث مستوفى في كتاب الأطعمة مع بيان حال قوله: "إلا أن يستأذن" ومن قال: إنه مدرج إن شاء الله تعالى. ثانيهما حديث أبي مسعود في قصة الجزار الذي عمل الطعام والرجل الذي تبعهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أتأذن له" وسيأتي الكلام عليه في الأطعمة أيضا، وقوله فيه: "وأبصر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم: " هي جملة حالية أي أنه قال لغلامه "اصنع لي" في حال رؤيته تلك، وقوله: "فتبعهم رجل فقال إن هذا اتبعنا" بتشديد التاء، قال ابن التين: هو افتعل من تبع وهو بمعناه، وخبط الداودي هنا لظنه أنها همزة قطع فقال: معنى اتبعنا سار معنا، وتبعهم أي لحقهم، وأطال ابن التين في تعقب كلامه.

(5/106)


15 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [204 البقرة]: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}
2457- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ"
[الحديث 2457- طرفاه في: 4533 ، 7188]
قوله: "باب قول الله تعالى :{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} " الألد الشديد اللدد أي الجدال، مشتق من اللديدين وهما صفحتا العنق، والمعنى أنه من أي جانب أخذ من الخصومة قوي، وقيل غير ذلك في معناه. حديث عائشة "أن أبغض الرجال الألد الخصم" بفتح المعجمة وكسر المهملة أي الشديد الخصومة، وسيأتي مستوفى في

(5/106)


تفسير سورة البقرة إن شاء الله تعالى.

(5/107)


16 - باب: إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ
2458- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ َلْيَتْرُكْهَا"
[الحديث 2458- أطرافه في: 2680 ، 6967 ، 7169 ، 7181 ، 7185]
قوله: "باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه" أورد فيه حديث أم سلمة "فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض" وفيه: "فإنما هي قطعة من النار" وهو ظاهر فيما ترجم به، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.

(5/107)


17 - باب: إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ
2459- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"
قوله: "باب إذا خاصم فجر" أي ذم من إذا خاصم فجر أو إثمه، أورد فيه حديث عبد الله بن عمرو في صفة المنافقين، وفيه: "وإذا خاصم فجر" وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان.

(5/107)


18 - باب: قِصَاصِ الْمَظْلُومِ إِذَا وَجَدَ مَالَ ظَالِمِهِ
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: يُقَاصُّهُ، وَقَرَأَ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [126 النحل]
2460- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ فَقَالَ: لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ"
2461- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ

(5/107)


باب ما جاء في السقائف و جلس النبي في سقيفة بني ساعدة
...
19 - باب: مَا جَاءَ فِي السَّقَائِفِ وَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ
2462- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ "أَخْبَرَهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الأَنْصَارَ اجْتَمَعُوا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا فَجِئْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ"
[الحديث 2462- أطرافه في: 3445 ، 3928 ، 4021 ، 6829 ، 6830 ، 7323]
قوله: "باب ما جاء في السقائف" جمع سقيفة وهي المكان المظلل كالساباط أو الحانوت بجانب الدار، وكأنه أشار إلى أن الجلوس في الأمكنة العامة جائز، وأن اتخاذ صاحب الدار ساباطا أو مستظلا جائز إذا لم يضر المارة. قوله: "وجلس النبي صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة" هو طرف من حديث لسهيل بن سعد أسنده المؤلف في الأشربة في أثناء حديث، وخفي ذلك على الإسماعيلي فقال: ليس في الحديث - يعني حديث عمر - أنه صلى الله عليه وسلم جلس في السقيفة انتهى. والسبب في غفلته عن ذلك أنه حذف الحديث المعلق الذي أشرت إليه واقتصر على الحديث المرفوع عن عمر الموصول، مع أن البخاري لم يترجم بجلوس النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترجم بما جاء في السقائف، ثم ذكر الحديث المصرح بجلوس النبي صلى الله عليه وسلم وأورده معلقا، ثم بالحديث الذي فيه أن الصحابة جلسوا فيها وأورده موصولا، فكأن الإسماعيلي ظن أن قوله: "وجلس" من كلام البخاري لا أنه حديث معلق، وسقيفة بني ساعدة كانوا يجتمعون فيها؛ وكانت مشتركة بينهم، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم معهم فيها عندهم. قوله: "حدثني مالك وأخبرني يونس" أي ابن يزيد عن

(5/109)


ابن شهاب، يعني أن كلا منهما رواه لابن وهب عن ابن شهاب، وكان ابن وهب حريصا على التفرقة بين التحديث والإخبار مراعاة للاصطلاح، ويقال إنه أول من اصطلح على ذلك بمصر. قوله: "أن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة" هو مختصر من قصة بيعة أبي بكر الصديق، وسيأتي في الهجرة وفي كتاب الحدود بطوله ونستوفي شرحه هناك إن شاء الله تعالى، والغرض منه أن الصحابة استمروا على الجلوس في السقيفة المذكورة، وقال الكرماني: مطابقة الحديث للترجمة أن الجلوس في السقيفة العامة ليس ظلما.

(5/110)


20 - باب: لاَ يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ
2463- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاللَّهِ لاَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ"
[الحديث 2463- طرفاه في: 5627 ، 5628]
قوله: "باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره" كذا لأبي ذر بالتنوين على إفراد الخشبة، ولغير بصيغة الجمع وهو الذي في حديث الباب، قال ابن عبد البر. روي اللفظان في "الموطأ" والمعنى واحد لأن المراد بالواحد الجنس انتهى. وهذا الذي يتعين للجمع بين الروايتين، وإلا فالمعنى قد يختلف باعتبار أن أمر الخشبة الواحدة أخف في مسامحة الجار بخلاف الخشب الكثير، وروى الطحاوي عن جماعة من المشايخ أنهم رووه بالإفراد، وأنكر ذلك عبد الغني بن سعيد فقال: الناس كلهم يقولونه بالجمع إلا الطحاوي، وما ذكرته من اختلافه الرواة في الصحيح يرد على عبد الغني بن سعيد إلا إن أراد خاصا من الناس كالذين روى عنهم الطحاوي فله اتجاه. قوله: "عن ابن شهاب" كذا في "الموطأ" وقال خالد بن مخلد عن مالك "عن أبي الزناد" بدل الزهري. وقال بشر بن عمرو عن مالك "عن الزهري عن أبي سلمة" بدل الأعرج، ووافقه هشام بن يوسف عن مالك ومعمر عن الزهري، ورواه الدار قطني في "الغرائب" وقال: المحفوظ عن مالك الأول. وقال في "العلل": رواه هشام الدستوائي عن معمر "عن الزهري عن سعيد بن المسيب" بدل الأعرج، وكذا قال عقيل عن الزهري. وقال ابن أبي حفصة "عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن" بدل الأعرج والمحفوظ عن الزهري عن الأعرج وبذلك جزم ابن عبد البر أيضا، ثم أشار إلى أنه يحتمل أن يكون عند الزهري عن الجميع. قوله: "ولا يمنع" بالجزم على أن "لا" ناهية، ولأبي ذر بالرفع على أنه خبر بمعني النهي، ولأحمد "لا يمنعن" بزيادة نون التوكيد وهي تؤيد رواية الجزم. قوله: "جار جاره إلخ" استدل به على أن الجدار إذا كان لواحد وله جار فأراد أن يضع جذعه عليه جاز سواء أذن المالك أم لا، فإن امتنع أجبر وبه قال أحمد وإسحاق وغيرهما من أهل الحديث وابن حبيب من المالكية والشافعي في القديم، وعنه في الجديد قولان أشهرهما اشتراط إذن المالك فإن امتنع لم يجبر وهو قول الحنفية، وحملوا الأمر في الحديث على الندب والنهي على التنزيه جمعا بينه وبين الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلا برضاه وفيه نطر كما سيأتي، وجزم الترمذي وأبي عبد البر عن الشافعي بالقول القديم وهو نصه في البويطي، قال البيهقي: لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن نخصها، وقد حمله الراوي على ظاهره، وهو أعلم بالمراد

(5/110)


بما حدث به، يشير إلى قول أبي هريرة "ما لي أراكم عنها معرضين" . قوله: "ثم يقول أبو هريرة" في رواية ابن عيينة عند أبي داود "فنكسوا رءوسهم" ولأحمد "فلما حدثهم أبو هريرة بذلك طأطؤوا رءوسهم" . قوله: "عنها" أي عن هذه السنة أو عن هذه المقالة. قوله: "لأرمينها" في رواية أبي داود "لألقينها" أي لأشيعن هذه المقالة فيكم ولأقرعنكم بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه ليستيقظ من غفلته. قوله: "بين أكتافكم" قال ابن عبد البر: رويناه في "الموطأ" بالمثناة وبالنون. والأكناف بالنون جمع كنف بفتحها وهو الجانب، قال الخطابي: معناه إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلنها أي الخشبة على رقابكم كارهين، قال وأراد بذلك المبالغة، وبهذا التأويل جزم إمام الحرمين تبعا لغيره وقال: إن ذلك وقع من أبي هريرة حين كان يلي إمرة المدينة، وقد وقع عند ابن عبد البر من وجه آخر "لأرمين بها بين أعينكم وإن كرهتم" وهذا يرجح التأويل المتقدم، واستدل المهلب من المالكية بقول أبي هريرة "ما لي أراكم عنها معرضين" بأن العمل كان في ذلك العصر على خلاف ما ذهب إليه أبو هريرة، قال: لأنه لو كان على الوجوب لما جهل الصحابة تأويله ولا أعرضوا عن أبي هريرة حين حدثهم به، فلولا أن الحكم قد تقرر عندهم بخلافه لما جاز عليهم جهل هذه الفريضة فدل على أنهم حملوا الأمر في ذلك علي الاستحباب انتهى. وما أدري من أين له أن المعرضين كانوا صحابة وأنهم كانوا عددا لا يجهل مثلهم الحكم، ولم لا يجوز أن يكون الذين خاطبهم أبو هريرة بذلك كانوا غير فقهاء، بل ذلك هو المتعين، وإلا فلو كانوا صحابة أو فقهاء ما واجههم بذلك. وقد قوى الشافعي في القديم القول بالوجوب بأن عمر قضى به ولم يخالفه أحد من أهل عصره فكان اتفاقا منهم على ذلك انتهى. ودعوى الاتفاق هنا أولى من دعوى المهلب، لأن أكثر أهل عصر عمر كانوا صحابة، وغالب أحكامه منتشرة لطول ولايته، وأبو هريرة إنما كان يلي إمرة المدينة نيابة عن مروان في بعض الأحيان، وأشار الشافعي إلى ما أخرجه مالك ورواه هو عنه بسند صحيح أن الضحاك بن خليفة سأل محمد بن مسلمة أن يسوق خليجا له فيمر به في أرض محمد بن مسلمة، فكلمه عمر في ذلك فأبى، فقال: والله ليمرن به ولو على بطنك، فحمل عمر الأمر على ظاهره وعداه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه. وفي دعوى العمل على خلافه نظر، فقد روى ابن ماجة والبيهقي من طريق عكرمة بن سلمة أن أخوين من بني المغيرة أعتق أحدهما إن غرز أحد في جداره خشبا، فأقبل مجمع بن جارية ورجال كثير من الأنصار فقالوا: شهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. الحديث، فقال الآخر: يا أخي قد علمت أنك مقضي لك علي وقد حلفت، فاجعل أسطوانا دون جداري فاجعل عليه خشبك. وروى ابن إسحاق في مسنده والبيهقي من طريقه عن يحيى بن جعدة أحد التابعين قال: أراد رجل أن يضع خشبة على جدار صاحبه بغير إذنه فمنعه، فإذا من شئت من الأنصار يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهاه أن يمنعه، فجبر على ذلك. وقيد بعضهم الوجوب بما إذا تقدم استئذان الجار في ذلك مستندا إلى ذكر الأذن في بعض طرقه، وهو في رواية ابن عيينة عند أبي داود وعقيل أيضا وأحمد عند عبد الرحمن بن مهدي عن مالك " من سأله جاره " وكذا لابن حبان من طريق الليث عن مالك، وكذا لأبي عوانة من طريق زياد بن سعد عن الزهري، وأخرجه البزار من طريق عكرمة عن أبي هريرة، ومنهم من حمل الضمير في جداره على صاحب الجذع أي لا يمنعه أن يضع جذعه على جدار نفسه ولو تضرر به من جهة منع الضوء مثلا ولا يخفى بعده، وقد تعقبه ابن التين بأنه إحداث قول ثالث في معنى الخبر، وقد رده أكثر أهل الأصول، وفيما قال نظر لأن لهذا

(5/111)


القائل أن يقول: هذا مما يستفاد من عموم النهي لا أنه المراد فقط والله أعلم. ومحل الوجوب عند من قال به أن يحتاج إليه الجار ولا يضع عليه ما يتضرر به المالك ولا يقدم على حاجة المالك، ولا فرق بين أن يحتاج في وضع الجذع إلى نقب الجدار أو لا، لأن رأس الجذع يسد المنفتح ويقوي الجدار

(5/112)


21 - باب: صَبِّ الْخَمْرِ فِي الطَّرِيقِ
2464- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيَى أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ قَالَ فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ"
[الحديث 2464- أطرافه في: 4617 ، 4620 ، 5580 ، 5582 ، 5583 ، 5584 ، 5600 ، 5622 ، 7253]
قوله: "باب صب الخمر في الطريق" أي المشتركة، إذا تعين ذلك طريقا لإزالة مفسدة تكون أقوى من المفسدة الحاصلة بصبها. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الرحيم" هو المعروف بصاعقة، وشيخه عفان من كبار شيوخ البخاري وأكثر ما يحدث عنه في الصحيح بواسطة. قوله: "كنت ساقي القوم" سيأتي تسمية من عرف منهم في كتاب الأشربة مع الكلام عليه إن شاء الله تعالى. قوله: "فجرت في سكك المدينة" أي طرقها، وفي السياق حذف تقديره حرمت (1) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها فأريقت فجرت ، وسيأتي مزيد بيان لذلك في تفسير المائدة. قال المهلب: إنما صبت الخمر في الطريق للإعلان برفضها وليشهر تركها، وذلك أرجح في المصلحة من التأذي بصبها في الطريق.
ـــــــ
(1) بهامش طبعة بولاق: قوله "وفي السياق حذف إلخ" لعله كتب على رواية أبي ذر، فالرواية التي هنا ليست كذلك

(5/112)


22 - باب: أَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا، وَالْجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَاتِ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَابْتَنَى أَبُو بَكْرٍ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ
فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ
2465- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ فَقَالُوا مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلاَمِ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ"
[الحديث 2465– طرفه في: 6229]

(5/112)


باب الآبار التي على الطريق إذا لم يتأذ بها
...
23 - باب: الْآبَارِ عَلَى الطُّرُقِ إِذَا لَمْ يُتَأَذَّ بِهَا
2466- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلاَ خُفَّهُ مَاءً فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لاَجْرًا؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ"

(5/113)


قوله: "باب الآبار" بمدة وتخفيف الموحدة، ويجوز بغير مد وتسكين الموحدة بعدها همزه وهو الأصل في هذا الجمع. قوله: "التي على الطريق إذا لم يتأذ بها" بضم أول "يتأذ" على البناء للمجهول، أي إن حفرها جائز في طرق المسلمين لعموم النفع بها إذا لم يحصل بها تأذ لأحد منهم. وذكر فيه حديث أبي هريرة في الذي وجد بئرا في الطريق فنزل فيها فشرب ثم سقى الكلب، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الشرب، وقوله في هذه الرواية: "يلهث يأكل الثرى" يجوز أن يكون خبرا ثانيا وأن يكون حالا، وقوله: "في كل ذات كبد" أي في إرواء كل ذات كبد.

(5/114)


24 - باب: إِمَاطَةِ الأَذَى
وَقَالَ هَمَّامٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمِيطُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ
قوله: "باب إماطة الأذى" أي إزالته. قوله: "وقال همام إلخ" هو طرف من حديث وصله المصنف في الجهاد في باب من أخذ بالركاب بلفظ: "وتميط الأذى عن الطريق صدقة" وسيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. ووقع في حديث أبي صالح عن أبي هريرة في ذكر شعب الإيمان "أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" ومعنى كون الإماطة صدقة أنه تسبب إلى سلامة من يمر به من الأذى، فكأنه تصدق عليه بذلك فحصل له أجر الصدقة. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإمساك عن الشر صدقة على النفس.

(5/114)


25 - باب: الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ الْمُشْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا
2467- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي أَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ"
2468- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ لَهُمَا {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فَحَجَجْتُ مَعَه فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالإِدَاوَةِ فَتَبَرَّزَ حَتَّى جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الإِدَاوَةِ فَتَوَضَّأَ. فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فَقَالَ وَا عَجَبِاً لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنْ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَهُ. وَكُنَّا مَعْشَرَ

(5/114)


26 - باب: مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ عَلَى الْبَلاَطِ أَوْ بَابِ الْمَسْجِدِ
2470- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِي نَاحِيَةِ الْبَلاَطِ فَقُلْتُ هَذَا جَمَلُكَ فَخَرَجَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْجَمَلِ: قَالَ الثَّمَنُ وَالْجَمَلُ لَكَ"
قوله: "باب من عقل بعيره على البلاط" بفتح الموحدة وهي حجارة مفروشة كانت عند باب المسجد، وقوله: "أو باب المسجد" هو بالاستنباط من ذلك، وأشار به إلى ما ورد في بعض طرقه، وأورد فيه طرفا من حديث جابر في قصة جمله الذي باعه النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الشروط، وغرضه هنا قوله: "فعقلت الجمل في ناحية البلاط" فإنه يستفاد منه جواز ذلك إذا لم يحصل به ضرر.

(5/117)


27 - باب: الْوُقُوفِ وَالْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ
2471- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ: لَقَدْ أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا"

(5/117)


28 - باب: مَنْ أَخَذَ الْغُصْنَ وَمَا يُؤْذِي النَّاسَ فِي الطَّرِيقِ فَرَمَى بِهِ
2472- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ"
قوله: "باب من أخذ الغصن وما يؤذي الناس في الطريق فرمى به" في رواية الكشميهني: "من أخر" بتشديد المعجمة بعدها راء، وأورد فيه حديث أبي هريرة في ذلك بلفظ: "غصن شوك" وفي حديث أنس عند أحمد "أن شجرة كانت على طريق الناس تؤذيهم فأتى رجل فعزلها" وقد تقدم في أواخر أبواب الأذان مع الكلام عليه. وقوله: "فغفر له" وقع في حديث أنس المذكور "ولقد رأيته يتقلب في ظلها في الجنة" وينظر في هذه الترجمة وفي التي قبلها بثلاثة أبواب وهي إماطة الأذى. وكأن تلك أعم من هذه لعدم تقييدها بالطريق وإن تساويا في فضل عموم المزال، وفيه أن قليل الخير يحصل به كثير الأجر، قال ابن المنير: إنما ترجم به لئلا يتخيل أن الرمي بالغصن وغيره مما يؤدي تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيمتنع، فأراد أن يبين أن ذلك لا يمتنع لما فيه من الندب إليه، وقد روى مسلم من حديث أبي برزة قال: "قلت يا رسول الله دلني على عمل أنتفع به، قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين" . "تنبيه": أبو عقيل بفتح المهملة بعدها قاف اسمه بشير بفتح أوله وبالمعجمة ابن عقبة، وسيأتي في الشركة قريبا زهرة بن معبد وكنيته أبو عقيل أيضا وهو غير هذا.

(5/118)


29 - باب: إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ وَهِيَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ فَتُرِكَ مِنْهَا للطَّرِيقُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ
2473- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ خِرِّيتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ"
قوله: "باب إذا اختلفوا في الطريق الميتاء" بكسر الميم وسكون التحتانية بعدها مثناة ومد بوزن مفعال من الإتيان والميم زائدة، قال أبو عمرو الشيباني: الميتاء أعظم الطرق وهي التي يكثر مرور الناس بها. وقال غيره: هي الطريق الواسعة وقيل العامرة. قوله: "وهي الرحبة تكون بين الطريقين ثم يريد أهلها البنيان إلخ" وهو مصير منه إلى اختصاص هذا الحكم بالصورة التي ذكرها، وقد وافقه الطحاوي على ذلك فقال: لم نجد لهذا الحديث معنى أولى من حمله على الطريق التي يراد ابتداؤها إذا اختلف من يبتدئها في قدرها كبلد يفتحها المسلمون وليس فيها طريق مسلوك، وكموات يعطيه الإمام لمن يحييها إذا أراد أن يجعل فيها طريقا للمارة ونحو ذلك. وقال غيره: مراد الحديث أن أهل الطريق إذا تراضوا على شيء كان لهم ذلك، وإن اختلفوا جعل سبعة أذرع، وكذلك الأرض التي

(5/118)


30 - باب: النُّهْبَى بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ وَقَالَ عُبَادَةُ بَايَعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ نَنْتَهِبَ
2474- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّ وَهُوَ جَدُّهُ أَبُو أُمِّهِ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ"
[الحديث 2474- طرفه في: 5516]
2475- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَعَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. مِثْلَهُ، إِلاَّ النُّهْبَةَ"

(5/119)


قال الفربري: وجدت بخط أبي جعفر "قال أبو عبد الله: تفسيره أن ينزع منه، يريد الإيمان"
[الحديث 2475- أطرافه في: 5578 ، 6772 ، 6810]
قوله: "باب النهبى بغير إذن صاحبه" أي صاحب الشيء المنهوب، والنهبى بضم النون فعلى من النهب، وهو أخذ المرء ما لبس له جهارا، ونهب مال الغير غير حائز، ومفهوم الترجمة أنه إذا أذن جاز، ومحله في المنهوب المشاع كالطعام يقدم للقوم فلكل منهم أن يأخذ مما يليه ولا يجذب من غيره إلا برضاه، وبنحو ذلك فسره النخعي وغيره، وكره مالك وجماعة النهب في نثار العرس، لأنه إما أن يحمل على أن صاحبه أذن للحاضرين في أخذه فظاهره يقتضي التسوية والنهب يقتضي خلافها، وإما أن يحمل على أنه علق التمليك على ما يحصل لكل أحد، ففي صحته اختلاف فلذلك كرهه. وسيأتي لذلك مزيد بيان في أول كتاب الشركة إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال عبادة: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا ننتهب" هذا طرف من حديث وصله المؤلف في "وفود الأنصار" وقد تقدمت الإشارة إليه في أوائل كتاب الإيمان، وكان من شأن الجاهلية انتهاب ما يحصل لهم من الغارات، فوقعت البيعة على الزجر عن ذلك. قوله: "سمعت عبد الله بن يزيد" كذا للأكثر، وللكشميهني وحده "ابن زيد" وهو تصحيف. قوله: "وهو" يعني عبد الله "جده" أي جد عدي لأمه، واسم أمه فاطمة وتكنى أم عدي، وعبد الله بن يزيد هو الخطمي مضى ذكره في الاستسقاء، وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري غير هذا الحديث، وله فيه عن الصحابة غير هذا. وقد اختلف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم. وروى هذا الحديث يعقوب بن إسحاق الحضرمي عن شعبة فقال فيه: "عن عدي عن عبد الله بن يزيد عن أبي أيوب الأنصاري" أشار إليه الإسماعيلي، وأخرجه الطبراني، والمحفوظ عن شعبة ليس فيه أبو أيوب. وفيه اختلاف آخر على عدي بن ثابت كما سيأتي في كتاب الذبائح. وفي النهي عن النهبة حديث جابر عند أبي داود بلفظ: "من انتهب فليس منا" وحديث أنس عند الترمذي مثله، وحديث عمران عند ابن حبان مثله، وحديث ثعلبة بن الحكم بلفظ: "إن النهبة لا تحل" عند ابن ماجة، وحديث زيد بن خالد عند أحمد "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهبة" . قوله: "عن النهبى والمثلة" بضم الميم وسكون المثلثة، ويجوز فتح الميم وضم المثلثة، وسيأتي شرحها في كتاب الذبائح إن شاء الله تعالى. ثم أورد المصنف حديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" الحديث، وفيه: "ولا ينتهب نهبة ترفع الناس إليه فيها أبصارهم" ومنه يستفاد التقييد بالإذن في الترجمة لأن رفع البصر إلى المنتهب في العادة لا يكون إلا عند عدم الإذن، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. قوله: "وعن سعيد" يعني ابن المسيب "وأبي سلمة" يعني ابن عبد الرحمن "عن أبي هريرة مثله إلا النهبة" يعني أن الزهري روى الحديث عن هؤلاء الثلاثة عن أبي هريرة فانفرد أبو بكر بن عبد الرحمن بزيادة ذكر النهبة فيه، وظاهره أن الحديث عند عقيل عن الزهري عن الثلاثة على هذا الوجه، وقد أخرجه في الحدود فقال فيه: "عن ابن شهاب عن سعيد وأبي سلمة مثله إلا النهبة" ورواه مسلم من طريق الأوزاعي عن الزهري عن الثلاثة بتمامه، وكأن الأوزاعي حمل رواية سعيد وأبي سلمة على رواية أبي بكر، والذي فصلها أحفظ منه فهو المحفوظ، وسيأتي مزيد بيان لذلك في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. قوله: "قال الفربري: وجدت بخط أبي جعفر" هو ابن أبي حاتم وراق البخاري، "قال أبو عبد الله" هو المصنف "تفسيره" أي تفسير النفي في قوله: "لا يزني وهو مؤمن" "أن ينزع منه، يريد

(5/120)


الإيمان(1)" وهذا التفسير تلقاه البخاري من ابن عباس، فسيأتي في أول الحدود "وقال ابن عباس: ينزع منه نور الإيمان" وسنذكر هناك من وصله ومن وافقه على هذا التأويل ومن خالفه إن شاء الله تعالى.

(5/121)


31 - باب: كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ
2476- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ"
قوله: "باب كسر الصليب وقتل الخنزير" أورد فيه حديث أبي هريرة "ينزل ابن مريم" وسيأتي شرحه في أحاديث الأنبياء، وقد تقدم من وجه آخر في "باب من قتل الخنزير" في أواخر البيوع. وفي إيراده هنا إشارة إلى أن من قتل خنزيرا أو كسر صليبا لا يضمن لأنه فعل مأمورا به، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن عيسى عليه السلام سيفعله، وهو إذا نزل كان مقررا لشرع نبينا صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى. ولا يخفى أن محل جواز كسر الصليب إذا كان مع المحاربين، أو الذمي إذا جاوز به الحد الذي عوهد عليه، فإذا لم يتجاوز وكسره مسلم كان متعديا لأنهم على تقريرهم على ذلك يؤدون الجزية، وهذا هو السر في تعميم عيسى كسر كل صليب لأنه لا يقبل الجزية، وليس ذلك منه نسخا لشرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بل الناسخ هو شرعنا على لسان نبينا لإخباره بذلك وتقريره.

(5/121)


باب هل نكسر الدنان التي فيها خمر أو نخرق الزقاق
...
32 - باب: هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ أَوْ تُخَرَّقُ الزِّقَاقُ؟
فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ وَأُتِيَ شُرَيْحٌ فِي طُنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ
2477- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ: عَلَى مَا تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ قَالُوا عَلَى الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ قَالَ: اكْسِرُوهَا وَأَهْرِقُوهَا قَالُوا أَلاَ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ: اغْسِلُوا"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: كَانَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ "الْحُمُرِ الأَنْسِيَّةِ" بِنَصْبِ الأَلِفِ وَالنُّونِ
[الحديث 2477- أطرافه في: 4196 ، 5497 ، 6148 ، 6331 ، 6891]
2478- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الْآيَةَ"
[الحديث 2478- أطرافه في: 4287 ، 4720]
ـــــــ
(1) كانت في طبعة بولاق "أن ينزع منه نور الإيمان" والتصحيح من متن صحيح البخاري

(5/121)


33 - باب: مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ
2480- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"
قوله: "باب من قاتل دون ماله" أي ما حكمه؟ قال القرطبي: "دون" في أصلها ظرف مكان بمعنى تحت، وتستعمل للسببية على المجاز، ووجهه أن الذي يقاتل عن ماله غالبا إنما يجعله خلفه أو تحته ثم يقاتل عليه. قوله: "حدثنا عبد الله بن يزيد" هو المقرئ وأبو الأسود هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي، ووقع منسوبا هكذا عند الإسماعيلي. قوله: "عن عكرمة" في رواية الطبري عن أبي الأسود "أن عكرمة أخبره" وليس لعكرمة عن عبد الله بن عمرو وهو ابن العاص في صحيح البخاري غير هذا الحديث الواحد. قوله: "من قتل دون ماله فهو شهيد" قال الإسماعيلي وكذا أخرجه البخاري. وكأنه كتبه من حفظه أو حدث به المقرئ من حفظه فجاء به على اللفظ المشهور، وإلا فقد رواه الجماعة عن المقرئ بلفظ: "من قتل دون ماله مظلوما فله الجنة" قال: ومن أتى به على غير اللفظ الذي اعتيد فهو أولى بالحفظ ولا سيما وفيهم مثل دحيم، وكذلك ما زادوه من قوله: "مظلوما" فإنه لا بد من هذا القيد. وساقه من طريق دحيم وابن أبي عمر وعبد العزيز بن سلام، قلت: وكذلك أخرجه النسائي عن عبيد الله بن فضالة عن المقرئ، وكذلك رواه حيوة بن شريح عن أبي الأسود بهذا اللفظ أخرجه الطبري. نعم للحديث طريق أخرى عن عكرمة أخرجها النسائي باللفظ المشهور، وأخرجه مسلم كذلك من طريق ثابت بن عياض عن عبد الله بن عمرو، وفي روايته قصة قال: "لما كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان - يشير للقتال - فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن عمرو فوعظه، فقال عبد الله بن عمرو: أما علمت.." فذكر الحديث، وأشار بقوله: "ما كان" إلى ما بينه حيوة في روايته المشار إليها فإن أولها "أن عاملا لمعاوية أجرى عينا من ماء ليسقي بها أرضا، فدنا من حائط لآل عمرو بن العاص فأراد أن يخرجه ليجري العين منه إلى الأرض، فأقبل عبد الله بن عمرو ومواليه بالسلاح وقالوا: والله لا تخرقون حائطنا حتى لا يبقى منا أحد" فذكر الحديث، والعامل المذكور هو عنبسة بن أبي سفيان كما ظهر من رواية مسلم، وكان عاملا لأخيه على مكة والطائف، والأرض المذكورة كانت بالطائف، وامتناع عبد الله بن عمرو من ذلك لما يدخل عليه من الضرر فلا حجة فيه لمن عارض به حديث أبي هريرة فيمن أراد أن يضع جذعه على جدار جاره والله أعلم. وأخرجه النسائي من وجهين آخرين، وأبو داود والترمذي من وجه آخر كلهم عن عبيد الله بن عمرو باللفظ المشهور، وفي رواية لأبي داود والترمذي

(5/123)


"من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد" ولابن ماجة من حديث ابن عمر نحوه، وكأن البخاري أشار إلى ذلك في الترجمة لتعبيره بلفظ: "قاتل" وروى الترمذي وبقية أصحاب السنن من حديث سعيد بن زيد نحوه وفيه ذكر الأهل والدم والدين، وفي حديث أبي هريرة عند ابن ماجة "من أريد ماله ظلما فقتل فهو شهيد" قال النووي: فيه جواز قتل من قصد أخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلا أو كثيرا وهو قول الجمهور، وشذ من أوجبه، وقال بعض المالكية: لا يجوز إذا طلب الشيء الخفيف. قال القرطبي: سبب الخلاف عندنا هل الإذن في ذلك من باب تغيير المنكر فلا يفترق الحال بين القليل والكثير، أو من باب دفع الضرر فيختلف الحال؟ وحكى ابن المنذر عن الشافعي قال: من أريد ماله أو نفسه أو حريمه فله الاختيار أن يكلمه أو يستغيث، فإن منع أو امتنع لم يكن له قتاله وإلا فله أن يدفعه عن ذلك ولو أتى على نفسه، وليس عليه عقل ولا دية ولا كفارة، لكن ليس له عمد قتله. قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلما بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث المجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه. وفرق الأوزاعي بين الحال التي للناس فيها جماعة وإمام فحمل الحديث عليها، وأما في حبال الاختلاف والفرقة فليستسلم ولا يقاتل أحدا. ويرد عليه ما وقع في حديث أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه. قال: أرأيت أن قاتلني؟ قال: فاقتله. قال: أرأيت أن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال أرأيت أن قتلته؟ قال: فهو في النار" قال ابن بطال: إنما أدخل البخاري هذه الترجمة في هذه الأبواب ليبين أن للإنسان أن يدفع عن نفسه وماله ولا شيء عليه، فإنه إذا كان شهيدا إذا قتل في ذلك فلا قود عليه ولا دية إذا كان هو القاتل.

(5/124)


باب إذا كسر قصعة أو شيء لغيره
...
34 - باب: إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ
2481- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتْ الْقَصْعَةَ فَضَمَّهَا وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَقَالَ كُلُوا وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ" . وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 2481- طرفه في: 5225]
قوله: "باب إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره" أي هل يضمن المثل أو القيمة؟ قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه" في رواية الترمذي من طريق سفيان الثوري عن حميد عن أنس "أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم طعاما في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها" الحديث وأخرجه أحمد عن ابن أبي عدي ويزيد بن هارون عن حميد به وقال: أظنها عائشة. قال الطيبي: إنما أبهمت عائشة تفخيما لشأنها، وإنه مما لا يخفى ولا يلتبس أنها هي، لأن الهدايا إنما كانت تهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها. قوله: "فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم" لم أقف على اسم الخادم، وأما المرسلة فهي زينب بنت جحش ذكره ابن حزم في "المحلى" من طريق الليث بن سعد عن جرير بن حازم عن

(5/124)


حميد "سمعت أنس بن مالك أن زينب بنت جحش أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عائشة ويومها جفنة من حيس" الحديث، واستفدنا منه معرفة الطعام المذكور. ووقع قريب من ذلك لعائشة مع أم سلمة، فروى النسائي من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي المتوكل "عن أم سلمة أنها أتت بطعام في صحفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة" الحديث، وقد اختلف في هذا الحديث على ثابت فقيل: عنه عن أنس، ورجح أبو زرعة الرازي فيما حكاه ابن أبي حاتم في "العلل" عنه رواية حماد بن سلمة وقال: إن غيرها خطأ، ففي الأوسط للطبراني من طريق عبيد الله العمري "عن ثابت عن أنس أنهم كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة إذ أتى بصحفة خبز ولحم من بيت أم سلمة، قال: فوضعنا أيدينا وعائشة تصنع طعاما عجلة، فلما فرغنا جاءت به ورفعت صحفة أم سلمة فكسرتها" الحديث. وأخرجه الدار قطني من طريق عمران بن خالد عن ثابت عن أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة معه بعض أصحابه ينتظرون طعاما فسبقتها - قال عمران أكثر ظني أنها حفصة - بصحفة فيها ثريد فوضعتها فخرجت عائشة - وذلك قبل أن يحتجبن - فضربت بها فانكسرت" الحديث. ولم يصب عمران في ظنه أنها حفصة بل هي أم سلمة كما تقدم، نعم وقعت القصة لحفصة أيضا، وذلك فيما رواه ابن أبي شيبة وابن ماجة من طريق رجل من بني سواءة غير مسمى عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فصنعت له طعاما وصنعت له حفصة طعاما فسبقتني، فقلت للجارية انطلقي فأكفئي قصعتها فأكفأتها فانكسرت وانتشر الطعام، فجمعه على النطع فأكلوا، ثم بعث بقصعتي إلى حفصة فقال: خذوا ظرفا مكان ظرفكم" وبقية رجاله ثقات، وهي قصة أخرى بلا ريب، لأن في هذه القصة أن الجارية هي التي كسرت الصحفة وفي الذي تقدم أن عائشة نفسها هي التي كسرتها. وروى أبو داود والنسائي من طريق جسرة بفتح الجيم وسكون المهملة عن عائشة قالت: "ما رأيت صانعة طعاما مثل صفية، أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إناء فيه طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته فقلت: يا رسول الله ما كفارته؟ قال: إناء كإناء وطعام كطعام" إسناده حسن: ولأحمد وأبي داود عنها "فلما رأيت الجارية أخذتني رعدة" فهذه قصة أخرى أيضا، وتحرر من ذلك أن المراد بمن أبهم في حديث الباب هي زينب لمجيء الحديث من مخرجه وهو حميد عن أنس، وما عدا ذلك فقصص أخرى لا يليق بمن يحقق أن يقول في مثل هذا: قيل المرسلة فلانة وقيل فلانة إلخ من غير تحرير. قوله: "بقصعة" بفتح القاف: إناء من خشب. وفي رواية ابن علية في النكاح عند المصنف "بصحفة" وهي قصعة مبسوطة وتكون من غير الخشب. قوله: "فضربت بيدها فكسرت القصعة" زاد أحمد "نصفين" وفي رواية أم سلمة عند النسائي: "فجاءت عائشة ومعها فهر ففلقت به الصحفة" وفي رواية ابن علية "فضربت التي في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت" والفلق بالسكون الشق، ودلت الرواية الأخرى على أنها انشقت ثم انفصلت. قوله: "فضمها" في رواية ابن علية "فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم" ولأحمد "فأخذ الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل فيها الطعام" ولأبي داود والنسائي من طريق خالد بن الحارث عن حميد نحوه وزاد: "كلوا فأكلوا" . قوله: "وحبس الرسول" زاد ابن علية "حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها". قوله: "فدفع القصعة الصحيحة" زاد ابن علية "إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت" زاد الثوري "وقال: إناء كإناء وطعام كطعام" قال ابن بطال: احتج به الشافعي والكوفيون فيمن استهلك عروضا أو حيوانا فعليه مثل ما استهلك، قالوا: ولا يقضى بالقيمة إلا عند

(5/125)


عدم المثل. وذهب مالك إلى القيمة مطلقا. وعنه في رواية كالأول. وعنه ما صنعه الآدمي فالمثل. وأما الحيوان فالقيمة. وعنه ما كان مكيلا أو موزونا فالقيمة وإلا فالمثل وهو المشهور عندهم. وما أطلقه عن الشافعي فيه نظر، وإنما يحكم في الشيء بمثله إذا كان متشابه الأجزاء، وأما القصعة فهي من المتقومات لاختلاف أجزائها. والجواب ما حكاه البيهقي بأن القصعتين كانتا للنبي صلى الله عليه وسلم في بيتي زوجتيه فعاقب الكاسرة بجعل القصعة المكسورة في بيتها وجعل الصحيحة في بيت صاحبتها ولم يكن هناك تضمين، ويحتمل على تقدير أن تكون القصعتان لهما أنه رأى ذلك سدادا بينهما فرضيتا بذلك، ويحتمل أن يكون ذلك في الزمان الذي كانت العقوبة فيه بالمال كما تقدم قريبا، فعاقب الكاسرة بإعطاء قصعتها للأخرى. قلت: ويبعد هذا التصريح بقوله: "إناء كإناء" وأما التوجيه الأول فيعكر عليه قوله في الرواية التي ذكرها ابن أبي حاتم "من كسر شيئا فهو له وعليه مثله" زاد في رواية الدار قطني "فصارت قضية" وذلك يقتضي أن يكون حكما عاما لكل من وقع له مثل ذلك، ويبقى دعوى من اعتذر عن القول به بأنها واقعة عين لا عموم فيها، لكن محل ذلك ما إذا أفسد المكسور، فأما إذا كان الكسر خفيفا يمكن إصلاحه فعلى الجاني أرشه، والله أعلم. وأما مسألة الطعام فهي محتملة لأن يكون ذلك من باب المعونة والإصلاح دون بت الحكم بوجوب المثل فيه لأنه ليس له مثل معلوم، وفي طرق الحديث ما يدل على ذلك وأن الطعامين كانا مختلفين والله أعلم. واحتج به الحنفية لقولهم إذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها زال ملك المغصوب عنها وملكها الغاصب وضمنها، وفي الاستدلال لذلك بهذا الحديث نظر لا يخفى، قال الطيبي: وإنما وصفت المرسلة بأنها أم المؤمنين إيذانا بسبب الغيرة التي صدرت من عائشة وإشارة إلى غيرة الأخرى حيث أهدت إلى بيت ضرتها، وقوله: "غارت أمكم" اعتذار منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحمل صنيعها على ما يذم، بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر على دفعها، وسيأتي مزيد لما يتعلق بالغيرة في كتاب النكاح حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى. وفي الحديث حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وإنصافه وحلمه، قال ابن العربي: وكأنه إنما لم يؤدب الكاسرة ولو بالكلام لما وقع منها من التعدي لما فهم من أن التي أهدت أرادت بذلك أذى التي هو في بيتها والمظاهرة عليها فاقتصر على تغريمها للقصعة، قال: وإنما لم يغرمها الطعام لأنه كان مهدي فإتلافهم له قبول أو في حكم القبول، وغفل رحمه الله عما ورد في الطرق الأخرى والله المستعان. قوله: "وقال ابن أبي مريم" هو سعيد شيخ البخاري، وأراد بذلك بيان التصريح بتحديث أنس لحميد، وقد وقع تصريحه بالسماع منه لهذا الحديث في رواية جرير بن حازم المذكورة أولا من عند ابن حزم.

(5/126)


باب إذا هدم حائطا فليبني مثله
...
35 - باب: إِذَا هَدَمَ حَائِطًا فَلْيَبْنِ مِثْلَهُ
2482- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ يُصَلِّي فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ لاَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا،

(5/126)


فَوَلَدَتْ غُلاَمًا فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟ قَالَ: الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لاَ إِلاَّ مِنْ طِينٍ"
قوله: "باب إذا هدم حائطا فليبن مثله" أي خلافا لمن قال تلزمه القيمة من المالكية وغيرهم. وأورد المصنف حديث أبي هريرة في قصة جريج الراهب مختصرا، وساقه في أحاديث الأنبياء من هذا الوجه مطولا، ويأتي الكلام عليه هناك مستوفى إن شاء الله تعالى. وموضع الحاجة منه هنا قوله: "فقالوا نبني صومعتك من ذهب، قال: لا إلا من طين" وقال قبل ذلك "فكسروا صومعته" وتوجيه الاحتجاج به أن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو كذلك إذا لم يأت شرعنا بخلافه كما تقدم غير مرة، لكن في الاستدلال بقصة جريج فيما ترجم به نظر، قال ابن المنير: الاستدلال بذلك غير ظاهر فيما ترجم له؛ لأنهم عرضوا عليه مالا يلزمهم اتفاقا وهو بناؤها من ذهب، وما أجابهم جريج إلا بقوله: "من طين" وأشار بذلك إلى الصفة التي كانت عليها قال: ولا خلاف أن الهادم لو التزم الإعادة ورضي صاحبه في جواز ذلك. قال: ويحتمل على أصل مالك أن لا يجوز، لأنه فسخ لما وجب ناجزا وهو القيمة إلا ما يتأخر وهو البنيان. قال ابن مالك: في قوله: "لا إلا من طين" شاهد على حذف المجزوم بلا، فإن التقدير لا تبنوها إلا من طين.
"خاتمة": اشتمل كتاب المظالم من الأحاديث المرفوعة على ثمانية وأربعين حديثا. المعلق منها ستة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثمانية وعشرون حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي سعيد "إذا خلص المؤمنون" وحديث أنس "انصر أخاك" وحديث أبي هريرة "من كانت له مظلمة" وحديث ابن عمر "من أخذ شيئا من الأرض" وحديث عبد الله بن يزيد في النهي عن النهبى والمثلة، وحديث أنس في القصعة المكسورة. وفيه من الآثار سبعة آثار. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(5/127)


كتاب الشركة
باب الشركة في الطعام والنهد والعروض
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
47 - كِتَاب الشَّرِكَةِ
1 - باب: الشَّرِكَةِ فِي الطَّعَامِ وَالنَّهْدِ وَالْعُرُوضِ
وَكَيْفَ قِسْمَةُ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مُجَازَفَةً أَوْ قَبْضَةً قَبْضَةً لَمَّا لَمْ يَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي النَّهْدِ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ هَذَا بَعْضًا وَهَذَا بَعْضًا وَكَذَلِكَ مُجَازَفَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْقِرَانُ فِي التَّمْرِ
2483- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَهُمْ ثَلاَثُ مِائَةٍ وَأَنَا فِيهِمْ فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ فَكَانَ يُقَوِّتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى فَنِيَ فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلاَّ تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ فَقُلْتُ وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ قَالَ ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلاَعِهِ فَنُصِبَا ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا"
[الحديث 2483- أطرافه في: 2983 ، 4360 ، 4361 ، 4362 ، 5493 ، 5494]
2484- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "خَفَّتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ وَأَمْلَقُوا فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ فَأَذِنَ لَهُمْ فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَادِ فِي النَّاسِ فَيَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ فَبُسِطَ لِذَلِكَ نِطَعٌ وَجَعَلُوهُ عَلَى النِّطَعِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ"
[الحديث 2484- طرفه في: 2982]
2485- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو النَّجَاشِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ فَنَنْحَرُ جَزُورًا فَتُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ"
2486- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ

(5/128)


وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ"
قوله: "كتاب الشركة" كذا للنسفي وابن شبويه، وللأكثر "باب" ولأبي ذر "في الشركة" وقدموا البسملة وأخرها. والشركة بفتح المعجمة وكسر الراء، وبكسر أوله وسكون الراء، وقد تحذف الهاء، وقد يفتح أوله مع ذلك فتلك أربع لغات. وهي شرعا: ما يحدث بالاختيار بين اثنين فصاعدا من الاختلاط لتحصيل الربح، وقد تحصل بغير قصد كالإرث، قوله: "الشركة في الطعام والنهد" أما الطعام فسيأتي القول فيه في باب مفرد، وأما النهد فهو بكسر النون وبفتحها إخراج القوم نفقاتهم على قدر عدد الرفقة، يقال تناهدوا وناهد بعضهم بعضا قاله الأزهري وقال الجوهري نحوه لكن قال: على قدر نفقة صاحبه، ونحوه لابن فارس، وقال ابن سيده: النهد العون. وطرح نهده مع القوم أعانهم وخارجهم، وذلك يكون في الطعام والشراب. وقيل. فذكر قول الأزهري. وقال عياض مثل قول الأزهري إلا أنه قيده بالسفر والخلط، ولم يقيده بالعدد. وقال ابن التين: قال جماعة هو النفقة بالسوية في السفر وغيره، والذي يظهر أن أصله في السفر، وقد تتفق رفقة فيضعونه في الحضر كما سيأتي في آخر الباب من فعل الأشعريين، وأنه لا يتقيد بالتسوية إلا في القسمة، وأما في الأكل فلا تسوية لاختلاف حال الآكلين، وأحاديث الباب تشهد لكل ذلك. وقال ابن الأثير: هو ما تخرجه الرفقة عند المناهدة إلى الغزو، وهو أن يقتسموا نفقتهم بينهم بالسوية حتى لا يكون لأحدهم على الآخر فضل، فزاده قيدا آخر وهو سفر الغزو، والمعروف أنه خلط الزاد في السفر مطلقا، وقد أشار إلى ذلك المصنف في الترجمة حيث قال: "يأكل هذا بعضا وهذا بعضا" وقال القابسي: هو طعام الصلح بين القبائل، وهذا غير معروف، فإن ثبت فلعله أصله. وذكر محمد بن عبد الملك التاريخي أن أول من أحدث النهد حضين - بمهملة ثم معجمة مصغر - الرقاشي. قلت وهو بعيد لثبوته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وحضين لا صحبة له، فإن ثبتت احتملت أوليته فيه في زمن مخصوص أو في فئة مخصوصة. قوله: "والعروض" بضم أوله جمع عرض بسكون الراء مقابل النقد، وأما بفتحها فجميع أصناف المال، وما عدا النقد يدخل فيه الطعام فهو من الخاص بعد العام ويدخل فيه الربويات، ولكنه اغتفر في النهد لثبوت الدليل على جوازه. واختلف العلماء في صحة الشركة كما سيأتي. قوله: "وكيف قسمة ما يكال ويوزن" أي هل يجوز قسمته مجازفة أو لا بد من الكيل في المكيل والوزن في الموزون، وأشار إلى ذلك بقوله: "مجازفة أو قبضة قبضة" أي متساوية. قوله: "لما لم تر المسلمون بالنهد بأسا" هو بكسر اللام وتخفيف الميم، وكأنه أشار إلى أحاديث الباب، وقد ورد الترغيب في ذلك، وروى أبو عبيدة في "الغريب" عن الحسن قال: "أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم". قوله: "وكذلك مجازفة الذهب والفضة" كأنه ألحق النقد بالعرض للجامع بينهما وهو المالية، لكن إنما يتم ذلك في قسمة الذهب مع الفضة، أما قسمة أحدهما خاصة - حيث يقع الاشتراك في الاستحقاق - فلا يجوز إجماعا قاله ابن بطال. وقال ابن المنير: شرط مالك في منعه أن يكون مصكوكا والتعامل فيه بالعدد. فعلى هذا يجوز بيع ما عداه جزافا، ومقتضى الأصول منعه، وظاهر كلام البخاري جوازه، ويمكن أن يحتج له بحديث جابر في مال البحرين، والجواب عن ذلك أن قسمة العطاء ليس على حقيقة القسمة، لأنه غير مملوك للآخذين قبل التمييز، والله أعلم. قوله: "والقران في التمر" يشير إلى حديث ابن عمر الماضي في المظالم، وسيأتي أيضا بعد بابين. ثم ذكر المصنف في الباب

(5/129)


أربعة أحاديث: أحدها حديث جابر في بعث أبي عبيدة بن الجراح إلى جهة الساحل، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب المغازي، وشاهد الترجمة منه قوله: "فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع" الحديث. وقال الداودي ليس في حديث أبي عبيدة ولا الذي بعده ذكر المجازفة لأنهم لم يريدوا المبايعة ولا البدل، وإنما يفضل بعضهم بعضا لو أخذ الإمام من أحدهم للآخر. وأجاب ابن التين بأنه إنما أراد أن حقوقهم تساوت فيه بعد جمعه لكنهم تناولوه مجازفة كما جرت العادة. ثانيها حديث سلمة بن الأكوع في إرادة نحر إبلهم في الغزو، والشاهد منه جمع أزوادهم ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، وهو ظاهر فيما ترجم به من كون أخذهم منها كان بغير قسمة مستوية، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. وقوله فيه: "أزواد" في رواية المستملي: "أزودة" وقوله: "وأملقوا" أي افتقروا. قوله: "وبرك" بتشديد الراء أي دعا بالبركة، وقوله: "فاحتثى" بسكون المهملة بعدها مثناة مفتوحة ثم مثلثة افتعل من الحثي وهو الأخذ بالكفين. ثالثها حديث رافع بن خديج في تعجيل صلاة العصر، وهو من الأحاديث المذكورة في غير مظنتها، وقد ذكر المصنف في المواقيت من هذا الوجه عن رافع تعجيل المغرب، وفي هذا تعجيل العصر، والغرض منه هنا قوله: "فننحر جزورا فيقسم عشر قسم" قال ابن التين في حديث رافع الشركة في الأصل، وجمع الحظوظ في القسم، ونحر إبل المغنم، والحجة على من زعم أن أول وقت العصر مصير ظل الشيء مثليه. وقوله: "نضيجا" بالمعجمة وبالجيم أي استوى طبخه. رابعها حديث أبي موسى قوله: "عن بريد" هو بالموحدة والراء مصغرا. قوله: "إذا أرملوا" أي فني زادهم، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل من القلة كما قيل في {ذَا مَتْرَبَةٍ}. قوله: "فهم مني وأنا منهم" أي هم متصلون بي، وتسمى "من" هذه الاتصالية كقوله: "لست من دد"، وقيل: المراد فعلوا فعلي في هذه المواساة. وقال النووي: معناه المبالغة في اتحاد طريقهما واتفاقهما في طاعة الله تعالى. وفي الحديث فضيلة عظيمة للأشعريين قبيلة أبي موسى، وتحديث الرجل بمناقبه، وجواز هبة المجهول، وفضيلة الإيثار والمواساة، واستحباب خلط الزاد في السفر وفي الإقامة أيضا. والله أعلم.

(5/130)


2 - باب: مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فِي الصَّدَقَةِ
2487- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ"
قوله: "باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية في الصدقة" أورد فيه حديث أنس عن أبي بكر في ذلك، وهو طرف من حديثه الطويل في الزكاة وتقدم فيه، وقيده المصنف في الترجمة بالصدقة لوروده فيها، لأن التراجع لا يصح بين الشريكين في الرقاب. وقال ابن بطال: فقه الباب أن الشريكين إذا خلط رأس مالهما فالربح بينهما، فمن أنفق من مال الشركة أكثر مما أنفق صاحبه تراجعا عند القسمة بقدر ذلك، لأنه عليه الصلاة والسلام أمر الخليطين في الغنم بالتراجع بينهما وهما شريكان، فدل ذلك على أن كل شريكين في معناهما. وتعقبه ابن المنير بأن التراجع الواقع بين الخليطين في الغنم ليس من باب قسمة الربح، وإنما أصله غرم مستهلك، لأنا نقدر أن من لم

(5/130)


يعط استهلك مال من أعطى إذا أعطى عن حق وجب على غيره؛ وقد قيل إنه يقدر مستلفا من صاحبه، واستدل به على أن من قام عن غيره بواجب فله الرجوع عليه وإن لم يكن أذن له في القيام عنه قاله ابن المنير أيضا، وفيه نظر لأن صحته تتوقف على عدم الإذن، وهو هنا محتمل، فلا يتم الاستدلال مع قيام الاحتمال.

(5/131)


3 - باب: قِسْمَةِ الْغَنَمِ
2488- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فَأَصَابُوا إِبِلًا وَغَنَمًا قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا فَقَالَ: جَدِّي إِنَّا نَرْجُو - أَوْ نَخَافُ - الْعَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ قَالَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ"
[الحديث 2488- أطرافه في: 2507 ، 3075 ، 5498 ، 5503 ، 5506 ، 5509 ، 5543 ، 5544]
قوله: "باب قسمة الغنم" أي بالعدد، أورد فيه حديث رافع بن خديج، وفيه: "ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير" وسيأتي الكلام عليه مستوفى في الذبائح إن شاء الله تعالى.

(5/131)


باب القران في التمر بين الشركاءحتى يستأذن أصحابه
...
4 - باب: الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ
2489- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ"
2490- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَبَلَةَ قَالَ: "كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فَأَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ لاَ تَقْرُنُوا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الإِقْرَانِ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ"
قوله: "باب القرآن في التمر بين الشركاء حتى يستأذن أصحابه" كذا في جميع النسخ، ولعل "حتى" كانت "حين" فتحرفت، أو سقط من الترجمة شيء إما لفظ النهي من أولها أو "لا يجوز" قبل "حتى". ذكر فيه حديث ابن

(5/131)


5 - باب: تَقْوِيمِ الأَشْيَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِقِيمَةِ عَدْلٍ
2491- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ أَوْ شِرْكًا أَوْ قَالَ نَصِيبًا وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ وَإِلاَ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ"
قَالَ: لاَ أَدْرِي قَوْلُهُ "عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ" قَوْلٌ مِنْ نَافِعٍ أَوْ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 2491- أطرافه في: 2503 ، 2521 ، 2522 ، 2523 ، 2524 ، 2525]
2492- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ فِي مَالِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"
[الحديث 2492- أطرافه في: 2504 ، 2526 ، 2527]
قوله: "باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل" قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن قسمة العروض وسائر الأمتعة بعد التقويم جائز، وإنما اختلفوا في قسمتها بغير تقويم: فأجازه الأكثر إذا كان على سبيل التراضي، ومنعه الشافعي وحجته حديث ابن عمر فيمن أعتق بعض عبده فهو نص في الرقيق وألحق الباقي به. وأورد المصنف الحديث المذكور عن ابن عمر وعن أبي هريرة، وسيأتي الكلام عليهما جميعا في كتاب العتق مستوفى إن شاء الله تعالى.

(5/132)


6 - باب: هَلْ يُقْرَعُ فِي الْقِسْمَةِ وَالِاسْتِهَامِ فِيهِ
2493- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا"
[الحديث 2493- طرفه في: 2686]

(5/132)


7 - باب: شَرِكَةِ الْيَتِيمِ وَأَهْلِ الْمِيرَاثِ
2494- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.. وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ - إِلَى - وَرُبَاعَ} فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ فَنُهُوا أَنْ يُنْكِحُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنْ الصَّدَاقِ وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} - إلى قوله - : {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} وَالَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الْآيَةُ الأُولَى الَّتِي قَالَ فِيهَا {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الأُخْرَى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} يَعْنِي هِيَ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ لِيَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ"
[الحديث 2494- أطرافه في: 2763 ، 4573 ، 4574 ، 4600 ، 5064 ، 5092 ، 5098 ، 5128 ، 5131 ، 5140 ، 6965]
قوله: "باب شركة اليتيم وأهل الميراث" الواو بمعنى مع، قال ابن بطال: اتفقوا على أنه لا تجوز المشاركة في مال اليتيم إلا إن كان لليتيم في ذلك مصلحة راجحة. وأورد المصنف في الباب حديث عائشة في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وسيأتي الكلام عليه مستوفى في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى. الأويسي المذكور في الإسناد هو عبد العزيز، وإبراهيم هو ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان؛ والإسناد كله مدنيون. وقوله: "وقال الليث حدثني يونس" وصله الطبري في تفسيره من طريق عبد الله بن صالح عن الليث مقرونا بطريق ابن وهب عن يونس؛ وقوله فيه: "رغبة أحدكم يتيمته" وفي رواية الكشميهني: "عن يتيمته" ولعله أصوب.

(5/133)


8 - باب: الشَّرِكَةِ فِي الأَرَضِينَ وَغَيْرِهَا
2495- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ

(5/133)


باب إذا قسم الشركاء الدور أو غيرها فليس لهم رجوع ولا شفعة
...
9 - باب: إِذَا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ الدُّورَ وَغَيْرَهَا فَلَيْسَ لَهُمْ رُجُوعٌ وَلاَ شُفْعَةٌ
2496- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ"
قوله: "باب إذا قسم الشركاء الدور وغيرها فليس لهم رجوع ولا شفعة" أورد فيه حديث جابر المذكور، قال ابن المنير: ترجم بلزوم القسمة، وليس في الحديث إلا نفي الشفعة، لكن لكونه يلزم من نفيها نفي الرجوع - إذ لو كان للشريك أن يرجع لعادت مشاعة - فعادت الشفعة.

(5/134)


10 - باب: الِاشْتِرَاكِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَمَا يَكُونُ فِيهِ الصَّرْفُ
2497 ، 2498- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُثْمَانَ - يَعْنِي ابْنَ الأَسْوَدِ - قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا الْمِنْهَالِ عَنْ الصَّرْفِ يَدًا بِيَدٍ فَقَالَ: "اشْتَرَيْتُ أَنَا وَشَرِيكٌ لِي شَيْئًا يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً فَجَاءَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ فَعَلْتُ أَنَا وَشَرِيكِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَذَرُوهُ"
قوله: "باب الاشتراك في الذهب والفضة وما يكون فيه الصرف" قال ابن بطال: أجمعوا على أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد مثل ما أخرج صاحبه ثم يخلطا ذلك حتى لا يتميز ثم يتصرفا جميعا، إلا أن يقيم كل واحد منهما الآخر مقام نفسه. وأجمعوا على أن الشركة بالدراهم والدنانير جائزة، لكن اختلفوا إذا كانت الدنانير من أحدهما والدراهم من الآخر، فمنعه الشافعي ومالك في المشهور عنه والكوفيون إلا الثوري ا هـ، وزاد الشافعي أن لا تختلف الصفة أيضا كالصحاح والمكسرة، وإطلاق البخاري الترجمة يشعر بجنوحه إلى قول الثوري، وقوله: "وما يكون في الصرف" أي كالدراهم المغشوشة والتبر وغير ذلك، وقد اختلف العلماء في ذلك فقال الأكثر: يصح في كل مثلي

(5/134)


باب: مُشَارَكَةِ الذِّمِّيِّ وَالْمُشْرِكِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ
2499- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا"
قوله: "باب مشاركة الذمي والمشركين في المزارعة" لواو في قوله: "والمشركين" عاطفة وليس بمعنى مع، والتقدير مشاركة المسلم للذمي ومشاركة المسلم للمشركين، وقد ذكر فيه حديث ابن عمر في إعطاء اليهود خيبر على أن يعملوها مختصرا، وقد تقدم في المزارعة، وهو ظاهر في الذمي وألحق المشرك به لأنه إذا استأمن صار في معنى الذمي، وأشار المصنف إلى مخالفة من خالف في الجواز كالثوري والليث وأحمد وإسحاق، وبه قال مالك إلا أنه أجازه إذا كان يتصرف بحضرة المسلم، وحجتهم خشية أن يدخل في مال المسلم ما لا يحل كالربا وثمن الخمر والخنزير، واحتج الجمهور بمعاملة النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر، وإذا جاز في المزارعة جاز في غيرها، وبمشروعية أخذ الجزية منهم مع أن في أموالهم ما فيها.

(5/135)


12 - باب: قِسْمَةِ الْغَنَمِ وَالْعَدْلِ فِيهَا
2500- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ أَنْتَ"
قوله: "باب قسم الغنم والعدل فيها" ذكر فيه حديث عقبة بن عامر، وقد مضى توجيه إيراده في الشركة في أوائل

(5/135)


13 - باب: الشَّرِكَةِ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ
وَيُذْكَرُ أَنَّ رَجُلًا سَاوَمَ شَيْئًا فَغَمَزَهُ آخَرُ فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ لَهُ شَرِكَةً
2501 ، 2502- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: "أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ - وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ فَقَالَ: هُوَ صَغِيرٌ فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ - وَعَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ إِلَى السُّوقِ فَيَشْتَرِي الطَّعَامَ فَيَلْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَيَقُولاَنِ لَهُ أَشْرِكْنَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ فَيَشْرَكُهُمْ فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِيَ فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ"
[الحديث 2501- طرفه في: 7210]
[الحديث 2502- طرفه في: 6353]
قوله: "باب الشركة في الطعام وغيره" أي من المثليات، والجمهور على صحة الشركة في كل ما يتملك، والأصح عند الشافعية اختصاصها بالمثلي، وسبيل من أراد الشركة بالعروض عندهم أن يبيع بعض عرضه المعلوم ببعض عرض الآخر المعلوم ويأذن له في التصرف، وفي وجه لا يصح إلا في النقد المضروب كما تقدم، وعن المالكية تكره الشركة في الطعام، والراجح عندهما الجواز. قوله: "ويذكر أن رجلا" لم أقف على اسمه. قوله: "فرأى عمر" كذا للأكثر. وفي رواية ابن شبويه "فرأى ابن عمر" وعليها شرح ابن بطال، والأول أصح فقد رواه سعيد بن منصور من طريق إياس بن معاوية "أن عمر أبصر رجلا يساوم سلعة وعنده رجل فغمزه حتى اشتراها، فرأى عمر أنها شركة" وهذا يدل على أنه كان لا يشترط للشركة صيغة ويكتفي فيها بالإشارة إذا ظهرت القرينة وهو قول مالك، وقال: مالك أيضا في السلعة تعرض للبيع فيقف من يشتريها للتجارة، فإذا اشتراها واحد منهم واستشركه الآخر لزمه أن يشركه لأنه انتفع بتركه الزيادة عليه، ووقع في نسخة الصغاني ما نصه "قال أبو عبد الله - يعني المصنف - إذا قال الرجل للرجل أشركني فإذا سكت يكون شريكه في النصف" ا هـ وكأنه أخذه من أثر عمر المذكور. قوله: "أخبرني سعيد" و ابن أبي أيوب، وثبت في رواية ابن شبويه. قوله: "عن زهرة" هو بضم الزاي وعند أبي داود من رواية المقبري عن سعيد "حدثني أبو عقيل زهرة بن معبد". قوله: "عن جده عبد الله بن هشام" أي ابن زهرة التيمي من بني عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة رهط أبي بكر الصديق، وهو جد زهرة لأبيه. قوله: "وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم" ذكر ابن منده أنه أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ست سنين، وروى أحمد في مسنده أنه احتلم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في إسناده ابن لهيعة، وحديث الباب يدل على خطأ روايته هذه فإن ذهاب أمه به كان في الفتح ووصف بالصغر إذ ذاك فإن كان ابن لهيعة ضبطه فيحتمل أنه بلغ في أوائل سن الاحتلام. قوله: "وذهبت به أمه زينب

(5/136)


بنت حميد" أي ابن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى وهي معدودة في الصحابة، وأبوه هشام مات قبل الفتح كافرا، وقد شهد عبد الله بن هشام فتح مصر واختط بها فيما ذكره ابن يونس وغيره، وعاش إلى خلافة معاوية. قوله: "ودعا له" زاد المصنف في الأحكام من وجه آخر "عن زهرة" وأخرجه الحاكم في "المستدرك" من حديث ابن وهب بتمامه فوهم. قوله: "وعن زهرة بن معبد" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "فيلقاه ابن عمر وابن الزبير" قال الإسماعيلي رواه الخلق فلم يذكر أحد هذه الزيادة إلى آخرها إلا ابن وهب. قلت: وقد أخرجه المصنف في الدعوات عن عبد الله بن وهب بهذا الإسناد، وكذلك أخرجه أبو نعيم من وجهين عن ابن وهب، قال الإسماعيلي: تفرد به ابن وهب. قوله: "فيقولان له أشركنا" هو شاهد الترجمة لكونهما طلبا منه الاشتراك في الطعام الذي اشتراه فأجابهما إلى ذلك وهم من الصحابة ولم ينقل عن غيرهم ما يخالف ذلك فيكون حجة، وفي الحديث مسح رأس الصغير، وترك مبايعة من لم يبلغ، والدخول في السوق لطلب المعاش، وطلب البركة حيث كانت، والرد على من زعم أن السعة من الحلال مذمومة، وتوفر دواعي الصحابة على إحضار أولادهم عند النبي صلى الله عليه وسلم لالتماس بركته، وعلم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم لإجابة دعائه في عبد الله بن هشام. "تنبيهان": أحدهما وقع في رواية الإسماعيلي: "وكان - يعني عبد الله بن هشام - يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله" فعزا بعض المتأخرين هذه الزيادة للبخاري فأخطأ. ثانيهما وقع في نسخة الصغاني زيادة لم أرها في شيء من النسخ غيرها ولفظه: "قال أبو عبد الله: كان عروة البارقي يدخل السوق وقد ربح أربعين ألفا ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة حيث أعطاه دينارا يشتري به أضحية فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فبرك له رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(5/137)


14 - باب: الشَّرِكَةِ فِي الرَّقِيقِ
2503- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ قَدْرَ ثَمَنِهِ يُقَامُ قِيمَةَ عَدْلٍ وَيُعْطَى شُرَكَاؤُهُ حِصَّتَهُمْ وَيُخَلَّى سَبِيلُ الْمُعْتَقِ"
2504- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ أُعْتِقَ كُلُّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلاَ يُسْتَسْعَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"
قوله: "باب الشركة في الرقيق" أورد فيه حديثي ابن عمر وأبي هريرة فيمن أعتق شقصا - أي نصيبا - من عبد، وهو ظاهر فيما ترجم له لأن صحة العتق فرع صحة الملك.

(5/137)


باب الاشتراك في الهدي والبدن وإذا أشرك الرجل رجلا في هديه بعد ما أهدى
...
15 - باب: الِاشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ وَالْبُدْنِ
وَإِذَا أَشْرَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي هَدْيِهِ بَعْدَ مَا أَهْدَى
2505 ، 2506- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ

(5/137)


باب من عدل عشرة من الغنم بجزور في القسم
...
16 - باب: مَنْ عَدَلَ عَشْرًا مِنْ الْغَنَمِ بِجَزُورٍ فِي الْقَسْمِ
2507- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلًا، فَعَجِلَ الْقَوْمُ فَأَغْلَوْا بِهَا الْقُدُورَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهَا فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ عَدَلَ عَشْرًا مِنْ الْغَنَمِ بِجَزُورٍ. ثُمَّ إِنَّ بَعِيرًا نَدَّ وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ إِلاَّ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ فَحَبَسَهُ بِسَهْمٍ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا. قَالَ قَالَ جَدِّي: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْجُو - أَوْ نَخَافُ - أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، فَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ: اعْجَلْ، أَوْ أَرْنِي. مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ"
قوله: "باب من عدل عشرة من الغنم بجزور" بفتح الجيم وضم الزاي أي بعير "في القسم" بفتح القاف. ذكر فيه حديث رافع في تلك، وقد تقدم قريبا وأنه يأتي الكلام عليه في الذبائح إن شاء الله تعالى. ومحمد شيخ البخاري في هذا الحديث لم ينسب في أكثر الروايات، ووقع في رواية ابن شبويه "حدثنا محمد بن سلام". والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الشركة من الأحاديث المرفوعة على سبعة وعشرين حديثا، المعلق منها واحد والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثلاثة عشر حديثا والخالص أربعة عشر، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث النعمان "مثل القائم على حدود الله" وحديثي عبد الله بن هشام وحديثي عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير في قصته، وحديث ابن عباس الأخير. وفيه من الآثار أثر واحد. والله أعلم.

(5/139)


كتاب الرهن
باب في الرهن في الحضر وقول الله عز وجل ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهن مقبوضة)
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
48 - كتاب الرهن
1 - باب الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ، وقول الله عز وجل [283 البقرة]:
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}
2508- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "وَلَقَدْ رَهَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ، وَمَشَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ. وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا أَصْبَحَ لِآلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ صَاعٌ وَلاَ أَمْسَى، وَإِنَّهُمْ لَتِسْعَةُ أَبْيَاتٍ"
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب في الرهن في الحضر، وقول الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} كذا لأبي ذر، ولغيره: "باب" بدل "كتاب"، ولابن شبويه "باب ما جاء" وكلهم ذكروا الآية من أولها. والرهن بفتح أوله وسكون الهاء: في اللغة الاحتباس من قولهم رهن الشيء إذا دام وثبت، ومنه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} . وفي الشرع: جعل مال وثيقة على دين. ويطلق أيضا على العين المرهونة تسمية للمفعول باسم المصدر. وأما الرهن بضمتين فالجمع، ويجمع أيضا على رهان بكسر الراء ككتب وكتاب، وقرئ بهما. وقوله: "في الحضر" إشارة إلى أن التقييد بالسفر في الآية خرج للغالب فلا مفهوم له لدلالة الحديث على مشروعيته في الحضر كما سأذكره وهو قول الجمهور، واحتجوا له من حيث المعنى بأن الرهن شرع توثقة على الدين لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} فإنه يشير إلى أن المراد بالرهن الاستيثاق، وإنما قيده بالسفر لأنه مظنة فقد الكاتب فأخرجه مخرج الغالب، وخالف في ذلك مجاهد والضحاك فيما نقله الطبري عنهما فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود وأهل الظاهر. وقال ابن حزم: إن شرط المرتهن الرهن في الحضر لم يكن له ذلك، وإن تبرع به الراهن جاز، وحمل حديث الباب على ذلك. وقد أشار البخاري إلى ما ورد في بعض طرقه كعادته، وقد تقدم الحديث في "باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة" في أوائل البيوع من هذا الوجه بلفظ: "ولقد رهن درعا له بالمدينة عند يهودي" وعرف بذلك الرد على من اعترض بأنه ليس في الآية والحديث تعرض للرهن في الحضر. قوله: "حدثنا مسلم بن إبراهيم" تقدم في أوائل البيوع مقرونا بإسناد آخر، وساقه هناك على لفظه وهنا على لفظ مسلم بن إبراهيم. قوله: "ولقد رهن درعه" هو معطوف على شيء محذوف، بينه أحمد من طريق أبان العطار عن قتادة عن أنس "أن يهوديا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه" والدرع بكسر المهملة يذكر ويؤنث. قوله: "بشعير" وقع في أوائل البيوع من هذا الوجه بلفظ: "ولقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعا له بالمدينة عند يهودي وأخذ منه شعيرا لأهله" وهذا اليهودي هو أبو الشحم، بينه الشافعي ثم البيهقي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعا له عند أبي الشحم اليهودي رجل من بني ظفر في شعير" انتهى، وأبو الشحم بفتح المعجمة وسكون المهملة اسمه كنيته، وظفر بفتح الظاء والفاء بطن من الأوس وكان حليفا لهم، وضبطه بعض المتأخرين بهمزة موحدة ممدودة ومكسورة

(5/140)


اسم الفاعل من الإباء، وكأنه التبس عليه بأبي اللحم الصحابي، وكان قدر الشعير المذكور ثلاثين صاعا كما سيأتي للمصنف من حديث عائشة في الجهاد وأواخر المغازي. وكذلك رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وغيرهم من طريق عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه الترمذي والنسائي من هذا الوجه فقالا: "بعشرين" ولعله كان دون الثلاثين فجبر الكسر تارة وألغى أخرى، ووقع لابن حبان من طريق شيبان عن قتادة عن أنس أن قيمة الطعام كانت دينارا وزاد أحمد من طريق شيبان الآتية في آخره: "فما وجد ما يفتكها به حتى مات". قوله: "ومشيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالة سنخة" والإهالة بكسر الهمزة وتخفيف الهاء ما أذيب من الشحم والإلية، وقيل هو كل دسم جامد، وقيل ما يؤتدم به من الأدهان، وقوله: "سنخة" بفتح المهملة وكسر النون بعدها معجمة مفتوحة أي المتغيرة الريح، ويقال فيها بالزاي أيضا. ووقع لأحمد من طريق شيبان عن قتادة عن أنس "لقد دعي نبي الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على خبز شعير وإهالة سنخة" فكأن اليهودي دعا النبي صلى الله عليه وسلم على لسان أنس فلهذا قال: "مشيت إليه" بخلاف ما يقتضيه ظاهره أنه حضر ذلك إليه. قوله: "ولقد سمعته" فاعل "سمعت" أنس والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وهو فاعل يقول، وجزم الكرماني بأنه أنس وفاعل سمعت قتادة، وقد أشرت إلى الرد عليه في أوائل البيوع. وقد أخرجه أحمد وابن ماجة من طريق شيبان المذكورة بلفظ: "ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفس محمد بيده" فذكر الحديث لفظ ابن ماجة وساقه أحمد بتمامه. قوله: "ما أصبح لآل محمد إلا صاع ولا أمسى" كذا للجميع، وكذا ذكره الحميدي في "الجمع"، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق الكجي عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري فيه بلفظ: "ما أصبح لآل محمد ولا أمسى إلا صاع" وخولف مسلم بن إبراهيم في ذلك فأخرجه أحمد عن أبي عامر والإسماعيلي من طريقه والترمذي من طريق ابن أبي عدي ومعاذ بن هشام والنسائي من طريق هشام بلفظ: "ما أمسى في آل محمد صاع من تمر ولا صاع من حب" وتقدم من وجه آخر في أوائل البيوع بلفظ: "بر" بدل تمر. قوله: "وإنهم لتسعة أبيات" في رواية المذكورين "وإن عنده يومئذ لتسع نسوة" وسيأتي سياق أسمائهن في كتاب المناقب إن شاء الله تعالى. ومناسبة ذكر أنس لهذا القدر مع ما قبله الإشارة إلى سبب قوله صلى الله عليه وسلم هذا وإنه لم يقله متضجرا ولا شاكيا - معاذ الله من ذلك - وإنما قاله معتذرا عن إجابته دعوة اليهودي ولرهنه عنده درعه، ولعل هذا هو الحامل الذي زعم بأن قائل ذلك هو أنس فرارا من أن يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك بمعنى التضجر والله أعلم. وفي الحديث جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم، واستنبط منه جواز معاملة من أكثر ماله حرام. وفيه جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيا، وفيه ثبوت أملاك أهل الذمة في أيديهم وجواز الشراء بالثمن المؤجل واتخاذ الدروع والعدد وغيرها من آلات الحرب وأنه غير قادح في التوكل، وأن قنية آلة الحرب لا تدل على تحبيسها قاله ابن المنير، وأن أكثر قوت ذلك العصر الشعير قاله الداودي، وأن القول قول المرتهن في قيمة المرهون مع يمينه حكاه ابن التين. وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والزهد في الدنيا والتقلل منها مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادخار حتى احتاج إلى رهن درعه، والصبر على ضيق العيش والقناعة باليسير، وفضيلة لأزواجه لصبرهن معه على ذلك، وفيه غير ذلك مما مضى ويأتي. قال العلماء: الحكمة في عدوله صلى الله عليه وسلم عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود إما لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل

(5/141)


2 - بَاب: مَنْ رَهَنَ دِرْعَهُ
2509- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: "تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ وَالْقَبِيلَ فِي السَّلَفِ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ"
قوله "باب من رهن درعه" ذكر فيه حديث الأعمش "قال تذاكرنا عند إبراهيم" هو النخعي "الرهن والقبيل" بفتح القاف وكسر الموحدة أي الكفيل وزنا ومعنى. قوله: "اشترى من يهودي" تقدم التعريف به في الباب الذي قبله. قوله: "طعاما إلى أجل" تقدم جنسه في الباب الذي قبله، وأما الأجل ففي صحيح ابن حبان من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش أنه سنة. قوله: "ورهنه درعه" تقدم في أوائل البيوع من طريق عبد الواحد عن الأعمش بلفظ: "ورهنه درعا من حديد" واستدل به على جواز بيع السلاح من الكافر وسيذكر في الذي بعده. ووقع في أواخر المغازي من طريق الثوري عن الأعمش بلفظ: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة" وفي حديث أنس عند أحمد "فما وجد ما يفتكها به" وفيه دليل على أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" قيل هذا محله في غير نفس الأنبياء فإنها لا تكون معلقة بدين فهي خصوصية، وهو حديث صححه ابن حبان وغيره: "من لم يترك عند صاحب الدين ما يحصل له به الوفاء" وإليه جنح الماوردي؛ وذكر ابن الطلاع في "الأقضية النبوية" أن أبا بكر افتك الدرع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن روى ابن سعد عن جابر أن أبا بكر قضى عدات النبي صلى الله عليه وسلم وأن عليا قضى ديونه" وروى إسحاق بن راهويه في مسنده عن الشعبي مرسلا "أن أبا بكر افتك الدرع وسلمها لعلي بن أبي طالب" وأما من أجاب بأنه صلى الله عليه وسلم افتكها قبل موته فمعارض بحديث عائشة رضي الله عنها.

(5/143)


3 - باب: رَهْنِ السِّلاَحِ
2510- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَا فَأَتَاهُ فَقَالَ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ. فَقَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ. قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ؟ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللاَمَةَ - قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي السِّلاَحَ - فَوَعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ، فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ"
[الحديث 2510- أطرافه في: 3031 ، 3032 ، 4037]

(5/142)


4 - باب: الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ
وَقَالَ مُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: تُرْكَبُ الضَّالَّةُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا وَتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا وَالرَّهْنُ مِثْلُهُ
2511- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ، وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا"
[الحديث 2511- طرفه في: 2512]
2512- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ"
قوله: "باب الرهن مركوب ومحلوب" هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الحاكم وصححه من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا قال الحاكم: لم يخرجاه، لأن سفيان وغيره وقفوه على الأعمش انتهى. وقد ذكر الدار قطني الاختلاف على الأعمش وغيره، ورجح الموقوف وبه جزم الترمذي، وهو مساو لحديث الباب من حيث المعنى وفي حديث الباب زيادة. قوله: "وقال مغيرة" أي ابن مقسم "عن إبراهيم" أي النخعي "تركب الضالة بقدر علفها وتحلب بقدر علفها" وقع في رواية الكشميهني: "بقدر عملها" والأول أصوب. وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور عن هشيم عن مغيرة به. قوله: "والرهن مثله" أي في الحكم المذكور، وقد وصله سعيد بن منصور بالإسناد المذكور ولفظه: "الدابة إذا كانت مرهونة تركب بقدر علفها، وإذا كان لها لبن يشرب منه بقدر علفها"

(5/143)


5 - باب: الرَّهْنِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ
2513- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ"
قوله: "باب الرهن عن اليهود وغيرهم" ذكر فيه حديث عائشة المتقدم قريبا، وغرضه جواز معاملة غير المسلمين وقد تقدم البحث فيه قريبا.

(5/145)


6 - باب: إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ وَنَحْوُهُ
فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
2514- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَتَبَ إِلَيَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ"
[الحديث 2514- طرفاه في: 2668 ، 4552]
2515 ، 2516- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ[77 آل عمران] {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} - فَقَرَأَ إِلَى – {عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ فَحَدَّثْنَاهُ قَالَ فَقَالَ صَدَقَ لَفِيَّ وَاللَّهِ أُنْزِلَتْ كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ قُلْتُ إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلاَ يُبَالِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} – إِلَى – {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} "
قوله "باب إذا أختلف الراهن والمرتهن ونحوه فالبينة على المدعي واليمين على المدعى عليه"سيأتي ذكر تعريف المدعي والمدعى عليه في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى وألخص ما قيل فيه إن المدعي من إذا ترك ترك والمدعى عليه بخلافه، ثم أورد فيه ثلاثة أحاديث. الأول حديث ابن عباس: قوله "كتبت إلى ابن عباس" حذف المفعول وقد ذكره في تفسير آل عمران. قوله: "فكتب إلي أن النبي صلى الله عليه وسلم" يجوز فتح همزة إن وكسرها، وسيأتي الكلام على هذا الحديث في كتاب الشهادات. وأراد المصنف منه الحمل على عمومه خلافا لمن قال إن القول في الرهن قول المرتهن ما لم يجاوز قدر الرهن، لأن الرهن كالشاهد للمرتهن، قال ابن التين: جنح البخاري إلى أن الرهن لا يكون

(5/145)


كتاب العتق
باب في العتق وفضله
...
باب: فِي الْعِتْقِ وَفَضْلِهِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى[13 - 15 البلد] {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ}
2517- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ صَاحِبُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ فَعَمَدَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى عَبْدٍ لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ - أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ - فَأَعْتَقَهُ"
[الحديث 2517- طرفه في: 6715]
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - في العتق وفضله" كذا للأكثر، زاد ابن شبويه بعد البسملة "باب"، وزاد المستملي قبل البسملة "كتاب العتق" ولم يقل باب، وأثبتهما النسفي. والعتق بكسر المهملة إزالة الملك، يقال عتق يعتق عتقا بكسر أوله ويفتح وعتاقا وعتاقة، قال الأزهري: وهو مشتق من قولهم عتق الفرس إذا سبق وعتق الفرخ إذا طار، لأن الرقيق يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء. قوله: "وقول الله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} ساق إلى قوله: {مَقْرَبَةٍ} ووقع في رواية أبي ذر {أو أطعم} ولغيره {أَوْ إِطْعَامٌ} وهما قراءتان مشهورتان، والمراد بفك الرقبة تخليص الشخص من الرق من تسمية الشيء باسم بعضه، وإنما خصت بالذكر إشارة إلى أن حكم السيد عليه كالغل في رقبته فإذا أعتق فك الغل من عنقه، وجاء في حديث صحيح "أن فك الرقبة مختص بمن أعان في عتقها حتى تعتق" رواه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتق النسمة وفك الرقبة. قيل يا رسول الله أليستا واحدة؟ قال: لا، إن عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها"

(5/146)


وهو في أثناء حديث طويل أخرج الترمذي بعضه وصححه، وإذا ثبت الفضل في الإعانة على العتق ثبت الفضل في التفرد بالعتق من باب الأولى. قوله: "حدثنا واقد بن محمد" أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر أخو عاصم الذي روى عنه، وبذلك صرح الإسماعيلي من طريق معاذ العنبري عن عاصم بن محمد عن أخيه واقد. قوله: "حدثني سعيد ابن مرجانة" بفتح الميم وسكون الراء بعدها جيم وهي أمه، واسم أبيه عبد الله ويكنى سعيد أبا عثمان، وقوله: "صاحب علي بن الحسين" أي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان منقطعا إليه فعرف بصحبته، ووهم من زعم أنه سعيد بن يسار أبو الحباب فإنه غيره عند الجمهور، وليس لسعيد ابن مرجانة في البخاري غير هذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في التابعين وأثبت روايته عن أبي هريرة، ثم غفل فذكره في أتباع التابعين وقال لم يسمع من أبي هريرة ا هـ. وقد قال هنا "قال لي أبو هريرة" ووقع التصريح بسماعه منه عند مسلم والنسائي وغيرهما فانتفى ما زعمه ابن حبان. قوله: "أيما رجل" في رواية الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي عن عاصم بن محمد " أيما مسلم: "ووقع تقييده بذلك في رواية مسلم والنسائي من طريق إسماعيل بن أبي حكيم عن سعيد ابن مرجانة. قوله: "عضوا من النار" في رواية مسلم: "عضوا منه من النار" وله من رواية علي بن الحسين عن سعيد ابن مرجانة وستأتي مختصرة للمصنف في كفارات الأيمان "أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه" وللنسائي من حديث كعب بن مرة "وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار عظمين منهما بعظم، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار" إسناده صحيح، ومثله للترمذي من حديث أبي أمامة، وللطبراني من حديث عبد الرحمن بن عوف ورجاله ثقات. قوله: "قال سعيد ابن مرجانة" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "فانطلقت به" أي بالحديث. وفي رواية مسلم: "فانطلقت حين سمعت الحديث من أبي هريرة فذكرته لعلي" زاد أحمد وأبو عوانة من طريق إسماعيل بن أبي حكيم عن سعيد ابن مرجانة "فقال علي بن الحسين: أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ فقال نعم". قوله: "فعمد علي بن الحسين إلى عبد له" اسم هذا العبد مطرف، وقع ذلك في رواية إسماعيل بن أبي حكيم المذكورة عند أحمد وأبي عوانة وأبي نعيم في مستخرجيهما على مسلم، وقوله: "عبد الله عن ابن جعفر" أي ابن أبي طالب وهو ابن عم والد علي بن الحسين وكانت وفاته سنة ثمانين من الهجرة، ومات سعيد ابن مرجانة سنة سبع وتسعين ومات علي بن الحسين قبله بثلاث أو أربع، وروايته عنه من رواية الأقران، وقوله: "عشرة آلاف درهم أو ألف دينار" شك من الراوي، وفيه إشارة إلى أن الدينار إذ ذاك كان بعشرة دراهم، وقد رواه الإسماعيلي من رواية عاصم بن علي فقال: "عشرة آلاف درهم" بغير شك. قوله: "فأعتقه" في رواية إسماعيل المذكورة "فقال اذهب أنت حر لوجه الله" وفي الحديث فضل العتق، وأن عتق الذكر أفضل من عتق الأنثى خلافا لمن فضل عتق الأنثى محتجا بأن عتقها يستدعي صيرورة ولدها حرا سواء تزوجها حر أو عبد بخلاف الذكر، ومقابله في الفضل أن عتق الأنثى غالبا يستلزم ضياعها، ولأن في عتق الذكر من المعاني العامة ما ليس في الأنثى كصلاحيته للقضاء وغيره مما يصلح للذكور دون الإناث، وفي قوله: "أعتق الله بكل عضو منه عضوا" إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يكون في الرقبة نقصان ليحصل الاستيعاب، وأشار الخطابي إلى أنه يغتفر النقص المجبور بمنفعة كالخصي مثلا إذا كان ينتفع به فيما لا ينتفع بالفحل، وما قاله في مقام المنع، وقد استنكره النووي وغيره وقال: لا شك أن في عتق الخصي وكل ناقص فضيلة، لكن الكامل أولى. وقال ابن المنير: فيه إشارة إلى أنه ينبغي في

(5/147)


الرقبة التي تكون للكفارة أن تكون مؤمنة، لأن الكفارة منقذة من النار فينبغي أن لا تقع إلا بمنقذة من النار. واستشكل ابن العربي قوله: "فرجه بفرجه" لأن الفرج لا يتعلق به ذنب يوجب له النار إلا الزنا، فإن حمل على ما يتعاطاه من الصغائر كالمفاخذة لم يشكل عتقه من النار بالعتق، وإلا فالزنا كبيرة لا تكفر إلا بالتوبة، ثم قال: فيحتمل أن يكون المراد أن العتق يرجح عند الموازنة بحيث يكون مرجحا لحسنات المعتق ترجيحا يوازي سيئة الزنا ا هـ. ولا اختصاص لذلك بالفرج، بل يأتي في غيره من الأعضاء مما آثاره فيه كاليد في الغصب مثلا. والله أعلم.

(5/148)


2 - باب: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ
2518- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ. قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَعْلاَهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: تُعِينُ ضَايِعًا، أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: تَدَعُ النَّاسَ مِنْ الشَّرّ،ِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ"
قوله: "باب أي الرقاب أفضل" أي للعتق. قوله: "حدثنا عبيد الله بن موسى عن هشام بن عروة" هذا من أعلى حديث وقع في البخاري، وهو في حكم الثلاثيات، لأن هشام بن عروة شيخ شيخه من التابعين وإن كان هنا روى عن تابعي آخر وهو أبوه، وقد رواه الحارث بن أسامة عن عبيد الله بن موسى فقال: "أخبرنا هشام بن عروة" أخرجه أبو نعيم في "المستخرج". قوله: "عن أبيه" أي رواية النسائي من طريق يحيى القطان "عن هشام حدثني أبي". قوله: "عن أبي مراوح" بضم الميم بعدها راء خفيفة وكسر الواو بعدها مهملة، زاد مسلم من طريق حماد بن زيد "عن هشام الليثي" ويقال له أيضا الغفاري، وهو مدني من كبار التابعين لا يعرف اسمه، وشذ من قال اسمه سعد، قال الحاكم أبو أحمد: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره. قلت: وما له في البخاري سوى هذا الحديث، ورجاله كلهم مدنيون إلا شيخه. وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق. وقد أخرجه مسلم من رواية الزهري عن حبيب مولى عروة عن عروة فصار في الإسناد أربعة من التابعين. وفي الصحابة أبو مراوح الليثي غير هذا سماه ابن منده واقدا وعزاه لأبي داود، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق يحيى بن سعيد عن هشام أخبرني أبي أن أبا مراوح أخبره، وذكر الإسماعيلي عددا كثيرا نحو العشرين نفسا رووه عن هشام بهذا الإسناد، وخالفهم مالك فأرسله في المشهور عنه عن هشام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه يحيى بن يحيى الليثي وطائفة عنه عن هشام عن أبيه عن عائشة، ورواه سعيد بن داود عنه عن هشام كرواية الجماعة، قال الدار قطني: الرواية المرسلة عن مالك أصح، والمحفوظ عن هشام كما قال الجماعة. قوله: "عن أبي ذر" في رواية يحيى بن سعيد المذكورة "أن أبا ذر أخبره". قوله: "قال أعلاها" بالعين المهملة للأكثر وهي رواية النسائي أيضا، وللكشميهني بالغين المعجمة وكذا للنسفي، قال ابن قرقول: معناهما متقارب. قلت: وقع لمسلم من طريق حماد بن زيد عن هشام "أكثرها ثمنا" وهو يبين المراد، قال النووي: محله والله أعلم فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلا فأراد أن يشتري بها رقبة يعتقها فوجد رقبة نفيسة أو رقبتين مفضولتين فالرقبتان أفضل، قال: وهذا بخلاف

(5/148)


الأضحية فإن الواحدة السمينة فيها أفضل، لأن المطلوب هنا فك الرقبة وهناك طيب اللحم ا هـ. والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فرب شخص واحد إذا أعتق انتفع بالعتق وانتفع به أضعاف ما يحصل من النفع بعتق أكثر عددا منه، ورب محتاج إلى كثرة اللحم لتفرقته على المحاويج الذين ينتفعون به أكثر مما ينتفع هو بطيب اللحم، فالضابط أن مهما كان أكثر نفعا كان أفضل سواء قل أو كثر، واحتج به لمالك في أن عتق الرقبة الكافرة إذا كانت أغلى ثمنا من المسلمة أفضل، وخالفه أصبغ وغيره وقالوا: المراد بقوله أغلى ثمنا من المسلمين، وقد تقدم تقييده بذلك في الحديث الأول. قوله: "وأنفسها عند أهلها" أي ما اغتباطهم بها أشد، فإن عتق مثل ذلك ما يقع غالبا إلا خالصا وهو كقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} . قوله: "قلت فإن لم أفعل" في رواية الإسماعيلي: "أرأيت إن لم أفعل" أي إن لم أقدر على ذلك، أطلق الفعل وأراد القدرة. وللدار قطني في "الغرائب" بلفظ: "فإن لم أستطع". قوله: "تعين ضائعا" بالضاد المعجمة وبعد الألف تحتانية لجميع الرواة في البخاري كما جزم به عياض وغيره، وكذا هو في مسلم، إلا في رواية السمرقندي كما قاله عياض أيضا، وجزم الدار قطني وغيره بأن هشاما رواه هكذا دون من رواه عن أبيه، وقال أبو علي الصدفي ونقلته من خطه: رواه هشام بن عروة بالضاد المعجمة والتحتانية، والصواب بالمهملة والنون كما قاله الزهري. وإذا تقرر هذا فقد خبط من قال من شراح البخاري إنه روي بالصاد المهملة والنون، فإن هذه الرواية لم تقع في شيء من طرقه، وروى الدار قطني من طريق معمر عن هشام هذا الحديث بالضاد المعجمة، قال معمر: كان الزهري يقول صحف هشام وإنما هو بالصاد المهملة والنون. قال الدار قطني: وهو الصواب لمقابلته بالأخرق وهو الذي ليس بصانع ولا يحسن العمل، وقال علي بن المديني: يقولون إن هشاما صحف فيه ا هـ. ورواية معمر عن الزهري عند مسلم كما تقدم وهي بالمهملة والنون، وعكس السمرقندي فيها أيضا كما نقله عياض، وقد وجهت رواية هشام بأن المراد بالضائع ذو الضياع من فقر أو عيال فيرجع إلى معنى الأول، قال أهل اللغة: رجل أخرق لا صنعة له والجمع خرق بضم ثم سكون، وامرأة خرقاء كذلك، ورجل صانع وصنع بفتحتين وامرأة صناع بزيادة ألف. قوله: "فإن لم أفعل" أي من الصناعة أو الإعانة، ووقع في رواية الدار قطني في "الغرائب": "أرأيت أن ضعفت" وهو يشعر بأن قوله إن لم أفعل أي للعجز عن ذلك لا كسلا مثلا. قوله: "تدع الناس من الشر" فيه دليل على أن الكف عن الشر داخل في فعل الإنسان وكسبه حتى يؤجر عليه ويعاقب، غير أن الثواب لا يحصل مع الكف إلا مع النية والقصد لا مع الغفلة والذهول قاله القرطبي ملخصا. قوله: "فإنها صدقة تصدق" بفتح المثناة والصاد المهملة الخفيفة على حذف إحدى التاءين والأصل تتصدق ويجوز تشديدها على الإدغام. وفي الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان، قال ابن حبان: الواو في حديث أبي ذر هذا بمعنى ثم، وهو كذلك في حديث أبي هريرة أي المتقدم في "باب من قال إن الإيمان هو العمل" وقد تقدم الكلام فيه على طريق الجمع بين ما اختلف من الروايات في أفضل الأعمال هناك، وقيل قرن الجهاد بالإيمان هنا لأنه كان إذ ذاك أفضل الأعمال، وقال القرطبي: تفضيل الجهاد في حال تعينه، وفضل بر الوالدين لمن يكون له أبوان فلا يجاهد إلا بإذنهما، وحاصله أن الأجوبة اختلفت باختلاف أحوال السائلين. وفي الحديث حسن المراجعة في السؤال، وصبر المفتي والمعلم على التلميذ ورفقه به، وقد روى ابن حبان والطبري وغيرهما من طريق أبي إدريس الخولاني وغيره عن أبي ذر حدثنا حديثا طويلا فيه أسئلة كثيرة وأجوبتها تشتمل على فوائد كثيرة: منها سؤاله

(5/149)


عن أي المؤمنين أكمل وأي المسلمين أسلم وأي الهجرة والجهاد والصدقة والصلاة أفضل، وفيه ذكر الأنبياء وعددهم وما أنزل عليهم، وآداب كثيرة من أوامر ونواهي وغير ذلك، قال ابن المنير: وفي الحديث إشارة إلى أن إعانة الصانع أفضل من إعانة غير الصانع لأن غير الصانع مظنة الإعانة فكل أحد يعينه غالبا، بخلاف الصانع فإنه لشهرته بصنعته يغفل عن إعانته، فهي من جنس الصدقة على المستور.

(5/150)


3 - باب: مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْعَتَاقَةِ فِي الْكُسُوفِ أَوْ الْآيَاتِ
2519- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: "أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ"
تَابَعَهُ عَلِيٌّ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ هِشَامٍ
2520- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَثَّامٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: "كُنَّا نُؤْمَرُ عِنْدَ الْخُسُوفِ بِالْعَتَاقَةِ"
قوله: "باب ما يستحب من العتاقة" بفتح العين ووهم من كسرها، يقال عتق يعتق عتاقا وعتاقة والمراد الإعتاق وهو ملزوم العتاقة. قوله: "في الكسوف أو الآيات" كذا لأبي ذر وأبي شبويه وأبي الوقت وللباقين "والآيات" بغير ألف، و "أو" للتنويع لا للشك؛ وقال الكرماني هي بمعنى الواو وبمعنى بل لأن عطف الآيات على الكسوف من عطف العام على الخاص، وليس في حديث الباب سوى الكسوف، وكأنه أشار إلى قوله في بعض طرقه: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده" وأكثر ما يقع التخويف بالنار فناسب وقوع العتق الذي يعتق من النار، لكن يختص الكسوف بالصلاة المشروعة بخلاف بقية الآيات. قوله: "حدثنا موسى بن مسعود" وهو أبو حذيفة النهدي بفتح النون مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وقد تقدم الحديث في الكسوف عن راو آخر عن شيخه زائدة. قوله: "تابعه علي" يعني ابن المديني وهو شيخ البخاري، ووهم من قال المراد به ابن حجر، والدراوردي هو عبد العزيز بن محمد. قوله: "حدثنا محمد بن أبي بكر" هو المقدمي، وعثام بفتح المهملة وتشديد المثلثة هو ابن علي بن الوليد العامري الكوفي ما له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد، وهشام هو ابن عروة، وفاطمة زوجته وهي ابنة عمه، وهذا الحديث مختصر من حديث طويل، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في موضعه وتبين برواية زائدة أن الآمر في رواية عثام هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو مما يقوي أن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" في حكم المرفوع.

(5/150)


4 - باب: إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَمَةً بَيْنَ الشُّرَكَاءِ
2521- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعْتَقُ"

(5/150)


باب إذا أعتق نصيبا في عبد ليس له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه على نحو الكتابة
...
5 - باب: إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبًا فِي عَبْدٍ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ عَلَى نَحْوِ الْكِتَابَةِ
2526- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ سَمِعْتُ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ عَبْدٍ.."
2527- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا - أَوْ شَقِيصًا - فِي مَمْلُوكٍ فَخَلاَصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلاَ قُوِّمَ عَلَيْهِ فَاسْتُسْعِيَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"
تَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ وَأَبَانُ وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ عَنْ قَتَادَةَ.. اخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ
قوله "باب إذا أعتق نصيبا في عبد وليس له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه، على نحو الكتابة" أشار البخاري بهذه الترجمة إلى أن المراد بقوله في حديث ابن عمر "وإلا فقد عتق منه ما عتق" أي وإلا، فإن كان المعتق لا مال له يبلغ قيمة بقية العبد فقد تنجز عتق الجزء الذي كان يملكه وبقي الجزء الذي لشريكه على ما كان عليه أولا إلى أن يستسعي العبد في تحصيل القدر الذي يخلص به باقيه من الرق إن قوي على ذلك، فإن عجز نفسه استمرت حصة الشريك موقوفة. وهو مصير منه إلى القول بصحة الحديثين جميعا والحكم برفع الزيادتين معا وهو قوله في حديث ابن عمر: "وإلا فقد عتق منه ما عتق" وقد تقدم بيان من جزم بأنها من جملة الحديث، وبيان من توقف فيها أو جزم بأنها من قول نافع. وقوله في حديث أبي هريرة "فاستسعي به غير مشقوق عليه" وسأبين من جزم بأنها من جملة الحديث ومن توقف فيها أو جزم بأنها من قول قتادة، وقد بينت ذلك في كتابي "المدرج" بأبسط مما هنا. وقد استبعد الإسماعيلي إمكان الجمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة ومنع الحكم بصحتهما معا وجزم بأنهما متدافعان، وقد جمع غيره بينهما بأوجه أخر يأتي بيانها في أواخر الباب إن شاء الله تعالى. قوله: "جرير بن حازم سمعت قتادة" سيأتي بعد أبواب من رواية جرير بن حازم عن نافع، فله فيه طريقان، وقد حفظ الزيادة التي في كل منهما وجزم برفع كل منهما. قوله: "عن بشير بن نهيك" بفتح الموحدة وكسر المعجمة وبفتح النون وكسر الهاء وزنا واحدا. قوله: "من أعتق شقيصا من عبد" كذا أورده مختصرا وعطف عليه طريق سعيد عن قتادة، وقد تقدم في الشركة من وجه آخر عن جرير بن حازم وبقيته "أعتق كله إن كان له مال وإلا يستسعي غير مشقوق عليه" وأخرجه الإسماعيلي من طريق بشر بن السري ويحيى بن بكير جميعا عن جرير بن حازم بلفظ: "من أعتق شقصا من غلام وكان للذي أعتقه من المال ما يبلغ قيمة العبد أعتق في ماله، وإن لم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه". قوله: "حدثنا سعيد" هو ابن أبي عروبة. قوله: "عن النضر" في رواية جرير - التي قبلها - عن قتادة "حدثني

(5/156)


النضر". قوله: "وإلا قوم عليه فاستسعي به" في رواية عيسى بن يونس عن سعيد عند مسلم: "ثم يستسعي في نصيب الذي لم يعتق" الحديث. وفي رواية عبدة عند النسائي ومحمد بن بشر عند أبي داود كلاهما عن سعيد "فإن لم يكن له مال قوم ذلك العبد قيمة عدل واستسعي في قيمته لصاحبه" الحديث. قوله: "غير مشقوق عليه" تقدم توجيهه. وقال ابن التين: معناه لا يستغلي عليه في الثمن، وقيل معناه غير مكاتب وهو بعيدا جدا. وفي ثبوت الاستسعاء حجة على ابن سيرين حيث قال: يعتق نصيب الشريك الذي لم يعتق من بيت المال. قوله: "تابعه حجاج بن حجاج وأبان وموسى بن خلف عن قتادة واختصره شعبة" أراد البخاري بهذا الرد على من زعم أن الاستسعاء في هذا الحديث غير محفوظ. وأن سعيد بن أبي عروبة تفرد به، فاستظهر له برواية جرير بن حازم بموافقته، ثم ذكر ثلاثة تابعوهما على ذكرها. فأما رواية حجاج فهو في نسخة حجاج بن حجاج عن قتادة من رواية أحمد بن حفص أحد شيوخ البخاري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن حجاج وفيها ذكر السعاية، ورواه عن قتادة أيضا حجاج بن أرطاة أخرجه الطحاوي، وأما رواية أبان فأخرجها أبو داود والنسائي من طريقه قال: حدثنا قتادة أخبرنا النضر بن أنس ولفظه: "فإن عليه أن يعتق بقيته إن كان له مال وإلا استسعي العبد" الحديث، ولأبي داود "فعليه أن يعتقه كله والباقي سواء" وأما رواية موسى بن خلف فوصلها الخطيب في "كتاب الفصل والوصل" من طريق أبي ظفر عبد السلام بن مظهر عنه عن قتادة عن النضر ولفظه: "من أعتق شقصا له في مملوك فعليه خلاصه إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعي غير مشقوق عليه" وأما رواية شعبة فأخرجها مسلم والنسائي من طريق غندر عنه عن قتادة بإسناده ولفظه: "عن النبي صلى الله عليه وسلم في المملوك بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه قال: يضمن" ، ومن طريق معاذ عن شعبة بلفظ: "من أعتق شقصا من مملوك فهو حر من ماله" وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق الطيالسي عن شعبة وأبو داود من طريق روح عن شعبة بلفظ: "من أعتق مملوكا بينه وبين آخر فعليه خلاصه" وقد اختصر ذكر السعاية أيضا هشام الدستوائي عن قتادة إلا أنه اختلف عليه في إسناده: فمنهم من ذكر فيه النضر بن أنس ومنهم من لم يذكره، وأخرجه أبو داود والنسائي بالوجهين ولفظ أبي داود والنسائي جميعا من طريق معاذ بن هشام عن أبيه "من أعتق نصيبا له في مملوك عتق من ماله إن كان له مال" ولم يختلف على هشام في هذا القدر من المتن، وغفل عبد الحق فزعم أن هشاما وشعبة ذكرا الاستسعاء فوصلاه، وتعقب ذلك عليه ابن المواق فأجاد، وبالغ ابن العربي فقال: اتفقوا على أن ذكر الاستسعاء ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول قتادة. ونقل الخلال في "العلل" عن أحمد أنه ضعف رواية سعيد في الاستسعاء، وضعفها أيضا الأثرم عن سليمان بن حرب، واستند إلى أن فائدة الاستسعاء أن لا يدخل الضرر على الشريك قال: فلو كان الاستسعاء مشروعا للزم أنه لو أعطاه مثلا كل شهر درهمين أنه يجوز ذلك، وفي ذلك غاية الضرر على الشريك ا هـ، وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة، قال النسائي: بلغني أن هماما رواه فجعل هذا الكلام أي الاستسعاء من قول قتادة، وقال الإسماعيلي: قوله: "ثم استسعي العبد" ليس في الخبر مسندا، وإنما هو قول قتادة مدرج في الخبر على ما رواه همام. وقال ابن المنذر والخطابي: هذا الكلام الأخير من فتيا قتادة ليس في المتن. قلت: ورواية همام قد أخرجها أبو داود عن محمد بن كثير عنه عن قتادة لكنه لم يذكر الاستسعاء أصلا ولفظه: "أن رجلا أعتق شقصا من غلام، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه وغرمه بقية ثمنه" نعم رواه عبد الله بن يزيد المقرئ عن همام فذكر فيه السعاية وفصلها من الحديث المرفوع أخرجه الإسماعيلي وابن المنذر

(5/157)


والدار قطني والخطابي والحاكم في "علوم الحديث"والبيهقي والخطيب في "الفصل والوصل" كلهم من طريقه ولفظه مثل رواية محمد بن كثير سواء وزاد "قال: فكان قتادة يقول: إن لم يكن له مال استسعي العبد قال الدار قطني: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول ما أحسن ما رواه همام ضبطه وفصل بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وبين قول قتادة، هكذا جزم هؤلاء بأنه مدرج. وأبى ذلك آخرون منهم صاحبا الصحيح فصححا كون الجميع مرفوعا، وهو الذي رجحه ابن دقيق العيد وجماعة، لأن سعيد بن أبي عروبة أعرف بحديث قتادة لكثرة ملازمته له وكثرة أخذه عنه من همام وغيره، وهشام وشعبة إن كانا أحفظ من سعيد لكنهما لم ينافيا ما رواه، وإنما اقتصرا من الحديث على بعضه، وليس المجلس متحدا حتى يتوقف في زيادة سعيد، فإن ملازمة سعيد لقتادة كانت أكثر منهما فسمع منه ما لم يسمعه غيره، وهذا كله لو انفرد، وسعيد لم ينفرد، وقد قال النسائي في حديث أبي قتادة عن أبي المليح في هذا الباب بعد أن ساق الاختلاف فيه على قتادة: هشام وسعيد أثبت في قتادة من همام، وما أعل به حديث سعيد من كونه اختلط أو تفرد به مردود لأنه في الصحيحين وغيرهما من رواية من سمع منه قبل الاختلاط كيزيد بن زريع ووافقه عليه أربعة تقدم ذكرهم وآخرون معهم لا نطيل بذكرهم، وهمام هو الذي انفرد بالتفصيل، وهو الذي خالف الجميع في القدر المتفق على رفعه فإنه جعله واقعة عين وهم جعلوه حكما عاما، فدل على أنه لم يضبطه كما ينبغي. والعجب ممن طعن في رفع الاستسعاء بكون همام جعله من قول قتادة ولم يطعن فيما يدل على ترك الاستسعاء وهو قوله في حديث ابن عمر في الباب الماضي "وإلا فقد عتق منه ما عتق" بكون أيوب جعله من قول نافع كما تقدم شرحه، ففصل قول نافع من الحديث وميزه كما صنع همام سواء فلم يجعلوه مدرجا كما جعلوا حديث همام مدرجا مع كون يحيى بن سعيد وافق أيوب في ذلك وهمام لم يوافقه أحد، وقد جزم بكون حديث نافع مدرجا محمد بن وضاح وآخرون، والذي يظهر أن الحديثين صحيحان مرفوعان وفاقا لعمل صاحبي الصحيح، وقال ابن المواق: والإنصاف أن لا نوهم الجماعة بقول واحد مع احتمال أن يكون سمع قتادة يفتي به، فليس بين تحديثه به مرة وفتياه به أخرى منافاة. قلت: ويؤيد ذلك أن البيهقي أخرج من طريق الأوزاعي عن قتادة أنه أفتى بذلك، والجمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة ممكن بخلاف ما جزم به الإسماعيلي، قال ابن دقيق العيد: حسبك بما اتفق عليه الشيخان فإنه أعلى درجات الصحيح، والذين لم يقولوا بالاستسعاء تعللوا في تضعيفه بتعليلات لا يمكنهم الوفاء بمثلها في المواضع التي يحتاجون إلى الاستدلال فيها بأحاديث يرد عليها مثل تلك التعليلات، وكأن البخاري خشي من الطعن في رواية سعيد بن أبي عروبة فأشار إلى ثبوتها بإشارات خفية كعادته، فإنه أخرجه من رواية يزيد بن زريع عنه وهو من أثبت الناس فيه وسمع منه قبل الاختلاط، ثم استظهر له برواية جرير بن حازم بمتابعته لينفي عنه التفرد، ثم أشار إلى أن غيرهما تابعهما ثم قال: اختصره شعبة، وكأنه جواب عن سؤال مقدر، وهو أن شعبة أحفظ الناس لحديث قتادة فكيف لم يذكر الاستسعاء، فأجاب بأن هذا لا يؤثر فيه ضعفا لأنه أورده مختصرا وغيره ساقه بتمامه، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد والله أعلم. وقد وقع ذكر الاستسعاء في غير حديث أبي هريرة: أخرجه الطبراني من حديث جابر، وأخرجه البيهقي من طريق خالد بن أبي قلابة عن رجل من بني عذرة، وعمدة من ضعف حديث الاستسعاء في حديث ابن عمر قوله: "وإلا فقد عتق منه ما عتق" وقد تقدم أنه في حق المعسر وأن المفهوم من ذلك الجزء الذي لشريك المعتق باق على حكمه الأول، وليس فيه التصريح بأن يستمر رقيقا، ولا فيه التصريح بأنه يعتق كله. وقد احتج

(5/158)


بعض من ضعف رفع الاستسعاء بزيادة وقعت في الدار قطني وغيره من طريق إسماعيل بن أمية وغيره عن نافع عن ابن عمر قال في آخره: "ورق منه ما بقي" وفي إسناده إسماعيل بن مرزوق الكعبي وليس بالمشهور عن يحيى بن أيوب وفي حفظه شيء عنهم، وعلى تقدير صحتها فليس فيها أنه يستمر رقيقا، بل هي مقتضى المفهوم من رواية غيره، وحديث الاستسعاء فيه بيان الحكم بعد ذلك فللذي صحح رفعه أن يقول: معنى الحديثين أن المعسر إذا أعتق حصته لم يسر العتق في حصة شريكه بل تبقى حصة شريكه على حالها وهي الرق، ثم يستسعي في عتق بقيته فيحصل ثمن الجزء الذي لشريك سيده ويدفعه إليه ويعتق، وجعلوه في ذلك كالمكاتب، وهو الذي جزم به البخاري. والذي يظهر أنه في ذلك باختياره لقوله: "غير مشقوق عليه" فلو كان ذلك على سبيل اللزوم بأن يكلف العبد الاكتساب والطلب حتى يحصل ذلك لحصل له بذلك غاية المشقة، وهو لا يلزم في الكتابة بذلك عند الجمهور لأنها غير واجبة فهذه مثلها، وإلى هذا الجمع مال البيهقي وقال: لا يبقى بين الحديثين معارضة أصلا، وهو كما قال إلا أنه يلزم منه أن يبقى الرق في حصة الشريك إذا لم يختر العبد الاستسعاء، فيعارضه حديث أبي المليح عن أبيه "أن رجلا أعتق شقصا له من غلام فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لله شريك" وفي رواية: "فأجاز عتقه" أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد قوي وأخرجه أحمد بإسناد حسن من حديث سمرة "أن رجلا أعتق شقصا له في مملوك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو كله، فليس لله شريك" ويمكن حمله على ما إذا كان المعتق غنيا أو على ما إذا كان جميعه له فأعتق بعضه، فقد روى أبو داود من طريق ملقام بن التلب عن أبيه "أن رجلا أعتق نصيبه من مملوك فلم يضمنه النبي صلى الله عليه وسلم وإسناده حسن، وهو محمول على المعسر وإلا لتعارضا. وجمع بعضهم بطريق أخرى فقال أبو عبد الملك: المراد بالاستسعاء أن العبد يستمر في حصة الذي لم يعتق رقيقا فيسعى في خدمته بقدر ما له فيه من الرق، قالوا ومعنى قوله: "غير مشقوق عليه" أي من وجه سيده المذكور فلا يكلفه من الخدمة فوق حصة الرق، لكن يرد على هذا الجمع قوله في الرواية المتقدمة "واستسعي في قيمته لصاحبه"، واحتج من أبطل الاستسعاء بحديث عمران بن حصين عند مسلم: "أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة" ووجه الدلالة منه أن الاستسعاء لو كان مشروعا لنجز من كل واحد منهم عتق ثلثه وأمره بالاستسعاء في بقية قيمته لورثة الميت، وأجاب من أثبت الاستسعاء بأنها واقعة عين فيحتمل أن يكون قبل مشروعية الاستسعاء، ويحتمل أن يكون الاستسعاء مشروعا إلا في هذه الصورة وهي ما إذا أعتق جميع ما ليس له أن يعتقه، وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد رجاله ثقات عن أبي قلابة عن رجل من بني عذرة "أن رجلا منهم أعتق مملوكا له عند موته وليس له مال غيره فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثه وأمره أن يسعى في الثلثين" وهذا يعارض حديث عمران، وطريق الجمع بينهما ممكن. واحتجوا أيضا بما رواه النسائي من طريق سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "من أعتق عبدا وله فيه شركاء وله وفاء فهو حر ويضمن نصيب شركائه بقيمته لما أساء من مشاركتهم وليس على العبد شيء، والجواب مع تسليم صحته أنه مختص بصورة اليسار لقوله فيه: "وله وفاء"، والاستسعاء إنما هو في صورة الإعسار كما تقدم فلا حجة فيه، وقد ذهب إلى الأخذ بالاستسعاء إذا كان المعتق معسرا أبو حنيفة وصاحباه والأوزاعي والثوري وإسحاق وأحمد في رواية وآخرون، ثم اختلفوا فقال الأكثر: يعتق جميعه في الحال ويستسعي العبد في تحصيل قيمة نصيب الشريك، وزاد ابن أبي ليلى فقال: ثم يرجع العبد على المعتق الأول بما أداه للشريك، وقال:

(5/159)


فقال: يعتق كله وتقوم حصة الشريك فتؤخذ إن كان المعتق موسرا، وترتب في ذمته إن كان معسرا.

(5/160)


باب الخطأ والنسيان في العتاقةو الطلاق ونحوه ولا عتاقة ألا لوجة الله تعالى وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لكل امري مانوى) ولا نية للناسي والمخطي
...
6 - باب: الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ فِي الْعَتَاقَةِ وَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ وَلاَ عَتَاقَةَ إِلاَّ لِوَجْهِ اللَّهِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". وَلاَ نِيَّةَ لِلنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ
2528- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ"
[الحديث 2528- طرفاه في: 5269 ، 6664]
2529- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِامْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"
قوله: "باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه" أي من التعليقات لا يقع شيء منها إلا بالقصد، وكأنه أشار إلى رد ما روي عن مالك أنه يقع الطلاق والعتاق عامدا كان أو مخطئا ذاكرا أو ناسيا، وقد أنكره كثير من أهل مذهبه، قال الداودي: وقوع الخطأ في الطلاق والعتاق أن يريد أن يلفظ بشيء غيرهما فيسبق لسانه إليهما، وأما النسيان ففيما إذا حلف ونسي. قوله: "ولا عتاقة إلا لوجه الله" سيأتي في الطلاق نقل معنى ذلك عن علي رضي الله عنه، وفي الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا: "لا طلاق إلا لعدة، ولا عتاق إلا لوجه الله" وأراد المصنف بذلك إثبات اعتبار النية، لأنه لا يظهر كونه لوجه الله إلا مع القصد، وأشار إلى الرد على من قال: من أعتق عبده لوجه الله أو الشيطان أو للصنم عتق لوجود ركن الإعتاق، والزيادة على ذلك لا تخل بالعتق. قوله: هو طر "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل امرئ ما نوى" ف من حديث عمر، وقد ذكره في الباب بلفظ: "وإنما لامرئ ما نوى" واللفظ المعلق أورده في أول الكتاب حيث قال فيه: "وإنما لكل امرئ ما نوى" وأورده في أواخر الإيمان بلفظ: "ولكل امرئ ما نوى" و "إنما" فيه مقدرة. قوله: "ولا نية للناسي والمخطئ" وقع في رواية القابسي "الخاطئ" بدل المخطئ، قالوا: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره والخاطئ من تعمد لما لا ينبغي. وأشار المصنف بهذا الاستنباط إلى بيان أخذ الترجمة من حديث: "الأعمال بالنيات" ويحتمل أن يكون أشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض الطرق كعادته، وهو الحديث الذي يذكره أهل الفقه والأصول كثيرا بلفظ: "رفع الله عن أمتي

(5/160)


الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" أخرجه ابن ماجة من حديث ابن عباس، إلا أنه بلفظ: "وضع" بدل "رفع" وأخرجه الفضل بن جعفر التيمي في فوائده بالإسناد الذي أخرجه به ابن ماجة بلفظ: "رفع" ورجاله ثقات، إلا أنه أعل بعلة غير قادحة، فإنه من رواية الوليد عن الأوزاعي عن عطاء عنه، وقد رواه بشر بن بكر عن الأوزاعي فزاد: "عبيد بن عمير" بين عطاء وابن عباس أخرجه الدار قطني والحاكم والطبراني. وهو حديث جليل، قال بعض العلماء: ينبغي أن يعد نصف الإسلام، لأن الفعل إما عن قصد واختيار أو لا، الثاني ما يقع عن خطأ أو نسيان أو إكراه فهذا القسم معفو عنه باتفاق وإنما اختلف العلماء: هل المعفو عنه الإثم أو الحكم أو هما معا؟ وظاهر الحديث الأخير، وما خرج عنه كالقتل فله دليل منفصل، وسيأتي بسط القول في ذلك في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. وتقدير قوله: "ولكل امرئ ما نوى" يعتد لكل امرئ ما نوى، وهو يحتمل أن يكون في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط وبحسب هذين الاحتمالين وقع الاختلاف في الحكم. قوله: "عن زرارة بن أوفى" يأتي في الأيمان والنذور بلفظ: "حدثنا زرارة" وهو من ثقات التابعين، كان قاضي البصرة، وليس له في البخاري إلا أحاديث يسيرة. قوله: "ما وسوست به صدورها" أتي في الطلاق بلفظ: "ما حدثت به أنفسها" وهو المشهور، و "صدورها" في أكثر الروايات بالضم، وللأصيلي بالفتح على أن وسوست مضمن معنى حدثت، وحكى الطبري هذا الاختلاف في "حدثت به أنفسها" والضم كقوله تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} . قوله: "ما لم تعمل أو تكلم" ويأتي في النذور بلفظ: "ما لم تعمل به" والمراد نفي الحرج عما يقع في النفس حتى يقع العمل بالجوارح، أو القول باللسان على وفق ذلك. والمراد بالوسوسة تردد الشيء في النفس من غير أن يطمئن إليه ويستقر عنده، ولهذا فرق العلماء بين الهم والعزم كما سيأتي الكلام عليه في حديث: "من هم بحسنة" ، ومن هنا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة، لأن الوسوسة لا اعتبار لها عند عدم التوطن فكذلك المخطئ والناسي لا توطن لهما، وزاد ابن ماجة عن هشام بن عمار عن ابن عيينة في آخره: "وما استكرهوا عليه" وأظنها مدرجة من حديث آخر، دخل على هشام حديث في حديث. قيل: لا مطابقة بين الحديث والترجمة لأن الترجمة في النسيان والحديث في حديث النفس، وأجاب الكرماني بأنه أشار إلى إلحاق النسيان بالوسوسة فكما أنه لا اعتبار للوسوسة لأنها لا تستقر فكذلك الخطأ والنسيان لا استقرار لكل منهما، ويحتمل أن يقال: إن شغل البال بحديث النفس ينشأ عن الخطأ والنسيان، ومن ثم رتب على من لا يحدث نفسه في الصلاة ما سبق في حديث عثمان في كتاب الطهارة من الغفران. "تنبيه": ذكر خلف في "الأطراف" أن البخاري أخرج هذا الحديث في العتق عن محمد بن عرعرة عن شعبة عن قتادة، ولم نره فيه، ولم يذكره أبو مسعود ولا الطوقي ولا ابن عساكر، ولا استخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم، وسيأتي الكلام على هذا الحديث مستوفى في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. قوله: "عن سفيان" هو الثوري. قوله: "الأعمال بالنية ولامرئ ما نوى" كذا أخرجه بحذف إنما في الموضعين، وقد أخرجه أبو داود عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه فقال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى" . قوله: "إلى دنيا" في رواية الكشميهني: "لدنيا" وهي رواية أبي داود المذكورة، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في أول الكتاب، ويأتي بقية منه في ترك الحيل وغيره إن شاء الله تعالى.

(5/161)


باب إذا قال لعبده هو لله ونوى العتق والإشهاد في العتق
...
7 - باب: إِذَا قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ هُوَ لِلَّهِ وَنَوَى الْعِتْقَ وَالإِشْهَادِ فِي الْعِتْقِ
2530- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا أَقْبَلَ يُرِيدُ الإِسْلاَمَ - وَمَعَهُ غُلاَمُهُ - ضَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَأَقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا غُلاَمُكَ قَدْ أَتَاكَ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُ حُرٌّ. قَالَ فَهُوَ حِينَ يَقُولُ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا ... عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّتِ
[الحديث 2530- أطرافه في: 2531 ، 3532 ، 4393]
2531- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا ... عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّتِ
قَالَ: وَأَبَقَ مِنِّي غُلاَمٌ لِي فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعْتُهُ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الْغُلاَمُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا غُلاَمُكَ فَقُلْتُ: هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَأَعْتَقْتُهُ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: لَمْ يَقُلْ أَبُو كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ "حُرٌّ"
2532- حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: "لَمَّا أَقْبَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعَهُ غُلاَمُهُ - وَهُوَ يَطْلُبُ الإِسْلاَمَ فَضَلَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ - بِهَذَا وَقَالَ - أَمَا إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُ لِلَّهِ"
قوله "باب إذا قال" أي الشخص "لعبده" وفي رواية الأصيلي وكريمة: "إذا قال رجل لعبده": "هو لله ونوى العتق" أي صح. قوله: "والإشهاد في العتق" قيل هو بجر الإشهاد، أي وباب الإشهاد في العتق، وهو مشكل لأنه إن قدر منونا احتاج إلى خبر، وإلا لزم حذف التنوين من الأول ليصح العطف عليه وهو بعيد، والذي يظهر أن يقرأ: "والإشهاد" بالضم فيكون معطوفا على باب لا على ما بعده، وباب بالتنوين، ويجوز أن يكون التقدير: وحكم الإشهاد في العتق، قال: المهلب لا خلاف بين العلماء إذا قال لعبده هو لله ونوى العتق أنه يعتق، وأما الإشهاد في العتق فهو من حقوق المعتق، وإلا فقد تم العتق وإن لم يشهد. قلت: وكأن المصنف أشار إلى تقييد ما رواه هشيم عن مغيرة "أن رجلا قال لعبده أنت لله، فسئل الشعبي وإبراهيم وغيرهما فقالوا: هو حر" أخرجه ابن أبي شيبة، فكأنه قال محل ذلك إذا نوى العتق، وإلا فلو قصد أنه لله بمعنى غير العتق لم يعتق. قوله: "عن إسماعيل" هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، ورجاله كوفيون إلا الصحابي. قوله: "لما أقبل يريد

(5/162)


الإسلام" ظاهره أنه لم يكن أسلم بعد. قوله: "ومعه غلامه" لم أقف على اسمه. قوله: "ضل كل واحد" أي ضاع. قوله: "فهو حين يقول" أي الوقت الذي وصل فيه إلى المدينة، وقوله في الطريق الثانية "قلت في الطريق" أي عند انتهائه، وظاهره أن الشعر من نظم أبي هريرة، وقد نسبه بعضهم إلى غلامه حكاه ابن التين، وحكى الفاكهي في "كتاب مكة" عن مقدم بن حجاج السوائي أن البيت المذكور لأبي مرثد الغنوي في قصة له، فعلى هذا فيكون أبو هريرة قد تمثل به. قوله في الشعر "يا ليلة" كذا في جميع الروايات. قال الكرماني: ولا بد من إثبات فاء أو واو في أوله ليصير موزونا، وفيه نظر لأن هذا يسمى في العروض الخرم بالمعجمة المفتوحة والراء الساكنة، وهو أن يحذف من أول الجزء حرف من حروف المعاني، وما جاز حذفه لا يقال لا بد من إثباته، وذلك أمر معروف عند أهله. قوله: "وعنائها" بفتح العين وبالنون والمد أي تعبها، و "دارة الكفر" الدارة أخص من الدار، وقد كثر استعمالها في أشعار العرب كقول امرئ القيس: ولا سيما يوما بدارة جلجل. قوله: في الطريق الثانية "حدثنا عبيد الله بن سعيد" هو أبو قدامة السرخسي كذا في جميع الروايات التي اتصلت لنا "عبيد الله" بالتصغير، وفي "مستخرج أبي نعيم": أخرجه البخاري عن أبي سعيد الأشج، وأبو سعيد اسمه عبد الله مكبر فهذا محتمل، وذكر أبو مسعود وخلف أنه أخرجه هنا عن عبيد بن إسماعيل، وعبيد بغير إضافة ممن يروي في البخاري عن أبي أسامة، إلا أن الذي وقفت عليه هو الذي قدمت ذكره والله أعلم. قوله: "وأبق" بفتح الموحدة وحكى ابن القطاع كسرها. قوله: "قلت هو حر لوجه الله فأعتقه" أي باللفظ المذكور، وليس المراد أنه أعتقه بعد ذلك، وهذه الفاء هي التفسيرية. قوله: "لم يقل أبو كريب عن أبي أسامة حر" وصله في أواخر المغازي فقال: "حدثنا محمد بن العلاء وهو أبو كريب حدثنا أبو أسامة" وساق الحديث وقال في آخره: "هو لوجه الله فأعتقه" وكذا أخرجه أحمد بن حنبل ومحمد بن سعد عن أبي أسامة. وكذا أخرجه الإسماعيلي من وجهين عن أبي أسامة ليس فيه: "حر" وكذا أخرجه أبو نعيم من وجهين عن أبي أسامة أثبت قوله: "حر " في أحدهما، ووقع في بعض النسخ من البخاري "هو حر لوجه الله" وهو خطأ ممن ذكره عن البخاري في هذه الرواية لتصريحه بنفيه عن شيخه بعينه. قوله: في الطريق الأخيرة "فضل أحدهما صاحبه" بالنصب على نزع الخافض، وأصله "من صاحبه" كما في الطريق الأولى، ولو كانت أضل معداة بالهمز لم يحتج إلى تقدير، وقد ثبت كذلك في بعض الروايات، وفي الحديث استحباب العتق عند بلوغ الغرض والنجاة من المخاوف، وفيه جواز قول الشعر وإنشاده والتمثل به والتألم من النصب والسهر وغير ذلك.

(5/163)


8 - باب: أُمِّ الْوَلَدِ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّهَا"
2533- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كانَ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنْ يَقْبِضَ إِلَيْهِ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ قَالَ عُتْبَةُ إِنَّهُ ابْنِي فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْفَتْحِ أَخَذَ سَعْدٌ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى رَسُولِ

(5/163)


اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ مَعَهُ بِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ. فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ابْنُ أَخِي عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَخِي، ابْنُ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَإِذَا هُوَ أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ مِمَّا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ وَكَانَتْ سَوْدَةُ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب أم الولد" أي هل يحكم بعتقها أم لا؟ أورد فيه حديثين وليس فيهما ما يفصح بالحكم عنده، وأظن ذلك لقوة الخلاف في المسألة بين السلف، وإن كان الأمر استقر عند الخلف على المنع حتى وافق في ذلك ابن حزم ومن تبعه من أهل الظاهر على عدم جواز بيعهن ولم يبق إلا شذوذ. قوله: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربها" تقدم موصولا مطولا في كتاب الإيمان بمعناه، وتقدم شرحه هناك مستوفى، وأن المراد بالرب السيد أو المالك، وتقدم أنه لا دليل فيه على جواز بيع أم الولد ولا عدمه، قال النووي: استدل به إمامان جليلان أحدهما على جواز بيع أمهات الأولاد والآخر على منعه، فأما من استدل به على الجواز فقال: ظاهر قوله: "ربها" أن المراد به سيدها لأن ولدها من سيدها ينزل منزلة سيدها لمصير مال الإنسان إلى ولده غالبا، وأما من استدل به على المنع فقال: لا شك أن الأولاد من الإماء كانوا موجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه كثيرا، والحديث مسوق للعلامات التي قرب قيام الساعة، فدل على حدوث قدر زائد على مجرد التسري. قال: والمراد أن الجهل يغلب في آخر الزمان حتى تباع أمهات الأولاد فيكثر ترداد الأمة في الأيدي حتى يشتريها ولدها وهو لا يدري، فيكون فيه إشارة إلى تحريم بيع أمهات الأولاد، ولا يخفى تكلف الاستدلال من الطرفين، والله أعلم. ثم أورد المصنف حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة، وسيأتي شرحه في كتاب الفرائض، والشاهد منه قول عبد بن زمعة "أخي ولد على فراش أبي" وحكمه صلى الله عليه وسلم لابن زمعة بأنه أخوه، فإن فيه ثبوت أمية أم الولد، ولكن ليس فيه تعرض لحريتها ولا لإرقاقها، إلا أن ابن المنير أجاب بأن فيه إشارة إلى حرية أم الولد لأنه جعلها فراشا فسوى بينها وبين الزوجة في ذلك، وأفاد الكرماني أنه رأى في بعض النسخ في آخر الباب ما نصه "فسمى النبي صلى الله عليه وسلم أم ولد زمعة أمة ووليدة فدل على أنها لم تكن عتيقة" أ هـ. فعلى هذا فهو ميل منه إلى أنها لا تعتق بموت السيد، وكأنه اختار أحد التأويلين في الحديث الأول، وقد تقدم ما فيه. قال الكرماني: وبقية كلامه لم تكن عتيقة من هذا الحديث، لكن من يحتج بعتقها في هذه الآية: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يكون له ذلك حجة. قال الكرماني: كأنه أشار إلى أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عبد بن زمعة على قوله: "أمة أبي" ينزل منزلة القول منه صلى الله عليه وسلم، ووجه الدلالة مما قال أن الخطاب في الآية للمؤمنين، وزمعة لم يكن مؤمنا فلم يكن له ملك يمين فيكون ما في يده في حكم الأحرار. قال: ولعل غرض البخاري أن بعض الحنفية لا يقول: إن الولد في الأمة للفراش، فلا يلحقونه بالسيد، إلا إن أقر به، ويخصون الفراش بالحرة، فإذا احتج عليهم بما في هذا الحديث أن الولد للفراش قالوا: ما كانت أمة بل كانت حرة، فأشار البخاري إلى رد حجتهم هذه بما ذكره. وتعلق الأئمة بأحاديث أصحها حديثان: أحدهما

(5/164)


حديث أبي سعيد في سؤالهم عن العزل كما سيأتي شرحه في كتاب النكاح، وممن تعلق به النسائي في السنن فقال: "باب ما يستدل به على منع بيع أم الولد" فساق حديث أبي سعيد، ثم ساق حديث عمرو بن الحارث الخزاعي كما سيأتي في الوصايا، قال: "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا ولا أمة" الحديث، ووجه الدلالة من حديث أبي سعيد أنهم قالوا: "إنا نصيب سبايا فنحب الأثمان، فكيف ترى في العزل"؟ وهذا لفظ البخاري كما مضى في "باب بيع الرقيق" من كتاب البيوع؛ قال البيهقي: لولا أن الاستيلاء يمنع من نقل الملك وإلا لم يكن لعزلهم لأجل محبة الأثمان فائدة. وللنسائي من وجه آخر عن أبي سعيد "فكان منا من يريد أن يتخذ أهلا، ومنا من يريد البيع، فتراجعنا في العزل" الحديث. وفي رواية لمسلم: "وطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل" وفي الاستدلال به نظر، إذ لا تلازم بين حملهن وبين استمرار امتناع البيع، فلعلهم أحبوا تعجيل الفداء وأخذ الثمن، فلو حملت المسبية لتأخر بيعها إلى وضعها. ووجه الدلالة من حديث عمرو بن الحارث أن مارية أم ولده إبراهيم كانت قد عاشت بعده، فلولا أنها خرجت عن الوصف بالرق لما صح قوله: "أنه لم يترك أمة"، وقد ورد الحديث عن عائشة أيضا عند ابن حبان مثله، وهو عند مسلم لكن ليس فيه ذكر الأمة، وفي صحة الاستدلال بذلك وقفة، لاحتمال أن يكون نجز عتقها، وأما بقية أحاديث الباب فضعيفة، ويعارضها حديث جابر "كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حي لا يرى بذلك بأسا" وفي لفظ: "بعنا أمهات الأولاد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر نهانا فانتهينا" وقول الصحابي: "كنا نفعل" محمول على الرفع على الصحيح، وعليه جرى عمل الشيخين في صحيحهما ولم يستند الشافعي في القول بالمنع إلا إلى عمر فقال: قلته تقليدا لعمر. قال بعض أصحابه: لأن عمر لما نهى عنه فانتهوا صار إجماعا، يعني فلا عبرة بندور المخالف بعد ذلك، ولا يتعين معرفة سند الإجماع. قوله: "أخذ سعد ابن وليدة" سعد بالرفع والتنوين وابن منصوب على المفعولية ويكتب بالألف، وقوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" برفع عبد ويجوز نصبه، وكذا ابن، وكذا قوله يا سودة بنت زمعة. "تنبيهان" أحدهما وقع في نسخة الصغاني هنا "قال أبو عبد الله يعني المصنف: سمى النبي صلى الله عليه وسلم أم ولد زمعة أمة ووليدة فلم تكن عتيقة لهذا الحديث، ولكن من يحتج بعتقها في هذه الآية: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يكون له ذلك حجة". الثاني ذكر المزي في "الأطراف" أن البخاري قال عقب طريق شعيب عن الزهري هذه "وقال الحديث عن يونس عن الزهري" ولم أر ذلك في شيء من نسخ البخاري، نعم ذكر هذا التعليق في "باب غزوة الفتح" من كتاب المغازي مقرونا بطريق مالك عن الزهري والله أعلم.

(5/165)


9 - باب: بَيْعِ الْمُدَبَّرِ
2534- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فَبَاعَهُ قَالَ جَابِرٌ مَاتَ الْغُلاَمُ عَامَ أَوَّلَ"
قوله: "باب بيع المدبر" أي جوازه، أو ما حكمه؟ وقد تقدمت هذه الترجمة بعينها في كتاب البيوع، وأورد

(5/165)


هنا حديث جابر مختصرا جدا، وقد تقدم شرحه مستوفى هناك. قوله: "أعتق رجل منا عبدا له" لم يقع واحد منهما مسمى في شيء من طرق البخاري، وقد قدمت في البيوع أن في رواية مسلم من طريق أيوب عن أبي الزبير عن جابر "أن رجلا من الأنصار يقال له أبو مذكور أعتق غلاما له عن دبر يقال له يعقوب" ففيه التعريف بكل منهما، وله من رواية الليث عن أبي الزبير أن الرجل كان من بني عذرة، وكذا للبيهقي من طريق مجاهد عن جابر، فلعله كان من بني عذرة وحالف الأنصار. قوله: "فدعا النبي صلى الله عليه وسلم" حذف المفعول. وفي رواية أيوب المذكورة "فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يشتريه" أي الغلام. قوله: "فاشتراه نعيم بن عبد الله" في رواية ابن المنكدر عن جابر كما مضى في الاستقراض "نعيم بن النحام" وهو نعيم بن عبد الله المذكور، والنحام بالنون والحاء المهملة الثقيلة عند الجمهور، وضبطه ابن الكلبي بضم النون وتخفيف الحاء، ومنعه الصغاني، وهو لقب نعيم، وظاهر الرواية أنه لقب أبيه، قال النووي: وهو غلط لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فسمعت فيها نحمة من نعيم" ا هـ. وكذا قال ابن العربي وعياض وغير واحد، لكن الحديث المذكور من رواية الواقدي وهو ضعيف، ولا ترد الروايات الصحيحة بمثل هذا، فلعل أباه أيضا كان يقال له النحام. والنحمة بفتح النون وإسكان المهملة: الصوت وقيل السعلة وقيل النحنحة. ونعيم المذكور هو ابن عبد الله بن أسيد بن عبد بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي، وأسيد وعبيد وعويج في نسبه مفتوح أول كل منها، قرشي عدوي أسلم قديما قبل عمر فكتم إسلامه، وأراد الهجرة فسأله بنو عدي أن يقيم على أي دين شاء لأنه كان ينفق على أراملهم وأيتامهم ففعل، ثم هاجر عام الحديبية ومعه أربعون من أهل بيته، واستشهد في فتوح الشام زمن أبي بكر أو عمر. وروى الحارث في مسنده بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه صالحا، وكان اسمه الذي يعرف به نعيما. قوله: "قال جابر مات الغلام عام أول" يأتي في الأحكام من رواية حماد عن عمرو "سمعت جابرا يقول عبدا قبطيا مات عام أول" زاد مسلم من طريق ابن عيينة عن عمرو "في إمارة ابن الزبير" وقد تقدم في "باب بيع المدبر" من البيوع نقل مذاهب الفقهاء في بيع المدبر، وأن الجواز مطلقا مذهب الشافعي وأهل الحديث، وقد نقله البيهقي في "المعرفة" عن أكثر الفقهاء، وحكى النووي عن الجمهور مقابله وعن الحنفية والمالكية أيضا تخصيص المنع بمن دبر تدبيرا مطلقا، أما إذا قيده - كأن يقول: إن مت من مرضي هذا ففلان حر - فإنه يجوز بيعه لأنها كالوصية فيجوز الرجوع فيها، وعن أحمد يمتنع بيع المدبرة دون المدبر، وعن الليث يجوز بيعه إن شرط على المشتري عتقه، وعن ابن سيرين لا يجوز بيعه إلا من نفسه، ومال ابن دقيق العيد إلى تقييد الجواز بالحاجة فقال: من منع بيعه مطلقا كان الحديث حجة عليه لأن المنع الكلي يناقضه الجواز الجزئي. ومن أجازه في بعض الصور فله أن يقول: قلت بالحديث في الصورة التي ورد فيها، فلا يلزمه القول به في غير ذلك من الصور. وأجاب من أجازه مطلقا بأن قوله: "وكان محتاجا" لا مدخل له في الحكم، وإنما ذكر لبيان السبب في المبادرة لبيعه ليتبين للسيد جواز البيع، ولولا الحاجة لكان عدم البيع أولى. وأما من ادعى أنه إنما باع خدمته كما تقدمت حكايته في الباب المذكور فقد أجيب عنه بما تقدم، وهو أنه لا تعارض بين الحديثين، وبأن المخالفين لا يقولون بجواز بيع خدمة المدبر، وقد اتفقت طرق رواية عمرو بن دينار عن جابر أيضا على أن البيع وقع في حياة السيد، إلا ما أخرجه الترمذي من طريق ابن عيينة عنه بلفظ: "أن رجلا من الأنصار دبر غلاما له فمات ولم يترك مالا غيره: "الحديث، وقد أعله الشافعي بأنه سمعه من ابن عيينة مرارا لم يذكر قوله: "فمات"، وكذلك رواه الأئمة

(5/166)


أحمد وإسحاق وابن المديني والحميدي وابن أبي شيبة عن ابن عيينة، ووجه البيهقي الرواية المذكورة بأن أصلها "أن رجلا من الأنصار أعتق مملوكه إن حدث به حادث فمات، فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فباعه من نعيم" كذلك رواه مطر الوراق عن عمرو، قال البيهقي: فقوله فمات من بقية الشرط، أي فمات من ذلك الحدث، وليس إخبارا عن أن المدبر مات، فحذف من رواية ابن عيينة قوله: "إن حدث به حدث" فوقع الغلط بسبب ذلك والله أعلم ا هـ. وقد تقدم الجواب عما وقع من مثل ذلك في رواية عطاء عن جابر من طريق شريك عن سلمة بن كهيل في الباب المذكور والله أعلم.

(5/167)


10 - باب: بَيْعِ الْوَلاَءِ وَهِبَتِهِ
2535- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ بيع الولاء وهبته"
[الحديث 2535- طرفه في: 6756]
2536- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاَءَهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ فَأَعْتَقْتُهَا فَدَعَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَيَّرَهَا مِنْ زَوْجِهَا فَقَالَتْ: لَوْ أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا مَا ثَبَتُّ عِنْدَهُ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا"
قوله "باب بيع الولاء وهبته" أي حكمه، والولاء بالفتح والمد: حق ميراث المعتق من المعتق بالفتح. أورد فيه حديث ابن عمر المشهور، وسيأتي شرحه في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى مع توجيه عدم صحة بيعه من دلالة النهي المذكور. وحديث عائشة في قصة بريرة وسيأتي بعد عشرة أبواب. ووجه دخوله في الترجمة من قوله في أصل الحديث: "فإنما الولاء لمن أعتق" وهو إن كان لم يسقه هنا بهذا اللفظ فكأنه أشار إليه كعادته، ووجه الدلالة منه حصره في المعتق فلا يكون لغيره معه منه شيء، قال الخطابي: لما كان الولاء كالنسب كان من أعتق ثبت له الولاء كمن ولد له ولد ثبت له نسبه؛ فلو نسب إلى غيره لم ينتقل نسبه عن والده، وكذا إذا أراد نقل ولائه عن محله لم ينتقل.

(5/167)


11 - باب: إِذَا أُسِرَ أَخُو الرَّجُلِ أَوْ عَمُّهُ هَلْ يُفَادَى إِذَا كَانَ مُشْرِكًا؟
وَقَالَ أَنَسٌ: "قَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا"
وَكَانَ عَلِيٌّ لَهُ نَصِيبٌ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ الَّتِي أَصَابَ مِنْ أَخِيهِ عَقِيلٍ وَعَمِّهِ عَبَّاسٍ
2537- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رِجَالًا مِنْ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ائْذَنْ

(5/167)


12 - باب: عِتْقِ الْمُشْرِكِ
2538- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ أَخْبَرَنِي أَبِي "أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ وَأَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ قَالَ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا - يَعْنِي أَتَبَرَّرُ بِهَا – قَالَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ"
قوله: "باب عتق المشرك" يحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل أو المفعول، وعلى الثاني جرى ابن بطال فقال لا خلاف في جواز عتق المشرك تطوعا، وإنما اختلفوا في عتقه عن الكفارة، وحديث الباب في قصة حكيم بن حزام حجة في الأول، لأن حكيما لما أعتق وهو كافر لم يحصل له الأجر إلا بإسلامه فمن فعل ذلك وهو مسلم لم يكن بدونه بل أولى ا هـ. وقال ابن المنير: الذي يظهر أن مراد البخاري أن المشرك إذا أعتق مسلما نفذ عتقه وكذا إذا أعتق كافرا فأسلم العبد، قال: وأما قوله: "أسلمت على ما سلف لك من خير" فليس المراد به صحة التقرب منه في حال كفره، وإنما تأويله أن الكافر إذا فعل ذلك انتفع به إذا أسلم لما حصل له من التدرب على فعل الخير فلم يحتج إلى مجاهدة جديدة، فيثاب بفضل الله عما تقدم بواسطة انتفاعه بذلك بعد إسلامه انتهى. وقد قدمت لذلك أجوبة أخرى في كتاب الزكاة مع الكلام على بقية فوائد الحديث المذكور. قوله: "أن حكيم بن حزام أعتق" طاهر سياقه الإرسال لأن عروة لم يدرك زمن ذلك، لكن بقية الحديث أوضحت الوصل وهي قوله: "قال فسألت" ففاعل قال هو حكيم، فكأن عروة قال: قال حكيم، فيكون بمنزلة قوله: عن حكيم، وقد أخرجه مسلم من طريق أبي معاوية عن هشام فقال: "عن أبيه عن حكيم". قوله: "أتبرر بها" بالموحدة وراءين الأولى ثقيلة، أي أطلب بها البر وطرح الحنث، وقد تقدم نقل الخلاف في ضبطه في الزكاة. وقوله: "يعني أتبرر" هو من تفسير هشام بن عروة راويه كما ثبت عند مسلم والإسماعيلي، وقصر من زعم أنه تفسير البخاري.

(5/169)


باب من ملك من العرب رقيفقا فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية وقوله تعالى (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا ... الأية)
...
12 - باب: مَنْ مَلَكَ مِنْ الْعَرَبِ رَقِيقًا فَوَهَبَ وَبَاعَ وَجَامَعَ وَفَدَى وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى [النحل 75]: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
2539 ، 2540- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: "أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ذَكَرَ عُرْوَةُ أَنَّ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ فَقَالَ إِنَّ مَعِي مَنْ تَرَوْنَ وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا الْمَالَ وَإِمَّا السَّبْيَ وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ - وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ - فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ

(5/169)


فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا، تَائِبِينَ وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ طَيَّبْنَا: لَكَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّا لاَ نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ. فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ. فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ وَقَالَ أَنَسٌ قَالَ عَبَّاسٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا"
2541- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: "كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ فَكَتَبَ إِلَيَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ"
2542- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ قَالَ: "رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ فَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ وَهِيَ كَائِنَةٌ"
2543- حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "لاَ أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ.." وحَدَّثَنِي ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلاَثٍ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيهِمْ سَمِعْتُهُ: يَقُولُ هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ قَالَ: وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ: أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ"
[الحديث2543- طرفه في: 4366]
قوله: "باب من ملك من العرب رقيقا فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية" هذه الترجمة معقودة لبيان الخلاف في استرقاق العرب، وهي مسألة مشهورة، والجمهور على أن العربي إذا سبي جاز أن يسترق، وإذا تزوج أمة بشرطه كان ولدها رقيقا. وذهب الأوزاعي والثوري وأبو ثور إلى أن على سيد الأمة تقويم الولد ويلزم أبوه بأداء القيمة ولا يسترق الولد أصلا، وقد جنح المصنف إلى الجواز، وأورد الأحاديث الدالة على ذلك، ففي حديث المسور ما ترجم به من الهبة. وفي حديث أنس ما ترجم به من الفداء، وفي حديث ابن عمر ما ترجم به من سبي الذرية،

(5/170)


وفي حديث أبي سعيد ما ترجم به من الجماع ومن الفدية أيضا، ويتضمن ما ترجم به من البيع، وفي حديث أبي هريرة ما ترجم به من البيع لقوله في بعض طرقه: "ابتاعي" كما سأبينه، وقوله في الترجمة: "وقوله الله تعالى: {عَبْداً مَمْلُوكاً} إلى آخر الآية" قال ابن المنير: مناسبة الآية للترجمة من جهة أن الله تعالى أطلق العبد المملوك ولم يقيده بكونه عجميا فدل على أن لا فرق في ذلك بين العربي والعجمي انتهى. وقال ابن بطال: تأول بعض الناس من هذه الآية أن العبد لا يملك، وفي الاستدلال بها لذلك نظر لأنها نكرة في سياق الإثبات فلا عموم فيها، وقد ذكر قتادة أن المراد به الكافر خاصة. نعم ذهب الجمهور إلى كونه لا يملك شيئا واحتجوا بحديث ابن عمر الماضي ذكره في الشرب وغيره. وقالت طائفة: إنه يملك، روي ذلك عن عمر وغيره. واختلف قول مالك فقال: من باع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا بشرط. وقال فيمن أعتق عبدا وله مال: فإن المال للعبد إلا بشرط. قال: وحجته في البيع حديثه عن نافع المذكور وهو نص في ذلك، وحجته في العتق ما رواه عبيد الله بن أبي جعفر عن بكير بن الأشج عن نافع عن ابن عمر رفعه: "من أعتق عبدا فمال العبد له، إلا أن يستثنيه بسيده". قلت: وهو حديث أخرجه أصحاب السنن بإسناد صحيح، وفرق بعض أصحاب مالك بأن الأصل أنه لا يملك، لكن لما كان العتق صورة إحسان إليه ناسب ذلك أن لا ينزع منه ما بيده تكميلا للإحسان، ومن ثم شرعت المكاتبة وساغ له أن يكتسب ويؤدي إلى سيده، ولولا أن له تسلطا على ما بيده في صورة العتق ما أغنى ذلك عنه شيئا، والله أعلم. فأما قصة هوازن سيأتي شرحها مستوفى في المغازي، وقوله في هذه الطريق عن ابن شهاب "قال ذكر عروة" سيأتي في الشروط من طريق معمر عن الزهري "أخبرني عروة" وقوله: "استأنيت" بالمثناة قبل الألف المهموزة الساكنة ثم نون مفتوحة وتحتانية ساكنة أي انتظرت، وقوله: "حتى يفيء (1)" بفتح أوله ثم فاء مكسورة وهمزة بعد التحتانية الساكنة أي يرجع إلينا من مال الكفار من خراج أو غنيمة أو غير ذلك، ولم يرد الفيء الاصطلاحي وحده. وأما قصة بني المصطلق من حديث ابن عمر فعبد الله المذكور في الإسناد هو ابن المبارك، وقوله: "أغار على بني المصطلق" بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء وكسر اللام بعدها قاف، وبنو المصطلق بطن شهير من خزاعة وهو المصطلق بن سعيد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، ويقال إن المصطلق لقب واسمه جذيمة بفتح الجيم بعدها ذال معجمة مكسورة، وسيأتي شرح هذه الغزاة في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى، وقوله: "وهم غارون" بالغين المعجمة وتشديد الراء جمع غار بالتشديد أي غافل، أي أخذهم على غرة. قوله: "وأصاب يومئذ جويرية" بالجيم مصغرا بنت الحارث بن أبي ضرار بكسر المعجمة وتخفيف الراء ابن الحارث بن مالك بن المصطلق، وكان أبوها سيد قومه وقد أسلم بعد ذلك، وقد روى مسلم هذا الحديث من وجه آخر عن ابن عون وبين فيه أن نافعا استدل بهذا الحديث على نسخ الأمر بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال، وسيأتي البحث في ذلك في "باب الدعوة قبل القتال" من كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. وأما حديث أبي سعيد فسيأتي الكلام عليه في كتاب النكاح مستوفى إن شاء الله تعالى حيث ساقه هناك تاما، وقوله هنا: "ابن حبان"هو بفتح أوله والموحدة الثقيلة، وابن محيريز بالمهملة وراء وزاي مصغر، وقوله: "نسمة" بفتح النون والمهملة أي نفس. وأما حديث أبي هريرة أورده المصنف عن شيخين له كل منهما حدثه به عن جرير لكنه فرقهما، لأن أحدهما زاد فيه عن جرير إسنادا آخر، وساقه هنا على
ـــــــ
(1) لفظ الرواية في المتن "من أول ما يفئ علينا" بضم أوله من "أفاء"

(5/171)


لفظ أحدهما وهو محمد بن سلام، وسيأتي في المغازي على لفظ الآخر وهو زهير بن حرب، ومغيرة هو ابن مقسم الضبي، والحارث هو ابن يزيد، والعكلي بضم المهملة وسكون الكاف وليس له في البخاري إلا هذا الحديث، وقد أغفله الكلاباذي من رجال البخاري، وهو ثقة جليل القدر من أقران الراوي عنه مغيرة لكنه تقدم عليه في الوفاة، والإسناد كله كوفيون غير طرفيه الصحابي وشيخ البخاري. قوله: "ما زلت أحب بني تميم" أي القبيلة الكبيرة المشهورة ينتسبون إلى تميم بن مر بضم الميم بلا هاء ابن أد بضم أوله وتشديد الدال ابن طابخة بموحدة مكسورة ومعجمة ابن إلياس بن مضر. قوله: "منذ ثلاث" أي من حين سمعت الخصال الثلاث، زاد أحمد من وجه آخر عن أبي زرعة عن أبي هريرة "وما كان قوم من الأحياء أبغض إلي منهم فأحببتهم" ا هـ، وكان ذلك لما كان يقع بينهم وبين قومه في الجاهلية من العداوة. قوله: "هم أشد أمتي على الدجال" في رواية الشعبي عن أبي هريرة عند مسلم: "هم أشد الناس قتالا في الملاحم" وهي أعم من رواية أبي زرعة: ويمكن أن يحمل العام في ذلك على الخاص فيكون المراد بالملاحم أكبرها وهو قتال الدجال، أو ذكر الدجال ليدخل غيره بطريق الأولى. قوله: "هذه صدقات قومنا" إنما نسبهم إليه لاجتماع نسبهم بنسبه صلى الله عليه وسلم في إلياس بن مضر، ووقع عند الطبراني في "الأوسط" من طريق الشعبي عن أبي هريرة في هذا الحديث: "وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بنعم من صدقة بني سعد، فلما راعه حسنها قال: هذه صدقة قومي" ا هـ، وبنو سعد بطن كبير شهير من تميم، ينسبون إلى سعد بن زيد مناة بن تميم، من أشهرهم في الصحابة قيس بن عاصم بن سنان بن خالد السعدي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا سيد أهل الوبر". قوله: "وكانت سبية منهم عند عائشة" أي من بني تميم، والمراد بطن منهم أيضا، وقد وقع عند الإسماعيلي من طريق أبي معمر عن جرير "وكانت على عائشة نسمة من بني إسماعيل فقدم سبي خولان فقالت عائشة يا رسول الله أبتاع منهم؟ قال: لا. فلما قدم سبي بني العنبر قال: ابتاعي فإنهم ولد إسماعيل"، ووقع عند أبي عوانة من طريق الشعبي عن أبي هريرة أيضا: "وجيء بسبي بني العنبر" ا هـ، وبنو العنبر بطن شهير أيضا من بني تميم ينسبون إلى العنبر - وهو بلفظ الطيب المعروف - ابن عمرو بن تميم. "تنبيه": وقع في نسخة الصحيحين "سبية" بوزن فعيلة مفتوح الأول من السبي أو من السبا، ولم أقف على اسمها، لكن عند الإسماعيلي من طريق هارون بن معروف عن جرير "نسمة" بفتح النون والمهملة أي نفس، وله من رواية أبي معمر المذكورة "وكانت على عائشة نسمة من بني إسماعيل" وفي رواية الشعبي المذكورة عند أبي عوانة "وكان على عائشة محرر" وبين الطبراني في "الأوسط" في رواية الشعبي المذكورة المراد بالذي كان عليها وأنه كان نذرا ولفظه: "نذرت عائشة أن تعتق محررا من بني إسماعيل" وله في "الكبير" من حديث دريح وهو بمهملات مصغرا ابن ذؤيب بن شعثم بضم المعجمة والمثلثة بينهما عين مهملة العنبري "أن عائشة قالت: يا نبي الله إني نذرت عتيقا من ولد إسماعيل، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اصبري حتى يجيء فيء بني العنبر غدا، فجاء فيء بني العنبر فقال لها: خذي منهم أربعة، فأخذت رديحا وزبيبا وزخيا وسمرة" ا هـ. فأما رديح فهو المذكور، وأما زبيب فهو بالزاي والموحدة مصغر أيضا - وضبطه العسكري بنون ثم موحدة - وهو ابن ثعلبة بن عمرو، وزخي بالزاي والخاء المعجمة مصغر أيضا وضبطه ابن عون بالراء أوله، وسمرة وهو ابن عمرو بن قرط بضم القاف وسكون الراء، قال في الحديث المذكور "فمسح النبي رءوسهم وبرك عليهم ثم قال: يا عائشة هؤلاء من بني إسماعيل قصدا" ا هـ. والذي تعين لعتق عائشة من هؤلاء الأربعة إما

(5/172)


رديح وإما زخي، ففي سنن أبي داود من حديث الزبيب بن ثعلبة ما يرشد إلى ذلك، وفي أول الحديث عنده "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى بني العنبر فأخذوهم بركبة من ناحية الطائف فاستاقوهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وركبة بضم الراء وسكون الكاف بعدها موحدة موضع معروف وهي غير ركوبة الثنية المعروفة التي بين مكة والمدينة، وذكر ابن سعد أن سرية عيينة بن حصن هذه كانت في المحرم سنة تسع من الهجرة وأنه سبى إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا والله أعلم. وفي قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "ابتاعيها فأعتقيها" دليل للجمهور في حصة تملك العربي، وإن كان الأفضل عتق من يسترق منهم، ولذلك قال عمر: "من العار أن يملك الرجل ابن عمه وبنت عمه" حكاه ابن بطال عن المهلب. وقال ابن المنير: لا بد في هذه المسألة من تفصيل، فلو كان العربي مثلا من ولد فاطمة عليهما السلام وتزوج أمة بشرطه لاستبعدنا استرقاق ولده، قال: وإذا أفاد كون المسبي من ولد إسماعيل يقتضي استحباب إعتاقه فالذي بالمثابة التي فرضناها يقتضي وجوب حريته حتما، والله أعلم. وفي الحديث أيضا فضيلة ظاهرة لبني تميم، وكان فيهم في الجاهلية وصدر الإسلام جماعة من الأشراف والرؤساء. وفيه الإخبار عما سيأتي من الأحوال الكائنة في آخر الزمان. وفيه الرد على من نسب جميع اليمن إلى بني إسماعيل لتفرقته صلى الله عليه وسلم بين خولان وهم من اليمن وبين بني العنبر وهم من مضر، والمشهور في خولان أنه ابن عمرو بن مالك بن الحارث من ولد كهلان بن سبأ. وقال ابن الكلبي خولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وسيأتي بسط القول في ذلك في أوائل المناقب إن شاء الله تعالى.

(5/173)


14 - باب: فَضْلِ مَنْ أَدَّبَ جَارِيَتَهُ وَعَلَّمَهَا
2544- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ فُضَيْلٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَعَالَهَا فَأَحْسَنَ إِلَيْهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ"
قوله: "باب فضل من أدب جاريته" سقط لفظ: "فضل" من رواية أبي ذر والنسفي، وزاد النسفي "وأعتقها" أورد فيه حديث أبي موسى مختصرا، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. مطرف المذكور في السند هو ابن طريف كوفي مشهور. وقوله في هذه الرواية: "فعلمها" في رواية أبي ذر عن المستملي والسرخسي "فعالها"

(5/173)


15 - باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَبِيدُ إِخْوَانُكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ"
وَقَوْلِهِ تَعَالَى [النساء 36]: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: ذِي الْقُرْبَى الْقَرِيبُ وَالْجُنُبُ الْغَرِيبُ
2545- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ قَالَ سَمِعْتُ الْمَعْرُورَ بْنَ سُويْدٍ قَالَ: "رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ

(5/173)


16 - باب: الْعَبْدِ إِذَا أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ سَيِّدَهُ
2546- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ سَيِّدَهُ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ"
[الحديث 2546- طرفه في: 2550]
2547- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ وَأَيُّمَا عَبْدٍ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ فَلَهُ أَجْرَانِ"
2548- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لاَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ"
2549- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ الأَعْمَشِ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ مَا لِأَحَدِهِمْ يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ"
قوله: "باب العبد إذا أحسن عبادة ربه ونصح سيده" أي بيان فضله أو ثوابه. أورد فيه أربعة أحاديث: أحدها حديث ابن عمر المصرح بأن لمن فعل ذلك أجرين. ثانيها: حديث أبي موسى مثله وزيادة ذكر من كانت له جارية فعلمها وأعتقها فتزوجها، وهو طرف من حديث تقدم في الإيمان بلفظ: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين" فذكر فيه أيضا مؤمن أهل الكتاب. ثالثها: حديث أبي هريرة "للعبد المملوك الصالح أجران" ، واسم الصلاح يشمل ما تقدم من الشرطين وهما إحسان العبادة والنصح للسيد، ونصيحة السيد تشمل أداء حقه من الخدمة وغيرها، وسيأتي في الباب الذي يليه من حديث أبي موسى بلفظ: "ويؤدي إلى سيده الذي له عليه من الحق والنصيحة والطاعة" رابعها حديث أبي هريرة أيضا "نعم ما لأحدهم يحسن عبادة ربه وينصح لسيده" وهو مفسر للحديث الذي قبله

(5/175)


موافق للحديثين الآخرين. "تنبيه": وقع لابن بطال عزو حديث أبي هريرة ثالث أحاديث الباب لأبي موسى، وهو غلط فاحش. قوله: "والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك" ظاهر هذا السياق رفع هذه الجمل إلى آخرها وعلى ذلك مجرى الخطابي فقال: لله أن يمتحن أنبياءه وأصفياءه بالرق كما امتحن يوسف ا هـ. وجزم الداودي وابن بطال وغير واحد بأن ذلك مدرج من قول أبي هريرة، ويدل عليه من حيث المعنى قوله: "وبر أمي" فإنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حينئذ أم يبرها، ووجهه الكرماني فقال أراد بذلك تعليم أمته، أو أورده على سبيل فرض حياتها أو المراد أمه التي أرضعته ا هـ. وفاته التنصيص على إدراج ذلك فقد فصله الإسماعيلي من طريق أخرى عن ابن المبارك ولفظه: "والذي نفس أبي هريرة بيده إلخ" وكذلك أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في "كتاب البر والصلة" عن ابن المبارك، وكذلك أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن وهب وأبي صفوان الأموي والمصنف في "الأدب المفرد" من طريق سليمان بن بلال والإسماعيلي من طريق سعيد بن يحيى اللخمي وأبو عوانة من طريق عثمان بن عمر كلهم عن يونس، زاد مسلم في آخر طريق ابن وهب "قال - يعني الزهري - وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها" ولأبي عوانة وأحمد من طريق سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أنه كان يسمعه يقول: "لولا أمران لأحببت أن أكون عبدا، وذلك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما خلق الله عبدا يؤدي حق الله عليه وحق سيده إلا وفاه الله أجره مرتين" فعرف بذلك أن الكلام المذكور من استنباط أبي هريرة، ثم استدل له بالمرفوع؛ وإنما استثنى أبو هريرة هذه الأشياء لأن الجهاد والحج يشترط فيهما إذن السيد، وكذلك بر الأم فقد يحتاج فيه إلى إذن السيد في بعض وجوهه، بخلاف بقية العبادات البدنية. ولم يتعرض للعبادات المالية إما لكونه كان إذ ذاك لم يكن له مال يزيد على قدر حاجته فيمكنه صرفه في القربات بدون إذن السيد، وإما لأنه كان يرى أن للعبد أن يتصرف في ماله بغير إذن السيد. "فائدة": اسم أم أبي هريرة أميمة بالتصغير وقيل ميمونة، وهي صحابية ذكر إسلامها في "صحيح مسلم"وبيان اسمها في "ذيل المعرفة" لأبي موسى قال ابن عبد البر: معنى هذا الحديث عندي أن العبد لما اجتمع عليه أمران واجبان طاعة ربه في العبادات وطاعة سيده في المعروف فقام بهما جميعا كان له ضعف أجر الحر المطيع لطاعته، لأنه قد ساواه في طاعة الله وفضل عليه بطاعة من أمره الله بطاعته، قال ومن هنا أقول: إن من اجتمع عليه فرضان فأداهما أفضل ممن ليس له عليه إلا فرض واحد فأداه كمن وجب عليه صلاة وزكاة فقام بهما فهو أفضل ممن وجبت عليه صلاة فقط، ومقتضاه أن من اجتمعت عليه فروض فلم يؤد منها شيئا كان عصيانه أكثر من عصيان من لم يجب عليه إلا بعضها ا هـ ملخصا. والذي يظهر أن مزيد الفضل للعبد الموصوف بالصفة لما يدخل عليه من مشقة الرق، وإلا فلو كان التضعيف بسبب اختلاف جهة العمل لم يختص العبد بذلك. وقال ابن التين: المراد أن كل عمل يعمله يضاعف له، قال: وقيل سبب التضعيف أنه زاد لسيده نصحا وفي عبادة ربه إحسانا فكان له أجر الواجبين وأجر الزيادة عليهما. قال: والظاهر خلاف هذا وأنه بين ذلك لئلا يظن أنه غير مأجور على العبادة ا هـ. وما ادعى أنه الظاهر لا ينافي ما نقله قبل ذلك، فإن قيل يلزم أن يكون أجر المماليك ضعف أجر السادات أجاب الكرماني بأن لا محذور في ذلك أو يكون أجره مضاعفا من هذه الجهة، وقد يكون للسيد جهات أخرى يستحق بها أضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما ا هـ. ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر مختصا بالعمل الذي يتحد

(5/176)


فيه طاعة الله وطاعة السيد فيعمل عملا واحدا ويؤجر عليه أجرين بالاعتبارين، وأما العمل المختلف الجهة فلا اختصاص له بتضعيف الأجر فيه على غيره من الأحرار والله أعلم. واستدل به على أن العبد لا جهاد عليه ولا حج في حال العبودية وإن صح ذلك منه. قوله في حديث أبي هريرة "حدثنا إسحاق بن نصر" هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر، نسب إلى جده. قوله: "نعما لأحدهم" بفتح النون وكسر العين وإدغام الميم في الأخرى، ويجوز كسر النون، وتكسر النون وتفتح أيضا مع إسكان العين وتحريك الميم، فتلك أربع لغات. قال الزجاج "ما" بمعنى الشيء فالتقدير نعم الشيء. ووقع لبعض رواة مسلم: "نعمى" بضم النون وسكون العين مقصور بالتنوين وغيره، وهو متجه المعنى إن ثبتت به الرواية. وقال ابن التين: وقع في نسخة الشيخ أبي الحسن أي القابسي "نعم ما" بتشديد الميم الأولى وفتحها ولا وجه له، وإنما صوابه إدغامها في "ما" وهي كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} . قوله: "يحسن" هو مبين للمخصوص بالمدح في قوله: "نعم"، زاد مسلم من طريق همام عن أبي هريرة "نعما للمملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله" أي يموت على ذلك، وفيه إشارة إلى أن الأعمال بالخواتيم.

(5/177)


باب كراهة التطاول على الرقيق وقوله عبدي أو أمتي
...
17 - باب: كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ وَقَوْلِهِ عَبْدِي أَوْ أَمَتِي
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} ، وَقَالَ {عَبْداً مَمْلُوكاً} {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} وَقَالَ {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ" و {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} عِنْدَ سَيِّدِكَ "وَمَنْ سَيِّدُكُمْ"
2550- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا نَصَحَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ"
2551- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمَمْلُوكُ الَّذِي يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ وَالنَّصِيحَةِ وَالطَّاعَةِ لَهُ أَجْرَانِ"
2552- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ وَضِّئْ رَبَّكَ اسْقِ رَبَّكَ وَلْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلاَيَ وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلاَمِي"
2553- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ الْعَبْدِ فَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ وَأُعْتِقَ مِنْ مَالِهِ، وَإِلاَ فَقَدْ أعَتَقَ مِنْهُ ما عتق"
2554- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ

(5/177)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"
2555 ، 2556- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا زَنَتْ الأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ"
قوله: "باب كراهية التطاول على الرقيق" أي الترفع عليهم، والمراد مجاوزة الحد في ذلك، والمراد بالكراهة كراهة التنزيه. قوله: "عبدي أو أمتي" أي وكراهية ذلك من غير تحريم، ولذلك استشهد للجواز بقوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وبغيرها من الآيات والأحاديث الدالة على الجواز، ثم أردفها بالحديث الوارد في النهي عن ذلك، واتفق العلماء على أن النهي الوارد في ذلك للتنزيه، حتى أهل الظاهر، إلا ما سنذكره عن ابن بطال في لفظ الرب. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم" هو طرف من حديث أبي سعيد في قصة سعد بن معاذ وحكمه على بني قريظة، وسيأتي تاما في المغازي مع الكلام عليه. قوله: "ومن سيدكم" سقط هذا من رواية النسفي وأبي ذر وأبي الوقت وثبت للباقين، وهو طرف من حديث أخرجه المؤلف في "الأدب المفرد" من طريق حجاج الصواف عن أبي الزبير قال: "حدثنا جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سيدكم يا بني سلمة؟ قلنا: الجد بن قيس، على أنا نبخله. قال: وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح" وكان عمرو يعترض على أصنامهم في الجاهلية، وكان يولم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج. وأخرجه الحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه، ورواه ابن عائشة في نوادره من طريق الشعبي مرسلا وزاد: قال فقال بعض الأنصار في ذلك:
وقال رسول الله والقول قوله ... لمن قال منا من تسمون سيدا
فقالوا له جد بن قيس على التي ... نبخله فيها وإن كان أسودا
فسود عمرو بن الجموح لجوده ... وحق لعمرو بالندى أن يسودا
انتهى. والجد بفتح الجيم وتشديد الدال هو ابن قيس بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بسكون النون ابن كعب بن سلمة بكسر اللام، يكنى أبا عبد الله، له ذكر في حديث جابر أنه حمله معه في بيعة العقبة. قال ابن عبد البر: كان يرمى بالنفاق، ويقال: إنه تاب وحسنت توبته، وعاش إلى أن مات في خلافة عثمان. وأما عمرو بن الجموح بفتح الجيم وضم الميم الخفيفة وآخره مهملة ابن زيد بن حرام بمهملتين ابن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، قال ابن إسحاق: كان من سادات بني سلمة، وذكر له قصة في صنمه وسبب إسلامه وقوله فيه: تالله لو كنت إلها لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن. وروى أحمد، وعمر بن شبة في "أخبار المدينة" بإسناد حسن عن أبي قتادة أن عمرو بن الجموح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إن قاتلت حتى أقتل في سبيل الله تراني أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ فقال: نعم. وكانت عرجاء. زاد عمر فقتل يوم أحد رحمه الله. وقد روى ابن منده وأبو

(5/178)


الشيخ في "الأمثال" والوليد بن أبان في "كتاب الجود" له من حديث كعب بن مالك " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا جد بن قيس" فذكر الحديث، فقال: "سيدكم بشر بن البراء بن معرور" وهو بسكون العين المهملة ابن صخر يجتمع مع عمرو بن الجموح في صخر، ورجال هذا الإسناد ثقات، إلا أنه اختلف في وصله وإرساله على الزهري، ويمكن الجمع بأن تحمل قصة بشر على أنها كانت بعد قتل عمرو بن الجموح جمعا بين الحديثين، ومات بشر المذكور بعد خيبر، أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة التي سم فيها، وكان قد شهد العقبة وبدرا، ذكره ابن إسحاق وغيره. وما ذكره المصنف يحتاج إلى تأويل الحديث الوارد في النهي عن إطلاق السيد على المخلوق، وهو في حديث مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه عند أبي داود والنسائي والمصنف في "الأدب المفرد" ورجاله ثقات وقد صححه غير واحد، ويمكن الجمع بأن يحمل النهي عن ذلك على إطلاقه على غير المالك، والإذن بإطلاقه على المالك وقد كان بعض أكابر العلماء يأخذ بهذا ويكره أن يخاطب أحدا بلفظه أو كتابته بالسيد، ويتأكد هذا إذا كان المخاطب غير تقي، فعند أبي داود والمصنف في الأدب من حديث بريدة مرفوعا: "لا تقولوا للمنافق سيدا" الحديث ونحوه عند الحاكم. ثم أورد المصنف في الباب غير هذين المعلقين سبعة أحاديث: حديثا ابن عمر وأبي موسى في العبد الذي له أجران وقد تقدما من وجهين آخرين في الباب الذي قبله. والغرض منهما قوله في حديث ابن عمر "إذا نصح سيده" وفي حديث أبي موسى "ويؤدي إلى سيده" . ثالثها حديث أبي هريرة، ومحمد شيخ المؤلف فيه لم أره منسوبا في شيء من الروايات إلا في رواية أبي علي بن شبويه فقال: "حدثنا محمد بن سلام" وكذا حكاه الجياني عن رواية أبي علي بن السكن، وحكي عن الحاكم أنه الذهلي. قلت: وقد أخرجه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق فيحتمل أن يكون هو شيخ البخاري فيه، فقد حدث عنه في الصحيح أيضا، وكلام الطرقي يشير إليه. قوله: "لا يقل أحدكم أطعم ربك إلخ" هي أمثلة، وإنما ذكرت دون غيرها لغلبة استعمالها في المخاطبات، ويجوز في ألف "اسق" الوصل والقطع. وفيه نهي العبد أن يقول لسيده ربي، كذلك نهي غيره فلا يقول له أحد ربك، ويدخل في ذلك أن يقول السيد ذلك عن نفسه فإنه قد يقول لعبده اسق ربك فيضع الظاهر موضع الضمير على سبيل التعظيم لنفسه، والسبب في النهي أن حقيقة الربوبية لله تعالى، لأن الرب هو المالك والقائم بالشيء فلا توجد حقيقة ذلك إلا لله تعالى. قال الخطابي: سبب المنع أن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله وترك الإشراك معه، فكره له المضاهاة في الاسم لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد، فأما ما لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة كقوله رب الدار ورب الثوب. وقال ابن بطال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله رب، كما لا يجوز أن يقال له إله أ هـ. والذي يختص بالله تعالى إطلاق الرب بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجوز إطلاقه كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} . وقوله {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} وقوله عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة "أن تلد الأمة ربها" فدل على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد من ذلك فلبيان الجواز. وقيل هو مخصوص بغير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرد ما في القرآن، أو المراد النهي عن الإكثار من ذلك واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن ذكرها في الجملة. قوله: "وليقل سيدي مولاي" فيه جواز إطلاق العبد على مالكه سيدي، قال القرطبي وغيره: إنما فرق بين الرب والسيد لأن الرب من أسماء الله تعالى اتفاقا، واختلف في

(5/179)


السيد، ولم يرد في القرآن أنه من أسماء الله تعالى. فإن قلنا إنه ليس من أسماء الله تعالى فالفرق واضح إذ لا التباس وإن قلنا إنه من أسمائه فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الرب فيحصل الفرق بذلك أيضا، وقد روى أبو داود والنسائي وأحمد والمصنف في "الأدب المفرد" من حديث عبد الله بن الشخير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السيد الله" وقال الخطابي: إنما أطلقه لأن مرجع السيادة إلى معنى الرياسة على من تحت يده والسياسة له وحسن التدبير لأمره، ولذلك سمي الزوج سيدا، قال: وأما المولى فكثير التصرف في الوجوه المختلفة من ولي وناصر وغير ذلك، ولكن لا يقال السيد ولا المولى على الإطلاق من غير إضافة إلا في صفة الله تعالى انتهى. وفي الحديث جواز إطلاق مولاي أيضا، وأما ما أخرجه مسلم والنسائي من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في هذا الحديث نحوه وزاد: "ولا يقل أحدكم مولاي فإن مولاكم الله، ولكن ليقل سيدي" فقد بين مسلم الاختلاف في ذلك على الأعمش وأن منهم من ذكر هذه الزيادة ومنهم من حذفها. وقال عياض: حذفها أصح. وقال القرطبي: المشهور حذفها قال: وإنما صرنا إلى الترجيح للتعارض مع تعذر الجمع وعدم العلم بالتاريخ انتهى. ومقتضى ظاهر هذه الزيادة أن إطلاق السيد أسهل من إطلاق المولى، وهو خلاف المتعارف، فإن المولى يطلق على أوجه متعددة منها الأسفل والأعلى، والسيد لا يطلق إلا على الأعلى، فكان إطلاق المولى أسهل وأقرب إلى عدم الكراهة والله أعلم. وقد رواه محمد بن سيرين عن أبي هريرة فلم يتعرض للفظ المولى إثباتا ولا نفيا، أخرجه أبو داود والنسائي والمصنف في "الأدب المفرد" بلفظ: "لا يقولن أحدكم عبدي ولا أمتي ولا يقل المملوك ربي وربتي، ولكن ليقل المالك فتاي وفتاتي والمملوك سيدي وسيدتي، فإنكم المملوكون والرب الله تعالى" ويحتمل أن يكون المراد النهي عن الإطلاق كما تقدم من كلام الخطابي، ويؤيد كلامه حديث ابن الشخير المذكور والله أعلم، وعن مالك تخصيص الكراهة بالنداء فيكره أن يقول يا سيدي ولا يكره في غير النداء. قوله: "ولا يقل أحدكم عبدي أمتي" زاد المصنف في "الأدب المفرد" ومسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة "كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله" ونحو ما قدمته من رواية ابن سيرين، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى العلة في ذلك لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى، ولأن فيها تعظيما لا يليق بالمخلوق استعماله لنفسه. قال الخطابي: المعنى في ذلك كله راجع إلى البراءة من الكبر والتزام الذل والخضوع لله عز وجل، وهو الذي يليق بالمربوب. قوله: "وليقل فتاي وفتاتي وغلامي" زاد مسلم في الرواية المذكورة "وجاريتي" إلى ما يؤدي المعنى مع السلامة من التعاظم، لأن لفظ الفتى والغلام ليس دالا على محض الملك كدلالة العبد، فقد كثر استعمال الفتى في الحر وكذلك الغلام والجارية، قال النووي: المراد بالنهي من استعمله على جهة التعاظم لا من أراد التعريف انتهى. ومحله ما إذا لم يحصل التعريف بدون ذلك استعمالا للأدب في اللفظ كما دل عليه الحديث. الحديث الرابع حديث ابن عمر "من أعتق نصيبا له من عبد" قد تقدم شرحه قريبا، والمراد منه إطلاق لفظ العبد، وكأن مناسبته للترجمة من جهة أنه لو لم يحكم عليه بعتق كله إذا كان موسرا لكان بذلك متطاولا عليه. الخامس حديثه: "كلكم راع" سيأتي الكلام عليه في أول الأحكام، والغرض منه هنا قوله: "والعبد راع على مال سيده" فإنه إن كان ناصحا له في خدمته مؤديا له الأمانة ناسب أن يعينه ولا يتعاظم عليه. السادس والسابع حديث أبي هريرة وزيد بن خالد "إذا زنت الأمة فاجلدوها" سيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. والغرض منه هنا ذكر الأمة وأنها إذا عصت تؤدب، فإن لم تنجع وإلا بيعت،

(5/180)


وكل ذلك مباين للتعاظم عليها.

(5/181)


18 - باب: إِذَا أَتَاهُ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ
2557- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَليُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ فَإِنَّهُ وَلِيَ عِلاَجَهُ"
[الحديث 2557- طرفه في: 5460]
قوله: "باب إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه" أي فليجلسه معه ليأكل. قوله: "أخبرني محمد بن زياد" هو الجمحي. قوله: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة" هكذا أورده، ويفهم منه إباحة ترك إجلاسه معه، وسيأتي البحث في ذلك في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى. وقوله: "أكلة" بضم أوله أي لقمة، والشك فيه من شعبة كما سأبينه. وقوله: "ولي علاجه" زاد في الأطعمة "وحره". واستدل به على أن قوله في حديث أبي ذر الماضي "فأطعموهم مما تطعمون" ليس على الوجوب.

(5/181)


19 - باب: الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَنَسَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَالَ إِلَى السَّيِّدِ
2558- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ – قَالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلاَءِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ - فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"
قوله: "باب العبد راع في مال سيده" أي ويلزمه حفظه، ولا يعمل إلا بإذنه. قوله: "ونسب صلى الله عليه وسلم المال إلى السيد" كأنه يشير بذلك إلى حديث ابن عمر "من باع عبدا وله مال فماله للسيد" وقد تقدمت الإشارة إليه في "باب من باع نخلا قد أبرت" من كتاب البيوع وفي كتاب الشرب، وكلام ابن بطال يشير إلى أن ذلك مستفاد من قوله: "العبد راع في مال سيده" فإنه قال في شرح حديث الباب: فيه حجة لمن قال إن العبد لا يملك، وتعقبه ابن المنير بأنه لا يلزم من كونه راعيا في مال سيده أن لا يكون هو له مال، فإن قيل فاشتغاله برعاية مال سيده يستوعب أحواله، فالجواب أن المطلق لا يفيد العموم، ولا سيما إذا سيق لغير قصد العموم، وحديث الباب إنما سيق للتحذير من الخيانة والتخويف بكونه مسئولا ومحاسبا، فلا تعلق له بكونه يملك أو لا يملك انتهى. وقد تقدم الكلام على مسألة كونه هل يملك قبل ستة أبواب. قوله: "والمرأة في بيت زوجها راعية" إنما قيد بالبيت لأنها لا تصل إلى ما سواه غالبا

(5/181)


20 - باب: إِذَا ضَرَبَ الْعَبْدَ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ
2559- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ فُلاَنٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحَدَّثَنَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ"
قوله: "باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه" العبد بالنصب على المفعولية والفاعل محذوف للعلم به، وذكر العبد ليس قيدا بل هو من جملة الأفراد الداخلين في ذلك، وإنما خص بالذكر لأن المقصود هنا بيان حكم الرقيق، كذا قرره بعض الشراح، وأظن المصنف أشار إلى ما أخرجه في "الأدب المفرد" من طريق محمد بن عجلان أخبرني سعيد عن أبي هريرة فذكر الحديث بلفظ: "إذا ضرب أحدكم خادمه" . قوله في الإسناد "حدثني محمد بن عبيد الله" هو ابن ثابت المدني؛ ورجال الإسناد كلهم مدنيون، وكأن أبا ثابت تفرد به عن ابن وهب، فإني لم أره في شيء من المصنفات إلا من طريقه. قوله: "قال وأخبرني ابن فلان" قائل ذلك هو أبو ثابت فهو موصول وليس بمعلق، وفاعل قال هو ابن وهب، وكأنه سمعه من لفظ مالك وبالقراءة على الآخر. وكان ابن وهب حريصا على تمييز ذلك. وأما "ابن فلان" فقال المزي: يقال هو ابن سمعان، يعني عبد الله بن زياد بن سليمان بن سمعان المدني، وهو يوهم تضعيف ذلك، وليس كذلك فقد جزم بذلك أبو نصر الكلاباذي وغيره، وقاله قبله بعض القدماء أيضا؛ فوقع في رواية أبي ذر الهروي في روايته عن المستملي: قال أبو حرب الذي قال: "ابن فلان" هو ابن وهب، وابن فلان هو ابن سمعان. قلت: وأبو حرب هذا هو بيان وقد أخرجه الدار قطني في "غرائب مالك" من طريق عبد الرحمن بن خراش بكسر المعجمة عن البخاري "قال حدثنا أبو ثابت محمد بن عبيد الله المدني" فذكر الحديث لكن قال بدل قوله ابن فلان "ابن سمعان" فكأن البخاري كنى عنه في الصحيح عمدا لضعفه، ولما حدث به خارج الصحيح نسبه، وقد بين ذلك أبو نعيم في "المستخرج" بما خرجه من طريق العباس بن الفضل عن أبي ثابت وقال فيه: "ابن سمعان" وقال بعده: أخرجه البخاري عن أبي ثابت فقال ابن فلان وأخرجه في موضع آخر فقال ابن سمعان، وابن سمعان المذكور مشهور بالضعف متروك الحديث كذبه مالك وأحمد وغيرهما وماله في البخاري شيء إلا في هذا الموضع، ثم إن البخاري لم يسق المتن من طريقه مع كونه مقرونا بمالك بل ساقه على لفظ الرواية الأخرى وهي رواية همام عن أبي هريرة، وقد أخرجه مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "فليتق" بدل "فليجتنب" وهي رواية أبي نعيم المذكورة، وأخرجه مسلم أيضا من طريق الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "إذا ضرب" ومثله للنسائي من طريق عجلان، ولأبي داود من طريق أبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة وهو يفيد أن قوله في رواية همام "قاتل" بمعنى قتل، وأن المفاعلة فيه ليست على ظاهرها ويحتمل أن تكون على ظاهرها ليتناول ما يقع عند دفع الصائل مثلا فينهى دافعه عن القصد بالضرب إلى وجهه، ويدخل في النهي كل من ضرب في حد أو تعزير أو تأديب

(5/182)


وقد وقع في حديث أبي بكرة وغيره عند أبي داود وغيره في قصة التي زنت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها وقال: "ارموا واتقوا الوجه" وإذا كان ذلك في حق من تعين إهلاكه فمن دونه أولى. قال النووي: قال العلماء إنما نهي عن ضرب الوجه لأنه لطيف يجمع المحاسن، وأكثر ما يقع الإدراك بأعضائه، فيخشى من ضربه أن تبطل أو تتشوه كلها أو بعضها، والشين فيها فاحش لظهورها وبروزها، بل لا يسلم إذا ضربه غالبا من شين ا هـ. والتعليل المذكور حسن، لكن ثبت عند مسلم تعليل آخر، فإنه أخرج الحديث المذكور من طريق أبي أيوب المراغي عن أبي هريرة وزاد: "فإن الله خلق آدم على صورته" واختلف في الضمير على من يعود؟ فالأكثر على أنه يعود على المضروب لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه، ولولا أن المراد التعليل بذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباط بما قبلها. وقال القرطبي: أعاد بعضهم الضمير على الله متمسكا بما ورد في بعض طرقه: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن" قال: وكأن من رواه أورده بالمعنى متمسكا بما توهمه فغلط في ذلك. وقد أنكر المازري ومن تبعه صحة هذه الزيادة ثم قال: وعلى تقدير صحتها فيحمل على ما يليق بالباري سبحانه وتعالى. قلت: الزيادة أخرجها ابن أبي عاصم في "السنة" والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات وأخرجها ابن أبي عاصم أيضا من طريق أبي يونس عن أبي هريرة بلفظ يرد التأويل الأول قال: "من قاتل فليجتنب الوجه فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن" فتعين إجراء ما في ذلك على ما تقرر بين أهل السنة من إمراره كما جاء من غير اعتقاد تشبيه، أو من تأويله على ما يليق بالرحمن جل جلاله، وسيأتي في أول كتاب الاستئذان من طريق همام عن أبي هريرة رفعه: خلق الله آدم على صورته الحديث، وزعم بعضهم أن الضمير يعود على آدم أي على صفته أي خلقه موصوفا بالعلم الذي فضل به الحيوان وهذا محتمل، وقد قال المازري: غلط ابن قتيبة فأجرى هذا الحديث على ظاهره وقال: صورة لا كالصور انتهى. وقال حرب الكرماني في "كتاب السنة" سمعت إسحاق بن راهويه يقول: صح أن الله خلق آدم على صورة الرحمن. وقال إسحاق الكوسج سمعت أحمد يقول هو حديث صحيح وقال الطبراني في كتاب السنة "حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قال رجل لأبي إن رجلا قال خلق الله آدم على صورته - أي صورة الرجل - فقال: كذب هو قول الجهمية" انتهى. وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" وأحمد من طريق ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعا: "لا تقولن قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته" وهو ظاهر في عود الضمير على المقول له ذلك، وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم أيضا من طريق أبي رافع عن أبي هريرة بلفظ: " إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورة وجهه" ولم يتعرض النووي لحكم هذا النهي، وظاهره التحريم. ويؤيده حديث سويد بن مقرن الصحابي "أنه رأى رجلا لطم غلامه فقال: أو ما علمت أن الصورة محترمة" أخرجه مسلم وغيره.

(5/183)


كتاب المكاتب
مدخل
...
50 – كتاب المكاتب
قوله "باب في المكاتب" كذا لأبي ذر، ولغيره "كتاب المكاتب" وأثبتوا كلهم البسملة والمكاتب بالفتح من تقع له الكتابة وبالكسر من تقع منه وكاف الكتابة تكسر وتفتح كعين العتاقة، قال الراغب: اشتقاقها من كتب بمعنى أوجب، ومنه قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ – إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} أو بمعنى جمع وضم، ومنه كتبت الخط، وعلى الأول تكون مأخوذة من معنى الالتزام، وعلى الثاني تكون مأخوذة من الخط لوجوده عند عقدها غالبا قال الروياني: الكتابة إسلامية ولم تكن تعرف في الجاهلية، كذا قال وكلام غيره يأباه، ومنه قول ابن التين: كانت الكتابة متعارفة قبل الإسلام فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن خزيمة في كلامه على حديث بريرة: قيل إن بريرة أول مكاتبة في الإسلام، وقد كانوا يكاتبون في الجاهلية بالمدينة، وأول من كوتب من الرجال في الإسلام سلمان، وقد تقدم ذكر ذلك في البيوع في "باب البيع والشراء مع المشركين" وحكى ابن التين أن أول من كوتب أبو المؤمل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعينوه، وأول من كوتب من النساء بريرة كما سيأتي حديثها في هذه الأبواب، وأول من كوتب بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو أمية مولى عمر، ثم سيرين مولى أنس. واختلف في تعريف الكتابة، وأحسنه: تعليق عتق بصفة على معاوضة مخصوصة. والكتابة خارجة عن القياس عند من يقول إن العبد لا يملك، وهي لازمة من جهة السيد إلا إن عجز العبد، وجائزة له على الراجح من أقوال العلماء فيها

(5/184)


باب من قذف مملوكه
...
باب: إثم من قذف مملوكه
قوله "باب إثم من قذف مملوكه" كذا للجميع هنا إلا النسفي وأبا ذر، ولم يذكر من أثبت هذه الترجمة فيها حديثا، ولا أعرف لدخولها في أبواب المكاتب معنى. ثم وجدتها في رواية أبي علي بن شبويه مقدمة قبل كتاب المكاتب فهذا هو المتجه، وعلى هذا فكأن المصنف ترجم بها وأخلى بياضا ليكتب فيها الحديث الوارد في ذلك فلم يكتب كما وقع له في غيرها وقد ترجم في كتاب "الحدود باب قذف العبد" أورد فيه حديث "من قذف مملوكه - وهو بريء مما قال - جلد يوم القيامة" الحديث، فلعله أشار بذلك إلى أنه يدخل في هذه الأبواب

(5/184)


1 - باب: الْمُكَاتِبِ وَنُجُومِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ
وَقَوْلِهِ [33 النور]: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وَقَالَ رَوْحٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ أَوَاجِبٌ عَلَيَّ إِذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالًا أَنْ أُكَاتِبَهُ قَالَ مَا أُرَاهُ إِلاَّ وَاجِبًا وَقَالَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ تَأْثُرُهُ عَنْ أَحَدٍ قَالَ لاَ ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنَّ مُوسَى بْنَ أَنَسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا الْمُكَاتَبَةَ وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ فَأَبَى فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ كَاتِبْهُ فَأَبَى فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ وَيَتْلُو عُمَرُ {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} فَكَاتَبَه"ُ

(5/184)


باب ما يجوز من شروط المكاتب من الشترط شرطا ليس في كتاب الله فيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
...
20 - باب: مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ وَمَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2561- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي فَعَلْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لِأَهْلِهَا فَأَبَوْا وَقَالُوا: إِنْ

(5/187)


شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لَنَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ قَالَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ شَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ"
2562- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً لِتُعْتِقَهَا فَقَالَ أَهْلُهَا عَلَى أَنَّ وَلاَءَهَا لَنَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَمْنَعُكِ ذَلِكِ فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
قوله: "باب ما يجوز من شروط المكاتب، ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله" جمع في هذه الترجمة بين حكمين، وكأنه فسر الأول بالثاني، وأن ضابط الجواز ما كان في كتاب الله، وسيأتي في الشروط أن المراد بما ليس في كتاب الله ما خالف كتاب الله، وقال ابن بطال: المراد بكتاب الله هنا حكمه من كتابه أو سنة رسوله أو إجماع الأمة. وقال ابن خزيمة: ليس في كتاب الله أي ليس في حكم الله جوازه أو وجوبه، لا أن كل من شرط شرطا لم ينطق به الكتاب يبطل، لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط، ويشترط في الثمن شروط من أوصافه أو من نجومه ونحو ذلك فلا يبطل. وقال النووي: قال العلماء الشروط في البيع أقسام، أحدها يقتضيه إطلاق العقد كشرط تسليمه، الثاني شرط فيه مصلحة كالرهن وهما جائزان اتفاقا، الثالث اشتراط العتق في العبد وهو جائز عند الجمهور لحديث عائشة وقصة بريرة، الرابع ما يزيد على مقتضى العقد ولا مصلحة فيه للمشتري كاستثناء منفعته فهو باطل. وقال القرطبي: قوله: "ليس في كتاب الله" أي ليس مشروعا في كتاب الله تأصيلا ولا تفصيلا، ومعنى هذا أن من الأحكام ما يؤخذ تفصيله من كتاب الله كالوضوء، ومنها ما يؤخذ تأصيله دون تفصيله كالصلاة، ومنها ما أصل أصله كدلالة الكتاب على أصلية السنة والإجماع وكذلك القياس الصحيح، فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلا فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلا. قوله: "فيه عن ابن عمر" كذا لأبي ذر، ولغيره: "فيه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وكأنه أشار بذلك إلى حديث ابن عمر الآتي في الباب الذي يليه، وقد مضى بلفظ الاشتراط في "باب البيع والشراء مع النساء" من كتاب البيوع. قوله: "إن بريرة" هي بفتح الموحدة بوزن فعيلة، مشتقة من البرير وهو ثمر الأراك. وقيل إنها فعيلة من البر بمعنى مفعولة كمبرورة، أو بمعنى فاعلة كرحيمة، هكذا وجهه القرطبي. والأول أولى لأنه صلى الله عليه وسلم غير اسم جويرية وكان اسمها برة وقال: "لا تزكوا أنفسكم" فلو كانت بريرة من البر لشاركتها في ذلك. وكانت بريرة لناس من الأنصار كما وقع عند أبي نعيم، وقيل لناس من بني هلال قاله ابن عبد البر، ويمكن الجمع. وكانت تخدم عائشة قبل أن تعتق كما سيأتي في حديث الإفك، وعاشت إلى خلافة معاوية، وتفرست في عبد الملك بن مروان أنه يلي الخلافة فبشرته بذلك وروى هو ذلك عنها. قوله: "فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت" كذا في هذه الرواية، وهي نظير رواية مالك

(5/188)


عن هشام بن عروة الآتية في الشروط بلفظ: "إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت" وظاهره أن عائشة طلبت أن يكون الولاء لها إذا بذلت جميع مال المكاتبة. ولم يقع ذلك إذ لو وقع ذلك لكان اللوم على عائشة بطلبها ولاء من أعتقها غيرها. وقد رواه أبو أسامة عن هشام بلفظ يزيل الإشكال فقال بعد قوله: "أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت": وكذلك رواه وهيب عن هشام، فعرف بذلك أنها أرادت أن تشتريها شراء صحيحا ثم تعتقها إذ العتق فرع ثبوت الملك، ويؤيده قوله في بقية حديث الزهري في هذا الباب: "فقال صلى الله عليه وسلم: ابتاعي فأعتقي" وهو يفسر قوله في رواية مالك عن هشام "خذيها" ويوضح ذلك أيضا قوله في طريق أيمن الآتية "دخلت على بريرة وهي مكاتبة فقالت: اشتريني وأعتقيني، قالت نعم" وقوله في حديث ابن عمر "أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها" وبهذا يتجه الإنكار على موالي بريرة، إذ وافقوا عائشة على بيعها ثم أرادوا أن يشترطوا أن يكون الولاء لهم، ويؤيده قوله في رواية أيمن المذكورة "قالت لا تبيعوني حني تشترطوا ولائي" وفي رواية الأسود الآتية في الفرائض عن عائشة "اشتريت بريرة لأعتقها، فاشترط أهلها ولاءها" وسيأتي قريبا في الهبة من طريق القاسم عن عائشة "أنها أرادت أن تشتري بريرة وأنهم اشترطوا ولاءها". قوله: "ارجعي إلى أهلك" المراد بالأهل هنا السادة، والأهل في الأصل الآل، وفي الشرع من تلزم نفقته على الأصح عند الشافعية. قوله: "إن شاءت أن تحتسب" هو من الحسبة بكسر المهملة أي تحتسب الأجر عند الله ولا يكون لها ولاء. قوله: "فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية هشام "فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته" وفي رواية مالك عن هشام "فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني عرضت عليهم فأبوا، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أيمن الآتية "فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه" زاد في الشروط من هذا الوجه فقال: "ما شأن بريرة" ولمسلم من رواية أبي أسامة، ولابن خزيمة من رواية حماد بن سلمة كلاهما عن هشام "فجاءتني بريرة والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فقالت لي فيما بيني وبينها: ما أراد أهلها، فقلت: لاها الله إذا، ورفعت صوتي وانتهرتها، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته" لفظ ابن خزيمة. قوله: "ابتاعي فأعتقي" هو كقوله في حديث ابن عمر: "لا يمنعك ذلك" وليس في ذلك شيء من الإشكال الذي وقع في رواية هشام الآتية في الباب الذي يليه. قوله: "وإن شرط" في رواية أبي ذر "وإن اشترط". قوله: "مائة مرة" في رواية المستملي: "مائة شرط" وكذا هو في رواية هشام وأيمن، قال النووي: معنى قوله: "ولو اشترط مائة شرط" أنه لو شرط مائة مرة توكيدا فهو باطل، ويؤيده قوله في الرواية الأخيرة: "إن شرط مائة مرة" وإنما حمله على التأكيد لأن العموم في قوله: "كل شرط" وفي قوله: "من اشترط شرطا" دال على بطلان جميع الشروط المذكورة فلا حاجة إلى تقييدها بالمائة فإنها لو زادت عليها كان الحكم كذلك لما دلت عليها الصيغة. نعم الطريق الأخيرة من رواية أيمن عن عائشة بلفظ: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط" وإن احتمل التأكيد لكنه ظاهر في أن المراد به التعدد، وذكر المائة على سبيل المبالغة والله أعلم. وقال القرطبي: قوله: "ولو كان مائة شرط" خرج مخرج التكثير، يعني أن الشروط الغير المشروعة باطلة ولو كثرت، ويستفاد منه أن الشروط المشروعة صحيحة وسيأتي التنصيص على ذلك في كتاب الشروط إن شاء الله تعالى. قوله عن ابن عمر "أرادت عائشة" في رواية مسلم: "عن يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن عائشة" فصار من مسند عائشة، وأشار ابن عبد البر إلى تفرده عن مالك بذلك، وليس كذلك فقد أخرجه أبو

(5/189)


عوانة في صحيحه عن الربيع عن الشافعي عن مالك كذلك وكذا أخرجه البيهقي في "المعرفة" من طريق الربيع، ويمكن أن يكون هنا "عن" لا يراد بها أداة الرواية بل في السياق شيء محذوف تقديره عن قصة عائشة في إرادتها شراء بريرة، وقد وقع نظير ذلك في قصة بريرة، ففي النسائي من طريق يزيد بن رومان "عن عروة عن بريرة أنها كان فيها ثلاث سنين" قال النسائي: هذا خطأ والصواب رواية عروة عن عائشة. قلت: وإذا حمل على ما قررته لم يكن خطأ، بل المراد عن قصة بريرة، ولم يرد الرواية عنها نفسها. وقد قررت هذه المسألة بنظائرها فيما كتبته على ابن الصلاح. قوله: "لا يمنعك" في رواية أبي ذر "لا يمنعنك" بنون التأكيد، والأول رواية مسلم.

(5/190)


3 - باب: اسْتِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ وَسُؤَالِهِ النَّاسَ
2563- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "جَاءَتْ بَرِيرَةُ فَقَالَتْ إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ وَقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي فَقَالَتْ عَائِشَةُ إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُمْ فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ خُذِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلاَءَ فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَأَيُّمَا شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ فَقَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ مَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ أَعْتِقْ يَا فُلاَنُ وَلِيَ الْوَلاَءُ إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
قوله: "باب استعانة المكاتب وسؤاله الناس" هو من عطف الخاص على العام، لأن الاستعانة تقع بالسؤال وبغيره، وكأنه يشير إلى جواز ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أقر بريرة على سؤالها عائشة في إعانتها على كتابتها، وأما ما أخرجه أبو داود في "المراسيل" من طريق يحيى بن أبي كثير يرفعه في هذه الآية "إن علمتم فيهم خيرا" قال حرفة؛ ولا ترسلوهم كلا على الناس، فهو مرسل أو معضل فلا حجة فيه. قوله: "عن هشام" زاد أبو ذر "ابن عروة". قوله: "فأعينيني" كذا للأكثر بصيغة الأمر للمؤنث من الإعانة، وفي رواية الكشميهني: "فأعيتني" بصيغة الخبر الماضي من الإعياء، والضمير للأواقي، وهو متجه المعنى، أي أعجزتني عن تحصيلها. وفي رواية حماد بن سلمة عن هشام عند ابن خزيمة وغيره: "فأعتقيني" بصيغة الأمر للمؤنث بالعتق، إلا أن الثابت في طريق مالك وغيره عن هشام الأول. قوله: "فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء" زاد مسلم من هذا الوجه "فانتهرتها" وكأن عائشة كانت عرفت الحكم في ذلك. قوله: "خذيها فأعتقيها واشترطي لهم الولاء" قال ابن عبد البر وغيره: كذا رواه أصحاب هشام عن عروة وأصحاب مالك عنه عن هشام، واستشكل صدور الإذن منه صلى الله عليه وسلم في البيع على شرط فاسد، واختلف العلماء في ذلك: فمنهم من أنكر الشرط في الحديث، فروى الخطابي في "المعالم" بسنده إلى يحيى بن أكثم أنه أنكر ذلك، وعن الشافعي في "الأم" الإشارة إلى تضعيف رواية هشام المصرحة بالاشتراط لكونه انفرد بها دون أصحاب أبيه، وروايات

(5/190)


غيره قابلة للتأويل. وأشار غيره إلى أنه روي بالمعنى الذي وقع له، وليس كما ظن، وأثبت الرواية آخرون وقالوا: هشام ثقة حافظ، والحديث متفق على صحته فلا وجه لرده. ثم اختلفوا في توجيهها: فزعم الطحاوي أن المزني حدثه به عن الشافعي بلفظ: "وأشرطي" بهمزة قطع بغير تاء مثناة، ثم وجهه بأن معناه: أظهري لهم حكم الولاء. والإشراط الإظهار، قال أوس بن حجر "فأشرط فيها نفسه وهو معصم" أي أظهر نفسه انتهى. وأنكر غيره الرواية. والذي في "مختصر المزني" و "الأم" وغيرهما عن الشافعي كرواية الجمهور "واشترطي" بصيغة أمر المؤنث من الشرط، ثم حكى الطحاوي أيضا تأويل الرواية التي بلفظ: "اشترطي" وأن اللام في قوله: "اشترطي لهم" بمعنى "علي" كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وهذا هو المشهور عن المزني وجزم به عنه الخطابي، وهو صحيح عن الشافعي أسنده البيهقي في "المعرفة" من طريق أبي حاتم الرازي عن حرملة عنه، وحكى الخطابي عن ابن خزيمة أن قول يحيى بن أكثم غلط، والتأويل المنقول عن المزني لا يصح. وقال النووي: تأويل اللام بمعنى على هنا ضعيف، لأنه عليه الصلاة والسلام أنكر الاشتراط، ولو كانت بمعنى على لم ينكره. فإن قيل ما أنكر إلا إرادة الاشتراط في أول الأمر، فالجواب أن سياق الحديث يأبى ذلك. وضعفه أيضا ابن دقيق العيد وقال: اللام لا تدل بوضعها على الاختصاص النافع، بل على مطلق الاختصاص، فلا بد في حملها على ذلك من قرينة. وقال آخرون: الأمر في قوله: "اشترطي" للإباحة، وهو على جهة التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم فوجوده وعدمه سواء، وكأنه يقول: اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا يفيدهم. ويقوي هذا التأويل قوله في رواية أيمن الآتية آخر أبواب المكاتب "اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاؤوا" وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بأن اشتراط البائع الولاء باطل، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بريرة، فلما أرادوا أن يشترطوا ما تقدم لهم العلم ببطلانه أطلق الأمر مريدا به التهديد على مآل الحال كقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وكقول موسى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أي فليس ذلك بنافعكم، وكأنه يقول: اشترطي لهم فسيعلمون أن ذلك لا ينفعهم، ويؤيده قوله حين خطبهم "ما بال رجال يشترطون شروطا إلخ" فوبخهم بهذا القول مشيرا إلى أنه قد تقدم منه بيان حكم الله بإبطاله، إذ لو لم يتقدم بيان ذلك لبدأ ببيان الحكم في الخطبة لا بتوبيخ الفاعل، لأنه كان يكون باقيا على البراءة الأصلية. وقيل الأمر فيه بمعنى الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} . وقال الشافعي في "الأم": لما كان من اشترط خلاف ما قضى الله ورسوله عاصيا وكانت في المعاصي حدود وآداب وكان من أدب العاصين أن يعطل عليهم شروطهم ليرتدعوا عن ذلك ويرتدع به غيرهم كان ذلك من أيسر الأدب. وقال غيره: معنى اشترطي اتركي مخالفتهم فيما شرطوه ولا تظهري نزاعهم فيما دعوا إليه مراعاة لتنجيز العتق لتشوف الشارع إليه، وقد يعبر عن الترك بالفعل كقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي نتركهم يفعلون ذلك، وليس المراد بالإذن إباحة الإضرار بالسحر، قال ابن دقيق العيد: وهذا وإن كان محتملا إلا أنه خارج عن الحقيقة من غير دلالة على المجاز من حيث السياق. وقال النووي: أقوى الأجوبة أن هذا الحكم خاص بعائشة في هذه القضية وأن سببه المبالغة في الرجوع عن هذا الشرط لمخالفته حكم الشرع، وهو كفسخ الحج إلى العمرة كان خاصا بتلك الحجة مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج. ويستفاد منه ارتكاب أخف المفسدتين إذا استلزم إزالة أشدهما، وتعقب بأنه استدلال بمختلف فيه على مختلف فيه، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التخصيص

(5/191)


لا يثبت إلا بدليل، ولأن الشافعي نص على خلاف هذه المقالة. وقال ابن الجوزي: ليس في الحديث أن اشتراط الولاء والعتق كان مقارنا للعقد فيحمل على أنه كان سابقا للعقد فيكون الأمر بقوله: "اشترطي" مجرد الوعيد ولا يجب الوفاء به، وتعقب باستبعاد أنه صلى الله عليه وسلم يأمر شخصا أن يعد مع علمه بأنه لا يفي بذلك الوعد. وأغرب ابن حزم فقال: كان الحكم ثابتا بجواز اشتراط الولاء لغير المعتق، فوقع الأمر باشتراطه في الوقت الذي كان جائزا فيه، ثم نسخ ذلك الحكم بخطبته صلى الله عليه وسلم وبقوله: "إنما الولاء لمن أعتق" ولا يخفى بعدما قال، وسياق طرق هذا الحديث تدفع في وجه هذا الجواب والله المستعان. وقال الخطابي: وجه هذا الحديث أن الولاء لما كان كلحمة النسب، والإنسان إذا ولد له ولد ثبت له نسبة ولا ينتقل نسبه عنه ولو نسب إلى غيره، فكذلك إذا أعتق عبدا ثبت له ولاؤه ولو أراد نقل ولائه عنه أو أذن في نقله عنه لم ينتقل، فلم يعبأ باشتراطهم الولاء، وقيل اشترطي ودعيهم يشترطون ما شاؤوا ونحو ذلك لأن ذلك غير قادح في العقد بل هو بمنزلة اللغو من الكلام، وأخر إعلامهم بذلك ليكون رده وإبطاله قولا شهيرا يخطب به على المنبر ظاهرا، إذ هو أبلغ في النكير وأوكد في التعبير ا هـ. وهو يؤول إلى أن الأمر فيه بمعنى الإباحة كما تقدم. قوله: "فقضاء الله أحق" أي بالاتباع من الشروط المخالفة له. قوله: "وشرط الله أوثق" أي باتباع حدوده التي حدها، وليست المفاعلة هنا على حقيقتها إذ لا مشاركة بين الحق والباطل، وقد وردت صيغة أفعل لغير التفضيل كثيرا، ويحتمل أن يقال ورد ذلك على ما اعتقدوه من الجواز. قوله: "ما بال رجال" أي ما حالهم. قوله: "إنما الولاء لمن أعتق" يستفاد منه أن كلمة "إنما" للحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه. ولولا ذلك لما لزم من إثبات الولاء للمعتق نفيه عن غيره، واستدل بمفهومه على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل أو وقع بينه وبينه محالفة خلافا للحنفية، ولا للملتقط خلافا لإسحاق. وسيأتي مزيد بسط لذلك في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى. ويستفاد من منطوقه إثبات الولاء لمن أعتق سابيه خلافا لمن قال يصير ولاؤه للمسلمين، ويدخل فيمن أعتق عتق المسلم للمسلم وللكافر، وبالعكس ثبوت الولاء للمعتق. "تنبيه": زاد النسائي من طريق جرير بن عبد الحميد عن هشام بن عروة في آخر هذا الحديث: "فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين زوجها وكان عبدا" وهذه الزيادة ستأتي في النكاح من حديث ابن عباس، ويأتي الكلام عليها هناك إن شاء الله تعالى، مع ذكر الخلاف في زوجها هل كان حرا أو عبدا، وتسميته، وما اتفق له بعد فراقها. وفي حديث بريرة هذا من الفوائد - سوى ما سبق وسوى ما سيأتي في النكاح - جواز كتابة الأمة كالعبد، وجواز كتابة المتزوجة ولو لم يأذن الزوج، وأنه ليس له منعها من كتابتها ولو كانت تؤدي إلى فراقها منه، كما أنه ليس للعبد المتزوج منع السيد من عتق أمته التي تحته وإن أدى ذلك إلى بطلان نكاحها. ويستنبط من تمكينها من السعي في مال الكتابة أنه ليس عليها خدمته. وفيه جواز سعي المكاتبة وسؤالها واكتسابها وتمكين السيد لها من ذلك، ولا يخفى أن محل الجواز إذا عرفت جهة حل كسبها، وفيه البيان بأن النهي الوارد عن كسب الأمة محمول على من لا يعرف وجه كسبها، أو محمول على غير المكاتبة. وفيه أن للمكاتب أن يسأل من حين الكتابة ولا يشترط في ذلك عجزه خلافا لمن شرطه. وفيه جواز السؤال لمن احتاج إليه من دين أو غرم أو نحو ذلك. وفيه أنه لا بأس بتعجيل مال الكتابة. وفيه جواز المساومة في البيع وتشديد صاحب السلعة فيها، وأن المرأة الرشيدة تتصرف لنفسها في البيع وغيره ولو كانت مزوجة خلافا لمن أبى ذلك، وسيأتي له مزيد في كتاب الهبة، وأن من لا يتصرف بنفسه فله أن يقيم غيره مقامه في ذلك، وأن العبد إذا

(5/192)


أذن السيد له في التجارة جاز تصرفه. وفيه جواز رفع الصوت عند إنكار المنكر، وأنه لا بأس لمن أراد أن يشتري للعتق أن يظهر ذلك لأصحاب الرقبة ليتساهلوا له في الثمن ولا يعد ذلك من الرياء. وفيه إنكار القول الذي لا يوافق الشرع وانتهار الرسول فيه. وفيه أن الشيء إذا بيع بالنقد كانت الرغبة فيه أكثر مما لو بيع بالنسيئة، وأن للمرء أن يقضي عنه دينه برضاه. وفيه جواز الشراء بالنسيئة، وأن المكاتب لو عجل بعض كتابته قبل المحل على أن يضع عنه سيده الباقي لم يجبر السيد على ذلك. وجواز الكتابة على قدر قيمة العبد وأقل منها وأكثر، لأن بين الثمن المنجز والمؤجل فرقا، ومع ذلك فقد بذلت عائشة المؤجل ناجزا فدل على أن قيمتها كانت بالتأجيل أكثر مما كوتبت به وكان أهلها باعوها بذلك. وفيه أن المراد بالخير في قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} القوة على الكسب، والوفاء بما وقعت الكتابة عليه، وليس المراد به المال، ويؤيد ذلك أن المال الذي في يد المكاتب لسيده فكيف يكاتبه بماله، لكن من يقول إن العبد يملك لا يرد عليه هذا، وقد نقل عن ابن عباس أن المراد بالخير المال مع أنه يقول إن العبد لا يملك، فنسب إلى التناقض، والذي يظهر أنه لا يصح عنه أحد الأمرين، واحتج غيره بأن العبد مال سيده والمال الذي معه لسيده فكيف يكاتبه بماله؟ وقال آخرون لا يصح تفسير الخير بالمال في الآية لأنه لا يقال فلان لا مال فيه وإنما يقال لا مال له أو لا مال عنده، فكذا إنما يقال فيه وفاء وفيه أمانة وفيه حسن معاملة ونحو ذلك. وفي الحديث أيضا جواز كتابة من لا حرفة له وفاقا للجمهور، واختلف عن مالك وأحمد وذلك أن بريرة جاءت تستعين على كتابتها ولم تكن قضت منها شيئا، فلو كان لها مال أو حرفة لما احتاجت إلى الاستعانة لأن كتابتها لم تكن حالة. وقد وقع عند الطبري من طريق أبي الزبير عن عروة "أن عائشة ابتاعت بريرة مكاتبة وهي لم تقض من كتابتها شيئا" وتقدمت الزيادة من وجه آخر. وفيه جواز أخذ الكتابة من مسألة الناس، والرد على من كره ذلك وزعم أنه أوساخ الناس. وفيه مشروعية معونة المكاتبة بالصدقة، وعند المالكية رواية أنه لا يجزئ عن الفرض. وفيه جواز الكتابة بقليل المال وكثيره، وجواز التأقيت في الديون في كل شهر مثلا كذا من غير بيان أوله أو وسطه، ولا يكون ذلك مجهولا لأنه يتبين بانقضاء الشهر الحلول، كذا قال ابن عبد البر، وفيه نظر لاحتمال أن يكون قول بريرة: "في كل عام أوقية" أي في غرته مثلا، وعلى تقدير التسليم فيمكن التفرقة بين الكتابة والديون، فإن المكاتب لو عجز حل لسيده ما أخذ منه بخلاف الأجنبي. وقال ابن بطال: لا فرق بين الديون وغيرها، وقصة بريرة محمولة على أن الراوي قصر في بيان تعيين الوقت وإلا يصير الأجل مجهولا. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السلف إلا إلى أجل معلوم. وفيه أن العد في الدراهم الصحاح المعلومة الوزن يكفي عن الوزن، وأن المعاملة في ذلك الوقت كانت بالأواقي، والأوقية أربعون درهما كما تقدم في الزكاة. وزعم المحب الطبري أن أهل المدينة كانوا يتعاملون بالعد إلى مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ثم أمروا بالوزن، وفيه نظر لأن قصة بريرة متأخرة عن مقدمه بنحو من ثمان سنين، لكن يحتمل قول عائشة "أعدها لهم عدة واحدة" أي ادفعها لهم، وليس مرادها حقيقة العد، ويؤيده قولها في طريق عمرة في الباب الذي يليه "أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة"، وفيه جواز البيع على شرط العتق بخلاف البيع بشرط أن لا يبيعه لغيره ولا يهبه مثلا، وأن من الشروط في البيع ما لا يبطل ولا يضر البيع. وفيه جواز بيع المكاتب إذا رضي وإن لم يكن عاجزا عن أداء نجم قد حل عليه، لأن بريرة لم تقل إنها عجزت ولا استفصلها النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي بسط ذلك في الباب الذي يليه. وفيه جواز مناجاة

(5/193)


المرأة دون زوجها سرا إذا كان المناجي ممن يؤمن، وأن الرجل إذا رأى شاهد الحال يقتضي السؤال عن ذلك سأل وأعان، وأنه لا بأس للحاكم أن يحكم لزوجته ويشهد. وفيه قبول خبر المرأة ولو كانت أمة، ويؤخذ منه حكم العبد بطريق الأولى. وفيه أن عقد الكتابة قبل الأداء لا يستلزم العتق، وأن بيع الأمة ذات الزوج ليس بطلاق. وفيه البداءة في الخطبة بالحمد والثناء، وقول أما بعد فيها، والقيام فيها، وجواز تعدد الشروط لقوله: "مائة شرط" وأن الإيتاء الذي أمر به السيد ساقط عنه إذا باع مكاتبه للعتق. وفيه أن لا كراهة في السجع في الكلام إذا لم يكن عن قصد ولا متكلفا. وفيه أن للمكاتب حالة فارق فيها الأحرار والعبيد. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يظهر الأمور المهمة من أمور الدين ويعلنها ويخطب بها على المنبر لإشاعتها، ويراعي مع ذلك قلوب أصحابه، لأنه لم يعين أصحاب بريرة بل قال: "ما بال رجال" ولأنه يؤخذ من ذلك تقرير شرع عام للمذكورين وغيرهم في الصورة المذكورة وغيرها. وهذا بخلاف قصة علي في خطبته بنت أبي جهل فإنها كانت خاصة بفاطمة فلذلك عينها. وفيه حكاية الوقاع لتعريف الأحكام، وأن اكتساب المكاتب له لا لسيده، وجواز تصرف المرأة الرشيدة في مالها بغير إذن زوجها، ومراسلتها الأجانب في أمر البيع والشراء كذلك، وجواز شراء السلعة للراغب في شرائها بأكثر من ثمن مثلها لأن عائشة بذلت ما قرر نسيئة على جهة النقد مع اختلاف القيمة بين النقد والنسيئة. وفيه جواز استدانة من لا مال له عند حاجته إليه. قال ابن بطال: أكثر الناس في تخريج الوجوه في حديث بريرة حتى بلغوها نحو مائة وجه، وسيأتي الكثير منها في كتاب النكاح. وقال النووي: صنف فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين أكثرا فيهما من استنباط الفوائد منها فذكرا أشياء. قلت: ولم أقف على تصنيف ابن خزيمة، ووقفت على كلام ابن جرير من كتابه "تهذيب الآثار" ولخصت منه ما تيسر بعون الله تعالى. وقد بلغ بعض المتأخرين الفوائد من حديث بريرة إلى أربعمائة أكثرها مستبعد متكلف، كما وقع نظير ذلك الذي صنف في الكلام على حديث المجامع في رمضان فبلغ به ألف فائدة وفائدة.

(5/194)


4 - باب: بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
وَقَالَ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُوَ عَبْدٌ إِنْ عَاشَ وَإِنْ مَاتَ وَإِنْ جَنَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
2564- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ لَهَا: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَصُبَّ لَهُمْ ثَمَنَكِ صَبَّةً وَاحِدَةً فَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ فَذَكَرَتْ بَرِيرَةُ ذَلِكَ لِأَهْلِهَا فَقَالُوا: لاَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَلاَؤُكِ لَنَا قَالَ مَالِكٌ قَالَ يَحْيَى فَزَعَمَتْ عَمْرَةُ أَنَّ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
قوله: "باب بيع المكاتب" في رواية السرخسي والمستملي: "المكاتبة" والأول أصح لقوله: "إذا رضي" وهذا اختيار منه لأحد الأقوال في مسألة بيع المكاتب إذا رضي بذلك ولو لم يعجز نفسه، وهو قول أحمد وربيعة

(5/194)


والأوزاعي والليث وأبي ثور وأحد قولي الشافعي ومالك، واختاره ابن جريج وابن المنذر وغيرهما على تفاصيل لهم في ذلك، ومنعه أبو حنيفة والشافعي في أصح القولين وبعض المالكية، وأجابوا عن قصة بريرة بأنها عجزت نفسها، واستدلوا باستعانة بريرة عائشة في ذلك، وليس في استعانتها ما يستلزم العجز، ولا سيما مع القول بجواز كتابة من لا مال عنده ولا حرفة له. قال ابن عبد البر: ليس في شيء من طرق حديث بريرة أنها عجزت عن أداء النجم، ولا أخبرت بأنه قد حل عليها شيء، ولم يرد في شيء من طرقه استفصال النبي صلى الله عليه وسلم لها عن شيء من ذلك، ومنهم من أول قولها: "كاتبت أهلي" فقال: معناه راودتهم واتفقت معهم على هذا القدر ولم يقع العقد بعد، ولذلك بيعت، فلا حجة فيه على بيع المكاتب مطلقا، وهو خلاف ظاهر سياق الحديث قاله القرطبي. ويقوي الجواز أيضا أن الكتابة عتق بصفة فيجب أن لا يعتق إلا بعد أداء جميع النجوم، كما لو قال أنت حر إن دخلت الدار فلا يعتق إلا بعد تمام دخولها، ولسيده بيعه قبل دخولها. ومن المالكية من زعم أن الذي اشترته عائشة كتابة بريرة لا رقبتها وقد تقدم رده، وقيل إنهم باعوا بريرة بشرط العتق، وإذا وقع البيع بشرط العتق صح على أصح القولين عند الشافعية والمالكية، وعن الحنفية يبطل. قوله: "وقالت عائشة: هو عبد ما بقي عليه شيء. وقال زيد بن ثابت: ما بقي عليه درهم. وقال ابن عمر: هو عبد إن عاش وإن مات وإن جني ما بقي عليه شيء" أما قول عائشة فوصله ابن أبي شيبة وابن سعد من طريق عمرو بن ميمون عن سليمان بن يسار قال: "استأذنت على عائشة فرفعت صوتي، فقالت: سليمان؟ فقلت سليمان. فقالت: أديت ما بقي عليك من كتابتك؟ قلت: نعم إلا شيئا يسيرا. قالت: ادخل، فإنك عبد ما بقي عليك شيء" وروى الطحاوي من طريق ابن أبي ذئب عن عمران بن بشير عن سالم هو مولى النضريين أنه قال لعائشة: ما أراك إلا ستحتجبين مني، فقالت مالك؟ فقال: كاتبت، فقالت: إنك عبد ما بقي عليك شيء" وأما قول زيد بن ثابت فوصله الشافعي وسعيد بن منصور من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد "أن زيد بن ثابت قال في المكاتب هو عبد ما بقي عليه درهم" وأما قول ابن عمر فوصله مالك عن نافع "أن عبد الله بن عمر كان يقول في المكاتب: هو عبد ما بقي عليه شيء" ووصله ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" وقد روي ذلك مرفوعا أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وصححه الحاكم، وأخرجه ابن حبان من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو في أثناء حديث، وهو قول الجمهور، ويؤيده قصة بريرة، لكن إنما تتم الدلالة منه لو كانت بريرة أدت من كتابتها شيئا فقد قررنا أنها لم تكن أدت منها شيئا، وكان فيه خلاف عن السلف: فعن علي "إذا أدى الشطر فهو غريم" وعنه "يعتق منه بقدر ما أدى" وعن ابن مسعود" لو كاتبه على مائتين وقيمته مائة فأدى المائة عتق" وعن عطاء "إذا أدى ثلاثة أرباع كتابته عتق" وروى النسائي عن ابن عباس مرفوعا: "المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى" ورجال إسناده ثقات، لكن اختلف في إرساله ووصله، وحجة الجمهور حديث عائشة وهو أقوى، ووجه الدلالة منه أن بريرة بيعت بعد أن كاتبت، ولو كان المكاتب يصير بنفس الكتابة حرا لامتنع بيعها. ثم ساق المصنف قصة بريرة من رواية يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن "أن بريرة جاءت تستعين عائشة" وصورة سياقه الإرسال، ولم تختلف الرواة عن مالك في ذلك، لكن تقدم في أبواب المساجد من وجه آخر عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة. وفي رواية هناك عن عمرة "سمعت عائشة" فظهر أنه موصول، وقد وصله ابن خزيمة من طريق مطرف عن مالك كذلك. وقوله: "إلا أن

(5/195)


يكون الولاء لنا" في رواية الكشميهني: "إلا أن يكون ولاؤك". وقوله: "قال مالك قال يحيى" هو ابن سعيد، وهو موصول بالإسناد المذكور.

(5/196)


5 - باب: إِذَا قَالَ الْمُكَاتَبُ اشْتَرِنِي وَأَعْتِقْنِي فَاشْتَرَاهُ لِذَلِكَ
2565- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي أَيْمَنُ قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ كُنْتُ غُلاَمًا لِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ وَمَاتَ وَوَرِثَنِي بَنُوهُ وَإِنَّهُمْ بَاعُونِي مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المَخْزُومِيِّ فَأَعْتَقَنِي ابْنُ أَبِي عَمْرٍو وَاشْتَرَطَ بَنُو عُتْبَةَ الْوَلاَءَ فَقَالَتْ دَخَلَتْ بَرِيرَةُ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَقَالَتْ اشْتَرِينِي وَأَعْتِقِينِي قَالَتْ نَعَمْ قَالَتْ لاَ يَبِيعُونِي حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلاَئِي فَقَالَتْ لاَ حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ فَسَمِعَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَلَغَهُ فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ مَا قَالَتْ لَهَا فَقَالَ اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا وَدَعِيهِمْ يَشْتَرِطُونَ مَا شَاءُوا فَاشْتَرَتْهَا عَائِشَةُ فَأَعْتَقَتْهَا وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا الْوَلاَءَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَإِنْ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ"
قوله: "باب إذا قال المكاتب اشترني وأعتقني فاشتراه لذلك" أي جاز. قوله: "عن أبيه" هو أيمن الحبشي المكي نزيل المدينة والد عبد الواحد، وهو غير أيمن بن نايل الحبشي المكي نزيل عسقلان، وكلاهما من التابعين، وليس لوالد عبد الواحد في البخاري سوى خمسة أحاديث: هذا وآخران عن عائشة وحديثان عن جابر، وكلها متابعة، ولم يرو عنه غير ولده عبد الواحد. قوله: "وورثني بنوه" أعرف من أولاد عتبة العباس بن عتبة والد الفضل الشاعر المشهور، وأبا خراش بن عتبة ذكره الفاكهي في "كتاب مكة" وهشام بن عتبة والد أحمد المذكور في "تاريخ ابن عساكر"عن ابن أبي عمران، ويزيد بن عتبة جد عبد الرحمن بن محمد بن يزيد المذكور عند الفاكهي أيضا، ولم أر لهم ذكرا في كتاب الزبير في النسب، وعتبة بن أبي لهب له صحبة دون أخيه عتيبة بالتصغير فإنه مات كافرا. قوله: "من ابن أبي عمرو" في رواية النسفي والكشميهني: "من عبد الله بن أبي عمرو" زاد الكشميهني: "ابن عمر بن عبد الله المخزومي". قوله فيه "اشتريها فأعتقيها ودعيهم يشترطوا ما شاؤوا، فاشترتها عائشة فأعتقتها" في هذا دلالة على أن عقد الكتابة الذي كان عقد لها مواليها انفسخ بابتياع عائشة لها، وفيه رد على من زعم أن عائشة اشترت منهم الولاء، واستدل به الأوزاعي على أن المكاتب لا يباع إلا للعتق، وبه قال أحمد وإسحاق، وقد تقدم ذكر اختلاف العلماء في ذلك قريبا، والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب العتق وما اتصل به من المكاتب على ستة وستين حديثا، المعلق منها ثلاثة عشر والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى تسعة وأربعون حديثا والخالص سبعة عشر حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى ثلاثة: حديث أبي هريرة في عتق عبده، وحديث أنس في قصة العباس، وحديث: "من سيدكم" . وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين سبعة آثار. والله أعلم.

(5/196)


كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
51 - كِتَاب الْهِبَةِ وَفَضْلِهَا وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهَا
2566- حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ"
[الحديث 2566- طرفه في:6017]
2567- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لِعُرْوَةَ "ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ فَقُلْتُ يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتْ الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا"
[الحديث 2567- طرفاه في: 6458 ، 6459]
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها" كذا للجميع، إلا للكشميهني وابن شبويه فقالا: "فيها" بدل "عليها". وأخر النسفي البسملة. والهبة بكسر الهاء وتخفيف الباء الموحدة تطلق بالمعنى الأعم على أنواع الإبراء، وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة وهي هبة ما يتمحض به طلب ثواب الآخرة، والهدية وهي ما يكرم به الموهوب له. ومن خصها بالحياة أخرج الوصية وهي تكون أيضا بالأنواع الثلاثة. وتطلق الهبة بالمعنى الأخص على ما لا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة بأنها تمليك بلا عوض، وصنيع المصنف محمول على المعنى الأعم لأنه أدخل فيها الهدايا، قوله: "عن المقبري عن أبيه عن أبي هريرة" كذا للأكثر وسقط "عن أبيه" من رواية الأصيلي وكريمة، وضبب عليه في رواية النسفي، والصواب إثباته. وكذا أخرجه الإسماعيلي عن محمد بن يحيى، وأبو نعيم من طريق إسماعيل القاضي، وأبو عوانة عن إبراهيم الحربي كلهم عن عاصم بن علي شيخ البخاري فيه. ومن طريق شبابة وعثمان بن عمرو بن المبارك عند الإسماعيلي، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" عن آدم كلهم عن ابن أبي ذئب كذلك، وكذلك رواه الليث عن سعيد كما سيأتي في كتاب الأدب، وأخرجه الترمذي من طريق أبي معشر عن سعيد عن أبي هريرة لم يقل "عن أبيه" وزاد في أوله "تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر" الحديث. وقال غريب، وأبو معشر يضعف. وقال الطرقي إنه أخطأ فيه حيث لم يقل فيه: "عن أبيه" كذا قال وقد تابعه محمد بن عجلان عن سعيد، وأخرجه أبو عوانة. نعم من زاد فيه: "عن أبيه" أحفظ وأضبط فروايتهم أولى. والله أعلم. قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية عثمان بن عمر "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول". قوله: "يا نساء المسلمات" قال عياض: الأصح الأشهر نصب النساء وجر المسلمات على الإضافة، وهي رواية المشارقة من إضافة الشيء إلى صفته كمسجد الجامع، وهو عند الكوفيين على ظاهره، وعند البصريين

(5/197)


يقدرون فيه محذوفا. وقال السهيلي وغيره: جاء برفع الهمزة على أنه منادى مفرد، ويجوز في المسلمات الرفع صفة على اللفظ على معنى يا أيها النساء المسلمات، والنصب صفة على الموضع، وكسرة التاء علامة النصب، وروي ينصب الهمزة على أنه منادى مضاف وكسرة التاء للخفض بالإضافة كقولهم مسجد الجامع، وهو مما أضيف فيه الموصوف إلى الصفة في اللفظ، فالبصريون يتأولونه على حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه نحو يا نساء الأنفس المسلمات أو يا نساء الطوائف المؤمنات أي لا الكافرات، وقيل تقديره يا فاضلات المسلمات كما يقال هؤلاء رجال القوم أي أفاضلهم، والكوفيون يدعون أن لا حذف فيه ويكتفون باختلاف الألفاظ في المغايرة. وقال ابن رشيد: توجيهه أنه خاطب نساء بأعيانهن فأقبل بندائه عليهن فصحت الإضافة على معنى المدح لهن، فالمعنى يا خيرات المؤمنات كما يقال رجال القوم، وتعقب بأنه لم يخصصهن به لأن غيرهن يشاركهن في الحكم، وأجيب بأنهما يشاركنهن بطريق الإلحاق، وأنكر ابن عبد البر رواية الإضافة، ورده ابن السيد بأنها قد صحت نقلا وساعدتها اللغة فلا معنى للإنكار. وقال ابن بطال: يمكن تخريج يا نساء المسلمات على تقدير بعيد وهو أن يجعل نعتا لشيء محذوف كأنه قال يا نساء الأنفس المسلمات، والمراد بالأنفس الرجال، ووجه بعده أنه يصير مدحا للرجال وهو صلى الله عليه وسلم إنما خاطب النساء، قال إلا أن يراد بالأنفس الرجال والنساء معا، وأطال في ذلك، وتعقبه ابن المنير. وقد رواه الطبراني من حديث عائشة بلفظ: "يا نساء المؤمنين" الحديث. قوله: "جارة لجارتها" كذا للأكثر، ولأبي ذر "لجارة" والمتعلق محذوف تقديره هدية مهداة. قوله: "فرسن" بكسر الفاء والمهملة بينهما راء ساكنة وآخره نون هو عظيم قليل اللحم، وهو للبعير موضع الحافر للفرس، ويطلق على الشاة مجازا، ونونه زائدة وقيل أصلية، وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله لا إلى حقيقة الفرسن لأنه لم تجر العادة بإهدائه أي لا تمنع جارة من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلاله بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر وإن كان قليلا فهو خير من العدم، وذكر الفرسن على سبيل المبالغة، ويحتمل أن يكون النهي إنما وقع للمهدى إليها وأنها لا تحتقر ما يهدى إليها ولو كان قليلا، وحمله على الأعم من ذلك أولى. وفي حديث عائشة المذكور "يا نساء المؤمنين تهادوا ولو فرسن شاة، فإنه ينبت المودة ويذهب الضغائن" وفي الحديث الحض على التهادي ولو باليسير لأن الكثير قد لا يتيسر كل وقت، وإذا تواصل اليسير صار كثيرا. وفيه استحباب المودة وإسقاط التكلف. قوله: "ابن أبي حازم" هو عبد العزيز. قوله: "يزيد بن رومان" بضم الراء، ورجال الإسناد كلهم مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق أولهم أبو حازم وهو سلمة بن دينار. قوله: "ابن أختي" بالنصب على النداء وأداة النداء محذوفة، ووقع في رواية مسلم عن يحيى بن يحيى عن عبد العزيز "والله يا ابن أختي". قوله: "إن كنا لننظر" هي المخففة من الثقيلة وضميرها مستتر ولذا دخلت اللام في الخبر. قوله: "ثلاثة أهلة" يجوز في ثلاثة الجر والنصب. قوله: "في شهرين" هو باعتبار رؤية الهلال أول الشهر ثم رؤيته ثانيا في أول الشهر الثاني ثم رؤيته ثالثا في أول الشهر الثالث فالمدة ستون يوما والمرئي ثلاثة أهلة، وسيأتي في الرقاق من طريق هشام بن عروة عن أبيه بلفظ: "كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا" وفي رواية يزيد بن رومان هذه زيادة عليه ولا منافاة بينهما، وقد أخرجه ابن ماجة من طريق أبي سلمة عن عائشة بلفظ: "لقد كان يأتي على آل محمد الشهر ما يرى في بيت من بيوته الدخان". قوله: "ما يعيشكم" بضم أوله يقال أعاشه الله عيشة، وضبطه النووي بتشديد الياء التحتانية، وفي بعض النسخ "ما يغنيكم" بسكون المعجمة بعدها نون مكسورة ثم تحتانية ساكنة. وفي رواية أبي

(5/198)


سلمة عن عائشة "قلت فما كان طعامكم" . قوله: "الأسودان التمر والماء" هو على التغليب وإلا فالماء لا لون له؛ ولذلك قالوا الأبيضان اللبن والماء، وإنما أطلقت على التمر الأسود لأنه غالب تمر المدينة، وزعم صاحب "المحكم" وارتضاه بعض الشراح المتأخرين أن تفسير الأسودين بالتمر والماء مدرج، وإنما أرادت الحرة والليل، واستدل بأن وجود التمر والماء يقتضي وصفهم بالسعة، وسياقها يقتضي وصفهم بالضيق، وكأنها بالغت في وصف حالهم بالشدة حتى إنه لم يكن عندهم إلا الليل والحرة ا هـ. وما ادعاه ليس بطائل، والإدراج لا يثبت بالتوهم، وقد أشار إلى أن مستنده في ذلك أن بعضهم دعا قوما وقال لهم: ما عندي إلا الأسودان فرضوا بذلك، فقال: ما أردت إلا الحرة والليل. وهذا حجة عليه لأن القوم فهموا التمر والماء وهو الأصل، وأراد هو المزح معهم فألغز لهم بذلك، وقد تظاهرت الأخبار بالتفسير المذكور، ولا شك أن أمر العيش نسبي، ومن لا يجد إلا التمر أضيق حالا ممن يجد الخبز مثلا، ومن لم يجد إلا الخبز أضيق حالا ممن يجد اللحم مثلا، وهذا أمر لا يدفعه الحس، وهو الذي أرادت عائشة؛ وسيأتي في الرقاق من طريق هشام عن عروة عن أبيه عنها بلفظ: "وما هو إلا التمر والماء" وهو أصرح في المقصود لا يقبل الحمل على الإدراج. قوله: "جيران" بكسر الجيم زاد الإسماعيلي من طريق محمد بن الصباح عن عبد العزيز "نعم الجيران كانوا" وفي رواية أبي سلمة "جيران صدق" وسيأتي بعد ستة أبواب الإشارة إلى أسمائهم. قوله: "منائح" بنون ومهملة جمع منيحة وهي كعطية لفظا ومعنى، وأصلها عطية الناقة أو الشاة ويقال: لا يقال منيحة إلا للناقة وتستعار للشاة كما تقدم في الفرسن سواء، قال إبراهيم الحربي وغيره: يقولون منحتك الناقة وأعرتك النخلة وأعمرتك الدار وأخدمتك العبد وكل ذلك هبة منافع، وقد تطلق المنيحة على هبة الرقبة، ويأتي مزيد لذلك بعد أبواب. وقوله: "يمنحون" بفتح أوله وثالثه، ويجوز ضم أوله وكسر ثالثه أي يجعلونها له منحة. قوله: "فيسقيناه" في رواية الإسماعيلي: "فيسقينا منه" وفي هذا الحديث ما كان فيه الصحابة من التقلل من الدنيا في أول الأمر. وفيه فضل الزهد، وإيثار الواجد للمعدم، والاشتراك فيما في الأيدي. وفيه جواز ذكر المرء ما كان فيه من الضيق بعد أن يوسع الله عليه تذكيرا بنعمه وليتأسى به غيره.

(5/199)


2 - باب: الْقَلِيلِ مِنْ الْهِبَةِ
2568- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لاَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ"
[الحديث 2568- طرفه في: 5178]
قوله: "باب القليل من الهبة" ذكر فيه حديث أبي هريرة "لو دعيت إلى ذراع أو كراع" وسيأتي شرحه في "باب الوليمة" من كتاب النكاح إن شاء الله تعالى، ومناسبته للترجمة بطريق الأولى، لأنه إذا كان يجيب من دعاه على ذلك القدر اليسير فلأن يقبله ممن أحضره إليه أولى. الكراع من الدابة ما دون الكعب، وقيل هو اسم مكان ولا يثبت، ويرده حديث أنس عند الترمذي بلفظ: "لو أهدي إلي كراع لقبلت" وللطبراني من حديث أم حكيم الخزاعية "قلت يا رسول الله تكره رد الظلف؟ قال: ما أقبحه، لو أهدي إلي كراع لقبلت" الحديث. وخص

(5/199)


الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الحقير والخطير، لأن الذراع كانت أحب إليه من غيرها والكراع لا قيمة له، وفي المثل "أعط العبد كراعا يطلب منك ذراعا" وقوله هنا: "عن سليمان" هو ابن مهران الأعمش، وأبو حازم هو سليمان مولى عزة، وهو أكبر من أبي حازم سلمة المذكور في الباب قبله، قال ابن بطال: أشار عليه الصلاة والسلام بالكراع والفرسن إلى الحض على قبول الهدية ولو قلت لئلا يمتنع الباعث من الهدية لاحتقار الشيء، فحض على ذلك لما فيه من التألف.

(5/200)


3 - باب: مَنْ اسْتَوْهَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا"
2569- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَكَانَ لَهَا غُلاَمٌ نَجَّارٌ قَالَ لَهَا مُرِي عَبْدَكِ فَلْيَعْمَلْ لَنَا أَعْوَادَ الْمِنْبَرِ فَأَمَرَتْ عَبْدَهَا فَذَهَبَ فَقَطَعَ مِنْ الطَّرْفَاءِ فَصَنَعَ لَهُ مِنْبَرًا فَلَمَّا قَضَاهُ أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ قَدْ قَضَاهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسِلِي بِهِ إِلَيَّ فَجَاءُوا بِهِ فَاحْتَمَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ حَيْثُ تَرَوْنَ"
2570- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ - وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَازِلٌ أَمَامَنَا - وَالْقَوْمُ مُحْرِمُونَ وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا - وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي - فَلَمْ يُؤْذِنُونِي بِهِ، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ وَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ فَقُمْتُ إِلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقُلْتُ لَهُمْ نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقَالُوا لاَ وَاللَّهِ لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُمَا ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ، فَرُحْنَا - وَخَبَأْتُ الْعَضُدَ مَعِي - فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا حَتَّى نَفِدَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ" فَحَدَّثَنِي بِهِ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب من استوهب من أصحابه شيئا" أي سواء كان عينا أو منفعة جاز، أي بغير كراهة في ذلك إذا كان يعلم طيب أنفسهم. قوله: "وقال أبو سعيد" هو الخدري. قوله: "اضربوا لي معكم سهما" هو طرف من حديث الرقية وقد تقدم بتمامه مشروحا في كتاب الإجارة. قوله: "حدثنا أبو غسان" هو محمد بن مطرف، وسهل هو ابن سعد، وتقدم الحديث مشروحا في كتاب الجمعة، وفيه استيهابه من المرأة منفعة غلامها، وقد سبق ما نقل في تسمية كل منهما. وأغرب الكرماني هنا فزعم أن اسم المرأة مينا وهو وهم، وإنما قيل ذلك في اسم النجار كما تقدم

(5/200)


وأن قول أبي غسان في هذه الرواية إن المرأة من المهاجرين وهم، ويحتمل أن تكون أنصارية حالفت مهاجريا وتزوجت به أو بالعكس، وقد ساقه ابن بطال في هذا الموضع بلفظ: "امرأة من الأنصار" والذي في النسخ التي وقفت عليها من البخاري ما وصفته. قوله: "حدثنا عبد العزيز بن عبد الله" هو الأويسي، والإسناد كله مدنيون، وقد تقدم حديث أبي قتادة مشروحا في كتاب الحج، وفيه طلب أبي قتادة من أصحابه مناولته رمحه وإنما امتنعوا لكونهم كانوا محرمين، وفيه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "هل معكم منه شيء" وقد ذكرت هناك رواية من زاد فيه: "كلوا وأطعموني" ولعل المصنف أشار إلى هذه الزيادة. وقوله: "فحدثني به زيد بن أسلم" قال ذلك محمد بن جعفر راويه عن أبي حازم، وهو ابن أبي كثير أخو إسماعيل. وقوله فيه: "أخصف نعلي" بمعجمة ثم مهملة مكسورة أي أجعل لها طاقا، كأنها كانت انخرقت فأبدلها. وأغرب الداودي فقال: أعمل لها شسعا، وقوله: "حتى نفدها" بتشديد الفاء المفتوحة أي فرغ من أكلها كلها، وروي بكسر الفاء والتخفيف، ورده ابن التين. قال ابن بطال: استيهاب الصديق حسن إذا علم أن نفسه تطيب به، وإنما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من أبي سعيد وكذا من أبي قتادة وغيرهما ليؤنسهم به ويرفع عنهم اللبس في توقفهم في جواز ذلك. وقوله في السند "عبد الله بن أبي قتادة السلمي" هو بفتح اللام وهذا مشهور في الأنصار، وذكر ابن الصلاح أن من قاله بكسر اللام لحن، وليس كما قال بل كسر اللام لغة معروفة وهي الأصل، ويتعجب من خفاء ذلك عليه.

(5/201)


باب من اسبسقى وقال سهل (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اسقني)
...
4 - باب: مَنْ اسْتَسْقَى
وَقَالَ سَهْلٌ "قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْقِنِي"
2571- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو طُوَالَةَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِنَا هَذِهِ فَاسْتَسْقَى فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً لَنَا ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِنَا هَذِهِ فَأَعْطَيْتُهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ وَعُمَرُ تُجَاهَهُ وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ عُمَرُ هَذَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَى الأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ ثُمَّ قَالَ الأَيْمَنُونَ الأَيْمَنُونَ أَلاَ فَيَمِّنُوا قَالَ أَنَسٌ فَهِيَ سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ"
قوله: "باب من استسقى" ماء أو لبنا أو غير ذلك مما تطيب به نفس المطلوب منه. قوله: "وقال سهل قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اسقني" هو طرف من حديث أوله "ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب، فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها" الحديث وفيه: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسقنا يا سهل" . ثم ذكر حديث أنس في تقديم الأيمن في الشرب وسيأتي شرحه في الأشربة، أورده هنا من طريق أبي طوالة وهو بضم المهملة وتخفيف الواو اسمه عبد الله بن عبد الرحمن، والغرض منه قول أنس "فاستسقى". قوله: "الأيمنون الأيمنون" فيه تقدير مبتدأ مضمر، أي المقدم الأيمنون، والثانية للتأكيد. وقوله: "ألا فيمنوا" كذا وقع بصيغة الاستفتاح، والأمر بالتيامن، وقد أخرجه مسلم من الوجه الذي أخرجه منه البخاري إلا أنه قال في الثالثة أيضا: "الأيمنون" ذكر اللفظة ثلاث مرات كما ذكر قول أنس "فهي سنة ثلاث مرار" ، وعلى ذلك شرح ابن التين كأنه وقع كذلك في نسخته، ولم أره في شيء من النسخ إلا كما وصفت أولا، وتوجيهه أنه لما بين أن الأيمن يقدم ثم أكده بإعادته أكمل ذلك بصريح الأمر به، ويستفاد من حذف المفعول

(5/201)


التعميم في جميع الأشياء لقول عائشة "كان يعجبه التيمن في شأنه كله" وأشار الإسماعيلي إلى أن سليمان بن بلال تفرد عن أبي طوالة بقوله: "فاستسقى" وأخرجه من طريق إسماعيل بن جعفر وخالد الواسطي عن أبي طوالة بدونها انتهى وسليمان حافظ وزيادته مقبولة، وقد ثبتت هذه اللفظة في حديث جابر من طريق الأعمش عن أبي صالح عنه في حديث سيأتي في الأشربة. وفيه جواز طلب الأعلى من الأدنى ما يريده من مأكول ومشروب إذا كانت نفس المطلوب منه طيبة به ولا يعد ذلك من السؤال المذموم.

(5/202)


5 - باب: قَبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيْدِ وَقَبِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبِي قَتَادَةَ عَضُدَ الصَّيْدِ
2572- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا فَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَرِكِهَا - أَوْ فَخِذَيْهَا قَالَ: فَخِذَيْهَا لاَ شَكَّ فِيهِ – فَقَبِلَهُ. قُلْتُ: وَأَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَأَكَلَ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: قَبِلَهُ"
[الحديث 2572- طرفاه في: - 5489 ، 5535]
قوله: "باب قبول هدية الصيد، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم من أبي قتادة عضد الصيد" تقدم حديثه في ذلك قبل باب، وقوله في حديث أنس "أنفجنا" بالفاء والجيم أي أثرنا. وقوله: "فلغبوا" بالمعجمة والموحدة أي تعبوا. ووقع كذلك في رواية الكشميهني. وأغرب الداودي، فقال: معناه عطشوا. وتعقبه ابن التين وقال: ضبطوا لغبوا بكسر الغين والفتح أعرف، وسيأتي شرحه إن شاء الله تعالى في كتاب الصيد والذبائح. ومر الظهران واد معروف على خمسة أميال من مكة إلى جهة المدينة، وقد ذكر الواقدي أنه من مكة على خمسة أميال. وزعم ابن وضاح أن بينهما أحدا وعشرين ميلا، وقيل ستة عشر وبه جزم البكري، قال النووي: والأول غلط وإنكار للمحسوس. ومر قرية ذات نخل وزرع ومياه، والظهران اسم الوادي، وتقول العامة بطن مرو. قلت: وقول البكري هو المعتمد والله أعلم. وأبو طلحة هو زوج أم سليم والدة أنس، وقوله: "فخذيها لا شك فيه"يشير إلى أنه يشك في الوركين خاصة، وأن الشك في قوله: "فخذيها أو وركيها" ليس على السواء، أو كان يشك في الفخذين ثم استيقن، وكذلك شك في الأكل ثم استيقن القبول فجزم به آخرا.

(5/202)


6 - باب: قبول الهدية
2573- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ "أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ أَمَا إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنَّا حُرُمٌ"
قوله: "باب قبول الهدية" كذا ثبت لأبي ذر، وسقطت هذه الترجمة هنا لغيره وهو الصواب. وأورد فيه

(5/103)


7 - باب: قَبُولِ الْهَدِيَّةِ
2574- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدَةُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ يَبْتَغُونَ بِهَا أَوْ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 2574- أطرافه في: 2580 ، 2581 ، 3775]
2575- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ - خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ - إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقِطًا وَسَمْنًا وَأَضُبًّا فَأَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الأَقِطِ وَالسَّمْنِ وَتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 2575- أطرافه في: 5389 ، 5402 ، 7358]
2576- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ فَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ وَإِنْ: قِيلَ هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ مَعَهُمْ"
2577- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَحْمٍ فَقِيلَ: تُصُدِّقَ عَلَى بَرِيرَةَ قَالَ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ"
2578- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ وَأَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا وَلاَءَهَا فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ فَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا تُصُدِّقَ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ . وَخُيِّرَتْ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: زَوْجُهَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ؟ قَالَ شُعْبَةُ: سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَنْ زَوْجِهَا، قَالَ: لاَ أَدْرِي أَحُرٌّ أَمْ عَبْدٌ"
2579- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لاَ، إِلاَّ

(5/203)


شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ مِنْ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثْتَ إِلَيْهَا مِنْ الصَّدَقَةِ قَالَ إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا"
قوله: "باب قبول الهدية" كذا لأبي ذر وهو تكرار بغير فائدة. وهذه الترجمة بالنسبة إلى ترجمة قبول هدية الصيد من العام بعد الخاص. ووقع عند النسفي "باب من قبل الهدية" وذكر فيه ستة أحاديث. الأول حديث عائشة "كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة" وسيأتي شرحه في الباب الذي بعده، وقوله فيه: "مرضاة " هو مصدر بمعنى الرضا، وقوله فيه: "يبتغون" بالموحدة والمعجمة من البغية، وروي "يتبعون" بتقديم مثناة مثقلة وكسر الموحدة وبالمهملة. ثانيها حديث ابن عباس "أهدت أم حفيد" وهي بالمهملة والفاء مصغر، وسيأتي الكلام عليه في الأطعمة في الكلام على الضب، وقوله فيه: "وترك الأضب" كذا لأبي ذر بصيغة الجمع ولغيره: "الضب" والأضب بضم المعجمة جمع ضب مثل أكف وكف، قوله: "تقذرا" بالقاف والمعجمة تقول قذرت الشيء وتقذرته إذا كرهته. وقول: ابن عباس "لو كان حراما ما أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم"استدلال صحيح من جهة التقرير. ثالثها حديث أبي هريرة في قبوله صلى الله عليه وسلم الهدية ورده الصدقة، وقوله فيه: "إذا أتي بطعام" زاد أحمد وابن حبان من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن زياد "من غير أهله". قوله: "ضرب بيده" أي شرع في الأكل مسرعا، ومثله ضرب في الأرض إذا أسرع السير فيها. رابعها حديث عائشة في قصة بريرة من طريق القاسم عن عائشة، وسيأتي شرحه في كتاب النكاح وقد مضى ما يتعلق بشراء بريرة في كتاب العتق قريبا، وشاهد الترجمة منه قوله: "هو لها صدقة ولنا هدية" فيؤخذ منه أن التحريم إنما هو على الصفة لا على العين، ووقع في رواية أبي ذر الهروي "فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم": هذا تصدق به على بريرة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو لها صدقة ولنا هدية" ووقع لغير أبي ذر هنا "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا تصدق به على بريرة؟ هو لها صدقة ولنا هدية" فجعل السؤال والجواب من كلامه صلى الله عليه وسلم، والأول أصوب وهو الثابت في غير هذه الرواية أيضا. خامسها حديث أنس في ذلك قوله: "عن أنس" في رواية الإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة عن قتادة "سمع أنس بن مالك". سادسها حديث أم عطية في الشاة من الصدقة وأنها بلغت محلها: قوله فيه "الذي بعثت إليها" كذا للأكثر بصيغة المخاطب، وللكشميهني: "بعثت " بضم أوله على البناء للمجهول. قوله: "أنه قد بلغت" في رواية الكشميهني: "إنها قد بلغت محلها" بكسر المهملة يقع على المكان والزمان، أي زال عنها حكم الصدقة المحرمة علي وصارت لي حلالا. "تنبيه": أم عطية اسمها نسيبة بنون ومهملة وموحدة مصغرا كما تقدم في الكلام على هذا الحديث في أواخر الزكاة، ووقع عند الإسماعيلي من رواية وهب بن بقية عن خالد بن عبد الله نسيبة بفتح النون ومن رواية يزيد بن زريع عن خالد الحذاء نسيبة بالتصغير وهو الصواب. ثم أخرجه من طريق ابن شهاب عن الحذاء عن أم عطية قالت: "بعثت إلي نسيبة الأنصارية بشاة فأرسلت إلى عائشة منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عندكم شيء؟ قالت: لا إلا ما أرسلت به نسيبة" الحديث. قال الإسماعيلي: هذا يدل على أن نسيبة غير أم عطية. قلت: سبب ذلك تحريف وقع في روايته في قوله: "بعث" والصواب "بعثت" على البناء للمجهول، وفيه نوع التجريد لأن أم عطية أخبرت عن نفسها بما يوهم أن الذي تخبر عنه غيرها، قال ابن بطال: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقة لأنها أوساخ الناس، ولأن أخذ الصدقة منزلة ضعة، والأنبياء منزهون عن ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان كما وصفه الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} والصدقة لا تحل للأغنياء. وهذا بخلاف الهدية فإن العادة جارية بالإثابة عليها، وكذلك

(5/204)


كان شأنه. وقوله: "قد بلغت محلها" فيه أن الصدقة يجوز فيها تصرف الفقير الذي أعطيها بالبيع والهدية وغير ذلك، وفيه إشارة إلى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا تحرم عليهن الصدقة كما حرمت عليه، لأن عائشة قبلت هدية بريرة وأم عطية مع علمها بأنها كانت صدقة عليهما، وظنت استمرار الحكم بذلك عليها ولهذا لم تقدمها للنبي صلى الله عليه وسلم لعلمها أنه لا تحل له الصدقة، وأقرها صلى الله عليه وسلم على ذلك الفهم ولكنه بين لها أن حكم الصدقة فيها قد تحول فحلت له صلى الله عليه وسلم أيضا، ويستنبط من هذه القصة جواز استرجاع صاحب الدين من الفقير ما أعطاه له من الزكاة بعينه وأن للمرأة أن تعطي زكاتها لزوجها ولو كان ينفق عليها منها، وهذا كله فيما لا شرط فيه. والله أعلم. "تنبيه": استشكلت قصة عائشة في حديث أم عطية مع حديثها في قصة بريرة لأن شأنهما واحد، وقد أعلمها النبي صلى الله عليه وسلم في كل منهما بما حاصله أن الصدقة إذا قبضها من يحل له أخذها ثم تصرف فيها زال عنها حكم الصدقة وجاز لمن حرمت عليه أن يتناول منها إذا أهديت له أو بيعت، فلو تقدمت إحدى القصتين على الأخرى لأغنى ذلك عن إعادة ذكر الحكم، ويبعد أن تقع القصتان دفعة واحدة.

(5/205)


بَلَى فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ فَقُلْنَ ارْجِعِي إِلَيْهِ فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فَأَتَتْهُ فَأَغْلَظَتْ وَقَالَتْ إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَكَلَّمُ قَالَ فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ حَتَّى أَسْكَتَتْهَا قَالَتْ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَائِشَةَ وَقَالَ إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ"
قَالَ الْبُخَارِيُّ: الْكَلاَمُ الأَخِيرُ قِصَّةُ فَاطِمَةَ يُذْكَرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ "كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ"
وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَرَجُلٍ مِنَ المَوَالِي عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ "قَالَتْ عَائِشَةُ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَتْ فَاطِمَةُ"
قوله: "باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض" يقال تحرى الشيء إذا قصده دون غيره. قوله: "حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان الناس يتحرون بهداياهم يومي. وقالت أم مسلمة إن صواحبي اجتمعن، فذكرت له فأعرض عنها" هكذا أورده مختصرا جدا، وقد أخرجه أبو عوانة وأبو نعيم والإسماعيلي من طريق محمد بن عبيد، زاد الإسماعيلي وخلف بن هشام كلاهما عن حماد بن زيد بهذا الإسناد بلفظ: "كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة فاجتمعن صواحبي إلى أم سلمة فقلن لها: خبري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا له حيث كان، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، قال فأعرض عني، قالت: فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني" الحديث: وقد أخرجه المصنف في مناقب عائشة عن عبد الله بن عبد الوهاب عن حماد بن زيد فقال: "عن هشام عن أبيه كان الناس يتحرون" فذكره بتمامه مرسلا، وروى ابن سعد في طبقات النساء من حديث أم سلمة قالت: "كان الأنصار يكثرون الطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وعمارة بن حزم وأبو أيوب، وذلك لقرب جوارهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس "حدثني أخي" هو أبو بكر عبد الحميد "عن سليمان" هو ابن بلال. وقد تابع البخاري حميد بن زنجويه عند أبي نعيم وإسماعيل القاضي عند أبي عوانة فروياه عن إسماعيل بن أبي أويس كما قال، وخالفهم محمد بن يحيى الذهلي فرواه عن إسماعيل "حدثني سليمان بن بلال" حذف الواسطة بين إسماعيل وسليمان وهو أخو إسماعيل. قوله: "عن هشام بن عروة" زاد فيه على رواية حماد بن زيد في آخره: "فقالت - أي أم سلمة - أتوب إلى الله من ذلك يا رسول الله" وزاد فيه أيضا إرسالهن فاطمة ثم إرسالهن زينب بنت جحش، وقد تصرف الرواة في هذا الحديث بالزيادة والنقص، ومنهم من جعله ثلاثة أحاديث. قال البخاري "الكلام الأخير قصة فاطمة - أي إرسال أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم إليه - يذكر عن هشام بن عروة عن رجل عن الزهري عن محمد بن عبد الرحمن" يعني أنه اختلف فيه على هشام بن عروة فرواه سليمان بن بلال عنه عن أبيه عن عائشة في جملة الحديث الأول، ورواه عنه غيره بهذا الإسناد الأخير. قوله: "والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي بقيتهن، وهي زينب بنت جحش الأسدية وأم حبيبة الأموية وجويرية بنت الحارث الخزاعية وميمونة بنت الحارث

(5/206)


الهلالية دون زينب بنت خزيمة أم المساكين. رواه ابن سعد من طريق رميثة المذكورة وهي رميثة بالمثلثة مصغرة عن أم سلمة قالت: "كلمني صواحبي وهن - فذكرتهن - وكنا في الجانب الثاني وكانت عائشة وصواحبها في الجانب الآخر، فقلن كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الناس يهدون إليه في بيت عائشة ونحن نحب ما تحب" الحديث قال ابن سعد: ماتت زينب بنت خزيمة قبل أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة، وأسكن أم سلمة بيتها لما دخل بها. قوله: "فقلن لها كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس" بالجزم والميم مكسورة لالتقاء الساكنين ويجوز الرفع. قوله: "فليهدها" في رواية الكشميهني: "فليهد" بحذف الضمير. قوله: "فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة" يأتي شرحه في مناقب عائشة إن شاء الله تعالى. قوله: "ثم إنهن دعون فاطمة" في رواية الكشميهني: "دعين" وروى ابن سعد من مرسل علي بن الحسين أن التي خاطبتها بذلك منهن زينب بنت جحش، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سألها "أرسلتك زينب؟ قالت: زينب وغيرها، قال: أهي التي وليت ذلك؟ قالت: نعم". قوله: "إن نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي بكر" أي يطلبن منك العدل. وفي رواية الأصيلي: "يناشدنك الله العدل" أي يسألنك بالله العدل، والمراد به التسوية بينهن في كل شيء من المحبة وغيرها، زاد في رواية محمد بن عبد الرحمن عن عائشة عند مسلم: "أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني يسألنك العدل في بنت ابن أبي قحافة" وأبو قحافة هو والد أبي بكر. قوله: "فقال: يا بنية ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى" زاد مسلم في الرواية المذكورة "قال: فأحبي هذه، فقامت فاطمة حين سمعت ذلك" . قوله: "فرجعت إليهن فأخبرتهن" زاد مسلم: "فقلت لها ما نراك أغنيت عنا من شيء" . قوله: "فأبت أن ترجع" في رواية مسلم: "فقالت: والله لا أكلمه فيها أبدا" . قوله: "فأرسلن زينب بنت جحش" زاد مسلم: "وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه ثناء عائشة عليها بالصدقة وذكرها لها بالحدة التي تسرع منها الرجعة. قوله: "فأتته" في مرسل علي بن الحسين "فذهبت زينب حتى استأذنت، فقال: ائذنوا لها. فقالت: حسبك إذا برقت لك بنت ابن أبي قحافة ذراعيها" وفي رواية مسلم: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحال التي دخلت فاطمة وهو بها" . قوله: "فأغلظت" في رواية مسلم: "ثم وقعت بي فاستطالت" وفي مرسل علي بن الحسين "فوقعت بعائشة ونالت منها" . قوله: "فسبتها حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة هل تكلم" في رواية مسلم: "وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها. قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر" وفي هذا جواز العمل بما يفهم من القرائن، لكن روى النسائي وابن ماجه مختصرا من طريق عبد الله البهي عن عروة عن عائشة قالت: "دخلت على زينب بنت جحش فسبتني، فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فأبت، فقال سبيها، فسببتها حتى جف ريقها في فمها" وقد ذكرته في "باب انتصار الظالم" من كتاب المظالم فيمكن أن يحمل على التعدد. قوله: "فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها" في رواية لمسلم: "فلما وقعت بها لم أنشبها أن أثخنتها غلبة" ولابن سعد "فلم أنشبها أن أفحمتها" . قوله: "فقال: إنها بنت أبي بكر" أي إنها شريفة عاقلة عارفة كأبيها، وكذا في رواية مسلم، وفي رواية النسائي المذكورة "فرأيت وجهه يتهلل" وكأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن أبا بكر كان عالما بمناقب مضر ومثالبها فلا يستغرب من بنته تلقي ذلك عنه "ومن يشابه أبه فما ظلم". وفي هذا الحديث منقبة ظاهرة لعائشة، وأنه لا حرج على المرء في إيثار بعض نسائه بالتحف، وإنما اللازم العدل في المبيت والنفقة ونحو

(5/207)


ذلك من الأمور اللازمة، كذا قرره ابن بطال عن المهلب، وتعقبه ابن المنير بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك وإنما فعله الذين أهدوا له وهم باختيارهم في ذلك، وإنما لم يمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ليس من كمال الأخلاق أن يتعرض الرجل إلى الناس بمثل ذلك لما فيه من التعرض لطلب الهدية، وأيضا فالذي يهدي لأجل عائشة كأنه ملك الهدية بشرط، والتمليك يتبع فيه تحجير المالك، مع أن الذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يشركهن في ذلك، وإنما وقعت المنافسة لكون العطية تصل إليهن من بيت عائشة. وفيه قصد الناس بالهدايا أوقات المسرة ومواضعها ليزيد ذلك في سرور المهدي إليه. وفيه تنافس الضرائر وتغايرهن على الرجل، وأن الرجل يسعه السكوت إذا تقاولن، ولا يميل مع بعض على بعض. وفيه جواز التشكي والتوسل في ذلك، وما كان عليه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من مهابته والحياء منه حتى راسلنه بأعز الناس عنده فاطمة. وفيه سرعة فهمهن ورجوعهن إلى الحق والوقوف عنده. وفيه إدلال زينب بنت جحش على النبي صلى الله عليه وسلم لكونها كانت بنت عمته، كانت أمها أميمة بالتصغير بنت عبد المطلب. قال الداودي: وفيه عذر النبي صلى الله عليه وسلم لزينب، قال ابن التين: ولا أدري من أين أخذه. قلت: كأنه أخذه من مخاطبتها النبي صلى الله عليه وسلم لطلب العدل مع علمها بأنه أعدل الناس، لكن غلبت عليها الغيرة فلم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بإطلاق ذلك، وإنما خص زينب بالذكر لأن فاطمة عليها السلام كانت حاملة رسالة خاصة، بخلاف زينب فإنها شريكتهن في ذلك بل رأسهن، لأنها هي التي تولت إرسال فاطمة أولا ثم سارت بنفسها. واستدل به على أن القسم كان واجبا عليه، وسيأتي البحث في ذلك في النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال أبو مروان الغساني" كذا للأكثر بغين معجمة وسين مهملة ثقيلة، ووقع في رواية القابسي عن أبي زيد فيه تغيير فغيره: "العثماني" حكاه أبو علي الجياني وقال إنه خطأ، وقد تقدمت لأبي مروان هذا رواية موصولة في كتاب الحج، ووقع للقابسي فيه تصحيف غير هذا. وقوله: "وقال أبو مروان إلخ" يعني أن أبا مروان فصل بين الحديثين في روايته عن هشام فجعل الأول - وهو التحري - كما قال حماد بن زيد عن هشام، وجعل الثاني - وهو قصة فاطمة - عن هشام عن رجل من قريش ورجل من الموالي عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة. قلت: وطريق محمد بن عبد الرحمن عن عائشة بهذه القصة مشهورة من غير هذا الوجه، أخرجها مسلم والنسائي من طريق صالح بن كيسان، زاد مسلم: "ويونس"، وزاد النسائي: "وشعيب بن أبي حمزة" ثلاثتهم عن الزهري عنه، وهكذا قال موسى بن أعين عن معمر عن الزهري، وخالفه عبد الرزاق فقال: "عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة" وخالفهم إسحاق الكلبي فجعل أبا بكر بن عبد الرحمن بدل محمد بن الرحمن، قال الذهلي والدار قطني وغيرهما: المحفوظ من حديث الزهري "عن محمد بن عبد الرحمن عن عائشة" وأبو مروان هذا هو يحيى بن أبي زكريا الغساني، وهو شامي نزل واسط، واسم أبي زكريا يحيى أيضا، ووهم من زعم أنه محمد بن عثمان العثماني فإنه وإن كان يكنى أبا مروان لكنه لم يدرك هشام بن عروة وإنما يروي عنه بواسطة، وطريقه هذه وصلها الذهلي في "الزهريات". وقد اختلف على هشام فيه اختلافا آخر فرواه حماد بن سلمة عنه "عن عوف بن الحارث عن أخته رميثة عن أم سلمة أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم قلن لها: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة" الحديث أخرجه أحمد، ويحتمل أن يكون لهشام فيه طريقان، فإن عبدة بن سليمان رواه عنه بالوجهين، أخرجه الشيخان من طريقه بالإسناد الأول كما مضى في الباب الذي قبله، وأخرجه النسائي من طريقه متابعا لحماد بن سلمة، والله أعلم.

(5/208)


9 - باب: مَا لاَ يُرَدُّ مِنْ الْهَدِيَّةِ
2582- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَنَاوَلَنِي طِيبًا قَالَ كَانَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ يَرُدُّ الطِّيبَ قَالَ وَزَعَمَ أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَرُدُّ الطِّيبَ"
[الحديث 2582- طرفه في: 5929]
قوله: "باب ما لا يرد من الهدية" كأنه أشار إلى ما رواه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا: "ثلاث لا ترد: الوسائد والدهن واللبن ، قال الترمذي: يعني بالدهن الطيب، وإسناده حسن إلا أنه ليس على شرط البخاري فأشار إليه واكتفى بحديث أنس "أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب" قال ابن بطال: إنما كان لا يرد الطيب من أجل أنه ملازم لمناجاة الملائكة ولذلك كان لا يأكل الثوم ونحوه. قلت: لو كان هذا هو السبب في ذلك لكان من خصائصه، وليس كذلك فإن أنسا اقتدى به في ذلك. وقد ورد النهي عن رده مقرونا ببيان الحكمة في ذلك في حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وأبو عوانة من طريق عبيد الله بن أبي جعفر عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا: "من عرض عليه طيب فلا يرده فإنه خفيف الحمل طيب الرائحة" وأخرجه مسلم من هذا الوجه لكن قال: "ريحان" بدل طيب، ورواية الجماعة أثبت، فإن أحمد وسبعة أنفس معه رووه عن عبد الله بن يزيد المقبري عن سعيد بن أبي أيوب بلفظ: "الطيب" ووافقه ابن وهب عن سعيد عند ابن حبان، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد، وقد قال الترمذي عقب حديث أنس وابن عمر: "وفي الباب عن أبي هريرة" فأشار إلى هذا الحديث. قوله: "عزرة" هو بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها راء. قوله: "حدثني ثمامة بن عبد الله قال: دخلت عليه فناولني طيبا قال: كان أنس لا يرد الطيب" فاعل قال هو عزرة والضمير لثمامة، وزعم بعض الشراح أن الضمير لأنس، وليس كذلك فقد أخرجه أبو نعيم من طريق بشر بن معاذ عن عبد الوارث عن عزرة بن ثابت قال: "دخلت على ثمامة فناولني طيبا، قلت قد تطيبت، فقال: كان أنس لا يرد الطيب". قوله: "وزعم" أي قال، والزعم يطلق على القول كثيرا.

(5/209)


10 - باب: مَنْ رَأَى الْهِبَةَ الْغَائِبَةَ جَائِزَةً
2583 ، 2584- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ذَكَرَ عُرْوَةُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمَرْوَانَ أَخْبَرَاهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ قَامَ فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَقَالَ النَّاسُ طَيَّبْنَا لَكَ"
قوله: "باب من رأى الهبة الغائبة جائزة" ذكر فيه طرفا من حديث المسور ومروان في قصة هوازن، ومراده

(5/209)


منه قوله صلى الله عليه وسلم: "وإني رأيت أن أرد عليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل" فإن في بقية الحديث: "طيبنا لك" وقد تقدم قريبا في العتق في "باب من ملك من العرب رقيقا" بأتم من هذا بهذا الإسناد بعينه، ففيه أنهم وهبوا ما غنموه من السبي من قبل أن يقسم وذلك في معنى الغائب، وحذف في هذه الطريق جواب الشرط من الجملة الثانية وهي "فليفعل" وقد ثبت كذلك في الباب الذي أشرت إليه، قال ابن بطال: فيه أن للسلطان أن يرفع أملاك قوم إذا كان في ذلك مصلحة واستئلاف، وتعقبه ابن المنير وقال: ليس كما قال، بل في نفس الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك إلا بعد تطييب نفوس المالكين.

(5/210)


باب المكاقأة في الهبة
...
11 - باب: الْمُكَافَأَةِ فِي الْهِبَةِ
2585- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا" لَمْ يَذْكُرْ وَكِيعٌ وَمُحَاضِرٌ "عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ"
قوله: "باب المكافأة في الهبة" المكافأة بالهمز مفاعلة بمعنى المقابلة، والمراد بالهبة هنا المعنى الأعم كما قررته في أول كتاب الهبة. قوله: "عن هشام" في رواية الإسماعيلي من طريق إبراهيم بن موسى الفراء عن عيسى بن يونس "حدثنا هشام". قوله: "يقبل الهدية ويثيب عليها" أي يعطي الذي يهدي له بدلها، والمراد بالثواب المجازاة وأقله ما يساوي قيمة الهدية. قوله: "لم يذكر وكيع ومحاضر: عن هشام عن أبيه عن عائشة" فيه إشارة إلى أن عيسى بن يونس تفرد بوصله عن هشام، وقد قال الترمذي والبزار: لا نعرفه موصولا إلا من حديث عيسى بن يونس، وقال الآجري سألت أبا داود عنه فقال: تفرد بوصله عيسى بن يونس، وهو عند الناس مرسل. ورواية وكيع وصلها ابن أبي شيبة عنه بلفظ: "ويثيب ما هو خير منها" ورواية محاضر لم أقف عليها بعد. واستدل بعض المالكية بهذا الحديث على وجوب الثواب على الهدية إذا أطلق الواهب وكان ممن يطلب مثله الثواب كالفقير للغني، بخلاف ما يهبه الأعلى للأدنى، ووجه الدلالة منه مواظبته صلى الله عليه وسلم، ومن حيث المعنى أن الذي أهدى قصد أن يعطي أكثر مما أهدى فلا أقل أن يعوض بنظير هديته، وبه قال الشافعي في القديم، وقال في الجديد كالحنفية: الهبة للثواب باطلة لا تنعقد لأنها بيع بثمن مجهول، ولأن موضوع الهبة التبرع فلو أبطلناه لكان في معنى المعاوضة، وقد فرق الشرع والعرف بين البيع والهبة، فما استحق العوض أطلق عليه لفظ البيع بخلاف الهبة. وأجاب بعض المالكية بأن الهبة لو لم تقتض الثواب أصلا لكانت بمعنى الصدقة، وليس كذلك فإن الأغلب من حال الذي يهدي أنه يطلب الثواب ولا سيما إذا كان فقيرا، والله أعلم.

(5/210)


12 - باب: الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ
وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ وَيُعْطِيَ الْآخَرِينَ مِثْلَهُ وَلاَ يُشْهَدُ عَلَيْهِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ"
وَهَلْ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَطِيَّتِهِ؟ وَمَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ يَتَعَدَّى؟
"وَاشْتَرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمَرَ بَعِيرًا ثُمَّ أَعْطَاهُ ابْنَ عُمَرَ وَقَالَ اصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ"

(5/210)


13 - بَاب: الإِشْهَادِ فِي الْهِبَةِ
2587- حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: "سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لاَ قَالَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ قَالَ فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ"
قوله: "باب الهبة للولد، وإذا أعطى بعض ولده شيئا لم يجز حتى يعدل بينهم ويعطي الآخر مثله" في رواية الكشميهني: "ويعطي الآخرين". قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعدلوا بين أولادكم في العطية" سيأتي موصولا في الباب الذي بعده بدون قوله: "في العطية" وهي بالمعنى. وقد أخرجه الطحاوي من طريق مغيرة عن الشعبي عن النعمان فذكر هذه الزيادة ولفظه: "سووا بين أولادكم في العطية كما تحبون أن يسووا بينكم في البر" ويأتي حديث ابن عباس أيضا في أواخر الباب. قوله: "وهل للوالد أن يرجع في عطيته" يعني لولده "وما يأكل من مال ولده بالمعروف ولا يتعدى" اشتملت هذه الترجمة على أربعة أحكام: الأول الهبة للولد، وإنما ترجم به ليرفع إشكال من يأخذ بظاهر الحديث المشهور "أنت ومالك لأبيك" لأن مال الولد إذا كان لأبيه فلو وهب الأب ولده شيئا كان كأنه وهب نفسه، ففي الترجمة إشارة إلى ضعف الحديث المذكور أو إلى تأويله، وهو حديث أخرجه ابن ماجه من حديث جابر، قال الدار قطني: غريب تفرد به عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، ويوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق عن ابن المنكدر. وقال ابن القطان: إسناده صحيح. وقال المنذري: رجاله ثقات. وله طريق أخرى عن جابر عند الطبراني في "الصغير" والبيهقي في "الدلائل" فيها قصة مطولة. وفي الباب عن عائشة في "صحيح ابن حبان"وعن سمرة وعن عمر كلاهما عند البزار، وعن ابن مسعود عند الطبراني، وعن ابن عمر عند أبي يعلى، فمجموع طرقه لا تحطه عن القوة، وجواز الاحتجاج به، فتعين تأويله. الحكم الثاني العدل بين الأولاد في الهبة، وهي من مسائل الخلاف كما سيأتي. وحديث الباب عن النعمان حجة من أوجبه. الثالث رجوع الوالد فيما وهب للولد، وهي خلافية أيضا، ومنهم من فرق بين الصدقة والهبة فلا يرجع في الصدقة لأنه يراد بها ثواب الآخرة، وحديث الباب ظاهر في الجواز كما سيأتي أيضا، وكأنه أشار إلى حديث: "لا يحل لرجل يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده" أخرجه أبو داود وابن ماجه بهذا اللفظ من حديث ابن عباس وابن عمر ورجاله ثقات. الرابع أكل

(5/211)


الوالد من مال الولد بالمعروف، قال ابن المنير: وفي انتزاعه من حديث الباب خفاء، ووجهه أنه لما جاز للأب بالاتفاق أن يأكل من مال ولده إذا احتاج إليه فلأن يسترجع ما وهبه له بطريق الأولى. قوله: "واشترى النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بعيرا ثم أعطاه ابن عمر وقال: اصنع به ما شئت" هو طرف من حديث تقدم موصولا في البيوع. ويأتي أيضا موصولا بعد اثني عشر بابا، قال ابن بطال: مناسبة حديث ابن عمر للترجمة أنه صلى الله عليه وسلم لو سأل عمر أن يهب البعير لابنه عبد الله لبادر إلى ذلك، لكنه لو فعل لم يكن عدلا بين بني عمر، فلذلك اشتراه صلى الله عليه وسلم منه ثم وهبه لعبد الله. قال المهلب: وفي ذلك دلالة على أنه لا تلزم المعدلة فيما يهبه غير الأب لولد غيره وهو كما قال. قوله: "عن النعمان بن بشير" كذا لأكثر أصحاب الزهري، وأخرجه النسائي من طريق الأوزاعي عن ابن شهاب "أن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن حدثاه عن بشير بن سعد" جعله من مسند بشير فشذ بذلك، والمحفوظ أنه عنهما عن النعمان، وبشير والد النعمان هو ابن سعد بن ثعلبة بن الجلاس - بضم الجيم وتخفيف اللام - الخزرجي، صحابي شهير من أهل بدر وشهد غيرها، ومات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة، ويقال إنه أول من بايع أبا بكر من الأنصار، وقيل عاش إلى خلافة عمر. وقد روى هذا الحديث عن النعمان عدد كثير من التابعين، منهم عروة بن الزبير عند مسلم والنسائي وأبي داود، وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوي، والمفضل بن المهلب عند أحمد وأبي داود والنسائي، وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أحمد، وعون بن عبد الله عند أبي عوانة، والشعبي في الصحيحين وأبي داود وأحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم، ورواه عن الشعبي عدد كثير أيضا، وسأذكر ما في رواياتهم من الفوائد الزائدة على هذه الطريق مفصلا إن شاء الله تعالى. قوله: "أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية الشعبي في الباب الذي يليه "أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية" وسيأتي في الشهادات من طريق أبي حبان عن الشعبي سبب سؤالها شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظه: "عن النعمان قال: سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله" زاد مسلم والنسائي من هذا الوجه "فالتوى بها سنة" أي مطلها. وفي رواية ابن حبان من هذا الوجه "بعد حولين" ويجمع بينهما بأن المدة كانت سنة وشيئا فجبر الكسر تارة وألغى أخرى، قال: "ثم بدا له فوهبها لي، فقالت له: لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم، قال فأخذ بيدي وأنا غلام" ولمسلم من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن النعمان "انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويجمع بينهما بأنه أخذ بيده فمشى معه بعض الطريق وحمله في بعضها لصغر سنه، أو عبر عن استتباعه إياه بالحمل، وقد تبين من رواية الباب أن العطية كانت غلاما، وكذا في رواية ابن حبان المذكورة، وكذا لأبي داود من طريق إسماعيل بن سالم عن الشعبي، ولمسلم في رواية عروة وحديث جابر معا، ووقع في رواية أبي حريز بمهملة وراء ثم زاي بوزن عظيم عند ابن حبان والطبراني عن الشعبي "أن النعمان خطب بالكوفة فقال: إن والدي بشير بن سعد أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عمرة بنت رواحة نفست بغلام، وإني سميته النعمان، وإنها أبت أن تربيه حتى جعلت له حديقة من أفضل مال هو لي وأنها قالت: أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا أشهد على جور" وجمع ابن حبان بين الروايتين بالحمل على واقعتين إحداهما عند ولادة النعمان وكانت العطية حديقة، والأخرى بعد أن برك النعمان وكانت العطية عبدا، وهو جمع لا بأس به، إلا أنه يعكر عليه أنه يبعد أن ينسى بشير بن سعد مع جلالته الحكم في المسألة حتى يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيستشهده على العطية الثانية بعد أن

(5/212)


قال له في الأولى "لا أشهد على جور" وجوز ابن حبان أن يكون بشير ظن نسخ الحكم. وقال غيره: يحتمل أن يكون حمل الأمر الأول على كراهة التنزيه، أو ظن أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد لأن ثمن الحديقة في الأغلب أكثر من ثمن العبد. ثم ظهر لي وجه آخر من الجمع يسلم من هذا الخدش ولا يحتاج إلى جواب وهو أن عمرة لما امتنعت من تربيته إلا أن يهب له شيئا يخصه به وهبه الحديقة المذكورة تطييبا لخاطرها، ثم بدا له فارتجعها لأنه لم يقبضها منه أحد غيره، فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو سنتين ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلاما ورضيت عمرة بذلك، إلا أنها خشيت أن يرتجعه أيضا فقالت له أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد بذلك تثبيت العطية وأن تأمن من رجوعه فيها، ويكون مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم للإشهاد مرة واحدة وهي الأخيرة، وغاية ما فيه أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض، أو كان النعمان يقص بعض القصة تارة ويقص بعضها أخرى، فسمع كل ما رواه فاقتصر عليه، والله أعلم. وعمرة المذكورة هي بنت رواحة بن ثعلبة الخزرجية أخت عبد الله بن رواحة الصحابي المشهور. ووقع عند أبي عوانة من طريق عون بن عبد الله أنها بنت عبد الله بن رواحة والصحيح الأول، وبذلك ذكرها ابن سعد وغيره وقالوا: كانت ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم من النساء، وفيها يقول قيس بن الخطيم بفتح المعجمة:
وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها
قوله: "إني نحلت" بفتح النون والمهملة، والنحلة بكسر النون وسكون المهملة العطية بغير عوض. قوله: "فقال أكل ولدك نحلت" زاد في رواية أبي حيان "فقال ألك ولد سواه؟ قال نعم" وقال مسلم لما رواه من طريق الزهري أما يونس ومعمر فقالا: "أكل بنيك" وأما الليث وابن عيينة فقالا: "أكل ولدك" . قلت: ولا منافاة بينهما لأن لفظ الولد يشمل ما لو كانوا ذكورا، أو إناثا وذكورا، وأما لفظ البنين فإن كانوا ذكورا فظاهر وإن كانوا إناثا وذكورا فعلى سبيل التغليب؛ ولم يذكر ابن مسعد لبشير والد النعمان ولدا غير النعمان، وذكر له بنتا اسمها أبية بالموحدة تصغير أبي. قوله: "نحلت مثله" في رواية أبي حيان عند مسلم: "فقال أكلهم وهبت له هذا، قال: لا" وله من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي "فقال ألك بنون سواه؟ قال: نعم. قال: فكلهم أعطيت مثل هذا؟ قال: لا" وفي رواية ابن القاسم في "الموطآت للدار قطني" عن مالك "قال لا والله يا رسول الله". قوله: "قال فارجعه" ولمسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب قال فاردده وله وللنسائي من طريق عروة مثله. وفي رواية الشعبي في الباب الذي يليه قال فرجع فرد عطيته ولمسلم فرد تلك الصدقة زاد في رواية أبي حيان في الشهادات "قال: لا تشهدني على جور" ومثله لمسلم من رواية عاصم عن الشعبي. وفي رواية أبي حريز المذكورة "لا أشهد على جور" وقد علق منها البخاري هذا القدر في الشهادات، ومثله لمسلم من طريق إسماعيل عن الشعبي، وله في رواية أبي حيان "فقال: فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور" وله في رواية المغيرة عن الشعبي "فإني لا أشهد على جور، ليشهد على هذا غيري" وله وللنسائي في رواية داود بن أبي هند قال: "فأشهد على هذا غيري" وفي حديث جابر "فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق" ولعبد الرزاق من طريق طاوس مرسلا "لا أشهد إلا على الحق، لا أشهد بهذه" وفي رواية عروة عند النسائي: "فكره أن يشهد له" وفي رواية المغيرة عن الشعبي عند مسلم: "اعدلوا بين أولادكم في

(5/213)


النحل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر" وفي رواية مجالد عن الشعبي عند أحمد "إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم، فلا تشهدني على جور، أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذا" ولأبي داود من هذا الوجه "إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك" ، وللنسائي من طريق أبي الضحى "ألا سويت بينهم" وله ولابن حبان من هذا الوجه "سو بينهم" واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد، وقد تمسك به من أوجب السوية في عطية الأولاد، وبه صرح البخاري، وهو قول طاوس والثوري وأحمد إسحاق. وقال به بعض المالكية. ثم المشهور عن هؤلاء أنها باطلة. وعن أحمد تصح، ويجب أن يرجع. وعنه يجوز التفاضل إن كان له سبب، كأن يحتاج الولد لزمانته ودينه أو نحو ذلك دون الباقين. وقال أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار. وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة، فإن فضل بعضا صح وكره. واستحبت المبادرة إلى التسوية أو الرجوع، فحملوا الأمر على الندب والنهي على التنزيه. ومن حجة من أوجبه أنه مقدمة الواجب لأن قطع الرحم والعقوق محرمان فما يؤدي إليهما يكون محرما والتفضيل مما يؤدي إليهما. ثم اختلفوا في صفة التسوية فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية والمالكية. العدل أن يعطي الذكر حظين كالميراث، واحتجوا بأنه حظها من ذلك المال لو أبقاه الواهب في يده حتى مات. وقال غيرهم: لا فرق بين الذكر والأنثى. وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهم. واستأنسوا بحديث ابن عباس رفعه: "سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء" أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريقه وإسناده حسن. وأجاب من حمل الأمر بالتسوية على الندب عن حديث النعمان بأجوبة: أحدها أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده ولذلك منعه، فليس فيه حجة على منع التفضيل حكاه ابن عبد البر عن مالك. وتعقبه بأن كثيرا من طرق حديث النعمان صرح بالبعضية. وقال القرطبي: ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده كما ذهب إليه سحنون، وكأنه لم يسمع في نفس هذا الحديث أن الموهوب كان غلاما وأنه وهبه له لما سألته الأم الهبة من بعض ماله، قال: وهذا يعلم منه على القطع أنه كان له مال غيره. ثانيها أن العطية المذكورة لم تتنجز، وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأشار عليه بأن لا تفعل، فترك. حكاه الطحاوي. وفي أكثر طرق حديث الباب ما ينابذه. ثالثها أن النعمان كان كبيرا ولم يكن قبض الموهوب فجاز لأبيه الرجوع، ذكره الطحاوي، وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث أيضا خصوصا قوله: "ارجعه" فإنه يدل على تقدم وقوع القبض، والذي تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضا له لصغره، فأمر برد العطية المذكورة بعدما كانت في حكم المقبوض. رابعها أن قوله: "ارجعه" دليل على الصحة، ولو لم تصح الهبة لم يصح الرجوع، وإنما أمره بالرجوع لأن للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده وإن كان الأفضل خلاف ذلك، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك أمره به، وفي الاحتجاج بذلك نظر، والذي يظهر أن معنى قوله: "ارجعه" أي لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة. خامسها أن قوله: "أشهد على هذا غيري" إذن بالإشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الإمام، وكأنه قال: لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد وإنما من شأنه أن يحكم، حكاه الطحاوي أيضا، وارتضاه ابن القصار. وتعقب بأنه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولا من أدائها إذا تعينت عليه، وقد صرح المحتج بهذا أن الإمام إذا شهد عند

(5/214)


بعض نوابه جاز، وأما قوله إن قوله: "أشهد" صيغة إذن فليس كذلك، بل هو للتوبيخ لما يدل عليه بقية ألفاظ الحديث، وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع. وقال ابن حبان: قوله: "أشهد" صيغة أمر والمراد به نفي الجواز وهو كقوله لعائشة: "اشترطي لهم الولاء" انتهى. سادسها التمسك بقوله: "ألا سويت بينهم" على أن المراد بالأمر الاستحباب وبالنهي التنزيه، وهذا جيد لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة، ولا سيما أن تلك الرواية بعينها وردت بصيغة الأمر أيضا حيث قال: "سو بينهم" . سابعها: وقع عند مسلم عن ابن سيرين ما يدل على أن المحفوظ في حديث النعمان "قاربوا بين أولادكم" لا "سووا" وتعقب بأن المخالفين لا يوجبون المقاربة كما لا يوجبون التسوية. ثامنها: في التشبيه الواقع في التسوية بينهم بالتسوية منهم في بر الوالدين قرينة تدل على أن الأمر للندب، لكن إطلاق الجور على عدم التسوية، والمفهوم من قوله: "لا أشهد إلا على حق (1) " وقد قال في آخر الرواية التي وقع فيها التشبيه "قال فلا إذا" . تاسعها: عمل الخليفتين أبي بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب، فأما أبو بكر فرواه الموطأ بإسناد صحيح عن عائشة أن أبا بكر قال لها في مرض موته "إني كنت نحلتك نحلا فلو كنت اخترتيه لكان لك، وإنما هو اليوم للوارث" وأما عمر فذكره الطحاوي وغيره أنه نحل ابنه عاصما دون سائر ولده، وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك، ويجاب بمثل ذلك عن قصة عمر. عاشر الأجوبة أن الإجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده، فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله جاز له أن يخرج عن ذلك بعضهم، ذكره ابن عبد البر، ولا يخفى ضعفه لأنه قياس مع وجود النص، وزعم بعضهم أن معنى قوله: "لا أشهد على جور " أي لا أشهد على ميل الأب لبعض الأولاد دون بعض، وفي هذا نظر لا يخفى، ويرده قوله في الرواية: "لا أشهد إلا على الحق" وحكى ابن التين عن الداودي أن بعض المالكية احتج بالإجماع على خلاف ظاهر حديث النعمان، ثم رده عليه. واستدل به أيضا على أن للأب أن يرجع فيما وهبه لابنه وكذلك الأم، وهو قول أكثر الفقهاء، إلا أن المالكية فرقوا بين الأب والأم فقالوا للأم أن ترجع إن كان الأب حيا دون ما إذا مات، وقيدوا رجوع الأب بما إذا كان الابن الموهوب له لم يستحدث دينا أو ينكح، وبذلك قال إسحاق، وقال الشافعي: للأب الرجوع مطلقا، وقال أحمد: لا يحل لواهب أن يرجع في هبته مطلقا، وقال الكوفيون: إن كان الموهوب صغيرا لم يكن للأب الرجوع، وكذا إن كان كبيرا وقبضها، قالوا وإن كانت الهبة لزوج من زوجته أو بالعكس أو لذي رحم لم يجز الرجوع في شيء من ذلك، ووافقهم إسحاق في ذي الرحم وقال: للزوجة أن ترجع بخلاف الزوج، والاحتجاج لكل واحد من ذلك يطول، وحجة الجمهور في استثناء الأب أن الولد وماله لأبيه فليس في الحقيقة رجوعا، وعلى تقدير كونه رجوعا فربما اقتضته مصلحة التأديب، ونحو ذلك، سيأتي الكلام على هبة الزوجين في الباب بعده. وفي الحديث أيضا الندب إلى التآلف بين الإخوة وترك ما يوقع بينهم الشحناء أو يورث العقوق للآباء، وأن عطية الأب لابنه الصغير في حجره لا تحتاج إلى قبض، وأن الإشهاد فيها يغني عن القبض. وقيل إن كانت الهبة ذهبا أو فضة فلا بد من عزلها وإفرازها. وفيه كراهة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح وأن الإشهاد في الهبة مشروع وليس بواجب. وفيه جواز الميل إلى بعض الأولاد والزوجات
ـــــــ
(1) قال مصحح طبعة بولاق: لعل هنا سقطا وتمامه "والمفهوم من قوله لا أشهد إلا على حق يدل على أن الأمر للوجوب، أو نحو ذلك

(5/215)


دون بعض وإن وجبت التسوية بينهم في غير ذلك. وفيه أن للإمام الأعظم أن يتحمل الشهادة، وتظهر فائدتها إما ليحكم في ذلك بعلمه عند من يجيزه، أو يؤديها عند بعض نوابه. وفيه مشروعية استفصال الحاكم والمفتي عما يحتمل الاستفصال، لقوله: "ألك ولد غيره" فلما قال: "نعم" قال: "أفكلهم أعطيت مثله" فلما قال: "لا" قال: "لا أشهد" فيفهم منه أنه لو قال نعم لشهد. وفيه جواز تسمية الهبة صدقة، وأن للإمام كلاما في مصلحة الولد، والمبادرة إلى قبول الحق، وأمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال. وفيه إشارة إلى سوء عاقبة الحرص والتنطع، لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لما رجع فيه، فلما اشتد حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه. وقال المهلب: فيه أن للإمام أن يرد الهبة والوصية ممن يعرف منه هروبا عن بعض الورثة، والله أعلم.

(5/216)


باب الهبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها
...
14 - باب: هِبَةِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا . قَالَ إِبْرَاهِيمُ جَائِزَةٌ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز:ِ
لاَ يَرْجِعَانِ وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ هَبِي لِي بَعْضَ صَدَاقِكِ أَوْ كُلَّهُ ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى طَلَّقَهَا فَرَجَعَتْ فِيهِ قَالَ يَرُدُّ إِلَيْهَا إِنْ كَانَ خَلَبَهَا وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ خَدِيعَةٌ جَازَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى[4 النساء]: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ}
2588- حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن معمر عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله "قالت عائشة رضي الله عنها: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض، في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين تخط رجلاه الأرض، وكان بين العباس وبين رجل آخر. فقال عبيد الله: فذكرت لابن عباس ما قالت عائشة، فقال: وهل تدري من الرجل الذي لم تسم عائشة؟ قلت: لا، قال: هو علي ابن أبي طالب"
2589- حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا وهيب حدثنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه"
[الحديث 2589- أطرافه في: 2621 ، 2622 ، 6975]
قوله: "باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها" أي هل يجوز لأحد منهما الرجوع فيها؟ قوله: "قال إبراهيم" هو النخعي. قوله: "جائزة" أي فلا رجوع فيها. وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: إذا وهبت له أو وهب لها فلكل واحد منهما عطيته. ووصله الطحاوي من طريق أبي عوانة عن منصور قال: قال إبراهيم: إذا وهبت المرأة لزوجها أو وهب الرجل لامرأته فالهبة جائزة، وليس لواحد منهما أن يرجع في هبته. ومن طريق أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم: الزوج والمرأة بمنزلة ذي الرحم، إذا وهب أحدهما لصاحبه لم يكن له أن يرجع. قوله: "وقال عمر بن عبد العزيز: لا يرجعان" وصله عبد الرزاق أيضا عن الثوري عن عبد

(5/216)


الرحمن بن زياد أن عمر بن عبد العزيز قال مثل قول إبراهيم. قوله: "واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم نساءه أن يمرض في بيت عائشة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" أما الحديث الأول فهو موصول في الباب من حديث عائشة، وسيأتي الكلام عليه في أواخر المغازي، ووجه دخوله في الترجمة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهبن لها ما استحققن من الأيام، ولم يكن لهن في ذلك رجوع أي فيما مضى، وإن كان لهن الرجوع في المستقبل. وأما الحديث الثاني فهو موصول أيضا في آخره، ويأتي الكلام عليه بعد خمسة عشر بابا، ووجه دخوله في الترجمة أنه ذم العائد في هبته على الإطلاق، فدخل فيه الزوج والزوجة تمسكا بعمومه. قوله: "وقال الزهري فيمن قال لامرأته هبي لي بعض صداقك إلخ" وصله ابن وهب عن يونس بن يزيد عنه، وقوله فيه: "خلبها" بفتح المعجمة واللام والموحدة أي خدعها. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: رأيت القضاة يقيلون المرأة فيما وهبت لزوجها ولا يقيلون الزوج فبما وهب لامرأته، والجمع بينهما أن رواية معمر عنه منقولة، ورواية يونس عنه اختياره، وهو التفصيل المذكور بين أن يكون خدعها فلها أن ترجع أو لا فلا، وهو قول المالكية إن أقامت البينة على ذلك، وقيل يقبل قولها في ذلك مطلقا، وإلى عدم الرجوع من الجانبين مطلقا ذهب الجمهور، وإلى التفصيل الذي نقله الزهري ذهب شريح، فروى عبد الرزاق والطحاوي من طريق محمد بن سيرين " أن امرأة وهبت لزوجها هبة ثم رجعت فيها، فاختصما إلى شريح فقال للزوج: شاهداك أنها وهبت لك من غير كره ولا هوان، وإلا فيمينها لقد وهبت لك عن كره وهوان " وعند عبد الرزاق بسند منقطع عن عمر أنه كتب " إن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت " قال الشافعي: لا يرد شيئا إذا خالعها ولو كان مضرا بها، لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وسيأتي مزيد لذلك في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.

(5/217)


15 - باب: هِبَةِ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا، وَعِتْقِهَا إِذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ، فَهُوَ جَائِزٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً
فَإِذَا كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى[5 النساء]: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}
2590- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِيَ مَالٌ إِلاَّ مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَأَتَصَدَّقُ؟ قَالَ: تَصَدَّقِي، وَلاَ تُوعِي فَيُوعَى عَلَيْكِ"
2591- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَنْفِقِي وَلاَ تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَلاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ"
2592- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً وَلَمْ تَسْتَأْذِنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي؟ قَالَ: أو فعلت؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: أَمَا

(5/217)


إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ"
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ "إِنَّ مَيْمُونَةَ أَعْتَقَتْ"
[الحديث 2592- أطرافه في: 2594]
2593- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 2593- أطرافه في: 2637 ، 2661 ، 2688 ، 2879 ، 4025 ، 4141 ، 4690 ، 4749 ، 4750 ، 4757 ، 5212 ، 6662 ، 6679 ، 7369 ، 7370 ، 7500 ، 7545]
قوله: "باب هبة المرأة لغير زوجها، وعتقها إذا كان لها زوج" أي ولو كان لها زوج "فهو جائز إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجز. وقال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ، وبهذا الحكم قال الجمهور، وخالف طاوس فمنع مطلقا، وعن مالك لا يجوز لها أن تعطي بغير إذن زوجها ولو كانت رشيدة إلا من الثلث، وعن الليث لا يجوز مطلقا إلا في الشيء التافه. وأدلة الجمهور من الكتب والسنة كثيرة، واحتج لطاوس بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "لا تجوز عطية امرأة في مالها إلا بإذن زوجها" أخرجه أبو داود والنسائي، وقال ابن بطال: وأحاديث الباب أصح، وحملها مالك على الشيء اليسير، وجعل حده الثلث فما دونه. وذكر المصنف منها ثلاثة أحاديث: الأول حديث أسماه، قوله: "عن ابن أبي مليكة" في رواية حجاج عن ابن جريج "أخبرني ابن أبي مليكة" وقد تقدمت في الزكاة. قوله: "عن عباد بن عبد الله" أي ابن الزبير بن العوام، وأسماء التي روى عنها هي بنت أبي بكر الصديق وهي جدته لأبيه، وقد روى أيوب هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن عائشة بغير واسطة أخرجه أبو داود والترمذي وصححه النسائي، وصرح أيوب عن ابن أبي مليكة بتحديث عائشة له بذلك، فيحمل على أنه سمعه من عباد عنها ثم حدثته به. قوله: "ما لي مال إلا ما أدخل علي" بالتشديد، والزبير هو ابن العوام كان زوجها. قوله: "فأتصدق" كذا للأكثر بحذف أداة الاستفهام، وللمستملي بإثباتها. قوله: "ولا توعي فيوعي الله عليك" بالنصب لكونه جواب النهي، وكذا قوله في الرواية الثانية "فيحصي الله عليك" والمعنى لا تجمعي في الوعاء وتبخلي بالنفقة فتجازي بمثل ذلك، وقد تقدم شرحه مبسوطا في أوائل كتاب الزكاة. قوله: "عن فاطمة" هي بنت المنذر بن الزبير بن العوام، وهي بنت عم هشام بن عروة الراوي عنها وزوجته، وأسماء هي بنت أبي بكر جدتهما جميعا لأبويهما. الثاني حديث ميمونة عن يزيد هو ابن أبي حبيب، وبكير هو ابن عبد الله بن الأشج، وهذا الإسناد نصفه الأول مصريون ونصفه الآخر مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق يزيد وبكير وكريب. قوله: "أنها أعتقت وليدة" أي جارية، في رواية النسائي من طريق عطاء بن يسار عن ميمونة "أنها كانت لها جارية سوداء" ولم أقف على اسم هذه الجارية، وبين النسائي من طريق أخرى

(5/218)


وسلم فلم يستدرك ذلك عليها بل أرشدها إلى ما هو الأولى، فلو كان لا ينفذ لها تصرف في مالها لأبطله، والله أعلم. الثالث حديث عائشة وصدره طرف من قصة الإفك، وسيأتي شرحها مستوفى في تفسير سورة النور، وقوله: "وكان يقسم لكل امرأة منهن غير سودة إلخ" حديث مستقل، وقد ترجم له في النكاح، وأورده مفردا، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى، وقد تبين توجيهه هناك في شرح الباب الذي قبله، قال ابن بطال: ليس في أحاديث الباب ما يرد على مالك لأنه يحملها على ما زاد على الثلث انتهى. وهو حمل سائغ إن ثبت المدعي، وهو أنه لا يجوز لها تصرف فيما زاد على الثلث إلا بإذن زوجها، لما في ذلك من الجمع بين الأدلة، والله أعلم. قوله: "وقال بكر" هو ابن مضر "عن عمرو" هو ابن الحارث "عن بكير" هو ابن الأشج "عن كريب أن ميمونة أعتقت" وقع في رواية المستملي: "عتقته" وهو غلط فاحش، فقد ذكره المصنف في الباب الذي يليه بهذا الإسناد وقال فيه: "أعتقت وليدة لها" وأراد المصنف بهذا التعليق شيئين: أحدهما موافقة عمرو بن الحارث ليزيد بن أبي حبيب على قوله: "عن كريب" وقد خالفهما محمد بن إسحاق فرواه عن بكير فقال: "عن سليمان بن يسار" بدل بكير أخرجه أبو داود والنسائي من طريقه، قال الدار قطني: ورواية يزيد وعمرو أصح. ثانيهما: أنه عند بكر بن مضر عن عمرو بصورة الإرسال قال فيه: "عن كريب أن ميمونة أعتقت" فذكر قصة ما أدركها، لكن قد رواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث فقال فيه: "عن كريب عن ميمونة" أخرجه مسلم والنسائي من طريقه، وطريق بكر بن مضر المعلقة وصلها البخاري في "كتاب بر الوالدين" له وهو مفرد، وسمعناه من طريق أبي بكر بن دلويه عنه قال: حدثنا عبد الله بن صالح هو كاتب الليث عن بكر بن مضر عنه.

(5/219)


16 - باب: بِمَنْ يُبْدَأُ بِالْهَدِيَّةِ؟
2594- وَقَالَ بَكْرٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ "إِنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا، فَقَالَ لَهَا: وَلَوْ وَصَلْتِ بَعْضَ أَخْوَالِكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ"
2595- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ

(5/219)


عَبْدِ اللَّهِ - رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي قَالَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا"
قوله: "باب بمن يبدأ بالهدية" أي عند التعارض في أصل الاستحقاق. قوله: "وقال بكر" هو ابن مضر وعمرو هو ابن الحارث، وقد مضى التنبيه على من وصله في الباب الذي قبله، وحديث ميمونة فيه الاستواء في صفة ما من الاستحقاق فيقدم القريب على الغريب، وحديث عائشة المذكور بعده فيه الاستواء في الصفات كلها فيقدم الأقرب في الذات. قوله: "عن أبي عمران الجوني" هو عبد الملك، والإسناد كله بصريون إلا عائشة وقد دخلت البصرة. قوله: "عن طلحة بن عبد الله رجل من بني تيم بن مرة" في رواية حجاج بن منهال عن شعبة كما سيأتي في الأدب "سمعت طلحة" لكنه لم ينسبه، وقد أزالت هذه الرواية اللبس الذي تقدمت الإشارة إليه في كتاب الشفعة، ووقع عند الإسماعيلي: "من بني تيم الرباب" بفتح الراء والموحدة الخفيفة وآخره موحدة أخرى، وهو وهم، والصواب تيم بن مرة وهو رهط أبي بكر الصديق، وقد وافق محمد بن جعفر على ذلك يزيد بن هارون عن شعبة كما حكاه الإسماعيلي، وسيأتي شرح هذا الحديث في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى، وقوله: "بابا" منصوب على التمييز.

(5/220)


17 - باب: مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْهَدِيَّةَ لِعِلَّةٍ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ "كَانَتْ الْهَدِيَّةُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً وَالْيَوْمَ رِشْوَةٌ"
2596- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ "أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ - أَوْ بِوَدَّانَ - وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ قَالَ صَعْبٌ فَلَمَّا عَرَفَ فِي وَجْهِي رَدَّهُ هَدِيَّتِي قَالَ لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ وَلَكِنَّا حُرُمٌ"
2597- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأُتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي قَالَ فَهَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ - أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ - فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ. ثَلاَثًا"
قوله: "باب من لم يقبل الهدية لعلة" أي بسبب ينشأ عنه الريبة كالقرض ونحوه. قوله: "وقال عمر بن عبد العزيز إلخ" وصله ابن سعد بقصة فيه، فروى من طريق فرات بن مسلم قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فلم

(5/220)


يجد في بيته شيئا يشتري به، فركبنا معه، فتلقاه غلمان الدير بأطباق تفاح، فتناول واحدة فشمها ثم رد الأطباق، فقلت له في ذلك فقال: لا حاجة لي فيه، فقلت: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية؟ فقال: إنها لأولئك هدية وهي للعمال بعدهم رشوة. ووصله أبو نعيم في "الحلية" من طريق عمرو بن مهاجر عن عمر بن عبد العزيز في قصة أخرى. وقوله: "رشوة" بضم الراء وكسرها ويجوز الفتح، وهي ما يؤخذ بغير عوض ويعاب آخذه. وقال ابن العربي: الرشوة كل مال دفع ليبتاع به من ذي جاه عونا على ما لا يحل، والمرتشي قابضه، والراشي معطيه، والرائش الواسطة، وقد ثبت حديث عبد الله بن عمرو في لعن الراشي والمرتشي أخرجه الترمذي وصححه. وفي رواية والرائش والراشي، ثم قال: الذي يهدي لا يخلو أن يقصد ود المهدي إليه أو عونه أو ماله، فأفضلها الأول، والثالث جائز لأنه يتوقع بذلك الزيادة على وجه جميل، وقد تستحب إن كان محتاجا والمهدي لا يتكلف وإلا فيكره، وقد تكون سببا للمودة وعكسها. وأما الثاني فإن كان لمعصية فلا يحل وهو الرشوة، وإن كان لطاعة فيستحب، وإن كان لجائز فجائز، لكن إن لم يكن المهدي له حاكما والإعانة لدفع مظلمة أو إيصال حق فهو جائز، ولكن يستحب له ترك الأخذ، وإن كان حاكما فهو حرام ا هـ ملخصا. وفي معنى ما ذكره عمر حديث مرفوع أخرجه أحمد والطبراني من حديث أبي حميد مرفوعا: "هدايا العمال غلول" وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وروايته عن غير أهل المدينة ضعيفة، وهذا منها، وقيل إنه رواه بالمعنى من قصة ابن اللتبية المذكورة ثاني حديثي الباب، وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وجابر ثلاثتها في الطبراني الأوسط بأسانيد ضعيفة. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث الصعب بن جثامة في قصة الحمار الوحشي، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في الحج. الثاني حديث أبي حميد في قصة ابن اللتبية، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى، وسبق في أواخر الزكاة تسميته وضبط اللتبية. ووجه دخولهما في الترجمة ظاهر. وأما حديث الصعب فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين العلة في عدم قبوله هديته لكونه كان محرما، والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله؛ واستنبط منه المهلب رد هدية من كان ماله حراما أو عرف بالظلم. وأما حديث أبي حميد فلأنه صلى الله عليه وسلم عاب على ابن اللتبية قبوله الهدية التي أهديت إليه لكونه كان عاملا، وأفاد بقوله: "فهلا جلس في بيت أمه" أنه لو أهدي إليه في تلك الحالة لم تكره لأنها كانت لغير ريبة، قال ابن بطال: فيه أن هدايا العمال تجعل في بيت المال، وأن العامل لا يملكها إلا إن طلبها له الإمام، وفيه كراهة قبول هدية طالب العناية. وقوله في حديث أبي حميد: "حتى نظرت عفرة" بضم المهملة وفتحها وسكون الفاء وقد تفتح، وهي بياض ليس بالناصع.

(5/221)


باب إذا وهب هبة أو وعد ثم مات قبل أن تصل إليه
...
18 - باب: إِذَا وَهَبَ هِبَةً أَوْ وَعَدَ عِدَةً ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ
وَقَالَ عَبِيدَةُ: "إِنْ مَاتَ وَكَانَتْ فُصِلَتْ الْهَدِيَّةُ وَالْمُهْدَى لَهُ حَيٌّ فَهِيَ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فُصِلَتْ فَهِيَ لِوَرَثَةِ الَّذِي أَهْدَى" وَقَالَ الْحَسَنُ: "أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ فَهِيَ لِوَرَثَةِ الْمُهْدَى لَهُ إِذَا قَبَضَهَا الرَّسُولُ"
2598- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا "ثَلاَثًا" فَلَمْ يَقْدَمْ حَتَّى تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ

(5/221)


أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَنِي فَحَثَى لِي ثَلاَثًا"
قوله: "باب إذا وهب هبة أو وعد ثم مات قبل أن تصل إليه" أي الهدية، وفي رواية الكشميهني: "أو وعد عدة" قال الإسماعيلي: هذه الترجمة لا تدخل في الهبة بحال. قلت: قال ذلك بناء على أن الهبة لا تصح إلا بالقبض، وإلا فليست هبة، هذا مقتضى مذهبه، لكن من يقول إنها تصح بدون القبض يسميها هبة، وكأن البخاري جنح إلى ذلك، وسأذكر نقل الخلاف فيه في الباب الذي يليه. وقال ابن بطال: لم يرو عن أحد من السلف وجوب القضاء بالعدة أي مطلقا، وإنما نقل عن مالك أنه يجب منه ما كان بسبب انتهى. وغفل عما ذكره ابن عبد البر عن عمر بن عبد العزيز، وعما نقله هو عن أصبغ، وعما سيأتي في البخاري الذي تصدى لشرحه في "باب من أمر بإنجاز الوعد" في أواخر الشهادات، وسيأتي نقل ما فيه والبحث فيه في مكانه إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال عبيدة" بفتح أوله وهو ابن عمرو السلماني بفتح المهملة وسكون اللام، قوله: "إن ماتا" أي المهدي والمهدى إليه إلخ، وتفصيله بين أن تكون انفصلت أم لا مصير منه إلى أن قبض الرسول يقوم مقام قبض المهدى إليه. وذهب الجمهور إلى أن الهدية لا تنتقل إلى المهدى إليه إلا بأن يقبضها أو وكيله. قوله: "وقال الحسن: أيهما مات قبل فهي لورثة المهدى له إذا قبضها الرسول" قال ابن بطال: قال مالك كقول الحسن، وقال أحمد وإسحاق: إن كان حاملها رسول المهدي رجعت إليه، وإن كان حاملها رسول المهدى إليه فهي لورثته. وفي معنى قول عبيدة وتفصيله حديث رواه أحمد والطبراني عن أم كلثوم بنت أبي سلمة وهي بنت أم سلمة قالت: "لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال لها: إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات ولا أرى هديتي إلا مردودة علي، فإن ردت علي فهي لك، قال: وكان كما قال: "الحديث. وإسناده حسن. ثم ذكر المصنف حديث جابر في وفاء أبي بكر الصديق له ما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي بسط شرحه في كتاب فرض الخمس إن شاء الله تعالى. قال الإسماعيلي ليس ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لجابر هبة، وإنما هي عدة على وصف، لكن لما كان وعد النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يخلف نزلوا وعده منزلة الضمان في الصحة فرقا بينه وبين غيره من الأمة ممن يجوز أن يفي وأن لا يفي. قلت: وجه إيراده أنه نزل الهدية إذا لم تقبض منزلة الوعد بها، وقد أمر الله بإنجاز الوعد، لكن حمله الجمهور على الندب كما سيأتي.

(5/222)


19 - باب: كَيْفَ يُقْبَضُ الْعَبْدُ وَالْمَتَاعُ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ، فَاشْتَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ
2599- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةً وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ مِنْهَا شَيْئًا فَقَالَ مَخْرَمَةُ يَا بُنَيَّ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَقَالَ: ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي، قَالَ فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا فَقَالَ: خَبَأْنَا هَذَا لَكَ. قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ"
[الحديث 2599- أطرافه في: 2657 ، 3127 ، 5800 ، 5862 ، 6132]

(5/222)


قوله: "باب كيف يقبض العبد والمتاع" أي الموهوب، قال ابن بطال: كيفية القبض عند العلماء بإسلام الواهب لها إلى الموهوب وحيازة الموهوب لذلك، قال: واختلفوا هل من شرط صحة الهبة الحيازة أم لا؟ فحكي الخلاف، وتحريره قول الجمهور إنها لا تتم إلا بالقبض، وعن القديم - وبه قال أبو ثور وداود - تصح بنفس العقد وإن لم تقبض، وعن أحمد تصح بدون القبض في العين المعينة دون الشائعة، وعن مالك كالقديم لكن قال: إن مات الواهب قبل القبض وزادت على الثلث افتقر إلى إجازة الوارث. ثم إن الترجمة في الكيفية لا في أصل القبض، وكأنه أشار إلى قول من قال يشترط في الهبة حقيقة القبض دون التخلية وسأشير إليه بعد ثلاثة أبواب. قوله: "وقال ابن عمر: كنت على بكر صعب" الحديث تقدم ذكره وشرحه في كتاب البيوع، ثم ذكر المصنف حديث المسور بن مخرمة في قصة أبيه في القباء، وسيأتي الكلام عليه في كتاب اللباس، وقوله: "فقال خبأنا هذا لك؛ قال فنظر إليه فقال: رضي مخرمة" ؟ قال الداودي: هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم على جهة الاستفهام، أي هل رضيت؟ وقال ابن التين: يحتمل أن يكون من قول مخرمة. قلت: وهو المتبادر للذهن.

(5/223)


20 - باب: إِذَا وَهَبَ هِبَةً فَقَبَضَهَا الْآخَرُ وَلَمْ يَقُلْ قَبِلْتُ
2600- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَلَكْتُ فَقَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ وَقَعْتُ بِأَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ تَجِدُ رَقَبَةً قَالَ لاَ قَالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لاَ قَالَ فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لاَ قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ بِعَرَقٍ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ اذْهَبْ بِهَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ قَالَ عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا قَالَ اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ"
قوله: "باب إذا وهب هبة فقبضها الآخر ولم يقل قبلت" أي جازت، ونقل فيه ابن بطال اتفاق العلماء، وأن القبض في الهبة هو غاية القبول، وغفل رحمه الله عن مذهب الشافعي، فإن الشافعية يشترطون القبول في الهبة دون الهدية، إلا إن كانت الهبة ضمنية كما لو قال أعمق عبدك عني فعتقه عنه فإنه يدخل في ملكه هبة ويعتق عنه ولا يشترط القبول، ومقابل إطلاق ابن بطال قول الماوردي: قال الحسن البصري لا يعتبر القبول في الهبة كالعتق، قال: وهو قول شذ به عن الجماعة وخالف فيه الكافة إلا أن يريد الهدية فيحتمل ا هـ، على أن في اشتراط القبول في الهدية وجها عند الشافعية. ثم أورد حديث أبي هريرة في قصة المجامع في رمضان، وقد تقدم شرحه مستوفى في الصيام، والغرض منه أنه صلى الله عليه وسلم أعطى الرجل التمر فقبضه ولم يقل قبلت، ثم قال له: "اذهب فأطعمه أهلك" ولمن اشترط القبول أن يجيب عن هذا بأنها واقعة عين فلا حجة فيها، ولم يصرح فيها بذكر القبول ولا بنفيه، وقد اعترض الإسماعيلي بأنه ليس في الحديث أن ذلك كان هبة، بل لعله كان من الصدقة فيكون قاسما لا واهبا ا هـ، وقد تقدم في الصوم التصريح بأن ذلك كان من الصدقة، وكأن المصنف يجنح إلى أنه لا فرق في ذلك.

(5/223)


21 - باب: إِذَا وَهَبَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ .
قَالَ شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ: هُوَ جَائِزٌ. وَوَهَبَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
عَلَيْهِمَا السَّلاَم لِرَجُلٍ دَيْنَهُ. وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيُعْطِهِ أَوْ لِيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ" فَقَالَ جَابِرٌ "قُتِلَ أَبِي وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُرَمَاءَهُ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي"
2601- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ "أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمْتُهُ فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي فَأَبَوْا فَلَمْ يُعْطِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطِي وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ وَلَكِنْ قَالَ سَأَغْدُو عَلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ فَطَافَ فِي النَّخْلِ وَدَعَا فِي ثَمَرِهِ بِالْبَرَكَةِ فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ حُقُوقَهُمْ وَبَقِيَ لَنَا مِنْ ثَمَرِهَا بَقِيَّةٌ ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِعُمَرَ اسْمَعْ - وَهُوَ جَالِسٌ - يَا عُمَرُ فَقَالَ: أَلاَ يَكُونُ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهِ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ"
قوله: "باب إذا وهب دينا على رجل" أي صح ولو لم يقبضه منه ويقبض له، قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء في صحة الإبراء من الدين إذا قبل البراءة، قال: وإنما اختلفوا إذا وهب دينا له على رجل لرجل آخر، فمن اشترط في صحة الهبة القبض لم يصحح هذه ومن لم يشترطه صححها، لكن شرط مالك أن تسلم إليه الوثيقة بالدين ويشهد له بذلك على نفسه أو يشهد بذلك ويعلنه إن لم يكن به وثيقة ا هـ، وعند الشافعية في ذلك وجهان: جزم الماوردي بالبطلان، وصححه الغزالي ومن تبعه، وصحح العمراني وغيره الصحة. قيل والخلاف مرتب على البيع إن صححنا بيع الدين من غير من عليه فالهبة أولى، وإن منعناه ففي الهبة وجهان. والله أعلم. قوله: "وقال شعبة عن الحكم هو جائز" وصله ابن أبي شيبة عن أبي داود عن شعبة قال: قال لي الحكم: أتاني ابن أبي ليلى - يعني محمد بن عبد الرحمن - فسألني عن رجل كان له على رجل دين فوهبه له، أله أن يرجع فيه؟ قلت: لا. قال شعبة: فسألت حمادا فقال: بلى له أن يرجع فيه. قوله: "ووهب الحسن بن علي دينه لرجل" لم أقف على من وصله. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان عليه حق فليعطه أو ليتحلله منه" أي من صاحبه، وصله مسدد في مسنده من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا: "من كان لأحد عليه حق فليعطه إياه أو ليتحلله منه" الحديث، وقد تقدم موصولا بمعناه في كتاب المظالم، ووجه الدلالة منه لجواز هبة الدين أنه صلى الله عليه وسلم سوى بين أن يعطيه إياه أو يحلله منه، ولم يشترط في التحليل قبضا. قوله: "وقال جابر قتل أبي إلخ" وصله في الباب بأتم منه، وتؤخذ الترجمة من قوله: "فسأل النبي صلى الله عليه وسلم غرماء والد جابر أن يقبلوا ثمر حائطه وأن يحللوه" فلو قبلوا كان في ذلك براءة ذمته من بقية الدين، ويكون في معنى الترجمة، وهو هبة الدين، ولو لم يكن جائزا لما طلبه النبي صل الله عليه وسلم. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "وقال الليث حدثني يونس" وصله الذهلي في "الزهريات" عن عبد الله بن صالح عن الليث، وقد سبق من وجه آخر في الاستقراض، ويأتي الكلام عليه مستوفى في علامات النبوة إن شاء الله تعالى.

(5/224)


22 - باب: هِبَةِ الْوَاحِدِ لِلْجَمَاعَةِ.
وَقَالَتْ أَسْمَاءُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي عَتِيقٍ:
وَرِثْتُ عَنْ أُخْتِي عَائِشَةَ بِالْغَابَةِ، وَقَدْ أَعْطَانِي بِهِ مُعَاوِيَةُ مِائَةَ أَلْفٍ فَهُوَ لَكُمَا
2602- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ فَقَالَ لِلْغُلاَمِ إِنْ أَذِنْتَ لِي أَعْطَيْتُ هَؤُلاَءِ فَقَالَ مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدًا فَتَلَّهُ فِي يَدِهِ"
قوله: "باب هبة الواحد للجماعة" أي يجوز ولو كان شيئا مشاعا، قال ابن بطال: غرض المصنف إثبات هبة المشاع، وهو قول الجمهور خلافا لأبي حنيفة، كذا أطلق، وتعقب بأنه ليس على إطلاقه وإنما يفرق في هبة المشاع بين ما يقبل القسمة وما لا يقبلها، والعبرة بذلك وقت القبض لا وقت العقد. قوله: "وقالت أسماء" هي بنت أبي بكر الصديق، والقاسم بن محمد هو ابن أبي بكر وهو ابن أخيها، وابن أبي عتيق هو أبو بكر عبد الله بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر وهو ابن ابن أخي أسماء. "تنبيه": ذكر ابن التين أنه وقع عنده في رواية القابسي إسقاط الواو من قوله: "وابن أبي عتيق" فصار القاسم بن محمد بن أبي عتيق وهو غلط، ومع كونه غلطا فإنه يصير غير مناسب للترجمة. قوله: "ورثت عن أختي عائشة" لما ماتت عائشة رضي الله عنها ورثها أختاها أسماء وأم كلثوم وأولاد أخيها عبد الرحمن، ولم يرثها أولاد محمد أخيها لأنه لم يكن شقيقها، وكأن أسماء أرادت جبر خاطر القاسم بذلك وأشركت معه عبد الله لأنه لم يكن وارثا لوجود أبيه. ثم أورد المصنف حديث سهل بن سعد في قصة شرب الأيمن فالأيمن، وقد تقدم في المظالم، ويأتي الكلام عليه مستوفى في الأشربة، وقد اعترض الإسماعيلي بأنه ليس في حديث سهل ما ترجم به وإنما هو من طريق الإرفاق، وأطال في ذلك، والحق - كما قال ابن بطال - أنه صلى الله عليه وسلم سأل الغلام أن يهب نصيبه للأشياخ، وكان نصيبه منه مشاعا غير متميز، فدل على صحة هبة المشاع، والله أعلم.

(5/225)


23 - باب: الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ وَغَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ وَالْمَقْسُومَةِ وَغَيْرِ الْمَقْسُومَةِ
وَقَدْ وَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ لِهَوَازِنَ مَا غَنِمُوا مِنْهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ
2603- حَدَّثَنَا ثَابِتٌ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ مُحَارِبٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَضَانِي وَزَادَنِي"
2604- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَارِبٍ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "بِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا فِي سَفَرٍ فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ: ائْتِ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ. فَوَزَنَ"
قَالَ شُعْبَةُ: أُرَاهُ "فَوَزَنَ لِي فَأَرْجَحَ، فَمَا زَالَ مَعِي مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى أَصَابَهَا أَهْلُ الشَّأْمِ يَوْمَ الْحَرَّةِ"
2605- حدثنا قتيبة عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه "أن رسول

(5/225)


الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك أحداً فتله في يده"
2606- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنٌ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا وَقَالَ اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا فَأَعْطُوهَا إِيَّاهُ فَقَالُوا: إِنَّا لاَ نَجِدُ سِنًّا إِلاَّ سِنًّا هِيَ أَفْضَلُ مِنْ سِنِّهِ قَالَ: فَاشْتَرُوهَا فَأَعْطُوهَا إِيَّاهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً"
قوله: "باب الهبة المقبوضة وغير المقبوضة، والمقسومة وغير المقسومة" أما المقبوضة فتقدم حكمها، وأما غير المقبوضة فالمراد القبض الحقيقي، وأما القبض التقديري فلا بد منه، لأن الذي ذكره من هبة الغانمين لوفد هوازن ما غنموا قبل أن يقسم فيهم ويقبضوه، فلا حجة فيه على صحة الهبة بغير قبض لأن قبضهم إياه وقع تقديرا باعتبار حيازتهم له على الشيوع، نعم قال بعض العلماء: يشترط في الهبة وقوع القبض الحقيقي ولا يكفي القبض التقديري بخلاف البيع، وهو وجه للشافعية، وأما الهبة المقسومة فحكمها واضح، وأما غير المقسومة فهو المقصود بهذه الترجمة، وهي مسألة هبة المشاع، والجمهور على صحة هبة المشاع للشريك وغيره سواء انقسم أو لا، وعن أبي حنيفة لا يصح هبة جزء مما ينقسم مشاعا لا من الشريك ولا من غيره. قوله: "وقد وهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لهوازن ما غنموا منهم وهو غير مقسوم" سيأتي موصولا في الباب الذي يليه بأتم من هذا، وقوله: "وهو غير مقسوم" من تفقه المصنف. قوله: "حدثني ثابت" هو ابن محمد العابد. وثبت كذلك عند أبي علي بن السكن، كذا للأكثر. وبه جزم أبو نعيم في "المستخرج" وفي رواية أبي زيد المروزي. وقال ثابت: ذكره بصورة التعليق، وهو موصول عند الإسماعيلي وغيره. وفي رواية أبي أحمد الجرجاني، قال البخاري: "حدثنا محمد حدثنا ثابت" فزاد في الإسناد محمدا ولم يتابع على ذلك، و الذي أظنه أن المراد بمحمد هو البخاري المصنف، ويقع ذلك كثيرا، فلعل الجرجاني ظنه غيره والله أعلم. وسيأتي الكلام على حديث جابر في الشروط. ثم أورد المصنف حديث سهل بن سعد المذكور في الباب الذي قبله، وقد قدمت توجيهه. ثم أورد حديث أبي هريرة في الذي كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين فقال: "اشتروا له سنا" وقد تقدم شرحه في الاستقراض، وتوجيهه ظاهر أيضا. وعبد الله بن عثمان شيخ المصنف فيه هو المعروف بعبدان.

(5/226)


24 - باب: إِذَا وَهَبَ جَمَاعَةٌ لِقَوْمٍ
2607 ، 2608- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا فَقَامَ فِي

(5/226)


الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاَءِ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ طَيَّبْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّا لاَ نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِيهِ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا وَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ هَذَا آخِرُ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ يَعْنِي فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا"
قوله: "باب إذا وهب جماعة لقوم" زاد الكشميهني في روايته: "أو وهب رجل جماعة جاز" وهذه الزيادة غير محتاج إليها لأنها تقدمت مفردة قيل بباب، وقد أورد فيه حديث حديث المسور في قصة هوازن، وسيأتي مستوفى في غزوة حنين في المغازي، ووجه الدلالة منه لأصل الترجمة ظاهر، لأن الغانمين وهم جماعة وهبوا بعض الغنيمة لمن غنموها منهم وهم قوم هوازن، وأما الدلالة لزيادة الكشميهني فمن جهة أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم معين - وهو سهم الصفي - فوهبه لهم، أو من جهة أنه صلى الله عليه وسلم استوهب من الغانمين سهامهم فوهبوها له فوهبها هو لهم.

(5/227)


25 - باب: مَنْ أُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ فَهُوَ أَحَقُّ
وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاءُ وَلَمْ يَصِحَّ
2609- حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخَذَ سِنًّا فَجَاءَ صَاحِبُهُ يَتَقَاضَاهُ فَقَالُوا لَهُ فَقَالَ إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا ثُمَّ قَضَاهُ أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ وَقَالَ أَفْضَلُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً"
2610- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو "عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَكَانَ عَلَى بَكْرٍ لِعُمَرَ صَعْبٍ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أَبُوهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعْنِيهِ فَقَالَ عُمَرُ هُوَ لَكَ فَاشْتَرَاهُ ثُمَّ قَالَ هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ"
قوله: "باب من أهدي له هدية وعنده جلساؤه فهو أحق بها" أي منهم. قوله: "ويذكر عن ابن عباس أن جلساءه شركاؤه، ولم يصح" هذا الحديث جاء عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا والموقوف أصلح إسنادا من المرفوع، فأما المرفوع فوصله عبد بن حميد من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس مرفوعا: "من أهديت له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها" وفي إسناده مندل بن علي وهو ضعيف، ورواه محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو كذلك، واختلف على عبد الرزاق عنه في رفعه ووقفه، والمشهور عنه الوقف وهو أصح الروايتين عنه، وله شاهد مرفوع من حديث الحسن بن علي في "مسند إسحاق بن راهويه" وآخر عن عائشة عند العقيلي وإسنادهما ضعيف أيضا، قال العقيلي: لا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء. قال ابن بطال: لو صح حديث ابن عباس لحمل

(5/227)


على الندب فيما خف من الهدايا وما جرت العادة بترك المشاحة فيه، ثم ذكر حكاية أبي يوسف المشهورة، وفيما قاله نظر لأنه لو صح لكانت العبرة بعموم اللفظ فلا يخص القليل من الكثير إلا بدليل، وأما حمله على الندب فواضح. ثم أورد المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث أبي هريرة في قصة الذي كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين فقال: "اشتروا له سنا" الحديث وقد تقدم شرحه في الاستقراض، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب لصاحب السن القدر الزائد على حقه ولم يشاركه فيه غيره، وهذا مصير من المصنف إلى اتحاد حكم الهبة والهدية وقد تقدم ما فيه. ثانيهما حديث ابن عمر في هبة النبي صلى الله عليه وسلم له البكر الذي كان راكبه وقد تقدم شرحه في البيوع، ووجه الدلالة منه للترجمة ظاهر كما تقرر من حديث أبي هريرة، وقد نازعه الإسماعيلي فيه، والذي يظهر أن المصنف أراد إلحاق المشاع في ذلك بغير المشاع، وإلحاق الكثير بالقليل لعدم الفارق.

(5/228)


26 - باب: إِذَا وَهَبَ بَعِيرًا لِرَجُلٍ وَهُوَ رَاكِبُهُ فَهُوَ جَائِزٌ
2611- وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، وَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِعُمَرَ بِعْنِيهِ فَابْتَاعَهُ . فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ"
قوله: "باب إذا وهب بعيرا لرجل وهو راكبه فهو جائز" أي وتنزل التخلية منزلة النقل، فيكون ذلك قبضا فتصح الهبة، وقد تقدم توجيه ذلك. قوله: "وقال الحميدي إلخ" وصله أبو نعيم في "المستخرج" من مسند الحميدي بهذا السند، وقد تقدم في "باب إذا اشترى شيئا فوهب من ساعته" من كتاب البيوع.

(5/228)


باب هدية مايكره لبسها
...
27 - باب: هَدِيَّةِ مَا يُكْرَهُ لُبْسُهَا
2612- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ قَالَ: إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ جَاءَتْ حُلَلٌ فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً وَقَالَ: أَكَسَوْتَنِيهَا وَقُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ فَقَالَ إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا"
2613- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا وَجَاءَ عَلِيٌّ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا فَقَالَ مَا لِي وَلِلدُّنْيَا فَأَتَاهَا عَلِيٌّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا فَقَالَتْ لِيَأْمُرْنِي فِيهِ بِمَا شَاءَ قَالَ تُرْسِلُ بِهِ إِلَى فُلاَنٍ أَهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حَاجَةٌ"

(5/228)


28 - باب: قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم بِسَارَةَ، فَدَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ أَوْ جَبَّارٌ فَقَالَ: أَعْطُوهَا آجَرَ". وَأُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ وَقَالَ: أَبُو حُمَيْدٍ "أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ"
2615- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَّةُ سُنْدُسٍ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الْحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا"
[الحديث 2615- طرفاه في: 2616 ، 3248]
2616- وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ "إِنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" .
2617- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا فَقِيلَ أَلاَ نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: لاَ. فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
2618- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ فَعُجِنَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً أَوْ قَالَ أَمْ هِبَةً قَالَ: لاَ، بَلْ بَيْعٌ فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى. وَايْمُ اللَّهِ مَا فِي الثَّلاَثِينَ وَالْمِائَةِ إِلاَّ قَدْ حَزَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ، فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ وَشَبِعْنَا، فَفَضَلَتْ الْقَصْعَتَانِ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْبَعِيرِ. أَوْ كَمَا قَالَ"
قوله: "باب قبول الهدية من المشركين" أي جواز ذلك، وكأنه أشار إلى ضعف الحديث الوارد في رد هدية المشرك، وهو ما أخرجه موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ورجال من أهل العلم "أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرك فأهدى له، فقال إني لا أقبل هدية مشرك" الحديث رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، وقد وصله بعضهم عن الزهري ولا يصح. وفي الباب حديث عياض بن حماد أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من طريق قتادة عن يزيد بن عبد الله عن عياض قال:

(5/230)


"أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة فقال: أسلمت؟ قلت: لا. قال: إني نهيت عن زبد المشركين" والزبد بفتح الزاي وسكون الموحدة الرفد، صححه الترمذي وابن خزيمة. وأورد المصنف عدة أحاديث دالة على الجواز فجمع بينها الطبري بأن الامتناع فيما أهدي له خاصة والقبول فيما أهدي للمسلمين، وفيه نظر لأن من جملة أدلة الجواز ما وقعت الهدية فيه له خاصة، وجمع غيره بأن الامتناع في حق من يريد بهديته التودد والموالاة، والقبول في حق من يرجى بذلك تأنيسه وتأليفه على الإسلام، وهذا أقوى من الأول. وقيل يحمل القبول على من كان من أهل الكتاب، والرد على من كان من أهل الأوثان. وقيل يمتنع ذلك لغيره من الأمراء، وأن ذلك من خصائصه. ومنهم من ادعى نسخ المنع بأحاديث القبول، ومنهم من عكس. وهذه الأجوبة الثلاثة ضعيفة فالنسخ لا يثبت بالاحتمال ولا التخصيص. قوله: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: هاجر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بسارة" الحديث أورده مختصرا، وسيأتي موصولا مع الكلام عليه في أحاديث الأنبياء. ووجه الدلالة منه ظاهر، وهو مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، ولا سيما إذا لم يرد من شرعنا إنكاره. قوله: "وأهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم" ذكره موصولا في هذا الباب. قوله: "وقال أبو حميد أهدى ملك أيلة" بفتح الهمزة وسكون التحتانية بلد معروف بساحل البحر في طريق المصريين إلى مكة وهي الآن خراب، وقد تقدم الحديث مطولا في الزكاة. وقوله: "وكتب إليه ببحرهم" أي ببلدهم، وحمله الداودي على ظاهره فوهم. ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحدايث: أحدها حديث أنس في جبة السندس، وسيأتي شرحه في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى قوله: "أهدي" بضم أوله على البناء للمجهول. قوله: "وكان ينهى" أي النبي صلى الله عليه وسلم "عن الحرير" وهي جملة حالية. قوله: "وقال سعيد" هو ابن أبي عروبة "إلخ" وصله أحمد عن روح عن سعيد وهو ابن أبي عروبة به وقال فيه: "جبة سندس أو ديباج شك سعيد" وسيأتي بيان ما فيه من التخالف مع بقية شرحه في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. وأراد البخاري منه بيان الذي أهدى لتظهر مطابقته للترجمة. وقد أخرجه مسلم عن طريق عمرو بن عامر عن قتادة فقال فيه: "إن أكيدر دومة الجندل" وأكيدر دومة هو أكيدر تصغير أكدر، ودومة بضم المهملة وسكون الواو بلد بين الحجاز والشام وهي دومة الجندل، مدينة بقرب تبوك بها نخل وزرع وحصن على عشر مراحل من المدينة وثمان من دمشق، وكان أكيدر ملكها، وهو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن بالجيم والنون ابن أعباء بن الحارث بن معاوية ينسب إلى كندة وكان نصرانيا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليه خالد بن الوليد في سرية فأسره وقتل أخاه حسان وقدم به المدينة، فصالحه النبي صلى الله عليه وسلم على الجزية وأطلقه، ذكر ابن إسحاق قصته مطولة في المغازي. وروى أبو يعلى بإسناد قوي من حديث قيس بن النعمان "أنه لما قدم أخرج قباء من ديباج منسوجا بالذهب، فرده النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ثم أنه وجد في نفسه من رد هديته فرجع به، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ادفعه إلى عمر" الحديث، وفي حديث علي عند مسلم: "أن أكيدر دومة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فأعطاه عليا فقال: شققه خمرا بين الفواطم" فيستفاد منه أن الحلة التي ذكرها علي في الباب الذي قبله هي هذه التي أهداها أكيدر، وسيأتي المراد بالفواطم في اللباس إن شاء الله تعالى. ثانيها حديث أنس أيضا: "أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها" الحديث وسيأتي شرحه في غزوة خيبر من المغازي، واسم اليهودية المذكورة زينب، وقد اختلف في إسلامها كما سيأتي. قوله: "فأكل منها فجيء بها" زاد مسلم وأحمد في روايته من الوجه المذكور هنا "فأكل منه فقال أنها جعلت فيه سما" وزاد مسلم بعد قوله فجيء بها إلى

(5/231)


رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك، قال: ما كان الله ليسلطك علي" . قوله: "فقيل ألا نقتلها" في رواية أحمد ومسلم: "فقالوا يا رسول الله". قوله: "في لهوات" بفتح اللام جمع لهاة، وهي سقف الفم أو اللحمة المشرفة على الحلق، وقيل هي أقصى الحلق، وقيل ما يبدو من الفم عند التبسم. ثالثها حديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وقد تقدم بعضه بهذا الإسناد في البيوع. قوله: "عن أبيه" هو سليمان بن طرخان التيمي، والإسناد كله بصريون إلا الصحابي. قوله: "صاع من طعام أو نحوه" بالرفع والضمير للصاع. قوله: "ثم جاء رجل مشرك" لم أقف على اسمه ولا على اسم صاحب الصاع المذكور. قوله: "مشعان" بضم الميم وسكون المعجمة بعدها مهملة وآخره نون ثقيلة، فسره المصنف في آخر الحديث في رواية المستملي بأنه الطويل جدا فوق الطول، وزاد غيره: مع إفراد الطول شعث الرأس، وقد تقدم، وكأنه أقوى لأنه سيأتي في الأطعمة من وجه آخر بلفظ مشعان طويل، ويحتمل أن يكون قوله طويل تفسيرا لمشعان. وقال القزاز: المشعان الجافي الثائر الرأس. قوله: "بيعا أم عطية" انتصب على فعل مقدر. قوله: "فاشترى منه شاة" في رواية الكشميهني: "فاشترى منها" أي من الغنم. قوله: "بسواد البطن" هو الكبد أو كل ما في البطن من كبد وغيرها. قوله: "وايم الله" هو قسم، وقد تقدم أنه يقال بالهمز وبالوصل وغير ذلك. قوله: "أعطاها إياه" هو من القلب وأصله أعطاه إياها. قوله: "فأكلوا أجمعون" يحتمل أن يكونوا اجتمعوا على القصعتين فيكون فيه معجزة أخرى لكونهما وسعتا أيدي القوم، ويحتمل أن يريد أنهم أكلوا كلهم في الجملة، أعم من الاجتماع والافتراق. قوله: "ففضلت القصعتان فحملناه" أي الطعام، ولو أراد القصعتين لقال حملناهما، ووقع في رواية المصنف في الأطعمة "وفضل في القصعتين" وكذا أخرجه مسلم، والضمير على هذا للقدر الذي فضل. قوله: "أو كما قال" شك من الراوي، وفي هذا الحديث قبول هدية المشرك لأنه سأله هل يبيع أو يهدي؟ وفيه فساد قول من حمل رد الهدية على الوثني دون الكتابي لأن هذا الأعرابي كان وثنيا، وفيه المواساة عند الضرورة، وظهور البركة في الاجتماع على الطعام، والقسم لتأكيد الخبر وإن كان المخبر صادقا، ومعجزة ظاهرة وآية باهرة من تكثير القدر اليسير من الصاع ومن اللحم حتى وسع الجمع المذكور وفضل منه، ولم أر هذه القصة إلا من حديث عبد الرحمن، وقد ورد تكثير الطعام في الجملة من أحاديث جماعة من الصحابة محل الإشارة إليها علامات النبوة وستأتي إن شاء الله تعالى.

(5/232)


29 - باب: الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ.
وقوله الله تعالى [8 الممتحنة]:
{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
2619- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "رَأَى عُمَرُ حُلَّةً عَلَى رَجُلٍ تُبَاعُ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ تَلْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِذَا جَاءَكَ الْوَفْدُ فَقَالَ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا بِحُلَلٍ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ مِنْهَا بِحُلَّةٍ فَقَالَ عُمَرُ كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ؟ قَالَ: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، تَبِيعُهَا أَوْ

(5/232)


تَكْسُوهَا. فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ"
2620- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: "قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي قَالَ نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ"
[الحديث 2620- أطرافه في: 3183 ، 5978 ، 5979]
قوله: "باب الهدية للمشركين، وقول الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} ساق إلى آخر الآية، وهي رواية أبي ذر وأبي الوقت، وساق الباقون إلى قوله: {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} ، والمراد منها بيان من يجوز بره منهم، وأن الهدية للمشرك إثباتا ونفيا ليس على الإطلاق، ومن هذه المادة قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} الآية، ثم البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل، والله أعلم. وأورد فيه حديثين: أحدهما حديث ابن عمر في حلة عطارد وقد سبق قريبا، والغرض منه قوله: "فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم" واسم هذا الأخ عثمان بن حكيم وكان أخا عمر من أمه، أمهما خيثمة بنت هشام بن المغيرة، وهي بنت عم أبي جهل بن هشام بن المغيرة. وقال الدمياطي: إنما كان عثمان بن حكيم أخا زيد بن الخطاب أخي عمر لأمه أمهما أسماء بنت وهب. قلت: إن ثبت احتمل أن تكون أسماء بنت وهب أرضعت عمر فيكون عثمان بن حكيم أخاه أيضا من الرضاعة كما هو أخو أخيه زيد من أمه. ثانيهما حديث أسماء بنت أبي بكر، قوله: "عن هشام" هو ابن عروة. وفي رواية ابن عيينة الآتية في الأدب "أخبرني أبي". قوله: "عن أسماء بنت أبي بكر" في رواية ابن عيينة المذكورة "أخبرتني أسماء " كذا قال أكثر أصحاب هشام. وقال بعض أصحاب ابن عيينة عنه "عن هشام عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء" قال الدار قطني وهو خطأ. قلت: حكى أبو نعيم أن عمر بن علي المقدمي ويعقوب القارئ روياه عن هشام كذلك، فيحتمل أن يكونا محفوظين، ورواه أبو معاوية وعبد الحميد بن جعفر عن هشام فقالا: "عن عروة عن عائشة" وكذا أخرجه ابن حبان من طريق الثوري عن هشام، والأول أشهر، قال البرقاني: وهو أثبت ا هـ. ولا يبعد أن يكون عند عروة عن أمه وخالته، فقد أخرجه ابن سعد وأبو داود الطيالسي والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير قال: "قدمت قتيلة - بالقاف والمثناة مصغرة - بنت عبد العزى بن سعد من بني مالك بن حسل - بكسر الحاء وسكون السين المهملتين - على ابنتها أسماء بنت أبي بكر في الهدنة، وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، بهدايا: زبيب وسمن وقرظ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، وأرسلت إلى عائشة: سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لتدخلها" الحديث، وعرف منه تسمية أم أسماء وأنها أمها حقيقة، وأن من قال إنها أمها من الرضاعة فقد وهم، ووقع عند الزبير بن بكار أن اسمها قيلة، ورأيته في نسخة مجردة منه بسكون التحتانية وضبطه ابن ماكولا بسكون المثناة، فعلى هذا فمن قال قتيلة صغرها، قال الزبير: أم أسماء وعبد الله ابني أبي بكر قيلة بنت عبد العزى، وساق نسبها إلى حسل بن عامر بن لؤي، وأما قول الداودي أن اسمها أم بكر فقد قال ابن التين لعله كنيتها. قوله: "قدمت علي أمي"

(5/233)


زاد الليث عن هشام كما سيأتي في الأدب "مع ابنها" وكذا في رواية حاتم بن إسماعيل عن هشام كما سيأتي في أواخر الجزية، وذكر الزبير أن اسم ابنها المذكور الحارث بن مدرك بن عبيد بن عمرو بن مخزوم، ولم أر له ذكرا في الصحابة فكأنه مات مشركا، وذكر بعض شيوخنا أنه وقع في بعض النسخ "مع أبيها" بموحدة ثم تحتانية وهو تصحيف. قوله: "وهي مشركة" سأذكر ما قيل فيه إسلامها. قوله: "في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية حاتم "في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأراد بذلك ما بين الحديبية والفتح، وسيأتي بيانه في المغازي. قوله: "فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة" في رواية حاتم "فقالت يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة" ولمسلم من طريق عبد الله بن إدريس عن هشام "راغبة أو راهبة" بالشك، وللطبراني من طريق عبد الله بن إدريس المذكور "راغبة وراهبة" وفي حديث عائشة عند ابن حبان: "جاءتني راغبة وراهبة" وهو يؤيد رواية الطبراني، والمعنى أنها قدمت طالبة في بر ابنتها لها خائفة من ردها إياها خائبة؛ هكذا فسره الجمهور، ونقل المستغفري أن بعضهم أوله فقال: وهي راغبة في الإسلام، فذكرها لذلك في الصحابة، ورده أبو موسى بأنه لم يقع في شيء من الروايات ما يدل على إسلامها، وقولها: "راغبة" أي في شيء تأخذه وهي على شركها، ولهذا استأذنت أسماء في أن تصلها، ولو كانت راغبة في الإسلام لم تحتج إلى إذن ا هـ. وقيل معناه راغبة عن ديني أو راغبة في القرب مني ومجاورتي والتودد إلي، لأنها ابتدأت أسماء بالهدية التي أحضرتها، ورغبت منها في المكافأة، ولو حمل قوله: "راغبة" أي في الإسلام لم يستلزم إسلامها، ووقع في رواية عيسى بن يونس عن هشام عند أبي داود والإسماعيلي: "راغمة" بالميم أي كارهة للإسلام ولم تقدم مهاجرة. وقال ابن بطال: قيل معناه هاربة من قومها، ورده بأنه لو كان كذلك لكان مراغمة، قال وكان أبو عمرو بن العلاء يفسر قوله: "مراغما" بالخروج عن العدو على رغم أنفه فيحتمل أن يكون هذا كذلك، قال: "وراغبة" بالموحدة أظهر في معنى الحديث. قوله: "صلي أمك" زاد في الأدب عقب حديثه عن الحميدي عن ابن عيينة: قال ابن عيينة "فأنزل الله فيها: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين" وكذا وقع في آخر حديث عبد الله بن الزبير، ولعل ابن عيينة تلقاه منه، وروى ابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في ناس من المشركين كانوا ألين شيء جانبا للمسلمين وأحسنه أخلاقا. قلت: ولا منافاة بينهما فإن السبب خاص واللفظ عام فيتناول كل من كان في معنى والدة أسماء. وقيل نسخ ذلك آية الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا والله أعلم. وقال الخطابي: فيه أن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل المسلمة، ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة وإن كان الولد مسلما ا هـ. وفيه موادعة أهل الحرب ومعاملتهم في زمن الهدنة، والسفر في زيارة القريب، وتحري أسماء في أمر دينها، وكيف لا وهي بنت الصديق وزوج الزبير رضي الله عنهم.

(5/234)


30 - باب: لاَ يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ وَصَدَقَتِهِ
2612- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَشُعْبَةُ قَالاَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ"
2622- حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

(5/234)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ"
2623- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لاَ تَشْتَرِهِ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ"
قوله: "باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته" كذا بت الحكم في هذه المسألة لقوة الدليل عنده فيها، وتقدم في "باب الهبة للولد" أنه أشار في الترجمة إلى أن للوالد الرجوع فيما وهبه للولد، فيمكن أنه يرى صحة الرجوع له وإن كان حراما بغير عذر، واختلف السلف في أصل المسألة، وقد أشرنا إلى تفاصيل مذاهبهم في "باب الهبة للولد" ولا فرق في الحكم بين الهدنة والهبة، وأما الصدقة فاتفقوا على أنه لا يجوز الرجوع فيها بعد القبض. وأورد المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث ابن عباس من طريقين، أحدهما: قوله: "حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام" هو الدستوائي "وشعبة" كذا أخرجه، وتابعه أبو قلابة عند أبي عوانة وأبو خليفة عند الإسماعيلي وعلي بن عبد العزيز عند البيهقي كلهم عن مسلم بن إبراهيم، ورواه أبو داود عن مسلم المذكور فقال: "حدثنا شعبة وأبان وهمام" وتابع إسماعيل القاضي عن مسلم بن إبراهيم عند أبي نعيم فكأنه كان عند مسلم عن جماعة. قوله: "عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس" في رواية شهر عن شعبة "أخبرني قتادة سمعت سعيد بن المسيب يحدث أنه سمع ابن عباس" أخرجه أحمد. قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية بكير بن الأشج عن سعيد بن المسيب "سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أخرجه مسلم. قوله: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" زاد أبو داود في آخره: "قال همام قال قتادة: ولا أعلم القيء إلا حراما. الطريق الثانية:قوله "وحدثني عبد الرحمن بن المبارك" هو العيشي بتحتانية ومعجمة، بصري يكنى أبا بكر، وليس أخا لعبد الله بن المبارك المشهور، والإسناد كله بصريون إلا ابن عباس وعكرمة وقد سكناها مدة. قوله: "ليس لنا مثل السوء" أي لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها، قال الله سبحانه وتعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك وأدل على التحريم مما لو قال مثلا: لا تعودوا في الهبة، وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب جمهور العلماء، إلا هبة الوالد لولده جمعا بين هذا الحديث وحديث النعمان الماضي. وقال الطحاوي: وقوله: "لا يحل" لا يستلزم التحريم، وهو كقوله: "لا تحل الصدقة لغني" وإنما معناه لا تحل له من حيث تحل لغيره من ذوي الحاجة، وأراد بذلك التغليظ في الكراهة. قال: وقوله: "كالعائد في قيئه" وإن اقتضى التحريم لكون القيء حراما لكن الزيادة في الرواية الأخرى وهي قوله: "كالكلب" تدل على عدم التحريم، لأن الكلب غير متعبد فالقيء ليس حراما عليه، والمراد التنزيه عن فعل يشبه فعل الكلب. وتعقب باستبعاد ما تأوله ومنافرة سياق الأحاديث له، وبأن عرف الشرع في مثل هذه الأشياء المبالغة في الزجر

(5/235)


كقوله: "من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير" . قوله: "الذي يعود في هبته" أي العائد في هبته إلى الموهوب، وهو كقوله تعالى. {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} . قوله: "كالكلب يرجع في قيئه" هذا التمثيل وقع في طريق سعيد بن المسيب أيضا عند مسلم أخرجه من رواية أبي جعفر محمد الباقر عنه بلفظ: "مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يرجع في قيئه فيأكله" وله في رواية بكير المذكورة "إنما مثل الذي يتصدق بصدقة ثم يعود في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يأكل قيئه" . الحديث الثاني حديث عمر قوله: "حدثنا يحيى بن قزعة" بفتح القاف والزاي والمهملة، مكي قديم لم يخرج له غير البخاري. قوله: "عن زيد بن أسلم" سيأتي في آخر حديث في الهبة عن الحميدي "حدثنا سفيان سمعت مالكا يسأل زيد بن أسلم فقال: سمعت أبي" فذكره مختصرا، ولمالك فيه إسناد آخر سيأتي في الجهاد عن نافع عن ابن عمر، وله فيه إسناد ثالث عن عمرو بن دينار عن ثابت الأحنف عن ابن عمر أخرجه ابن عبد البر. قوله: "سمعت عمر بن الخطاب" زاد ابن المديني عن سفيان "على المنبر" وهي في "الموطآت للدار قطني". قوله: "حملت على فرس" زاد القعنبي في الموطأ "عتيق" والعتيق الكريم الفائق من كل شيء، وهذا الفرس أخرج ابن سعد عن الواقدي بسنده عن سهل بن سعد في تسمية خيل النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وأهدى تميم الداري له فرسا يقال له الورد فأعطاه عمر فحمل عليه عمر في سبيل الله فوجده يباع" الحديث، فعرف بهذا تسميته وأصله، ولا يعارضه ما أخرجه مسلم ولم يسق لفظه وساقه أبو عوانة في مستخرجه من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر "أن عمر حمل على فرس في سبيل الله فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا" لأنه يحمل على أن عمر لما أراد أن يتصدق به فوض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اختيار من يتصدق به عليه، أو استشاره فيمن يحمله عليه فأشار به عليه فنسبت إليه العطية لكونه أمره بها. قوله: "في سبيل الله" ظاهره أنه حمله عليه حمل تمليك ليجاهد به إذ لو كان حمل تحبيس لم يجز بيعه، وقيل بلغ إلى حالة لا يمكن الانتفاع به فيما حبس فيه، وهو مفتقر إلى ثبوت ذلك، ويدل على أنه تمليك قوله: "العائد في هبته" ولو كان حبسا لقال في حبسه أو وقفه. وعلى هذا فالمراد بسبيل الله الجهاد لا الوقف، فلا حجة فيه لمن أجاز بيع الموقوف إذا بلغ غاية لا يتصور الانتفاع به فيما وقف له. قوله: "فأضاعه" أي لم يحسن القيام عليه وقصر في مؤونته وخدمته، وقيل أي لم يعرف مقداره فأراد بيعه بدون قيمته، وقيل معناه استعمله في غير ما جعل له، والأول أظهر، ويؤيده رواية مسلم من طريق روح بن القاسم عن زيد بن أسلم "فوجده قد أضاعه وكان قليل المال" فأشار إلى علة ذلك وإلى العذر المذكور في إرادة بيعه. قوله: "لا تشتره" سمى الشراء عودا في الصدقة لأن العادة جرت بالمسامحة من البائع في مثل ذلك للمشتري، فأطلق على القدر الذي يسامح به رجوعا، وأشار إلى الرخص بقوله: "وإن أعطاكه بدرهم" ويستفاد من قوله: "وإن أعطاكه بدرهم" أن البائع كان قد ملكه ولو كان محبسا كما ادعاه من تقدم ذكره وجاز بيعه لكونه صار لا ينتفع به فيما حبس له لما كان له أن يبيعه إلا بالقيمة الوافرة، ولا كان له أن يسامح منها بشيء ولو كان المشتري هو المحبس، والله أعلم. وقد استشكله الإسماعيلي وقال: إذا كان شرط الواقف ما تقدم ذكره في حديث ابن عمر في وقف عمر لا يباع أصله ولا يوهب فكيف يجوز أن يباع الفرس الموهوب، وكيف لا ينهى بائعه أو يمنع من بيعه؟ قال: فلعل معناه أن عمر جعله صدقة يعطيها من يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعطاءه فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم الرجل المذكور فجرى منه ما ذكر، ويستفاد من التعليل المذكور أيضا أنه لو وجده مثلا يباع بأغلى من ثمنه لم يتناوله النهي. قوله: "فإن العائد في صدقته إلخ" حمل الجمهور هذا النهي

(5/236)


في صورة الشراء على التنزيه، وحمله قوم على التحريم، قال القرطبي وغيره: وهو الظاهر. ثم الزجر المذكور مخصوص بالصورة المذكورة وما أشبهها، لا ما إذا رده إليه الميراث مثلا. قال الطبري: يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب، ومن كان والدا والموهوب ولده، والهبة التي لم تقبض، والتي ردها الميراث إلى الواهب، لثبوت الأخبار باستثناء كل ذلك. وأما ما عدا ذلك كالغني يثيب الفقير ونحو من يصل رحمه فلا رجوع لهؤلاء، قال: ومما لا رجوع فيه مطلقا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة. وقد استشكل ذكر عمر مع ما فيه من إذاعة عمل البر وكتمانه أرجح، وأجيب بأنه تعارض عنده المصلحتان - الكتمان وتبليغ الحكم الشرعي - فرجح الثاني فعمل به، وتعقب بأنه كان يمكن أن يقول: حمل رجل على فرس مثلا، ولا يقول: حملت، فيجمع بين المصلحتين. والظاهر أن محل رجحان الكتمان إنما هو قبل الفعل وعنده، وأما بعد وقوعه فلعل الذي أعطيه أذاع ذلك فانتفى الكتمان، ويضاف إليه أن في إضافته ذلك إلى نفسه تأكيدا لصحة الحكم المذكور، لأن الذي تقع له القصة أجدر بضبطها ممن ليس عنده إلا وقوعها بحضوره، فلما أمن ما يخشى من الإعلان بالقصد صرح بإضافة الحكم إلى نفسه، ويحتمل أن يكون محل ترجيح الكتمان لمن يخشى على نفسه من الإعلان العجب والرياء، أما من أمن من ذلك كعمر فلا.

(5/237)


باب حدثني ابراهيم بن موسى أخبرنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم
...
31 - باب
2624- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ "أَنَّ بَنِي صُهَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ جُدْعَانَ ادَّعَوْا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى ذَلِكَ صُهَيْبًا فَقَالَ مَرْوَانُ مَنْ يَشْهَدُ لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ قَالُوا: ابْنُ عُمَرَ فَدَعَاهُ، فَشَهِدَ لاَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُهَيْبًا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً، فَقَضَى مَرْوَانُ بِشَهَادَتِهِ لَهُمْ"
قوله: "باب" كذا للجميع بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، ومناسبته لها أن الصحابة بعد ثبوت عطية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لصهيب لم يستفصلوا هل رجع أم لا؟ فدل على أن لا أثر للرجوع في الهبة. قوله: "أن بني صهيب" هو ابن سنان الرومي، وقد تقدم أصله في العرب في "باب شراء المملوك من الحربي" من كتاب البيوع. وقوله: "مولى بني جدعان" كذا في رواية الكشميهني، وللباقين "مولى ابن جدعان" وهي رواية الإسماعيلي من طريق أبي حاتم عن إبراهيم بن موسى شيخ البخاري فيه، وابن جدعان هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وأما صهيب فكان له من الولد ممن روى عنه حمزة وسعد وصالح وصيفي وعباد وعثمان ومحمد وحبيب. قوله: "فقال مروان" هو ابن الحكم حيث كان أمير المدينة لمعاوية، وكان موت صهيب بالمدينة في أواخر خلافة علي. قوله: "من يشهد لكما" كذا فيه بالتثنية؛ وبقية القصة بصيغة الجمع، فيحمل على أن المتولي للدعوى بذلك منهم كانا اثنين ورضي الباقون بذلك فنسب إليهم تارة بصيغة الجمع وتارة بصيغة التثنية، على أن في رواية الإسماعيلي: "فقال مروان من يشهد لكم" ولا إشكال فيه. أجاب الكرماني بأن أقل الجمع اثنان عند بعضهم. قوله: "لأعطى" بفتح اللام هي لام القسم، كأنه أعطى الشهادة حكم القسم أو فيه قسم مقدر أو عبر عن الخبر بالشهادة والخبر يؤكد بالقسم كثيرا وإن كان السامع غير منكر، ويؤيد كونه خبرا أن مروان قضى لهم بشهادة ابن عمر

(5/237)


وحده، ولو كانت شهادة حقيقة لاحتاج إلى شاهد آخر. ودعوى ابن بطال أنه قضى لهم بشهادته ويمينهم فيه نظر، لأنه لم يذكر في الحديث، وقد استدل به بعض المتأخرين لقول بعض السلف كشريح إنه يكفي الشاهد الواحد إذا انضمت إليه قرينة تدل على صدقه، وترجم أبو داود في السنن "باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم" وساق قصة خزيمة بن ثابت في سبب تسميته ذا الشهادتين وهي مشهورة، والجمهور على أن ذلك خاص بخزيمة والله أعلم. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون مروان أعطى ذلك من يستحق عنده العطاء من مال الله، فإن كان النبي عليه الصلاة والسلام أعطاه كان تنفيذا له، وإن لم يكن كان هو المنشئ للعطاء، قال: وقد يكون ذلك خاصا بالفيء كما وقع في قصة أبي قتادة حيث قضى له بدعواه وشهادة من كان عنده السلب. قوله: "بيتين وحجرة" ذكر عمر بن شبة في "أخبار المدينة" أن بيت صهيب كان لأم سلمة فوهبته لصهيب، فلعلها فعلت ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أو نسب إليها بطريق المجاز وكان في الحقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه لصهيب، أو هو بيت آخر غير ما وقعت به الدعوى المذكورة.

(5/238)


32 - باب: مَا قِيلَ فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى
أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهِيَ عُمْرَى: جَعَلْتُهَا لَهُ. "اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" جَعَلَكُمْ عُمَّارًا
2625- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ"
2626- حدثنا حفص بن عمر حدثنا همام حدثنا قتادة قال حدثني النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرى جائزة"
وقال عطاء: حدثني جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.. مثله
قوله: "باب ما قيل في العمرى والرقبى" أي ما ورد في ذلك من الأحكام، ثبت للأصيلي وكريمة بسملة قبل الباب، والعمرى بضم المهملة وسكون الميم مع القصر، وحكي ضم الميم مع ضم أوله، وحكي فتح أوله مع السكون، مأخوذ من العمر، والرقبى بوزنها مأخوذة من المراقبة، لأنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية فيعطي الرجل الدار ويقول له: أعمرتك إياها، أي أبحتها لك مدة عمرك فقيل لها عمرى لذلك، وكذا قيل لها رقبى لأن كلا منهما يرقب متى يموت الآخر لترجع إليه، وكذا ورثته فيقومون مقامه في ذلك، هذا أصلها لغة. أما شرعا فالجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكا للآخذ، ولا ترجع إلى الأول إلا إن صرح باشتراط ذلك. وذهب الجمهور إلى صحة العمرى إلا ما حكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الناس والماوردي عن داود وطائفة. لكن ابن حزم قال بصحتها وهو شيخ الظاهرية. ثم اختلفوا إلى ما يتوجه التمليك، فالجمهور أنه يتوجه إلى الرقبة كسائر الهبات، حتى لو كان المعمر عبدا فأعتقه الموهوب له نفذ بخلاف الواهب، وقيل يتوجه إلى المنفعة دون الرقبة وهو قول مالك والشافعي في القديم. وهل يسلك به مسلك العارية أو الوقف؟ روايتان عند المالكية، وعن الحنفية التمليك في العمرى يتوجه إلى الرقبة وفي الرقبى إلى

(5/238)


المنفعة، وعنهم أنها باطلة، وقول المصنف "أعمرته الدار فهي عمرى جعلتها له" أشار بذلك إلى أصلها، وأطلق الجعل لأنه يرى أنها تصير ملك الموهوب له كقول الجمهور، ولا يرى أنها عارية كما سيأتي تصريحه بذلك في آخر أبواب الهبة. وقوله: "استعمركم فيها جعلكم عمارا" هو تفسير أبي عبيدة في "المجاز" وعليه يعتمد كثيرا. وقال غيره: استعمركم أطال أعماركم، وقيل معناه أذن لكم في عمارتها واستخراج قوتكم منها. قوله: "عن يحيى" هو ابن أبي كثير. قوله: "عن أبي سلمة عن جابر" في رواية هشام عن يحيى "حدثني أبو سلمة سمعت جابر بن عبد الله" أخرجه مسلم، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن. قوله: "قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى أنها لمن وهبت له" هو بفتح "أنها" أي قضى بأنها. وفي رواية الزهري عن أبي سلمة عند مسلم: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث" هذا لفظه من طريق مالك عن الزهري، وله نحوه من طريق ابن جريج عن الزهري، وله من طريق الليث عنه: فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن أعمر ولعقبه، ولم يذكر التعليل الذي في آخره، وله من طريق معمر عنه "إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هي لك ولعقبك، فأما الذي قال: "هي لك ما عشت" فإنها ترجع إلى صاحبها، قال معمر: كان الزهري يفتي به، ولم يذكر التعليل أيضا، وبين من طريق ابن أبي ذئب عن الزهري أن التعليل من قول أبي سلمة، وقد أوضحته في كتاب "المدرج" وأخرجه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر قال: "جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا ولعقبه" فيجتمع من هذه الروايات ثلاثة أحوال: أحدها أن يقول: "هي لك ولعقبك" فهذا صريح في أنها للموهوب له ولعقبه. ثانيها أن يقول: "هي لك ما عشت، فإذا مت رجعت إلي" فهذه عارية مؤقتة وهي صحيحة، فإذا مات رجعت إلى الذي أعطى، وقد بينت هذه والتي قبلها رواية الزهري، وبه قال أكثر العلماء ورجحه جماعة من الشافعية، والأصح عند أكثرهم لا ترجع إلى الواهب، واحتجوا بأنه شرط فاسد فألغي، وسأذكر الاحتجاج لذلك آخر الباب. ثالثها أن يقول أعمرتكها ويطلق، فرواية أبي الزبير هذه تدل على أن حكمها حكم الأول وأنها لا ترجع إلى الواهب، وهو قول الشافعي في الجديد والجمهور، وقال في القديم: العقد باطل من أصله. وعنه كقول مالك، وقيل القديم عن الشافعي كالجديد. وقد روى النسائي أن قتادة حكى أن سليمان بن هشام بن عبد الملك سأل الفقهاء عن هذه المسألة أعني صورة الإطلاق، فذكر له قتادة عن الحسن وغيره أنها جائزة، وذكر له حديث أبي هريرة بذلك، قال: وذكر له عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال فقال الزهري: إنما العمرى أي الجائزة إذا أعمر له ولعقبه من بعده، فإذا لم يجعل عقبه من بعده كان للذي يجعل شرطه. قال قتادة واحتج الزهري بأن الخلفاء لا يقضون بها، فقال عطاء قضى بها عبد الملك بن مروان. قوله "عن بشير" بالمعجمة وزن عظيم "ابن نهيك" بالنون وزن ولده. قوله "العمرى جائزة" فهم قتادة وهو راوي الحديث من هذا الإطلاق ما حكيته عنه وحمله الزهري على التفصيل الماضي وإطلاق الجواز في هذه الرواية لا يفهم الحل أو الصحة وأما حمله على الماضي للذي يعاطاها وهو الذي حمله عليه قتادة فيحتاج إلى قدر زائد على ذلك وقد أخرج النسائي من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا لا عمري فمن أعمر شيئا فهو له وهو يشهد لما فهمه قتادة قوله: "وقال عطاء حدثني جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله" في أبي ذر "نحوه" بدل

(5/239)


مثله، وطريق عطاء موصولة بالإسناد المذكور عن قتادة عنه فقتادة هو القائل وقال عطاء ووهم من جعله معلقا وقد بين ذلك أبو الوليد عن همام أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريقه بالإسنادين جميعا ولفظهما واحد وهو يقوي رواية أبي ذر وقد رواه مسلم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلفظ العمري ميراث لأهلها "تنبيه" ترجم المصنف بالرقبى ولم يذكر الا الحديثين الواردين في العمري وكأنه يرى أنهما متحدا المعنى وهو قول الجمهور ومنع الرقبى مالك وأبو حنيفة ومحمد ووافق أبو يوسف الجمهور وقد روى النسائي بإسناد صحيح عن بن عباس موقوفا العمري والرقبى سواء وله من طريق إسرائيل عن عبد الكريم عن عطاء قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمري والرقبى قلت وما الرقبى قال يقول الرجل للرجل هي لك حياتك فإن فعلتم فهو جائز هكذا أخرجه مرسلا وأخرجه من طريق بن جريج عن عطاء عن حبيب بن أبي ثابت عن بن عمر مرفوعا لا عمري ولا رقبى فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو له حياته ومماته رجاله ثقات لكن اختلف في سماع حبيب له من بن عمر فصرح به النسائي من طريق ومعناه في طريق أخرى قال الماوردي اختلفوا إلى ماذا يوجه النهي والأظهر أنه يتوجه إلى الحكم وقيل يتوجه إلى اللفظ الجاهلي والحكم المنسوخ وقيل النهي إنما يمنع صحة ما يفيد المنهي عنه فائدة أما إذا كان صحة المنهي عنه ضررا على مرتكبه فلا يمنع صحته كالطلاق في زمن الحيض وصحة العمري ضرر على المعمر فإن ملكه يزول بغير عوض هذا كله إذا حمل النهي على التحريم فإن حمل على الكراهة أو الإرشاد لم يحتج إلى ذلك والقرينة الصارفة ما ذكر في آخر الحديث من بيان حكمة ويصرح بذلك قوله العمري جائزة وللترمذي من طريق أبي الزبير عن جابر رفعه العمري جائزة لأهلها والرقبى جائزة لأهلها والله أعلم قال بعض الحذاق إجازة العمري والرقبى بعيد عن قياس الأصول ولكن الحديث مقدم ولو قيل بتحريمهما للنهي وصحتهما للحديث لم يبعد وكأن النهي لأمر خارج وهو حفظ الأموال ولو كان المراد فيهما المنفعة كما قال مالك لم ينه عنهما والظاهر أنه ما كأن مقصود العرب بهما الا تمليك الرقبة بالشرط المذكور فجاء الشرع بمراغمتهم فصحح العقد على نعت الهبة المحمودة وأبطل الشرط المضاد لذلك فإنه يشبه الرجوع في الهبة وقد صح النهي عنه وشبه بالكلب يعود في قيئه وقد روى النسائي من طريق أبي الزبير عن بن عباس رفعه "العمري لمن أعمرها والرقبى لمن أرقبها والعائد في هبته كالعائد في قيئه" فشرط الرجوع المقارن للعقد مثل الرجوع الطاريء بعده فنهى عن ذلك وأمر أن يبقيها مطلقا أو يخرجها مطلقا فإن أخرجها على خلاف ذلك بطل الشرط وصح العقد مراغمة له وهو نحو إبطال شرط الولاء لمن باع عبدا كما تقدم في قصة بريرة

(5/240)


33 - باب: مَنْ اسْتَعَارَ مِنْ النَّاسِ الْفَرَسَ
2627- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: "كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ الْمَنْدُوبُ فَرَكِبَه، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا"
[الحديث 2627- أطرافه في: 2820 ، 2857 ، 2866 ، 2867 ، 2908 ، 2968 ، 2969 ، 3040 ، 6033 ، 6212]
قوله: "باب من استعار من الناس الفرس" زاد أبو ذر عن مشايخه "والدابة" وزاد عن الكشميهني: "وغيرها"

(5/240)


وثبت مثله لابن شبويه لكن قال: "وغيرهما"بالتثنية، وذكر بعض الشراح ممن أدركناه قبل الباب: "كتاب العارية" ولم أره في شيء من النسخ ولا الشروح، والبخاري أضاف العارية إلى الهبة لأنها هبة المنافع. والعارية بتشديد التحتانية ويجوز تخفيفها، وحكي عارة براء خفيفة بغير تحتانية، قال الأزهري: مأخوذة من عار إذا ذهب وجاء ومنه سمي العيار لأنه يكثر الذهاب والمجيء، وقال البطليوسي: هي من التعاور وهو التناوب، وقال الجوهري: منسوبة إلى العار لأن طلبها عار، وتعقب بوقوعها من الشارع ولا عار في فعله، وهذا التعقب وإن كان صحيحا في نفسه لكنه لا يرد على ناقل اللغة، وفعل الشارع في مثل ذلك لبيان الجواز. وهي في الشرع هبة المنافع دون الرقبة، ويجوز توقيتها. وحكم العارية إذا تلفت في يد المستعير أن يضمنها إلا فيما إذا كان ذلك من الوجه المأذون فيه، هذا قول الجمهور، وعن المالكية والحنفية إن لم يتعد لم يضمن. وفي الباب عدة أحاديث ليس فيها شيء على شرط البخاري، أشهرها حديث أبي أمامة أنه "سمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: العارية مؤداة، والزعيم غارم" أخرجه أبو داود وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان. قلت: في الاستدلال به نظر، وليس فيه دلالة على التضمين لأن الله تعالى قال: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" وإذا تلفت الأمانة لم يلزم ردها. نعم روى الأربعة وصححه الحاكم من حديث الحسن عن سمرة رفعه: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" وسماع الحسن من سمرة مختلف فيه، فإن ثبت ففيه حجة لقول الجمهور، والله أعلم. قوله: "كان فزع بالمدينة" أي خوف من عدو. قوله: "من أبي طلحة" هو زيد بن سهل زوج أم أنس. قوله: "يقال له المندوب" قيل سمي بذلك من الندب وهو الرهن عند السباق، وقيل لندب كان في جسمه وهو أثر الجرح، زاد في الجهاد من طريق سعيد عن قتادة "كان يقطف أو كان فيه قطاف" كذا فيه بالشك، والمراد أنه كان بطيء المشي. قوله: "وإن وجدناه لبحرا" في رواية المستملي: "وإن وجدنا" بحذف الضمير، قال الخطابي: إن هي النافية واللام في "لبحرا" بمعنى إلا أي ما وجدناه إلا بحرا، قال ابن التين هذا مذهب الكوفيين، وعند البصريين "أن" مخففة من الثقيلة واللام زائدة، كذا قال، قال الأصمعي: يقال للفرس بحر إذا كان واسع الجري، أو لأن جريه لا ينفذ كما لا ينفذ البحر، ويؤيده ما في رواية سعيد عن قتادة "وكان بعد ذلك لا يجارى" وسيأتي في الجهاد، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى.

(5/241)


34 - باب: الِاسْتِعَارَةِ لِلْعَرُوسِ عِنْدَ الْبِنَاءِ
2628- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَقَالَتْ: ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِي انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِي الْبَيْتِ وَقَدْ كَانَ لِي مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إِلاَّ أَرْسَلَتْ إِلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ"
قوله: "باب الاستعارة للعروس عند البناء" أي الزفاف، وقيل له: "بناء" لأنهم يبنون لمن يتزوج قبة يخلو بها مع المرأة. ثم أطلق ذلك على التزويج. قوله: "حدثنا عبد الواحد" تقدم بهذا الإسناد في آخر العتق حديث، وفيه شرح حال أيمن والد عبد الواحد. قوله: "وعليها درع قطر" الدرع قميص المرأة وهو مذكر، قال الجوهري:

(5/141)


باب فضل النيحة
...
35 - باب: فَضْلِ الْمَنِيحَةِ
2629- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "نِعْمَ الْمَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: نِعْمَ الصَّدَقَةُ..."
[الحديث 2629- طرفه في: 5608]
2630- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ يَعْنِي شَيْئًا وَكَانَتْ الأَنْصَارُ أَهْلَ الأَرْضِ وَالْعَقَارِ فَقَاسَمَهُمْ الأَنْصَارُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ وَيَكْفُوهُمْ الْعَمَلَ وَالْمَئُونَةَ وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنَسٍ أُمُّ سُلَيْمٍ كَانَتْ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ فَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمُّ أَنَسٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِذَاقًا فَأَعْطَاهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلاَتَهُ أُمَّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ". قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ

(5/242)


قَتْالِ أَهْلِ خَيْبَرَ فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّهِ عِذَاقَهَا وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ"
وَقَالَ: أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ بِهَذَا وَقَالَ "مَكَانَهُنَّ مِنْ خَالِصِهِ"
[الحديث 2630- طرفاه في: 3128 ، 4030 ، 4120]
2631- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلاَهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ"
قَالَ حَسَّانُ: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ - مِنْ رَدِّ السَّلاَمِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ - فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً
2632- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ لِرِجَالٍ مِنَّا فُضُولُ أَرَضِينَ فَقَالُوا نُؤَاجِرُهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ"
2633- وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ: فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا"
2634- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَعْلَمُهُمْ بِذَاكَ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى أَرْضٍ تَهْتَزُّ زَرْعًا فَقَالَ لِمَنْ هَذِهِ فَقَالُوا اكْتَرَاهَا فُلاَنٌ فَقَالَ أَمَا إِنَّهُ لَوْ مَنَحَهَا إِيَّاهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أَجْرًا مَعْلُومًا"
قوله: "باب فضل المنيحة" حذف "باب" من رواية أبي ذر، والمنيحة بالنون والمهملة وزن عظيمة، هي في الأصل العطية، قال أبو عبيد المنيحة عند العرب على وجهين: أحدهما أن يعطي الرجل صاحبه صلة فتكون له، والآخر أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بحلبها ووبرها زمنا ثم يردها، والمراد بها في أول أحاديث الباب هنا عارية ذوات الألبان ليؤخذ لبنها ثم ترد هي لصاحبها. وقال القزاز: قيل لا تكون المنيحة إلا ناقة أو شاة، والأول أعرف. ثم ذكر المصنف فيه ستة أحاديث: الأول حديث أبي هريرة. قوله: "نعم المنيحة اللقحة الصفي منحة" اللقحة الناقة ذات اللبن القريبة العهد بالولادة، وهي مكسورة اللام ويجوز فتحها والمعروف أن اللقحة بفتح اللام المرة

(5/243)


الواحدة من الحلب، والصفي بفتح الصاد وكسر الفاء أي الكريمة الغزيرة اللبن ويقال لها الصفية أيضا، كذا رواه يحيى بن بكير، وذكر المصنف بعده أن عبد الله بن يوسف وإسماعيل يعني ابن أبي أويس روياه بلفظ: "نعم الصدقة اللقحة الصفي منحة" وهذا هو المشهور عن مالك. وكذا رواه شعيب عن أبي الزناد كما سيأتي في الأشربة. قال ابن التين: من روى "نعم الصدقة" روى أحدهما بالمعنى لأن المنحة العطية والصدقة أيضا عطية. قلت: لا تلازم بينهما فكل صدقة عطية وليس كل عطية صدقة. وإطلاق الصدقة على المنحة مجاز، ولو كانت المنحة صدقة لما حلت للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي من جنس الهبة والهدية، وقوله: "منحة" منصوب على التمييز، قال ابن مالك: فيه وقوع التمييز بعد فاعل نعم ظاهرا، وقد منعه سيبويه إلا مع الإضمار مثل: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} وجوزه المبرد وهو الصحيح، وقال أبو البقاء: اللقحة هي المخصوصة بالمدح، ومنحة منصوب على التمييز توكيدا وهو كقول الشاعر: "فنعم الزاد زاد أبيك زادا". قوله: "تغدو بإناء وتروح بإناء" أي من اللبن، أي تحلب إناء بالغداة وإناء بالعشي. ووقع هذا الحديث في رواية مسلم من رواية سفيان عن أبي الزناد بلفظ: "ألا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغدو بإناء وتروح بإناء إن أجرها لعظيم" . الحديث الثاني حديث أنس، قوله: "وليس بأيديهم" كذا للجميع، وفي رواية الأصيلي وكريمة يعني شيء (1) وثبت لفظ: "شيء" في رواية مسلم عن حرملة وأبي الطاهر عن ابن وهب. قوله: "فقاسمهم الأنصار إلخ" ظاهره مغاير لقوله في حديث أبي هريرة الماضي في المزارعة "قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال لا" والجمع بينهما أن المراد بالمقاسمة هنا القسمة المعنوية، وهي التي أجابهم إليها في حديث أبي هريرة حيث قال: "قالوا فيكفوننا المؤنة ونشركهم في الثمر" فكان المراد هنا مقاسمة الثمار والمنفي هناك مقاسمة الأصول. وزعم الداودي وأقره ابن التين أن المراد بقوله هنا: "قاسمهم الأنصار" أي حالفوهم، جعله من القسم بفتح القاف والمهملة لا من القسم بسكون المهملة، وقد تقدم تعقب ما زعمه في كتاب المزارعة. قوله: "وكانت أمه أم أنس إلخ" الضمير في أمه يعود على أنس وأم أنس بدل منه، وكذا أم سليم. وفي رواية مسلم: "وكانت أمه أم أنس بن مالك، وهي تدعى أم سليم" وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة كان أخا أنس لأمه، والذي يظهر أن قائل ذلك هو الزهري الراوي عن أنس، لكن بقية السياق يقتضي أنه من رواية الزهري عن أنس فيحمل على التجريد. قوله: "فكانت أعطت أم أنس" أي كانت أم أنس أعطت. قوله: "عذاقا" بكسر المهملة وبذال معجمة خفيفة جمع عذق بفتح ثم سكون كحبل وحبال والعذق النخلة، وقيل إنما يقال لها ذلك إذا كان حملها موجودا، والمراد أنها وهبت له ثمرها. قوله: "قال ابن شهاب" هو موصول بالإسناد المذكور، وكذا هو عند مسلم. قوله: "إلى أمه" أي إلى أم أنس وهي أم سليم. قوله: "فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن" أي بدلهن. قوله: "من حائطه" أي بستانه. قوله: "وقال أحمد بن شبيب أخبرنا أبي عن يونس بهذا" أي بالإسناد والمتن. قوله: "وقال مكانهن من خالصه" يعني أنه وافق ابن وهب في السياق إلا في قوله: "من حائطه" فقال: "من خالصه" أي من خالص ماله، قال ابن التين: المعنى واحد لأن حائطه صار له خالصا. قلت: لكن لفظ: "خالصه" أصرح في الاختصاص من حائطه، وطريق أحمد بن شبيب هذه وصلها البرقاني في "المصافحة" من طريق محمد بن علي الصائغ عن أحمد بن شبيب المذكور مثله، زاد مسلم في
ـــــــ
(1) كذا بالرفع، والرواية التي شرحها القسطلاني " يعني شيئاً"

(5/244)


آخر الحديث: "قال ابن شهاب: وكان من شأن أم أيمن أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب، وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما توفي أبوه كانت أم أيمن تحضنه حتى كبر فأعتقها ثم أنكحها زيد بن حارثة، وتوفيت بعده صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر، وسيأتي في المغازي ذكر سبب إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم أيمن بدل العذاق، وفيه زيادة على رواية الزهري فإنه أخرج من طريق سليمان التيمي عن أنس قال: "كان الرجل يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات" الحديث، وفيه: "وإن أهلي أمروني أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانوا أعطوه. وكان قد أعطاه أم أيمن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي تقول: لا نعطيكم وقد أعطانيه، قال والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لك كذا حتى أعطاها عشرة أمثاله" أو كما قال. الحديث الثالث قوله: "عن حسان بن عطية" في رواية أحمد عن الوليد "حدثنا الأوزاعي حدثنا حسان بن عطية". قوله: "عن أبي كبشة" في رواية أحمد المذكورة "حدثني أبو كبشة" وهو بفتح الكاف وسكون الموحدة بعدها معجمة "السلولي" بفتح المهملة وتخفيف اللام المضمومة بعدها واو ساكنة ثم لام لا يعرف اسمه، وزعم الحاكم أن اسمه البراء بن قيس، ووهمه عبد الغني بن سعيد وبين أنه غيره، وليس لأبي كبشة ولا للراوي عنه حسان بن عطية في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر في أحاديث الأنبياء. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية أحمد "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "أربعون خصلة" في رواية أحمد "أربعون حسنة" . قوله: "العنز" بفتح المهملة وسكون النون بعدها زاي معروفة وهي واحدة المعز. قوله: "قال حسان" هو ابن عطية راوي الحديث، وهو موصول بالإسناد المذكور، قال ابن بطال ما ملخصه: ليس في قول حسان ما يمنع من وجدان ذلك وقد حض صلى الله عليه وسلم على أبواب من أبواب الخير والبر لا تحصى كثيرة. ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالأربعين المذكورة إنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها، وذلك خشية أن يكون التعيين لها مزهدا في غيرها من أبواب البر، قال: وقد بلغني أن بعضهم تطلبها فوجدها تزيد على الأربعين، فمما زاده إعانة الصانع، والصنعة للأخرق، وإعطاء شسع النعل، والستر على المسلم، والذب عن عرضه، وإدخال السرور عليه، والتفسح في المجلس، والدلالة على الخير، والكلام الطيب، والغرس، والزرع، والشفاعة، وعيادة المريض، والمصافحة، والمحبة في الله، والبغض لأجله، والمجالسة لله، والتزاور، والنصح، والرحمة - وكلها في الأحاديث الصحيحة، وفيها ما قد ينازع في كونه دون منيحة العنز، وحذفت مما ذكره أشياء قد تعقب ابن المنير بعضها وقال: الأولى أن لا يعتنى بعدها لما تقدم. وقال الكرماني: جميع ما ذكره رجم بالغيب، ثم إني عرف أنها أدنى من المنيحة؟ قلت. وإنما أردت بما ذكرته منها تقريب الخمس عشرة التي عدها حسان بن عطية، وهي إن شاء الله تعالى لا تخرج عما ذكرته، ومع ذلك فأنا موافق لابن بطال في إمكان تتبع أربعين خصلة من خصال الخير أدناها منيحة العنز، وموافق لابن المنير في رد كثير مما ذكره ابن بطال مما هو ظاهر أنه فوق المنيحة، والله أعلم. الحديث الرابع حديث جابر "كانت لرجال منا فضول أرضين" تقدم في المزارعة مع الكلام عليه، والغرض منه هنا قوله: "أو ليمنحها أخاه". الحديث الخامس قوله: "وقال محمد بن يوسف" يحتمل أن يكون معطوفا على الذي قبله فيكون موصولا، لكن صرح الإسماعيلي وأبو نعيم بأنه لم يذكر فيه الخبر، ويؤيده أنه أورده في الهجرة موصولا من طريق الوليد بن مسلم قال: "وقال محمد بن يوسف" كلاهما عن الأوزاعي، فلو أراد هنا أن يعطفه لقال هناك "حدثنا محمد بن يوسف" كعادته. نعم زعم المزي أنه أخرجه في الهبة "عن محمد بن يوسف" وفي الهجرة "وقال محمد بن يوسف" فالله أعلم. وقد وصله الإسماعيلي

(5/245)


وأبو نعيم من طريق محمد بن يوسف المذكور، وسيأتي شرحه في الهجرة إن شاء الله تعالى. والغرض منه قوله: "فهل تمنح منها شيئا؟ قال: نعم" فإن فيه إثبات فضيلة المنيحة، وقوله: "لن يترك" أي لن ينقصك. الحديث السادس حديث ابن عباس، وقد تقدم في المزارعة أيضا، والمراد منه هنا ما دل من قوله: "لو منحها إياه كان خيرا له" على فضل المنيحة.

(5/246)


باب إذا قال أخدمتك هذه الجارية على ما تعارف الناس
...
36 - باب: إِذَا قَالَ أَخْدَمْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَلَى مَا يَتَعَارَفُ النَّاسُ فَهُوَ جَائِزٌ
وَقَالَ: بَعْضُ النَّاسِ هَذِهِ عَارِيَّةٌ وَإِنْ قَالَ: كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ فَهُوَ هِبَةٌ
2635- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ فَأَعْطَوْهَا آجَرَ فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ"
قوله: "باب إذا قال أخدمتك هذه الجارية على ما يتعارف الناس فهو جائز، وقال بعض الناس: هذه عارية، وإن قال كسوتك هذا الثوب فهذه هبة" أورد فيه طرفا من حديث أبي هريرة في قصة إبراهيم وهاجر وقال فيه: "وأخدم وليدة" قال: وقال ابن سيرين عن أبي هريرة: "فأخدمها هاجر" وسيأتي موصولا في أحاديث الأنبياء مع الكلام عليه، قال ابن بطال: لا أعلم خلافا أن من قال أخدمتك هذه الجارية أنه قد وهب له الخدمة خاصة، فإن الإخدام لا يقتضي تمليك الرقبة، كما أن الإسكان لا يقتضي تمليك الدار. قال: واستدلاله بقوله: "فأخدمها هاجر" على الهبة لا يصح، وإنما صحت الهبة في هذه القصة من قوله: "فأعطوها هاجر" قال: ولم يختلف العلماء فيمن قال: كسوتك هذا الثوب مدة معينة أن له شرطه، وإن لم يذكر أجلا فهو هبة، وقد قال تعالى:{ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} أَوْ {كِسْوَتُهُمْ} ، ولم تختلف الأمة أن ذلك تمليك للطعام والكسوة انتهى. والذي يظهر أن البخاري لا يخالف ما ذكره عند الإطلاق، وإنما مراده أنه إن وجدت قرينة تدل على العرف حمل عليها، وإلا فهو على الوضع في الموضعين، فإن كان جرى بين قوم عرف في تنزيل الإخدام منزلة الهبة فأطلقه شخص وقصد التمليك نفذ، ومن قال هي عارية في كل حال فقد خالفه، والله أعلم.

(5/246)


باب إذا حمل رجل على فرس فهو كالعمرى والصدقة
...
37 - باب: إِذَا حَمَلَ رَجُلًا عَلَى فَرَسٍ فَهُوَ كَالْعُمْرَى وَالصَّدَقَةِ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا
2636- حدثنا الحميدي أخبرنا سفيان قال: سمعت مالكا يسأل زيد بن أسلم فقال: سمعت أبي يقول: "قال عمر رضي الله عنه: حملت على فرس في سبيل الله، فرأيته يباع، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشتره ولا تعد في صدقتك"
قوله: "باب إذا حمل رجلا على فرس فهو كالعمرى والصدقة. وقال بعض الناس: له أن يرجع فيها" أورد فيه

(5/246)


كتاب الشهادات
باب ماجاء في البينة على المدعي
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
52 - كِتَاب الشَّهَادَاتِ
قوله: "كتاب الشهادات" هي جمع شهادة، وهي مصدر شهد يشهد. قال الجوهري. الشهادة خبر قاطع، والمشاهدة المعاينة، مأخوذة من الشهود أي الحضور، لأن الشاهد مشاهد لما غاب عن غيره، وقيل مأخوذة من الإعلام.
1 - باب: مَا جَاءَ فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى [282 البقرة]:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ

(5/247)


وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ [135النساء]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
قوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - باب ما جاء في البينة على المدعي" كذا للأكثر، وسقط لبعضهم لفظ: "باب" وقدم النسفي وابن شبويه البسملة على "كتاب". قوله: "لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} الآية" كذا لابن شبويه، ولأبي ذر بعد قوله: {فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وساق في رواية الأصلي وكريمة الآية كلها وكذا التي بعدها. قوله: "وقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} - إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} " كذا لأبي ذر وابن شبويه ووقع للنسفي بعد قوله في الآية الأولى فاكتبوه: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} - إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وهو غلط لا محالة، وكأنه سقط منه شيء أوضحته رواية غيره كما ترى، ولم يسق في الباب حديثا إما اكتفاء بالآيتين، وإما إشارة إلى الحديث الماضي قريبا في ذلك في آخر باب الرهن، وستأتي ترجمة الشق الآخر وهي "اليمين على المدعى عليه" قريبا. قال ابن المنير: وجه الاستدلال بالآية للترجمة أن المدعي لو كان القول قوله لم يحتج إلى الإشهاد ولا إلى كتابة الحقوق وإملائها، فالأمر بذلك يدل على الحاجة إليه، ويتضمن أن البينة على المدعي، ولأن الله حين أمر الذي عليه الحق بالإملاء اقتضى تصديقه فيما أقر به، وإذا كان مصدقا فالبينة على من ادعى تكذيبه.

(5/248)


2 - باب: إِذَا عَدَّلَ رَجُلٌ أَحَدًا فَقَالَ لاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا، أَوْ قَالَ مَا عَلِمْتُ إِلاَّ خَيْرًا
وساق حديث الإفك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة حين استشاره، فقال: أهلك ولا نعلم إلا خيراً
2637- حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا ثوبانُ، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: "أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا حِينَ قَالَ: لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ فَأَمَّا أُسَامَةُ فَقَالَ أَهْلُكَ وَلاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا وَقَالَتْ بَرِيرَةُ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَعْذِرُنَا فِي رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْ أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا"
قوله: "باب إذا عدل رجل رجلا فقال: لا نعلم إلا خيرا أو ما علمت إلا خيرا" وفي رواية الكشميهني: "أحدا" بدل "رجلا". قال ابن بطال: حكى الطحاوي عن أبي يوسف أنه قال. إذا قال ذلك قبلت شهادته، ولم يذكر خلافا

(5/248)


عن الكوفيين في ذلك، واحتجوا بحديث الإفك. وقال مالك: لا يكون ذلك تزكية حتى يقول رضا أي بالقصر. وقال الشافعي: حتى يقول عدل، وفي قول: عدل علي ولي. ولا بد من معرفة المزكي حاله الباطنة. والحجة لذلك أنه لا يلزم من أنه لا يعلم منه إلا الخير أن لا يكون فيه شر. وأما احتجاجهم بقصة أسامة فأجاب المهلب بأن ذلك وقع في العصر الذي زكى الله أهله، وكانت الجرحة فيهم شاذة، فكفى في تعديلهم أن يقال: لا أعلم إلا خيرا، وأما اليوم فالجرحة في الناس أغلب، فلا بد من التنصيص على العدالة. قلت: لم يبت البخاري الحكم في الترجمة، بل أوردها مورد السؤال لقوة الخلاف فيها. قوله: "وساق حديث الإفك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأسامة حين استشاره، فقال: أهلك ولا نعلم إلا خيرا" كذا لأبي ذر، ولم يقع هذا كله عند الباقين، وهو اللائق لأن حديث الإفك قد ذكر في الباب موصولا، وإن كان اختصره، وسيأتي مطولا أيضا بعد أبواب، ويأتي الكلام عليه في تفسير سورة النور قوله: "وقال الليث حدثني يونس" وصله هناك أيضا، وقوله: "أهلك ولا نعلم إلا خيرا" بنصب أهلك للأكثر على الإغراء، أو على فعل محذوف تقديره أمسك أهلك، ولبعضهم بالرفع أي هم أهلك، قال ابن المنير: التعديل إنما هو تنفيذ للشهادة، وعائشة رضي الله عنها لم تكن شهدت ولا كانت محتاجة إلى التعديل لأن الأصل البراءة، وإنما كانت محتاجة إلى نفي التهمة عنها حتى تكون الدعوى عليها بذلك غير مقبولة ولا شبهه فيكفي في هذا القدر هذا اللفظ فلا يكون فيه لمن اكتفى في التعديل بقوله: "لا أعلم إلا خيرا" حجة.

(5/249)


3 - باب: شَهَادَةِ الْمُخْتَبِي،
وَأَجَازَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْكَاذِبِ الْفَاجِرِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: السَّمْعُ شَهَادَةٌ وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَمْ يُشْهِدُونِي عَلَى شَيْءٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا
2638- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَالِمٌ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الأَنْصَارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ أَوْ زَمْزَمَةٌ فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لِابْنِ صَيَّادٍ أَيْ صَافِ هَذَا مُحَمَّدٌ فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ"
2639- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفاعَةَ الْقُرَظِيِّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلاَقِي، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ. وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ.

(5/249)


فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلاَ تَسْمَعُ إِلَى هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 2639- أطرافه في: 5260 ، 5261 ، 5265 ، 5371 ، 5792 ، 5825 ، 6084]
قوله: "باب شهادة المختبي" بالخاء المعجمة أي الذي يختفي عند التحمل. قوله: "وأجازه" أي الاختباء عند تحمل الشهادة. قوله: "عمرو بن حريث" بالمهملة والمثلثة مصغر ابن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي من صغار الصحابة، ولأبيه صحبة، وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع. قوله: "قال وكذلك يفعل بالكاذب الفاجر" كأنه أشار إلى السبب في قبول شهادته، وقد روى ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة المختبئ، قال وقال عمرو بن حريث: كذلك يفعل بالخائن الظالم أو الفاجر، وروى سعيد بن منصور من طريق محمد بن عبيد الله الثقفي أن عمرو بن حريث كان يجيز شهادته ويقول: كذلك يفعل بالخائن الفاجر، وروي من طرق عن شريح أنه كان يرد شهادة المختبئ، وكذلك الشعبي، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في القديم وأجازها في الجديد إذا عاين المشهود عليه. قوله: "وقال الشعبي وابن سيرين وعطاء وقتادة: السمع شهادة" أما قول الشعبي فوصله ابن أبي شيبة عن هشيم عن مطرفه عنه بهذا، ورويناه في "الجعديات" قال: "حدثنا شريك عن الأشعث عن عامر وهو الشعبي قال: تجوز شهادة السمع إذا قال سمعته يقول وإن لم يشهده، وقول الشعبي هذا يعارض رده لشهادة المختبئ، ويحتمل أن يفرق بأنه إنما رد شهادة المختبئ لما فيها من المخادعة ولا يلزم من ذلك رده لشهادة السمع من غير قصد، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق، وعن مالك أيضا الحرص على تحمل الشهادة قادح، فإذا اختفى ليشهد فهو حرص، وأما قول ابن سيرين وقتادة فسيأتي في "باب شهادة الأعمى" وأما قول عطاء وهو ابن أبي رياح فوصله الكرابيسي في "أدب القضاء" من رواية ابن جريج عن عطاء "السمع شهادة". قوله: "وكان الحسن يقول: لم يشهدوني على شيء، ولكن سمعت كذا وكذا" وصله ابن أبي شيبة من طريق يونس بن عبيد عنه قال: لو أن رجلا سمع من قوم شيئا فإنه يأتي القاضي فيقول: لم يشهدوني، ولكن سمعت كذا وكذا، وهذا التفصيل حسن لأن الله تعالى قال: "ولا تكتموا الشهادة" ولم يقل: "الإشهاد" فيفترق الحال عند الأداء، فإن سمعه ولم يشهده وقال عند الأداء "أشهدني" لم يقبل، وإن قال: "أشهد أنه قال كذا" قبل. ثم أورد المصنف حديثين أحدهما حديث ابن عمر في قصة ابن صياد وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الفتن، والغرض منه قوله فيه: "وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه" وقوله في آخره: "لو تركته بين" فإنه يقتضي الاعتماد على سماع الكلام وإن كان السامع محتجبا عن المتكلم إذا عرف الصوت، وقوله: "يختل" بفتح أوله وسكون المعجمة وكسر المثناة أي يطلب أن يسمع كلامه وهو لا يشعر. ثانيهما حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة، وسيأتي الكلام عليه في الطلاق والغرض منه إنكار خالد بن سعيد على امرأة رفاعة ما كانت تكلم به عند النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه محجوبا عنها خارج الباب، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه ذلك، فاعتماد خالد على سماع صوتها حتى أنكر عليها هو حاصل ما يقع من شهادة السمع.

(5/250)


باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء وقال آخرون ما علمنا بذلك يحكم بقول من شهد
...
4 - باب: إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَوْ شُهُودٌ بِشَيْءٍوَقَالَ آخَرُونَ مَا عَلِمْنَا ذَلِكَ يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ بِلاَلٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ وَقَالَ: الْفَضْلُ لَمْ يُصَلِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِشَهَادَةِ

(5/250)


بِلاَلٍ. كَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِ مِائَةٍ يُقْضَى بِالزِّيَادَةِ
2640- حَدَّثَنَا حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ "عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لِأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي وَلاَ أَخْبَرْتِنِي فَأَرْسَلَ إِلَى آلِ أَبِي إِهَابٍ يَسْأَلُهُمْ فَقَالُوا مَا عَلِمْنَا أَرْضَعَتْ صَاحِبَتَنَا فَرَكِبَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ فَفَارَقَهَا وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ"
قوله: "باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء وقال آخرون ما علمنا بذلك يحكم بقول من شهد، قال الحميدي: هذا كما أخبر بلال إلخ" تقدم هذا في "باب العشر" من كتاب الزكاة، وأن المثبت مقدم على النافي، وهو وفاق من أهل العلم إلا من شذ، ولا سيما إذا لم يتعرض إلا لنفي علمه، وأشار إلى ذلك بقوله: "وكذلك إن شهد شاهد أن إلخ" وقد اعترض بأن الشهادتين اتفقتا على الألف وانفردت إحداهما بالخمسمائة، والجواب أن سكوت الأخرى عن خمسمائة في حكم نفيها. ثم أورد حديث عقبة بن الحارث في قصة المرضعة، سيأتي الكلام عليها مستوفي بعد أبواب، والغرض منه هنا أنها أثبتت الرضاع ونفاه عقبة، فاعتمد النبي صلى الله عليه وسلم قولها فأمره بفراق امرأته إما وجوبا عند من يقول به وإما ندبا على طريق الورع. وقوله في هذه الرواية لأبي إهاب بن عزيز بالعين المهملة المفتوحة وزايين منقوطتين وزن عظيم، ووقع عند أبي ذر عن المستملي والحموي عزير بزاي وآخره راء مصغر والأول أصوب.

(5/251)


باب الشهداء العدول وقول الله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم ... الأية)
...
5 - باب: الشُّهَدَاءِ الْعُدُولِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [الطلاق، و282البقرة]:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ - وَ - مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
2641- حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ"
قوله: "باب الشهداء العدول، وقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم ْ - وَ - مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} أي وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ} فالواو عاطفة من كلام المصنف لا من التلاوة، والعدل والرضا عند الجمهور من يكون

(5/251)


مسلما مكلفا حرا غير مرتكب كبيرة ولا مصر على صغيرة، زاد الشافعي: وأن يكون ذا مروءة. ويشترط في قبول شهادته أن لا يكون عدوا للمشهود عليه، ولا متهما فيها بجر نفع ولا دفع ضر، ولا أصلا للمشهود له ولا فرعا منه. واختلف في تفاصيل من ذلك وغيره كما سيأتي بعض ذلك في بعض التراجم إن شاء الله تعالى. قوله: "أن عبد الله بن عتبة" أي ابن مسعود، وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود، سمع من كبار الصحابة وله رؤية، وحديثه هذا عن عمر أغفله المزي في "الأطراف" والمرفوع منه ما أشار إليه مما كان الناس عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وإن الوحي قد انقطع" أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والمراد انقطاع أخبار الملك عن الله تعالى لبعض الآدميين بالأمر في اليقظة. وفي رواية أبي فراس عن عمر عند الحاكم "إنا كنا نعرفكم إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذ الوحي ينزل وإذ يأتينا من أخباركم" وأراد أن النبي قد انطلق ورفع الوحي. قوله: "فمن أظهر لنا خيرا أمناه" بهمزة بغير مد وميم مكسورة ونون مشددة من الأمن أي صيرناه عندنا أمينا، وفي رواية أبي فراس "ألا ومن يظهر منكم خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه". قوله: "الله يحاسب" كذا لأبي ذر عن الحموي بحذف المفعول، وللباقين "الله محاسبه" بميم أوله وهاء آخره. قوله: "سوءا" في رواية الكشميهني: "شرا" وفي رواية أبي فراس "ومن يظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه؛ سرائركم فيما بينكم وبين ربكم" قال المهلب: هذا إخبار من عمر عما كان الناس عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما صار بعده، ويؤخذ منه أن العدل من لم توجد منه الريبة وهو قول أحمد وإسحاق كذا قال، وهذا إنما هو في حق المعروفين لا من لا يعرف حاله أصلا.

(5/252)


6 - باب: تَعْدِيلِ كَمْ يَجُوزُ؟
2643- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ وَجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا أَوْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَالَ وَجَبَتْ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ لِهَذَا وَجَبَتْ وَلِهَذَا وَجَبَتْ قَالَ شَهَادَةُ الْقَوْمِ الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ"
2643- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا داود بن أبي الفرات حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود قال: "أتيت المدينة وقد وقع بها مرض وهم يموتون موتاً ذريعاً، فجلست إلى عمر رضي الله عنه، فمرت جنازة فأثني خيراً، فقال عمر: وجبت. ثم مر بأخرى فأثني خيراً فقال عمر: وجبت. ثم مر بالثالثة فأثني شراً فقال: وجبت. فقلت: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة. قلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة. قلت واثنان؟ قال: واثنان. ثم لم نسأله عن الواحد"
قوله: "باب" بالتنوين "تعديل كم يجوز" أي هل يشترط في قبول التعديل عدد معين؟ أورد فيه حديثي أنس وعمر في ثناء الناس بالخير والشر على الميتين، وفيهما قوله عليه الصلاة والسلام "وجبت" وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الجنائز، وحكيت عن ابن المنير أنه قال في حاشيته: قال ابن بطال فيه إشارة إلى الاكتفاء بتعديل واحد

(5/252)


وذكرت أن فيه غموضا، وكأن وجهه أن في قوله: "ثم لم نسأله عن الواحد" إشعارا بعيدا بأنهم كانوا يعتمدون قول الواحد في ذلك لكنهم لم يسألوا عن حكمه في ذلك المقام، وسيأتي للمصنف بعد أبواب التصريح بالاكتفاء في شهداء التزكية بواحد، وكأنه لم يصرح به هنا لما فيه من الاحتمال. قوله: "شهادة القوم" هو مبتدأ وخبره محذوفه تقديره مقبولة أو هو خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه شهادة القوم، ووقع في رواية الأصيلي: "شهادة" بالنصب بتقدير فعل ناصب. قوله: "المؤمنون شهداء الله في الأرض" كذا للأكثر، والمؤمنون مبتدأ خبره شهداء، وفي رواية المستملي والسرخسي "شهادة القوم المؤمنين شهداء الله في الأرض" وشهداء على هذا خبر مبتدأ محذوف تقديره هم شهداء. وقال السهيلي: رواه بعضهم برفع القوم. فإن كانت الرواية بتنوين "شهادة" فهي على إضمار المبتدأ أي هذه شهادة، ثم استأنف فقال: "القوم المؤمنون شهداء الله في الأرض" فالقوم مبتدأ والمؤمنون نعت أو بدل وما بعده خبر، قال: وأكثر ما ورد في الحديث حذف المنعوت، لأن الحكم يتعلق بالصفة فلا يحتاج لذكر الموصوف. ثم حكى وجهين آخرين فيهما تكلف، ولم يقع في شيء من الروايات بالتنوين ولا سيما مع رواية من رواه بنصب المؤمنين.

(5/253)


بابالشهادة على الأنساب والضاع المتفيض والموت القديم
...
الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة"
[الحديث 2646- طرفاه في:3105 ، 5099]
2647- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي رَجُلٌ قَالَ يَا عَائِشَةُ مَنْ هَذَا قُلْتُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ قَالَ يَا عَائِشَةُ انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ" . تَابَعَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ"
[الحديث 2647- طرفه في: 5102]
قوله: "باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم" هذه الترجمة معقودة لشهادة الاستفاضة وذكر منها النسب والرضاعة والموت القديم، فأما النسب فيستفاد من أحاديث الرضاعة فإنه من لازمه، وقد نقل فيه الإجماع. وأما الرضاعة فيستفاد ثبوتها بالاستفاضة من أحاديث الباب، فإنها كانت في الجاهلية وكان ذلك مستفيضا عند من وقع له. وأما الموت القديم فيستفاد منه حكمه بالإلحاق قاله ابن المنير، واحترز بالقديم عن الحادث، والمراد بالقديم ما تطاول الزمان عليه، وحده بعض المالكية بخمسين سنة وقيل بأربعين. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرضعتني وأبا سلمة ثويبة" هو طرف من حديث وصله في الرضاع من حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان وسيأتي الكلام عليه هناك. وثويبة بالمثلثة ثم الموحدة مصغرة يأتي هناك ذكر شيء من خبرها وخبر أبي سلمة بن عبد الأسد إن شاء الله تعالى. واختلف العلماء في ضابط ما تقبل فيه الشهادة بالاستفاضة، فتصح عند الشافعية في النسب قطعا والولادة، وفي الموت والعتق والولاء والوقف والولاية والعزل والنكاح وتوابعه والتعديل والتجريح والوصية والرشد والسفه والملك على الراجح في جميع ذلك، وبلغها بعض المتأخرين من الشافعية بضعة وعشرين موضعا وهي مستوفاة في "قواعد العلائي" وعن أبي حنيفة تجوز في النسب والموت والنكاح والدخول وكونه قاضيا، زاد أبو يوسف والولاء، زاد محمد والوقف، قال صاحب "الهداية" وإنما أجيز استحسانا وإلا فالأصل أن الشهادة لا بد فيها من المشاهدة، وشرط قبولها أن يسمعها من جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، وقبل أقل ذلك أربعة أنفس، وقيل يكفي من عدلين، وقيل يكفي من عدل واحد إذا سكن القلب إليه. قوله: "والتثبت فيه" هو بقية الترجمة. وكأنه أشار إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة آخر الباب: "انظرن من إخوانكن من الرضاعة" الحديث. ثم أورد المصنف فيه أربعة أحاديث سيأتي الكلام عليها جميعا في الرضاع آخر النكاح إن شاء الله تعالى. والإسناد الثاني كله بصريون إلا الصحابي وقد سكنها. والثالث كله مدنيون إلا شيخه وقد دخلها. والرابع كله كوفيون إلا عائشة. قوله في آخر الباب : "تابعه ابن مهدي عن سفيان" أي أن عبد الرحمن بن مهدي روى حديث عائشة عن سفيان بإسناده كما رواه محمد بن كثير، ورواية ابن مهدي موصولة عند مسلم وأبي يعلى، وسيأتي الخلاف في أفلح هل كان عم عائشة من الرضاعة أو كان أباها.

(5/254)


باب شهادة القذاف والسارق والزاني
...
8 - باب: شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي
وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل [4-5 النور]: {وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا}

(5/254)


وَجَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعًا بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ وَقَالَ: مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ وَأَجَازَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ وَشُرَيْحٌ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: الأَمْرُ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ إِذَا رَجَعَ الْقَاذِفُ عَنْ قَوْلِهِ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا جُلِدَ الْعَبْدُ ثُمَّ أُعْتِقَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ اسْتُقْضِيَ الْمَحْدُودُ فَقَضَايَاهُ جَائِزَةٌ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ وَإِنْ تَابَ ثُمَّ قَالَ لاَ يَجُوزُ نِكَاحٌ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ فَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ مَحْدُودَيْنِ جَازَ وَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ وَأَجَازَ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ وَالْعَبْدِ وَالأَمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلاَلِ رَمَضَانَ وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ وَقَدْ نَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّانِيَ سَنَةً وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلاَمِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً
2648- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ "أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ يَدُهَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا وَتَزَوَّجَتْ وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 2648- أطرافه في: 3475 ، 3732 ، 3733 ، 4304 ، 6787 ، 6788 ، 6800]
2649- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِجَلْدِ مِائَةٍ وَتَغْرِيبِ عَامٍ"
قوله: "باب شهادة القاذف والسارق والزاني" أي هل تقبل بعد توبتهم أم لا. قوله: "وقول الله عز وجل: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} " وهذا الاستثناء عمدة من أجاز شهادته إذا تاب.
وقد أخرج البيهقي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً}" ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فمن تاب فشهادته في كتاب الله تقبل، وبهذا قال الجمهور إن شهادة القاذف بعد التوبة تقبل ويزول عنه اسم الفسق سواء كان بعد إقامة الحد أو قبله، وتأولوا قوله تعالى: {أَبَداً} على أن المراد ما دام مصرا على قذفه، لأن أبد كل شيء على ما يليق به كما لو قيل لا تقبل شهادة الكافر أبدا فإن المراد ما دام كافرا، وبالغ الشعبي فقال: إن تاب القاذف قبل إقامة الحد سقط عنه. وذهب الحنفية إلى أن الاستثناء يتعلق بالفسق خاصة فإذا

(5/255)


9 - باب: لاَ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ جَوْرٍ إِذَا أُشْهِدَ
2650- حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله أخبرنا أبو حيان التيمي عن الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: "سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله ثم بدا له فوهبها لي فقالت: لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي وأنا غلام فأتى بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا قال ألك ولد سواه؟ قال نعم. قال فأراه قال: لا تشهدني على جور" وقال أبو حريز عن الشعبي: "لا أشهد على جور"
2651- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ زَهْدَمَ بْنَ مُضَرِّبٍ قَالَ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - قَالَ

(5/258)


عِمْرَانُ: لاَ أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ"
[الحديث 2651- أطرافه في: 3650 ، 6428 ، 6695]
2652- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ"
[الحديث 2652- أطرافه في: 3651 ، 6429 ، 6658]
قوله: "باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد" ذكر فيه حديث النعمان بن بشير في قصة هبة أبيه له، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشهدني على جور" وقد مضى الكلام عليه مستوفى في الهبة، وقد أخرجه البيهقي من الوجه الذي أخرجه منه البخاري هنا بلفظ: "فقال لا أشهد على جور" وقوله في الترجمة: "إذا أشهد" يؤخذ منه أنه لا يشهد على جور إذا لم يستشهد بطريق الأولى، وقوله: "وقال أبو حريز" بفتح المهملة وكسر الراء وآخره زاي "عن الشعبي لا أشهد على جور" أي في روايته عن الشعبي عن النعمان في هذا الحديث، وقد تقدم في الهبة الإشارة إلى من وصله، وإلى التوفيق بين ما في رواية أبي حريز وغيره عن الشعبي. ثم ذكر المصنف حديث: "خير الناس قرني" من رواية عبد الله بن مسعود ومن رواية عمران بن حصين وفي كل منهما زيادة على ما في الآخر، وورد الحديث عن آخرين من الصحابة سأذكر ما في رواياتهم من الفوائد والزوائد مشروحة في أول كتاب فضائل الصحابة إن شاء الله تعالى، والغرض هنا ما يتعلق بالشهادات. قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم" هو موصول بالإسناد المذكور، فهو بقية حديث عمران وسيأتي في الفضائل ما يوضح ذلك. قوله: "إن بعدكم قوما" كذا للأكثر. وفي رواية النسفي وابن شبويه " إن بعدكم قوم" قال الكرماني لعله كتب بغير ألف على اللغة الربيعية، أو حذف منه ضمير الشأن. قوله: "يخونون" كذا في جميع الروايات التي اتصلت لنا بالخاء المعجمة والواو مشتق من الخيانة، وزعم ابن حزم أنه وقع في نسخة يحربون بسكون المهملة وكسر الراء بعدها موحدة؛ قال فإن كان محفوظا فهو من قولهم حربه يحربه إذا أخذ ماله وتركه بلا شيء، ورجل محروب أي مسلوب المال. "تنبيه": قال النووي وقع في أكثر نسخ مسلم: "ولا يتمنون" بتشديد المثناة، قال غيره هو نطير قوله: "ثم يتزر" موضع قوله: "يأتزر" وادعى أنه شاذ، ولكن قد قرأ ابن محيصن {فليؤد الذي اتمن أمانته} ووجهه ابن مالك بأنه شبه بما فاؤه واو أو تحتانية قال: وهو مقصور على السماع. قوله: "ولا يؤتمنون" أي لا يثق الناس بهم ولا يعتقدونهم أمناء بأن تكون خيانتهم ظاهرة بحيث لا يبقى للناس اعتماد عليهم. قوله: "ويشهدون ولا يستشهدون" يحتمل أن يكون المراد التحمل بدون التحميل أو الأداء بدون طلب، والثاني أقرب، ويعارضه ما رواه مسلم من حديث زيد بن خالد مرفوعا: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها" واختلف العلماء في ترجيحهما، فجنح ابن عبد البر إلى ترجيح حديث زيد بن خالد لكونه من رواية أهل المدينة فقدمه على رواية أهل العراق وبالغ فزعم أن حديث عمران هذا لا أصل له. وجنح غيره إلى ترجيح حديث عمران لاتفاق صاحبي الصحيح عليه وانفراد مسلم بإخراج حديث زيد بن خالد.

(5/259)


وذهب آخرون إلى الجمع بينهما فأجابوا بأجوبة: أحدها أن المراد بحديث زيد من عنده شهادة لإنسان يحق لا يعلم بها صاحبها فيأتي إليه فيخبره بها، أو يموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة فيأتي الشاهد إليهم أو إلى من يتحدث عنهم فيعلمهم بذلك، وهذا أحسن الأجوبة، وبهذا أجاب يحيى بن سعيد شيخ مالك ومالك وغيرهما. ثانيها أن المراد به شهادة الحسبة، وهي ما لا يتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضا، ويدخل في الحسبة مما يتعلق بحق الله أو فيه شائبة منه العتاق والوقف والوصية العامة والعدة والطلاق والحدود ونحو ذلك، وحاصله أن المراد بحديث ابن مسعود الشهادة في حقوق الآدميين، والمراد بحديث زيد بن خالد الشهادة في حقوق الله. ثالثها أنه محمول على المبالغة في الإجابة إلى الأداء، فيكون لشدة استعداده لها كالذي أداها قبل أن يسألها، كما يقال في وصف الجواد: إنه ليعطي قبل الطلب، أي يعطي سريعا عقب السؤال من غير توقف. وهذه الأجوبة مبنية على أن الأصل في أداء الشهادة عند الحاكم أن لا يكون إلا بعد الطلب من صاحب الحق، فيخص ذم من يشهد قبل أن يستشهد بمن ذكر ممن يخبر بشهادة عنده لا يعلم صاحبها بها أو شهادة الحسبة. وذهب بعضهم إلى جواز أداء الشهادة قبل السؤال على ظاهر عموم حديث زيد بن خالد، وتأولوا حديث عمران بتأويلات: أحدها أنه محمول على شهادة الزور، أي يؤدون شهادة لم يسبق لهم تحملها، وهذا حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم. ثانيها المراد بها الشهادة في الحلف، يدل عليه قول إبراهيم في آخر حديث ابن مسعود "كانوا يضربوننا على الشهادة" أي قول الرجل أشهد بالله ما كان إلا كذا على معنى الحلف، فكره ذلك كما كره الإكثار من الحلف، واليمين قد تسمى شهادة كما قال تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} وهذا جواب الطحاوي. ثالثها المراد بها الشهادة على المغيب من أمر الناس، فيشهد على قوم أنهم في النار وعلى قوم أنهم في الجنة بغير ذلك، كما صنع ذلك أهل الأهواء، حكاه الخطابي. رابعها المراد به من ينتصب شاهدا وليس من أهل الشهادة. خامسها المراد به التسارع إلى الشهادة وصاحبها بها عالم من قبل أن يسأله. والله أعلم. وقوله: "يشهدون ولا يستشهدون" استدل به على أن من سمع رجلا يقول: لفلان عندي كذا فلا يسوغ له أن يشهد عليه بذلك إلا إن استشهده، وهذا بخلاف من رأى رجلا يقتل رجلا أو يغصبه ماله فإنه يجوز له أن يشهد بذلك وإن لم يستشهده الجاني. قوله: "وينذرون" بفتح أوله وبكسر الذال المعجمة وبضمها "ولا يفون" يأتي الكلام عليه في كتاب النذور. وقوله: "ويظهر فيهم السمن" بكسر المهملة وفتح الميم بعدها نون أي يحبون التوسع في المآكل والمشارب، وهي أسباب السمن بالتشديد. قال ابن التين: المراد ذم محبته وتعاطيه لا من تخلق بذلك، وقيل: المراد يظهر فيهم كثرة المال، وقيل المراد أنه يتسمنون أي يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لهم من الشرف، ويحتمل أن يكون جميع ذلك مرادا. وقد رواه الترمذي من طريق هلال بن يساف عن عمران بن حصين بلفظ: "ثم يجيء قوم يتسمنون ويحبون السمن" وهو ظاهر في تعاطي السمن على حقيقته. فهو أولى ما حمل عليه خبر الباب، وإنما كان مذموما لأن السمين غالبا بليد الفهم ثقيل عن العبادة كما هو مشهور. قوله: "عن منصور" هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح أوله هو السلماني، وعبد الله هو ابن مسعود، وهذا الإسناد كله كوفيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق. قوله: "تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" أي في حالين، وليس المراد أن ذلك يقع في حالة واحدة لأنه دور، كالذي يحرص على تزويج شهادة فيحلف على صحتها ليقويها فتارة يحلف قبل أن يشهد وتارة يشهد قبل أن يحلف، ويحتمل أن يقع ذلك في حال واحدة عند من يجيز الحلف في الشهادة فيريد أن يشهد ويحلف. وقال

(5/260)


ابن الجوزي: المراد أنهم لا يتورعون ويستهينون بأمر الشهادة واليمين، وقال ابن بطال: يستدل به على أن الحلف في الشهادة يبطلها، قال وحكى ابن شعبان في الزاهي: من قال أشهد بالله أن لفلان على فلان كذا لم تقبل شهادته، لأنه حلف وليس بشهادة، قال ابن بطال: والمعروف عن مالك خلافه. قوله: "قال إبراهيم إلخ" هو موصول بالإسناد المذكور، ووهم من زعم أنه معلق، وإبراهيم هو النخعي. قوله: "كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد" زاد المصنف بهذا الإسناد في أول الفضائل "ونحن صغار" وكذلك أخرجه مسلم بلفظ: "كانوا ينهون ونحن غلمان عن العهد والشهادات" وسيأتي في كتاب الأيمان والنذور نحوه "وكان أصحابنا ينهوننا ونحن غلمان عن الشهادة" وقال أبو عمر بن عبد البر: معناه عندهم النهي عن مبادرة الرجل بقوله أشهد بالله وعلي عهد الله لقد كان كذا ونحو ذلك. وإنما كانوا يضربونهم على ذلك حتى لا يصير لهم به عادة فيحلفوا في كل ما يصلح وما لا يصلح. قلت: ويحتمل أن يكون الأمر في الشهادة على ما قال، ويحتمل أن يكون المراد النهي عن تعاطي الشهادات والتصدي لها لما في تحملها من الحرج، ولا سيما عند أدائها، لأن الإنسان معرض للنسيان والسهو، ولا سيما وهم إذ ذاك غالبا لا يكتبون، ويحتمل أن يكون المراد بالنهي عن العهد الدخول في الوصية لما يترتب على ذلك من المفاسد، والوصية تسمى العهد، قال الله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} وسيأتي مزيد بيان لهذا في كتاب الأيمان وا لنذور إن شاء الله تعالى.

(5/261)


10 - باب: مَا قِيلَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ،
لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ
2653- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ قَالاَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَبَائِرِ قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ" . تَابَعَهُ غُنْدَرٌ وَأَبُو عَامِرٍ وَبَهْزٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ شُعْبَةَ
[الحديث 2653- طرفاه في: 5977 ، 6871]
2654- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ "ثَلاَثًا"؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ -: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ. قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ" . وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ
[الحديث 2654- أطرافه في: 5976 ، 6273 ، 6274 ، 6919]
قوله: "باب ما قيل في شهادة الزور" أي هن التغليظ والوعيد، قوله: "لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أشار إلى أن الآية سيقت في ذم متعاطي شهادة الزور، وهو اختيار منه لأحد ما قيل في تفسيرها، وقيل المراد بالزور هنا الشرك وقيل الغناء، وقيل غير ذلك. قال الطبري: أصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل لمن سمعه أنه بخلاف ما هو به، قال: وأولى الأقوال عندنا أن المراد به مدح من لا يشهد شيئا من ==

 الكتاب : 17.فتح الباري
المؤلف : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 =الباطل، والله أعلم. قوله: "وكتمان الشهادة" هو معطوف على شهادة الزور، أي وما قيل في كتمان الشهادة بالحق من الوعيد. قوله: "لقوله تعالى:{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ - إلى قوله: - عَلِيمٌ} والمراد منها قوله: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} . قوله: "تلووا ألسنتكم بالشهادة" هو تفسير ابن عباس أخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} أي تلووا ألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها، ومن طريق العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال: تلوي لسانك بغير الحق وهي اللجلجة فلا تقيم الشهادة على وجهها، والإعراض عنها الترك. وعن مجاهد من طرق حاصلها أنه فسر اللي بالتحريف، والإعراض بالترك، وكأن المصنف أشار بنظم كتمان الشهادة مع شهادة الزور إلى هذا الأثر وإلى أن تحريم شهادة الزور لكونها سببا لإبطال الحق فكتمان الشهادة أيضا سبب لإبطال الحق، وإلى الحديث الذي أخرجه أحمد وابن ماجة من حديث ابن مسعود مرفوعا: "إن بين يدي الساعة - فذكر أشياء ثم قال - وظهور شهادة الزور، وكتمان شهادة الحق" . ثم ذكر المصنف حديثين أحدهما قوله: "عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس" في رواية محمد بن جعفر الآتية في الأدب عن محمد بن جعفر عن سعيد "حدثني عبيد الله بن أبي بكر سمعت أنس بن مالك". قوله: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر" زاد بهز عن شعبة عند أحمد "أو ذكرها" وفي رواية محمد بن جعفر "ذكر الكبائر أو سئل عنها" وكأن المراد بالكبائر أكبرها كما في حديث أبي بكرة الذي يليه، وكذا وقع في بعض الطرق عن شعبة كما سأبينه، وليس القصد حصر الكبائر فيما ذكر، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في تعريفها والإشارة إلى تعيينها في الكلام على حديث أبي هريرة "اجتنبوا السبع الموبقات" وهو في آخر كتاب الوصايا. قوله: "وشهادة الزور" في رواية محمد بن جعفر "قول الزور أو قال شهادة الزور" قال شعبة: "وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور". قوله: "تابعه غندر" هو محمد بن جعفر المذكور. قوله: "وأبو عامر وبهز وعبد الصمد" أما رواية أبي عامر وهو العقدي فوصلها أبو سعيد النقاش في كتاب الشهود، وابن منده في كتاب الإيمان من طريقه عن شعبة بلفظ: "أكبر الكبائر الإشراك بالله" الحديث، وكذلك أخرجه المصنف في الديات عن عمرو بن عوف عن شعبة بلفظ: "أكبر الكبائر". وأما رواية بهز وهو ابن أسد المذكور فأخرجها أحمد عنه. أما رواية عبد الصمد وهو ابن عبد الوارث فوصلها المؤلف في الديات. قوله: "حدثنا الجريري" بضم الجيم وهو سعيد بن إياس، وسماه في رواية خالد الحذاء عنه في أوائل الأدب، وقد أخرج البخاري للعباس بن فروخ الجريري لكنه إذا أخرجه عنه سماه. قوله: "عن عبد الرحمن بن أبي بكرة" في رواية إسماعيل بن علية عن الجريري "حدثنا عبد الرحمن" وقد علقها المصنف آخر الباب. قوله: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" هذا يقوي - إن كان المجلس متحدا - أحد الوجهين مما شك فيه شعبة، هل قال: ذلك ابتداء، أو لما سئل؟ وقد نظم كل من العقوق وشهادة الزور بالشرك في آيتين: إحداهما قوله تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ، ثانيهما قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} . قوله: "ثلاثا" أي قال لهم ذلك ثلاث مرات، وكرره تأكيدا لينتبه السامع على إحضار فهمه، ووهم من قال: المراد بذلك عدد الكبائر، وقد ترجم البخاري في العلم "من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه" وذكر فيه طرفا من هذا الحديث تعليقا. قوله: "الإشراك بالله" يحتمل مطلق الكفر ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، ولا سيما في بلاد العرب، فذكره تنبيها على غيره. ويحتمل أن يراد به

(5/262)


خصوصيته، إلا أنه يرد عليه أن بعض الكفر أعظم قبحا من الإشراك وهو التعطيل، لأنه نفي مطلق والإشراك إثبات مقيد فيترجح الاحتمال الأول. قوله: "وعقوق الوالدين" يأتي الكلام عليه في الأدب مع الكلام على الكبائر وضابطها وبيان ما قيل في عددها إن شاء الله تعالى. قوله: "وجلس وكان متكئا" يشعر بأنه اهتم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئا، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعا على الناس والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك قطعا، بل لكون مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد، بخلاف الشرك فإن مفسدته قاصرة غالبا. قوله: "ألا وقول الزور" في رواية خالد عن الجريري "ألا وقول الزور وشهادة الزور" وفي رواية ابن عليه "شهادة الزور أو قول الزور" وكذا وقع في العمدة بالواو، قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام، لكن ينبغي أن يحمل على التأكيد، فإنا لو حملنا القول على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة، وليس كذلك. قال: ولا شك أن عظم الكذب ومراتبه متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} . قوله: "فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت" أي شفقة عليه، وكراهية لما يزعجه. وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى الله عليه وسلم والمحبة له والشفقة عليه. قوله: "وقال إسماعيل بن إبراهيم" أي ابن علية، وروايته موصولة في كتاب استتابة المرتدين، وفي الحديث انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويؤخذ منه ثبوت الصغائر لأن الكبيرة بالنسبة إليها أكبر منها؛ والاختلاف في ثبوت الصغائر مشهور، وأكثر ما تمسك به من قال ليس في الذنوب صغيرة كونه نظر إلى عظم المخالفة لأمر الله ونهيه، فالمخالفة بالنسبة إلى جلال الله كبيرة، لكن لمن أثبت الصغائر أن يقول وهي بالنسبة لما فوقها صغيرة كما دل عليه حديث الباب، وقد فهم الفرق بين الصغيرة والكبيرة من مدارك الشرع، وسبق في أوائل الصلاة ما يكفر الخطايا ما لم تكن كبائر، فثبت به أن من الذنوب ما يكفر بالطاعات، ومنها ما لا يكفر، وذلك هو عين المدعي، ولهذا قال الغزالي: إنكار الفرق بين الكبيرة والصغيرة لا يليق بالفقيه. ثم إن مراتب كل من الصغائر والكبائر مختلف بحسب تفاوت مفاسدها. وفي الحديث تحريم شهادة الزور: وفي معناها كل ما كان زورا من تعاطي المرء ما ليس له أهلا.

(5/263)


باب شهدة الأعمى وأمره ونكاحه وإنكاحة ومبايعته وقبوله في التأذين وغيره
...
11 - باب: شَهَادَةِ الأَعْمَى وَأَمْرِهِ وَنِكَاحِهِ وَإِنْكَاحِهِ وَمُبَايَعَتِهِ وَقَبُولِهِ فِي التَّأْذِينِ وَغَيْرِه.ِ
وَمَا يُعْرَفُ بِالأَصْوَاتِ. وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ قَاسِمٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا. وَقَالَ الْحَكَمُ: رُبَّ شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ؟ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُ رَجُلًا، إِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ أَفْطَرَ. وَيَسْأَلُ عَنْ الْفَجْرِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ طَلَعَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَعَرَفَتْ صَوْتِي، قَالَتْ: سُلَيْمَانُ؟ ادْخُلْ فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيْءٌ. وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مُنْتَقِبَةٍ

(5/263)


2655- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا" وَزَادَ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ "تَهَجَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا"
[الحديث 2655- أطرافه في: 5037 ، 5038 ، 5043 ، 6335]
2656- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بِلاَلًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ - أَوْ قَالَ: حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ - ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ" وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى لاَ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ: أَصْبَحْتَ
2657- حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةٌ فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ وَهُوَ يَقُولُ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ خَبَأْتُ هَذَا لَك"
قوله: "باب شهادة الأعمى ونكاحه وأمره وإنكاحه ومبايعته وقبوله في التأذين وغيره وما يعرف بالأصوات" مال المصنف إلى إجازة شهادة الأعمى، فأشار إلى الاستدلال لذلك بما ذكر من جواز نكاحه ومبايعته وقبول تأذينه، وهو قول مالك والليث، سواء علم ذلك قبل العمى أو بعده. وفصل الجمهور فأجازوا ما تحمله قبل العمى لا بعده، وكذا ما يتنزل فيه منزلة المبصر، كأن يشهد شخص بشيء ويتعلق هو به إلى أن يشهد به عليه، وعن الحكم يجوز في الشيء اليسير دون الكثير، وقال أبو حنيفة ومحمد: لا تجوز شهادته بحال إلا فيما طريقه الاستفاضة، وليس في جميع ما استدل به المصنف دفع للمذهب المفصل إذ لا مانع من حمل المطلق على المقيد. قوله: "وأجاز شهادته القاسم والحسن وابن سيرين والزهري وعطاء"، أما القاسم فأظنه أراد ابن محمد بن أبي بكر أحد الفقهاء السبعة، وقد روى سعيد بن منصور عن هشيم عن يحيى بن سعيد هو الأنصاري قال: "سمعت الحكم بن عتيبة - هو بالمثناة والموحدة مصغر - يسأل القاسم بن محمد عن شهادة الأعمى فقال: جائزة". وأما قول الحسن وابن سيرين فوصله ابن أبي شيبة من طريق أشعث عنهما قالا: "شهادة الأعمى جائزة". وأما قول الزهري فوصله ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي ذئب عنه "أنه كان يجيز شهادة الأعمى". وأما قول عطاء وهو ابن أبي رباح فوصله الأثرم من طريق ابن جريج عنه قال: "تجوز شهادة الأعمى". قوله: "وقال الشعبي تجوز شهادته إذا كان عاقلا" وصله ابن أبي شيبة عنه بمعناه، وليس مراده بقوله: "عاقلا" الاحتراز من الجنون لأن ذاك أمر لا بد

(5/264)


من الاحتراز منه سواء كان أعمى أو بصيرا، وإنما مراده أن يكون فطنا مدركا للأمور الدقيقة بالقرائن، ولا شك في تفاوت الأشخاص في ذلك. قوله: "وقال الحكم: رب شيء تجوز فيه" وصله ابن أبي شيبة عنه بهذا، وكأنه توسط بين مذهبي الجواز والمنع. قوله: "وقال الزهري: أرأيت ابن عباس لو شهد على شهادة أكنت ترده" ؟ وصله الكرابيسي في "أدب القضاء" من طريق ابن أبي ذئب عنه. قوله: "وكأن ابن عباس يبعث رجلا إلخ" وصله عبد الرزاق بمعناه من طريق أبي رجاء عنه، ووجه تعلقه به كونه كان يعتمد على خبر غيره مع أنه لا يرى شخصه وإنما سمع صوته. قال ابن المنير: لعل البخاري يشير بحديث ابن عباس إلى جواز شهادة الأعمى على التعريف، أي إذا عرف أن هذا فلان، فإذا عرف شهد، قال وشهادة التعريف مختلف فيها عند مالك وغيره، وقد جاء عن ابن عباس أنه كان لا يكتفي برؤية الشمس لأنها تواريها الجبال والسحاب، ويكتفي بغلبة الظلمة على الأفق الذي من جهة المشرق، وأخرجه سعيد بن منصور عنه. قوله: "وقال سليمان بن يسار: استأذنت على عائشة فعرفت صوتي فقالت: سليمان ادخل إلخ" تقدم الكلام عليه في آخر العتق، وفيه دليل على أن عائشة كانت ترى ترك الاحتجاب من العبد سواء كان في ملكها أو في ملك غيرها لأنه كان مكاتب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأما من قال يحتمل أنه كان مكاتبا لعائشة فمعارضة للصحيح من الأخبار بمحض الاحتمال وهو مردود، وأبعد من قال يحمل قوله على عائشة بمعنى من عائشة أي استأذنت عائشة في الدخول على ميمونة. قوله: "وأجاز سمرة بن جندب شهادة امرأة متنقبة" كذا قي رواية أبي ذر بالتشديد، ولغيره بسكون النون وتقديمها على المثناة. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: حديث عائشة "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد" والغرض منه اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم على صوته من غير أن يرى شخص. قوله: "وزاد عباد بن عبد الله" أي ابن الزبير عن أبيه عن عائشة، وصله أبو يعلى من طريق محمد بن إسحاق عن يحيي بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة "تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، وتهجد عباد بن بشر في المسجد، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: يا عائشة هذا عباد بن بشر، قلت: نعم، فقال: اللهم ارحم عبادا" . قوله: "فسمع صوت عباد" وقوله: "أصوت عباد" هذا في رواية أبي يعلي المذكور عباد بن بشر في الموضعين كما سقته، وبهذا يزول اللبس عمن يظن اتحاد المسموع صوته والراوي عن عائشة، وهما اثنان مختلفا النسبة والصفة، فعباد بن بشر صحابي جليل وعباد بن عبد الله بن الزبير تابعي من وسط التابعين، وظاهر الحال أن المبهم في الرواية التي قبل هذه هو المفسر في هذه الرواية لأن مقتضى قوله: "زاد"أن يكون المزيد فيه والمزيد عليه حديثا واحدا فتتحد القصة، لكن جزم عبد الغني بن سعيد في "المبهمات" بأن المبهم في رواية هشام عن أبيه عن عائشة هو عبد الله بن يزيد الأنصاري، فروى من طريق عمرة عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت قارئ يقرأ فقال: صوت من هذا؟ قالوا. عبد الله بن يزيد، قال: لقد ذكرني آية يرحمه الله كنت أنسيتها" ويؤيد ما ذهب إليه مشابهة قصة عمرة عن عائشة بقصة عروة عنها، بخلاف قصة عباد بن عبد الله عنها فليس فيه تعرض لنسيان الآية، ويحتمل التعدد من جهة غير الجهة التي اتحدت، وهو أن يقال سمع صوت رجلين فعرف أحدهما فقال: هذا صوت عباد ولم يعرفه الآخر فسأل عنه، والذي لم يعرفه هو الذي تذكر بقراءته الآية التي نسيها، وسيأتي بقية الكلام على شرحه في كتاب فضائل القرآن إن شاء الله تعالى. ثانيها حديث ابن عمر في تأذين بلال وابن أم مكتوم، وقد مضى بتمامه وشرحه في الأذان، والغرض منه ما تقدم من الاعتماد على صوت الأعمى. ثالثها حديث المسور في إعطاء

(5/265)


النبي صلى الله عليه وسلم له القباء، والغرض منه قوله فيه: "فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته فخرج ومنه قباء وهو يريه محاسنه ويقول: خبأت لك هذا" فإن فيه أنه اعتمد على صوته قبل أن يرى شخصه، وسيأتي شرحه في اللباس إن شاء الله تعالى. واحتج من لم يجز شهادة الأعمى بأن العقود لا تجوز الشهادة عليها إلا باليقين، والأعمى لا يتيقن الصوت لجواز شبهه بصوت غيره، وأجاب المجيزون بأن محل القبول عندهم إذا تحقق الصوت ووجدت القرائن الدالة لذلك، وأما عمد الاشتباه فلا يقول به أحد، ومن ذلك جواز نكاح الأعمى زوجته وهو لا يعرفها إلا بصوتها، لكنه يتكرر عليه سماع صوتها حتى يقع له العلم بأنها هي، وإلا فمتى احتمل عنده احتمالا قويا أنها غيرها لم يجز له الإقدام عليها. وقال الإسماعيلي: ليس في أحاديث الباب دلالة على الجواز مطلقا، لأن نكاح الأعمى يتعلق بنفسه لأنه في زوجته وأمته وليس لغيره فيه مدخل. وأما قصة عباد ومخرمة ففي شيء يتعلق بهما لا يتعلق بغيرهما. وأما التأذين فقد قال في بقية الحديث: "كان لا يؤذن حتى يقال له أصبحت" فالاعتماد على الجمع الذين يخبرونه بالوقت، قال: وأما ما ذكره الزهري في حق ابن عباس فهو تهويل لا تقوم به حجة، لأن ابن عباس كان أفقه من أن يشهد فيما لا تجوز فيها شهادته، فإنه لو شهد لأبيه أو ابنه أو مملوكه لما قبلت شهادته، وقد أعاذه الله من ذلك.

(5/266)


باب شهادة النساء وقوله تعالى (فإن لم يكنا رجلين ... الأية)
...
12 - باب: شَهَادَةِ النِّسَاءِ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى [282 البقرة]: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}
2658- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا"
قوله: "باب شهادة النساء، وقول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} " قال ابن المنذر أجمع العلماء على القول بظاهر هذه الآية، فأجازوا شهادة النساء مع الرجال، وخص الجمهور ذلك بالديون والأموال وقالوا لا تجوز شهادتهن في الحدود والقصاص، واختلفوا في النكاح والطلاق والنسب والولاء، فمنعها الجمهور وأجازها الكوفيون، قال: واتفقوا على قبول شهادتهن مفردات فيما لا يطلع عليه الرجال كالحيض والولادة والاستهلال وعيوب النساء، واختلفوا في الرضاع كما سيأتي في الباب الذي بعده. وقال أبو عبيد: أما اتفاقهم على جواز شهادتهن في الأموال فللآية المذكورة، وأما اتفاقهم على منعها في الحدود والقصاص فلقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وأما اختلافهم في النكاح ونحوه فمن ألحقها بالأموال فذلك لما فيها من المهور والنفقات ونحو ذلك، ومن ألحقها بالحدود فلأنها تكون استحلالا للفروج وتحريمها بها، قال: وهذا هو المختار، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ثم سماها حدودا فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} والنساء لا يقبلن في الحدود، قال: وكيف يشهدن فيما ليس لهن فيه تصرف من عقد ولا حل انتهى، وهذا التفصيل لا ينافي الترجمة لأنها معقودة لإثبات شهادتهن في الجملة، وقد اختلفوا فيما لا يطلع عليه الرجال هل يكفي فيه قول المرأة وحدها أم لا؟ فعند الجمهور لا بد من أربع، وعن مالك وابن أبي ليلى يكفي شهادة اثنتين، وعن الشعبي والثوري تجوز شهادتها وحدها في ذلك وهو قول الحنفية. ثم ذكر المصنف حديث أبي سعيد مختصرا وقد مضى بتمامه في الحيض، والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" ؟ قال المهلب: ويستنبط منه التفاضل بين الشهود بقدر عقلهم وضبطهم، فتقدم

(5/266)


شهادة الفطن اليقظ على الصالح البليد، قال: وفي الآية أن الشاهد إذا نسي الشهادة فذكره بها رفيقه حتى تذكرها أنه يجوز أن يشهد بها. ومن اللطائف ما حكاه الشافعي عن أمه أنها شهدت عند قاضي مكة هي وامرأة أخرى، فأراد أن يفرق بينهما امتحانا فقالت له أم الشافعي: ليس لك ذلك، لأن الله تعالى يقول: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} .

(5/267)


باب شهادة الإيماء والعبيد
...
12 - باب: شَهَادَةِ الإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ
وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ عَدْلًا وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إِلاَّ الْعَبْدَ لِسَيِّدِهِ وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ
وَقَالَ شُرَيْحٌ كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ
2659- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ ح وحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ أَوْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ "أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ قَالَ فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْرَضَ عَنِّي قَالَ فَتَنَحَّيْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ قَالَ وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا فَنَهَاهُ عَنْهَا"
قوله: "باب شهادة الإماء والعبيد" أي في حال الرق، وقد ذهب الجمهور إلى أنها لا تقبل مطلقا. وقالت طائفة: تقبل مطلقا، وقد نقل المصنف بعض ذلك وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور، وقيل تقبل في الشيء اليسير وهو قول الشعبي وشريح والنخعي والحسن. قوله: "وقال أنس: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا" وصله ابن أبي شيبة من رواية المختار بن فلفل قال: "سألت أنسا عن شهادة العبيد فقال جائزة". قوله: "وأجازه شريح وزرارة بن أبي أوفى" أما شريح فوصله ابن أبي شيبة من رواية عامر وهو الشعبي "أن شريحا أجاز شهادة العبيد" وروى سعيد بن منصور من رواية عمار الدهني قال: "سمعت شريحا أجاز شهادة عبد في الشيء اليسير" ورويناه في "جامع سفيان بن عيينة" عن هشام عن ابن سيرين "كان شريح يجيز شهادة العبد في الشيء اليسير إذا كان مرضيا" وروى ابن أبي شيبة أيضا من طريق أشعث عن الشعبي "كان شريح لا يجيز شهادة العبد، فقال علي: لكننا نجيزها فكان شريح بعد ذلك يجيزها إلا لسيده" وأما قول زرارة بن أبي أوفى وهو قاضي البصرة فلم أقف على سنده إليه. قوله: "وقال ابن سيرين شهادته" أي العبد "جائزة، إلا العبد لسيده" وصله عبد الله بن أحمد بن حنبل في "المسائل" من طريق يحيى بن عتيق عنه بمعناه. قوله: "وأجازه الحسن وإبراهيم في الشيء التافه" وصله ابن أبي شيبة من رواية منصور عن إبراهيم قال: "كانوا يجيزونها في الشيء الخفيف" ومن طريق أشعث الحمراني عن الحسن نحوه. قوله: "وقال شريح: كلكم بنو عبيد وإماء" كذا للأكثر، ولابن السكن "كلكم عبيد وإماء" وصله ابن أبي شيبة من طريق عمار الدهني "سمعت شريحا شهد عنده عبد فأجاز شهادته، فقيل له أنه عبد، فقال: كلنا عبيد وأمنا حواء" وأخرجه سعيد بن منصور

(5/267)


من هذا الوجه نحوه بلفظ: "فقيل له إنه عبد، فقال: كلكم بنو عبيد وبنو إماء" ثم أورد المصنف حديث عقبة بن الحارث في قصة الأمة السوداء المرضعة، وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده، ووجه الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم أمر عقبة بفراق امرأته بقول الأمة المذكورة، فلو لم تكن شهادتها مقبولة ما عمل بها، واحتجوا أيضا بقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قالوا فإن كان الذي في الرق رضا فهو داخل في ذلك، وأجيب عن الآية بأنه تعالى قال في آخرها: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} والإباء إنما يتأتى من الأحرار لاشتغال الرقيق بحق السيد، وفي الاستدلال بهذا القدر نظر، وأجاب الإسماعيلي عن حديث الباب فقال: قد جاء في بعض طرقه: "فجاءت مولاة لأهل مكة" قال: وهذا اللفظ يطلق على الحرة التي عليها الولاء فلا دلالة فيه على أنها كانت رقيقة، وتعقب بأن رواية حديث الباب فيه التصريح بأنها أمة فتعين أنها ليست بحرة، وقد قال ابن دقيق العيد: إن أخذنا بظاهر حديث الباب فلا بد من القول بشهادة الأمة، وقد سبق إلى الجزم بأنها كانت أمة أحمد بن حنبل رواه عنه جماعة كأبي طالب ومهنا وحرب وغيرهم، وقد تقدم في العلم تسمية أم يحيى بنت أبي إهاب وإنها غنية بفتح المعجمة وكسر النون بعدها تحتانية مثقلة، ثم وجدت في النسائي أن اسمها زينب فلعل غنية لقبها، أو كان اسمها فغير بزينب كما غير اسم غيرها، والأمة المذكورة لم أقف على اسمها. قوله: "فأعرض عني" زاد في البيوع من طريق عبد الله بن أبي حسين عن ابن أبي مليكة "وتبسم النبي صلى الله عليه وسلم". قوله فيه "فتنحيت فذكرت ذلك له" في رواية النكاح "فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه فقلت: إنها كاذبة" وفي رواية الدار قطني "ثم سألته فأعرض عني وقال في الثالثة أو الرابعة".

(5/268)


14 - باب: شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ
2660- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ دَعْهَا عَنْكَ أَوْ نَحْوَهُ"
قوله: "باب شهادة المرضعة" ذكر فيه حديث عقبة بن الحارث في قصة المرأة التي أخبرته أنها أرضعته وأرضعت امرأته، أخرجه في الباب الذي قبله، وفي هذا الباب عن أبي عاصم، لكن هنا عن عمر بن سعيد وفي الذي قبله عن ابن جريج كلاهما عن ابن أبي مليكة وكأن لأبي عاصم فيه شيخين، فقد وجدت له فيه ثالثا ورابعا أخرجه الدار قطني من طريق محمد بن يحيي عن أبي عاصم عن أبي عامر الخراز ومحمد بن سليم كلاهما عن ابن أبي مليكة أيضا، واحتج به من قبل شهادة المرضعة وحدها، قال علي بن سعد: سمعت أحمد يسأل عن شهادة المرأة الواحدة في الرضاع قال: تجوز على حديث عقبة بن الحارث وهو قول الأوزاعي. ونقل عن عثمان وابن عباس والزهري والحسن وإسحاق، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب قال: "فرق عثمان بين ناس تناكحوا بقول امرأة سوداء أنها أرضعتهم" قال ابن شهاب: الناس يأخذون بذلك من قول عثمان اليوم، واختاره أبو عبيد إلا أنه قال: إن شهدت المرضعة وحدها وجب على الزوج مفارقة المرأة ولا يجب عليه الحكم بذلك وإن شهدت معها أخرى وجب الحكم به. واحتج أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يلزم عقبة بفراق امرأته بل قال له "دعها عنك" وفي رواية ابن جريج "كيف وقد زعمت" فأشار

(5/268)


إلى أن ذلك على التنزيه، وذهب الجمهور إلى أنه لا يكفي في ذلك شهادة المرضعة لأنها شهادة على فعل نفسها، وقد أخرج أبو عبيد من طريق عمر والمغيرة بن شعبة وعلي بن أبي طالب وابن عباس أنهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك فقال عمر: فرق بينهما إن جاءت بينة، وإلا فخل بين الرجل وامرأته إلا أن يتنزها، ولو فتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين الزوجين إلا فعلت. وقال الشعبي: تقبل مع ثلاث نسوة شرط أن لا تتعرض نسوة لطلب أجرة، وقيل لا تقبل مطلقا، وقيل تقبل في ثبوت المحرمية دون ثبوت الأجرة لها على ذلك، قال مالك تقبل مع أخرى. وعن أبي حنيفة لا تقبل في الرضاع شهادة النساء المتمحضات، وعكسه الإصطخري من الشافعية، وأجاب من لم يقبل شهادة المرضعة وحدها بحمل النهي في قوله: "فنهاه عنها" على التنزيه ويحمل الأمر في قوله: "دعها عنك" على الإرشاد. وفي الحديث جواز إعراض المفتي ليتنبه المستفتي على أن الحكم فيما سأله الكف عنه، وجواز تكرار السؤال لمن لم يفهم المراد والسؤال عن السبب المقتضي لرفع النكاح، وقوله في الإسناد الذي قبله "حدثني عقبة بن الحارث أو سمعته منه" فيه رد على من زعم أن ابن أبي مليكة لم يسمع من عقبة بن الحارث وقد حكاه ابن عبد البر، ولعل قائل ذلك أخذه من الرواية الآتية في النكاح من طريق ابن علية عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عبيد بن أبي مريم عن عقبة بن الحارث، قال ابن أبي مليكة: "وقد سمعته من عقبة ولكني لحديث عبيد أحفظ" وأخرجه أبو داود من طريق حماد عن أيوب ولفظه: "عن ابن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث قال: وحدثنيه صاحب لي عنه وأنا لحديث صاحبي أحفظ" ولم يسمه، وفيه إشارة إلى التفرقة في صيغ الأداء بين الإفراد والجمع، أو بين القصد إلى التحديث وعدمه، فيقول الراوي فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ أو قصد الشيخ تحديثه بذلك "حدثني" بالإفراد وفيما عدا ذلك "حدثنا" بالجمع أو "سمعت فلانا يقول"ووقع عند الدار قطني من هذا الوجه "حدثني عقبة بن الحارث" ثم قال: "لم يحدثني ولكني سمعته يحدث" وهذا يعين أحد الاحتمالين، وقد اعتمد ذلك النسائي فيما يرويه عن الحارث بن مسكين فيقول: "الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا اسمع" ولا يقول حدثني ولا أخبرني لأنه لم يقصده بالتحديث وإنما كان يسمعه من غير أن يشعر به. قوله فيه "إني قد أرضعتكما" زاد الدار قطني من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة "فدخلت علينا امرأة سوداء فسألت فأبطأنا عليها فقالت: تصدقوا علي، فوالله لقد أرضعتكما جميعا" زاد البخاري في العلم من طريق عمر بن سعيد عن ابن أبي حسين عن ابن أبي مليكة "فقال لها عقبة ما أرضعتني ولا أخبرتني - أي بذلك - قبل التزوج" زاد في "باب إذا شهد بشيء فقال آخر ما علمت ذلك" وفي العلم "فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله" وترجم عليه "الرحلة في المسألة النازلة" وزاد في النكاح "فقالت لي قد أرضعتكما وهي كاذبة". قوله: "دعها عنك أو نحوه" في رواية النكاح "دعها عنك" حسب، زاد الدار قطني في رواية أيوب في آخره: "لا خير لك فيها"، وفي الباب الذي قبله "فنهاه عنها، زاد في الباب المشار إليه من الشهادات "ففارقها ونكحت زوجا غيره".

(5/269)


15 - باب: تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا
2661- حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ - وَأَفْهَمَنِي بَعْضَهُ أَحْمَدُ - حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ

(5/269)


اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتُ لَهُ اقْتِصَاصًا وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ قَدْ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ فَأَقْبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَثْقُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ وَإِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ فَاحْتَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ يَدَهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لاَ أَرَى مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ كَيْفَ تِيكُمْ لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى نَقَهْتُ فَخَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ مُتَبَرَّزُنَا لاَ نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي الْبَرِّيَّةِ أَوْ فِي التَّنَزُّهِ فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ نَمْشِي فَعَثَرَتْ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَهَا بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَتْ يَا هَنْتَاهْ أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي. فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ فَقَالَ كَيْفَ تِيكُمْ فَقُلْتُ ائْذَنْ لِي إِلَى أَبَوَيَّ قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا -

(5/270)


فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ فَقَالَتْ يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَى نَفْسِكِ الشَّأْنَ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلاَّ أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَلَقَدْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا قَالَتْ فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ثُمَّ أَصْبَحْتُ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْوُدِّ لَهُمْ فَقَالَ أُسَامَةُ أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ نَعْلَمُ وَاللَّهِ إِلاَّ خَيْرًا وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَسَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ يَا بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ فَقَالَتْ بَرِيرَةُ لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ الْعَجِينِ فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا وَاللَّهِ أَعْذُرُكَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مِنْ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ وَبَكَيْتُ يَوْمِي لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ فَأَصْبَحَ عِنْدِي أَبَوَايَ وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي قَالَتْ فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي إِذْ اسْتَأْذَنَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِيَّ مَا قِيلَ قَبْلَهَا وَقَدْ مَكَثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ قَالَتْ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً وَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ عَنِّي

(5/271)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لِأُمِّي أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ قَالَتْ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ فَقُلْتُ إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ وَوَقَرَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللَّهُ وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا وَلاَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِي أَمْرِي وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ لِي يَا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ فَقَالَتْ لِي أُمِّي قُومِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لاَ وَاللَّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى[11 النور] {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الْآيَاتِ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى[22 النور]: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا - إلى قوله - غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لاَحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ: يَا زَيْنَبُ مَا عَلِمْتِ؟ مَا رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلاَّ خَيْرًا قَالَتْ وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ قَالَ وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ قَالَ وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِثْلَهُ
قوله: "باب تعديل النساء بعضهن بعضا" كذا للأكثر، زاد أبو ذر قبله حديث الإفك ثم قال باب إلخ. قوله: "حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود" هو الزهراني العتكي بفتح المهملة والمثناة البصري، نزل بغداد، اتفق البخاري ومسلم على الرواية عنه، ومن جملة ما اتفقا عليه إخراج هذا الحديث عنه، وفي طبقته اثنان كل منهما أيضا أبو الربيع سليمان بن داود أحدهما الختلي بضم المعجمة وتشديد المثناة المفتوحة بغدادي انفرد مسلم بالرواية عنه والرشديني بكسر الراء وسكون المعجمة مصري لم يخرجا له وروي عنه أبو داود والنسائي. قوله: "وأفهمني بعضه أحمد قال: حدثنا

(5/272)


فليح" يحتمل أن يكون أحمد رفيقا لأبي الربيع في الرواية عن فليح وأن يكون البخاري حمله عنهما جميعا على الكيفية المذكورة، ويحتمل أن يكون أحمد رفيقا للبخاري في الرواية عن أبي الربيع وهو الأقرب إذ لو كان المراد الأول لكان يقول: قالا: حدثنا فليح بالتثنية. ولم أر ذلك في شيء من الأصول، ويؤيد الأول أيضا صنيع البرقاني فإنه أخرج الحديث في المصافحة ومقتضاه أن القدر المذكور عند البخاري عن أحمد عن أبي الربيع عن فليح، لكن وقع في أطراف خلف حدثنا أبو ربيع وأفهمني بعضه أحمد بن يونس، فإن كان محفوظا فلعل لفظ: "قالا" سقط من الأصل كما جرت العادة بإسقاطها كثيرا في الأسانيد فأثبت بعضهم بدلها "قال": بالإفراد، وبما قال خلف جزم الدمياطي، وأما جزم المزي بأن الذي ذكره خلف وهم فليس هذا الجزم بواضح، وزعم ابن خلفون أن أحمد هذا هو ابن حنبل بناء على القول الثاني، وجوز غيره أن يكون أحمد بن النضر النيسابوري وبه جزم الذهبي في طبقات القراء، وقد حدث به عن أبي الربيع الزهرائي ممن يسمى أحمد أيضا أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم وأبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى وغيرهما، وقد ذكرت في المقدمة طائفة ممن روى هذا الحديث عن فليح ممن تسمي أحمد، وكذلك من رواه عن أبي الربيع ممن يسمي أحمد أيضا، فالله أعلم. ثم ساق المصنف حديث الإفك بطوله من رواية فليح عن الزهري عن مشايخه، ثم من رواية فليح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وعبد الله بن الزبير قال مثله، ومن رواية فليح عن ربيعة ويحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال مثله، وسيأتي شرحه مستوفى في تفسير سورة النور وبيان ما زادت رواية كل واحد من هؤلاء على رواية الزهري وما نقصت عنها. وقد أخرجه الإسماعيلي عن جماعة أخبروه به عن أبي الربيع وزاد في آخره عن فليح "قال وسمعت ناسا من أهل العلم يقولون إن أصحاب الإفك جلدوا الحد". قلت: وسيأتي لذلك إسناد آخر في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. والغرض منه هنا سؤاله صلى الله عليه وسلم بريرة عن حال عائشة وجوابها ببراءتها واعتماد النبي صلى الله عليه وسلم على قولها حتى خطب فاستعذر من عبد الله بن أبي. وكذلك سؤاله من زينب بنت جحش عن حال عائشة وجوابها ببراءتها أيضا وقول عائشة في حق زينب: هي التي كانت تساميني فعصمها الله بالورع، ففي مجموع ذلك مراد الترجمة. قال ابن بطال: فيه حجة لأبي حنيفة في جواز تعديل النساء وبه قال أبو يوسف ووافق محمد الجمهور، قال الطحاوي: التزكية خبر وليست شهادة فلا مانع من القبول، وفي الترجمة الإشارة إلى قول ثالث وهو أن تقبل تزكيتهن لبعضهن لا للرجال لأن من منع ذلك اعتل بنقصان المرأة عن معرفة وجوه التزكية لا سيما في حق الرجال، وقال ابن بطال: لو قيل إنه تقبل تزكيتهن بقول حسن وثناء جميل يكون إبراء من سوء لكان حسنا كما في قصة الإفك، ولا يلزم منه قبول تزكيتهن في شهادة توجب أخذ مال، والجمهور على جواز قبولهن مع الرجال فيما تجوز شهادتهن فيه. قوله: "فأيتهن خرج سهمها أخرج بها معه" كذا للنسفي ولأبي ذر عن غير الكشميهني. وفي رواية الكشميهني والباقين "خرج" وهو الصواب، ولعل الأول أخرج بضم أوله على البناء للمجهول، قوله: "من جزع أظفار" كذا للأكثر. وفي رواية الكشميهني: "ظفار" وهو أصوب، وسيأتي توضيحه عند شرحه. قوله: "فاستيقظت باسترجاعه حتى أناخ راحلته" كذا للأكثر، وفي رواية الكشميهني والنسفي "حين أناخ راحلته". قوله: "وقد بكيت ليلتي ويوما" في رواية الكشميهني: "ليلتين ويوما" وفي رواية النسفي وأبي الوقت "ليلتي ويومي" وسيأتي بقية ألفاظه عند شرحه إن شاء الله تعالى.

(5/273)


باب إذ زكى رجل رجلا كفاه
...
16 - باب: إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلًا كَفَاهُ .
وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ: وَجَدْتُ مَنْبُوذًا فَلَمَّا رَآنِي عُمَرُ قَالَ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي قَالَ عَرِيفِي إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ قَالَ كَذَاكَ اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ
2662- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ مِرَارًا ثُمَّ قَالَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلاَنًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ وَلاَ أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ"
[الحديث 2662- طرفاه في: 6061 ، 6162]
قوله: "باب إذا زكى رجل رجلا كفاه" ترجم في أوائل الشهادات "تعديل كم يجوز" فتوقف هناك، وجزم هنا بالاكتفاء بالواحد، ومد قدمت توجيهه هناك. واختلف السلف في اشتراط العدد في التزكية، فالمرجح عند الشافعية والمالكية - وهو قول محمد بن الحسن - اشتراط اثنين كما في الشهادة، واختاره الطحاوي، واستثنى كثير منهم بطانة الحاكم لأنه نائبه فينزل قوله منزلة الحكم، وأجاز الأكثر قبول الجرح والتعديل من واحد لأنه ينزل منزلة الحكم والحكم لا يشترط فيه العدد. وقال أبو عبيد: لا يقبل في التزكية أقل من ثلاثة، واحتج بحديث قبيصة الذي أخرجه مسلم فيمن تحل له المسألة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا فيشهدون له، قال: وإذا كان هذا في حق الحاجة فغيرها أولى، وهذا كله في الشهادة، أما الرواية فيقبل فيها قول الواحد على الصحيح، لأنه إن كان ناقلا عن غيره فهو من جملة الأخبار ولا يشترط العدد فيها، وإن كان من قبل نفسه فهو بمنزلة الحاكم ولا يتعدد أيضا. قوله: "وقال أبو جميلة" بفتح الجيم وكسر الميم واسمه سنين بمهملة ونونين مصغر، ووهم من شدد التحتانية كالداودي، وقيل إنها رواية الأصيلي، قيل اسم أبيه فرقد، قال ابن سعد هو سلمي، وقال غيره هو ضمري، وقيل سليطي. وقد ذكره العجلي وجماعة في التابعين. وسيأتي في غزوة الفتح ما يدل على صحبته، وقد ذكره آخرون في الصحابة، ووقع سياق خبره من طريق معمر عن الزهري عن أبي جميلة قال: "أخبرنا ونحن مع ابن المسيب أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وخرج معه عام الفتح" وذكر أبو عمر أنه جاء في رواية أخرى أنه حج حجة الوداع، وهو وارد على من لم يعرفه فقال إنه مجهول كابن المنذر، ونقل البيهقي عن الشافعي نحو ذلك. وفي الرواة أبو جميلة آخر اسمه ميسرة الطهوي بضم الطاء المهملة وفتح الهاء، وهو كوفي روي عن عثمان وعلي وليست له صحبة اتفاقا، ووهم من جعله صاحب هذه القصة كالكرماني. قوله: "وجدت منبوذا" بفتح الميم وسكون النون وضم الموحدة وسكون الواو بعدها معجمة أي شخصا منبوذا، أي لقيطا. قوله: "قال عسى الغوير أبؤسا" كذا للأصيلي ولأبي ذر عن الكشميهني وحده وسقط للباقين. والغوير بالمعجمة تصغير غار، وأبؤسا جمع بؤس وهو الشدة، وانتصب على أنه خبر عسى عند من يجيزه، أو بإضمار شيء تقديره عسى أن يكون الغوير أبؤسا. وجزم به صاحب المغني. وهو مثل مشهور يقال فيما ظاهره السلامة ويخشى منه العطب. وروى الخلال في علله عن الزهري أن أهل المدينة يتمثلون به في ذلك كثيرا، وأصله كما قال الأصمعي أن ناسا دخلوا غارا يبيتون فيه فانهار عليهم فقتلهم، وقيل وجدوا فيه

(5/274)


عدوا لهم فقتلهم، فقيل ذلك لكل من دخل في أمر لا يعرف عاقبته. وقال ابن الكلبي: الغوير مكان معروف فيه ماء لبني كلب كان فيه ناس يقطعون الطريق، وكان من يمر يتواصون بالحراسة. وقال ابن الأعرابي: ضرب عمر هذا المثل للرجل يعرض بأنه في الأصل ولده وهو يريد نفيه عنه بدعواه أنه التقطه، فهذا معني قوله كأنه يتهمني. وقيل أول من تكلم به الزباء - بفتح الزاي وتشديد الموحدة والمد - لما قتلت جذيمة الأبرش. وأراد قصير - بفتح القاف وكسر المهملة - أن يقتص منها. فتواطأ قصير وعمرو ابن أخت جذيمة على أن قطع عمرو أنف قصير فأظهر أنه هرب منه إلى الزباء فأمنت إليه. ثم أرسلته تاجرا فرجع إليها بربح كثير مرارا ثم رجع المرة الأخيرة ومعه الرجال في الأعدال معهم السلاح، فنظرت إلى الجمال تمشي رويدا لثقل من عليها فقالت: عسى الغوير أبؤسا أي لعل الشر يأتيكم من قبل الغوير، وكأن قصيرا أعلمها أنه سلك في هذه المرة طريق الغوير، فلما دخلت الأحمال قصرها خرجت الرجال من الأعدال فهلكت. قوله: "كأنه يتهمني" أي بأن يكون الولد له، وإنما أراد نفي نسبه عنه لمعني من المعاني، وأراد مع ذلك أن يتولى هو تربيته، وقيل اتهمه بأنه زنى بأمه ثم ادعاه وهو بعيد وما تقدم أولى. وقد أخرج البيهقي هذه القصة موصولة من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن الزهري عن أبي جميلة أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وأنه وجد منبوذا في خلافة عمر فأخذه، قال فذكر ذلك عريفي لعمر، فلما رآني عمر قال فذكره وزاد: ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ قلت: وجدتها ضائعة. وقد أخرج مالك في "الموطأ" هذه للزيادة عن الزهري أيضا، وصدر هذا الخبر سيأتي موصولا في أواخر المغازي من وجه آخر عن الزهري، وفي ذلك رد على من زعم أن أبا جميلة هذا هو الطهوي لأن الطهوي لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولا عمر، وأورد ابن الأثير عن البخاري ما ذكرته عنه وزاد فيه: "وأنه التقط منبوذا " فذكر القصة ولم أر ذلك في شيء من النسخ. قوله: "فقال له عريفي إنه رجل صالح" لم أقف على اسم هذا التعريف. إلا أن الشيخ أبا حامد ذكر في تعليقه أن اسمه سنان. وفي الصحابة لابن عبد البر: سنان الضمري استخلفه أبو بكر الصديق مرة على المدينة. فيحتمل أن يكون هو ذا فقد قيل إن أبا جميلة ضمري والله أعلم. قال ابن بطال: كان عمر قسم الناس، وجعل على كل قبيلة عريفا ينطر عليهم. قلت: فإن كان أبو جميلة سلميا فينظر من كان عريف بني سليم في عهد عمر. قوله: "قال كذاك" زاد مالك في روايته: "قال نعم". قوله: "اذهب وعلينا نفقته" في رواية مالك "فقال عمر: اذهب فهو حر، ولك ولاؤه وعلينا نفقته" وكذلك في رواية البيهقي. قال ابن بطال: في هذه القصة أن القاضي إذا سأل في مجلس نظره عن أحد فإنه يجتزئ بقول الواحد كما صنع عمر. فأما إذا كلف المشهود له أن يعدل شهوده فلا يقبل أقل من اثنين. قلت: غايته أنه حمل القصة على بعض محتملاتها، وقصة التكليف تحتاج إلى دليل من خارج، وفيها جواز الالتقاط وإن لم يشهد، وأن نفقته إذا لم يعرف في بيت المال، وأن ولاءه لملتقطه، وذلك مما اختلف فيه، وستأتي الإشارة إلى ذلك في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى. وقد وجه بعضهم معنى قوله: "لك ولاؤه" بكونه حين التقطه كأنه أعتقه من الموت أو أعتقه من أن يلتقطه غيره ويدعي أنه ملكه. "تنبيه": وقع في "المطالع" أن عمر لما اتهم أبا جميلة شهد له جماعة بالستر ا هـ، وليس في قصته أن الذي شهد ليس إلا عريفه وحده. وفيه تثبت عمر في الأحكام، وأن الحاكم إذا توقف في أمر أحد لم يكن ذلك قادحا فيه، ورجوع الحاكم إلى قول أمنائه. وفيه أن الثناء على الرجل في وجهه عند الحاجة لا يكره، وإنما يكره الإطناب في ذلك، ولهذه النكتة ترجم البخاري عقب هذا بحديث أبي موسى الذي

(5/275)


ساقه بمعنى حديث أبي بكرة الذي أورده في هدا الباب فقال: "ما يكره من الإطناب في المدح"، ووجه احتجاجه بحديث أبى بكرة أنه صلى الله عليه وسلم اعتبر تزكية الرجل إذا اقتصد لأنه لم يعب عليه إلا الإسراف والتغالي في المدح، واعترضه ابن المنير بأن هذا القدر كاف في قبول تزكيته، وأما اعتبار النصاب فمسكوت عنه، وجوابه أن البخاري جرى على قاعدته بأن النصاب لو كان شرطا لذكر، إذ لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة. قوله: "أثنى رجل على رجل" يحتمل أن يفسر المثنى بمحجن بن الأدرع الأسلمي، وحديثه بذلك عند الطبراني وأحمد وإسحاق، وعند إسحاق فيه زيادة من وجه آخر قد يفسر منها المثنى عليه بأنه عبد الله ذو النجادين، وسيأتي بيان ذلك في كتاب الأدب مع تمام الكلام على حديث أبي بكرة إن شاء الله تعالى.

(5/276)


17 - باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ الإِطْنَابِ فِي الْمَدْحِ وَلْيَقُلْ مَا يَعْلَمُ
2663- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ فَقَالَ أَهْلَكْتُمْ - أَوْ قَطَعْتُمْ - ظَهَرَ الرَّجُلِ"
[الحديث 2663- أطرافه في: 6060]
قوله: "باب ما يكره من الإطناب في المدح، وليقل ما يعلم" أورد فيه حديث أبي موسى "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل" يمكن أن يفسر بمن فسر في حديث أبي بكرة بناء على اتحاد القصة، قوله: "يطريه" بضم أوله، والإطراء مدح الشخص بزيادة على ما فيه. قوله: "أهلكتم أو قطعتم" شك من الراوي، وليس في الحديث ما زاده في الترجمة من قوله: "وليقل ما يعلم" وكأنه ذهب إلى اتحاد حديثي أبي بكرة وأبي موسى وقد قال في حديث أبي بكرة: "إن كان يعلم ذلك منه" والله أعلم.

(5/276)


باب بلوغ الصبيان وشهادتهم وقول الله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا)
...
18 - باب: بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [59 النور]: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} . وَقَالَ مُغِيرَةُ: احْتَلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَبُلُوغُ النِّسَاءِ إلى الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ [4 الطلاق]: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ - إلى قوله - أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ أَدْرَكْتُ جَارَةً لَنَا جَدَّةً بِنْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً
2664- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي" قَالَ نَافِعٌ: فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ"
[الحديث 2664- طرفه في: 4097]

(5/276)


19 - باب: سُؤَالِ الْحَاكِمِ الْمُدَّعِيَ هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ قَبْلَ الْيَمِينِ
2666 ، 2667- حدثنا محمد أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حلف على يمين - وهو فيها فاجر - ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان قال فقال الأشعث بن قيس: في والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قال قلت: لا قال فقال لليهودي: احلف. قال قلت: يا رسول الله إذن يحلف ويذهب بمالي قال فأنزل الله تعالى [77 آل عمران]: {إِنَّ

(5/279)


الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إلى آخر الآية"
قوله: "باب سؤال الحاكم المدعي: هل لك بينة؟ قبل اليمين" أورد فيه حديث الأشعث "كان بيني وبين رجل أرض فجحدني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قلت: لا. قال: يحلف" وفيه حديث ابن مسعود. وقوله في الترجمة "قبل اليمين" أي قبل يمين المدعى عليه، وهو المطابق للترجمة ولا يصح حمله على المدعي بأن يطلب منه الحاكم يمين الاستظهار بأن بينته شهدت له بحق لأنه ليس في حديث الأشعث تعرض لذلك، بل فيه ما قد يتمسك به في أن يمين الاستظهار غير واجبة، والله أعلم. وسيأتي مباحث حديثي الأشعث وابن مسعود في التفسير والأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. وفي الحديث حجة لمن قال: لا تعرض اليمين على المدعى عليه إذا اعترف المدعي أن له بينة.

(5/280)


باب اليمين على المدعي عليه الأموال والحدود
...
20 - باب: الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ.
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ" وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ كَلَّمَنِي أَبُو الزِّنَادِ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي فَقُلْتُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [282 البقرة]: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} قُلْتُ: إِذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ هَذِهِ الأُخْرَى؟
2668- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: "كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ"
2669 ، 2670- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ [77 آل عمران]: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ - إِلَى - عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا قَالَ فَقَالَ صَدَقَ لَفِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي شَيْءٍ فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلاَ يُبَالِي: فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ"
قوله: "باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود" أي دون المدعي، ويستلزم ذلك شيئين: أحدهما أن لا تجب يمين الاستظهار، والثاني أن لا يصح القضاء بشاهد واحد ويمين المدعي. واستشهاد المصنف بقصة ابن شبرمة يشير إلى أنه أراد الثاني. وقوله: "في الأموال والحدود" يشير بذلك إلى الرد على الكوفيين في تخصيصهم اليمين على المدعى عليه في الأموال دون الحدود، وذهب الشافعي والجمهور إلى القول بعموم ذلك في الأموال والحدود والنكاح

(5/280)


ونحوه، واستثنى مالك النكاح والطلاق والعتاق والفدية فقال: لا يجب في شيء منها اليمين حتى يقيم المدعي البينة ولو شاهدا واحدا. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه" وصله في آخر الباب من حديث الأشعث، والغرض منه أنه أطلق اليمين في جانب المدعى عليه ولم يقيده بشيء دون شيء، وارتفع "شاهداك" على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره المثبت لك أو الحجة أو ما يثبت لك، والمعنى ما يثبت لك شهادة شاهديك أو لك إقامة شاهديك فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه فارتفع، وحذف الخبر للعلم به. وقد تقدم في الرهن بلفظ: "شهودك" وأنه روي بالرفع والنصب، وتقدم توجيهه. قوله: "وقال قتيبة حدثنا سفيان" هو ابن عيينة، ورأيت بخط القطب أنه رأى في بعض النسخ "حدثنا قتيبة" ورد ذلك مغلطاي بأن البخاري لم يحتج بابن شبرمة، وهو عجيب، فإنه أخرج له في الشواهد كما سيأتي في كتاب الأدب، وهذا من الشواهد فإنه حكاية واقعة اتفقت له مع ابن عيينة ليس فيها حديث مرفوع يحتج به. قوله: "عن ابن شبرمة" بضم المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة، وهو عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسان الضبي قاضي الكوفة للمنصور، مات سنة أربع وأربعين ومائة. قوله: "كلمني أبو الزناد" هو قاضي المدينة. قوله: "في شهادة الشاهد ويمين المدعي" أي في القول بجوازها، وكان مذهب أبي الزناد القضاء بذلك كأهل بلده، ومذهب ابن شبرمة خلافه كأهل بلده، فاحتج عليه أبو الزناد بالخبر الوارد في ذلك، فاحتج عليه ابن شبرمة بما ذكر في الآية الكريمة، وإنما تتم له الحجة بذلك على أصل مختلف فيه بين الفريقين وهو أن الخبر إذا ورد متضمنا لزيادة على ما في القرآن هل يكون نسخا والسنة لا تنسخ القرآن؟ أو لا يكون نسخا بل زيادة مستقلة بحكم مستقل إذا ثبت سنده وجب القول به؟ والأول مذهب الكوفيين، والثاني مذهب الحجازيين، ومع قطع النظر عن ذلك لا تنتهض حجة ابن شبرمة لأنه يصير معارضة للنص بالرأي وهو غير معتبر به، وقد أجاب عنه الإسماعيلي فقال؛ الحاجة إلى إذكار الأخرى إنما هو فيما إذا شهدتا، وإن لم تشهدا قامت مقامهما يمين الطالب ببيان السنة الثابتة، واليمين ممن هي عليه لو انفردت لحلت محل البينة في الأداء والإبراء، فكذلك حلت اليمين هنا محل المرأتين في الاستحقاق بها مضافة للشاهد الواحد. قال: ولو لزم إسقاط القول بالشاهد واليمين لأنه ليس في القرآن للزم إسقاط الشاهد والمرأتين لأنهما ليستا في السنة لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "شاهداك أو يمينه" ا هـ. وحاصله أنه لا يلزم من التنصيص على الشيء نفيه عما عداه، لكن مقتضى ما بحثه أن لا يقضي باليمين مع الشاهد الواحد إلا عند فقد الشاهدين أو ما قام مقامهما من الشاهد والمرأتين، وهو وجه للشافعية، وصححه الحنابلة، ويؤيده ما رواه الدار قطني من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "قضى الله ورسوله في الحق بشاهدين فإن جاء بشاهدين اخذ حقه وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاهده" وأجاب بعض الحنفية بأن الزيادة على القرآن نسح، وأخبار الآحاد لا تنسخ المتواتر، ولا تقبل الزيادة من الأحاديث إلا إذا كان الخبر بها مشهورا، وأجيب بأن النسخ رفع الحكم ولا رفع هنا، وأيضا فالناسخ والمنسوخ لا بد أن يتواردا على محل واحد وهذا غير متحقق في الزيادة على النص، وغاية ما فيه أن تسمية الزيادة كالتخصيص نسخا اصطلاح فلا يلزم منه نسخ الكتاب بالسنة، لكن تخصيص الكتاب بالسنة جائز وكذلك الزيادة عليه كما في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وأجمعوا على تحريم نكاح العمة مع بنت أخيها، وسند الإجماع في ذلك السنة الثابتة، وكذلك قطع رجل السارق في المرة الثانية، وأمثلة ذلك كثيرة. وقد أخذ من رد الحكم بالشاهد واليمين لكونه زيادة على القرآن بأحاديث كثيرة في أحكام كثيرة كلها زائدة على ما في القرآن كالوضوء بالنبيذ والوضوء من القهقهة ومن القيء والمضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء واستبراء المسبية

(5/281)


وترك قطع من سرق ما يسرع إليه الفساد وشهادة المرأة الواحدة في الولادة ولا قود إلا بالسيف ولا جمعة إلا في مصر جامع ولا تقطع الأيدي في الغزو ولا يرث الكافر المسلم ولا يؤكل الطافي من السمك ويحرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ولا يقتل الوالد بالولد ولا يرث القاتل من القتيل وغير ذلك من الأمثلة التي تتضمن الزيادة على عموم الكتاب، وأجابوا بأنها أحاديث شهيرة موجب العمل بها لشهرتها، فيقال لهم وحديث القضاء بالشاهد واليمين جاء من طرق كثيرة مشهورة، بل ثبت من طرق صحيحة متعددة، فمنها ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد" وقال في اليمين إنه حديث صحيح لا يرتاب في صحته، وقال ابن عبد البر لا مطعن لأحد في صحته ولا إسناده، وأما قول الطحاوي: إن قيس بن سعد لا تعرف له رواية عن عمرو بن دينار، لا يقدح في صحة الحديث لأنهما تابعيان ثقتان مكيان وقد سمع قيس من أقدم من عمرو، وبمثل هذا لا ترد الأخبار الصحيحة. ومنها حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد" وهو عند أصحاب السنن ورجاله مدنيون ثقات، ولا يضره أن سهيل بن أبي صالح نسيه بعد أن حدث به ربيعة لأنه كان بعد ذلك يرويه عن ربيعة عن نفسه عن أبيه، وقصته بذلك مشهورة في سنن أبي داود وغيرها. ومنها حديث جابر مثل حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي وابن ماجة وصححه ابن خزيمة وأبو عوانة. وفي الباب عن نحو من عشرين من الصحابة فيها الحسان والضعاف، وبدون ذلك تثبت الشهرة، ودعوى نسخه مردودة لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وأما احتجاج مالك في الموطأ بأن اليمين تتوجه على المدعي عند النكول ورد اليمين بغير حلف فإذا حلف ثبت الحق بغير خلاف فيكون حلف المدعي ومعه شاهد آخر أولى، فهو متعقب، ولا يرد على الحنفية لأنهم لا يقولون برد اليمين. وقال الشافعي القضاء بشاهد ويمين لا يخالف ظاهر القرآن لأنه لم يمنع أن يجوز أقل مما نص عليه، يعني والمخالف لذلك لا يقول بالمفهوم فضلا عن مفهوم العدد والله أعلم. وقال ابن العربي: أظرف ما وجدت لهم في رد الحكم بالشاهد واليمين أمران: أحدهما أن المراد قضى بيمين المنكر مع شاهد الطالب، والمراد أن الشاهد الواحد لا يكفي في ثبوت الحق فيجب اليمين على المدعى عليه، فهذا المراد بقوله قضى بالشاهد واليمين. وتعقبه ابن العربي بأنه جهل باللغة، لأن المعية تقتضي أن تكون من شيئين في جهة واحدة لا في المتضادين. ثانيهما حمله على صورة مخصوصة وهي أن رجلا اشترى من آخر عبدا مثلا فادعى المشتري أن به عيبا وأقام شاهدا واحدا فقال البائع بعته بالبراءة فيحلف المشتري أنه ما اشترى بالبراءة ويرد العبد، وتعقبه بنحو ما تقدم، ولأنها صورة نادرة ولا يحمل الخبر عليها. قلت: وفي كثير من الأحاديث الواردة في ذلك ما يبطل هذا التأويل والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: أحدها حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه، هكذا أخرجه في الرهن، وهنا مختصرا من طريق نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة، وأخرجه في تفسير آل عمران من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة مثله، وذكر فيه قصة المرأتين اللتين ادعت إحداهما على الأخرى أنها جرحتها، وقد أخرجه الطبراني من رواية سفيان عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" وقال: لم يروه عن سفيان إلا الفريابي، وأخرجه الإسماعيلي من رواية ابن جريج بلفظ: "ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب" وأخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن إدريس عن ابن جريج وعثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة قال: كنت قاضيا لابن الزبير على الطائف، فذكر قصة المرأتين، فكتبت إلى

(5/282)


ابن عباس، فكتب إلي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطي الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وهذه الزيادة ليست في الصحيحين، وإسنادها حسن. وقد بين صلى الله عليه وسلم الحكمة في كون البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطي الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم" وسيأتي في تفسير آل عمران. وقال العلماء الحكمة في ذلك لأن جانب المدعي ضعيف لأنه يقول خلاف الظاهر فكلف الحجة القوية وهي البينة لأنها لا تجلب لنفسها نفعا ولا تدفع عنها ضررا فيقوى بها ضعف المدعي، وجانب المدعى عليه قوي لأن الأصل فراغ في ذمته فاكتفي منه باليمين وهي حجة ضعيفة لأن الحالف يجلب لنفسه النفع ويدفع الضرر فكان ذلك في غاية الحكمة. واختلف الفقهاء في تعريف المدعي والمدعى عليه، والمشهور فيه تعريفان: الأول المدعي من يخالف قوله الظاهر والمدعى عليه بخلافه. والثاني من إذا سكت ترك وسكوته والمدعى عليه من لا يخلى إذا سكت، والأول أشهر، والثاني أسلم. وقد أورد على الأول بأن المودع إذا ادعى الرد أو التلف فإن دعواه تخالف الظاهر، ومع ذلك فالقول قوله وقيل في تعريفهما غير ذلك. واستدل بقوله: "اليمين على المدعى عليه" للجمهور بحمله على عمومه في حق كل واحد سواء كان بين المدعي والمدعى عليه اختلاط أم لا، وعن مالك لا تتوجه اليمين إلا على من بينه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل بتحليفهم مرارا، وقريب من مذهب مالك قول الإصطخري من الشافعية: إن قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدعي لم يلتفت إلى دعواه، واستدل بقوله: "لادعى ناس دماء ناس وأموالهم" على إبطال قول المالكية في التدمية، ووجه الدلالة تسويته صلى الله عليه وسلم بين الدماء والأموال. وأجيب بأنهم لم يسندوا القصاص مثلا إلى قول المدعي بل للقسامة، فيكون قوله ذلك لوثا يقوي جانب المدعي في بداءته بالأيمان. الحديث الثاني والثالث حديث الأشعث وعبد الله بن مسعود في سبب نزول قوله تعالى. {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الآية. وقد مضت الإشارة إليه قبل بباب. والمراد منه قوله: "شاهداك أو يمينه" وقد روي نحو هذه القصة وائل بن حجر وزاد فيها "ليس لك إلا ذلك" أخرجه مسلم وأصحاب السنن واستدل بهذا الحصر على رد القضاء باليمين والشاهد، وأجيب بأن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك" أي بينتك سواء كانت رجلين أو رجلا وامرأتين أو رجلا ويمين الطالب، وإنما خص الشاهدين بالذكر لأنه الأكثر الأغلب، فالمعنى شاهداك أو ما يقوم مقامهما، ولو لزم من ذلك رد الشاهد واليمين لكونه لم يذكر للزم رد الشاهد والمرأتين لكونه لم يذكر فوضح التأويل المذكور، والملجئ إليه ثبوت الخبر باعتبار الشاهد واليمين، فدل على أن ظاهر لفظ الشاهدين غير مراد بل المراد هو أو ما يقوم مقامه.

(5/283)


21 - باب: إِذَا ادَّعَى أَوْ قَذَفَ فَلَهُ أَنْ يَلْتَمِسَ الْبَيِّنَةَ وَيَنْطَلِقَ لِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ
2671- حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن هشام حدثنا عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما "أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة، أو حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل يقول: البينة وإلا حد في ظهرك. فذكر حديث اللعان"

(5/283)


قوله: "باب إذ ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة" أورد فيه طرفا من حديث ابن عباس في قصة المتلاعنين، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في مكانه، والغرض منه تمكين القاذف من إقامة البينة على زنا المقذوف لدفع الحد عنه، ولا يرد عليه أن الحديث ورد في الزوجين، والزوج له مخرج عن الحد باللعان إن عجز عن البينة بخلاف الأجنبي، لأنا نقول: إنما كان ذلك قبل نزول آيه اللعان حيث كان الزوج والأجنبي سواء، وإذا ثبت ذلك للقاذف ثبت لكل مدع من باب الأولى.

(5/284)


22 - باب: الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ
2672- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بطريق يمنع منه بن السبيل. ورجل بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفي له وإلا لم يف له. ورجل ساوم رجلا بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطى بها كذا وكذا فأخذها"
قوله: "باب اليمين بعد العصر" ذكر فيه حديث أبي هريرة "ثلاثة لا يكلمهم الله" الحديث، وفيه: "ورجل ساوم بسلعة بعد العصر فحلف" الحديث، وسيأتي الكلام عليه في الأحكام، ونذكر ما يتعلق به من تغليظ اليمين بالزمان في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى. قال المهلب: إنما خص النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوقت بتعظيم الإثم على من حلف فيه كاذبا لشهود ملائكة الليل والنهار ذلك الوقت انتهى. وفيه نظر، لأن بعد صلاة الصبح يشاركه في شهود الملائكة، ولم يأت فيه ما أتى في وقت العصر، ويمكن أن يكون اختص بذلك لكونه وقت ارتفاع الأعمال.

(5/284)


23 - باب: يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَلاَ يُصْرَفُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ
قَضَى مَرْوَانُ بِالْيَمِينِ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَقَالَ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ، وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْهُ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ" فَلَمْ يَخُصَّ مَكَانًا دُونَ مَكَانٍ"
2673- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد عن الأعمش عن أبي وائل عن بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين ليقتطع بها مالا لقي الله وهو عليه غضبان"
قوله: "باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره" أي: وجوبا، وهو قول الحنفية والحنابلة، وذهب الجمهور إلى وجوب التغليظ، ففي المدينة عند المنبر، وبمكة بين الركن والمقام، وبغيرهما بالمسجد الجامع. واتفقوا على أن ذلك في الدماء والمال الكثير لا في القليل، واختلفوا في حد القليل والكثير في ذلك. قوله: "قضى مروان" أي ابن الحكم "على زيد بن ثابت باليمين على المنبر فقال: أحلف له مكاني إلخ" وصله مالك في الموطأ عن داود بن الحصين عن أبي غطفان - بفتح المعجمة ثم المهملة ثم الفاء - المزي بضم الميم

(5/284)


24 - باب: إِذَا تَسَارَعَ قَوْمٌ فِي الْيَمِينِ
2674- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ"
قوله: "باب إذا تسارع قوم في اليمين" أي حيث تجب عليهم جميعا بأيهم يبدأ. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف" أي قبل الآخر، هذا اللفظ أخرجه النسائي أيضا عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق وقال فيه: "فأسرع الفريقان" وقد رواه أحمد عن عبد الرزاق شيخ شيخ البخاري فيه بلفظ: "إذا أكره الاثنان على اليمين واستحباها فليستهما عليها" وأخرجه أبو نعيم في مسند إسحاق بن

(5/285)


راهويه عن عبد الرزاق مثل رواية البخاري، وتعقبه بأنه رآه في أصل إسحاق عن عبد الرزاق باللفظ الذي رواه أحمد، قال: وقد وهم شيخنا أبو أحمد في ذلك انتهى. قلت: وهكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن عبد الرزاق، وأخرجه من طريق الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق مثله لكن قال: "فاستحباها"، وأخرجه أبو داود عن أحمد وسلمة بن شبيب عن عبد الرزاق بلفظ: "أو استحباها" قال الإسماعيلي: هذا هو الصحيح، أي أنه بلفظ: "أو" لا بالفاء ولا بالواو. قلت: ورواية الواو يمكن حملها على رواية أو، وأما رواية الفاء فيمكن توجيهها بأنهما أكرها على اليمين في ابتداء الدعوى، فلما عرفا أنهما لا بد لهما منها أجابا إليها وهو المعبر عنه بالاستحباب، ثم تنازعا أيهما يبدأ فأرشد إلى القرعة. وقال الخطابي وغيره: الإكراه هنا لا يراد به حقيقته، لأن الإنسان لا يكره على اليمين، وإنما المعني إذا توجهت اليمين على اثنين وأرادا الحلف - سواء كانا كارهين لذلك بقلبهما وهو معني الإكراه، أو مختارين لذلك بقلبهما وهو معنى الاستحباب - وتنازعا أيهما يبدأ فلا يقدم أحدهما على الآخر بالتشهي بل بالقرعة، وهو المراد بقوله: "فليستهما" أي فليقترعا. وقيل صورة الاشتراك في اليمين أن يتنازع اثنان عينا ليست في يد واحد منهما ولا بينة لواحد منهما فيقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حلف واستحقها. ويؤيد ذلك ما روى أبو داود والنسائي وغيرهما من طريق أبي رافع عن أبي هريرة "أن رجلين اختصما في متاع ليس لواحد منهما بينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: استهما على اليمين ما كان، أحبا ذلك أو كرها" وأما اللفظ الذي ذكره البخاري فيحتمل أن يكون عند عبد الرزاق فيه حديث آخر باللفظ المذكور، ويؤيده رواية أبى رافع المذكورة فإنها بمعناها، ويحتمل أن تكون قصة أخرى بأن يكون القوم المذكورون مدعى عليهم بعين في أيديهم مثلا وأنكروا ولا بينة للمدعى عليهم، فتوجهت عليهم اليمين، فتسارعوا إلى الحلف، والحلف لا يقع معتبرا إلا بتلقين المحلف، فقطع النزاع بينهم بالقرعة فمن خرجت له بدأ به في ذلك. والله أعلم.

(5/286)


باب قول الله تعالى (إن الذين يشبرون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ... الأية)
...
25 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
2675- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ السَّكْسَكِيُّ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "أَقَامَ رَجُلٌ سِلْعَتَهُ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِهَا. فَنَزَلَتْ [77 آل عمران]: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}
وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: "النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ"
2676 ، 2677- حدثنا بشر بن خالد حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين كاذبا ليقتطع مال الرجل - أو قال أخيه - لقي الله وهو عليه غضبان. وأنزل الله تصديق ذلك في القرآن {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ

(5/286)


اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً – إلى قوله - عَذَابٌ أَلِيمٌ} فلقيني الأشعث فقال: ما حدثكم عبد الله اليوم؟ قلت كذا وكذا قال: في أنزلت"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} ذكر فيه حديث ابن أبي أوفى في سبب نزولها، وحديث ابن مسعود والأشعث في نزولها أيضا، ولا تعارض بينهما لاحتمال أن تكون نزلت في كل من القصتين، وسيأتي مزيد بيان لذلك في التفسير. وقوله في طريق ابن أبي أوفى "حدثنا إسحاق حدثنا يزيد بن هارون" جزم أبو علي الغساني بأنه إسحاق بن منصور، وجزم أبو نعيم الأصبهاني بأنه إسحاق بن راهويه. وقوله: "أخبرنا العوام" هو ابن حوشب، وقوله: "قال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن" هو موصول بالإسناد المذكور إليه، وتقدم شرحه في باب النجش من كتاب البيوع.

(5/287)


26 - باب: كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ؟ قَالَ تَعَالَى {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ}
وَقَوْلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} يُقَالُ بِاللَّهِ وَتَاللَّهِ وَ وَاللَّهِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَرَجُلٌ حَلَفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا بَعْدَ الْعَصْرِ" وَلاَ يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللَّهِ
2678- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ رضي الله عنه يَقُولُ "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُهُ عَنْ الإِسْلاَمِ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ قَالَ لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ"
2679- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ قَالَ: ذَكَرَ نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ"
[الحديث 2679- أطرافه في: 3836 ، 6108 ، 6646 ، 6648]
قوله: "باب كيف يستحلف" هو بضم أوله وفتح اللام على البناء للمجهول. قوله: وقول الله عز وجل: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} إلى آخر ما ذكره من الآيات المناسبة لها، وغرضه بذلك أنه لا يجب تغليظ الحلف بالقول، قال ابن المنذر: اختلفوا فقالت طائفة يحلفه بالله من غير زيادة. وقال مالك: يحلفه بالله الذي لا إله إلا هو، وكذا قال الكوفيون والشافعي، قال: فإن اتهمه القاضي غلظه عليه فيزيد عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ونحو ذلك. قال ابن المنذر: وبأي ذلك استحلفه أجزأ. والأصل في ذلك أنه إذا حلف

(5/287)


بالله صدق عليه أنه حلف اليمين. قوله: "يقال بالله" أي بالموحدة "وتالله" أي بالمثناة "ووالله" أي بالواو، وكلها ورد بها القرآن، قال الله تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} وقال تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقال تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} . قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ورجل حلف بالله كاذبا بعد العصر" هو طرف من حديث أبي هريرة المتقدم قريبا موصولا في "باب اليمين بعد العصر" لكن بالمعنى، وسيأتي في الأحكام بلفظ: "فحلف لقد أعطي بها كذا فصدقه رجل ولم يعط بها". قوله: "ولا يحلف بغير الله" هو من كلام المصنف على سبيل التكميل للترجمة، وذلك مستفاد من حديث ابن عمر ثاني حديثي الباب حيث قال: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت". ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث طلحة في قصة الرجل الذي سأل عن الإسلام، وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان، والغرض منه قوله: "فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص" فإنه يستفاد منه الاقتصار على الحلف بالله دون زيادة. ثانيهما حديث ابن عمر "من كان حالفا فليحلف بالله" وسيأتي شرحه في كتاب الأيمان والنذور مستوفى إن شاء الله تعالى.

(5/288)


27 – باب: مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ،
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ" وَقَالَ طَاوُسٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَشُرَيْحٌ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ
2680- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا"
قوله: "باب من أقام البينة بعد اليمين" أي يمين المدعى عليه سواء رضي المدعي بيمين المدعى عليه أم لا، وقد ذهب الجمهور إلى قبول البينة. وقال مالك في "المدونة": إن استحلفه ولا علم له بالبينة ثم علمها قبلت وقضي له بها، وإن علمها فتركها فلا حق له. وقال ابن أبي ليلى: لا تسمع البينة بعد الرضا باليمين، واحتج بأنه إذا حلف فقد برئ وإذا برئ فلا سبيل عليه، وتعقب بأنه إنما يبرأ في الصورة الظاهرة لا في نفس الأمر. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض" هو طرف من حديث أم سلمة الموصول في الباب المذكور، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى، وفيه الإشارة إلى الرد على ابن أبي ليلى، وأن الحكم الظاهر لا يصير الحق باطلا في نفس الأمر ولا الباطل حقا. قوله: "وقال طاوس وإبراهيم" أي النخعي "وشريح: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة" أما قول طاوس وإبراهيم فلم أقف عليهما موصولين، وأما قول شريح فوصله البغوي في "الجعديات" من طريق ابن سيرين عن شريح قال: من ادعى قضائي فهو عليه حتى يأتي ببينة، الحق أحق من قضائي، الحق أحق من يمين فاجرة. وذكر ابن حبيب في "الواضحة" بإسناد له عن عمر قال: "البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة" قال أبو عبيد: إنما قيد اليمين بالفاجرة إشارة إلى أن محل ذلك ما إذا شهد على الحالف بأنه أقر، بخلاف ما حلف عليه فتبين أن يمينه حينئذ فاجرة، وإلا فقد يوفي الرجل ما عليه من الحق ويحلف على ذلك وهو صادق ثم تقوم عليه البينة التي شهدت بأصل الحق ولم يحضر الوفاء فلا تكون اليمين حينئذ فاجرة. ثم أورد المصنف حديث أم سلمة

(5/288)


مرفوعا: "أنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض" الحديث، قال الإسماعيلي: ليس في حديث أم سلمة دلالة على قبول البينة بعد يمين المنكر. وأجاب ابن المنير فقال: موضع الاستشهاد من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل اليمين الكاذبة مفيدة حلا ولا قطعا لحق المحق، بل نهاه بعد يمينه من القبض، وساوى بين حالتيه بعد اليمين وقبلها في التحريم، فيؤذن ذلك ببقاء حق صاحب الحق على ما كان عليه، فإذا ظفر في حقه ببينة فهو باق على القيام بها لم يسقط، كما لم يسقط أصل حقه من ذمة مقتطعة باليمين. وسيأتي الكلام على بقية شرح حديث أم سلمة في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.

(5/289)


28 - باب: مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ
وَذَكَرَ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَقَضَى ابْنُ الأَشْوَعِ بِالْوَعْدِ وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ
وَقَالَ: الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ قَالَ وَعَدَنِي فَوَفَى لِي
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَرَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ
2681- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: "سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ قَالَ وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ"
2682- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ"
2683- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: "لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلاَءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنٌ أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنَا قَالَ جَابِرٌ فَقُلْتُ وَعَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَنِي هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَ جَابِرٌ فَعَدَّ فِي يَدِي خَمْسَ مِائَةٍ ثُمَّ خَمْسَ مِائَةٍ ثُمَّ خَمْسَ مِائَةٍ"
2684- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ سَالِمٍ الأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيَّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لاَ أَدْرِي حَتَّى

(5/289)


أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ فَأَسْأَلَهُ فَقَدِمْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ فَعَلَ"
قوله: "باب من أمر بإنجاز الوعد" وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادة على نفسه قاله الكرماني. وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض، لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء ا هـ. ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور، لكن القائل به قليل. وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز. وعن بعض المالكية إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به وإلا فلا، فمن قال لآخر: تزوج ولك كذا فتزوج لذلك وجب الوفاء به. وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة هل تملك بالقبض أو قبله. وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على "الأذكار للنووي": ولم يذكر جوابا عن الآية، يعني قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وحديث: "آية المنافق" قال: والدلالة للوجوب منها قوية، فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد؟ وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك. قوله: "وفعله الحسن" أي الأمر بإنجاز الوعد. قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} في رواية النسفي "وذكر إسماعيل أنه كان صادق الوعد"، وروى ابن أبي حاتم من طريق الثوري أنه بلغه أن إسماعيل عليه السلام دخل قرية هو ورجل فأرسله في حاجة وقال له أنه ينظره، فأقام حولا في انتظاره. ومن طريق ابن شوذب أنه اتخذ ذلك الموضع مسكنا فسمي من يومئذ صادق الوعد. قوله: وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب" هو سعيد بن عمرو بن الأشوع، كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق وذلك بعد المائة، وقد وقع بيان روايته كذلك عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف "رأيت إسحاق بن إبراهيم" هو ابن راهويه "يحتج بحديث ابن أشوع" أي هذا الذي ذكره عن سمرة بن جندب، والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد. "تنبيه": وقع ذكر إسماعيل بين التعليق عن ابن الأشوع وبين نقل المصنف عن إسحاق في أكثر النسخ. والذي أوردته أولى والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: أحدها حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل، أورد منه طرفا، وقد تقدم موصولا في بدء الوحي مع الإشارة إلى كثير من شرحه. ثانيها حديث أبي هريرة في آية المنافق، وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان. ثالثها حديث جابر في قصته مع أبي بكر فيما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من مال البحرين، وسيأتي الكلام عليه في "باب فرض الخمس" ومضى شيء من ذلك في الكفالة، وأشار غير واحد إلى أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن بطال: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس بمكارم الأخلاق أدى أبو بكر مواعيده عنه، ولم يسأل جابرا البينة على ما ادعاه لأنه لم يدع شيئا في ذمة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ادعى شيئا في بيت المال، وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام. رابعها حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى. قوله: "عن سالم الأفطس" هو ابن عجلان الجزري، شامي ثقة، ليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الطب، وكذا الراوي عنه مروان بن شجاع، وقد تابع سالما على روايته لهذا الحديث حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير، وتابع سعيدا عكرمة عن ابن عباس، ورواه أيضا أبو ذر وأبو هريرة وعتبة

(5/290)


ابن النذر بضم النون وتشديد الذال المعجمة المفتوحة بعدها راء، وجابر وأبو سعيد، ورفعوه كلهم، وجميعها عند ابن مردويه في التفسير، وحديث عتبة وأبي ذر عند البزار أيضا، وحديث جابر عند الطبراني في الأوسط، ورواية عكرمة في مسند الحميدي. قوله: "سألني يهودي" لم أقف على اسمه، والحيرة بكسر المهملة بعدها تحتانية ساكنة بلد معروف بالعراق. قوله: "أي الأجلين" أي المشار إليهما في قوله تعالى: {ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} . قوله: "حبر العرب" بفتح المهملة وبكسرها ورجحه أبو عبيد، ورجح ابن قتيبة الفتح وسكون الموحدة، والمراد به العالم الماهر، وإنما عبر به سعيد لكونها مستعملة عند الذي خاطبه، وقد أخرج أبو نعيم من حديث ابن عباس مرفوعا أن جبريل سماه بذلك، ومراده بالقدوم على ابن عباس أي بمكة. قوله: "قضى أكثرهما وأطيبهما" كذا رواه سعيد بن جبير موقوفا، وهو في حكم المرفوع لأن ابن عباس كان لا يعتمد على أهل الكتاب كما سيأتي بيانه في الباب الذي يليه. وذكر ابن دريد في "المنثور" أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما غزا المغرب أرسل إلى ابن عباس جريجا فكلمه فقال: ما ينبغي لهذا إلا أن يكون حبر العرب، وقد صرح برفعه عكرمة عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما" أخرجه الحاكم، وفي حديث جابر "أوفاهما" أخرجه الطبراني في الأوسط، وفي حديث أبي سعيد "أتمهما وأطيبهما عشر سنين" والمراد بالأطيب أي في نفس شعيب. قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل" المراد برسول الله صلى الله عليه وسلم من اتصف بذلك ولم يرد شخصا بعينه. وفي رواية حكيم ابن جبير "أن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا وعد لم يخلف" زاد الإسماعيلي من الطريق التي أخرجها البخاري "قال سعيد: فلقيني اليهودي فأعلمته بذلك، فقال: صاحبك والله عالم" والغرض من ذكر هذا الحديث في هذا الباب بيان توكيد الوفاء بالوعد، لأن موسى صلى الله عليه وسلم لم يجزم بوفاء العشر، ومع ذلك فوفاها فكيف لو جزم. قال ابن الجوزي: لما رأى موسى عليه السلام طمع شعيب عليه السلام متعلقا بالزيادة لم يقتض كريم أخلاقه أن يخيب ظنه فيه.

(5/291)


29 - باب: لاَ يُسْأَلُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَنْ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِقَوْلِهِ عز وجل [14 المائدة]: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ وَ قُولُوا {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ} الْآيَةَ"
2685- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ الأَخْبَارِ بِاللَّهِ تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ فَقَالُوا [79 البقرة]: {هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} أَفَلاَ يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ؟ وَلاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ"
[الحديث 2685- أطرافه في: 7363 ، 7522 ، 7523]

(5/291)


قوله: "باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها" هذه الترجمة معقودة لبيان حكم شهادة الكفار، وقد اختلف في ذلك السلف على ثلاثة أقوال: فذهب الجمهور إلى ردها مطلقا، وذهب بعض التابعين إلى قبولها مطلقا - إلا على المسلمين - وهو مذهب الكوفيين فقالوا تقبل شهادة بعضهم على بعض، وهي إحدى، الروايتين عن أحمد وأنكرها بعض أصحابه واستثنى أحمد حالة السفر فأجاز فيها شهادة أهل الكتاب كما سيأتي بيانه في أواخر الوصايا إن شاء الله تعالى. وقال الحسن وابن أبي ليلى والليث وإسحاق: لا تقيل ملة على ملة وتقبل بعض الملة على بعضها لقوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وهذا أعدل الأقوال لبعده عن التهمة، واحتج الجمهور بقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وبغير ذلك من الآيات والأحاديث. قوله: "وقال الشعبي: لا تجوز شهادة أهل الملل إلخ" وصله سعيد بن منصور "حدثنا هشيم حدثنا داود عن الشعبي: لا تجوز شهادة مله على أخرى إلا المسلمين فإن شهادتهم جائزة على جميع الملل" وروى عبد الرزاق عن الثوري عن عيسى - وهو الخياط - عن الشعبي قال: كان يجيز شهادة النصراني على اليهودي واليهودي على النصراني. وروى ابن أبي شيبة من طريق أشعث عن الشعبي قال: تجوز شهادة أهل الملل للمسلمين بعضهم على بعض. قلت فاختلف فيه على الشعبي. وروى ابن أبي شيبة عن نافع وطائفة الجواز مطلقا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري الجواز مطلقا. قوله: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب إلخ" وصله في تفسير البقرة من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة وفيه قصة، وسيأتي الكلام عليه ثم إن شاء الله تعالى. والغرض منه هنا النهي عن تصديق أهل الكتاب فيما لا يعرف صدقه من قبل غيرهم، فيدل على رد شهادتهم وعدم قبولها كما يقول الجمهور. قوله في حديث ابن عباس: "يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب" أي من اليهود والنصارى. قوله: "وكتابكم" أي القرآن. قوله: "أحدث الأخبار بالله" أي أقربها نزولا إليكم من عند الله عز وجل، فالحديث بالنسبة إلى المنزول إليهم وهو في نفسه قديم، وقوله: "لم يشب" بضم أوله وفتح المعجمة بعدها موحدة أي لم يخلط، ووقع عند أحمد من حديث جابر مرفوعا: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا" الحديث. وسيأتي مزيد بسط في ذلك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. والغرض منه هنا الرد على من يقبل شهادة أهل الكتاب، وإذا كانت أخبارهم لا تقبل فشهادتهم مردودة بالأولى، لأن باب الشهادة أضيق من باب الرواية.

(5/292)


30 - باب: الْقُرْعَةِ فِي الْمُشْكِلاَتِ
وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ [44 آل عمران]: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اقْتَرَعُوا فَجَرَتْ الأَقْلاَمُ مَعَ الْجِرْيَةِ وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّاءَ الْجِرْيَةَ فَكَفَلَهَا زكَرِيَّاءُ
وَقَوْلِهِ [141الصافات]: {فَسَاهَمَ} أَقْرَعَ {فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} مِنْ الْمَسْهُومِينَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ "عَرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا فَأَمَرَ أَنْ يُسْهِمَ بَيْنَهُمْ: أَيُّهُمْ يَحْلِفُ"
2686- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي الشَّعْبِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ

(5/292)


اسْتَهَمُوا سَفِينَةً فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلاَهَا فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلاَهَا فَتَأَذَّوْا بِهِ فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ فَأَتَوْهُ فَقَالُوا مَا لَكَ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلاَ بُدَّ لِي مِنْ الْمَاءِ فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ"
2687- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ أَنَّ أُمَّ الْعَلاَءِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِمْ قَدْ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُ سَهْمُهُ فِي السُّكْنَى حِينَ أَقْرَعَتْ الأَنْصَارُ سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ قَالَتْ أُمُّ الْعَلاَءِ: فَسَكَنَ عِنْدَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ وَجَعَلْنَاهُ فِي ثِيَابِهِ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ لاَ أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ وَإِنِّي لاَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ قَالَتْ فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ قَالَتْ فَنِمْتُ فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ذَلكِ عَمَلُهُ"
2688- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
2689- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لاَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا"
قوله: "باب القرعة في المشكلات" أي مشروعيتها، ووجه إدخالها في كتاب الشهادات أنها من جملة البينات التي تثبت بها الحقوق، فكما تقطع الخصومة والنزاع بالبينة كذلك تقطع بالقرعة. ووقع في رواية السرخسي وحده "من المشكلات" والأول أوضح، وليست "من" للتبعيض إن كانت محفوظة، ومشروعية القرعة مما اختلف فيه،

(5/293)


والجمهور على القول بها في الجملة، وأنكرها بعض الحنفية، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة القول بها، وجعل المصنف ضابطها الأمر المشكل، وفسرها غيره بما ثبت فيه الحق لاثنين فأكثر وتقع المشاححة فيه فيقرع لفصل النزاع. وقال إسماعيل القاضي: ليس في القرعة إبطال الشيء من الحق كما زعم بعض الكوفيين، بل إذا وجبت القسمة بين الشركاء فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة ثم يقترعوا فيصير لكل واحد ما وقع له بالقرعة مجتمعا مما كان له في الملك مشاعا فيضم في موضع بعينه ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه لأن مقادير ذلك قد عدلت بالقيمة، وإنما أفادت القرعة أن لا يختار واحد منهم شيئا معينا فيختاره الأخر فيقطع التنازع، وهي إما في الحقوق المتساوية وإما في تعيين الملك، فمن الأول عقد الخلافة إذا استووا في صفة الإمامة، وكذا بين الأئمة في الصلوات والمؤذنين والأقارب في تغسيل الموتى والصلاة عليهم والحاضنات إذا كن في درجة والأولياء في التزويج والاستباق إلى الصف الأول وفي إحياء الموات وفي نقل المعدن ومقاعد الأسواق والتقديم بالدعوى عند الحاكم والتزاحم على أخذ اللقيط والنزول في الخان المسبل ونحوه وفي السفر ببعض الزوجات وفي ابتداء القسم والدخول في ابتداء النكاح وفي الإقراع بين العبيد إذا أوصي بعتقهم ولم يسعهم الثلث، وهذه الأخيرة من صور القسم الثاني أيضا وهو تعيين الملك ومن صور تعيين الملك الإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة. قوله: "وقوله عز وجل: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أشار بذلك إلى الاحتجاج بهذه القصة في صحة الحكم بالقرعة بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه ولا سيما إذا ورد في شرعنا تقريره، وساقه مساق الاستحسان والثناء على فاعله وهذا منه. قوله: "وقال ابن عباس إلخ" وصله ابن جرير بمعناه. وقوله: "وعال قلم زكريا" أي ارتفع على الماء. وفي رواية الكشميهني: "وعلا" وفي نسخة "وعدا" بالدال. و "الجرية" بكسر الجيم والمعنى أنهم اقترعوا على كفالة مريم أيهم يكفلها فأخرج كل واحد منهم قلما وألقوها كلها في الماء فجرت أقلام الجميع مع. الجرية إلى أسفل وارتفع قلم زكريا فأخذها. وأخرج ابن العديم في "تاريخ حلب" بسنده إلى شعيب بن إسحاق أن النهر الذي ألقوا فيه الأقلام هو نهر قويق النهر المشهور بحلب. قوله: "وقوله" أي وقول الله عز وجل. قوله: "فساهم أقرع" هو تفسير ابن عباس أخرجه ابن جرير من طريق معاوية بن صالح عن علي من أبي طلحة عنه، وروي عن السدي قال: قوله: "فساهم" أي قارع وهو أوضح. قوله: "فكان من المدحضين: من المسهومين" هو تفسير ابن عباس أيضا أخرجه ابن جرير بالإسناد المذكور بلفظ: "فكان من المقروعين". ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: "فكان من المسهومين" والاحتجاج بهذه الآية في إثبات القرعة يتوقف على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو كذلك ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذه المسألة من هذا القبيل، لأنه كان في شرعهم جواز إلقاء البعض لسلامة البعض، وليس ذلك في شرعنا لأنهم مستوون في عصمة الأنفس فلا يجوز إلقاؤهم بقرعة ولا بغيرها. قوله: "وقال أبو هريرة: عرض النبي صلى الله عليه وسلم إلخ" وصله قبل بأبواب، وتقدم الكلام عليه في "باب إذا تسارع قوم في اليمين" وهو حجة في العمل بالقرعة. ثم ذكر المصنف في الباب أيضا أربعة أحاديث الأول حديث أم العلاء في قصة عثمان بن مظعون وقد وتقدم الكلام عليه في أوائل الجنائز ويأتي في الهجرة شيء من ترجمة أم العلاء المذكورة وعثمان بن مظعون إن شاء الله تعالى والغرض منه قولها فيه أن عثمان بن مظعون طار له سهمه في

(5/294)


السكنى ومعنى ذلك أن المهاجرين لما دخلوا المدينة لم يكن لهم مساكن فاقترع الأنصار في انزامهم فصار عثمان بن مظعون لآل أم العلاء فنزل فيهم الثاني حديث عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه وهو طرف من أول حديث الإفك وباقيه يتعلق بالقسم وقد تقدم في باب هبة المرأة لغير زوجها وسبقت الإشارة إلى محل شرحه هناك الثالث حديث أبي هريرة لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا وقدتقدم مشروحا في أبواب الأذان من كتاب الصلاة والغرض منه لأن المراد بالاستهام هنا الإقرع وقد تقدم بيانه هناك الرابع حديث النعمان بن بشير. قوله: "مثل المدهن" بضم أوله وسكون المهملة وكسر الهاء بعدها نون أي المحابي بالمهملة والموحدة والمدهن والمداهن وأحد، والمراد به من يرائي ويضيع الحقوق ولا يغير المنكر. قوله: "والواقع فيها" كذا وقع هنا، وقد تقدم في الشركة من وجه آخر عن عامر وهو الشعبي "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها" وهو أصوب لأن المدهن والواقع أي مرتكبها في الحكم واحد، والقائم مقابله. ووقع عند الإسماعيلي في الشركة "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها" وهذا يشمل الفرق الثلاث وهو الناهي عن المعصية والواقع فيها والمرائي في ذلك، ووقع عند الإسماعيلي أيضا هنا "مثل الواقع في حدود الله تعالى والناهي عنها" وهو المطابق للمثل المضروب فإنه لم يقع فيه إلا ذكر فرقتين فقط لكن إذا كان المداهن مشتركا في الذم مع الواقع صارا بمنزلة فرقة واحدة، وبيان وجود الفرق الثلاث في المثل المضروب أن الذين أرادوا خرق السفينة بمنزله الواقع في حدود الله، ثم من عداهم إما منكر وهو القائم، وإما ساكت وهو المدهن. وحمل ابن التين قوله هنا "الواقع فيها" على أن المراد به القائم فيها واستشهد بقوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي قامت القيامة ولا يخفى ما فيه، وكأنه غفل عما وقع في الشركة من مقابلة الواقع بالقائم، وقد رواه الترمذي من طريق أبي معاوية عن الأعمش بلفظ: "مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها" وهو مستقيم. وقال الكرماني: قال في الشركة "مثل القائم" وهنا "مثل المدهن" وهما نقيضان، فإن القائم هو الآمر بالمعروف والمدهن هو التارك له، ثم أجاب بأنه حيث قال القائم نظر إلى جهة النجاة، وحيث قال المدهن نظر إلى جهة الهلاك ولا شك أن التشبيه مستقيم على الحالين. قلت: كيف يستقيم هنا الاقتصار على ذكر المدهن وهو التارك للأمر بالمعروف وعلى ذكر الواقع في الحد وهو العاصي وكلاهما هالك، فالذي يظهر أن الصواب ما تقدم. والحاصل أن بعض الرواة ذكر المدهن والقائم وبعضهم ذكر الواقع والقائم وبعضهم جمع الثلاثة، وأما الجمع بين المدهن والواقع دون القائم فلا يستقيم. قوله: "استهموا سفينة" أي اقترعوها، فأخذ كل واحد منهم سهما أي نصيبا من السفينة بالقرعة بأن تكون مشتركة بينهم إما بالإجارة وإما بالملك، وإنما تقع القرعة بعد التعديل، ثم يقع التشاح في الأنصبة فتقع القرعة لفصل النزاع كما تقدم. قال ابن التين: وإنما يقع ذلك في السفينة ونحوها فيما إذا نزلوها معا، أما لو سبق بعضهم بعضا فالسابق أحق بموضعه. قلت: وهذا فيما إذا كان مسبلة مثلا، أما لو كانت مملوكة لهم مثلا فالقرعة مشروعة إذا تنازعوا والله أعلم. قوله: "فتأذوا به" أي بالمار عليهم بالماء حالة السقي. قوله: "فأخذ فأسا" بهمزة ساكنة معروف ويؤنث. قوله: "ينقر" بفتح أوله وسكون النون وضم القاف أي يحفر ليخرقها. قوله: "فإن أخذوا على يديه" أي منعوه من الحفر "أنجوه ونجوا أنفسهم" هو تفسير للرواية الماضية في الشركة حيث قال:

(5/295)


"نجوا ونجوا" أي كل من الآخذين والمأخوذين، وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه، وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها. قال المهلب وغيره: في هذا الحديث تعذيب العامة بذنب الخاصة، وفيه نظر لأن التعذيب المذكور إذا وقع في الدنيا على من لا يستحقه فإنه يكفر من ذنوب من وقع به أو يرفع من درجته. وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف، وتبيين العالم الحكم بضرب المثل، ووجوب الصبر على أذى الجار إذا خشي وقوع ما هو أشد ضررا، وأنه ليس لصاحب السفل أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به، وأنه إن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر. وفيه جواز قسمة العقار المتفاوت بالقرعة وإن كان فيه علو وسفل. "تنبيه": وقع حديث النعمان هذا في بعض النسخ مقدما على حديث أم العلاء، وفي رواية أبي ذر وطائفة كما أوردته.
"خاتمة": اشتمل كتاب الشهادات وما اتصل به من القرعة وغير ذلك من الأحاديث المرفوعة على سنة وسبعين حديثا، المعلق منها أحد عشر حديثا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثمانية وأربعون حديثا والخالص ثمانية وعشرون، وافقه مسلم على تخريجها سوى خمسة أحاديث وهي حديث عمر "كان الناس يؤخذون بالوحي" وحديث عبد الله بن الزبير في قصة الإفك، وحديث القاسم بن محمد فيه وهو مرسل، وحديث أبي هريرة في الاستهام في اليمين، وحديث ابن عباس في الإنكار على من يأخذ عن أهل الكتاب. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين ثلاثة وسبعون أثرا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(5/296)


كتاب الصلح
باب ما جاء في الإصلاح بين الناس وقوله عز وجل (لا خير في كثير من نجواهم ... الآية)
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
53 - كِتَاب الصُّلْحِ
1 - باب: مَا جَاءَ فِي الإِصْلاَحِ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَوْلِ عز وجل [114 النساء]:
{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}
وَخُرُوجِ الإِمَامِ إِلَى الْمَوَاضِعِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بِأَصْحَابِهِ
2690- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ بِلاَلٌ فَأَذَّنَ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبِسَ وَقَدْ حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ فَقَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَأَقَامَ الصَّلاَةَ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ فَأَخَذَ النَّاسُ بِالتَّصْفِيحِ حَتَّى أَكْثَرُوا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَكَادُ يَلْتَفِتُ فِي الصَّلاَةِ فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَهُ فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ كَمَا هُوَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلاَتِكُمْ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلاَّ الْتَفَتَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ لَمْ تُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
2691- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبَ حِمَارًا فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِلَيْكَ عَنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ مِنْهُمْ وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَشَتَمَهُ فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأَيْدِي وَالنِّعَالِ فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [9 الحجرات]

(5/297)


قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الصلح" كذا للنسفي والأصيلي وأبي الوقت. ولغيرهم "باب". وفي نسخة الصغاني "أبواب الصلح. باب ما جاء" وحذف هذا كله في رواية أبي ذر، واقتصر على قوله: "ما جاء في الإصلاح بين الناس" وزاد عن الكشميهني: "إذا تفاسدوا". والصلح أقسام: صلح المسلم مع الكافر، والصلح بين الزوجين، والصلح بين الفئة الباغية والعادلة، والصلح بين المتغاضبين كالزوجين، والصلح في الجراح كالعفو على مال، والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة إما في الأملاك أو في المشتركات كالشوارع، وهذا الأخير هو الذي يتكلم فيه أصحاب الفروع، وأما المصنف فترجم هنا لأكثرها. قوله: "وقول الله عز وجل: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} إلى آخر الآية" التقدير إلا نجوى من إلخ فإن في ذلك الخير، ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا أي لكن من أمر بصدقة إلخ فإن في نجواه الخير، وهو ظاهر في فضل الإصلاح. قوله: "وخروج الإمام" إلى آخر بقية الترجمة. ثم أورد المصنف حديثين: أحدهما حديث سهل بن سعد في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الإصلاح بين بني عمرو بن عوف، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإمامة، وهو ظاهر فيما ترجم له. ثانيهما حديث أنس في المعنى قوله: "حدثنا معتمر" هو ابن سليمان التيمي، والإسناد كله بصريون. ووقع في نسخة الصغاني في آخر الحديث ما نصه: قال أبو عبد الله - وهو المصنف - هذا ما انتخبته من حديث مسدد قبل أن يجلس ويحدث. قوله: "أن أنسا قال" كذا في جميع الروايات ليس فيه تصريح بتحديث أنس لسليمان التيمي، وأعله الإسماعيلي بأن سليمان لم يسمعه من أنس، واعتمد على رواية المقدمي عن معتمر عن أبيه أنه بلغه عن أنس بن مالك. قوله: "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم" لم أقف على اسم القائل. قوله: "لو أتيت عبد الله بن أبي" أي ابن سلول الخزرجي المشهور بالنفاق. قوله: "وهي أرض سبخة" بفتح المهملة وكسر الموحدة بعدها معجمة أي ذات سباخ، وهي الأرض التي لا تنبت، وكانت تلك صفة الأرض التي مر بها صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، وذكر ذلك للتوطئة لقول عبد الله بن أبي إذ تأذى بالغبار. قوله: "فقال رجل من الأنصار منهم إلخ" لم أقف على اسمه أيضا، وزعم بعض الشراح أنه عبد الله بن رواحة، ورأيت بخط القطب أن السابق إلى ذلك الدمياطي ولم يذكر مستنده في ذلك فتتبعت ذلك فوجدت حديث أسامة بن زيد الآتي في تفسير آل عمران بنحو قصة أنس، وفيه أنه وقعت بين عبد الله بن رواحة وبين عبد الله بن أبي مراجعة، لكنها في غير ما يتعلق بالذي ذكر هنا، فإن كانت القصة متحدة احتمل ذلك، لكن سياقها ظاهر في المغايرة، لأن في حديث أسامة أنه صلى الله عليه وسلم أراد عيادة سعد بن عبادة فمر بعبد الله بن أبي. وفي حديث أنس هذا أنه صلى الله عليه وسلم دعي إلى إتيان عبد الله بن أبي، ويحتمل اتحادهما بأن الباعث على توجهه العيادة فاتفق مروره بعبد الله بن أبي فقيل له حينئذ لو أتيته فأتاه، ويدل على اتحادهما أن في حديث أسامة "فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه". قوله: "فغضب لعبد الله" أي ابن أبي "رجل من قومه" لم أقف على اسمه. قوله: "فشتما" كذا للأكثر أي شتم كل واحد منهما الآخر. وفي رواية الكشميهني فشتمه. قوله: "ضرب بالجريد" كذا للأكثر بالجيم والراء. وفي رواية الكشميهني: "بالحديد" بالمهملة والدال، والأول أصوب. ووقع في حديث أسامة "فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا". قوله: "فبلغنا" القائل ذلك هو أنس بن مالك، بينه الإسماعيلي في روايته المذكورة من طريق المقدمي فقال في آخره: "قال أنس: فأنبئت أنها نزلت فيهم" ولم أقف على اسم الذي أنبأ أنسا بذلك، ولم يقع ذلك في حديث أسامة بل في آخره: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن

(5/298)


المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى" إلى آخر الحديث. وقد استشكل ابن بطال نزول الآية المذكورة وهي قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} في هذه القصة، لأن المخاصمة وقعت بين من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه وبين أصحاب عبد الله بن أبي، وكانوا إذ ذاك كفارا فكيف ينزل فيهم: {طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ولا سيما إن كانت قصة أنس وأسامة متحدة، فإن في رواية أسامة فاستب المسلمون والمشركون. قلت: يمكن أن يحمل على التغليب، مع أن فيها إشكالا من جهة أخرى وهي أن حديث أسامة صريح في أن ذلك كان قبل وقعة بدر وقبل أن يسلم عبد الله بن أبي وأصحابه، والآية المذكورة في الحجرات ونزولها متأخر جدا وقت مجيء الوفود، لكنه يحتمل أن تكون آية الإصلاح نزلت قديما فيندفع الإشكال. "تنبيه": القصة التي في حديث أنس مغايرة للقصة التي في حديث سهل بن سعد الذي قبله، لأن قصة سهل في بني عمرو بن عوف وهم من الأوس وكانت منازلهم بقباء، وقصة أنس في رهط عبد الله بن أبي وسعد بن عبادة وهم من الخزرج وكانت منازلهم بالعالية، ولم أقف على سبب المخاصمة بين بني عمرو بن عوف في حديث سهل والله أعلم. وفي الحديث بيان ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الصفح والحلم والصبر على الأذى في الله والدعاء إلى الله وتأليف القلوب على ذلك، وفيه أن ركوب الحمار لا نقص فيه على الكبار. وفيه ما كان الصحابة عليه من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم والأدب منه والمحبة الشديدة، وأن الذي يشير على الكبير بشيء يورده بصورة العرض عليه لا الجزم. وفيه جواز المبالغة في المدح لأن الصحابي أطلق أن ريح الحمار أطيب من ريح عبد الله بن أبي وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

(5/299)


2 - باب: لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ
2692- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا"
قوله: "باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس" ترجم بلفظ: "الكاذب" وساق الحديث بلفظ: "الكذاب" واللفظ الذي ترجم به لفظ معمر عن ابن شهاب وهو عند مسلم، وكان حق السياق أن يقول: ليس من يصلح بين الناس كاذبا، لكنه ورد على طريق القلب وهو سائغ. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان، والإسناد كله مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق، وأم كلثوم بنت عقبة أي ابن أبي معيط الأموية. قوله: "فينمي" بفتح أوله وكسر الميم أي يبلغ، تقول نميت الحديث أنميه إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير، فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة قلت نميته بالتشديد كذا قاله الجمهور، وادعى الحربي أنه لا يقال إلا نميته بالتشديد، قال: ولو كان ينمي بالتخفيف للزم أن يقول خير بالرفع، وتعقبه ابن الأثير بأن "خيرا" انتصب بينمي كما ينتصب بقال، وهو واضح جدا يستغرب من خفاء مثله على الحربي. ووقع في رواية: "الموطأ" ينمي بضم أوله، وحكى ابن قرقول عن رواية ابن الدباغ بضم أوله وبالهاء بدل الميم قال: وهو تصحيف، ويمكن تخريجه على معنى يوصل تقول: أنهيت إليه كذا إذا أوصلته. قوله: "أو يقول خيرا" هو شك من الراوي، قال العلماء: المراد هنا أنه يخبر بما علمه من الخير

(5/299)


ويسكت عما علمه من الشر ولا يكون ذلك كذبا لأن الكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به، وهذا ساكت، ولا ينسب لساكت قول. ولا حجة فيه لمن قال: يشترط في الكذب القصد إليه لأن هذا ساكت، وما زاده مسلم والنسائي من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه في آخره: "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث" فذكرها، وهي الحرب وحديث الرجل لامرأته والإصلاح بين الناس، وأورد النسائي أيضا هذه الزيادة من طريق الزبيدي عن ابن شهاب، وهذه الزيادة مدرجة، بين ذلك مسلم في روايته من طريق يونس عن الزهري فذكر الحديث قال: وقال الزهري. وكذا أخرجها النسائي مفردة من رواية يونس وقال: يونس أثبت في الزهري من غيره، وجزم موسى بن هارون وغيره بإدراجها، ورويناه في "فوائد ابن أبي ميسرة" من طريق عبد الوهاب بن رفيع عن ابن شهاب فساقه بسنده مقتصرا على الزيادة وهو وهم شديد، قال الطبري: ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح وقالوا: إن الثلاث المذكورة كالمثال، وقالوا: الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة، أو ما ليس فيه مصلحة. وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء مطلقا وحملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض كمن يقول للظالم: دعوت لك أمس، وهو يريد قوله اللهم اغفر للمسلمين. ويعد امرأته بعطية شيء ويريد إن قدر الله ذلك. وأن يظهر من نفسه قوة. قلت: وبالأول جزم الخطابي وغيره، وبالثاني جزم المهلب والأصيلي وغيرهما، وسيأتي في "باب الكذب في الحرب" في أواخر الجهاد مزيد لهذا إن شاء الله تعالى. واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها، وكذا في الحرب في غير التأمين. واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم. والله أعلم.

(5/300)


3 - باب: قَوْلِ الإِمَامِ لِأَصْحَابِهِ اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ
2693- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ قَالاَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ"
قوله: "باب قول الإمام لأصحابه اذهبوا بنا نصلح" ذكر فيه طرفا من حديث سهل بن سعد الماضي في أوائل كتاب الصلح، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقوله في أول الإسناد "حدثنا محمد بن عبد الله" كذا للأكثر، ووقع في رواية النسفي وأبي أحمد الجرجاني بإسقاطه فصار الحديث عندهما عن البخاري عن عبد العزيز وإسحاق، وعبد العزيز الأويسي من مشايخ البخاري وهو الذي أخرج عنه الحديث الذي في الباب قبله، وروى عنه هذا بواسطة، وكذلك إسحاق بن محمد الفروي حدث عنه بواسطة وبغير واسطة، ومحمد بن جعفر شيخهما هو ابن أبي كثير، والإسناد كله مدنيون. وأما محمد بن عبد الله المذكور فجزم الحاكم بأنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس الذهلي، نسبه إلى جده. والله أعلم.

(5/300)


باب قول الله تعالى (أن يصلحا بينهما صلحا... الآية)
...
4 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [128 النساء]: {أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}
2694- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} قالت "هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كبرا أو غيره فيريد فراقها، فتقول: أمسكني، واقسم لي ما شئت. قالت فلا بأس إذا تراضيا"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} أورد فيه حديث عائشة في تفسير الآية، وسيأتي شرحه في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى.

(5/301)


5 - باب: إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَالصُّلْحُ مَرْدُودٌ
2665 ، 2696- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالاَ "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ صَدَقَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَقَالُوا لِي عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ لِرَجُلٍ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا"
2697- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ"
رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيُّ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
قوله: "باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود" يجوز في صلح جور الإضافة وأن ينون صلح ويكون جور صفة له. ذكر فيه حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف، وسيأتي شرحها مستوفى في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. والغرض منه هنا قوله في الحديث: "الوليدة والغنم رد عليك" لأنه في معنى الصلح عما وجب على العسيف من الحد، ولما كان ذلك لا يجوز في الشرع كان جورا. قوله: "حدثنا يعقوب" كذا للأكثر غير منسوب، وانفرد ابن السكن بقوله: "يعقوب بن محمد"، ووقع نظير هذا في المغازي في "باب فضل من شهد بدرا" قال البخاري: "حدثنا يعقوب حدثنا إبراهيم بن سعد" فوقع عند ابن السكن "يعقوب بن محمد" أي الزهري، وعند الأكثر غير منسوب، لكن قال أبو ذر في روايته في المغازي "يعقوب بن إبراهيم أي الدورقي" وقد روى البخاري في الطهارة "عن يعقوب بن إبراهيم عن إسماعيل بن علية حدثنا" فنسبه أبو ذر في روايته فقال: "الدورقي" وجزم الحاكم بأن يعقوب المذكور هنا هو ابن محمد كما في رواية ابن السكن، وجزم أبو

(5/301)


أحمد الحاكم وابن منده والحبال وآخرون بأنه يعقوب بن حميد بن كاسب، ورد ذلك البرقاني بأن يعقوب بن حميد ليس من شرطه، وجوز أبو مسعود أنه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ورد عليه بأن البخاري لم يلقه فإنه مات قبل أن يرحل، وأجاب البرقاني عنه بجواز سقوط الواسطة وهو بعيد، والذي يترجح عندي أنه الدورقي حملا لما أطلقه على ما قيده، وهذه عادة البخاري لا يهمل نسبة الراوي إلا إذا ذكرها في مكان آخر فيهملها استغناء بما سبق والله أعلم. وقد جزم أبو علي الصدفي بأنه الدورقي، وكذا جزم أبو نعيم في "المستخرج" بأن البخاري أخرج هذا الحديث الذي في الصلح عن يعقوب بن إبراهيم. قوله: "عن أبيه" هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ووقع منسوبا كذلك في مسلم وقال في روايته: "حدثنا أبي". قوله: "عن القاسم" في رواية الإسماعيلي من طريق محمد بن خالد الواسطي عن إبراهيم بن سعد عن أبيه أن رجلا من آل أبي جهل أوصى بوصايا فيها أثرة في ماله، فذهبت إلى القاسم بن محمد أستشيره فقال القاسم "سمعت عائشة" فذكره. وسيأتي بيان الأثرة المذكورة في رواية المخرمي المعلقة عن العلاء بن عبد الجبار. قوله: "رواه عبد الله بن جعفر المخرمي" بفتح الميم وسكون المعجمة وفتح الراء نسبة إلى المسور بن مخرمة، فجعفر هو ابن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وروايته هذه وصلها مسلم من طريق أبي عامر العقدي والبخاري في "كتاب خلق أفعال العباد" كلاهما عنه عن سعد بن إبراهيم "سألت القاسم بن محمد عن رجل له مساكن فأوصى بثلث كل مسكن منها قال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد" فذكر المتن بلفظ: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وليس لعبد الله بن جعفر في البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "وعبد الواحد بن أبي عون" وصله الدار قطني من طريق عبد العزيز بن محمد عنه بلفظ: "من فعل أمرا ليس عليه أمرنا فهو رد" وليس لعبد الواحد أيضا في البخاري سوى هذا الموضع، وقد رويناه في "كتاب السنة لأبي الحسين بن حامد" من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الواحد وفيه قصة قال: "عن سعد بن إبراهيم قال كان الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب أوصى بوصية، فجعل بعضها صدقة وبعضها ميراثا وخلط فيها، وأنا يومئذ على القضاء، فما دريت كيف أقضي فيها، فصليت بجنب القاسم بن محمد فسألته فقال: أجز من ماله الثلث وصية، ورد سائر ذلك ميراثا، فإن عائشة حدثتني" فذكره بلفظ إبراهيم بن سعد. وفي هذه الرواية دلالة على أن قوله في رواية الإسماعيلي المتقدمة "من آل أبي جهل" وهم، وإنما هو من آل أبي لهب، وعلى أن قوله في رواية مسلم: "يجمع ذلك كله في مسكن واحد" هو بقية الوصية وليس هو من كلام القاسم بن محمد، لكن صرح أبو عوانة في روايته بأنه كلام القاسم بن محمد، وهو مشكل جدا، فالذي أوصى بثلث كل مسكن أوصى بأمر جائز اتفاقا، وأما إلزام القاسم بأن يجمع في مسكن واحد ففيه نظر لاحتمال أن يكون بعض المساكن أغلى قيمة من بعض، لكن يحتمل أن تكون تلك المساكن متساوية فيكون الأولى أن تقع الوصية بمسكن واحد من الثلاثة، ولعله كان في الوصية شيء زائد على ذلك يوجب إنكارها كما أشارت إليه رواية أبي الحسين بن حامد والله أعلم. وقد استشكل القرطبي شارح مسلم ما استشكلته، وأجاب عنه بالحمل على ما إذا أراد أحد الفريقين الفدية، أو الموصى لهم القسمة وتمييز حقه، وكانت المساكن بحيث يضم بعضها إلى بعض في القسمة، فحينئذ تقوم المساكن قيمة التعديل ويجمع نصيب الموصى لهم في موضع واحد ويبقى نصيب الورثة فيما عدا ذلك والله أعلم. وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه. قال النووي: هذا الحديث

(5/302)


مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك. وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع، لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه، لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود. فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأولى. ومفهومه أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح. فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث والأولى فيها النزاع، فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع، لكن هذا الثاني لا يوجد، فإذا حديث الباب نصف أدلة الشرع والله أعلم. وقوله: "رد" معناه مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول، مثل خلق ومخلوق ونسخ ومنسوخ، وكأنه قال: فهو باطل غير معتد به، واللفظ الثاني وهو قوله: "من عمل" أعم من اللفظ الأول وهو قوله: "من أحدث" فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفيه رد المحدثات وأن النهي يقتضي الفساد، لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها، ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر لقوله: "ليس عليه أمرنا" والمراد به أمر الدين، وفيه أن الصلح الفاسد منتقض، والمأخوذ عليه مستحق الرد.

(5/303)


باب كيف يكتب (هذا ما صالح فلان فلان فلان بن فلان وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه)
...
6 - باب: كَيْفَ يُكْتَبُ "هَذَا مَا صَالَحَ فُلاَنُ بْن فُلاَنٍ وَفُلاَنُ بْن فُلاَنٍ" وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبِهِ
2698- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَهُمْ كِتَابًا فَكَتَبَ "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لاَ تَكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَوْ كُنْتَ رَسُولًا لَمْ نُقَاتِلْكَ فَقَالَ لِعَلِيٍّ امْحُهُ فَقَالَ عَلِيٌّ مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلاَ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ فَسَأَلُوهُ مَا جُلُبَّانُ السِّلاَحِ فَقَالَ الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ"
2699- حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام. فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا نقر بها، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمد عبد الله. قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله ، ثم قال لعلي: امح "رسول الله" قال: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب: هذا

(5/303)


ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع أحدا من أصحابه أراد أن يقيم بها. فلما دخلها ومضى الأجل أتوا علياً فقالوا: قل لصاحبك أخرج عنا فقد مضى الأجل. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعتهم ابنة حمزة - يا عم، يا عم - فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك احمليها. فاختصم فيها علي وزيد وجعفر. فقال علي: أنا أحق بها وهي ابنة عمي وخالتها تحتي. وقال زيد ابنة أخي فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: الخالة بمنزلة الأم، وقال لعلي أنت مني وأنا منك. وقال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي. وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا"
قوله: "باب كيف يكتب: هذا ما صالح فلان ابن فلان فلان ابن فلان، وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه" أي إذا كان مشهورا بدون ذلك بحيث يؤمن اللبس فيه فيكتفى في الوثيقة بالاسم المشهور ولا يلزم ذكر الحد والنسب والبلد ونحو ذلك. وأما قول الفقهاء: يكتب في الوثائق اسمه واسم أبيه وجده ونسبه، فهو حيث يخشى اللبس، وإلا فحيث يؤمن اللبس فهو على الاستحباب. واختلف في ضبط هذه اللفظة وهي قوله: "ونسبه" فقيل بالجر عطفا على قبيلته وعلى هذا فالتردد بين القبيلة والنسبة، وقيل بالنصب فعل ماض معطوف على المنفي، أي سواء نسبه أو لم ينسبه، والأول أولى، وبه جزم الصغاني. قوله: "لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم هل الحديبية كتب علي" سيأتي في الشروط من حديث المسور بن مخرمة بيان سبب ذلك مطولا، وقد ذكر المصنف هنا من طريق إسرائيل عن ابن إسحاق هذا الحديث أتم سياقا من طريق شعبة، ويأتي شرحه في "باب عمرة القضاء" من المغازي إن شاء الله تعالى. ونذكر هناك بيان الخلاف في مباشرته صلى الله عليه وسلم الكتابة، والغرض منه هنا اقتصار الكاتب على قوله: "محمد رسول الله" ولم ينسبه إلى أب ولا جد، وأقره صلى الله عليه وسلم اقتصر على محمد بن عبد الله بغير زيادة، وذلك كله لأمن الالتباس.

(5/304)


7 - باب: الصُّلْحِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ
وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ثُمَّ تَكُونُ هُدْنَةٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ وَفِيهِ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ "لقد رأيتنا يوم أبي اجندل" وَأَسْمَاءُ، وَالْمِسْوَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2700- وَقَالَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "صَالَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ وَعَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ قَابِلٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلاَ يَدْخُلَهَا إِلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ السَّيْفِ وَالْقَوْسِ وَنَحْوِهِ فَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ يَحْجُلُ فِي قُيُودِهِ فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: لَمْ يَذْكُرْ مُؤَمَّلٌ عَنْ سُفْيَانَ أَبَا جَنْدَلٍ وَقَالَ: "إِلاَّ بِجُلُبِّ السِّلاَحِ"

(5/304)


8 - باب: الصُّلْحِ فِي الدِّيَةِ
2703- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ فَطَلَبُوا الأَرْشَ وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا فَقَالَ يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّهُ زَادَ الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ "فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الأَرْشَ"
[الحديث 2703- أطرافه في: 2806 ، 4499 ، 4500 ، 4611 ، 6894]
قوله: "باب الصلح في الدية" أي بأن يجب القصاص فيقع الصلح على مال معين، ذكر فيه حديث أنس في قصة الربيع - وهو بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتانية المكسورة - وهي عمة أنس. وقوله زاد الفزاري يعني مروان بن معاوية. قوله: "فرضي القوم وقبلوا الأرش" أي زاد على رواية الأنصاري ذكر قبولهم الأرش، والذي وقع في رواية الأنصاري "فرضي القوم وعفوا" وظاهره أنهم تركوا القصاص والأرش مطلقا، فأشار المصنف إلى الجمع بينهما بأن قوله عفوا محمول على أنهم عفوا عن القصاص على قبول الأرش جمعا بين الروايتين، وطريق الفزاري هذه وصلها المؤلف في تفسير سورة المائدة، وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى.

(5/306)


9 - باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
"ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
2704- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: "اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِنِّي لاَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ أَيْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ فَقَالَ اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ وَقُولاَ لَهُ وَاطْلُبَا إِلَيْهِ فَأَتَيَاهُ

(5/306)


10 - باب: هَلْ يُشِيرُ الإِمَامُ بِالصُّلْحِ؟
2705-حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أُمَّهُ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ "سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الْآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لاَ أَفْعَلُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لاَ يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ"
2706- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الأَعْرَجِ قَالَ: "حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ مَالٌ فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا كَعْبُ - فَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: النِّصْفَ - فَأَخَذَ نِصْفَ مَا لَهُ عَلَيْهِ وَتَرَكَ نِصْفًا"
قوله: "باب هل يشير الإمام بالصلح" أشار بهذه الترجمة إلى الخلاف، فإن الجمهور استحبوا للحاكم أن يشير

(5/307)


بالصلح وإن اتجه الحق لأحد الخصمين، ومنع من ذلك بعضهم وهو عن المالكية، وزعم ابن التين أنه ليست في حديثي الباب ما ترجم به وإنما فيه الحض على ترك بعض الحق، وتعقب بأن الإشارة بذلك بمعنى الصلح، على أن المصنف ما جزم بذلك فكيف يعترض عليه. قوله: "حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أخي" هو أبو بكر عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، وأبو الرجال بالجيم محمد بن عبد الرحمن أي ابن حارثه بن النعمان الأنصاري كنيته أبو عبد الرحمن، وقيل له أبو الرجال لأنه ولد له عشرة ذكور، وهو من صغار التابعين، وكذا الراوي عنه؛ والإسناد كله مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق منهم قرينان. وهذا الحديث أخرجه مسلم قال: "حدثنا غير واحد عن إسماعيل من أبي أويس" فعده بعضهم في المنقطع والتحقيق أنه متصل في إسناده مبهم، وقد رواه عن إسماعيل أيضا محمد بن يحيى الذهلي أخرجه أبو عوانة والإسماعيلي وغيرهما من طريقه، وأخرجه أبو عوانة أيضا من طريق إبراهيم بن الحسين الكسائي وإسماعيل بن إسحاق القاضي، ورويناه في "المحامليات" عن عبد الله بن شبيب، فيحتمل أن يفسر من أبهمه مسلم بهؤلاء أو بعضهم، ولم ينفرد به إسماعيل بل تابعه أيوب بن سفيان عن أبي بكر بن أبي أويس أخرجه الإسماعيلي أيضا، ولا انفرد به يحيى بن سعيد فقد أخرجه ابن حبان من طريق عبد الرحمن ابن أبي الرجال عن أبيه. قوله: "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهم" في رواية: "أصواتهما"، وكأنه جمع باعتبار من حضر الخصومة وثنى باعتبار الخصمين، أو كأن التخاصم من الجانبين بين جماعة فجمع ثم ثنى باعتبار جنس الخصم، وليس فيه حجة لمن جوز صيغة الجمع بالاثنين كما زعم بعض الشراح، ويجوز في قوله: "عالية" الجر على الصفة والنصب على الحال. قوله: "وإذا أحدهما يستوضع الآخر" أي يطلب منه الوضيعة، أي الحطيطة من الدين. قوله: "ويسترفقه" أي يطلب منه الرفق به. وقوله: "في شيء" وقع بيانه في رواية ابن حبان فقال في أول الحديث: "دخلت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني ابتعت أنا وابني من فلان تمرا فأحصيناه. لا والذي أكرمك بالحق ما أحصينا منه إلا ما نأكله في بطوننا أو نطعمه مسكينا، وجئنا نستوضعه ما نقصنا" الحديث، فظهر بهذا ترجيح ثاني الاحتمالين المذكورين قبل، وأن المخاصمة وقعت بين البائع وبين المشتريين ولم أقف على تسمية واحد منهم، وأما تجويز بعض الشراح أن المتخاصمين هما المذكوران في الحديث الذي يليه ففيه بعد لتغاير القصتين، وعرف بهذه الزيادة أصل القصة. قوله: "أين المتألي" بضم الميم وفتح المثناة والهمزة وتشديد اللام المكسورة أي الحالف المبالغ في اليمين، مأخوذ من الألية بفتح الهمزة وكسر اللام وتشديد التحتانية وهي اليمين. وفي رواية ابن حبان: "فقال آلى أن لا يصنع خيرا ثلاث مرات فبلغ ذلك صاحب التمر". قوله: "فله أي ذلك أحب" أي من الوضع أو الرفق، وفي رواية ابن حبان: "فقال إن شئت وضعت ما نقصوا إن شئت من رأس المال، فوضع ما نقصوا" وهو يشعر بأن المراد بالوضع الحط من رأس المال، وبالرفق الاقتصار عليه وترك الزيادة، لا كما زعم بعض الشراح أنه يريد بالرفق الإمهال، وفي هذا الحديث الحض على الرفق بالغريم والإحسان إليه بالوضع عنه، والزجر عن الحلف على ترك فعل الخير، قال الداودي: إنما كره ذلك لكونه حلف على ترك أمر عسى أن يكون قد قدر الله وقوعه، وعن المهلب نحوه، وتعقبه ابن التين بأنه لو كان كذلك لكره الحلف لمن حلف ليفعلن خيرا، وليس كذلك بل الذي يظهر أنه كره له قطع نفسه عن فعل الخير، قال: ويشكل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال والله لا أزيد على هذا ولا أنقص "أفلح إن صدق" ولم يكر عليه حلفه على

(5/308)


القرطبي: لعل من أطلق كراهته أراد أنه خلاف الأولى. وفيه هبة المجهول، كذا قال ابن التين، وفيه نظر لما قدمناه من رواية ابن حبان والله أعلم. قوله: "حدثنا يحيى بن بكير" تقدم حديث كعب بهذا الإسناد في أول الملازمة، وتقدم شرح الحديث مستوفى في "باب التقاضي والملازمة في المسجد" من كتاب الصلاة، وأفاد ابن أبي شيبة في روايته أن الدين المذكور كان أوقيتين، قال ابن بطال: هذا الحديث أصل لقول الناس: خير الصلح على الشطر.

(5/309)


11 - باب: فَضْلِ الإِصْلاَحِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ
2707- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ سُلاَمَى مِنْ النَّاس عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ صَدَقَةٌ"
[الحديث 2707- طرفاه في: 2891 ، 2989]
قوله: "باب فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم" أورد فيه حديث أبي هريرة "تعدل بين الناس صدقة" وهو طرف من حديث طويل يأتي في الجهاد، ووقع هنا في أول الإسناد "حدثنا إسحاق" غير منسوب في جميع الروايات إلا عن أبي ذر فقال: "إسحاق بن منصور" ووقع في الجهاد في موضعين أحدهما "إسحاق بن نصر" والآخر "إسحاق" غير منسوب. وسياق إسحاق بن نصر مغاير لسياق إسحاق الآخر، فتعين أنه ابن منصور والله أعلم. قوله: "سلامى" بضم المهملة وتخفيف اللام مع القصر أي مفصل، ووقع عند مسلم حديث أبي ذر تفسيره بذلك وأن في الإنسان ثلاثمائة وستين مفصلا. قال ابن المنير: ترجم على الإصلاح والعدل ولم يورد في هذا الحديث إلا العدل، لكن لما خاطب الناس كلهم بالندل وقد علم أن فيهم الحكام وغيرهم كان عدل الحاكم إذا حكم، وعدل غيره إذا أصلح. وقال غيره: الإصلاح نوع من العدل، فعطف العدل عليه من عطف العام على الخاص.

(5/309)


12 - باب: إِذَا أَشَارَ الإِمَامُ بِالصُّلْحِ فَأَبَى حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْبَيِّنِ
2708- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجٍ مِنْ الْحَرَّةِ كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كِلاَهُمَا، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِلْزُّبَيْرِ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ آنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ فَاسْتَوْعَى

(5/309)


12 - باب: الصُّلْحِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْمِيرَاثِ وَالْمُجَازَفَةِ فِي ذَلِكَ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَتَخَارَجَ الشَّرِيكَانِ فَيَأْخُذَ هَذَا دَيْنًا وَهَذَا عَيْنًا
فَإِنْ تَوِيَ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ
2709- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "تُوُفِّيَ أَبِي وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا التَّمْرَ بِمَا عَلَيْهِ فَأَبَوْا وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ فِيهِ وَفَاءً فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ إِذَا جَدَدْتَهُ فَوَضَعْتَهُ فِي الْمِرْبَدِ آذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ قَالَ ادْعُ غُرَمَاءَكَ فَأَوْفِهِمْ فَمَا تَرَكْتُ أَحَدًا لَهُ عَلَى أَبِي دَيْنٌ إِلاَّ قَضَيْتُهُ وَفَضَلَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ وَسْقًا سَبْعَةٌ عَجْوَةٌ وَسِتَّةٌ لَوْنٌ أَوْ سِتَّةٌ عَجْوَةٌ وَسَبْعَةٌ لَوْنٌ. فَوَافَيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَضَحِكَ فَقَالَ ائْتِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَأَخْبِرْهُمَا فَقَالاَ لَقَدْ عَلِمْنَا إِذْ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَنَعَ أَنْ سَيَكُونُ ذَلِكَ"
وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ "صَلاَةَ الْعَصْرِ" وَلَمْ يَذْكُرْ "أَبَا بَكْرٍ" وَلاَ "ضَحِكَ" وَقَالَ: "وَتَرَكَ أَبِي عَلَيْهِ ثَلاَثِينَ وَسْقًا دَيْنًا"
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ "صَلاَةَ الظُّهْرِ"
قوله: "باب الصلح بين الغرماء وأصحاب الميراث والمجازفة في ذلك" أي عند المعارضة، وقد قدمت توجيه ذلك في كتاب الاستقراض، ومراده أن المجازفة في الاعتياض عن الدين جائزة وإن كانت من جنس حقه وأقل، وأنه لا يتناوله النهي إذ لا مقابلة من الطرفين. قوله: "وقال ابن عباس إلخ" وصله ابن أبي شيبة، وقد تقدم شرحه في أول الحوالة حديث جابر يأتي الكلام عليه في علامات النبوة إن شاء الله تعالى، وقوله فيه: "وفضل" بفتح

(5/310)


المعجمة، وضبط عند أبي ذر بكسرها، قال سيبويه وهو نادر. وقوله: "وقال هشام" أي ابن عروة "عن وهب" أي ابن كيسان، ورواية هشام هذه تقدمت موصولة في الاستقراض. وقوله: "وقال ابن إسحاق عن وهب عن جابر صلاة الظهر" أي أن ابن إسحاق روى الحديث عن وهب بن كيسان كما رواه هشام بن عروة إلا أنهما اختلفا في تعيين الصلاة التي حضرها جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى أعلمه بقصته فقال ابن إسحاق الظهر. وقال هشام العصر. وقال عبيد الله بن عمر المغرب، والثلاثة رووه عن وهب بن كيسان عن جابر، وكأن هذا القدر من الاختلاف لا يقدح في صحة أصل الحديث لأن المقصود منه ما وقع من بركته صلى الله عليه وسلم في التمر وقد حصل توافقهم عليه ولا يترتب على تعيين تلك الصلاة بعينها كبير معنى والله أعلم. وقوله: "وستة لون" اللون ما عدا العجوة، وقيل هو الدقل وهو الرديء، وقيل اللون اللين واللينة، وقيل الأخلاط من التمر، وسيأتي اللينة في تفسير سورة الحشر وأنه اسم للنخلة.

(5/311)


14 - باب: الصُّلْحِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ
2710- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ ح
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ يَا كَعْبُ فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُمْ فَاقْضِهِ"
قوله: "باب الصلح بالدين والعين" أورد فيه حديث كعب بن مالك وقصته مع ابن أبي حدرد، وقد تقدم قبل ثلاثة أبواب. وقال ابن التين ليس فيه ما ترجم به. وأجيب بأن فيه الصلح فيما يتعلق بالدين، وكأنه ألحق به الصلح فيما يتعلق بالعين بطريق الأولى. قال ابن بطال: اتفق العلماء على أنه إن صالح غريمه عن دراهم بدراهم أقل منها جاز إذا حل الأجل، فإذا لم يحل الأجل لم يجز أن يحط عنه شيئا قبل أن يقبضه مكانه، وإن صالحه بعد حلول الأجل عن دراهم بدنانير أو عن دنانير بدراهم جاز واشترط القبض ا هـ. قوله: "وقال الليث حدثني يونس" وصله الذهلي في "الزهريات" ولليث فيه إسناد آخر تقدم قبل ثلاثة أبواب.
"خاتمة": اشتمل كتاب الصلح من الأحاديث المرفوعة على أحد وثلاثين حديثا، المعلق منها اثنا عشر حديثا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى تسعة عشر حديثا والخالص اثنا عشر حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي بكرة في فضل الحسن، وحديث عوف والمسور المعلقين، وفيه من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم ثلاثة آثار.

(5/311)


كتاب الشروط
باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
54 - كتاب الشروط
1 - باب: مَا يَجُوزُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الإِسْلاَمِ وَالأَحْكَامِ وَالْمُبَايَعَةِ
2712 ، 2711- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا كَاتَبَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَئِذٍ كَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا وَخَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَكَرِهَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ وَامْتَعَضُوا مِنْهُ وَأَبَى سُهَيْلٌ إِلاَّ ذَلِكَ فَكَاتَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَجَاءَتْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَهِيَ عَاتِقٌ فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ : {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ - إلى قوله - وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [1الممتحنة]
2713- قَالَ عُرْوَةُ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ – إِلَى - غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَايَعْتُكِ كَلاَمًا يُكَلِّمُهَا بِهِ وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ وَمَا بَايَعَهُنَّ إِلاَّ بِقَوْلِهِ"
[الحديث 2713- أطرافه في: 2733 ، 4182 ، 4891 ، 5288 ، 7214]
2714- حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال: سمعت جريرا رضي الله عنه يقول: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترط علي: والنصح لكل مسلم"
2715- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل قال حدثني قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم"
قوله: "باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة" كذا لأبي ذر، وسقط كتاب الشروط لغيره. والشروط جمع شرط بفتح أوله وسكون الراء وهو ما يستلزم نفيه نفي أمر آخر غير السبب، والمراد به هنا بيان

(5/312)


ما يصح منها مما لا يصح. وقوله: "في الإسلام" أي عند الدخول فيه، فيجوز مثلا أن يشترط الكافر أنه إذا أسلم لا يكلف بالسفر من بلد إلى بلد مثلا، ولا يجوز أن يشترط أن لا يصلي مثلا. وقوله: "والأحكام" أي العقود والمعاملات. وقوله: "والمبايعة" من عطف الخاص على العام. قوله: "يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" هكذا قال عقيل عن الزهري واقتصر غيره على رواية الحديث عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وقد تبين برواية عقيل أنه عنهما مرسل، وهو كذلك لأنهما لم يحضرا القصة، وعلى هذا فهو من مسند من لم يسم من الصحابة فلم يصب من أخرجه من أصحاب الأطراف في مسند المسور أو مروان، لأن مروان لا يصح له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحبة، وأما المسور فصح سماعه منه لكنه إنما قدم مع أبيه وهو صغير بعد الفتح وكانت هذه القصة قبل ذلك بسنتين. قوله: "لما كاتب سهيل بن عمرو" هكذا اقتضب هذه القصة من الحديث الطويل، وسيأتي بعد أبواب بطوله من وجه آخر عن ابن شهاب، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك. وقوله: "فامتعضوا" بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا وشق عليهم، قال الخليل: معض بكسر العين المهملة والضاد المعجمة من الشيء وامتعض: توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعضوا بتشديد الميم وكذا العبدوسي، وعن النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد غير مشالة، قال عياض: وكلها تغييرات، حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. وقوله: "قال عروة فأخبرتني عائشة" هو متصل بالإسناد المذكور أولا، وسيأتي شرحه مستوفى في أواخر النكاح، ومضى الكلام على حديث جرير في أواخر كتاب الإيمان.

(5/313)


2 - باب: إِذَا بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ
2716- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ"
قوله: "باب إذا باع نخلا قد أبرت" زاد أبو ذر عن الكشميهني: "ولم يشترط الثمن" أي المشتري. وذكر فيه حديث ابن عمر، وقد تقدم شرحه في كتاب البيوع، ولم يذكر جواب الشرط اكتفاء بما في الخبر.

(5/313)


3 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْبُيُوعِ
2717- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ عَائِشَةَ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي فَعَلْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَأَبَوْا وَقَالُوا إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونَ لَنَا وَلاَؤُكِ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"

(5/313)


4 - باب: إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ ظَهْرَ الدَّابَّةِ إِلَى مَكَانٍ مُسَمًّى جَازَ
2718- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ حَدَّثَنِي جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا فَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَهُ فَدَعَا لَهُ فَسَارَ بِسَيْرٍ لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَهُ ثُمَّ قَالَ بِعْنِيهِ بِوَقِيَّةٍ قُلْتُ لاَ ثُمَّ قَالَ بِعْنِيهِ بِوَقِيَّةٍ فَبِعْتُهُ فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِي فَلَمَّا قَدِمْنَا أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ وَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَأَرْسَلَ عَلَى إِثْرِي قَالَ مَا كُنْتُ لِآخُذَ جَمَلَكَ، فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ فَهُوَ مَالُكَ"
قَالَ شُعْبَةُ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ جَابِرٍ أَفْقَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ إِسْحَاقُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مُغِيرَةَ "فَبِعْتُهُ عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى أَبْلُغَ الْمَدِينَةَ وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ لَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ "شَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَة"ِ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ جَابِرٍ وَلَكَ ظَهْرُهُ حَتَّى تَرْجِعَ وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ "أَفْقَرْنَاكَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَة"ِ وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ تَبَلَّغْ عَلَيْهِ إِلَى أَهْلِكَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ "اشْتَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَقِيَّةٍ". وَتَابَعَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ جَابِرٍ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ وَهَذَا يَكُونُ وَقِيَّةً عَلَى حِسَابِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الثَّمَنَ مُغِيرَةُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَقَالَ الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ "جَابِرٍ "وَقِيَّةُ ذَهَبٍ" وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ" وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ جَابِرٍ "اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِ تَبُوكَ أَحْسِبُهُ قَالَ بِأَرْبَعِ أَوَاقٍ". وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ عَنْ جَابِرٍ اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ "بِوَقِيَّةٍ" أَكْثَرُ. الِاشْتِرَاطُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ عِنْدِي قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
قوله: "باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز" هكذا جزم بهذا الحكم لصحة دليله عنده، وهو مما اختلف فيه وفيما يشبهه كاشتراط سكنى الدار وخدمة العبد، فذهب الجمهور إلى بطلان البيع لأن الشرط المذكور ينافي مقتضى العقد. وقال الأوزاعي وابن شبرمة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وطائفة يصح البيع ويتنزل فيه الشرط منزلة الاستثناء لأن المشروط إذا كان قدره معلوما صار كما لو باعه بألف إلا خمسين درهما مثلا، ووافقهم مالك في الزمن اليسير دون الكثير، وقيل حده عنده ثلاثة أيام، وحجتهم حديث الباب، وقد رجح البخاري فيه الاشتراط كما سيأتي آخر كلامه، وأجاب عنه الجمهور بأن ألفاظه اختلفت: فمنهم من ذكر فيه الشرط، ومنهم من

(5/314)


ذكر فيه ما يدل عليه، ومنهم من ذكر ما يدل على أنه كان بطريق الهبة، وهي واقعة عين يطرقها الاحتمال. وقد عارضه حديث عائشة في قصة بريرة ففيه بطلان الشرط المخالف لمقتضى العقد كما تقدم بسطه في آخر العتق، وصح من حديث جابر أيضا النهي عن بيع الثنيا أخرجه أصحاب السنن وإسناده صحيح؛ وورد النهي عن بيع وشرط، وأجيب بأن الذي ينافي مقصود البيع ما إذا اشترط مثلا في بيع الجارية أن لا يطأها وفي الدار أن لا يسكنها وفي العبد أن لا يستخدمه وفي الدابة أن لا يركبها، أما إذا اشترط شيئا معلوما لوقت معلوم فلا بأس به، وأما حديث النهي عن الثنيا ففي نفس الحديث: "إلا أن يعلم" فعلم أن المراد أن النهي إنما وقع عما كان مجهولا، وأما حديث النهي عن بيع وشرط ففي إسناده مقال وهو قابل للتأويل، وسيأتي مزيد بسط لذلك في آخر الكلام على هذا الحديث إن شاء الله تعالى. قوله: "سمعت عامرا" هو الشعبي. قوله: "أنه كان يسير على جمل له قد أعيا" أي تعب، في رواية ابن نمير عن زكريا عند مسلم: "أنه كان يسير على جمل فأعيا فأراد أن يسيبه" أي يطلقه وليس المراد أن يجعله سائبة لا يركبه أحد كما كانوا يفعلون في الجاهلية لأنه لا يجوز في الإسلام، ففي أول رواية مغيرة عن الشعبي في الجهاد "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاحق بي وتحتي ناضح لي قد أعيا فلا يكاد يسير" والناضح بنون ومعجمة ثم مهملة هو الجمل الذي يستقى عليه سمي بذلك لنضحه بالماء حال سقيه. واختلف في تعيين هذه الغزوة كما سيأتي بعد هذا، ووقع عند البزار من طريق أبي المتوكل عن جابر أن الجمل كان أحمر. قوله: "فمر النبي صلى الله عليه وسلم فضربه فدعا له" كذا فيه بالفاء فيهما كأنه عقب الدعاء له بضربه. ولمسلم وأحمد من هذا الوجه "فضربه برحله ودعا له" وفي رواية يونس بن بكير عن زكريا عند الإسماعيلي: "فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له فمشى مشية ما مشى قبل ذلك مثلها" وفي رواية مغيرة المذكورة "فزجره ودعا له" وفي رواية عطاء وغيره عن جابر المتقدمة في الوكالة "فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا؟ قلت: جابر بن عبد الله قال: ما لك؟ قلت: إني على جمل ثفال. فقال: أمعك قضيب؟ قلت: نعم. قال: أعطنيه، فأعطيته فضربه فزجره فكان من ذلك المكان من أول القوم" وللنسائي من هذا الوجه "فأزحف فزجره النبي صلى الله عليه وسلم فانبسط حتى كان أمام الجيش" وفي رواية وهب بن كيسان عن جابر المتقدمة في البيوع "فتخلف. فنزل فحجنه بمحجنة ثم قال: اركب، فركبت، فقد رأيته أكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعند أحمد من هذا الوجه "فقلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا، قال: أنخه، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أعطني هذه العصا - أو اقطع لي عصا من شجرة - ففعلت، فأخذها فنخسه بها نخسات فقال: اركب، فركبت " وللطبراني من رواية زيد بن أسلم عن جابر فأبطأ علي حتى ذهب الناس، فجعلت أرقبه ويهمني شأنه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أجابر؟ قلت: نعم. قال: ما شأنك؟ قلت: أبطأ علي جملي، فنفث فيها - أي العصا - ثم مج من الماء في نحره ثم ضربه بالعصا فوثب" ولابن سعد من هذا الوجه "ونضح ماء في وجهه ودبره وضربه بعصية فانبعث، فما كدت أمسكه" وفي رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم: "فكنت بعد ذلك أحبس خطامه لأسمع حديثه" وله من طريق أبي نضرة عن جابر "فنخسه ثم قال: اركب بسم الله" زاد في رواية مغيرة المذكورة "فقال كيف ترى بعيرك؟ قلت بخير، قد أصابته بركتك". قوله: "ثم قال بعنيه بأوقية: قلت لا" في رواية أحمد "فكرهت أن أبيعه" وفي رواية مغيرة المذكورة "قال أتبيعنيه؟ فاستحييت ولم يكن لنا ناضح غيره، فقلت. نعم" وللنسائي من هذا الوجه "وكانت لي إليه حاجة شديدة" ولأحمد من رواية نبيح وهو بالنون والموحدة والمهملة مصغر وفي رواية عطاء قال: "بعنيه، قلت بل هو لك يا رسول الله، قال: بعنيه" زاد النسائي من طريق أبي الزبير قال: "اللهم اغفر

(5/315)


له، اللهم ارحمه" ولابن ماجه من طريق أبي نضرة عن جابر "فقال أتبيع ناضحك هذا والله يغفر لك" زاد النسائي من هذا الوجه "وكانت كلمة تقولها العرب: افعل كذا والله يغفر لك". ولأحمد "قال سليمان - يعني بعض رواته - فلا أدري كم من مرة" يعني قال له والله يغفر لك، وللنسائي من طريق أبي الزبير عن جابر "استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسا وعشرين مرة" وفي رواية وهب بن كيسان عن جابر عند أحمد "أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ قلت: بل أهبه لك. قال: لا، ولكن بعنيه" وفي كل ذلك رد لقول ابن التين إن قوله: "لا" ليس بمحفوظ في هذه القصة. قوله: "بعنيه بوقية" في رواية سالم عن جابر عند أحمد "فقال بعنيه، قلت: هو لك، قال: قد أخذته بوقية" ولابن سعد وأبي عوانة من هذا الوجه "فلما أكثر علي قلت: إن لرجل علي أوقية من ذهب هو لك بها، قال: نعم" والوقية من الفضة كانت في عرف ذلك الزمان أربعين درهما وفي عرف الناس بعد ذلك عشرة دراهم وفي عرف أهل مصر اليوم اثنا عشر درهما وسيأتي بيان الاختلاف في قدر الثمن في آخر الكلام على هذا الحديث: قوله: "فاستثنيت حملانه إلى أهلي" الحملان بضم المهملة الحمل والمفعول محذوف، أي استثنيت حمله إياي، وقد رواه الإسماعيلي بلفظ: "واستثنيت ظهره إلى أن نقدم" ولأحمد من طريق شريك عن مغيرة " اشترى مني بعيرا على أن يفقرني ظهره سفري ذلك" وذكر المصنف الاختلاف في ألفاظه على جابر، وسيأتي بيانه. قوله: "فلما قدمنا" زاد مغيرة عن الشعبي كما مضى في الاستقراض "فلما دنونا من المدينة استأذنته فقال: تزوجت بكرا أم ثيبا" وسيأتي الكلام عليه في النكاح إن شاء الله تعالى، وزاد فيه: "فقدمت المدينة فأخبرت خالي ببيع الجمل فلامني". ووقع عند أحمد من رواية نبيح المذكورة "فأتيت عمتي بالمدينة فقلت لها: ألم تري أني بعت ناضحنا، فما رأيتها أعجبها ذلك" وسيأتي القول في بيان تسمية خاله في أوائل الهجرة إن شاء الله تعالى. وجزم ابن لقطة بأنه جد بفتح الجيم وتشديد الدال ابن قيس، وأما عمته فاسمها هند بنت عمرو، ويحتمل أنهما جميعا لم يعجبهما بيعه لما تقدم من أنه لم يكن عنده ناضح غيره. وأخرجه من هذا الوجه في كتاب الجهاد بلفظ: "ثم قال: ائت أهلك، فتقدمت الناس إلى المدينة" وفي رواية وهب بن كيسان في أوائل البيوع " وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قبلي، وقدمت بالغداة فجئت إلى المسجد فوجدته فقال: الآن قدمت؟ قلت: نعم، قال: فدع الجمل وادخل فصل ركعتين" وظاهرهما التناقض، لأن في إحداهما أنه تقدم الناس إلى المدينة وفي الأخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم قبله، فيحتمل في الجمع بينهما أن يقال أنه لا يلزم من قوله فتقدمت الناس أن يستمر سبقه لهم لاحتمال أن يكونوا لحقوه بعد أن تقدمهم إما لنزوله لراحة أو نوم أو غير ذلك، ولعله امتثل أمره صلى الله عليه وسلم بأن لا يدخل ليلا فبات دون المدينة واستمر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن دخلها سحرا ولم يدخلها جابر حتى طلع النهار، والعلم عند الله تعالى. قوله: "أتيته بالجمل" في رواية مغيرة "فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوت إليه بالبعير" ولأبي المتوكل عن جابر كما سيأتي في الجهاد "فدخلت - يعني المسجد - إليه وعقلت الجمل فقلت: هذا جملك، فخرج فجعل يطيف بالجمل ويقول: جملنا، فبعث إلي أواق من ذهب ثم قال: استوفيت الثمن؟ قلت نعم". قوله: "ونقدني ثمنه ثم انصرفت" في رواية مغيرة الماضية في الاستقراض فأعطاني ثمن الجمل والجمل وسهمي مع القوم" وفي روايته الآتية في الجهاد "فأعطاني ثمنه ورده علي" وهي كلها بطريق المجاز لأن العطية إنما وقعت له بواسطة بلال كما رواه مسلم من هذا الوجه "فلما قدمت المدينة قال لبلال: أعطه أوقية من ذهب وزده، قال فأعطاني أوقية وزادني قيراطا، فقلت لا تفارقني زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحديث، وفيه ذكر أخذ أهل الشام له يوم

(5/316)


الحرة، وتقدم نحوه في الوكالة للمصنف من طريق عطاء وغيره عن جابر، ولأحمد وأبي عوانة من طريق وهب بن كيسان "فوالله ما زال ينمي ويزيد عندنا ونرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب للناس يوم الحرة" وفي رواية أبي الزبير عن جابر عند النسائي: "فقال: يا بلال أعطه ثمنه، فلما أدبرت دعاني فخفت أن يرده علي فقال: هو لك" وفي رواية وهب بن كيسان في النكاح "فأمر بلالا أن يزن لي أوقية فوزن بلال وأرجح لي في الميزان، فانطلقت حتى وليت فقال: أدع جابرا، فقلت. الآن يرد علي الجمل، ولم يكن شيء أبغض إلي منه فقال: خذ جملك ولك ثمنه" وهذه الرواية مشكلة مع قوله المتقدم "ولم يكن لنا ناضح غيره: "وقوله: "وكانت لي إليه حاجة شديدة ولكني استحييت منه" ومع تنديم خاله له على بيعه، ويمكن الجمع بأن ذلك كان في أول الحال، وكان الثمن أوفر من قيمته وعرف أنه يمكن أن يشتري به أحسن منه ويبقى له بعض الثمن فلذلك صار يكره رده عليه. ولأحمد من طريق أبي هبيرة عن جابر "فلما أتيته دفع إلي البعير وقال: هو لك، فمررت برجل من اليهود فأخبرته فجعل يعجب ويقول: اشتري منك البعير ودفع إليك الثمن ثم وهبه لك؟ قلت: نعم". قوله: "ما كنت لآخذ جملك، فخذ جملك ذلك فهو مالك" كذا وقع هنا، وقد رواه علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: "أتراني إنما ماكستك لآخذ جملك، خذ جملك ودراهمك هما لك" أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبراني عنه، وكذا أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن نمير عن زكريا، لكن قال في آخره: "فهو لك" وعليها اقتصر صاحب "العمدة" ووقع لأحمد عن يحيى القطان عن زكريا بلفظ: "قاله أطننت حين ماكستك أذهب بجملك؟ خذ جملك وثمنه فهما لك" وهذه الرواية وكذلك رواية البخاري توضح أن اللام في قوله: "لآخذ" للتعليل وبعدها همزة ممدوده، ووقع لبعض رواة مسلم كما حكاه عياض لا بصيغة النفي، "خذ" بصيغة الأمر، ويلزم عليه التكرار في قوله: "خذ جملك" وقوله: "ماكستك" هو من المماكسة أي المناقصة في الثمن، وأشار بذلك إلى ما وقع بينهما من المساومة عند البيع كما تقدم، قال ابن الجوزي: هذا من أحسن التكرم، لأن من باع شيئا فهو في الغالب محتاج لثمنه، فإذا تعوض من الثمن بقي في قلبه من المبيع أسف على فراقه كما قيل:
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... نفائس من رب بهن ضنين
فإذا رد عليه المبيع مع ثمنه ذهب الهم عنه وثبت فرحه وقضيت حاجته، فكيف مع ما انضم إلى ذلك من الزيادة في الثمن. قوله: "وقال شعبة عن مغيرة" أي ابن مقسم الضبي "عن عامر" هو الشعبي "عن جابر: أفقرني ظهره" بتقديم الفاء على القاف أي حملني على فقاره، والفقار عظام الظهر، ورواية شعبة هذه وصلها البيهقي من طريق يحيى بن كثير عنه. قوله: "وقال إسحاق" أي ابن إبراهيم "عن جرير عن مغيرة: فبعته على أن في فقار ظهره حتى أبلغ المدينة" وهذه الرواية تأتي موصولة في الجهاد، وهي دالة على الاشتراط، بخلاف رواية شعبة عن مغيرة فإنها لا تدل عليه، وقد رواه أبو عوانة عن مغيرة عند النسائي بلفظ محتمل قال فيه: "قال بعنيه ولك ظهره حتى تقدم" ووافق زكريا على ذكر الاشتراط فيه يسار عن الشعبي أخرجه أبو عوانة في صحيحه بلفظ: "فاشترى مني بعيرا على أن لي ظهره حتى أقدم المدينة". قوله: "وقال عطاء وغيره" أي عن جابر "ولك ظهره إلى المدينة" تقدم موصولا مطولا في الوكالة ولفظه: "قال بعنيه، قلت: هو لك، قال: قد أخذته بأربعة دنانير ولك ظهره إلى المدينة" وليس

(5/317)


فيها أيضا دلالة على الاشتراط. قوله: "وقال محمد بن المنكدر عن جابر: شرط لي ظهره إلى المدينة" وصله البيهقي من طريق المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه به، ووصله الطبراني من طريق عثمان بن محمد الأخنسي عن محمد بن المنكدر بلفظ: "فبعته إياه وشرطته - أى ركوبه - إلى المدينة". قوله: "وقال زيد بن أسلم عن جابر: ولك ظهره حتى ترجع" وصله الطبراني والبيهقي من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه بتمامه. قوله: "وقال أبو الزبير عن جابر: أفقرناك ظهره إلى المدينة" وصله البيهقي من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن أبي الزبير به، وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ: "فبعته منه بخمس أواق، قلت: على أن لي ظهره إلى المدينة، قال: ولك ظهره إلى المدينة" وللنسائي من طريق ابن عيينة عن أيوب قال: "قد أخذته بكذا وكذا وقد أعرتك ظهره إلى المدينة". قوله: "وقال الأعمش عن سالم" هو ابن أبي الجعد "عن جابر تبلغ به إلى أهلك" وصله أحمد ومسلم وعبد بن حميد وغيرهم من طريق الأعمش، وهذا لفظ عبد بن حميد، ولفظ ابن سعد والبيهقي "تبلغ عليه إلى أهلك" ولفظ مسلم: "فتبلغ عليه إلى المدينة" ولفظ أحمد "قد أخذته بوقية، اركبه، فإذا قدمت فائتنا به" وهي متقاربة. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف: "الاشتراط أكثر وأصح عندي" أي أكثر طرقا وأصح مخرجا، وأشار بذلك إلى أن الرواة اختلفوا عن جابر في هذه الواقعة هل وقع الشرط في العقد عند البيع أو كان ركوبه للجمل بعد بيعه إباحة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد شرائه على طريق العارية، وأصرح ما وقع في ذلك رواية النسائي المذكورة، لكن أختلف فيها حماد بن زيد وسفيان بن عيينة، وحماد أعرف بحديث أيوب من سفيان، والحاصل أن الذين ذكروه بصيغة الاشتراط أكثر عددا من الذين خالفوهم وهذا وجه من وجوه الترجيح فيكون أصح، ويترجح أيضا بأن الذين رووه بصيغة الاشتراط معهم زيادة وهما حفاظ فتكون حجة، وليس رواية من لم يذكر الاشتراط منافية لرواية من ذكره، لأن قوله: "لك ظهره" و "أفقرناك ظهره" و "تبلغ عليه" لا يمنع وقوع الاشتراط قبل ذلك. وقد رواه عن جابر بمعنى الاشتراط أيضا أبو المتوكل عند أحمد ولفظه: "فبعني ولك ظهره إلى المدينة" لكن أخرجه المصنف في الجهاد من طريق أخرى عن أبي المتوكل فلم يتعرض للشرط إثباتا ولا نفيا، ورواه أحمد من هذا الوجه بلفظ: "أتبيعني جملك؟ قلت: نعم. قال: أقدم عليه المدينة" ورواه أحمد من طريق أبي هبيرة عن جابر بلفظ: "فاشترى مني بعيرا فجعل لي ظهره حتى أقدم المدينة" ورواه ابن ماجه وغيره من طريق أبي نضرة عن جابر بلفظ: "فقلت يا رسول الله هو ناضحك إذا أتيت المدينة". ورواه أيضا عن جابر نبيح العنزي عند أحمد فلم يذكر الشرط ولفظه: "قد أخذته بوقية، قال فنزلت إلى الأرض فقال: مالك؟ قلت: جملك. قال اركب، فركبت حتى أتيت المدينة" ورواه أيضا من طريق وهب بن كيسان عن جابر فلم يذكر الشرط قال فيه: "حتى بلغ أوقية، قلت قد رضيت، قال. نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته. ثم قال: يا جابر هل تزوجت" الحديث. وما جنح إليه المصنف من ترجيح رواية الاشتراط هو الجاري على طريقة المحققين من أهل الحديث لأنهم لا يتوقفون عن تصحيح المتن إذا وقع فيه الاختلاف إلا إذا تكافأت الروايات، وهو شرط الاضطراب الذي يرد به الخبر، وهو مفقود هنا مع إمكان الترجيح، قال ابن دقيق العيد: إذا اختلفت الروايات وكانت الحجة ببعضها دون بعض توقف الاحتجاج بشرط تعادل الروايات، أما إذا وقع الترجيح لبعضها بأن تكون رواتها أكثر عددا أو أتقن حفظا فيتعين العمل بالراجح، إذ الأضعف لا يكون مانعا من العمل بالأقوى، والمرجوح لا يمنع التمسك بالراجح، وقد جنح الطحاوي إلى تصحيح الاشتراط لكن

(5/318)


تأوله بأن البيع المذكور لم يكن على الحقيقة لقوله في آخره: "أتراني ماكستك إلخ" قال: فإنه يشعر بأن القول المتقدم لم يكن على التبايع حقيقة، ورده القرطبي بأنه دعوى مجردة وتغيير وتحريف لا تأويل، قال: وكيف يصنع قائله في قوله: "بعته منك بأوقية" بعد المساومة؟ وقوله: "قد أخذته" وغير ذلك من الألفاظ المنصوصة في ذلك؟ واحتج بعضهم بأن الركوب إن كان من مال المشتري فالبيع فاسد لأنه شرط لنفسه ما قد ملكه المشتري، وإن كان من ماله ففاسد لأن المشتري لم يملك المنافع بعد البيع من جهة البائع، وإنما ملكها لأنها طرأت في ملكه. وتعقب بأن المنفعة المذكورة قدرت بقدر من ثمن المبيع ووقع البيع بما عداها، ونظيره من باع نخلا قد أبرت واستثنى ثمرتها، والممتنع إنما هو استثناء شيء مجهول للبائع والمشتري، أما لو علماه معا فلا مانع، فيحمل ما وقع في هذه القصة على ذلك. وأغرب ابن حزم فزعم أنه يؤخذ من الحديث أن البيع لم يتم لأن البائع بعد عقد البيع مخير قبل التفرق، فلما قال في آخره: "أتراني ماكستك" دل على أنه كان اختار ترك الأخذ، وإنما اشترط لجابر ركوب جمل نفسه، فليس فيه حجة لمن أجاز الشرط في البيع، ولا يخفى ما في هذا التأويل من التكلف. وقال الإسماعيلي: قوله: "ولك ظهره" وعد قام مقام الشرط لأن وعده لا خلف فيه وهبته لا رجوع فيها لتنزيه الله تعالى له عن دناءة الأخلاق، فلذلك ساغ لبعض الرواة أن يعبر عنه بالشرط، ولا يلزم أن يجوز ذلك في حق غيره. وحاصله أن الشرط لم يقع في نفس العقد وإنما وقع سابقا أو لاحقا، فتبرع بمنفعته أولا كما تبرع برقبته آخرا. ووقع في كلام القاضي أبي الطيب الطبري من الشافعية أن في بعض طرق هذا الخبر "فلما نقدني الثمن شرطت حملاني إلى المدينة" واستدل بها على أن الشرط تأخر عن العقد، لكن لم أقف على الرواية المذكورة، وإن ثبتت فيتعين تأويلها على أن معنى "نقدني الثمن" أي قرره لي واتفقا على تعيينه، لأن الروايات الصحيحة صريحة في أن قبضه الثمن إنما كان بالمدينة، وكذلك يتعين تأويل رواية الطحاوي "أتبيعني جملك هذا إذا قدمنا المدينة بدينار" الحديث، فالمعنى أتبيعني بدينار أوفيكه إذا قدمنا المدينة. وقال المهلب: ينبغي تأويل ما وقع في بعض الروايات من ذكر الشرط على أنه شرط تفضل لا شرط في أصل البيع ليوافق رواية من روى "أفقرناك ظهره" و "أعرتك ظهره" وغير ذلك مما تقدم، قال: ويؤيده أن القصة جرت كلها على وجه التفضل والرفق بجابر، ويؤيده أيضا قول جابر "هو لك، قال: لا بل بعنيه" فلم يقبل منه إلا بثمن رفقا به، وسبق الإسماعيلي إلى نحو هذا، وزعم أن النكتة في ذكر البيع أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبر جابرا على وجه لا يحصل لغيره طمع في مثله فبايعه في جمله على اسم البيع ليتوفر عليه بره ويبقى البعير قائما على ملكه فيكون ذلك أهنأ لمعروفه. قال: وعلى هذا المعنى أمره بلالا أن يزيده على الثمن زيادة مهمة في الظاهر، فإنه قصد بذلك زيادة الإحسان إليه من غير أن يحصل لغيره تأميل في نظير ذلك. وتعقب بأنه لو كان المعنى ما ذكر لكان الحال باقيا في التأميل المذكور عند رده عليه البعير المذكور والثمن معا، وأجيب بأن حالة السفر غالبا تقتضي قلة الشيء بخلاف حالة الحضر فلا مبالاة عند التوسعة من طمع الآمل. وأقوى هذه الوجوه في نظري ما تقدم نقله عن الإسماعيلي من أنه وعد حل محل الشرط. وأبدى السهيلي في قصة جابر مناسبة لطيفة غير ما ذكره الإسماعيلي، ملخصها أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر جابرا بعد قتل أبيه بأحد أن الله أحياه وقال: "ما تشتهي فأزيدك" أكد صلى الله عليه وسلم الخبر بما يشتهيه فاشترى منه الجمل وهو مطيته بثمن معلوم، ثم وفر عليه الجمل والثمن وزاده على الثمن، كما اشترى الله من المؤمنين أنفسهم بثمن هو الجنة ثم رد عليهم أنفسهم وزادهم كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . قوله: "وقال عبيد الله" أي ابن عمر

(5/319)


العمري "وابن إسحاق عن وهب" أي ابن كيسان "عن جابر" أي في هذا الحديث "اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم بأوقية" وطريق ابن إسحاق وصلها أحمد وأبو يعلى والبزار مطولة وفيها "قال قد أخذته بدرهم، قلت: إذا تغبنني يا رسول الله، قال: فبدرهمين، قلت: لا، فلم يزل يرفع لي حتى بلغ أوقية" الحديث، ورواية عبيد الله وصلها المؤلف في البيوع ولفظه قال: "أتبيع جملك؟ قلت. نعم، فاشتراه مني بأوقية". قوله: "وتابعه زيد بن أسلم عن جابر" أي في ذكر الأوقية، وقد تقدم أنه موصول عند البيهقي. قوله: "وقال ابن جريج عن عطاء وغيره عن جابر: أخذته بأربعة دنانير" تقدم أنه موصول عند المصنف في الوكالة، وقوله: "وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة" هو من كلام المصنف قصد به الجمع بين الروايتين، وهو كما قال بناء على أن المراد بالأوقية أي من الفضة وهي أربعون درهما، وقوله: "الدينار" مبتدأ وقوله: "بعشرة" خبره أي دينار ذهب بعشرة دراهم فضة، نسب شيخنا ابن الملقن هذا الكلام إلى رواية عطاء ولم أر ذلك في شيء من الطرق لا في البخاري ولا في غيره، وإنما هو من كلام البخاري. قوله: "ولم يبين الثمن مغيرة عن الشعبي عن جابر، وابن المنكدر وأبو الزبير عن جابر" ابن المنكدر معطوف على مغيرة، وأراد أن هؤلاء الثلاثة لم يعينوا الثمن في روايتهم، فأما رواية مغيرة فتقدمت موصولة في الاستقراض وتأتي مطولة في الجهاد وليس فيها ذكر الثمن، وكذا أخرجه مسلم والنسائي وغيرهما، ولذلك لم يعين يسار عن الشعبي في روايته الثمن أخرجه أبو عوانة من طريقه، ورواه أحمد من طريق يسار فقال: "عن أبي هبيرة عن جابر" ولم يعين الثمن في روايته أيضا. وأما ابن المنكدر فوصله الطبراني وليس فيه التعيين أيضا. وأما أبو الزبير فوصله النسائي ولم يعين الثمن، لكن أخرجه مسلم فعين الثمن ولفظه: "فبعته منه بخمس أواق، قلت على أن لي ظهره إلى المدينة" وكذلك أخرجه ابن سعد، ورويناه في "فوائد تمام" من طريق سلمة بن كهيل عن أبي الزبير فقال فيه: "أخذته منك بأربعين درهما". قوله: "وقال الأعمش عن سالم" أي ابن أبي الجعد "عن جابر: أوقية ذهب" وصله أحمد ومسلم وغيرهما هكذا. وفي رواية لأحمد صحيحة "قد أخذته بوقية" ولم يصفها لكن من وصفها حافظ فزيادته مقبولة. قوله: "وقال أبو إسحاق عن سالم" أي ابن أبي الجعد "عن جابر بمائتي درهم. وقال داود بن قيس عن عبيد الله بن مقسم عن جابر: اشتراه بطريق تبوك، أحسبه قال بأربع أواق". أما رواية أبي إسحاق فلم أقف على من وصلها، ولم تختلف نسخ البخاري أنه قال فيها. "بمائتي درهم". ووقع للنووي أن في بعض روايات البخاري "ثمانمائة درهم" وليس ذلك فيه أصلا، ولعله أراد هذه الرواية فتصحفت. وأما رواية داود بن قيس فجزم بزمان القصة وشك في مقدار الثمن، فأما جزمه بأن القصة وقعت في طريق تبوك فوافقه على ذلك علي بن زيد بن جدعان عن أبي المتوكل عن جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجابر في غزوة تبوك" فذكر الحديث، وقد أخرجه المصنف من وجه آخر عن أبي المتوكل فقال: "في بعض أسفاره" ولم يعينه، وكذا أبهمه أكثر الرواة عن جابر، ومنهم من قال: "كنت في سفر" ومنهم من قال: "كنت في غزوة تبوك" ولا منافاة بينهما. وفي رواية أبي المتوكل في الجهاد "لا أدري غزوة أو عمرة" ويؤيد كونه كان في غزوة قوله في آخر رواية أبي عوانة عن مغيرة "فأعطاني الجمل وثمنه وسهمي مع القوم" لكن جزم ابن إسحاق عن وهب بن كيسان في روايته المشار إليها قبل بأن ذلك كان في غزوة ذات الرقاع من نخل، وكذا أخرجه الواقدي من طريق عطية بن عبد الله بن أنيس عن جابر، وهي الراجحة في نظري لأن أهل المغازي أضبط لذلك من غيرهم، وأيضا فقد وقع في رواية الطحاوي أن

(5/320)


ذلك وقع في رجوعهم من طريق مكة إلى المدينة، وليست طريق تبوك ملاقية لطريق مكة بخلاف طريق غزوة ذات الرقاع، وأيضا فإن في كثير من طرقه أنه صلى الله عليه وسلم سأله في تلك القصة "هل تزوجت؟ قال: نعم، قال: أتزوجت بكرا أم ثيبا" الحديث، وفيه اعتذاره بتزوجه الثيب بأن أباه استشهد بأحد وترك أخواته فتزوج ثيبا لتمشطهن وتقوم عليهن، فأشعر بأن ذلك كان بالقرب من وفاة أبيه، فيكون وقوع القصة في ذات الرقاع أظهر من وقوعها في تبوك، لأن ذات الرقاع كانت بعد أحد بسنة واحدة على الصحيح، وتبوك كانت بعدها بسبع سنين والله أعلم، لا جرم جزم البيهقي في "الدلائل" بما قال ابن إسحاق. قوله: "وقال أبو نضرة عن جابر اشتراه بعشرين دينارا" وصله ابن ماجه من طريق الجريري عنه بلفظ: "فما زال يزيدني دينارا دينارا حتى بلغ عشرين دينارا" وأخرجه مسلم والنسائي من طريق أبي نضرة فأبهم الثمن. قوله: "وقول الشعبي بأوقية أكثر" أي موافقة لغيره من الأقوال، والحاصل من الروايات أوقية وهي رواية الأكثر، وأربعة دنانير وهي لا تخالفها كما تقدم، وأوقية ذهب وأربع أواق وخمس أواق ومائتا درهم وعشرون دينارا هذا ما ذكر المصنف؛ ووقع عند أحمد والبزار من رواية علي بن زيد عن أبي المتوكل "ثلاثة عشر دينارا" وقد جمع عياض وغيره بين هذه الروايات فقال: سبب الاختلاف أنهم رووا بالمعنى، والمراد أوقية الذهب، والأربع أواق والخمس بقدر ثمن الأوقية الذهب، والأربعة دنانير مع العشرين دينارا محمولة على اختلاف الوزن والعدد، وكذلك رواية الأربعين درهما مع المائتي درهم، قال: وكأن الإخبار بالفضة عما وقع عليه العقد، وبالذهب عما حصل به الوفاء أو بالعكس ا هـ ملخصا. وقال الداودي: المراد أوقية ذهب، ويحمل عليها قول من أطلق، ومن قال خمس أواق أو أربع أراد من فضة وقيمتها يومئذ أوقية ذهب، قال: ويحتمل أن يكون سبب الاختلاف ما وقع من الزيادة على الأوقية، ولا يخفى ما فيه من التعسف قال القرطبي: اختلفوا في ثمن الجمل اختلافا لا يقبل التلفيق، وتكلف ذلك بعيد عن التحقيق، وهو مبني على أمر لم يصح نقله ولا استقام ضبطه، مع أنه لا يتعلق بتحقيق ذلك حكم، وإنما تحصل من مجموع الروايات أنه باعه البعير بثمن معلوم بينهما وزاده عند الوفاء زيادة معلومة، ولا يضر عدم العلم بتحقيق ذلك. قال الإسماعيلي: ليس اختلافهم في قدر الثمن بضار، لأن الغرض الذي سبق الحديث لأجله بيان كرمه صلى الله عليه وسلم وتواضعه وحنوه على أصحابه وبركة دعائه وغير ذلك، ولا يلزم من وهم بعضهم في قدر الثمن توهينه لأصل الحديث. قلت: وما جنح إليه البخاري من الترجيح أقعد، وبالرجوع إلى التحقيق أسعد، فليعتمد ذلك وبالله التوفيق. وفي الحديث جواز المساومة لمن يعرض سلعته للبيع، والمماكسة في المبيع قبل استقرار العقد، وابتداء المشتري بذكر الثمن، وأن القبض ليس شرطا في صحة البيع، وأن إجابة الكبير بقول "لا" جائز في الأمر الجائز، والتحدث بالعمل الصالح للإتيان بالقصة على وجهها لا على وجه تزكيه النفس وإرادة الفخر. وفيه تفقد الإمام والكبير لأصحابه وسؤاله عما ينزل بهم، وإعانتهم بما تيسر من حال أو مال أو دعاء، وتواضعه صلى الله عليه وسلم. وفيه جواز ضرب الدابة للسير وإن كانت غير مكلفة، ومحله ما إذا لم يتحقق أن ذلك منها من فرط تعب وإعياء، وفيه توقير التابع لرئيسه. وفيه الوكالة في وفاء الديون، والوزن على المشتري، والشراء بالنسيئة. وفيه رد العطية قبل القبض لقول جابر "هو لك، قال لا بل بعنيه" وفيه جواز إدخال الدواب والأمتعة إلى رحاب المسجد وحواليه، واستدل من ذلك على طهارة أبوال الإبل، ولا حجة

(5/321)


فيه. وفيه المحافظة على ما يتبرك به لقول جابر. "لا تفارقني الزيادة". وفيه جواز الزيادة في الثمن عند الأداء، والرجحان في الوزن لكن برضا المالك، وهي هبة مستأنفة حتى لو ردت السلعة بعيب مثلا لم يجب ردها، أو هي تابعة للثمن حتى ترد فيه احتمال. وفيه فضيلة لجابر حيث ترك حظ نفسه وامتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم له ببيع جمله مع احتياجه إليه. وفيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وجواز إضافة الشيء إلى من كان مالكه قبل ذلك باعتبار ما كان، واستدل به على صحة البيع بغير تصريح بإيجاب ولا قبول، لقوله فيه: "قال بعنيه بأوقية، فبعته" ولم يذكر صيغة. ولا حجة فيه لأن عدم الذكر لا يستلزم عدم الوقوع، وقد وقع في رواية عطاء الماضية في الوكالة "قال بعنيه، قال قد أخذته بأربعة دنانير" فهذا فيه القبول، ولا إيجاب فيه. وفي رواية جرير الآتية في الجهاد "قال بل بعنيه، قلت: لرجل علي أوقية ذهب فهو لك بها، قال: فد أخذته" ففيه الإيجاب والقبول معا. وأبين منها رواية ابن إسحاق عن وهب بن كيسان عند أحمد "قلت قد رضيت، قال: نعم، قلت. فهو لك بها، قال. قد أخذته" فيستدل بها على الاكتفاء في صيغ العقود بالكنايات. "تكميل": آل أمر جمل جابر هذا لما تقدم له من بركة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مآل حسن، فرأيت في ترجمة جابر من "تاريخ ابن عساكر"بسنده إلى أبي الزبير عن جابر قال: "فأقام الجمل عندي زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فعجز، فأتيت به عمر فعرف قصته فقال: اجعله في إبل الصدقة وفي أطيب المراعي، ففعل به ذلك إلى أن مات".

(5/322)


5 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْمُعَامَلَةِ
2719- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَالَتْ الأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ. قَالَ: لاَ. فَقَالَ: تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ وَنُشْرِكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا"
2720- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا"
قوله: "باب الشروط في المعاملة" أي من مزارعة وغيرها. وذكر فيه حديثين: أحدهما حديث أبي هريرة في توافق المهاجرين أن يكفوا الأنصار المؤونة والعمل ويشركوهم في الثمرة مزارعة وقد تقدم الكلام عليه في "فضل المنيحة" في أواخر الهبة، والشرط المذكور لغوي اعت بره الشارع فصار شرعيا، لأن تقديره إن تكفونا نقسم بينكم. ثانيهما حديث ابن عمر في قصة مزارعة أهل خيبر، ذكره مختصرا، وقد تقدم الكلام عليه في المزارعة.

(5/322)


6 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْمَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ
وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ مَقَاطِعَ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ وَلَكَ مَا شَرَطْتَ وَقَالَ الْمِسْوَرُ:
"سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ فَأَحْسَنَ قَالَ حَدَّثَنِي وَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي"

(5/322)


7 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْمُزَارَعَةِ
2722- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَنْظَلَةَ الزُّرَقِيَّ قَالَ سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "كُنَّا أَكْثَرَ الأَنْصَارِ حَقْلًا فَكُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ نُنْهَ عَنْ الْوَرِقِ"
قوله: "باب الشروط في المزارعة" هذه الترجمة أخص من الماضية قبل بباب، ثم ذكر فيه حديث رافع بن خديج مختصرا، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في المزارعة".

(5/323)


8 - باب: مَا لاَ يَجُوزُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ
2723- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ يَزِيدَنَّ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلاَ يَخْطُبَنَّ عَلَى خِطْبَتِهِ وَلاَ تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَكْفِئَ إِنَاءَهَا"
قوله: "باب ما لا يجوز من الشروط في النكاح" ذكر فيه حديث أبي هريرة وفيه: "ولا يخطبن على خطبه أخيه" وسيأتي الكلام عليه في كتاب النكاح، وتقدم ما يتعلق به من البيوع في مكانه، وقوله: "طلاق أختها" أي بالنسبة إلى كونهما يصيران ضرتين، أ و المراد أخوة الإسلام لأنها الغالب.

(5/323)


باب الشروط التي لا يحل في الحدود
...
9 - باب: الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ تَحِلُّ فِي الْحُدُودِ
2724 ، 2725- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالاَ "إِنَّ رَجُلًا مِنْ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلاَّ قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ الْخَصْمُ الْآخَرُ - وَهُوَ

(5/323)


10 - باب: مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ يُعْتَقَ
2726- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ الْمَكِّيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ بَرِيرَةُ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ اشْتَرِينِي فَإِنَّ أَهْلِي يَبِيعُونِي فَأَعْتِقِينِي قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِنَّ أَهْلِي لاَ يَبِيعُونِي حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلاَئِي. قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَلَغَهُ فَقَالَ مَا شَأْنُ بَرِيرَةَ؟ فَقَالَ: اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَلْيَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا. قَالَتْ فَاشْتَرَيْتُهَا فَأَعْتَقْتُهَا وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاَءَهَا، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَإِنْ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ"
قوله: "باب ما يجوز من شروط المكاتب إذا رضي بالبيع على أن يعتق" ذكر فيه حديث عائشة في قصة بريرة وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في أواخر العتق.

(5/324)


11 - باب: الشُّرُوطِ فِي الطَّلاَقِ
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: إِنْ بَدَا بِالطَّلاَقِ أَوْ أَخَّرَ فَهُوَ أَحَقُّ بِشَرْطِهِ
2727- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّلَقِّي وَأَنْ يَبْتَاعَ الْمُهَاجِرُ لِلْأَعْرَابِيِّ وَأَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَنَهَى عَنْ النَّجْشِ وَعَنْ التَّصْرِيَةِ"
تَابَعَهُ مُعَاذٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ شُعْبَةَ
وَقَالَ غُنْدَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ "نُهِيَ" وَقَالَ آدَمُ "نُهِينَا". وَقَالَ النَّضْرُ وَحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ "نَهَى"

(5/324)


باب الشروط مع الناش بالقول
...
12 - باب: الشُّرُوطِ مَعَ النَّاسِ بِالْقَوْلِ
2728- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَغَيْرُهُمَا قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} : كَانَتْ الأُولَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا . {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} {لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ} ، {فَانْطَلَقَا..فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ "أَمَامَهُمْ مَلِكٌ"
قوله: "باب الشروط مع الناس بالقول" ذكر فيه طرقا من حديث ابن عباس عن أبي بن كعب في قصة موسى والخضر، والمراد منه قوله: "كانت الأولى نسيانا والوسطى شرطا والثالثة عمدا" وأشار بالشرط إلى قوله: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} والتزام موسى بذلك ولم يكتبا ذلك ولم يشهدا أحدا. وفيه دلالة على العمل بمقتضى ما دل عليه الشرط، فإن الخضر قال لموسى لما أخلف الشرط: "هذا فراق بيني وبينك" ولم ينكر موسى عليه السلام ذلك.

(5/326)


13 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْوَلاَءِ
2729- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي فَقَالَتْ إِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي فَعَلْتُ فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ فَأَبَوْا عَلَيْهَا فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكِ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُمْ فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلاَءَ فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ "مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ وَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
قوله: "باب الشروط في الولاء" ذكر فيه طرفا من حديث عائشة في قصة بريرة، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في آخر كتاب العتق.

(5/326)


باب إذا اشبرط في المزارعة (إذا شئت أخرجتك)
...
14 - باب: إِذَا اشْتَرَطَ فِي الْمُزَارَعَةِ "إِذَا شِئْتُ أَخْرَجْتُكَ"
2730- حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مَرَّارُ بْنُ حَمُّويَهْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَبُو غَسَّانَ الْكِنَانِيُّ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمَّا فَدَعَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَقَالَ نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى مَالِهِ هُنَاكَ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ هُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاَءَهُمْ فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ أَتَاهُ أَحَدُ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَامَلَنَا عَلَى الأَمْوَالِ وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا فَقَالَ عُمَرُ أَظَنَنْتَ أَنِّي نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ فَقَالَ كَانَتْ هَذِهِ هُزَيْلَةً مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ قَالَ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ فَأَجْلاَهُمْ عُمَرُ وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ الثَّمَرِ مَالًا وَإِبِلًا وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ"
رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَحْسِبُهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَصَرَهُ
قوله: "باب إذا اشترط في المزارعة: إذا شئت أخرجتك" كذا ذكر هذه الترجمة مختصرة، وترجم لحديث الباب في المزارعة بأوضح من هذا فقال: "إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله ولم يذكر أجلا معلوما فهما على تراضيهما" وأخرج هناك حديث ابن عمر في قصة يهود خيبر بلفظ: "نقركم على ذلك ما شئنا" وأورده هنا بلفظ: "نقركم ما أقركم الله" فأحال في كل ترجمة على لفظ المتن الذي في الأخرى، وبينت إحدى الروايتين مراد الأخرى وأن المراد بقوله: "ما أقركم الله" ما قدر الله أنا نترككم فيها فإذا شئنا فأخرجناكم تبين أن الله قدر إخراجكم، والله أعلم. وقد تقدم في المزارعة توجيه الاستدلال به على جواز المخابرة، وفيه جواز الخيار في المساقاة للمالك لا إلى أمد، وأجاب من لم يجزه باحتمال أن المدة كانت مذكورة ولم تنقل، أو لم تذكر لكن عينت كل سنة بكذا، أو أن أهل خيبر صاروا عبيدا للمسلمين ومعاملة السيد لعبده لا يشترط فيها ما يشترط في الأجنبي، والله أعلم. قوله: "حدثنا أبو أحمد" كذا للأكثر غير مسمى ولا منسوب، ولابن السكن في روايته عن الفربري ووافقه أبو ذر "حدثنا أبو أحمد مرار بن حمويه" وهو بفتح الميم وتشديد الراء، وأبوه بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم، قال ابن الصلاح أهل الحديث يقولونها بضم الميم وسكون الواو وفتح التحتانية، وغيرهم بفتح الميم والواو وسكون التحتانية وآخرها هاء عند الجميع، ومن قاله من المحدثين بالتاء المثناة الفوقانية بدل الهاء فقد غلط. قلت: لكن وقع في شعر لابن دريد ما يدل على تجويز ذلك وهو قوله: "إن كان نفطويه من نسلي" وهو همذاني بفتح الميم ثقة مشهور، وليس له في البخاري غير هذا الحديث، وكذا شيخه، وهو من فوقه مدنيون. وقال الحاكم: أهل بخاري يزعمون أنه أبو أحمد محمد بن يوسف البيكندي. ويحتمل أن يكون المراد أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب الفراء، فإن أبا عمر المستملي رواه عنه عن أبي غسان انتهى، والمعتمد ما وقع في ذلك عند ابن السكن ومن وافقه، وجزم أبو نعيم أنه مرار المذكور وقال: لم يسمه البخاري والحديث حديثه. ثم أخرجه من طريق موسى بن هارون عن مرار.

(5/327)


قلت: وكذا أخرجه الدار قطني في "الغرائب" من طريقه، ورواه ابن وهب عن مالك بغير إسناد، وأخرجه عمر بن شبة في "أخبار المدينة". قوله: "حدثنا محمد بن يحيى" أي ابن علي الكاتب. قوله: "فدع" بفتح الفاء والمهملتين، الفدع بفتحتين زوال المفصل، فدعت يداه إذا أزيلتا من مفاصلهما. وقال الخليل: الفدع عوج في المفاصل، وفي خلق الإنسان الثابت إذا زاغت القدم من أصلها من الكعب وطرف الساق فهو الفدع. وقال الأصمعي: هو زيغ في الكف بينها وبين الساعد وفي الرجل بينها وبين الساق، هذا الذي في جميع الروايات وعليها شرح الخطابي وهو الواقع في هذه القصة. ووقع في رواية ابن السكن بالغين المعجمة أي فدغ وجزم به الكرماني، وهو وهم لأن الفدغ بالمعجمة كسر الشيء المجوف قاله الجوهري، ولم يقع ذلك لابن عمر في القصة. قوله: "فعدي عليه من الليل" قال الخطابي: كأن اليهود "سحروا عبد الله بن عمر فالتوت يداه ورجلاه، كذا قال، ويحتمل أن يكونوا ضربوه ويؤيده تقييده بالليل في هذه الرواية. ووقع في رواية حماد بن سلمة التي علق المصنف إسنادها آخر الباب بلفظ: "فلما كان زمان عمر غشوا المسلمين وألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه" الحديث. قوله: "تهمتنا" بضم المثناة وفتح الهاء ويجوز إسكانها، أي الذين نتهمهم بذلك. قوله: "وقد رأيت إجلاءهم. فلما أجمع" أي عزم. وقال أبو الهيثم: أجمع على كذا أي جمع أمره جميعا بعد أن كان مفرقا، وهذا لا يقتضي حصر السبب في إجلاء عمر إياهم، وقد وقع لي فيه سببان آخران: أحدهما رواه الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: ما زال عمر حتى وجد الثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يجتمع بجزيرة العرب دينان" فقال: من كان له من أهل الكتابين عهد فليأت به أنفذه له، وإلا فإني مجليكم. فأجلاهم. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره. ثانيهما رواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة" من طريق عثمان بن محمد الأخنسي قال: لما كثر العيال - أي الخدم - في أيدي المسلمين وقووا على العمل في الأرض أجلاهم عمر. ويحتمل أن يكون كل من هذه الأشياء جزء علة في إخراجهم. والإجلاء الإخراج عن المال والوطن على وجه الإزعاج والكراهة. قوله: "أحد بني أبي الحقيق" بمهملة وقافين مصغر، وهو رأس يهود خيبر، ولم أقف على اسمه. ووقع في رواية البرقاني "فقال رئيسهم لا تخرجنا" وابن أبي الحقيق الآخر هو الذي زوج صفية بنت حيي أم المؤمنين، فقتل بخيبر وبقي أخوه إلى هذه الغاية. قوله: "تعدو بك قلوصك" بفتح القاف وبالصاد المهملة: الناقة الصابرة على السير وقيل الشابة وقبل أول ما يركب من إناث الإبل وقيل الطويلة القوائم، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى إخراجهم من خيبر وكان ذلك من إخباره بالمغيبات قبل وقوعها. قوله: "كان ذلك" في رواية الكشميهني: "كانت هذه". قوله: "هزيلة" تصغير الهزل وهو ضد الجد. قوله: "مالا" تمييز للقيمة، وعطف الإبل عليه وكذلك العروض من عطف الخاص على العام، أو المراد بالمال النقد خاصة والعروض ما عدا النقد، وقيل ما لا يدخله الكيل ولا يكون حيوانا ولا عقارا. قوله: "رواه حماد بن سلمة عن عبيد الله" بالتصغير هو العمري. قوله: "أحسبه عن نافع" أي أن حمادا شك في وصله، وصرح بذلك أبو يعلى في روايته الآتية، وزعم الكرماني أن في قوله: "عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قرينة تدل على أن حمادا اقتصر في روايته على ما نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة من قول أو فعل دون ما نسب إلى عمر. قلت: وليس كما قال، وإنما المراد أنه اختصر من المرفوع دون الموقوف، وهو الواقع في نفس الأمر، فقد رويناه في "مسند أبي يعلى" و "فوائد البغوي" كلاهما عن عبد الأعلى بن حماد عن حماد بن سلمة ولفظه: "قال عمر: من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها، فقال رئيسهم

(5/328)


لا تخرجنا ودعنا كما أقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال له عمر: أتراه سقط علي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بك إذا رقصت بك راحلتك نحو الشأم يوما ثم يوما ثم يوما، فقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية" قال البغوي هكذا رواه غير واحد عن حماد، ورواه الوليد بن صالح عن حماد بغير شك، قلت: وكذا رويناه في مسند عمر النجار من طريق هدبة بن خالد عن حماد بغير شك وفيه قوله: "رقصت بك" أي أسرعت في السير، وقوله: "نحو الشام" تقدم في المزارعة "أن عمر أجلاهم إلى تيماء وأريحاء". "تنبيه": وقع للحميدي نسبة رواية حماد بن سلمة مطولة جدا إلى البخاري، وكأنه نقل السياق من "مستخرج البرقاني" كعادته وذهل عن عزوه إليه، وقد نبه الإسماعيلي على أن حمادا كان يطوله تارة ويرويه تارة مختصرا، وقد أشرت إلى بعض ما في روايته قبل، قال المهلب: في القصة دليل على أن العداوة توضح المطالبة بالجناية كما طالب عمر اليهود بفدع ابنه، ورجح ذلك بأن قال: ليس لنا عدو غيرهم، فعلق المطالبة بشاهد العداوة. وإنما لم يطلب القصاص لأنه فدع وهو نائم فلم يعرف أشخاصهم. وفيه أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله محمولة على الحقيقة حتى يقوم دليل المجاز.

(5/329)


باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط
...
رواية أبي الأسود المذكورة "فبعث إليهم فقدموا عليه" وفي رواية موسى بن عقبة عن الزهري "فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير، فقدم كتابه وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا. قال وقدم أبو جندل ومن معه إلى المدينة فل يزل بها إلى أن خرج إلى الشام مجاهدا فاستشهد في خلافة عمر، قال فعلم الذين كانوا أشاروا بأن لا يسلم أبا جندل إلى أبيه أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مما كرهوا" وفي قصة أبي بصير من الفوائد جواز قتل المشرك المعتدي غيلة، ولا يعد ما وقع من أبي بصير غدرا لأنه لم يكن في جملة من دخل في المعاقدة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، لأنه إذ ذاك كان محبوسا بمكة، لكنه لما خشي أن المشرك يعيده إلى المشركين درأ عن نفسه بقتله، ودافع عن دينه بذلك، ولم ينكر النبي قوله ذلك. وفيه أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية، قد وقع عند ابن إسحاق "أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته لأنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك لأنه وفي بما عليه وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره. ولا على آل أبي بصير أيضا شيء لأنه ليس على دينهم". وفيه أنه كان لا يرد على المشركين من جاء منهم إلا بطلب منهم، لأنهم لما طلبوا أبا بصير أول مرة أسلمه لهم، ولما حضر إليه ثانيا لم يرسله لهم، بل لو أرسلوا إليه وهو عنده لأرسله، فلما خشي أبو بصير من ذلك نجا بنفسه. وفيه أن شرط الرد أن يكون الذي حضر من دار الشرك باقيا في بلد الإمام، ولا يتناول من لم يكن تحت يد الإمام ولا متحيزا إليه. واستنبط منه بعض المتأخرين أن بعض ملوك المسلمين مثلا لو هادن بعض ملوك الشرك فغزاهم ملك آخر من المسلمين فقتلهم وغنم أموالهم جاز له ذلك، لأن عهد الذي هادنهم لم يتناول من لم يهادنهم، ولا يخفى أن محل ذلك ما إذا لم يكن هناك قرينة تعميم. قوله: "فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} كذا هنا، ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، وفيه نظر، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع ومن حديث أنس بن مالك أيضا، وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة فظفروا بهم، فعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية. وقيل في نزولها غير ذلك. قوله: "معرة العر الجرب" يعني أن المعرة مشتقة من العر بفتح المهملة وتشديد الراء. قوله: "تزيلوا تميزوا، حميت القوم منعتهم حماية إلخ" هذا القدر من تفسير سورة الفتح في المجاز لأبي عبيدة وهو في رواية المستملي وحده. قوله: "قال عقيل عن الزهري" تقدم موصولا بتمامه في أول الشروط، وأراد المصنف بإيراده بيان ما وقع في رواية معمر من الإدراج. قوله: "وبلغنا" هو مقول الزهري، وصله ابن مردويه في تفسيره من طريق عقيل. وقوله: "وبلغنا أن أبا بصير إلخ" هو من قول الزهري أيضا والمراد به أن قصة أبي بصير في رواية عقيل من مرسل الزهري، وفي رواية معمر موصولة إلى المسور، لكن قد تابع معمرا على وصلها ابن إسحاق كما تقدم، وتابع عقيلا الأوزاعي على إرسالها. فلعل الزهري كان يرسلها تارة ويوصلها أخرى والله أعلم. ووقع في هذه الرواية الأخيرة من الزيادة "وما نعلم أن أحدا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها" وفيها قوله: "أن أبا بصير بن أسيد بفتح الهمزة قدم مؤمنا" كذا للأكثر، وفي رواية السرخسي والمستملي: "قدم من منى" وهو تصحيف. قوله: "أن عمر طلق امرأتين قريبة" يأتي ضبطها وبيان الحكم في ذلك في كتاب النكاح في "باب نكاح من أسلم من المشركات". وقوله: "فلما أبى الكفار أن يقروا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم" يشير إلى قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا

(5/51)


16 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْقَرْضِ
2734- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(5/352)


"عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى"
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَطَاءٌ: "إِذَا أَجَّلَهُ فِي الْقَرْضِ جَازَ"
قوله: "باب الشروط في القرض" ذكر فيه طرفا من حديث أبي هريرة في قصة الذي أقرض الألف الدينار، وأثر ابن عمر وعطاء في تأجيل القرض، وقد مضى جميع ذلك والكلام عليه في كتاب القرض، وسقط ميع ذلك هنا للنسفي، لكن زاد في الترجمة التي تليه فقال: "باب الشروط في القرض والمكاتب إلخ".

(5/353)


باب المكاتب وما لا يحل من الشروط التي تخالف الكتاب والسنة
...
17 - باب: الْمُكَاتَبِ وَمَا لاَ يَحِلُّ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي تُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْمُكَاتَبِ: شُرُوطُهُمْ بَيْنَهُمْ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - أَوْ عُمَرُ -: كُلُّ شَرْطٍ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ
وقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَيُقَالُ عَنْ كِلَيْهِمَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ
2735- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَتْ إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلاَءُ لِي فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَّرْتُهُ ذَلِكَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ"

(5/353)


18 - باب: مَا يَجُوزُ مِنْ الِاشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا فِي الإِقْرَارِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ وَإِذَا قَالَ مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ رَجُلٌ لِكَرِيِّهِ أَرْحِلْ رِكَابَكَ فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَخْرُجْ فَقَالَ شُرَيْحٌ مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ إِنَّ رَجُلًا بَاعَ طَعَامًا وَقَالَ إِنْ لَمْ آتِكَ الأَرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَيْعٌ فَلَمْ يَجِئْ فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْمُشْتَرِي أَنْتَ أَخْلَفْتَ فَقَضَى عَلَيْهِ
2736- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة"
[الحديث 2736- طرفاه في: 6410 ، 7392]
قوله: "باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا" بضم المثلثة وسكون النون بعدها تحتانية مقصور أي الاستثناء "في الإقرار" أي سواء كان استثناء قليل من كثير أو كثير من قليل، واستثناء القليل من الكثير لا خلاف في جوازه، وعكسه مختلف فيه، ذهب الجمهور إلى جوازه أيضا، وأقوى حججهم قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} مع قوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} لأن أحدهما أكثر من الآخر لا محالة، وقد استثني كلا منهما من الآخر. وذهب بعض المالكية كابن الماجشون إلى فساده، وإليه ذهب ابن قتيبة وزعم أنه مذهب البصريين من أهل اللغة، وأن الجواز مذهب الكوفيين، وممن حكاه عنهم الفراء، وسيأتي بسط هذا عند الكلام على الحديث المرفوع في الباب في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال ابن عون إلخ" وصله سعيد بن منصور عن هشيم عنه ولفظه: "أن رجلا تكارى من آخر فقال: اخرج يوم الاثنين" فذكر نحوه. قوله: "وقال أيوب عن ابن سرين إلخ" وصله سعيد بن منصور أيضا عن سفيان عن أيوب، وحاصله أن شريحا في المسألتين قضى على المشترط بما اشترطه على نفسه بغير إكراه، وواقفه على المسألة الثانية أبو حنيفة وأحمد وإسحاق. وقال مالك والأكثر: يصح البيع ويبطل الشرط، وخالفه الناس في المسألة الأولى، ووجهه بعضهم بأن العادة أن صاحب الجمال يرسلها إلى المرعى، فإذا اتفق مع التاجر على يوم بعينه فأحضر له الإبل فلم يتهيأ للتاجر السفر أضر ذلك بحال الجمال لما يحتاج إليه من العلف، فوقع بينهم التعارف على مال معين يشترطه التاجر على نفسه إذا أخلف ليستعين به الجمال على العلف. وقال الجمهور: هي عدة فلا يلزم الوفاء بها، والله أعلم.

(5/354)


19 - باب: الشُّرُوطِ فِي الْوَقْفِ
2737- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ أَنْبَأَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ

(5/354)


حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا قَالَ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِينَ فَقَالَ "غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا"
قوله: "باب الشروط في الوقف" ذكر فيه حديث ابن عمر في قصة وقف عمر، وسيأتي الكلام عليه في أثناء الكتاب الذي يليه إن شاء الله تعالى.
"خاتمة": اشتمل كتاب الشروط من الأحاديث المرفوعة على سبعة وأربعين حديثا، الخالص منها خمسة أحاديث والبقية مكررة، والمعلق منها سبعة وعشرون طريقا وكلها عند مسلم سوى بلاغ الزهري. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أحد عشر أثرا والله أعلم.

(5/355)


كتاب الوصايا
باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم (وصية الرجل مكتوبة)
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
55 - كِتَاب الْوَصَايَا
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الوصايا" كذا للنسفي، وأخر الباقون البسملة. والوصايا جمع وصية كالهدايا وتطلق على فعل الموصي وعلى ما يوصي به من مال أو غيره من عهد ونحوه، فتكون بمعني المصدر وهو الإيصاء، وتكون بمعنى المفعول وهو الاسم. وفي الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت، وقد يصحبه التبرع. قال الأزهري: الوصية من وصيت الشيء بالتخفيف أوصيه إذا وصلته، وسميت وصية لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بعد مماته، ويقال وصية بالتشديد، ووصاة بالتخفيف بغير همز. وتطلق شرعا أيضا على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات.
1 - باب: الْوَصَايَا، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ
وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل [180 البقرة]: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
جَنَفًا: مَيْلًا. مُتَجَانِفٌ: مَائِلٌ
2738- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ"
تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(5/355)


2739- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخِي جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلاَ دِينَارًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ أَمَةً وَلاَ شَيْئًا إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً"
[الحديث 2739- أطرافه في: 2873 ، 2912 ، 3098 ، 4461]
2740- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مَالِكٌ هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى؟ فَقَالَ: لاَ. فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ أَوْ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ؟ قَالَ أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ"
[الحديث 2740- طرفاه في: 4460 ، 5022]
2741- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ "ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ وَصِيًّا فَقَالَتْ: مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِي - أَوْ قَالَتْ: حَجْرِي - فَدَعَا بِالطَّسْتِ، فَلَقَدْ انْخَنَثَ فِي حَجْرِي فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ"؟
[الحديث 2741- طرفه في: 4459]
قوله: "باب الوصايا" أي حكم الوصايا. قوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم: وصية الرجل مكتوبة عنده" لم أقف على هذا الحديث باللفظ المذكور، وكأنه بالمعنى، فإن المرء هو الرجل لكن التعبير به خرج مخرج الغالب، وإلا فلا فرق - في الوصية الصحيحة - بين الرجل والمرأة، ولا يشترط فيها إسلام ولا رشد ولا ثيوبة ولا إذن زوج، وإنما يشترط في صحتها العقل والحرية، وأما وصية الصبي المميز ففيها خلاف: منعها الحنفية والشافعي في الأظهر، وصححها مالك وأحمد والشافعي في قول رجحه ابن أبي عصرون وغيره، ومال إليه السبكي وأيده بأن الوارث لا حق له في الثلث فلا وجه لمنع وصية المميز، قال: والمعتبر فيه أن يعقل ما يوصي به. وروى الموطأ فيه أثرا عن عمر أنه أجاز وصية غلام لم يحتلم، وذكر البيهقي أن الشافعي علق القول به على صحة الأثر المذكور، وهو قوي فإن رجاله ثقات وله شاهد، وقيد مالك صحتها بما إذا عقل ولم يخلط، وأحمد بسبع وعنه بعشر. قوله: "وقال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ - إلى – جَنَفاً} كذا لأبي ذر، وللنسفي الآية، وساق الباقون الآيات الثلاث إلى {غَفُورٌ رَحِيمٌ} وتقدير الآية: كتب عليكم الوصية وقت حضور الموت، ويجوز أن تكون الوصية مفعول كتب، أو الوصية مبتدأ وخبره للوالدين، ودل قوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} بعد الاتفاق على أن المراد به المال على أن من لم يترك مالا لا تشرع له الوصية بالمال، وقيل المراد بالخير المال الكثير فلا تشرع لمن له مال قليل. قال ابن عبد البر أجمعوا على أن من لم يكن عنده إلا اليسير التافه من المال أنه لا تندب له الوصية، وفي نقل الإجماع نظر، فالثابت عن الزهري أنه قال: جعل الله الوصية حقا فيما قل أو كثر، والمصرح به عند الشافعية ندبية الوصية من

(5/356)


غير تفريق بين قليل وكثير. نعم قال أبو الفرج السرخسي منهم: إن كان المال قليلا والعيال كثيرا استحب له توفرته عليهم، وقد تكون الوصية بغير المال كأنه يعين من ينظر في مصالح ولده أو يعهد إليهم بما يفعلونه من بعده من مصالح دينهم ودنياهم، وهذا لا يدفع أحد ندبيته. واختلف في حد المال الكثير في الوصية، فعن علي سبعمائة مال قليل، وعنه ثمانمائة مال قليل، وعن ابن عباس نحوه، وعن عائشة فيمن ترك عيالا كثيرا وترك ثلاثة آلاف ليس هذا بمال كثير. وحاصله أنه أمر نسبي يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والله أعلم. قوله: "جنفا ميلا" هو تفسير عطاء رواه الطبري عنه بإسناد صحيح، ونحوه قول أبي عبيدة في المجاز: الجنف العدول عن الحق وأخرج السدي وغيره أن الجنف الخطأ والإثم العمد. قوله: "متجانف متمايل" كذا للأكثر، ولأبي ذر "مائل". قال أبو عبيدة في المجاز: قوله: "غير متجانف لإثم" أي غير منعوج مائل للإثم، ونقل الطبري عن ابن عباس وغيره أن معناه غير متعمد لإثم. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: أحدها حديث ابن عمر من وجهين، قوله: "ما حق امرئ مسلم" كذا في أكثر الروايات، وسقط لفظ: "مسلم"من رواية أحمد عن إسحاق بن عيسى عن مالك، والوصف بالمسلم خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أو ذكر للتهييج لتقع المبادرة لامتثاله لما يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك، ووصية الكافر جائزة في الجملة، وحكى ابن المنذر فيه الإجماع، وقد بحث فيه السبكي من جهة أن الوصية شرعت زيادة في العمل الصالح والكافر لا عمل له بعد الموت، وأجاب بأنهم نظروا إلى أن الوصية كالإعتاق وهو يصح من الذمي والحربي والله أعلم. قوله: "شيء يوصي فيه" قال ابن عبد البر: لم يختلف الرواة عن مالك في هذا اللفظ، ورواه أيوب عن نافع بلفظ: "له شيء يريد أن يوصي فيه" ورواه عبيد الله بن عمر عن نافع مثل أيوب أخرجهما مسلم، ورواه أحمد عن سفيان عن أيوب بلفظ: "حق على كل مسلم أن لا يبيت ليلتين وله ما يوصي فيه" الحديث. ورواه الشافعي عن سفيان بلفظ: "ما حق امرئ يؤمن بالوصية" الحديث، قال ابن عبد البر: فسره ابن عيينة أي يؤمن بأنها حق ا هـ. وأخرجه أبو عوانة من طريق هشام بن الغاز عن نافع بلفظ: "لا ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين" الحديث. وذكره ابن عبد البر عن سليمان بن موسى عن نافع مثله، وأخرجه الطبراني من طريق الحسن عن ابن عمر مثله، وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة عن مالك وابن عون جميعا عن نافع بلفظ: "ما حق امرئ مسلم له مال يريد أن يوصي فيه" وذكره ابن عبد البر من طريق ابن عون بلفظ: "لا يحل لامرئ مسلم له مال" وأخرجه الطحاوي أيضا، وقد أخرجه النسائي من هذا الوجه ولم يسق لفظه قال أبو عمر: لم يتابع ابن عون على هذه اللفظة. قلت: إن عني عن نافع بلفظها فمسلم، ولكن المعنى يمكن أن يكون متحدا كما سيأتي. وإن عني عن ابن عمر فمردود لما سيأتي قريبا ذكر من رواه عن ابن عمر أيضا بهذا اللفظ، قال ابن عبد البر: قوله: "له مال" أولى عندي من قول من روى "له شي" لأن الشيء يطلق على القليل والكثير بخلاف المال، كذا قال، وهي دعوى لا دليل عليها، وعلى تسليمها فرواية: "شيء" أشمل لأنها تعم ما يتمول وما لا يتمول كالمختصات والله أعلم. قوله: "يبيت" كأن فيه حذفا تقديره أن يبيت، وهو كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية. ويجوز أن يكون "يبيت" صفة لمسلم وبه جزم الطيبي قال: هي صفة ثانية، وقوله: "يوصي فيه" صفة شيء، ومفعول "يبيت" محذوف تقديره آمنا أو ذاكرا، وقال ابن التين: تقديره موعوكا، والأول أولى لأن استحباب الوصية لا يختص بالمريض. نعم قال العلماء: لا يندب أن يكتب جميع الأشياء المحقرة ولا ما جرت

(5/357)


العادة بالخروج منه والوفاء له عن قرب. والله أعلم. قوله: "ليلتين" كذا لأكثر الرواة، ولأبي عوانة والبيهقي من طريق حماد بن زيد عن أيوب "يبيت ليلة أو ليلتين"، ولمسلم والنسائي من طريق الزهري عن سالم عن أبيه "يبيت ثلاث ليال"، وكأن ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها ففسح له هذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه، واختلاف الروايات فيه دال على أنه للتقريب لا للتحديد، والمعنى لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلا إلا ووصيته مكتوبة، وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير، وكأن الثلاث غاية للتأخير، ولذلك قال ابن عمر في رواية سالم المذكورة "لم أبت ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي عندي" قال الطيبي: في تخصيص الليلتين والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة، أي لا ينبغي أن يبيت زمانا ما، وقد سامحناه في الليلتين والثلاث فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك. قوله: "تابعه محمد بن مسلم" هو الطائفي "عن عمرو" هو ابن دينار "عن ابن عمر" يعني في أصل الحديث، ورواية محمد بن مسلم هذه أخرجها الدار قطني في الأفراد من طريقه وقال: تفرد به عمران بن أبان - يعني الواسطي - عن محمد بن مسلم، وعمران أخرج له النسائي وضعفه، قال ابن عدي: له غرائب عن محمد بن مسلم ولا أعلم به بأسا، ولفظه عند الدار قطني "لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" واستدل بهذا الحديث مع ظاهر الآية على وجوب الوصية، وبه قال الزهري وأبو مجلز وعطاء وطلحة بن مصرف في آخرين، وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم، وبه قال إسحاق وداود، واختاره أبو عوانة الإسفرايني وابن جرير وآخرون. ونسب ابن عبد البر القول بعدم الوجوب إلى الإجماع سوى من شذ، كذا قال، واستدل لعدم الوجوب من حيث المعنى لأنه لو لم يوص لقسم جميع ماله بين ورثته بالإجماع، فلو كانت الوصية واجبة لأخرج من ماله سهم ينوب عن الوصية، وأجابوا عن الآية بأنها منسوخة كما قال ابن عباس: على ما سيأتي بعد أربعة أبواب "كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل لكل واحد من الأبوين السدس" الحديث. وأجاب من قال بالوجوب بأن الذي نسخ الوصية للوالدين والأقارب الذين يرثون وأما الذي لا يرث فليس في الآية ولا في تفسير ابن عباس ما يقتضي النسخ في حقه، وأجاب من قال بعدم الوجوب عن الحديث بأن قوله: "ما حق امرئ" بأن المراد الحزم والاحتياط، لأنه قد يفجؤه الموت وهو على غير وصية، ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن ذكر الموت والاستعداد له، وهذا عن الشافعي، وقال غيره: الحق لغة الشيء الثابت، ويطلق شرعا على ما ثبت به الحكم، والحكم الثابت أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا، وقد يطلق على المباح أيضا لكن بقلة قاله القرطبي، قال: فإن اقترن به "على" أو نحوها كان ظاهرا في الوجوب، وإلا فهو على الاحتمال، وعلى هذا التقدير فلا حجة في هذا الحديث لمن قال بالوجوب، بل اقترن هذا الحق بما يدل على الندب وهو تفويض الوصية إلى إرادة الموصي حيث قال: "له شيء يريد أن يوصي فيه: "فلو كانت واجبة لما علقها بإرادته، وأما الجواب عن الرواية التي بلفظ: "لا يحل" فلاحتمال أن يكون راويها ذكرها وأراد بنفي الحل ثبوت الجواز بالمعنى الأعم الذي يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، واختلف القائلون بوجوب الوصية فأكثرهم ذهب إلى وجوبها في الجملة، وعن طاوس وقتادة والحسن وجابر بن زيد في آخرين "تجب للقرابة الذين لا يرثون خاصة" أخرجه ابن جرير وغيره عنهم، قالوا: فإن أوصى لغير قرابته لم تنفذ ويرد الثلث كله إلى قرابته وهذا قول طاوس. وقال الحسن وجابر بن زيد: ثلثا الثلث. وقال قتادة: ثلث الثلث، وأقوى ما يرد على هؤلاء ما احتج به الشافعي من

(5/358)


حديث عمران بن حصين في قصة الذي أعتق عند موته ستة أعبد له لم يكن له مال غيرهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم ستة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة، قال فجعل عتقه في المرض وصية، ولا يقال لعلهم كانوا أقارب المعتق لأنا نقول لم تكن عادة العرب أن تملك من بينها وبينه قرابة، وإنما تملك من لا قرابة له أو كان من العجم، فلو كانت الوصية تبطل لغير القرابة لبطلت في هؤلاء، وهو استدلال قوي والله أعلم. ونقل ابن المنذر عن أبي ثور أن المراد بوجوب الوصية في الآية والحديث يختص بمن عليه حق شرعي يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به كوديعة ودين لله أو لآدمي، قال: ويدل على ذلك تقييده بقوله: "له شيء يريد أن يوصي فيه"لأن فيه إشارة إلى قدرته على تنجيزه ولو كان مؤجلا. فإنه إذا أراد ذلك ساغ له، وإن أراد أن يوصي به ساغ له، وحاصله يرجع إلى قول الجمهور إن الوصية غير واجبة لعينها، وإن الواجب لعينه الخروج من الحقوق الواجبة للغير سواء كانت بتنجيز أو وصية، ومحل وجوب الوصية إنما هو فيما إذا كان عاجزا عن تنجيز ما عليه وكان لم يعلم بذلك غيره ممن يثبت الحق بشهادته، فأما إذا كان قادرا أو علم بها غيره فلا وجوب، وعرف من مجموع ما ذكرنا أن الوصية قد تكون واجبة وقد تكون مندوبة فيمن رجا منها كثرة الأجر، ومكروهة في عكسه، ومباحة فيمن استوى الأمران فيه، ومحرمة فيما إذا كان فيها إضرار كما ثبت عن ابن عباس "الإضرار في الوصية من الكبائر" رواه سعيد بن منصور موقوفا بإسناد صحيح، ورواه النسائي ورجاله ثقات، واحتج ابن بطال تبعا لغيره بأن ابن عمر لم يوص. فلو كانت الوصية واجبة لما تركها وهو راوي الحديث، وتعقب بأن ذلك إن ثبت عن ابن عمر فالعبرة بما روى لا بما رأى، على أن الثابت عنه في صحيح مسلم كما تقدم أنه قال: "لم أبت ليلة إلا ووصيتي مكتوبة عندي" والذي احتج بأنه لم يوص اعتمد على ما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن نافع قال: "قيل لابن عمر في مرض موته: ألا توصي؟ قال: أما مالي فالله يعلم ما كنت أصنع فيه، وأما رباعي فلا أحب أن يشارك ولدي فيها أحد" أخرجه ابن المنذر وغنوه وسنده صحيح، ويجمع بينه وبين ما رواه مسلم بالحمل على أنه كان يكتب وصبته ويتعاهدها؛ ثم صار ينجز ما كان يوصي به معلقا، وإليه الإشارة بقوله: "فالله يعلم ما كنت أصنع في مالي". ولعل الحامل له على ذلك حديثه الذي سيأتي في الرقاق "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" الحديث، فصار ينجز ما يريد التصدق به فلم يحتج إلى تعليق، وسيأتي في آخر الوصايا أنه وقف بعض دوره، فبهذا يحصل التوفيق والله أعلم. واستدل بقوله: "مكتوبة عنده" على جواز الاعتماد على الكتابة والخط ولو لم يقترن ذلك بالشهادة، وخص أحمد ومحمد بن نصر من الشافعية ذلك بالوصية لثبوت الخبر فيها دون غيرها من الأحكام، وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذكرت لما فيها من ضبط المشهود به، قالوا: ومعنى "وصيته مكتوبة عنده" أي بشرطها. وقال المحب الطبري: إضمار الإشهاد فيه بعد، وأجيب بأنهم استدلوا على اشتراط الإشهاد بأمر خارج كقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} فإنه يدل على اعتبار الإشهاد في الوصية، وقال القرطبي: ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التوثق، وإلا فالوصية المشهود بها متفق عليها ولو لم تكن مكتوبة والله أعلم. واستدل بقوله: "وصيته مكتوبة عنده" على أن الوصية تنفذ إن كانت عند صاحبها ولم يجعلها عند غيره، وكذلك لو جعلها عند غيره وارتجعها، وفي الحديث منقبة لابن عمر لمبادرته لامتثال قول الشارع ومواظبته عليه، وفيه الندب إلى التأهب للموت والاحتراز قبل الفوت، لأن الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت، لأنه ما من سن يفرض إلا وقد مات فيه جمع جم؛ وكل واحد بعينه جائز أن يموت في الحال، فينبغي أن يكون متأهبا لذلك فيكتب

(5/359)


وصيته، ويجمع فيها ما يحصل له به الأجر ويحبط عنه الوزر من حقوق الله وحقوق عباده، والله المستعان. واستدل بقوله: "له شيء" أو "له مال" على صحة الوصية بالمنافع، وهو قول الجمهور. ومنعه ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود وأتباعه، واختاره ابن عبد البر. وفي الحديث الحض على الوصية ومطلقها يتناول الصحيح، لكن السلف خصوها بالمريض، وإنما لم يقيد به في الخبر لإطراد العادة به، وقوله: "مكتوبة" أعم من أن تكون بخطه أو بغير خطه، ويستفاد منه أن الأشياء المهمة ينبغي أن تضبط بالكتابة لأنها أثبت من الضبط بالحفظ لأنه يخون غالبا. الحديث الثاني قوله: "حدثنا إبراهيم بن الحارث" هو بغدادي سكن نيسابور وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وشيخه يحيى بن أبي بكير بالتصغير وأداة الكنية هو الكرماني وليس هو يحيى بن بكير المصري صاحب الليث وأبو إسحاق هو السبيعي وعمرو بن الحارث هو الخزاعي المصطلقي أخو جويرية بالجيم والتصغير أم المؤمنين، ووقع التصريح بسماع أبي إسحاق له من عمرو بن الحارث في الخمس من هذا الكتاب. قوله: "ولا عبدا ولا أمة" أي في الرق، وفيه دلالة على أن من ذكر من رقيق النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأخبار كان إما مات وإما أعتقه، واستدل به على عتق أم الولد بناء على أن مارية والدة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما على قول من قال إنها ماتت في حياته صلى الله عليه وسلم فلا حجة فيه. قوله: "ولا شيئا" في رواية الكشميهني: "ولا شاة" والأول أصح، وهي رواية الإسماعيلي أيضا من طريق زهير، نعم روى مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم من طريق مسروق عن عائشة قالت: "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما ولا دينارا ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء". قوله: "إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة" سيأتي ذكر البغلة والسلاح في آخر المغازي، وأما الصدقة ففي رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق في أواخر المغازي "وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة" قال ابن المنير: أحاديث الباب مطابقة للترجمة إلا حديث عمرو بن الحارث هذا فليس فيه للوصية ذكر، قال: لكن الصدقة المذكورة يحتمل أن تكون قبله ويحتمل أن تكون موصى بها فتطابق الترجمة من هذه الحيثية انتهى. ويظهر أن المطابقة تحصل على الاحتمالين لأنه تصدق بمنفعة الأرض فصار حكمها حكم الوقف، وهو في هذه الصورة في معنى الوصية لبقائها بعد الموت، ولعل البخاري قصد ما وقع في حديث عائشة الذي هو شبيه حديث عمرو بن الحارث، وهو نفي كونه صلى الله عليه وسلم أوصى. الحديث الثالث حديث عبد الله بن أبي أوفى وإسناده كله كوفيون، وقوله: "حدثنا مالك" هو ابن مغول، ظاهره أن شيخ البخاري لم ينسبه فلذلك قال البخاري: "هو ابن مغول" وهو بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الواو، وذكر الترمذي أن مالك بن مغول تفرد به. قوله: "هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال: لا" هكذا أطلق الجواب، وكأنه فهم أن السؤال وقع عن وصية خاصة فلذلك ساغ نفيها، لا أنه أراد نفي الوصية مطلقا، لأنه أثبت بعد ذلك أنه أوصى بكتاب الله. قوله: "أو أمروا بالوصية" شك من الراوي: هل قال كيف كتب على المسلمين الوصية، أو قال كيف أمروا بها؟ زاد المصنف في فضائل القرآن "ولم يوص" وبذلك يتم الاعتراض، أي كيف يؤمر المسلمون بشيء ولا يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال النووي: لعل ابن أبي أوفى أراد لم يوص بثلث ماله لأنه لم يترك بعده مالا، وأما الأرض فقد سبلها في حياته، وأما السلاح والبغلة ونحو ذلك فقد أخبر بأنها لا تورث عنه بل جميع ما يخلفه صدقة، فلم يبق بعد ذلك ما يوصي به من الجهة المالية. وأما الوصايا بغير ذلك فلم يرد ابن أبي أوفى نفيها، ويحتمل أن يكون المنفي وصيته إلى علي بالخلافة كما وقع التصريح به في حديث عائشة الذي بعده، ويؤيده ما وقع في رواية الدارمي عن محمد بن يوسف

(5/360)


شيخ البخاري فيه، وكذلك عند ابن ماجه وأبي عوانة في آخر حديث الباب: "قال طلحة فقال هزيل بن شرحبيل: أبو بكر كان يتأمر على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ود أبو بكر أنه كان وجد عهدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخزم أنفه بخزام" وهزيل هذا بالزاي مصغر أحد كبار التابعين ومن ثقات أهل الكوفة، فدل هذا على أنه كان في الحديث قرينة تشعر بتخصيص السؤال بالوصية بالخلافة ونحو ذلك، لا مطلق الوصية. قلت: أخرج ابن حبان الحديث من طريق ابن عيينة عن مالك بن مغول بلفظ يزيل الإشكال فقال: "سئل ابن أبي أوفى: هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما ترك شيئا يوصي فيه. قيل: فكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله" وقال القرطبي: استبعاد طلحة واضح لأنه أطلق، فلو أراد شيئا بعينه لخصه به، فاعترضه بأن الله كتب على المسلمين الوصية وأمروا بها فكيف لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأجابه بما يدل على أنه أطلق في موضع التقييد، قال: وهذا يشعر بأن ابن أبي أوفى وطلحة بن مصرف كانا يعتقدان أن الوصية واجبة، كذا قال، وقول ابن أبي أوفى "أوصى بكتاب الله" أي بالتمسك به والعمل بمقتضاه، ولعله أشار لقوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلوا كتاب الله" ، وأما ما صح في مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم: "أوصى عند موته بثلاث: لا يبقين بجزيرة العرب دينان" وفي لفظ: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب" وقوله: "أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به" ولم يذكر الراوي الثالثة، وكذا ما ثبت في النسائي أنه صلى الله عليه وسلم. "كان آخر ما تكلم به الصلاة وما ملكت أيمانكم" وغير ذلك من الأحاديث التي يمكن حصرها بالتتبع، فالظاهر أن ابن أبي أوفى لم يرد نفيه، ولعله اقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه أعظم وأهم، ولأن فيه تبيان كل شيء إما بطريق النص وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس ما في الكتاب عملوا بكل ما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم به لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية، أو يكون لم يحضر شيئا من الوصايا المذكورة أو لم يستحضرها حال قوله، والأولى أنه إنما أراد بالنفي الوصية بالخلافة أو بالمال، وساغ إطلاق النفي أما في الأول فبقرينة الحال وأما في الثاني فلأنه المتبادر عرفا، وقد صح عن ابن عباس: "أنه صلى الله عليه وسلم لم يوص" أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أرقم بن شرحبيل عنه، مع أن ابن عباس هو الذي روى حديث أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاث، والجمع بينهما على ما تقدم. وقال الكرماني: قوله: "أوصى بكتاب الله" الباء زائدة أي أمر بذلك وأطلق الوصية على سبيل المشاكلة، فلا منافاة بين النفي والإثبات. قلت: ولا يخفى بعدما قال وتكلفه، ثم قال: أو المنفي الوصية بالمال أو الإمامة، والمثبت الوصية بكتاب الله، أي بما في كتاب الله أن يعمل به انتهى. وهذا الأخير هو المعتمد. الحديث الرابع قوله: "حدثنا عمرو بن زرارة" هو النيسابوري، وهو بفتح العين وزرارة بضم الزاي، وأما عمر بن زرارة بضم العين فهو بغدادي ولم يخرج عنه البخاري شيئا. ووقع في رواية أبي علي بن السكن بدل "عمرو بن زرارة" في هذا الحديث: "إسماعيل بن زرارة" يعني الرقي، قال أبو علي الجياني: لم أر ذلك لغيره، قال: وقد ذكر الدار قطني وأبو عبد الله بن منده في شيوخ البخاري إسماعيل بن زرارة الثغري ولم يذكره الكلاباذي ولا الحاكم. قوله: "أخبرنا إسماعيل" هو المعروف بابن علية، وإبراهيم هو النخعي، والأسود هو ابن يزيد خاله. قوله: "ذكروا عند عائشة أن عليا رضي الله عنهما كان وصيا" قال القرطبي: كانت الشيعة قد وضعوا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي، فرد عليهم جماعة من الصحابة ذلك، وكذا من بعدهم، فمن ذلك ما استدلت به عائشة كما سيأتي، ومن ذلك أن عليا لم يدع ذلك لنفسه، ولا بعد أن ولي الخلافة، ولا ذكره أحد من الصحابة يوم

(5/361)


السقيفة. وهؤلاء (1) صلى الله عليه وسلم تنقصوا عليا من حيث قصدوا تعظيمه، لأنهم نسبوه - مع شجاعته العظمى وصلابته في الدين - إلى المداهنة والتقية والإعراض عن طلب حقه مع قدرته على ذلك. وقال غيره: الذي يظهر أنهم ذكروا عندها أنه أوصى له بالخلافة في مرض موته فلذلك ساغ لها إنكار ذلك، واستندت إلى ملازمتها له في مرض موته إلى أن مات في حجرها ولم يقع منه شيء من ذلك، فساغ لها نفي ذلك، كونه منحصرا في مجالس معينة لم تغب عن شيء منها. وقد أخرج أحمد وابن ماجه بسند قوي وصححه من رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس في أثناء حديث فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه أبا بكر أن يصلي بالناس، قال في آخر الحديث: "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص" وسيأتي في الوفاة النبوية عن عمر "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف" وأخرج أحمد والبيهقي في "الدلائل" من طريق الأسود بن قيس عن عمرو بن أبي سفيان عن علي أنه لما ظهر يوم الجمل قال: "يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا" الحديث. وأما الوصايا بغير الخلافة فوردت في عدة أحاديث يجتمع منها أشياء: منها حديث أخرجه أحمد وهناد بن السري في "الزهد" وابن سعد في "الطبقات" وابن خزيمة كلهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي مات فيه: "ما فعلت الذهبية؟ قلت عندي. فقال: أنفقيها" الحديث. وأخرج ابن سعد من طريق أبي حازم عن أبي سلمة من عائشة نحوه، ومن وجه آخر عن أبي حازم عن سهل بن سعد وزاد فيه: "ابعثي بها إلى علي بن أبي طالب ليتصدق بها" وفي "المغازي لابن إسحاق" رواية يونس بن بكير عنه حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: "لم يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته إلا بثلاث: لكل من الداريين والرهاويين والأشعريين بحاد (2) صلى الله عليه وسلم مائة وسق من خيبر، وأن لا يترك في جزيرة العرب دينان، وأن ينفذ بعث أسامة" وأخرج مسلم في حديث ابن عباس "وأوصى بثلاث: أن تجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم" الحديث، وفي حديث ابن أبي أوفى الذي قبل هذا "أوصى بكتاب الله" وفي حديث أنس عنه عند النسائي وأحمد وابن سعد واللفظ له "كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم" وله شاهد من حديث علي عند أبي داود وابن ماجه وآخر من رواية نعيم بن يزيد عن علي "وأدوا الزكاة بعد الصلاة" أخرجه أحمد، ولحديث أنس شاهد آخر من حديث أم سلمة عند النسائي بسند جيد، وأخرج سيف بن عمر في "الفتوح" من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الفتن في مرض موته، ولزوم الجماعة والطاعة" وأخرج الواقدي من مرسل العلاء بن عبد الرحمن أنه أوصى فاطمة فقال: "قولي إذا مت: إنا لله وإنا إليه راجعون" وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث عبد الرحمن بن عوف "قالوا: يا رسول الله أوصنا - يعني في مرض موته - فقال: أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين وأبنائهم من بعدهم" وقال: لا يروى عن عبد الرحمن إلا بهذا الإسناد، تفرد به عتيق بن يعقوب انتهى، وفيه من لا يعرف حاله. وفي سنن ابن ماجه من حديث علي قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنا مت فغسلوني بسبع قرب من بئر غرس" وكانت بقباء وكان يشرب منها وسيأتي ضبطها وزيادة في حالها في
ـــــــ
(1) أي الشيعة
(2) قال مصحح طبعة بولاق: كذا بالأصول التي بأيدينا، وحرر الرواية

(5/362)


الوفاة النبوية. وفي مسند البزار ومستدرك الحاكم بسند ضعيف "أنه صلى الله عليه وسلم أوصى أن يصلوا عليه أرسالا بغير إمام" ومن أكاذيب الرافضة ما رواه كثير بن يحيى وهو من كبارهم عن أبي عوانة عن الأجلح عن زيد بن علي بن الحسين قال: "لما كان اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر قصة طويلة فيها - فدخل علي فقامت عائشة" فأكب عليه فأخبره بألف باب مما يكون قبل يوم القيامة، يفتح كل باب منها ألف باب" وهذا مرسل أو معضل، وله طريق أخرى موصولة عند ابن عدي في كتاب الضعفاء من حديث عبد الله بن عمر بسند واه. وقولها: "انخنث" بالنون والخاء المعجمة ثم نون مثلثة أي انثنى ومال، وسيأتي بقية ما يتعلق بشرحه في باب الوفاة من آخر المغازي إن شاء الله تعالى.

(5/363)


2 - باب: أَنْ يَتْرُكَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَكَفَّفُوا النَّاسَ
2742- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا قَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لاَ قُلْتُ فَالشَّطْرُ قَالَ لاَ قُلْتُ الثُّلُثُ قَالَ فَالثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ ابْنَةٌ"
قوله: "باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس" هكذا اقتصر على لفظ الحديث فترجم به. ولعله أشار إلى من لم يكن له من المال إلا القليل لم تندب له الوصية كما مضى. قوله: "عن سعد بن إبراهيم" أي ابن عبد الرحمن بن عوف، وعامر بن سعد شيخه هو خاله لأن أم سعد بن إبراهيم هي أم كلثوم بنت سعد بن أبي وقاص وسعد وعامر زهريان مدنيان تابعيان، ووقع في رواية مسعر عن سعد بن إبراهيم "حدثني بعض آل سعد قال: مرض سعد" وقد حفظ سفيان اسمه ووصله فروايته مقدمة، وقد روى هذا الحديث عن عامر أيضا جماعة منهم الزهري وتقدم سياق حديثه في الجنائز، ويأتي في الهجرة وغيرها، ورواه عن سعد بن أبي وقاص جماعة غير ابنه عامر كما سأشير إليه. قوله: "جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة" زاد الزهري في روايته: "في حجة الوداع من وجع اشتد بي" وله في الهجرة "من وجع أشفيت منه على الموت" واتفق أصحاب الزهري على أن ذلك كان في حجة الوداع، إلا ابن عيينة فقال: "في فتح مكة" أخرجه الترمذي وغيره من طريقه، واتفق الحفاظ على أنه وهم فيه. وقد أخرجه البخاري في الفرائض من طريقه فقال: "بمكة" ولم يذكر الفتح، وقد وجدت لابن عيينة مستندا فيه، وذلك فيما أخرجه أحمد والبزار والطبراني والبخاري في التاريخ وابن سعد من حديث عمرو بن القاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم فخلف سعدا مريضا حيث خرج إلى حنين، فلما قدم من الجعرانة معتمرا دخل عليه وهو مغلوب فقال: يا رسول الله إن لي مالا، وإني أورث كلالة، أفأوصي بمالي" الحديث، وفيه: "قلت: يا رسول الله أميت أنا بالدار الذي خرجت منها مهاجرا؟ قال: لا، إني لأرجو أن يرفعك الله حتى ينتفع بك أقوام"

(5/363)


الحديث، فلعل ابن عيينة انتقل ذهنه من حديث إلى حديث، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرتين مرة عام الفتح ومرة عام حجة الوداع، ففي الأولى لم يكن له وارث من الأولاد أصلا، وفي الثانية كانت له ابنة فقط، فالله أعلم. قوله: "وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها" يحتمل أن تكون الجملة حالا من الفاعل أو من المفعول، وكل منهما محتمل، لأن كلا من النبي صلى الله عليه وسلم ومن سعد كان يكره ذلك، لكن إن كان حالا من المفعول وهو سعد ففيه التفات لأن السياق يقتضي أن يقول: "وأنا أكره"، وقد أخرجه مسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن عن ثلاثة من ولد سعد عن سعد بلفظ: "فقال: يا رسول الله خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة" وللنسائي من طريق جرير بن يزيد عن عامر بن سعد "لكن البائس سعد بن خولة مات في الأرض التي هاجر منها" وله من طريق بكير بن مسمار عن عامر بن سعد في هذا الحديث: "فقال سعد: يا رسول الله أموت بالأرض التي هاجرت منها؟ قال. لا إن شاء الله تعالى " وسيأتي بقية ما يتعلق بكراهة الموت بالأرض التي هاجر منها في كتاب الهجرة إن شاء الله تعالى. قوله: "قال يرحم الله ابن عفراء" كذا وقع في هذه الرواية في رواية أحمد والنسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله سعد ابن عفراء ثلاث مرات" قال الداودي: "ابن عفراء" غير محفوظ. وقال الدمياطي: هو وهم، والمعروف "ابن خولة" قال: ولعل الوهم من سعد بن إبراهيم فإن الزهري أحفظ منه وقال فيه: "سعد بن خولة" يشير إلى ما وقع في روايته بلفظ: "لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة" قلت. وقد ذكرت آنفا من وافق الزهري وهو الذي ذكره أصحاب المغازي وذكروا أنه شهد بدرا ومات في حجة الوداع. وقال بعضهم في اسمه "خولي" بكسر اللام وتشديد التحتانية واتفقوا على سكون الواو، وأغرب ابن التين فحكى عن القابسي فتحها، ووقع في رواية ابن عيينة في الفرائض "قال سفيان وسعد بن خولة رجل من بني عامر بن لؤي" ا هـ. وذكر ابن إسحاق أنه كان حليفا لهم ثم لأبي رهم بن عبد العزي منهم، وقيل كان من الفرس الذين نزلوا اليمن، وسيأتي شيء من خبره في غزوة بدر من كتاب المغازي إن شاء الله تعالى في حديث سبيعة الأسلمية، ويأتي شرح حديث سبيعة في كتاب العدد من آخر كتاب النكاح، وجزم الليث بن سعد في تاريخه عن يزيد بن أبي حبيب بأن سعد بن خولة مات في حجة الوداع وهو الثابت في الصحيح، خلافا لمن قال إنه مات في مدة الهدنة مع قريش سنة سبع، وجوز أبو عبد الله بن أبي الخصال الكاتب المشهور في حواشيه على البخاري أن المراد بابن عفراء عوف بن الحارث أخو معاذ ومعوذ أولاد عفراء وهي أمهم، والحكمة في ذكره ما ذكره ابن إسحاق أنه قال يوم بدر "ما يضحك الرب من عبده؟ قال: أن يغمس يده في العدو حاسرا، فألقى الدرع التي هي عليه فقاتل حتى قتل" قال: فيحتمل أن يكون لما رأى اشتياق سعد بن أبي وقاص للموت وعلم أنه يبقى حتى يلي الولايات ذكر ابن عفراء وحبه للموت ورغبته في الشهادة كما يذكر الشيء بالشيء فذكر سعد بن خولة لكونه مات بمكة وهي دار هجرته وذكر ابن عفراء مستحسنا لميتته ا هـ ملخصا. وهو مردود بالتنصيص على قوله: "سعد ابن عفراء" فانتفى أن يكون المراد عوف وأيضا فليس في شيء من طرق حديث سعد بن أبي وقاص أنه كان راغبا في الموت، بل في بعضها عكس ذلك وهو أنه "بكى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ فقال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة" وهو عند النسائي، وأيضا فمخرج الحديث متحد والأصل عدم التعدد، فالاحتمال بعيد لو صرح بأنه عوف ابن عفراء والله أعلم. وقال التيمي:

(5/364)


يحتمل أن يكون لأمه اسمان خولة وعفراء ا هـ، ويحتمل أن يكون أحدهما اسما والآخر لقبا أو أحدهما اسم أمه والآخر اسم أبيه أو والآخر اسم جدة له، والأقرب أن عفراء اسم أمه والآخر اسم أبيه لاختلافهم في أنه خولة أو خولي، وقول الزهري في روايته: "يرثي له إلخ" قال ابن عبد البر: زعم أهل الحديث أن قوله: "يرثي إلخ" من كلام الزهري، وقال ابن الجوزي وغيره: هو مدرج من قول الزهري. قلت: وكأنهم استندوا إلى ما وقع في رواية أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري فإنه فصل ذلك، لكن وقع عند المصنف في الدعوات عن موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد في آخره: "لكن البائس سعد بن خولة، قال سعد: رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ" فهذا صريح في وصله فلا ينبغي الجزم بإدراجه، ووقع في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الطب من الزيادة "ثم وضع يده على جبهتي ثم مسح وجهي وبطني ثم قال: اللهم اشف سعدا وأتمم له هجرته، قال: فما زلت أجد بردها" ولمسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن المذكورة "قلت فادع الله أن يشفيني، فقال: اللهم اشف سعدا ثلاث مرات". قوله: "قلت يا رسول الله أوصي بمالي كله" في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الطب "أفأتصدق بثلثي مالي" وكذا وقع في رواية الزهري، فأما التعبير بقوله: "أفأتصدق" فيحتمل التنجيز والتعليق بخلاف "أفأوصي" لكن المخرج متحد فيحمل على التعليق للجمع بين الروايتين، وقد تمسك بقوله: "أتصدق" من جعل تبرعات المريض من الثلث، وحملوه على المنجزة وفيه نظر لما بينته، وأما الاختلاف في السؤال فكأنه سأل أولا عن الكل ثم سأل عن الثلثين ثم سأل عن النصف ثم سأل عن الثلث، وقد وقع مجموع ذلك في رواية جرير بن يزيد عند أحمد وفي رواية بكير بن مسمار عند النسائي كلاهما عن عامر بن سعد، وكذا لهما من طريق محمد بن سعد عن أبيه ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن سعد، وقوله في هذه الرواية: "قلت فالشطر" هو بالجر عطفا على قوله: "بمالي كله" أي فأوصي بالنصف، وهذا رجحه السهيلي. وقال الزمخشري: هو بالنصب على تقدير فعل أي أسمي الشطر أو أعين الشطر، ويجوز الرفع على تقدير أيجوز الشطر. قوله: "قلت الثلث؟ قال فالثلث، والثلث كثير" كذا في أكثر الروايات، وفي رواية الزهري في الهجرة "قال الثلث يا سعد، والثلث كثير" وفي رواية مصعب بن سعد عن أبيه عند مسلم: "قلت فالثلث؟ قال: نعم، والثلث كثير" وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الباب الذي يليه "قال: الثلث، والثلث كبير أو كثير" وكذا للنسائي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد وفيه: "فقال: أوصيت؟ فقلت: نعم. قال: بكم؟ قلت: بمالي كله. قال: فما تركت لولدك "؟ وفيه: "أوص بالعشر، قال فما زال يقول وأقول، حتى قال: أوص بالثلث والثلث كثير أو كبير" يعني بالمثلثة أو بالموحدة، وهو شك من الراوي والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلثة، ومعناه كثير بالنسبة إلى ما دونه، وسأذكر الاختلاف فيه في الباب الذي بعد هذا، وقوله: "قال الثلث والثلث كثير" بنصب الأول على الإغراء، أو بفعل مضمر نحو عين الثلث، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو المبتدأ والخبر محذوف والتقدير يكفيك الثلث أو الثلث كاف، ويحتمل أن يكون قوله: "والثلث كثير" مسوقا لبيان الجواز بالثلث وأن الأولى أن ينقص عنه ولا يزيد عليه وهو ما يبتدره الفهم، ويحتمل أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل أي كثير أجره، ويحتمل أن يكون معناه كثير غير قليل قال الشافعي رحمه الله " وهذا أولى معانيه " يعني أن الكثرة أمر نسبي، وعلى الأول عول ابن عباس كما سيأتي في حديث الباب الذي بعده. قوله: "إنك أن تدع" بفتح "أن" على التعليل وبكسرها على الشرطية، قال النووي: هما

(5/365)


صحيحان صوريان، وقال القرطبي: لا معني للشرط هنا لأنه يصير لا جواب له ويبقى "خير" لا رافع له. وقال ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر، وأنكره شيخنا عبد الله بن أحمد - يعني ابن الخشاب - وقال: لا يجوز الكسر لأنه لا جواب له لخلو لفظ: "خير" من الفاء وغيرها مما اشترط في الحواب، وتعقب بأنه لا مانع من تقديره وقال ابن مالك: جزاء الشرط قوله: "خير" أي فهو خير، حذف الفاء جائز وهو كقراءة طاوس: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} قال: ومن خص ذلك بالشعر بعد عن التحقيق، وضيق حيث لا تضييق، لأنه كثير في الشعر قليل في غيره، وأشار بذلك إلى ما وقع في الشعر فيما أنشده سيبويه: من يفعل الحسنات الله يشكرها أي فالله يشكرها، وإلى الرد على من زعم أن ذلك خاص بالشعر قال: ونظيره قوله في حديث اللقطة "فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها" بحذف الفاء، وقوله في حديث اللعان "البينة وإلا حد في ظهرك" . قوله: "ورثتك" قال الزين بن المنير: إنما عبر له صلى الله عليه وسلم بلفظ الورثة ولم يقل أن تدع بنتك مع أنه لم يكن له يومئذ إلا ابنة واحدة لكون الوارث حينئذ لم يتحقق، لأن سعدا إنما قال ذلك بناء على موته في ذلك المرض وبقائها بعده حتى ترثه، وكان من الجائز أن تموت هي قبله فأجاب صلى الله عليه وسلم بكلام كلي مطابق لكل حالة وهي قوله: "ورثتك" ولم يخص بنتا من غيرها. وقال الفاكهي شارح العمدة: إنما عبر صلى الله عليه وسلم بالورثة لأنه اطلع على أن سعدا سيعيش ويأتيه أولاد غير البنت المذكورة فكان كذلك، وولد له بعد ذلك أربعة بنين ولا أعرف أسماءهم، ولعل الله أن يفتح بذلك. قلت: وليس قوله: "أن تدع بنتك" متعينا لأن ميراثه لم يكن منحصرا فيها، فقد كان لأخيه عتبة بن أبي وقاص أولاد إذ ذاك منهم هاشم بن عتبة الصحابي الذي قتل بصفين، وسأذكر بسط ذلك، فجاز التعبير بالورثة لتدخل البنت وغيرها ممن يرث لو وقع موته إذ ذاك أو بعد ذلك. أما قول الفاكهي إنه ولد له بعد ذلك أربعة بنين وإنه لا يعرف أسماءهم ففيه قصور شديد، فإن أسماءهم في رواية هذا الحديث بعينه عند مسلم من طريق عامر ومصعب ومحمد ثلاثتهم عن سعد، ووقع ذكر عمر بن سعد فيه في موضع آخر، ولما وقع ذكر هؤلاء في هذا الحديث عند مسلم اقتصر القرطبي على ذكر الثلاثة، ووقع في كلام بعض شيوخنا تعقب عليه بأن له أربعة من الذكور غير الثلاثة وهم عمر وإبراهيم ويحيى وإسحاق، وعزا ذكرهم لابن المديني وغيره، وفاته أن ابن سعد ذكر له من الذكور غير السبعة أكثر من عشرة وهم عبد الله وعبد الرحمن وعمرو وعمران وصالح وعثمان وإسحاق الأصغر وعمر الأصغر وعمير مصغرا وغيرهم، وذكر له من البنات ثنتي عشرة بنتا. وكأن ابن المديني اقتصر على ذكر من روى الحديث منه والله أعلم. قوله: "عالة" أي فقراء وهو جمع عال وهو الفقير والفعل منه عال يعيل إذا افتقر. قوله: "يتكففون الناس" أي يسألون الناس بأكفهم، يقال تكفف الناس واستكف إذا بسط كفه للسؤال، أو سأل ما يكف عنه الجوع، أو سأل كفا كفا من طعام. وقوله: في أيديهم أي بأيديهم أو سألوا بأكفهم وضع المسئول في أيديهم وقع في رواية الزهري أن سعدا قال: "وأنا ذو مال" ونحوه في رواية عائشة بنت سعد في الطب، وهذا اللفظ يؤذن بمال كثير، وذو المال إذا تصدق بثلثه أو بشطره وأبقى ثلثه بين ابنته وغيرها لا يصيرون عالة، لكن الجواب أن ذلك خرج على التقدير لأن بقاء المال الكثير إنما هو على سبيل التقدير وإلا فلو تصدق المريض بثلثيه مثلا ثم طالت حياته ونقص وفني المال فقد تجحف الوصية بالورثة، فرد الشارع الأمر إلى شيء معتدل وهو الثلث. قوله: "وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة" هو معطوف على قوله: "إنك أن تدع" وهو علة للنهي عن الوصية

(5/366)


بأكثر من الثلث، كأنه قيل لا تفعل لأنك إن مت تركت ورثتك أغنياء وإن عشت تصدقت وأنفقت فالأجر حاصل لك في الحالين، وقوله: "فإنها صدقة" كذا أطلق في هذه الرواية وفي رواية الزهري "وإنك لن تنفق نفق تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها" مقيدة بابتغاء وجه الله، وعلق حصول الأجر بذلك وهو المعتبر، ويستفاد منه أن أجر الواجب يزداد بالنية لأن الإنفاق على الزوجة واجب وفي فعله الأجر، فإذا نوى به ابتغاء وجه الله ازداد أجره بذلك قاله ابن أبي جمرة، قال: ونبه بالنفقة على غيرها من وجوه البر والإحسان. قوله: "حتى اللقمة" بالنصب عطفا على نفقة ويجوز الرفع على أنه مبتدأ و "تجعلها" الخبر، وسيأتي الكلام على حكم نفقة الزوجة في كتاب النفقات إن شاء الله تعالى، ووجه تعلق قوله: "وإنك لن تنفق نفقة إلخ" بقصة الوصية أن سؤال سعد يشعر بأنه رغب في تكثير الأجر فلما منعه الشارع من الزيادة على الثلث قال له على سبيل التسلية إن جميع ما تفعله في مالك من صدقة ناجزة ومن نفقة ولو كانت واجبة تؤجر بها إذا ابتغيت بذلك وجه الله تعالى، ولعله خص المرأة بالذكر لأن نفقتها مستمرة بخلاف غيرها، قال ابن دقيق العيد: فيه أن الثواب في الإنفاق مشروط بصحة النية وابتغاء وجه الله، وهذا عسر إذا عارضه مقتضى الشهوة، فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله، وسبق تخليص هذا المقصود مما يشوبه، قال: وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات إذا أديت على قصد أداء الواجب ابتغاء وجه الله أثيب عليها، فإن قوله: "حتى ما تجعل في امرأتك" لا تخصيص له بغير الواجب ولفظة "حتى" هنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المعنى، كما يقال جاء الحاج حتى المشاة. قوله: "وعسى الله أن يرفعك" أي يطيل عمرك، وكذلك اتفق، فإنه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنة بل قريبا من خمسين، لأنه مات سنة خمس وخمسين من الهجرة وقيل سنة ثمان وخمسين وهو المشهور، فيكون عاش بعد حجة الوداع خمسا وأربعين أو ثمانيا وأربعين. قوله: "فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون" أي ينتفع بك المسلمون بالغنائم مما سيفتح الله على يديك من بلاد الشرك، ويضر بك المشركون الذين يهلكون على يديك. وزعم ابن التين أن المراد بالنفع به ما وقع من الفتوح على يديه كالقادسية وغيرها، وبالضرر ما وقع من تأمير ولده عمر بن سعد على الجيش الذين قتلوا الحسين بن علي ومن معه، وهو كلام مردود لتكلفه لغير ضرورة تحمل على إرادة الضرر الصادر من ولده، وقد وقع منه هو الضرر المذكور بالنسبة إلى الكفار. وأقوى من ذلك ما رواه الطحاوي من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبيه أنه سأل عامر بن سعد عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقال: لما أمر سعد على العراق أتي بقوم ارتدوا فاستتابهم فتاب بعضهم وامتنع بعضهم فقتلهم، فانتفع به من تاب وحصل الضرر للآخرين. قال بعض العلماء: "لعل" وإن كانت للترجي لكنها من الله للأمر الواقع، وكذلك إذا وردت على لسان رسوله غالبا. قوله: "ولم يكن له يومئذ إلا ابنة" في رواية الزهري ونحوه في رواية عائشة بنت سعد أن سعدا قال: "ولا يرثني إلا ابنة واحدة" قال النووي وغيره: معناه لا يرثني من الولد أو من خواص الورثة أو من النساء، وإلا فقد كان لسعد عصبات لأنه من بني زهرة وكانوا كثيرا. وقيل معناه لا يرثني من أصحاب الفروض، أو خصها بالذكر على تقدير لا يرثني ممن أخاف عليه الضياع والعجز إلا هي، أو ظن أنها ترث جميع المال، أو استكثر لها نصف التركة. وهذه البنت زعم بعض من أدركناه أن اسمها عائشة، فإن كان محفوظا فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث عنده في الباب الذي يليه وفي الطب، وهي تابعية عمرت حتى أدركها مالك وروى عنها وماتت سنة سبع عشرة،

(5/367)


لكن لم يذكر أحد من النسابين لسعد بنتا تسمى عائشة غير هذه، وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى وأمها بنت شهاب بن عبد الله من الحارث بن زهرة، وذكروا له بنات أخرى أمهاتهن متأخرات الإسلام بعد الوفاة النبوية، فالظاهر أن البنت المشار إليها هي أم الحكم المذكورة لتقدم تزويج سعد بأمها، ولم أر من حرر ذلك، وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم مشروعية زيارة المريض للإمام فمن دونه، وتتأكد باشتداد المرض، وفيه وضع اليد على جبهة المريض ومسح وجهه ومسح العضو الذي يؤلمه والفسخ له في طول العمر، وجواز إخبار المريض بشدة مرضه وقوة ألمه إذا لم يقترن بذلك شيء مما يمنع أو يكره من التبرم وعدم الرضا بل حيث يكون ذلك لطلب دعاء أو دواء وربما استحب، وأن ذلك لا ينافي الاتصاف بالصبر المحمود، وإذا جاز ذلك في أثناء المرض كان الإخبار به بعد البرء أجوز، وأن أعمال البر والطاعة إذا كان منها ما لا يمكن استدراكه قام غيره في الثواب والأجر مقامه، وربما زاد عليه، وذلك أن سعدا خاف أن يموت بالدار التي هاجر منها فيفوت عليه بعض أجر هجرته، فأخبره صلى الله عليه وسلم بأنه إن تخلف عن دار هجرته فعمل عملا صالحا من حج أو جهاد أو غير ذلك كان له به أجر يعوض ما فاته من الجهة الأخرى، وفيه إباحة جمع المال بشرطه لأن التنوين في قوله: "وأنا ذو مال" للكثرة وقد وقع في بعض طرقه صريحا "وأنا ذو مال كثير" والحث على صلة الرحم والإحسان إلى الأقارب، وأن صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد، والإنفاق في وجوه الخير لأن المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة؛ وقد نبه على ذلك بأقل الحظوظ الدنيوية العادية وهو وضع اللقمة في فم الزوجة إذ لا يكون ذلك غالبا إلا عند الملاعبة والممازحة ومع ذلك فيؤجر فاعله إذا قصد به قصدا صحيحا، فكيف بما هو فوق ذلك، وفيه منع نقل الميت من بلد إلى بلد إذ لو كان ذلك مشروعا لأمر بنقل سعد بن خولة قاله الخطابي، وبأن من لا وارث له تجوز له الوصية بأكثر من الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم: "أن تذر ورثتك أغنياء" فمفهومه أن من لا وارث له لا يبالي بالوصية بما زاد لأنه لا يترك ورثة يخشى عليهم الفقر، وتعقب بأنه ليس تعليلا محضا وإنما فيه تنبيه على الأحظ الأنفع، ولو كان تعليلا محضا لاقتضى جواز الوصية بأكثر من الثلث لمن كانت ورثته أغنياء، ولنفذ ذلك عليهم بغير إجازتهم ولا قائل بذلك، وعلى تقدير أن يكون تعليلا محضا فهو للنقص عن الثلث لا للزيادة عليه، فكأنه لما شرع الإيصاء بالثلث وأنه لا يعترض به على الموصي إلا أن الانحطاط عنه أولى ولا سيما لمن يترك ورثة غير أغنياء، فنبه سعدا على ذلك. وفيه سد الذريعة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تردهم على أعقابهم" لئلا يتذرع بالمرض أحد لأجل حب الوطن قاله ابن عبد البر. وفيه تقييد مطلق القرآن بالسنة لأنه قال سبحانه وتعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فأطلق، وقيدت السنة الوصية بالثلث، وأن من ترك شيئا لله لا ينبغي له الرجوع فيه ولا في شيء منه مختارا، وفيه التأسف على فوت ما يحصل الثواب، وفيه حديث: "من ساءته سيئة" وأن من فاته ذلك بادر إلى جبره بغير ذلك وفيه تسلية من فاته أمر من الأمور بتحصيل ما هو أعلى منه لما أشار صلى الله عليه وسلم لسعد من عمله الصالح بعد ذلك، وفيه جواز التصدق بجميع المال لمن عرف بالصبر ولم يكن له من تلزمه نفقته وقد تقدمت المسألة في كتاب الزكاة، وفيه الاستفسار عن المحتمل إذا احتمل وجوها لأن سعدا لما منع من الوصية بجميع المال احتمل عنده المنع فيما دونه والجواز فاستفسر عما دون ذلك، وفيه النظر في مصالح الورثة، وأن خطاب الشارع للواحد يعم من كان بصفته من المكلفين لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد هذا وإن كان الخطاب إنما وقع له بصيغة الإفراد، ولقد أبعد من قال: إن ذلك يختص

(5/368)


بسعد ومن كان في مثل حاله ممن يخلف وارثا ضعيفا أو كان ما يخلفه قليلا لأن البنت من شأنها أن يطمع فيها، وإن كانت بغير مال لم يرغب فيها، وفيه أن من ترك مالا قليلا فالاختيار له ترك الوصية وإبقاء المال للورثة، واختلف السلف في ذلك القليل كما تقدم في أول الوصايا، واستدل به التيمي لفضل الغني على الفقير وفيه نظر، وفيه مراعاة العدل بين الورثة ومراعاة العدل في الوصية، وفيه أن الثلث في حد الكثرة، وقد اعتبره بعض الفقهاء في غير الوصية، ويحتاج الاحتجاج به إلى ثبوت طلب الكثرة في الحكم المعين، واستدل بقوله: "ولا يرثني إلا ابنة لي" من قال بالرد على ذوي الأرحام للحصر في قوله: "لا يرثني إلا ابنة " وتعقب بأن المراد من ذوي الفروض كما تقدم، ومن قال بالرد لا يقول بظاهره لأنهم يعطونها فرضها ثم يردون عليها الباقي، وظاهر الحديث أنها ترث الجميع ابتداء.

(5/369)


3- باب: الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ
وَقَالَ الْحَسَنُ لاَ يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ وَصِيَّةٌ إِلاَّ الثُّلُثَ وَقَالَ اللَّهُ عز وجل[49 المائدة]: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}
2743- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبْعِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ"
2744- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "مَرِضْتُ فَعَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ لاَ يَرُدَّنِي عَلَى عَقِبِي قَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ وَيَنْفَعُ بِكَ نَاسًا قُلْتُ أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ وَإِنَّمَا لِي ابْنَةٌ قُلْتُ أُوصِي بِالنِّصْفِ؟ قَالَ: النِّصْفُ كَثِيرٌ قُلْتُ فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ - أَوْ كَبِيرٌ – قَالَ: فَأَوْصَى النَّاسُ بِالثُّلُثِ وَجَازَ ذَلِكَ لَهُمْ"
قوله: "باب الوصية بالثلث" أي جوازها أو مشروعيتها، وقد سبق تقرير ذلك في الباب الذي قبله، واستقر الإجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث، لكن اختلف فيمن كان له وارث، وسيأتي تحريره في "باب لا وصية لوارث" وفيمن لم يكن له وارث خاص فمنعه الجمهور وجوزه الحنفية وإسحاق وشريك وأحمد في رواية وهو قول علي وابن مسعود، واحتجوا بأن الوصية مطلقة بالآية فقيدتها السنة بمن له وارث فيبقى من لا وارث له على الإطلاق وقد تقدم في الباب الذي قبله توجيه لهم آخر. واختلفوا أيضا هل يعتبر ثلث المال حال الوصية أو حال الموت؟ على قولين، وهما وجهان للشافعية أصحهما الثاني، فقال بالأول مالك وأكثر العراقيين وهو قول النخعي وعمر بن عبد العزيز. وقال بالثاني أبو حنيفة وأحمد والباقون وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من التابعين، وتمسك الأولون بأن الوصية عقد والعقود تعتبر بأولها، وبأنه لو نذر أن يتصدق بثلث ماله اعتبر ذلك حالة النذر اتفاقا، وأجيب بأن الوصية ليست عقدا من كل جهة ولذلك لا تعتبر بها الفورية ولا القبول، وبالفرق بين النذر والوصية بأنها يصح الرجوع عنها والنذر يلزم، وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما لو حدث له مال بعد الوصية،

(5/369)


واختلفوا أيضا: هل يحسب الثلث من جميع المال أو تنفذ بما علمه الموصي دون ما خفي عليه أو تجدد له ولم يعلم به؟ وبالأول قال الجمهور، وبالثاني قال مالك، وحجة الجمهور أنه لا يشترط أن يستحضر تعداد مقدار المال حالة الوصية اتفاقا ولو كان عالما بجنسه، فلو كان العلم به شرطا لما جاز ذلك. "فائدة": أول من أوصى بالثلث في الإسلام البراء بن المعرور بمهملات، أوصى به للنبي صلى الله عليه وسلم وكان قد مات قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم ورده على ورثته، أخرجه الحاكم وابن المنذر من طريق يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن جده. قوله: "وقال الحسن" أي البصري "لا يجوز للذمي وصية إلا بالثلث" قال ابن بطال: أراد البخاري بهذا الرد على من قال كالحنفية بجواز الوصية بالزيادة على الثلث لمن لا وارث له، قال: ولذلك احتج بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} والذي حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من الثلث هو الحكم بما أنزل الله، فمن تجاوز ما حده فقد أتى ما نهي عنه. وقال ابن المنير: لم يرد البخاري هذا وإنما أراد الاستشهاد بالآية على أن الذمي إذا تحاكم إلينا ورثته لا ينفذ من وصيته إلا الثلث، لأنا لا نحكم فيهم إلا بحكم الإسلام لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة فإن قتيبة لم يلحق الثوري. قوله: "عن هشام بن عروة" وفي رواية الحميدي في مسنده عن سفيان "حدثنا هشام" وليس لعروة بن الزبير عن ابن عباس في البخاري سوى هذا الحديث الواحد. قوله: "لو غض الناس" بمعجمتين أي نقص، و "لو" للتمني فلا يحتاج إلى جواب، أو شرطية والجواب محذوف، وقد وقع في رواية ابن أبي عمر في مسنده عن سفيان بلفظ: "كان أحب إلي" أخرجه الإسماعيلي من طريقه ومن طريق أحمد بن عبدة أيضا وأخرجه من طريق العباس بن الوليد عن سفيان بلفظ: "كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "إلى الربع" زاد الحميدي "في الوصية" وكذا رواه أحمد عن وكيع عن هشام بلفظ: "وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع في الوصية" الحديث، وفي رواية ابن نمير عن هشام عند مسلم: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع". قوله: "لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" هو كالتعليل لما اختاره من النقصان عن الثلث، وكأن ابن عباس أخذ ذلك من وصفه صلى الله عليه وسلم الثلث بالكثرة، وقد قدمنا الاختلاف في توجيه ذلك في الباب الذي قبله، ومن أخذ بقول ابن عباس في ذلك كإسحاق بن راهويه، والمعروف في مذهب الشافعي استحباب النقص عن الثلث، وفي شرح مسلم للنووي: إن كان الورثة فقراء استحب أن ينقص منه وإن كانوا أغنياء فلا. قوله: "والثلث كثير" في رواية مسلم: "كثير أو كبير" بالشك هل هي بالموحدة أو بالمثلثة. قوله: "حدثني محمد بن عبد الرحيم" هو الحافظ المعروف بصاعقة وهو من أقران البخاري وأكبر منه قليلا. قوله: "حدثنا مروان" هو ابن معاوية الفزاري. قوله: "عن هاشم بن هاشم" أي ابن عتبة بن أبي وقاص، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجتين، لأنه يروي عن مكي بن إبراهيم ومكي يروي عن هاشم المذكور، وسيأتي في مناقب سعد له بهذا الإسناد حديث عن مكي عن هاشم عن عامر بن سعد عن أبيه. قوله: "فقلت يا رسول الله ادع الله أن لا يردني على عقبي" هو إشارة إلى ما تقدم من كراهية الموت بالأرض التي هاجر منها وقد تقدم توجيهه وشرحه في الباب الذي قبله. قوله: "لعل الله يرفعك" زاد أبو نعيم في "المستخرج" في روايته من وجه آخر عن زكريا بن عدي "يعني يقيمك من مرضك". قوله في هذه الرواية "قلت أوصي بالنصف؟ قال: النصف كثير" لم أر في غيرها من طرقه وصف النصف بالكثرة، وإنما فيها "قال لا في كله، ولا في ثلثيه" وليس في هذه الرواية إشكال إلا من جهة وصف النصف بالكثرة ووصف الثلث بالكثرة فكيف امتنع النصف

(5/370)


دون الثلث؟ وجوابه أن الرواية الأخرى التي فيها جواب النصف دلت على منع النصف ولم يأت مثلها في الثلث بل اقتصر على وصفه بالكثرة، وعلل بأن إبقاء الورثة أغنياء أولى، وعلى هذا فقوله: "الثلث" خبر مبتدأ محذوف تقديره مباح، ودل قوله: "والثلث كثير" على أن الأولى أن ينقص منه والله أعلم. قوله: "قال وأوصى الناس بالثلث فجار ذلك لهم" ظاهره أنه من قول سعد بن أبي وقاص، ويحتمل أن يكون من قول من دونه والله أعلم، وكأن البخاري قصد بذلك الإشارة إلى أن النقص من الثلث في حديث ابن عباس للاستحباب لا للمنع منه، جمعا بين الحديثين، والله أعلم.

(5/371)


باب قول الوصي لوصيه تعاهد ولدي وما يجوز للوصي من الدعوى
...
4 - باب: قَوْلِ الْمُوصِي لِوَصِيِّهِ تَعَاهَدْ وَلَدِي وَمَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ مِنْ الدَّعْوَى
2745- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ "كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ فَقَالَ ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ أَخِي وَابْنُ أَمَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ احْتَجِبِي مِنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ"
قوله: "باب قول الموصي لوصيه تعاهد لولدي وما يجوز للوصي من الدعوى" أورد فيه حديث عائشة في قصة مخاصمة سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة، وقد ترجم له في كتاب الإشخاص "دعوى الموصي للميت" أي عن الميت، وانتزاع الأمرين المذكورين في الترجمة من الحديث المذكور واضح، وسيأتي الكلام عليه في الفرائض إن شاء الله تعالى.

(5/371)


باب إذا ومأ المريض برأسه إشارة بينة جازت
...
5 - باب: إِذَا أَوْمَأَ الْمَرِيضُ بِرَأْسِهِ إِشَارَةً بَيِّنَةً جَازَتْ
2746- حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ؟ أَفُلاَنٌ أَوْ فُلاَنٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِيءَ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اعْتَرَفَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ"
قوله: "باب إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينة تعرف" أي هل يحكم بها؟ أورد فيه حديث أنس في قصة الجارية التي رض اليهودي رأسها، وسيأتي الكلام عليه في القصاص إن شاء الله تعالى.

(5/371)


6 - باب: لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ
2747- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ"
[الحديث 2747- طرفاه في: 4578 ، 6739]
قوله: "باب لا وصية لوارث" هذه الترجمة لفظ حديث مرفوع كأنه لم يثبت على شرط البخاري فترجم به كعادته واستغنى بما يعطي حكمه. وقد أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث أبي أمامة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته في حجة الوداع: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وقد قوى حديثه عن الشاميين جماعة من الأئمة منهم أحمد والبخاري. وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة، وصرح في روايته بالتحديث عند الترمذي وقال الترمذي: حديث حسن. وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند الترمذي والنسائي، وعن أنس عند ابن ماجة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدار قطني وعن جابر عند الدار قطني أيضا وفال: الصواب إرساله، وعن علي عند ابن أبي شيبة، ولا يخلو إسناد كل منها عن مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا، بل جنح الشافعي في "الأم" إلى أن هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح "لا وصية لوارث" ويؤثرون عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم، فكان نقل كافة عن كافة، فهو أقوى من نقل واحد. وقد نازع الفخر الرازي في كون هذا الحديث متواترا وعلى تقدير تسليم ذلك فالمشهور من مذهب الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة لكن الحجة في هذا الإجماع على مقتضاه كما صرح به الشافعي وغيره، والمراد بعدم صحة وصية الوارث عدم اللزوم، لأن الأكثر على أنها موقوفة على إجازة الورثة كما سيأتي بيانه، وروى الدار قطني من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا: "لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة" كما سيأتي بيانه، ورجاله ثقات، إلا أنه معلول: فقد قيل إن عطاء هو الخراساني والله أعلم. وكأن البخاري أشار إلى ذلك فترجم بالحديث، وأخرج من طريق عطاء وهو ابن أبي رباح عن ابن عباس حديث الباب وهو موقوف لفظا، إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في حكم المرفوع بهذا التقدير، ووجه دلالته للترجمة من جهة أن نسخ الوصية للوالدين وإثبات الميراث لهما بدلا منها يشعر بأنه لا يجمع لهما بين الميراث والوصية، وإذا كان كذلك كان من دونهما أولى بأن لا يجمع ذلك له، وقد أخرجه ابن جرير من طريق مجاهد بن جبر عن ابن عباس بلفظ: "وكانت الوصية للوالدين والأقربين إلخ" فظهرت المناسبة بهذه الزيادة، وقد وافق محمد بن يوسف - وهو الفريابي في روايته إياه عن ورقاء - عيسى بن ميمون كما أخرجه ابن جرير، وخالف ورقاء شبل عن ابن أبي نجيح فجعل مجاهدا موضع عطاء أخرجه ابن جرير أيضا، ويحتمل أنه كان عند ابن أبي نجيح على الوجهين والله أعلم. قوله: "وجعل

(5/372)


للمرأة الثمن والربع" أي في حالين وكذلك للزوج، قال جمهور العلماء: كانت هذه الوصية في أول الإسلام واجبة لوالدي الميت وأقربائه على ما يراه من المساواة والتفضيل، ثم نسخ ذلك بآية الفرائض، وقيل كانت للوالدين والأقربين دون الأولاد فإنهم كانوا يرثون ما يبقى بعد الوصية، وأغرب ابن شريح فقال كانوا مكلفين بالوصية للوالدين والأقربين بمقدار الفريضة التي في علما الله قبل أن ينزلها؛ واشتد إنكار إمام الحرمين عليه في ذلك. وقيل إن الآية مخصوصة لأن الأقربين أعم من أن يكونوا وراثا، وكانت الوصية واجبة لجميعهم فخص منها من ليس بوارث بآية الفرائض وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" وبقي حق من لا يرث من الأقربين من الوصية على حاله قاله طاوس وغيره، وقد تقدمت الإشارة إليه قبل. واختلف في تعيين ناسخ آية {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فقيل آية الفرائض وقيل الحديث المذكور، وقيل دل الإجماع على ذلك وإن لم يتعين دليله. واستدل بحديث: "لا وصية لوارث" بأنه لا تصح الوصية للوارث أصلا كما تقدم، وعلى تقدير نفاذها من الثلث لا تصح الوصية له ولا لغيره بما زاد على الثلث ولو أجازت الورثة، وبه قال المزني وداود، وقواه السبكي واحتج له بحديث عمران بن حصين في الذي أعتق ستة أعبد فإن فيه عند مسلم: "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قولا شديدا" وفسر القول الشديد في رواية أخرى بأنه قال: "لو علمت ذلك ما صليت عليه" ولم ينقل أنه راجع الورثة فدل على منعه مطلقا، وبقوله في حديث سعد بن أبي وقاص: "وكان بعد ذلك الثلث جائزا" فإن مفهومه أن الزائد على الثلث ليس بجائز، وبأنه صلى الله عليه وسلم منع سعدا من الوصية بالشطر ولم يستثن صورة الإجازة واحتج من أجازه بالزيادة المتقدمة وهي قوله: "إلا أن يشاء الورثة" فإن صحت هذه الزيادة فهي حجة واضحة. واحتجوا من جهة المعنى بأن المنع إنما كان في الأصل لحق الورثة، فإذا أجازوه لم يمتنع واختلفوا بعد ذلك في وقت الإجازة فالجمهور على أنهم إن أجازوا في حياة الموصي كان لهم الرجوع متى شاءوا، وإن أجازوا بعده نفذ، وفصل المالكية في الحياة بين مرض الموت وغيره فألحقوا مرض الموت بما بعده، واستثنى بعضهم ما إذا كان المجيز في عائلة الموصي وخشي من امتناعه انقطاع معروفه عنه لو عاش فإن لمثل هذا الرجوع، وقال الزهري وربيعة ليس لهم الرجوع مطلقا واتفقوا على اعتبار كون الموصي له وارثا بيوم الموت حتى لو أوصى لأخيه الوارث حيث لا يكون له ابن يحجب الأخ المذكور فولد له ابن قبل موته يحجب الأخ فالوصية للأخ المذكور صحيحة، ولو أوصى لأخيه وله ابن فمات الابن قبل موت الموصي فهي وصية لوارث، واستدل به على منع وصية من لا وارث له سوى بيت المال لأنه ينتقل إرثا للمسلمين، والوصية للوارث باطلة، وهو وجه ضعيف جدا حكاه القاضي حسين، ويلزم قائله أن لا يجيز الوصية للذمي أو يقيد ما أطلق، والله أعلم.

(5/373)


7 - باب: الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ
2748- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ"

(5/373)


قوله: "باب الصدقة عند الموت" أي جوازها، وإن كانت في حال الصحة أفضل. أورد فيه حديث أبي هريرة قال: "قال رجل: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال أن تصدق وأنت صحيح" الحديث، وقد تقدم في كتاب الزكاة من وجه آخر، وبينت هناك اختلاف ألفاظه. ووقع التصريح بالتحديث هناك في جميع إسناده بدل العنعنة هنا. قوله: "أن تصدق" بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين، وأصله أن تتصدق. وبالتشديد على إدغامها. قوله: "ولا تمهل" بالإسكان على أنه نهي، وبالرفع على أنه نفي، ويجوز النصب. قوله: "قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان" الظاهر أن هذا المذكور على سبيل المثال. وقال الخطابي: فلان الأول والثاني الموصى له وفلان الأخير الوارث لأنه إن شاء أبطله وإن شاء أجازه، وقال غيره: يحتمل أن يكون المراد بالجميع من يوصى له وإنما أدخل "كان" في الثالث إشارة إلى تقدير القدر له بذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأول الوارث والثاني المورث والثالث الموصى له. قلت: ويحتمل أن يكون بعضها وصية وبعضها إقرارا، وقد وقع في رواية ابن المبارك عن سفيان عند الإسماعيلي: "قلت اصنعوا لفلان كذا وتصدقوا بكذا" ووقع في حديث بسر بن جحاش وهو يضم الموحدة وسكون المهملة وأبوه بكسر الجيم وتخفيف المهملة وآخره شين معجمة عند أحمد وابن ماجة وصححه واللفظ لابن ماجة قال "بزق النبي صلى الله عليه وسلم في كفه ثم وضع إصبعه السبابة وقال: يقول الله أني يعجزني ابن آدم، وقد خلقتك من قبل من مثل هذه، فإذا بلغت نفسك إلى هذه - وأشار إلى حلقه - قلت أتصدق، وأني أوان الصدقة" وزاد في رواية أبي اليمان "حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا وتصدقوا بكذا" وفي الحديث أن تنجيز وفاء الدين والتصدق في الحياة وفي الصحة أفضل منه بعد الموت وفي المرض، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: "وأنت صحيح حريص تأمل الغنى إلخ" لأنه في حال الصحة يصعب علبه إخراج المال غالبا لما يخوفه به الشيطان ويزين له من إمكان طول العمر والحاجة إلى المال كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الآية، وأيضا فإن الشيطان ربما زين له الحيف في الوصية أو الرجوع عن الوصية فيتمحض تفضيل الدقة الناجزة، قال بعض السلف عن بعض أهل الترف: يعصون الله في أموالهم مرتين: يبخلون بها وهي في أيديهم يعني في الحياة، ويسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم، يعني بعد الموت. وأخرج الترمذي بإسناد حسن وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء مرفوعا قال: "مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته مثل الذي يهدي إذا شبع" ، وهو يرجع إلى معنى حديث الباب، وروى أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: "لأن يتصدق الرجل في حياته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة" .

(5/374)


باب قول الله عز وجل (من بعد وصية يوصى بها أو دين)
...
8 - باب: قَوْلِ اللَّهِ عز وجل [22 النساء]: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
وَيُذْكَرُ أَنَّ شُرَيْحًا وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَطَاوُسًا وَعَطَاءً وَابْنَ أُذَيْنَةَ أَجَازُوا إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحَقُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ الْآخِرَةِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَكَمُ: إِذَا أَبْرَأَ الْوَارِثَ مِنْ الدَّيْنِ بَرِئَ. وَأَوْصَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنْ لاَ تُكْشَفَ امْرَأَتُهُ الْفَزَارِيَّةُ عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ جَازَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ مَوْتِهَا: إِنَّ زَوْجِي

(5/374)


قَضَانِي وَقَبَضْتُ مِنْهُ جَازَ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لاَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ لِلْوَرَثَةِ ثُمَّ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْوَدِيعَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَقَدْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "آيَةُ الْمُنَافِقِ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى [58 النساء]: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثًا وَلاَ غَيْرَهُ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2749- حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع حدثنا إسماعيل بن جعفر حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان وإذا وعد أخلف"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أراد المصنف - والله أعلم - بهذه الترجمة الاحتجاج بما اختاره من جواز إقرار المريض بالدين مطلقا، سواء كان المقر له وارثا أو أجنبيا. ووجه الدلالة أنه سبحانه وتعالى سوى بين الوصية والدين في تقديمهما على الميراث ولم يفصل، فخرجت الوصية للوارث بالدليل الذي تقدم، وبقي الإقرار بالدين على حاله، وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} متعلق بما تقدم من المواريث كلها إلا بما يليه وحده، وكأنه قيل قسمة هذه الأشياء تقع من بعد وصية والوصية هنا المال الموصى به، وقوله: {يُوصِي بِهَا} هذه الصفة تقيد الموصوف، وفائدته أن يعلم أن للميت أن يوصي، قاله السهيلي، قال: وأفاد تنكير الوصية أنها مندوبة، إذ لو كانت واجبة لقال من بعد الوصية، كذا قال. قوله: "ويذكر أن شريحا وعمر بن عبد العزيز وطاوسا وعطاء وابن أذينة أجازوا إقرار المريض بدين" كأنه لم يجزم بالنقل عنهم لضعف الإسناد إلى بعضهم، فأما أثر شريح فوصله ابن أبي شيبة عنه بلفظ: "إذا أقر في مرض الموت لوارث بدين لم يجز إلا ببينة، وإذا أقر لغير وارث جاز" وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف، وأخرجه من طريق آخر أضعف من هذه، ولكن سيأتي له إسناد أصح من هذا بعد. وأما عمر بن عبد العزيز فلم أقف على من وصله عنه، وأما طاوس فوصله ابن أبي شيبة أيضا عنه بلفظ: "إذا أقر لوارث جاز" وفي الإسناد ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. وأما قول عطاء فوصله ابن أبي شيبة عنه بمثله ورجال إسناده ثقات، وأما ابن أذينة واسمه عبد الرحمن وكان قاضي البصرة وأبوه بالمهملة مصغر وهو تابعي ثقة مات سنة خمس وتسعين من الهجرة ووهم من ذكره في الصحابة وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة أيضا من طريق قتادة عنه "في الرجل يقر لوارث بدين قال: يجوز" ورجال إسناده ثقات. قوله: "وقال الحسن: أحق ما تصدق به الرجل آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة" هذا أثر صحيح رويناه بعلو في مسند الدارمي من طريق قتادة قال: "قال ابن سيرين عن شريح: لا يجوز إقرار لوارث، قال وقال الحسن: أحق ما جاز عليه عند موته أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا". قوله: "وقال إبراهيم والحكم: إذا أبرأ الوارث من الدين بريء" وصله ابن أبي شيبة من طريق الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن إبراهيم "في المريض إذا أبرأ الوارث برئ" وعن مطرف عن الحكم مثله. قوله: "وأوصى رافع بن خديج أن لا تكشف امرأته الفزارية عما أغلق عليه بابها" في رواية المستملي والسرخسي "عن مال أغلق عليه بابها" ولم أقف على هذا الأثر موصولا بعد. قوله: "وقال

(5/375)


الحسن إذا قال لمملوكه عند الموت: كنت أعتقتك جاز" لم أقف على من وصله وهو على طريقة الحسن في تنفيذ إقرار المريض مطلقا. قوله: "وقال الشعبي: إذا قالت المرأة عند موتها إن زوجي قضاني وقبضت منه جاز"، قال ابن التين: وجهه أنها لا تتهم بالميل إلى زوجها في تلك الحال، ولا سيما إذا كان لها ولد من غيره. قوله: "وقال بعض الناس لا يجوز إقراره" أي المريض "لسوء الظن به للورثة" وفي رواية المستملي: "بسوء الظن" بالموحدة بدل اللام. قوله: "ثم استحسن فقال: يجوز إقراره بالوديعة والبضاعة والمضاربة" قالا ابن التين: إن أراد هذا القائل ما إذا أقر بالمضاربة مثلا للوارث لزمه التناقض وإلا فلا، وفرق بعض الحنفية بألا ربح المال في المضاربة مشترك بين العامل والمالك فلم يكن كالدين المحض. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن إقرار المريض لغير الوارث جائز، لكن إن كان عليه دين في الصحة فقد قالت طائفة منهم النخعي وأهل الكوفة: يبدأ بدين الصحة ويتحاص أصحاب الإقرار في المرض، واختلفوا في إقرار المريض للوارث فأجازه مطلقا الأوزاعي وإسحاق وأبو ثور، وهو المرجح عند الشافعية، وبه قال مالك إلا أنه استثنى ما إذا أقر لبنته ومعها من يشاركها من غير الولد كابن العم مثلا، قال: لأنه يتهم في أن يزيد بنته وينقص ابن عمه من غير عكس، واستثني ما إذا أقر لزوجته التي يعرف بمحبتها والميل إليها وكان بينه وبين ولده من غيرها تباعد ولا سيما إن كان له منها في تلك الحالة ولد، وحاصل المنقول عن المالكية مدار الأمر على التهمة وعدمها فإن فقدت جاز وإلا فلا؛ وهو اختيار الروياني من الشافعية. وعن شريح والحسن بن صالح لا يجوز إقراره لوارث إلا لزوجته بصداقها، وعن القاسم وسالم والثوري والشافعي في قول زعم ابن المنذر أن الشافعي رجع عن الأول إليه، وبه قال أحمد لا يجوز إقرار المريض لوارثه مطلقا لأنه منع الوصية له فلا يأمن أن يزيد الوصية له فيجعلها إقرارا، واحتج من أجاز مطلقا بما تقدم عن الحسن أن التهمة في حق المحتضر بعيدة، وبالفرق بين الوصية والدين لأنهم اتفقوا على أنه لو أوصى في صحته لوارثه بوصية وأقر له بدين ثم رجع أن رجوعه عن الإقرار لا يصح، خلاف الوصية فيصح رجوعه عنها، واتفقوا على أن المريض إذا أقر بوارث صح إقراره مع أنه يتضمن الإقرار له بالمال، وبأن مدار الأحكام على الظاهر فلا يترك إقراره للظن المحتمل، فإن أمره فيه إلى الله تعالى. قوله: "وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" هو طرف من حديث وصله المصنف في الأدب من وجهين عن أبي هريرة، وقصد بذكره هنا الرد على من أساء الظن بالمريض فمنع تصرفه ومعني قوله: "أكذب الحديث" أي أكذب في الحديث من غيره لأن الصدق والكذب يوصف بهما القول لا الظن. قوله: "ولا يحل مال المسلمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: آية المنافق إذا ائتمن خان" هو طرف من حديث تقدم شرحه في كتاب الإيمان، ووجهه تعلقه بالرد على من منع إجازة إقرار المريض من جهة أنه دال على ذم الخيانة، فلو ترك ذكر ما عليه من الحق وكتمه لكان خائنا للمستحق فلزم من وجوب ترك الخيانة وجوب الإقرار لأنه إذا كتم صار خائنا، ومن لم يعتبر إقراره كان حمله على الكتمان. قوله: "وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فلم يخصن وارثا ولا غيره" أي لم يفرق بين الوارث وغيره في الأمر بأداء الأمانة، فيصح الإقرار سواء كان لوارث أو غيره. قوله: "فيه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني حديث آية المنافق الذي علقه مختصرا، وقد تقدم موصولا بتمامه في كتاب الإيمان ولفظه: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا. وفيه وإذا ائتمن خان" وحديث أبي هريرة الذي أورده في هذا الباب بلفظ: "آية المنافق ثلاث" تقدم هناك أيضا بإسناده

(5/376)


ومتنه، وتقدم شرحه أيضا والله المستعان".

(5/377)


9 - باب: تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [12 النساء]. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ. [58 النساء]: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فَأَدَاءُ الأَمَانَةِ أَحَقُّ مِنْ تَطَوُّعِ الْوَصِيَّةِ. وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يُوصِي الْعَبْدُ إِلاَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ"
2750- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ لِي يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى قَالَ: حَكِيمٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ"
2751- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّخْتِيَانِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ"
قوله: "باب تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} " أي بيان المراد بتقديم الوصية في الذكر على الدين مع أن الدين هو المقدم في الأداء. وبهذا يظهر السر في تكرار هذه الترجمة. قوله: "ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية" هذا طرف من حديث أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما من طريق الحارث وهو الأعور عن علي بن أبي طالب قال: "قضى محمد صلى الله عليه وسلم أن الدين قبل الوصية، وأنتم تقرءون الوصية قبل الدين" لفظ أحمد وهو إسناد ضعيف، لكن قال الترمذي: إن العمل عليه عند أهل العلم، وكأن البخاري اعتمد عليه لاعتضاده بالاتفاق على مقتضاه، وإلا فلم تجر عادته أن يورد الضعيف في مقام الاحتجاج به، وقد أورد في الباب ما يعضده أيضا، ولم

(5/377)


يختلف العلماء في أن الدين يقدم على الوصية إلا في صورة واحدة وهي ما لو أوصى الشخص بألف مثلا وصدقه الوارث وحكم به ثم ادعى آخر أن له في ذمة الميت دينا يستغرق موجوده وصدقه الوارث ففي وجه للشافعية تقدم الوصية على الدين في هذه الصورة الخاصة، ثم قد نازع بعضهم في إطلاق كون الوصية مقدمة على الدين في الآية لأنه ليس فيها صيغة ترتيب بل المراد أن المواريث إنما تقع بعد قضاء الدين ونفاذ الوصية، وأتى بأو للإباحة وهي كقولك جالس زيدا أو عمرا، أي لك مجالسة كل منهما اجتمعا أو افترقا، وإنما قدمت لمعنى اقتضى الاهتمام لتقديمها واختلف في تعيين ذلك المعنى، وحاصل ما ذكره أهل العلم من مقتضيات التقديم ستة أمور: أحدها الخفة والثقل كربيعة ومضر، فمضر أشرف من ربيعة لكن لفظ ربيعة لما كان أخف قدم في الذكر، وهذا يرجع إلى اللفظ. ثانيها بحسب الزمان كعاد وثمود. ثالثها بحسب الطبع كثلاث ورباع. رابعها بحسب الرتبة كالصلاة والزكاة لأن الصلاة حق البدن والزكاة حق المال والبدن مقدم على المال، خامسها تقديم السبب على المسبب كقوله تعالى: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} قال بعض السلف عز فلما عز حكم. سادسها بالشرف والفضل كقوله تعالى: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} . وإذا تقرر ذلك فقد ذكر السهيلي أن تقديم الوصية في الذكر على الدين لأن الوصية إنما تقع على سبيل البر والصلة بخلاف الدين فإنه إنما يقع غالبا بعد الميت بنوع تفريط فوقعت البداءة بالوصية لكونها أفضل. وقال غيره: قدمت الوصية لأنها شيء يؤخذ بغير عوض والدين يؤخذ بعوض فكان إخراج الوصية أشق على الوارث من إخراج الدين، وكان أداؤها مظنة التفريط، بخلاف الدين فإن الوارث مطمئن بإخراجه فقدمت الوصية لذلك. وأيضا فهي حظ فقير ومسكين غالبا، والدين حظ غريم يطلبه بقوة وله مقال، كما صح أن لصاحب الدين مقالا، وأيضا فالوصية ينشئها الموصي من قبل نفسه فقدمت تحريضا على العمل بها بخلاف الدين فإنه ثابت بنفسه مطلوب أداؤه سواء ذكر أو لم يذكر. وأيضا فالوصية ممكنة من كل أحد ولا سيما عند من يقول بوجوبها فإنه يقول بلزومها لكل أحد فيشترك فيها جميع المخاطبين لأنها تقع بالمال وتقع بالعهد كما تقدم وقل من يخلو عن شيء من ذلك، بخلاف الدين فإنه يمكن أن يوجد وأن لا يوجد، وما يكثر وقوعه مقدم على ما يقل وقوعه. وقال الزين بن المنير: تقديم الوصية على الدين في اللفظ لا يقتضي تقديمها في المعنى لأنهما معا قد ذكرا في سياق البعدية، لكن الميراث يلي الوصية في البعدية ولا يلي الدين بل هو بعد بعده فيلزم أن الدين يقدم في الأداء ثم الوصية ثم الميراث، فيتحقق حينئذ أن الوصية تقع بعد الدين حال الأداء باعتبار القبلية، فتقديم الدين على الوصية في اللفظ وباعتبار البعدية فتقدم الوصية على الدين في المعنى والله أعلم. قوله: "وقال ابن عباس: لا يوصي العبد إلا بإذن أهله" وصله ابن أبي شيبة من طريق شبيب بن عرقدة عن جندب قال: "سأل طهمان ابن عباس: أيوصي العبد؟ قال: لا إلا بإذن أهله". قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "العبد راع في مال سيده" هو طرف من حديث تقدم ذكره موصولا في "باب كراهية التطاول على الرقيق" من كتاب العتق من حديث نافع عن ابن عمر، وأراد البخاري بذلك توجيه كلام ابن عباس المذكور، قال ابن المنير: لما تعارض في مال العبد حقه وحق سيده قدم الأقوى وهو حق السيد، وجعل العبد مسئولا عنه، وهو أحد الحفظة فيه، فكذلك حق الدين لما عارضه حق الوصية - والدين واجب والوصية تطوع - وجب تقديم الدين، فهذا وجه مناسبة هذا الأثر والحديث للترجمة. ثم أورد المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث حكيم بن حزام "إن هذا المال خضر حلو" الحديث، وقد تقدم مشروحا في كتاب الزكاة، قال ابن المنير: وجه دخوله في هذا

(5/378)


الباب من جهة أنه صلى الله عليه وسلم زهده في قبول العطية، وجعل يد الآخذ سفلى تنقيرا عن قبولها، ولم يقع مثل ذلك في تقاضي الدين، فالحاصل أن قابض الوصية يده سفلى وقابض الدين مستوف لحقه، إما أن تكون يده عليا بما تفضل به من القرض، وإما أن لا تكون يده سفلى فيتحقق بذلك تقديم الدين على الوصية. ثانيهما حديث: "كلكم راع ومسئول عن رعيته" من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وقد تقدم من وجه آخر في العتق، ويأتي الكلام عليه في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. وقد خالف الطحاوي في هذه المسألة أصحابه فذكر اختلاف العلماء نحو ما سبق، ثم ذكر أن الصحيح ما ذهب إليه الجماعة، وصرح بتزييف ما تقدم عن أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد في هذه المسألة. "تنبيه": وقع في شرح مغلطاي أن البخاري قال هنا: "وقال إسماعيل بن جعفر أخبرني عبد العزيز عن إسحاق عن أنس في قصة بيرحاء" ونقلت عن أبي العباس الطرقي أن البخاري وصله عن الحسن بن شوكر عن إسماعيل. وقال شيخنا ابن الملقن: إن هذا وهم، وإنما ذكره البخاري في "باب من تصدق إلى وكيله" كما سيأتي.

(5/379)


باب إذا ةقف أو أوصى لأقاربه ومن الأقارب؟
...
10 - باب: إِذَا وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ وَمَنْ الأَقَارِبُ؟
وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ "قال النبي صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ: اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ أَقَارِبِكَ فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَ حَدِيثِ ثَابِتٍ قَالَ: اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ قَرَابَتِكَ قَالَ أَنَسٌ فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَكَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي وَكَانَ قَرَابَةُ حَسَّانٍ وَأُبَيٍّ مِنْ أَبِي طَلْحَةَ وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ المُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ فَيَجْتَمِعَانِ إِلَى حَرَامٍ وَهُوَ الأَبُ الثَّالِثُ وَحَرَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فَهُوَ يُجَامِعُ حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا إِلَى سِتَّةِ آبَاءٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ يَجْمَعُ حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ فَهُوَ إِلَى آبَائِهِ فِي الإِسْلاَمِ
2752- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قال النبي صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَلْحَةَ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ". وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة:َ "لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ"
قوله: "باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه، ومن الأقارب؟" وقع في بعض النسخ "أوقف" بزيادة ألف وهي لغة قليلة، وحذف المصنف جواب قوله: "إذا" إشارة إلى الخلاف في ذلك، أي هل يصح أم لا؟ وأورد المصنف

(5/379)


المسألة الأخرى مورد الاستفهام لذلك أيضا، وتضمنت الترجمة التسوية بين الوقف والوصية فيما يتعلق بالأقارب. وقد استطرد المصنف من هنا إلى مسائل الوقف فترجم لما ظهر له منها، ثم رجع أخيرا إلى تكملة كتاب الوصايا، وقد قال الماوردي تجوز الوصية لكل من جاز الوقف عليه من صغير وكبير وعاقل ومجنون وموجود ومعدوم إذا لم يكن وارثا ولا قاتلا، والوقف منع بيع الرقبة والتصدق بالمنفعة على وجه مخصوص، وقد اختلف العلماء في الأقارب فقال أبو حنيفة: القرابة كل ذي رحم محرم من قبل الأب أو الأم، ولكن يبدأ بقرابة الأب قبل الأم. وقال أبو يوسف ومحمد: من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب أو أم من غير تفصيل، زاد زفر: ويقدم من قرب منهم، وهي رواية عن أبي حنيفة أيضا. وأقل من يدفع إليه ثلاثة، وعند محمد اثنان، وعند أبي يوسف واحد، ولا يصرف للأغنياء عندهم إلا أن يشرط ذلك. وقالت الشافعية: القريب من اجتمع في النسب سواء قرب أم بعد مسلما كان أو كافرا غنيا كان أو فقيرا ذكرا كان أو أنثى وارثا أو غير وارث محرما أو غير محرم، واختلفوا في الأصول والفروع على وجهين وقالوا: إن وجد جمع محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا، وقيل يقتصر على ثلاثة. وإن كانوا غير محصورين فنقل الطحاوي الاتفاق على البطلان، وفيه نظر لأن عند الشافعية وجها بالجواز ويصرف منهم لثلاثة ولا تجب التسوية، وقال أحمد في القرابة كالشافعي، إلا أنه أخرج الكافر، وفي رواية عنه: القرابة كل من جمعه والموصي الأب الرابع إلى ما هو أسفل منه، وقال مالك: يختص بالعصبة سواء كان يرثه أو لا، ويبدأ بفقرائهم حتى يغنوا ثم يعطي الأغنياء، وحديث الباب يدل لما قاله الشافعي سوى اشتراط ثلاثة فظاهره الاكتفاء باثنين، وسأذكر بيان ذلك إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال ثابت عن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأبي طلحة: اجعله لفقراء أقاربك ، فجعلها لحسان وأبي بن كعب" هو طرف من حديث أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت، وسأذكر ما فيه من زيادة بعد أبواب. قوله: "وقال الأنصاري" هو محمد بن عبد الله بن المثنى، وثمامة هو ابن عبد الله بن أنس بن مالك، والإسناد كله أنسيون بصريون، وقد سمع البخاري من الأنصاري هذا كثيرا. قوله: "بمثل حديث ثابت قال: اجعلها لفقراء قرابتك، قال أنس فجعلها لحسان وأبي بن كعب" كدا اختصره هنا، وقد وصله في تفسير آل عمران مختصرا أيضا عقب راوية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس في هذه القصة قال: "حدثنا الأنصاري" فذكر هذا الإسناد قال: "فجعلها لحسان وأبي وكانا أقرب إليه، ولم يجعل لي منها شيئا" وسقط هذا القدر من رواية أبي ذر، وقد أخرجه ابن خزيمة والطحاوي جميعا عن ابن مرزوق، وأبو نعيم في "المستخرج" من طريقه، والبيهقي من طريق أبي حاتم الرازي كلاهما عن الأنصاري بتمامه ولفظه: "لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ} الآية أو {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله، حائطي لله، فلو استطعت أن أسره لم أعلنه، فقال: اجعله في قرابتك وفقراء أهلك، قال أنس: فجعلها لحسان ولأبى، ولم يجعل لي منها شيئا لأنهما كانا أقرب إليه مني" لفظ أبي نعيم. وفي رواية الطحاوي "كانت لأبي طلحة أرض فجعلها الله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له اجعلها في فقراء قرابتك فجعلها لحسان وأبي وكانا أقرب إليه مني" وفي رواية أبي حاتم الرازي فقال: "حائطي بكذا وكذا" وقال فيه: "فقال: اجعلها في فقراء أهل بيتك. قال فجعلها في حسان بن ثابت وأبي بن كعب" وأخرجه الدار قطني من طريق صاعقة عن الأنصاري فذكر فيه للأنصاري شيخا آخر فقال: "حدثنا حميد عن أنس قال: لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} الآية أو {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} . قال

(5/380)


أبو طلحة: يا رسول الله. حائطي في مكان كذا وكذا صدقة لله تعالى" والباقي مثل رواية أبي حاتم إلا أنه قال: "اجعلها في فقراء أهل بيتك وأقاربك" ثم ساقه بالإسناد الأول قال مثله وزاد فيه: "فجعلها لأبي بن كعب وحسان بن ثابت وكان أقرب إليه مني" وإنما أوردت هده الطرق لأني رأيت بعض الشراح ظن أن الذي وقع في البخاري من شرح قرابة أبي طلحة من حسان وأبي بقيه من الحديث المذكور، وليس كذلك بل انتهى الحديث إلى قوله: "وكانا أقرب إليه مني" ومن قوله: "وكان قرابة حسان وأبي من أبي طلحة إلخ" من كلام البخاري أو من شيخه فقال: "واسمه - أي اسم أبي طلحة - زيد بن سهل بن الأسود بن حرام - وهو بالمهملتين - ابن عمرو بن زيد مناة - وهو بالإضافة - ابن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام - يعني ابن عمرو المذكور - فيجتمعان إلى حرام وهو الأب الثالث" ووقع هنا في رواية أبي ذر "وحرام بن عمرو" وساق النسب ثانيا إلى النجار، وهو زيادة لا معنى لها، ثم قال: "وهو يجامع حسان وأبا طلحة وأبيا إلى ستة آباء إلى عمرو بن مالك " هكذا أطلق في معظم الروايات، فقال الدمياطي ومن تبعه: هو ملبس مشكل، وشرع الدمياطي في بيانه، ويغني عن ذلك ما وقع في رواية المستملي حيث قال عقب ذلك "وأبي بن كعب هو ابن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، فعمرو بن مالك يجمع حسان وأبا طلحة وأبيا" اهـ وقال أبو داود في السنن: بلغني عن محمد بن عبد الله الأنصاري أنه قال: "أبو طلحة هو زيد بن سهل" فساق نسبه ونسب حسان بن ثابت وأبي بن كعب كما تقدم، ثم قال الأنصاري: فبين أبي طلحة وأبي بن كعب ستة آباء، قال: "وعمرو بن مالك يجمع حسانا وأبيا وأبا طلحة" فظهر من هذا أن الذي وقع في البخاري من كلام شيخه الأنصاري والله أعلم. وذكر محمد بن الحسن بن زبالة في "كتاب المدينة" من مرسل أبي بكر بن حزم زيادة على ما في حديث أنس ولفظه: "أن أبا طلحة تصدق بماله وكان موضعه قصر بني حديلة، فدفعه إلى رسول الله فرده على أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت وثبيط بن جابر وشداد بن أوس أو ابنه أوس بن ثابت فتقاوموه، فصار لحسان، فباعه من معاوية بمائة ألف فابتنى قصر بني حديلة في موضعها" اهـ. وجد ثبيط بن جابر مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي بن مالك بن النجار يجتمع مع أبي بن كعب في مالك بن النجار، فهو أبعد من أبي بن كعب بواحد، وابن زبالة ضعيف فلا يحتج بما ينفرد به فكيف إذا خالف، وملخص ذلك أن أحد الرجلين اللذين خصهما أبو طلحة بذلك أقرب إليه من الآخر فحسان يجتمع معه في الأب الثالث وأبي يجتمع معه في الأب السادس، فلو كانت الأقربية معتبرة لخص بذلك حسان بن ثابت دون غيره فدل على أنها غير معتبرة، وإنما قال أنس "لأنهما كانا أقرب إليه مني" لأن الذي يجمع أبا طلحة وأنسا النجار لأنه من بني عدي بن النجار وأبو طلحة وأبي بن كعب كما تقدم من بني مالك بن النجار فلهذا كان أبي بن كعب أقرب إلى أبي طلحة من أنس. ويحتمل أن يكون أبو طلحة راعى فيمن أعطاه من قرابته الفقر لكن استثنى من كان مكفيا ممن تجب عليه نفقته فلذلك لم يدخل أنسا فظن أنس أن ذلك لبعد قرابته منه، والله أعلم. واستدل لأحمد بأن المراد بذي القربى في قوله تعالى: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} بنو هاشم وبنو المطلب لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بسهم ذي القربى وإنما يجتمع مع بني عبد المطلب في الأب الرابع، وتعقبه الطحاوي بأنه لو كان المراد ذلك لشرك معهم بني نوفل وبني عبد شمس لأنهما ولدا عبد مناف كالمطلب وهاشم، فلما خص بني هاشم وبني المطلب دون بني نوفل وعبد شمس دل على أن المراد بسهم ذوي القربى دفعه لناس مخصوصين بينه النبي صلى الله عليه وسلم بتخصيصه

(5/381)


بني هاشم وبني المطلب "فلا يقاس عليه من وقف أو أوصى لقرابته، بل يحمل اللفظ على مطلقه وعمومه حتى يثبت ما يقيده أو يخصصه والله أعلم. قوله: "وقال بعضهم" هو قول أبي يوسف: ومن وافقه كما تقدم، ثم ذكر المصنف قصة أبي طلحة من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس، أوردها مختصرة، وستأتي بتمامها في "باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود". قوله: "وقال ابن عباس لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي. لبطون من قريش" هكذا أورده مختصرا، وقد وصله في مناقب قريش وتفسير سورة الشعراء بتمامه من طريق عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وأورد في آخر الجنائز طرفا منه في قصة أبي لهب موصولة، وسيأتي شرحه وشرح الذي بعده في تفسير سورة الشعراء إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال أبو هريرة: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش" هو طرف من حديث وصله في الباب الذي بعده.

(5/382)


11 - باب: هَلْ يَدْخُلُ النِّسَاءُ وَالْوَلَدُ فِي الأَقَارِبِ؟
2753- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:َ "قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا. يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا"
تَابَعَهُ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
[الحديث 2753- طرفاه في: 3527 ، 4771]
قوله: "باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب" ؟ هكذا أورد الترجمة بالاستفهام لما في المسألة من الاختلاف كما تقدم. ثم أورد في الباب حديث أبي هريرة قال. "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال: يا معشر قريش، أو كلمة نحوها" الحديث بطوله، وموضع الشاهد منه قوله فيه: "ويا صفية ويا فاطمة" فإنه سوى صلى الله عليه وسلم في ذلك بين عشيرته فعمهم أولا ثم خص بعض البطون، ثم ذكر عمه العباس وعمته صفية وابنته فدل على دخول النساء في الأقارب وعلى دخول الفروع أيضا، وعلى عدم التخصيص بمن يرث ولا بمن كان مسلما. ويحتمل أن يكون لفظ الأقربين صفة لازمة للعشيرة، والمراد بعشيرته قومه وهم قريش، وقد روى ابن مردويه من حديث عدي بن حاتم "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قريشا فقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} يعني قومه" وعلى هذا فيكون قد أمر بإنذار قومه فلا يختص ذلك بالأقرب منهم دون الأبعد، فلا حجة فيه في مسألة الوقف لأن صورتها ما إذا وقف على قرابته أو على أقرب الناس إليه مثلا، والآية تتعلق بإنذار العشيرة فافترقا والله أعلم. وقال ابن المنير: لعله كان هناك قرينة فهم بها النبي صلى الله عليه وسلم تعميم الإنذار فلذلك عمهم انتهى. ويحتمل أن يكون

(5/382)


أولا خص اتباعا بظاهر القرابة ثم عم لما عنده من الدليل على التعميم لكونه أرسل إلى الناس كافة. "تنبيه": يجوز في يا عباس وفي يا صفية وفي يا فاطمة الضم والنصب. قوله: "تابعه أصبغ عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب" وصله الذهلي في "الزهريات" عن أصبغ، وهو عند مسلم عن حرملة عن ابن وهب

(5/383)


12 - باب: هَلْ يَنْتَفِعُ الْوَاقِفُ بِوَقْفِهِ؟
وَقَدْ اشْتَرَطَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا. وَقَدْ يَلِي الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ
2754- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ لَهُ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ ارْكَبْهَا وَيْلَكَ - أَوْ وَيْحَكَ"
2755- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْهَا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ. فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ"
قوله: "باب هل ينتفع الواقف بوقفه" أي بأن يقف على نفسه ثم على غيره، أو بأن يشرط لنفسه من المنفعة جزءا معينا، أو يجعل للناظر على وقفه شيئا ويكون هو الناظر؟ وفي هذا كله خلاف، فأما الوقف على النفس فسيأتي البحث فيه في "باب الوقف كيف يكتب" وأما شرط شيء من المنفعة فسيأتي في "باب قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} " وأما ما يتعلق بالنظر فأذكره هنا. ووقع قبل الباب في "المستخرج" لأبي نعيم "كتاب الأوقاف، باب هل ينتفع الواقف بوقفه" ولم أر ذلك لغيره. قوله: "وقد اشترط عمر إلخ" هو طرف من قصة وقف عمر، وقد تقدمت موصولة في آخر الشروط، وقوله: "وقد يلي الواقف وغيره إلخ". هو من تفقه المصنف، وهو يقتضي أن ولاية النظر للواقف لا نزاع فيها، وليس كذلك وكأنه فرعه على المختار عنده، وإلا فعند المالكية أنه لا يجوز، وقيل إن دفعه الواقف لغيره ليجمع غلته ولا يتولى تفرقتها إلا الواقف جاز، قال ابن بطال: وإنما منع مالك من ذلك سدا للذريعة لئلا يصير كأنه وقف على نفسه، أو يطول العهد فينتسى الوقف، أو يفلس الواقف فيتصرف فيه لنفسه، أو يموت فيتصرف فيه ورثته، وهذا لا يمنع الجواز إذا حصل الأمن من ذلك، لكن لا يلزم من أن النظر يجوز للواقف أن ينتفع به. نعم إن شرط ذلك جاز على الراجح، والذي احتج به المصنف من قصة عمر ظاهر في الجواز، ثم قواه بقوله: "وكذلك كل من جعل بدنة أو شيئا لله فله أن ينتفع به كما ينتفع غيره وإن لم يشترطه" ثم أورد حديثي أنس وأبي هريرة في قصة الذي ساق البدنة وأمره صلى الله عليه وسلم بركوبها، وقد قدمت الكلام عليه في الحج مستوفى وبينت هناك من أجاز ذلك مطلقا ومن منع ومن قيد بالضرورة والحاجة، وقد تمسك به من أجاز الوقف على النفس من جهة أنه إذا جاز له الانتفاع بما أهداه بعد خروجه عن ملكه بغير شرط فجوازه بالشرط أولى، وقد اعترضه ابن

(5/383)


المنير بأن الحديث لا يطابق الترجمة إلا عند من يقول إن المتكلم داخل في عموم خطابه، وهي من مسائل الخلاف في الأصول، قال: والراجح عند المالكية تحكيم العرف حتى يخرج غير المخاطب من العموم بالقرينة. وقال ابن بطال: لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته، ثم قال: وإنما يجوز له ذلك إن شرطه في الوقف أو افتقر هو أو ورثته انتهى. والذي عند الجمهور جواز ذلك إذا وقفه على الجهة العامة دون الخاصة كما سيأتي في أواخر كتاب الوصايا في ترجمة مفردة، ومن فروع المسألة: لو وقف على الفقراء مثلا ثم صار فقيرا أو أحد من ذريته هل يتناول ذلك؟ والمختار أنه يجوز بشرط أن لا يختص به لئلا يدعي أنه ملكه بعد ذلك.

(5/384)


13 - باب: إِذَا وَقَفَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ
لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْقَفَ فَقَالَ: لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَلَمْ يَخُصَّ إِنْ وَلِيَهُ عُمَرُ أَوْ غَيْرُهُ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي طَلْحَةَ أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَفْعَلُ فَقَسَمَهَا فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ"
قوله: "باب إذا وقف شيئا قبل أن يدفعه إلى غيره فهو جائز" أي صحيح وهو قول الجمهور، وعن مالك لا يتم الوقف إلا بالقبض، وبه قال محمد بن الحسن والشافعي في قول، واحتج الطحاوي للصحة بأن الوقف شبيه بالعتق لاشتراكهما في أنهما تمليك لله تعالى فينفذ بالقول المجرد عن القبض، ويفارق الهبة في أنها تمليك لآدمي فلا تتم إلا بقبضه، واستدل البخاري في ذلك بقصة عمر فقال: لأن عمر أوقف وقال: "لا جناح على من وليه أن يأكل" ولم يخص إن وليه عمر أو غيره، وفي وجه الدلالة منه غموض، وقد تعقب بأن غاية ما ذكر عن عمر هو أن كل من ولي الوقف أبيح له التناول، وقد تقدم ذلك في الترجمة التي قبلها، ولا يلزم من ذلك أن كل أحد يسوغ له أن يتولى الوقف المذكور، بل الوقف لا بد له من متول، فيحتمل أن يكون صاحبه ويحتمل أن يكون غيره فليس في قصة عمر ما يعين أحد الاحتمالين، والذي يظهر أن مراده أن عمر لما وقف ثم شرط لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه عن يده فكان تقريره لذلك دالا على صحة الوقف وإن لم يقبضه الموقوف عليه، وأما ما زعمه ابن التين من أن عمر دفع الوقف لحفصة فمردود كما سأوضحه في "باب الوقف كيف يكتب" إن شاء الله تعالى. "تنبيه": قوله: "أوقف" كذا ثبت للأكثر وهي لغة نادرة، والفصيح المشهور "وقف" بغير ألف، ووهم من زعم أن أوقف لحن، قال ابن التين قد ضرب على الألف في بعض النسخ، وإسقاطها صواب، قال: ولا يقال أوقف إلا لمن فعل شيئا ثم نزع عنه. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأبي طلحة: أرى أن تجعلها في الأقربين" الحديث تقدم موصولا قريبا، وهذا لفظ إسحاق بن أبي طلحة، قال الداودي: ما استدل به البخاري على صحة الوقف قبل القبض من قصة عمر وأبي طلحة حمل الشيء على ضده وتمثيله بغير جنسه ودفع للظاهر عن وجهه، لأنه هو روى أن عمر دفع الوقف لابنته، وأن أبا طلحة دفع صدقته إلى أبي بن كعب وحسان، وأجاب ابن التين بأن البخاري إنما أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج عن أبي طلحة ملكه بمجرد قوله: "هي لله صدقة" ولهذا يقول مالك: إن الصدقة تلزم بالقول وإن كان يقول إنها لا تتم إلا بالقبض، نعم استدلاله بقصة عمر معترض وانتقاد الداودي صحيح انتهى، وقد قدمت توجيهه، وأما ابن بطال فنازع في الاستدلال بقصة أبي طلحة بأنه يحتمل أن تكون خرجت من يده ويحتمل أنها استمرت فلا دلالة فيها،

(5/384)


وأجاب ابن المنير بأن أبا طلحة أطلق صدقة أرضه وفوض إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصرفها، فلما قال له "أرى أن تجعلها في الأقربين" ففوض له قسمتها بينهم صار كأنه أقرها في يده بعد أن مضت الصدقة. قلت: وسيأتي التصريح بأن أبا طلحة هو الذي تولى قسمتها وبذلك يتم الجواب، وقد باشر أبو طلحة تعيين مصرفها تفصيلا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان عين له جهة المصرف لكنه أجمل فاقتصر على الأقربين، فلما لم يمكن أبا طلحة أن يعم بها الأقربين لانتشارهم اقتصر على بعضهم فخص بها من اختار منهم.

(5/385)


باب إذا قال: داري لله، ولم يبين للفقراء أو غيرهم فهو جائز ويعطها للأقربين أو حيث أراد
...
14 - باب: إِذَا قَالَ: دَارِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَضَعُهَا فِي الأَقْرَبِينَ أَوْ حَيْثُ أَرَادَ.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِأَبِي طَلْحَةَ حِينَ قَالَ أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ لِمَنْ وَالأَوَّلُ أَصَحُّ
قوله: "باب إذا قال داري صدقة لله ولم يبين للفقراء أو غيرهم فهو جائز، ويعطيها للأقربين أو حيث أراد" أي تتم الصدقة قبل تعيين جهة مصرفها ثم يعين بعد ذلك فيما شاء. قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأبي طلحة إلخ" هو من سياق إسحاق بن أبي طلحة أيضا، وقوله: "فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ذلك" هو من تفقه المصنف. وقوله: "وقال بعضهم لا يجوز حتى يبين لمن" أي حتى يعين، وسيأتي بيانه في الباب الذي يليه.

(5/385)


15 - باب: إِذَا قَالَ أَرْضِي أَوْ بُسْتَانِي صَدَقَةٌ لِلَّهِ عَنْ أُمِّي فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لِمَنْ ذَلِكَ
2756- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْلَى أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا"
[الحديث 2756 طرفاه- في: 2762 ، 2770]
قوله: "باب إذا قال أرضي أو بستاني صدقة لله عن أمي فهو جائز، وإن لم يبين لمن ذلك" فهذه الترجمة أخص من التي قبلها، لأن الأولى فيما إذا لم يعين المتصدق عنه ولا المتصدق عليه، وهذه فيما إذا عين المتصدق عنه فقط، قال ابن بطال: ذهب مالك إلى صحة الوقف وإن لم يعين مصرفه، ووافقه أبو يوسف ومحمد والشافعي في قول، قال ابن القصار: وجهه أنه إذا قال وقف أو صدقه فإنما أراد به البر والقربة، وأولى الناس ببره أقاربه ولا سيما إذا كانوا فقراء، وهو كمن أوصى بثلث ماله ولم يعين مصرفه فإنه يصح ويصرف في الفقراء. والقول الآخر للشافعي أن الوقف لا يصح حتى يعين جهة مصرفه وإلا فهو باق على ملكه، وقال بعض الشافعية: إن قال وقفته وأطلق فهو محل الخلاف، وإن قال وقفته لله خرج عن ملكه جزما، ودليله قصة أبي طلحة. قوله: "حدثنا محمد" كذا للأكثر غير منسوب، وفي رواية أبي ذر وابن شبويه "حدثنا محمد بن سلام". قوله: "أخبرني يعلى" هو ابن مسلم

(5/385)


باب إذا بصدق أو وقف بعض رقيقه أو دوابه فهو جائز
...
16 - باب: إِذَا تَصَدَّقَ أَوْ أَوْقَفَ بَعْضَ مَالِهِ أَوْ بَعْضَ رَقِيقِهِ أَوْ دَوَابِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ
2757- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ"
[الحديث 2757- أطرافه في: 2947 ، 2948 ، 2949 ، 2950 ، 3088 ، 3556 ، 3889 ، 3951 ، 4418 ، 4673 ، 4676 ، 4677 ، 4678 ، 6255 ، 6690 ، 7225]
قوله: "باب إذا تصدق، أو وقف بعض ماله أو بعض رقيقه أو دوابه فهو جائز" هذه الترجمة معقودة لجواز وقف المنقول، والمخالف فيه أبو حنيفة، ويؤخذ منها جواز وقف المشاع، والمخالف فيه محمد بن الحسن لكن خص المنع بما يمكن قسمته، واحتج له الجوري بضم الجيم وهو من الشافعية بأن القسمة بيع وبيع الوقف لا يجوز، وتعقب بأن القسمة إفراز فلا محذور، ووجه كونه يؤخذ منه وقف المشاع ووقف المنقول هو من قوله: "أو بعض رقيقه أو دوابه" فإنه يدخل فيه ما إذا وقف جزءا من العبد أو الدابة أو وقف أحد عبديه أو فرسيه مثلا فيصح كل ذلك عند من يجيز وقف المنقول ويرجع إليه في التعيين. قوله: "قلت يا رسول الله إن من توبتي إلخ" هذا طرف من حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة تبوك، وسيأتي الحديث بطوله في كتاب المغازي مع استيفاء شرحه. وشاهد الترجمة منه قوله: "أمسك عليك بعض مالك" فإنه ظاهر في أمره بإخراج بعض ماله وإمساك بعض ماله من غير تفصيل بين أن يكون مقسوما أو مشاعا، فيحتاج من منع وقف الشارع إلى دليل المنع والله أعلم. واستدل به على كراهة التصدق بجميع المال؛ وقد تقدم البحث فيه في كتاب الزكاة، ويأتي شيء منه في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى.

(5/386)


17 - باب: مَنْ تَصَدَّقَ إِلَى وَكِيلِهِ ثُمَّ رَدَّ الْوَكِيلُ إِلَيْهِ
2758- وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ قَالَ وَكَانَتْ حَدِيقَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَسْتَظِلُّ بِهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا فَهِيَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْجُو بِرَّهُ وَذُخْرَهُ فَضَعْهَا أَيْ رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَخْ يَا أَبَا طَلْحَةَ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ قَبِلْنَاهُ مِنْكَ وَرَدَدْنَاهُ عَلَيْكَ فَاجْعَلْهُ فِي الأَقْرَبِينَ فَتَصَدَّقَ بِهِ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى ذَوِي رَحِمِهِ قَالَ وَكَانَ مِنْهُمْ أُبَيٌّ وَحَسَّانُ قَالَ وَبَاعَ حَسَّانُ حِصَّتَهُ مِنْهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ فَقِيلَ لَهُ تَبِيعُ صَدَقَةَ أَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ أَلاَ أَبِيعُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ بِصَاعٍ مِنْ دَرَاهِمَ قَالَ وَكَانَتْ تِلْكَ الْحَدِيقَةُ فِي مَوْضِعِ قَصْرِ بَنِي حُدَيْلَةَ الَّذِي بَنَاهُ مُعَاوِيَةُ"
قوله: "باب من تصدق إلى وكيله ثم رد الوكيل إليه" هذه الترجمة وحديثها سقط من أكثر الأصول ولم يشرحه ابن بطال، وثبت في رواية أبي ذر عن الكشميهني خاصة، لكن في روايته: "على وكيله" وثبتت الترجمة وبعض الحديث في رواية الحموي، وقد نوزع البخاري من انتزاع هذه الترجمة من قصة أبي طلحة، وأجيب بأن مراده أن أبا طلحة لما أطلق أنه تصدق وفوض إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعيين المصرف وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "دعها في الأقربين" كان شبيها بما ترجم به، ومقتضى ذلك الصحة. قوله: "وقال إسماعيل أخبرني عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة" يعني الماجشون كذا ثبت في أصل أبي ذر، ووقع في الأطراف لأبي مسعود وخلف جميعا أن إسماعيل المذكور هو ابن جعفر، وبه جزم أبو نعيم في "المستخرج" وقال: رأيته في نسخة أبي عمرو يعنى الجيزي "قال إسماعيل بن جعفر" ولم يوصله أبو نعيم ولا الإسماعيلي، وزاد الطرقي في الأطراف أن البخاري أخرجه عن الحسن ابن شوكر عن إسماعيل بن جعفر وانفرد بذلك فإن الحسن بن شوكر لم يذكره أحد في شيوخ البخاري، وهو ثقة، وأبوه بالمعجمة وزن جعفر، وجزم المزي بأن إسماعيل هو ابن أبي أويس ولم يذكر لذلك دليلا، إلا أنه وقع في أصل الدمياطي بخطه في البخاري "حدثنا إسماعيل" فإن كان محفوظا تعين أنه ابن أبي أويس وإلا فالقول ما قال خلف ومن تبعه، وعبد العزيز بن أبي سلمة وإن كان من أقران إسماعيل بن جعفر فلا يمتنع أن يروي إسماعيل عنه والله أعلم. وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من هذا في "باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه". قوله: "عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة لا أعلمه إلا عن أنس" كذا وقع عند البخاري، وذكره ابن عبد البر في "التمهيد" فقال: روى هذا الحديث عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك، فذكره بطوله جازما، والذي يظهر أن الذي

(5/387)


قال: "لا أعلمه إلا عن أنس" هو البخاري. قوله: "لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جاء أبو طلحة" زاد ابن عبد البر "ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر" قال: "وكانت دار أبي جعفر والدار التي تليها إلى قصر بني حديلة حوائط لأبي طلحة، قال وكان قصر بني حديلة حائطا لأبي طلحة يقال لها بيرحاء" فذكر الحديث، ومراده بدار أبي جعفر التي صارت إليه بعد ذلك وعرفت به، وهو أبو جعفر المنصور الخليفة المشهور العباسي، وأما قصر بني حديلة وهو بالمهملة مصغر، ووهم من قاله بالجيم فنسب إليهم القصر بسبب المجاورة، وإلا فالذي بناه هو معاوية بن أبي سفيان؛ وبنو حديلة بالمهملة مصغر بطن من الأنصار وهم بنو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار وكانوا بتلك البقعة فعرفت بهم، فلما اشترى معاوية حصة حسان بنى فيها هذا القصر فعرف بقصر بني حديلة ذكر ذلك عمرو بن شبة وغيره في "أخبار المدينة" قالوا وبني معاوية القصر المذكور ليكون له حصنا لما كانوا يتحدثون به بينهم مما يقع لبني أمية أي من قيام أهل المدينة عليهم، قال أبو غسان المدني: وكان لذلك القصر بابان أحدهما شارع على خط بني حديلة والآخر في الزاوية الشرقية، وكان الذي ولي بناءه لمعاوية الطفيل بن أبي بن كعب انتهى، وأغرب الكرماني فزعم أن معاوية الذي بني القصر المذكور هو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار أحد أجداد أبي طلحة وغيره، وما ذكرته عمن صنف في أخبار المدينة يرد عليه، وهو أعلم بذلك من غيرهم. قوله: "وباع حسان حصته منه من معاوية" هذا يدل على أن أبا طلحة ملكهم الحديقة المذكورة ولم يقفها عليهم، إذ لو وقفها ما ساغ لحسان أن يبيعها، فيعكر على من استدل بشيء من قصة أبي طلحة في مسائل الوقف إلا فيما لا تخالف فيه الصدقة الوقف، ويحتمل أن يقال شرط أبو طلحة عليهم لما وقفها عليهم أن من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها، وقد قال بجواز هذا الشرط بعض العلماء كعلي وغيره والله أعلم. ووقع في "أخبار المدينة لمحمد بن الحسن المخزومي" من طريق أبي بكر بن حزم أن ثمن حصة حسان مائة ألف درهم قبضها من معاوية بن أبي سفيان.

(5/388)


باب قول الله عز وجل (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى... الآية)
...
18 - باب: قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}
2759- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نُسِخَتْ وَلاَ وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ هُمَا وَالِيَانِ وَالٍ يَرِثُ وَذَاكَ الَّذِي يَرْزُقُ وَوَالٍ لاَ يَرِثُ فَذَاكَ الَّذِي يَقُولُ بِالْمَعْرُوفِ يَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ"
[الحديث 2759- طرفه في: 4576]
قوله: "باب قول الله عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} الآية" وذكر فيه حديث ابن عباس قال: "إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت" الحديث، وسيأتي الكلام عليه في التفسير، وذكر من أراد ابن عباس بقوله: "إن ناسا يزعمون" وأن منهم عائشة رضي الله عنها، وغير ذلك من الأقوال في دعوى كونها محكمة أو منسوخة.

(5/388)


باب ما سيتحب لمن توفي فجاءة أن يتصدقوا عنه وقضاء النذور عن الميت
...
19 - باب: مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تُوُفِّيَ فُجَاءَةً أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَنْهُ وَقَضَاءِ النُّذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ رَجُلًا

(5/388)


20 - باب: الإِشْهَادِ فِي الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ
2762- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْلَى أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ - تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ، عَنْهَا فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا فَهَلْ يَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا"

(5/390)


قوله: "باب الإشهاد في الوقف والصدقة" أورد فيه حديث ابن عباس المذكور آنفا لقوله فيه: "أشهدك أن حائطي المخراف صدقة" وألحق المصنف الوقف بالصدقة، لكن في الاستدلال لذلك بقصة سعد نظر، لأن قوله: "أشهدك" يحتمل إرادة الإشهاد المعتبر ويحتمل أن يكون معناه الإعلام، واستدل المهلب للإشهاد في الوقف بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قال فإذا أمر بالإشهاد في البيع وله عوض فلأن يشرع في الوقف الذي لا عوض له أولى. وقال ابن المنير: كأن البخاري أراد دفع التوهم عمن يظن أن الوقف من أعمال البر فيندب إخفاؤه، فبين أنه يشرع إظهاره لأنه بصدد أن ينازع فيه ولا سيما من الورثة.

(5/391)


باب قول الله تعالى (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ... الآية)
...
21 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [12 - 13 النساء]
{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
2763- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قَالَتْ: هِيَ الْيَتِيمَةُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي جَمَالِهَا وَمَالِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ [127 النساء]: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} قَالَتْ فَبَيَّنَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَتِيمَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا وَلَمْ يُلْحِقُوهَا بِسُنَّتِهَا بِإِكْمَالِ الصَّدَاقِ فَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبَةً عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ تَرَكُوهَا وَالْتَمَسُوا غَيْرَهَا مِنْ النِّسَاءِ. قَالَ فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إِذَا رَغِبُوا فِيهَا إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا الأَوْفَى مِنْ الصَّدَاقِ وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا"
قوله: "باب قوله عز وجل: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ - إلى قوله - فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أورد فيه حديث عائشة في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وفي تفسير قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وسيأتي الكلام على هذا الحديث مستوفى في التفسير، وقد أغفل المزي عزو هذا الحديث إلى كتاب الوصايا.

(5/391)


باب قول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح ... الآية)
...
22 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [6 النساء]: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ، وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً. لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} حَسِيبًا يَعْنِي كَافِيًا

(5/391)


باب: وما َلِلْوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَمَا يَأْكُلُ مِنْهُ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ
2764- حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ الأَشْعَثِ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ثَمْغٌ وَكَانَ نَخْلًا فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي اسْتَفَدْتُ مَالًا وَهُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ فَصَدَقَتُهُ تِلْكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الرِّقَابِ وَالْمَسَاكِينِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَلاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُوكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ بِهِ"
2765- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَتْ أُنْزِلَتْ فِي وَالِي الْيَتِيمِ أَنْ يُصِيبَ مِنْ مَالِهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ"
قوله: "وما للوصي أن يعمل في مال اليتيم وما يأكل منه بقدر عمالته" كذا للأكثر، وسقطت "ما" الأولى لأبي ذر، وهذه من مسائل الخلاف: فقيل يجوز للوصي أن يأخذ من مال اليتيم قدر عمالته وهو قول عائشة كما في ثاني حديثي الباب وعكرمة والحسن وغيرهم، وقيل لا يأكل منه إلا عند الحاجة. ثم اختلفوا فقال عبيدة بن عمرو وسعيد بن جبير ومجاهد: إذا أكل ثم أيسر قضى، وقيل لا يجب القضاء، وقيل إن كان ذهبا أو فضة لم يجز أن يأخذ منه شيئا إلا على سبيل القرض، وإن كان غير ذلك جاز بقدر الحاجة، وهذا أصح الأقوال عن ابن عباس، وبه قال الشعبي وأبو العالية وغيرهما، أخرج جميع ذلك ابن جرير في تفسيره. وقال هو بوجوب القضاء مطلقا وانتصر له، ومذهب الشافعي يأخذ أقل الأمرين من أجرته ونفقته ولا يجب الرد على الصحيح، وحكى ابن التين عن ربيعة أن المراد بالفقير والغني في هذه الآية اليتيم، أي إن كان غنيا فلا يسرف في الإنفاق عليه، وإن كان فقيرا فليطعمه من ماله بالمعروف، ولا دلالة فيها على الأكل من مال اليتيم أصلا والمشهور ما تقدم. ثم أورد المصنف في الباب حديثين: أحدهما حديث عمر، قوله: "حدثنا هارون بن الأشعث" هو الهمداني بسكون الميم أصله من الكوفة ثم سكن بخارى، ولم يخرج عنه البخاري في هذا الكتاب سوى هذا الموضع، ووقع في بعض الروايات

(5/392)


كرواية النسفي "حدثنا هارون" غير منسوب، فزعم ابن عدي أنه هارون بن يحيى المكي الزبيري ولم يعرف من حاله شيء، والمعتمد ما وقع عند أبي ذر وغيره منسوبا. قوله: "تصدق بمال له" هو من إطلاق العام على الخاص لأن المراد بالمال هنا الأرض التي لها غلة. قوله: "يقال له ثمغ" بفتح المثلثة وسكون الميم بعدها معجمة، ومنهم من فتح الميم حكاه المنذري، قال أبو عبيد البكري هي أرض تلقاء المدينة كانت لعمر. قلت: وسأذكر في "باب الوقف كيف يكتب" كيفية مصيره إلى عمر مع بيان الاختلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. قوله: "فصدقته تلك" كذا للكشميهني ولغيره: "ذلك". قوله: "ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف" قال المهلب: شبه البخاري الوصي بناظر الوقف، ووجه الشبه أن النظر للموقوف عليهم من الفقراء وغيرهم كالنظر لليتامى، وتعقبه ابن المنير بأن الواقف هو المالك لمنافع ما وقفه، فإن شرط لمن يلي نظره شيئا ساغ له ذلك، والموصي ليس كذلك لأن ولده يملكون المال بعده بقسمة الله لهم فلم يكن في ذلك كالواقف اهـ. ومقتضاه أن الموصي إذا جعل للوصي أن يأكل من مال الموصى عليهم لا يصح ذلك، وليس كذلك بل هو سائغ إذا عينه، وإنما اختلف السلف فيما إذا أوصى ولم يعين للموصي شيئا هل له أن يأخذ بقدر عمله أم لا؟ وقال الكرماني: وجه المطابقة هو من جهة أن القصد أن الوصي يأخذ من مال اليتيم أجره بدليل قول عمر "لا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف" . ثانيهما حديث عائشة في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} الآية، قالت عائشة: أنزلت في والي اليتيم، وفي رواية المستملي: "في والي مال اليتيم إلخ" وقد قدمت بيان الاختلاف في ذلك، يأتي بقية شرحه في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى.

(5/393)


باب قول الله تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ... الآية)
...
23 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [10 النساء]
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}
2766- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الْمَدَنِيِّ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ"
[الحديث 2766- طرفاه في: 5764 ، 6857]
قوله: باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} أورد فيه حديث أبي هريرة في السبع الموبقات وفيه: "وأكل مال اليتيم" وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى، وكنت قدمت في الشهادات أنني أشرح هذا الحديث هنا، ثم حصل ذهول فاستدركته في الموضع الذي أعاده فيه المصنف من كتاب الحدود، وذكرت الاختلاف في ضابط الكبيرة وفي عددها في أوائل كتاب الأدب.

(5/393)


باب ( يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ... الآية)
...
24 - باب
[220 البقرة]: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} لاَعْنَتَكُمْ: لاَحْرَجَكُمْ وَضَيَّقَ وَعَنَتِ: خَضَعَتْ
2767- وَقَالَ لَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: مَا رَدَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى أَحَدٍ وَصِيَّةً وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ أَحَبَّ الأَشْيَاءِ إِلَيْهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ أَنْ يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ نُصَحَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ فَيَنْظُرُوا الَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَهُ وَكَانَ طَاوُسٌ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْيَتَامَى قَرَأَ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ} وَقَالَ عَطَاءٌ فِي يَتَامَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ يُنْفِقُ الْوَلِيُّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِقَدْرِهِ مِنْ حِصَّتِهِ
قوله: "باب {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} ، إلى آخر الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية. قوله: "لأعنتكم لأحرجكم وضيق" هو تفسير ابن عباس أخرجه ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وزاد بعد قوله ضيق عليكم "ولكنه وسع ويسر فقال: ومن كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف" يقول يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته ما لم يسرف أو يبذر، ثم أخرج من طريق سعيد بن جبير قال في قوله: "لأعنتكم": لأحرجكم اهـ، وقوله: أعنتكم فعل ماض من العنت بفتح المهملة والنون بعدها مثناة والهمزة للتعدية أي أوقعكم في العنت. قوله: "وعنت خضعت" كذا وقع هنا، واستغرب لأنه لا تعلق له بقوله: "أعنتكم" بل هو فعل ماض من العنو بضم المهملة والنون وتشديد الواو، وليس هو من العنت في شيء لأن التاء في العنت أصلية وفي عنت للتأنيث ولام الفعل منه واو لكنها ذهبت في الوصل، فلعل المصنف ذكر ذلك هنا استطرادا، وتفسير {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} بخضعت أخرجه ابن المنذر أيضا من طريق مجاهد وأخرج من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "قوله وعنت الوجوه أي ذلت" ومن طريق أبي عبيدة قال: "عنت استأسرت" لأن العاني هو الأسير فكأن من فسره بخضعت فسره بلازمه لأن من لازم الأسر الذلة والخضوع غالبا. قوله: "وقال لنا سليمان بن حرب إلخ" هو موصول، وسليمان من شيوخ البخاري، وجرت عادة البخاري الإتيان بهذه الصيغة في الموقوفات غالبا وفي المتابعات نادرا، ولم يصب من قال أنه لا يأتي بها إلا في المذاكرة، وأبعد من قال إن ذلك للإجازة. قوله: "ما رد ابن عمر على أحد وصيته" يعني أنه كان يقبل وصية من يوصي إليه، قال ابن التين كأنه كان يبتغي الأجر بذلك لحديث: "أنا وكافل اليتيم كهاتين" الحديث اهـ. وسيأتي في كتاب الأدب مع الكلام عليه، ومحل كراهة الدخول في الوصايا أن يخشى التهمة أو الضعف عن القيام بحقها. قوله: "وكان ابن سيرين أحب الأشياء إليه إلخ" لم أقف عليه موصولا عنه. قوله: "وكان طاوس إلخ" وصله سفيان بن عيينة في تفسيره عن هشام بن حجير بمهملة ثم جيم مصغر عن طاوس أنه "كان إذا سئل عن مال اليتيم يقرأ: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} قوله: "وقال عطاء إلخ" وصله ابن أبي شيبة من رواية عبد الملك بن أبي سليمان عنه "أنه سئل عن الرجل يلي أموال أيتام فيهم الصغير والكبير ومالهم

(5/394)


جميع لم يقسم، قال: ينفق على كل إنسان منهم من ماله على قدره" وقد روى عبد بن حميد من طريق قتادة قال: "لما نزلت: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} كانوا لا يخالطونهم في مطعم ولا غيره، فاشتد عليهم، فأنزل الله الرخصة {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وروى الثوري في تفسيره عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير "أن سبب نزول الآية المذكورة لما نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} عزلوا أموالهم عن أموالهم، فنزلت: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} قال فخلطوا أموالهم بأموالهم" وهذا هو المحفوظ مع إرساله، وقد وصله عطاء بن السائب بذكر ابن عباس فبه أخرجه أبو داود والنسائي واللفظ له وصححه الحاكم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما نزلت هذه الآية: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ - إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} اجتنب الناس مال اليتيم وطعامه فشق ذلك عليهم، فشكوا إلى النبي ذلك فنزلت: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الآية" ورواه النسائي من وجه آخر عن عطاء بن السائب موصولا أيضا وزاد فيه: "وأحل لهم خلطهم" وروى عبد بن حميد من طريق السدي عمن حدثه عن ابن عباس قال: "المخالطة أن تشرب من لبنه ويشرب من لبنك وتأكل من قصعته ويأكل من قصعتك {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } من يتعمد أكل مال اليتيم ومن يتجنبه" وقال أبو عبيد المراد بالمخالطة أن يكون اليتيم بين عيال المولى عليه فيشق عليه إفراز طعامه، فيأخذ مق مال اليتيم قدر ما يرى أنه كافيه بالتحري فيخلطه بنفقة عياله، ولما كان ذلك قد تقع فيه الزيادة والنقصان خشوا من ذلك، فوسع الله عليهم، وهو نظير النهد حيث وسع عليهم في خلط الأزواد في الأسفار كما تقدم في الشركة. والله أعلم.

(5/395)


باب استخدام اليتيم في السفر والحضر إذا كان صلاحا له ونظر الأم أو ازوجها للينيم
...
25 - باب: اسْتِخْدَامِ الْيَتِيمِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ إِذَا كَانَ صَلاَحًا لَهُ وَنَظَرِ الأُمِّ وَزَوْجِهَا لِلْيَتِيمِ
2768- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَنَسًا غُلاَمٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ قَالَ فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا وَلاَ لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟ "
[الحديث- طرفاه في: 6038 ، 6911]
قوله: "باب استخدام اليتيم في السفر والحضر إذا كان صلاحا له ونظر الأم أو زوجها لليتيم" أورد فيه حديث أنس قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي" الحديث، وسيأتي الكلام على شرحه مستوفى: أما صدره ففي الجهاد، وأما بقيته ففي كتاب الأدب. وعبد العزيز المذكور في الإسناد هو ابن صهيب، والإسناد كله بصريون. وأبو طلحة كان زوج أم سليم والدة أنس فالحديث مطابق لأحد ركني الترجمة، وأما الركن الذي قبله وهو نظر الأم فكأنه استفيد من كون أبي طلحة لم يفعل ذلك إلا بعد رضا أم سليم، أو أشار إلى ما ورد في بعض طرقه: "أن أم سليم هي التي أحضرته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة" وأما أبو طلحة فأحضره إليه لما أراد الخروج إلى غزوة خيبر كما سيأتي ذلك صريحا في "باب من غزا بصبي للخدمة" من كتاب الجهاد،

(5/395)


ومن طريق عمرو بن أبي عمرو عن أنس، وقد اختلف في حكم ما ترجم به: فعن المالكية للأم وغيرها التصرف في مصالح من في كفالتهم من الأيتام وإن لم يكونوا أوصياء، واستشكل بعضهم جواز ذلك فإنه يفضي إلى أن اليتيم يشتغل بالخدمة عن التأديب وهو ضد المطلوب، وجوابه أن انتزاع الحكم المذكور من هذا الخبر يقتضي التقييد بما ورد في الخبر المستدل به وهو أن يكون عند من يؤدبه وينتفع بتأديبه كما وقع لأنس في الخدمة النبوية فإنه استفاد بالمواظبة عليها من الآداب ما فاق غيره ممن أدبه أبوه.

(5/396)


26 - باب: إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنْ الْحُدُودَ فَهُوَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ
2769- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ فَقَالَ بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ - أَوْ رَايِحٌ شَكَّ ابْنُ مَسْلَمَةَ - وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي بَنِي عَمِّهِ"
وَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ "رَايِحٌ"
2770- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ أَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَإِنَّ لِي مِخْرَافًا وَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا"
قوله: "باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة" كذا أطلق الجواز وهو محمول على ما إذا كان الموقوف أو المتصدق به مشهورا متميزا بحيث يؤمن أن يلتبس بغيره، وإلا فلا بد من التحديد اتفاقا لكن ذكر الغزالي في فتاويه أن من قال: اشهدوا على أن جميع أملاكي وقف على كذا وذكر مصرفها ولم يحدد شيئا منها صارت جميعها وقفا، ولا يضر جهل الشهود بالحدود. ويحتمل أن يكون مراد البخاري أن الوقف يصح بالصيغة التي لا تحديد فيها بالنسبة إلى اعتقاد الواقف وإرادته لشيء معين في نفسه، وإنما يعتبر التحديد لأجل الإشهاد عليه ليبين حق الغير والله أعلم. قوله: "أكثر الأنصار" في رواية الكشميهني: "أكثر أنصاري" أي أكثر كل واحد من الأنصار، والإضافة إلى المفرد النكرة عند إرادة التفضيل سائغ. قوله: "مالا من نخل" تقدم في رواية عبد العزيز الماجشون عن إسحاق تسمية حدائق أبي طلحة قريبا. قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها" زاد في رواية عبد

(5/396)


العزيز "ويستظل فيها". قوله: "بيرحاء" تقدم شيء من ضبطها في الزكاة، ومنه عند مسلم: "بريحاء" بفتح الموحدة وكسر الراء وتقديمها على التحتانية الساكنة ثم حاء مهملة، ورجح هذا صاحب الفائق وقال: هي وزن فعيلاء من البراح وهي الأرض الظاهرة المنكشفة، وعند أبي داود باريحاء وهو بإشباع الموحدة والباقي مثله، ووهم من ضبطه بكسر الموحدة وفتح الهمزة، فإن أريحاء من الأرض المقدسة، ويحتمل أن كان محفوظا أن تكون سميت باسمها قال عياض: رواية المغاربة إعراب الراء والقصر في حاء، وخطأ هذا الصوري. وقال الباجي: أدركت أهل العلم ومنهم أبو ذر يفتحون الراء في كل حال، زاد الصوري وكذلك الباء أي أوله، وقد قدمت في الزكاة أنه انتهى الخلاف في النطق بها إلى عشرة أوجه، ونقل أبو علي الصدفي عن أبي ذر الهروي أنه جزم أنها مركبة من كلمتين بير كلمة وحاء كلمة ثم صارت كلمة واحدة، واختلف في حاء هل هي اسم رجل أو امرأة أو مكان أضيفت إليه البئر أو هي كلمة زجر لإبل وكأن الإبل كانت ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة فأضيفت البئر إلى اللفظة المذكورة. قوله: "بخ" بفتح الموحدة وسكون المعجمة، وقد تنون مع التثقيل والتخفيف بالكسر والرفع والسكون ويجوز التنوين لغات، ولو كررت فالاختيار أن تنون الأولى وتسكن الثانية، وقد يسكنان جميعا كما قال الشاعر: بخ بخ لوالده وللمولود ومعناها تفخيم الأمر والإعجاب به. قوله: "رابح أو رايح شك ابن مسلمة" أي القعنبي أي هل هو بالتحتانية أو بالموحدة. قوله: "أفعل" بضم اللام على أنه قول أبي طلحة. قوله: "فقسمها أبو طلحة" فيه تعيين أحد الاحتمالين في رواية غيره حيث وقع فيها "أفعل فقسمها" فإنه احتمل الأول واحتمل أن يكون أفعل صيغة أمر وفاعل قسمها النبي صلى الله عليه وسلم، وانتفى هذا الاحتمال الثاني بهذه الرواية. وذكر ابن عبد البر أن إسماعيل القاضي رواه عن القعنبي عن مالك فقال في روايته: "فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقاربه وبني عمه"، قال وقوله: "في أقاربه" أي أقارب أبي طلحة، قلت: ووقع في رواية ثابت عن أنس كما تقدم، وكذا في رواية همام عن إسحاق بن أبي طلحة: "فقال صلى الله عليه وسلم: ضعها في قرابتك، فجعلها حدائق بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب" لفظ إسحاق أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه، وحديث ثابت نحوه، قال ابن عبد البر: إضافة القسم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان سائغا شائعا في لسان العرب على معنى أنه الآمر به لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك، والصواب رواية من قال: "فقسمها أبو طلحة". قوله: "في أقاربه وبني عمه" في رواية ثابت المتقدمة " فجعلها لحسان وأبي" وكذا في رواية همام عن إسحاق كما ترى، وكذا في رواية الأنصاري عن أبيه عن ثمامة، وقد تمسك به من قال: أقل من يعطى من الأقارب إذا لم يكونوا منحصرين اثنان، وفيه نظر لأنه وقع في رواية الماجشون عن إسحاق المتقدمة "فجعلها أبو طلحة في ذي رحمه وكان منهم حسان وأبي بن كعب" فدل على أنه أعطى غيرهما معهما، ثم رأيت في مرسل أبي بكر بن حزم المتقدم "فرده على أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه - أو ابن أخيه - شداد بن أوس ونبيط بن جابر فتقاوموه، فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم". قوله: "وقال إسماعيل" أي ابن أبي أويس "وعبد الله بن يوسف ويحيى بن يحيى عن مالك" أي بهذا الإسناد "رايح" أي بالتحتانية، وقد وصل حديث إسماعيل في التفسير وحديث عبد الله بن يوسف في الزكاة وحديث يحيى بن يحيى في الوكالة، وقد تقدم توجيه الروايتين في كتاب الزكاة. وفي قصة أبي طلحة من الفوائد غير ما تقدم أن منقطع الآخر في الوقف يصرف لأقرب الناس إلى الواقف، وأن الوقف لا يحتاج في انعقاده إلى قبول الموقوف عليه. واستدل به بعض المالكية على صحة

(5/397)


الصدقة المطلقة ثم يعينها المتصدق لمن يريد، واستدل به للجمهور في أن من أوصى أن يفرق ثلث ماله حيث أرى الله الوصي صحت وصيته ويفرقه الوصي في سبيل الخير ولا يأكل منه شيئا ولا يعطي منه وارثا للميت، وخالف في ذلك أبو ثور وفاقا للحنفية في الأول دون الثاني. وفيه جواز التصدق من الحي في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به وقال لسعد بن أبي وقاص "الثلث كثير" وفيه تقديم الأقرب من الأقارب على غيرهم، وفيه جواز إضافة حب المال إلى الرجل الفاضل العالم ولا نقص عليه في ذلك وقد أخبر تعالى عن الإنسان {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} والخير هنا المال اتفاقا، وفيه اتخاذ الحوائط والبساتين ودخول أهل الفضل والعلم فيها والاستظلال بظلها والأكل من ثمرها والراحة والتنزه فيها، وقد يكون ذلك مستحبا يترتب عليه الأجر إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها للطاعة، وفيه كسب العقار، وإباحة الشرب من دار الصديق ولو لم يكن حاضرا إذا علم طيب نفسه، وفيه إباحة استعذاب الماء وتفضيل بعضه على بعض، وفيه التمسك بالعموم لأن أبا طلحة فهم من قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} تناول ذلك بجميع أفراده، فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شيء بعينه بل بدر إلى إنفاق ما يحبه، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. استدل به لما ذهب إليه مالك من أن الصدقة تصح بالقول من قبل القبض، فإن كانت لمعين استحق المطالبة بقبضها، وإن كانت لجهة عامة خرجت عن ملك القائل وكان للإمام صرفه في سبيل الصدقة، وكل هذا ما إذا لم يظهر مراد المتصدق فإن ظهر اتبع. وفيه جواز تولي المتصدق قسم صدقته، وفيه جواز أخذ الغني من صدقة التطوع إذا حصل له بغير مسألة، واستدل به على مشروعية الحبس والوقف خلافا لمن منع ذلك وأبطله، ولا حجة فيه لاحتمال أن تكون صدقة أبي طلحة تمليكا وهو ظاهر سياق الماجشون عن إسحاق كما تقدم، وفيه زيادة الصدقة في التطوع على قدر نصاب الزكاة خلافا لمن قيدها به، وفيه فضيلة لأبي طلحة لأن الآية تضمنت الحث على الإنفاق من المحبوب فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب فصوب صلى الله عليه وسلم رأيه وشكر عن ربه فعله، ثم أمره أن يخص بها أهله، وكنى عن رضاه بذلك بقوله: "بخ". وفيه أن الوقف يتم بقول الواقف جعلت هذا وقفا، وتقدم البحث فيه قبل أبواب، وأن الصدقة على الجهة العامة لا تحتاج إلى قبول معين بل للإمام قبولها منه ووضعها فيما يراه كما في قصة أبي طلحة. وفيه أنه لا يعتبر في القرابة من يجمعه والواقف أب معين لا رابع ولا غيره، لأن أبيا إنما يجتمع مع أبي طلحة في الأب السادس، وأنه لا يجب تقديم القريب على القريب الأبعد، لأن حسانا وأخاه أقرب إلى أبي طلحة من أبي ونبيط، ومع ذلك فقد أشرك معهما أبيا ونبيط بن جابر، وفيه أنه لا يجب الاستيعاب لأن بني حرام الذي اجتمع فيه أبو طلحة وحسان كانوا بالمدينة كثيرا فضلا عن عمرو بن مالك الذي يجمع أبا طلحة وأبيا. قوله في حديث ابن عباس "أن رجلا" هو سعد بن عبادة كما تقدم قريبا.

(5/398)


باب إذا وقف جماعة أرضا مشاعا فهو جائز
...
27 - باب: إِذَا أَوْقَفَ جَمَاعَةٌ أَرْضًا مُشَاعًا فَهُوَ جَائِزٌ
2771- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا قَالُوا لاَ وَاللَّهِ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ"

(5/398)


قوله: "باب إذا وقف جماعة أرضا مشاعا فهو جائز" قال ابن المنير: احترز عما إذا وقف الواحد المشاع فإن مالكا لا يجيزه لئلا يدخل الضرر على الشريك، وفي هذا نظر، لأن الذي يظهر أن البخاري أراد الرد على من ينكر وقف المشاع مطلقا، وقد تقدم قبل أبواب أنه ترجم "إذا تصدق أو وقف بعض ماله فهو جائز" وهو وقف الواحد المشاع، وقد تقدم البحث فيه هناك. وأورد المصنف في الباب حديث أنس في قصة بناء المسجد، وقد تقدم بهذا الإسناد مطولا في أبواب المساجد من أوائل كتاب الصلاة، والغرض منه هنا ما اقتصر عليه من قولهم "لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل" فإن ظاهره أنهم تصدقوا بالأرض لله عز وجل، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ففيه دليل لما ترجم له، وأما ما ذكره الواقدي أن أبا بكر دفع ثمن الأرض لمالكها منهم وقدره عشرة دنانير فإن ثبت ذلك كانت الحجة للترجمة من جهة تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر قولهم ذلك، فلو كان وقف المشاع لا يجوز لأنكر عليهم وبين لهم الحكم، واستدل بهذه القصة على أن حكم المسجد يثبت للبناء إذا وقع بصورة المسجد ولو لم يصرح الباني بذلك، وعن بعض المالكية إن أذن فيه ثبت له حكم المسجد، وعن الحنفية إن أذن للجماعة بالصلاة فيه ثبت والمسألة مشهورة، ولا يثبت عند الجمهور إلا إن صرح الباني بالوقفية أو ذكر صيغة محتملة ونوى معها. وجزم بعض الشافعية بمثل ما نقل عن الحنفية لكن في الموات خاصة، والحق أنه ليس في حديث الباب ما يدل لإثبات ذلك ولا نفيه والله أعلم. قوله: "لا نطلب ثمنه إلا إلى الله" أي لا نطلب ثمنه من أحد لكن هو مصروف إلى الله، فالاستثناء على هذا التقدير منقطع، أو التقدير لا نطلب ثمنه إلا مصروفا إلى الله، فهو متصل.

(5/399)


28 - باب: الْوَقْفِ كَيْفَ يُكْتَبُ؟
2772- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ"

(5/399)


باب الوقف للغني والفقير والضيف
...
29 - باب: الوقف للغني والفقير والضعيف
2773- حدثنا أبو عاصم حدثنا بن عون عن نافع عن ابن عمر "أن عمر رضي الله عنه وجد مالا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره قال: إن شئت تصدقت بها فتصدق بها في الفقراء والمساكين وذي القربى والضيف"
قوله: "باب الوقف كيف يكتب" ذكر فيه حديث ابن عمر في قصة وقف عمر، وقد ترجم له في 0 آخر الشروط "في الوقف" وترجم له بعد هذا "الوقف على الغني والفقير" وبعد بابين "نفقة قيم الوقف" ومن قبل بأبواب "ما للوصي أن يعمل في مال اليتيم" هذا جميع المواضع التي أورده فيها موصولا طوله في بعضها واستدل منه بأطراف

(5/399)


30 - باب: وَقْفِ الأَرْضِ لِلْمَسْجِدِ
2774- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا قَالُوا لاَ وَاللَّهِ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ"
قوله: "باب وقف الأرض للمسجد" لم يختلف العلماء في مشروعية ذلك لا من أنكر الوقف ولا من نفاه، إلا أن في الجزء المشاع احتمالا لبعض الشافعية، قال ابن الرفعة: يظهر أن المشاع فيما لا يمكن الانتفاع به لا يصح،

(5/404)


وجزم ابن الصلاح بالصحة حتى يحرم على الجنب المكث فيه ونوزع في ذلك، قال الزين بن المنير: لعل البخاري أراد الرد على من خص جواز الوقف بالمسجد، وكأنه قال قد نفذ وقف الأرض المذكورة أن تكون مسجدا فدل على أن صحة الوقف لا تختص بالمسجد، ووجه أخذه من حديث الباب أن الذين قالوا لا نطلب ثمنها إلا إلى الله كأنهم تصدقوا بالأرض المذكورة فتم انعقاد الوقف قبل البناء، فيؤخذ منه أن من وقف أرضا على أن يبنيها مسجدا انعقد الوقف قبل البناء. قلت: ولا يخفى تكلفه. قوله: "حدثني إسحاق" كذا للجميع إلا الأصيلي فنسبه فقال: "حدثنا إسحاق بن منصور" ووقع في رواية أبي علي بن شبويه "حدثنا إسحاق هو ابن منصور"، وأما عبد الصمد فهو ابن عبد الوارث، والإسناد كله بصريون. قوله: "بالمسجد" في رواية الكشميهني: "ببناء المسجد" وستأتي بقية مباحث الحديث في أوائل الهجرة إن شاء الله تعالى.

(5/405)


31 - باب: وَقْفِ الدَّوَابِّ وَالْكُرَاعِ وَالْعُرُوضِ وَالصَّامِتِ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ جَعَلَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدَفَعَهَا إِلَى غُلاَمٍ لَهُ تَاجِرٍ يَتْجِرُ بِهَا وَجَعَلَ رِبْحَهُ صَدَقَةً لِلْمَسَاكِينِ وَالأَقْرَبِينَ هَلْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ رِبْحِ ذَلِكَ الأَلْفِ شَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَ رِبْحَهَا صَدَقَةً فِي الْمَسَاكِينِ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا
2775- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْطَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا رَجُلًا فَأُخْبِرَ عُمَرُ أَنَّهُ قَدْ وَقَفَهَا يَبِيعُهَا فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْتَاعَهَا فَقَالَ لاَ تَبْتَعْهَا وَلاَ تَرْجِعَنَّ فِي صَدَقَتِكَ"
قوله: "باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت" هذه الترجمة معقودة لبيان وقف المنقولات، والكراع بضم الكاف وتخفيف الراء اسم لجميع الخيل، فهو بعد الدواب من عطف الخاص على العام. والعروض بضم المهملة جمع عرض بالسكون وهو جميع ما عدا النقد من المال. والصامت بالمهملة بلفظ ضد الناطق، والمراد من النقد الذهب والفضة، ووجه أخذ ذلك من حديث الباب المشتمل على قصة فرس عمر أنها دالة على صحة وقف المنقولات فيلحق به ما في معناه من المنقولات إذا وجد الشرط وهو تحبيس العين، فلا تباع ولا توهب بل ينتفع بها، والانتفاع في كل شيء بحسبه. قوله: "وقال الزهري إلخ" هو ذهاب من الزهري إلى جواز مثل ذلك، وقد أخرجه عنه هكذا ابن وهب في موطئه عن يونس عن الزهري، ثم ذكر المصنف حديث ابن عمر في قصة عمر في حمله على الفرس في سبيل الله ثم وجده يباع، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الهبة، واعترضه الإسماعيلي فقال: لم يذكر في الباب إلا الأثر عن الزهري، والحديث في قصة الفرس التي حمل عليها عمر فقط، وأثر الزهري خلاف ما تقدم من الوقف الذي أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بأن يحبس أصله وينتفع بثمرته، والصامت إنما ينتفع به بأن يخرج بعينه إلى شيء غيره، وليس هذا بتحبيس الأصل والانتفاع بالثمرة بل المأذون فيه ما عاد منه نفع بفضل كالثمرة والغلة والارتفاق والعين قائمة، فأما ما لا ينتفع به إلا بإفاتة عينه فلا. اهـ ملخصا. وجواب هذا الاعتراض

(5/405)


أن الذي حصره في الانتفاع بالصامت ليس بمسلم، بل يمكن الانتفاع بالصامت بطريق الارتفاق بأن يحبس مثلا منه ما يجوز لبسه للمرأة فيصح بأن يحبس أصله وينتفع به النساء باللبس عند الحاجة إليه كما قدمت توجيهه والله أعلم.

(5/406)


32 - باب: نَفَقَةِ الْقَيِّمِ لِلْوَقْفِ
2776- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ"
[الحديث 2776- طرفاه في: 3096 ، 6729]
2777- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ اشْتَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنْ يَأْكُلَ مَنْ وَلِيَهُ وَيُؤْكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالًا"
قوله: "باب نفقة القيم للوقف" في رواية الحموي "نفقة بقية الوقف" والأول أظهر، ورد حديث أبي هريرة مرفوعا: "لا تقسم ورثتي دينارا ولا درهما، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" وهو دال على مشروعية أجرة العامل على الوقف، والمراد بالعامل في هذا الحديث القيم على الأرض والأجير ونحوهما أو الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم، ووهم من قال إن المراد به أجرة حافر قبره. وقوله: "لا تقتسم ورثتي" بإسكان الميم على النهي ويضمها على النفي وهو الأشهر وبه يستقيم المعنى حتى لا يعارض ما تقدم عن عائشة وغيرها أنه لم يترك صلى الله عليه وسلم مالا يورث عنه، وتوجيه رواية النهي أنه لم يقطع بأنه لا يخلف شيئا بل كان ذلك محتملا فنهاهم عن قسمة ما يخلف إن اتفق أنه خلف، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ورثتي" سماهم ورثة باعتبار أنهم كذلك بالقوة، لكن منعهم من الميراث الدليل الشرعي وهو قوله: "لا نورث ما تركنا صدقة" وسيأتي شرحه مستوى في كتاب الخمس إن شاء الله تعالى. ثم أورد المصنف حديث ابن عمر في وقف عمر مختصرا، وقد تقدم شرحه مستوفى قبل بباب، وقد اعترضه الإسماعيلي بأن المحفوظ عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع "أن عمر" ليس فيه ابن عمر، ثم أورده كذلك من طريق سليمان بن حرب وغير واحد عن حماد. قلت: لكن البخاري أخرجه عن قتيبة عنه، وقتيبة من الحفاظ، وقد تابعه يونس بن محمد عن حماد بن زيد فوصله أخرجه أحمد عنه مطولا، ووصله أيضا يزيد بن زريع عن أيوب أخرجه الإسماعيلي. وقال الحميدي: لم أقف على طريق قتيبة في صحيح البخاري، وهو ذهول شديد منه، فإنه ثابت في جميع النسخ.

(5/406)


باب إذا وقف أرضا أو بئرا أو اشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين
...
33 - باب: إِذَا وَقَفَ أَرْضًا أَوْ بِئْرًا وَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ دِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ
وَأَوْقَفَ أَنَسٌ دَارًا، فَكَانَ إِذَا قَدِمَهَا نَزَلَهَا وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ بِدُورِهِ وَقَالَ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلاَ مُضَرٍّ بِهَا فَإِنْ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلَيْسَ لَهَا حَقٌّ وَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارِ عُمَرَ سُكْنَى لِذَوِي الْحَاجَةِ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ
2778- وَقَالَ عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ

(5/406)


34 - باب: إِذَا قَالَ الْوَاقِفُ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ جَائِزٌ
2779- حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس رضي الله عنه قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم، قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله"
قوله: "باب إذا قال الواقف لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى" أورد فيه حديث أنس في قول بني النجار "لا نطلب ثمنه إلا إلى الله" أورده مختصرا جدا، وقد تقدم بسنده وزيادة في متنه قبل خمسة أبواب، قال الإسماعيلي المعنى أنهم لم يبيعوه ثم جعلوه مسجدا، إلا أن قول المالك لا أطلب ثمنه إلا إلى الله لا يصيره وقفا، وقد يقول الرجل هذا لعبد فلا يصير وقفا ويقوله للمدبر فيجوز بيعه، وقال ابن المنير: مراد البخاري أن الوقف يصح بأي لفظ دل عليه إما بمجرده وإما بقرينة والله أعلم، كذا قال، وفي الجزم بأن هذا مراده نظر، بل يحتمل أنه أراد أنه لا يصير بمجرد ذلك وقفا

(5/409)


باب قول الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا جضر أحدكم الموت ... الآية)
...
35 - باب: قَوْلِ اللَّهِ عز وجل [106 - 107 المائدة]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . الأَوْلَيَانِ وَاحِدُهُمَا أَوْلَى وَمِنْهُ أَوْلَى بِهِ عُثِرَ أُظْهِرَ أَعْثَرْنَا: أَظْهَرْنَا
2780- و قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ

(5/409)


باب قضاء الوصي جيون الميت بغير محضر من الورثة
...
26 - باب: قَضَاءِ الْوَصِيِّ دُيُونَ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْوَرَثَةِ
2781- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ - أَوْ الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْهُ - حَدَّثَنَا شَيْبَانُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ فِرَاسٍ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا فَلَمَّا حَضَرَ جِدَادُ النَّخْلِ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِي اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا كَثِيرًا وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ قَالَ اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَتِهِ فَفَعَلْتُ ثُمَّ دَعَوْتُهُ فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ ادْعُ أَصْحَابَكَ فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي وَأَنَا وَاللَّهِ رَاضٍ أَنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي وَلاَ أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ فَسَلِمَ وَاللَّهِ الْبَيَادِرُ كُلُّهَا حَتَّى أَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّه لَمْ يَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَة"ً
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ "أُغْرُوا بِي" يَعْنِي هِيجُوا بِي {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}
قوله: "باب قضاء الوصي ديون الميت بغير محضر من الورثة" قال الداودي: لا خلاف بين العلماء في حكم هذه الترجمة أنه جائز. قوله: "حدثنا محمد بن سابق، أو الفضل بن يعقوب عنه" هكذا وقع هنا بالشك، وقد روى البخاري عن أبي جعفر محمد بن سابق البغدادي مولى بني تميم بواسطة من أول حديث في الجهاد وهو عقب هذا سواء

(5/413)


وفي المغازي والنكاح والأشربة، ولم يرو عنه بغير واسطة إلا في هذا الموضع مع التردد في ذلك، وأما الفضل بن يعقوب فتقدم ذكره في البيوع، وأخرج عنه أيضا في الجزية وغيرها، وشيبان هو ابن عبد الرحمن، وفراس بكسر الفاء وتخفيف الراء. وحديث جابر المذكور يأتي الكلام عليه مستوفى في علامات النبوة، وقد سبق في الصلح والاستقراض وفي الهبة وغيرها، وقوله فيه: "اذهب فبيدر" بفتح الموحدة وسكون التحتانية بعدها دال مكسورة بصيغة فعل الأمر، أي اجعل كل صنف في بيدر - أي جرين - يخصه. ووقع في رواية أبي ذر عن السرخسي "فبادر". وقوله: "ولا أرجع إلى أخواتي تمرة" كذا للأكثر بنزع الخافض، وللكشميهني: "بتمرة" بإثباتها. قوله: "قال أبو عبد الله "أغروا بي" يعني هيجوا بي {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} وقع هذا للمستملي وحده وأغروا بضم الهمزة مبني لما لم يسم فاعله، يقال أغرى بكذا إذا لهج به وأولع. وقال أبو عبيدة في "المجاز" في قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} : الإغراء التهييج والإفساد، والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الوصايا وما معه من أبواب الوقف من الأحاديث المرفوعة على ستين حديثا، المعلق منها ثمانية عشر طريقا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى اثنان وأربعون حديثا والخالص ثمانية عشر حديثا وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عمرو بن الحارث "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا" وحديث ابن عباس "كان المال للولد"، وحديثه "هما واليان" وحديثه في قصة تميم الداري، وحديث الدين قبل الوصية، وأما حديث: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" فمذكور عند مسلم بالمعنى، وأما حديث عثمان في بئر رومة فما هو عنده لكن تقدم في الشرب مختصرا معلقا، وأغفله المزي في الأطراف هنا وهناك. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم اثنان وعشرون أثرا. والله تعالى أعلم.
تم الجزء الخامس
ويليه - إن شاء الله – الجزء السادس ، وأوله "كتاب الجهاد"

(5/414)


المجلد السادس
كتاب الجهاد و السير
مدخل
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
56- كِتَاب الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ
قوله: "كتاب الجهاد" كذا لابن شبويه، وكذا للنسفي لكن قدم البسملة، وسقط "كتاب" للباقين واقتصروا على "باب فضل الجهاد" لكن عند القابسي "كتاب فضل الجهاد" ولم يذكر باب، ثم قال بعد أبواب كثيرة "كتاب الجهاد. باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام" وسيأتي. والجهاد بكسر الجيم أصله لغة المشقة، يقال: جهدت جهادا بلغت المشقة. وشرعا: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضا على مجاهدة النفس والشيطان والفسَّاق. فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها ثم على تعليمها، وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات، وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وأما مجاهدة الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب، وقد روى النسائي من حديث سبرة - بفتح المهملة وسكون الموحدة - ابن الفاكه - بالفاء وكسر الكاف بعدها هاء - في أثناء حديث طويل قال: "فيقول - أي الشيطان - يخاطب الإنسان: تجاهد فهو جهد النفس والمال" واختلف في جهاد الكفار هل كان أولا فرض عين أو كفاية. وسيأتي البحث فيه في "باب وجوب النفير".

(6/3)


باب فضل الجهاد و السير
...
باب فَضْلِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [111 التوبة ]: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} إلى قوله: {وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحُدُودُ الطَّاعَةُ
2782- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ قَالَ سَمِعْتُ الْوَلِيدَ بْنَ الْعَيْزَارِ ذَكَرَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ: "الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي".
2783- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا".

(6/3)


2784- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدٌ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلاَ نُجَاهِدُ قَالَ لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ".
2785- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو حَصِينٍ أَنَّ ذَكْوَانَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ لاَ أَجِدُهُ قَالَ هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ".
قوله: "باب فضل الجهاد والسير" بكسر المهملة وفتح التحتانية جمع سيرة، وأطلق ذلك على أبواب الجهاد لأنها متلقاة من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته.قوله: "وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآيتين إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}" كذا للنسفي وابن شبويه، وساق في رواية الأصيلي وكريمة الآيتين جميعا، وعند أبي ذر إلى قوله: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} ثم قال: إلى قوله: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} والمراد بالمبايعة في الآية ما وقع في ليلة العقبة من الأنصار أو أعم من ذلك، وقد ورد ما يدل على الاحتمال الأول عند أحمد عن جابر، وعند الحاكم في "الإكليل" عن كعب بن مالك، وفي مرسل محمد بن كعب "قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم. قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل " فنزل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} الآية". قوله: "قال ابن عباس: الحدود الطاعة" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يعني طاعة الله، وكأنه تفسير باللازم، لأن من أطاع وقف عند امتثال أمره واجتناب نهيه. حديث ابن مسعود "أي العمل أفضل" وقد تقدم الكلام عليه في المواقيت، وأغرب الداودي فقال في شرح هذا الحديث: إن أوقع الصلاة في ميقاتها كان الجهاد مقدما على بر الوالدين، وإن أخرها كان البر مقدما على الجهاد.ولا أعرف له في ذلك مستندا، فالذي يظهر أن تقديم الصلاة على الجهاد والبر لكونها لازمة للمكلف في كل أحيانه، وتقديم البر على الجهاد لتوقفه على إذن الأبوين. وقال الطبري: إنما خص صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة بالذكر لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات، فإن من ضيع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها من غير عذر مع خفة مؤنتها عليه وعظيم فضلها فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه كان لغيرهما أقل برا، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عدواتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك، فظهر أن الثلاثة تجتمع في أن من حافظ عليها كان لما سواها أحفظ، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع. الثاني: حديث ابن عباس "لا هجرة بعد الفتح" وسيأتي شرحه بعد أبواب في "باب وجوب النفير". الثالث: حديث عائشة "جهادكن الحج" ، وقد تقدم شرحه في كتاب الحج، ووجه دخوله في هذا الباب من تقريره صلى الله عليه وسلم لقولها: "نرى

(6/4)


الجهاد أفضل الأعمال". الرابع: قوله: "حدثنا إسحاق" كذا للأكثر غير منسوب، وللأصيلي وابن عساكر: "حدثنا إسحاق بن منصور" وأما أبو علي الجياني فقال: لم أره منسوبا لأحد، وهو إما ابن راهويه أو ابن منصور. قوله: "جاء رجل" لم أقف على اسمه. قوله: "قال لا أجده" هو جواب النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: "قال هل تستطيع" كلام مستأنف. ولمسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه بلفظ: "قيل: ما يعدل الجهاد؟ قال: لا تستطيعونه: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثة كل ذلك يقول: لا تستطيعونه. وقال في الثالثة: مثل الجهاد في سبيل الله" الحديث. وأخرج الطبراني نحو هذا الحديث من حديث سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه وقال في آخره: "لم يبلغ العشر من عمله" وسيأتي بقية الكلام عليه في الباب الذي يليه. قوله: "قال ومن يستطيع ذلك" في رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان "قال لا أستطيع ذلك" وهذه فضيلة ظاهرة للمجاهد في سبيل الله تقتضي أن لا يعدل الجهاد شيء من الأعمال، وأما ما تقدم في كتاب العيدين من حديث ابن عباس مرفوعا: "ما العمل في أيام أفضل منه في هذه - يعني أيام العشر - قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد" فيحتمل أن يكون عموم حديث الباب خص بما دل عليه حديث ابن عباس، ويحتمل أن يكون الفضل الذي في حديث الباب مخصوصا بمن خرج قاصدا المخاطرة بنفسه وماله فأصيب كما في بقية حديث ابن عباس "خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء" فمفهومه أن من رجع بذلك لا ينال الفضيلة المذكورة. لكن يشكل عليه ما وقع في آخر حديث الباب(1): "وتوكل الله للمجاهد إلخ" ويمكن أن يجاب بأن الفضل المذكور أولا خاص بمن لم يرجع، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون لمن يرجع أجر في الجملة كما سيأتي البحث فيه في الذي بعده. وأشد مما تقدم في الإشكال ما أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعا: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا بلى. قال: ذكر الله" فإنه ظاهر في أن الذكر بمجرده أفضل من أبلغ ما يقع للمجاهد وأفضل من الإنفاق مع ما في الجهاد والنفقة من النفع المتعدي. قال عياض: اشتمل حديث الباب على تعظيم أمر الجهاد، لأن الصيام وغيره مما ذكر من فضائل الأعمال قد عدلها كلها الجهاد حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة معادلة لأجر المواظب على الصلاة وغيرها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تستطيع ذلك " وفيه أن الفضائل لا تدرك بالقياس وإنما هي إحسان من الله تعالى لمن شاء، واستدل به على أن الجهاد أفضل الأعمال مطلقا لما تقدم تقريره. وقال ابن دقيق العيد: القياس يقتضي أن يكون الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه، ففضيلته بحسب فضيلة ذلك والله أعلم. قوله: "قال أبو هريرة إن فرس المجاهد ليستن" أي يمرح بنشاط. وقال الجوهري هو أن يرفع يديه ويطرحهما معا. وقال غيره أن يلج في عدوه مقبلا أو مدبرا. وفي المثل "استنت الفصال حتى القرعي" يضرب لمن يتشبه بمن هو فوقه، وقوله: "في طوله" بكسر المهملة وفتح الواو وهو الحبل الذي يشد به الدابة ويمسك طرفه ويرسل في المرعى، وقوله: "فيكتب له حسنات" بالنصب على أنه مفعول ثان أي يكتب له الاستنان حسنات، وهذا القدر ذكره أبو حصين عن أبي صالح هكذا موقوفا، وسيأتي بعد بضعة وأربعين بابا في
ـــــــ
(1) ذكرت في الباب الذي يليه.

(6/5)


"باب الخيل ثلاثا" من طريق زيد بن أسلم عن أبي صالح مرفوعا ويأتي بقية الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى.

(6/6)


باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه و ماله في سبيل الله
...
2- باب أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى [10 الصف]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
2786- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ قَالُوا ثُمَّ مَنْ قَالَ مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ"
[الحديث 2786 – طرفه في: 6494]
2787- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ
قوله: "باب أفضل الناس مؤمن مجاهد" في رواية الكشميهني: "يجاهد" بلفظ المضارع. قوله: "وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ}" أي تفسير هاتين الآيتين، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير "أن هذه الآية لما نزلت قال المسلمون: لو علمنا هذه التجارة لأعطينا فيها الأموال والأهلين، فنزلت: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ} الآية" هكذا ذكره مرسلا، وروى هو والطبري من طريق قتادة قال: "لولا أن الله بينها ودل عليها لتلهف عليها رجال أن يكونوا يعلمونها حتى يطلبونها". قوله: "قيل يا رسول الله" لم أقف على اسمه، وقد تقدم أن أبا ذر سأله عن نحو ذلك. قوله: "أي الناس أفضل" في رواية مالك من طريق عطاء بن يسار مرسلا، ووصله الترمذي والنسائي وابن حبان من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن عطاء بن يسار عن ابن عباس "خير الناس منزلا" وفي رواية للحاكم "أي الناس أكمل إيمانا" وكأن المراد بالمؤمن من قام بما تعين عليه القيام به ثم حصل هذه الفضيلة، وليس المراد من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية، وحينئذ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى، ولما فيه من النفع المتعدي، وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة لأن الذي يخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا، وهو مقيد بوقوع الفتن. قوله: "مؤمن في شعب" في رواية مسلم من طريق معمر عن الزهري "رجل معتزل". قوله: "يتقي الله" في رواية مسلم من طريق الزبيدي عن الزهري "يعبد الله" وفي حديث ابن عباس "معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور

(6/6)


الناس" وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه من طريق ابن أبي ذئاب عن أبي هريرة "أن رجلا مر بشعب فيه عين عذبة، فأعجبه فقال: لو اعتزلت، ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما" وفي الحديث فضل الانفراد لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك، وأما اعتزال الناس أصلا فقال الجمهور: محل ذلك عند وقوع الفتن كما سيأتي بسطه في كتاب الفتن، ويؤيد ذلك رواية بعجة ابن عبد الله عن أبي هريرة مرفوعا: "يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير" أخرجه مسلم وابن حبان من طريق أسامة بن زيد الليثي عن بعجة، وهو بموحدة وجيم مفتوحتين بينهما مهملة ساكنة، قال ابن عبد البر: إنما أوردت هذه الأحاديث بذكر الشعب والجبل لأن ذلك في الأغلب يكون خاليا من الناس، فكل موضع يبعد على الناس فهو بداخل في هذا المعنى. قوله: "مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله" فيه إشارة إلى اعتبار الإخلاص، وسيأتي بيانه في حديث أبي موسى بعد اثني عشر بابا. قوله: "كمثل الصائم القائم" ، ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة "كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام" ، زاد النسائي من هذا الوجه "الخاشع الراكع الساجد" وفي الموطأ وابن حبان: "كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع" ، ولأحمد والبزار من حديث النعمان بن بشير مرفوعا: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره القائم ليله" وشبه حال الصائم القائم بحال المجاهد في سبيل الله في نيل الثواب في كل حركة وسكون لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة عن العبادة فأجره مستمر، وكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب لما تقدم من حديث: "أن المجاهد لتستن فرسه فيكتب له حسنات" وأصرح منه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ} الآيتين. قوله: "وتوكل الله إلخ" تقدم معناه مفردا في كتاب الإيمان من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة وسياقه أتم، ولفظه: "انتدب الله" ، ولمسلم من هذا الوجه بلفظ: "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي" وفيه التفات وإن فيه انتقالا من ضمير الحضور إلى ضمير الغيبة. وقال ابن مالك: فيه حذف القول والاكتفاء بالمقول، وهو سائغ شائع سواء كان حالا أو غير حال، فمن الحال قوله تعالى :{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ} أي قائلين ربنا، وهذا مثله أي قائلا لا يخرجه إلخ، وقد اختلفت الطرق عن أبي هريرة في سياقه، فرواه مسلم من طريق الأعرج عنه بلفظ: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته" وسيأتي كذلك من طريق أبي الزناد في كتاب الخمس، وكذلك أخرجه مالك في الموطأ عن أبي الزناد في كتاب الخمس، وأخرجه الدارمي من وجه آخر عن أبي الزناد بلفظ: "لا يخرجه إلا الجهاد في سبيل الله وتصديق كلماته" ، نعم أخرجه أحمد والنسائي من حديث ابن عمر، فوقع في روايته التصريح بأنه من الأحاديث الإلهية، ولفظه: "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه قال: أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيل ابتغاء مرضاتي ضمنت له إن رجعته أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة" الحديث رجاله ثقات، وأخرجه الترمذي من حديث عبادة بلفظ: "يقول الله عز وجل: المجاهد في سبيلي هو علي ضامن إن رجعته رجعته بأجر أو غنيمة" الحديث وصححه الترمذي، وقوله: "تضمن الله وتكفل الله وانتدب الله" بمعنى واحد، ومحصله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} وذلك التحقيق على وجه

(6/7)


الفضل منه سبحانه وتعالى، وقد عبر صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى بتفضيله بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئن به نفوسهم، وقوله: "لا يخرجه إلا الجهاد" نص على اشتراط خلوص النية في الجهاد، وسيأتي بسط القول فيه بعد أحد عشر بابا، وقوله: "فهو علي ضامن" أي مضمون، أو معناه أنه ذو ضمان. قوله: "بأن يتوفاه أن يدخله الجنة" أي بأن يدخله الجنة إن توفاه، في رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان "إن توفاه" بالشرطية والفعل الماضي أخرجه الطبراني وهو أوضح. قوله: "أن يدخله الجنة" أي بغير حساب ولا عذاب، أو المراد أن يدخله الجنة ساعة موته، كما ورد "أن أرواح الشهداء تسرح في الجنة" وبهذا التقرير يندفع إيراد من قال: ظاهر الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالما لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة، ومحصل الجواب أن المراد بدخول الجنة دخول خاص. قوله: "أو يرجعه" بفتح أوله، وهو منصوب بالعطف على يتوفاه. قوله: "مع أجر أو غنيمة" أي مع أجر خالص إن لم يغنم شيئا أو مع غنيمة خالصة معها أجر، وكأنه سكت عن الأجر الثاني الذي مع الغنيمة لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة، والحامل على هذا التأويل أن ظاهر الحديث أنه إذا غنم لا يحصل له أجر، وليس ذلك مرادا بل المراد أو غنيمة معها أجر أنقص من أجر من لم يغنم، لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرا عند وجودها، فالحديث صريح في نفي الحرمان وليس صريحا في نفي الجمع. وقال الكرماني: معنى الحديث أن المجاهد إما يستشهد أو لا، والثاني لا ينفك من أجر أو غنيمة ثم إمكان اجتماعهما، فهي قضية مانعة الخلو لا الجمع، وقد قيل في الجواب عن هذا الإشكال: إن أو بمعنى الواو، وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي ورجحها التوربشتي، والتقدير بأجر وغنيمة. وقد وقع كذلك في رواية لمسلم من طريق الأعرج عن أبي هريرة رواه كذلك عن يحيى بن يحيى عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد، وقد رواه جعفر الفريابي وجماعة عن يحيى بن يحيى فقالوا: أجر أو غنيمة بصيغة أو، وقد رواه مالك في الموطأ بلفظ: "أو غنيمة" ولم يختلف عليه إلا في رواية يحيى بن بكير عنه فوقع فيه بلفظ: "وغنيمة" ورواية يحيى بن بكير عن مالك فيها مقال. ووقع عند النسائي من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بالواو أيضا وكذا من طريق عطاء بن ميناء عن أبي هريرة وكذلك أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة بلفظ: "بما نال من أجر وغنيمة" فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعين القول بأن "أو" في هذا الحديث بمعنى الواو كما هو مذهب نحاة الكوفيين، لكن فيه إشكال صعب لأنه يقتضي من حيث المعنى أن يكون الضمان وقع بمجموع الأمرين لكل من رجع، وقد لا يتفق ذلك فإن كثيرا من الغزاة يرجع بغير غنيمة، فما فر منه الذي ادعى أن "أو" بمعنى الواو وقع في نظيره لأنه يلزم على ظاهرها أن من رجع بغنيمة بغير أجر، كما يلزم على أنها بمعنى الواو أن كل غاز يجمع له بين الأجر والغنيمة معا، وقد روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" وهذا يؤيد التأويل الأول وأن الذي يغنم يرجع بأجر لكنه أنقص من أجر من لم يغنم، فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجر الغزو، فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل له من الدنيا وتمتعه بأجر من لم يغنم مع اشتراكهما في التعب والمشقة كان أجر من غنم دون أجر من لم يغنم، وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح الآتي "فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا" الحديث. واستشكل بعضهم نقص ثواب المجاهد بأخذه الغنيمة،

(6/8)


وهو مخالف لما يدل عليه أكثر الأحاديث، وقد اشتهر تمدح النبي صلى الله عليه وسلم بحل الغنيمة وجعلها من فضائل أمته، فلو كانت تنقص الأجر ما وقع التمدح بها. وأيضا فإن ذلك يستلزم أن يكون أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مثلا مع أن أهل بدر أفضل بالاتفاق. وسبق إلى هذا الإشكال ابن عبد البر، وحكاه عياض وذكر أن بعضهم أجاب عنه بأنه ضعف حديث عبد الله بن عمرو لأنه من رواية حميد بن هانئ وليس بمشهور، وهذا مردود لأنه ثقة يحتج به عند مسلم، وقد وثقه النسائي وابن يونس وغيرهما ولا يعرف فيه تجريح لأحد. ومنهم من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غير وجهها، وظهور فساد هذا الوجه يغني عن الإطناب في رده، إذ لو كان الأمر كذلك لم يبق لهم ثلث الأجر ولا أقل منه، ومنهم من حمل نقص الأجر عل من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضا، وفيه نظر لأن صدر الحديث مصرح بأن المقسم راجع إلى من أخلص لقوله في أوله "لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي". وقال عياض: الوجه عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما واستعمالهما على وجههما. ولم يجب عن الإشكال المتعلق بأهل بدر. وقال ابن دقيق العيد: لا تعارض بين الحديثين، بل الحكم فيهما جار على القياس لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقة فيما كان أجره بحسب مشقته، إذ للمشقة دخول في الأجر، وإنما المشكل العمل المتصل بأخذ الغنائم، يعني فلو كانت تنقص الأجر لما كان السلف الصالح يثابرون عليها، فيمكن أن يجاب بأن أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض لأن أخذ الغنائم أول ما شرع كان عونا على الدين وقوة لضعفاء المسلمين، وهي مصلحة عظمى يغتفر لها بعض النقص في الأجر من حيث هو. وأما الجواب عمن استشكل ذلك بحال أهل بدر فالذي ينبغي أن يكون التقابل بين كمال الأجر ونقصانه لمن يغزو بنفسه إذا لم يغنم أو يغزو فيغنم، فغايته أن حال أهل بدر مثلا عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها ولا ينفي ذلك أن يكون حالهم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة، ولا يلزم من كونه مغفورا لهم وأنهم أفضل المجاهدين أن لا يكون وراءهم مرتبة أخرى. وأما الاعتراض بحل الغنائم فغير وارد، إذ لا يلزم من الحل ثبوت وفاء الأجر لكل غاز، والمباح في الأصل لا يستلزم الثواب بنفسه، لكن ثبت أن أخذ الغنيمة واستيلاءها من الكفار يحصل الثواب، ومع ذلك فمع صحة ثبوت الفضل في أخذ الغنيمة وصحة التمدح بأخذها لا يلزم من ذلك أن كل غاز يحصل له من أجر غزاته نظير من لم يغنم شيئا البتة قلت: والذي مثل بأهل بدر أراد التهويل، وإلا فالأمر على ما تقرر آخرا بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرا مما لو لم يحصل لهم أجر الغنيمة أن يكونوا في حال أخذهم الغنيمة مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم كمن شهد أحدا لكونهم لم يغنموا شيئا بل أجر البدري في الأصل أضعاف أجر من بعده، مثال ذلك أن يكون لو فرض أن أجر البدري بغير غنيمة ستمائة وأجر الأحدي مثلا بغير غنيمة مائة فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث عبد الله بن عمرو كان للبدري لكونه أخذ الغنيمة مائتان وهي ثلث الستمائة فيكون أكثر أجرا من الأحدي، وإنما امتاز أهل بدر بذلك لكونها أول غزوة شهدها النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار وكان مبدأ اشتهار الإسلام وقوة أهله، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعا، فصارت لا يوازيها شيء في الفضل والله أعلم. واختار ابن عبد البر أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة، كما يؤجر من أصيب بما له فكان الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عند ذلك كالنقص من أصل الأجر، ولا يخفى مباينة هذا التأويل

(6/9)


لسياق حديث عبد الله بن عمرو الذي تقدم ذكره. وذكر بعض المتأخرين للتعبير بثلثي الأجر في حديث عبد الله ابن عمرو حكمة لطيفة بالغة وذلك أن الله أعد للمجاهدين ثلاث كرامات: دنيويتان وأخروية، فالدنيويتان السلامة والغنيمة والأخروية دخول الجنة، فإذا رجع سالما غانما فقد حصل له ثلثا ما أعد الله له وبقي له عند الله الثلث، وإن رجع بغير غنيمة عوضه الله عن ذلك ثوابا في مقابلة ما فاته، وكأن معنى الحديث أنه يقال للمجاهد: إذا فات عليك شيء من أمر الدنيا عوضتك عنه ثوابا. وأما الثواب المختص بالجهاد فهو حاصل للفريقين معا، قال: وغاية ما فيه عد ما يتعلق بالنعمتين الدنيويتين أجرا بطريق المجاز والله أعلم. وفي الحديث أن الفضائل لا تدرك دائما بالقياس، بل هي بفضل الله. وفيه استعمال التمثيل في الأحكام، وأن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها، وإنما تحصل بالنية الخالصة إجمالا وتفصيلا، والله أعلم.

(6/10)


باب الدعاء بالجهاد و الشهادة للرجال و النساء
...
3 - باب الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي بَلَدِ رَسُولِكَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْعَمَتْهُ وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ قَالَتْ فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ شَكَّ إِسْحَاقُ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي الأَوَّلِ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ أَنْتِ مِنْ الأَوَّلِينَ فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ".
[الحديث 2788 – أطرفه في: 2799، 2877، 2894، 6282، 7001]
[الحديث 2789 – أطرافه في: 2800، 2878، 2895، 2924، 6283، 7002]
قوله: "باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء" قال ابن المنير وغيره: وجه دخول هذه الترجمة في الفقه أن الظاهر من الدعاء بالشهادة يستلزم طلب نصر الكافر على المسلم وإعانة من يعصي الله على من يطيعه، لكن القصد الأصلي إنما هو حصول الدرجة العليا المترتبة على حصول الشهادة، وليس ما ذكره مقصودا لذاته وإنما يقع من ضرورة الوجود، فاغتفر حصول المصلحة العظمى من دفع الكفار وإذلالهم وقهرهم بقصد قتلهم بحصول ما يقع في ضمن ذلك من قتل بعض المسلمين، وجاز تمني الشهادة لما يدل عليه من صدق من وقعت له من إعلاء كلمة الله حتى

(6/10)


بذل نفسه في تحصيل ذلك. ثم أورد المصنف فيه حديث أنس في قصة أم حرام، والمراد منه قول أم حرام: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، وسيأتي الكلام على استيفاء شرحه في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى، وهو ظاهر فيما ترجم له في حق النساء، ويؤخذ منه حكم الرجال بطريق الأولى وأغرب ابن التين فقال: ليس في الحديث تمني الشهادة وإنما فيه تمني الغزو، ويجاب بأن الشهادة هي الثمرة العظمى المطلوبة في الغزو، وأم حرام بفتح المهملتين هي خالة أنس، ولم يختلف على مالك في إسناده، لكن رواه بشر بن عمر عنه فقال: "عن أنس عن أم حرام" وهو موافق رواية محمد بن يحيى بن حبان عن أنس التي ستأتي. قوله: "وقال عمر إلخ" تقدم في أواخر الحج بأتم من هذا السياق، وتقدم هناك شرحه وبيان من وصله.

(6/11)


باب درجات المجاهدين في سبيل الله . يقال هذه سبيلي ، و هذا سبيلي
...
4 - باب دَرَجَاتِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُقَالُ هَذِهِ سَبِيلِي وَهَذَا سَبِيلِي
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: غُزًّا وَاحِدُهَا غَازٍ. هُمْ دَرَجَاتٌ: لَهُمْ دَرَجَاتٌ
2790- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ".
[الحديث 2790 – طرفه في: 7423]
2791- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا جَرِيرٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا قَالاَ أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ
قوله: "باب درجات المجاهدين في سبيل الله" أي بيانها، وقوله: "يقال هذه سبيلي" أي أن السبيل يذكر ويؤنث وبذلك جزم الفراء فقال في قوله تعالى :{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} الضمير يعود على آيات القرآن وإن شئت جعلته للسبيل لأنها قد تؤنث قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} وفي قراءة أبي بن كعب {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوها سَبِيلاً} انتهى. ويحتمل أن يكون قوله تعالى :{هَذِهِ} إشارة إلى الطريقة أي هذه الطريقة المذكورة هي سبيلي فلا يكون فيه دليل على تأنيث السبيل. قوله: "غزا" بضم المعجمة وتشديد الزاي مع التنوين "واحدها غاز" وقع هذا في رواية المستملي وحده وهو من كلام أبي عبيدة قال: وهو مثل قول وقائل انتهى. قوله: "هم درجات لهم درجات" هو من كلام أبي عبيدة أيضا قال: قوله: "هم درجات" أي منازل ومعناه لهم درجات. وقال

(6/11)


غيره: التقدير هم ذوو درجات. قوله: "عن هلال بن علي" في رواية محمد بن فليح عن أبيه "حدثني هلال". قوله: "عن عطاء بن يسار" كذا لأكثر الرواة عن فليح. وقال أبو عامر العقدي "عن فليح عن هلال عن عبد الرحمن بن أبي عمرة " بدل عطاء بن يسار أخرجه أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه، وهو وهم من فليح في حال تحديثه لأبي عامر، وعند فليح بهذا الإسناد حديث غير هذا سيأتي في الباب الذي بعد هذا لعله انتقل ذهنه من حديث إلى حديث، وقد نبه يونس بن محمد في روايته عن فليح على أنه كان ربما شك فيه، فأخرج أحمد عن يونس عن فليح عن هلال عن عبد الرحمن بن أبي عمرة وعطاء بن يسار عن أبي هريرة فذكر هذا الحديث، قال فليح: ولا أعلمه إلا ابن أبي عمرة، قال يونس: ثم حدثنا به فليح فقال عطاء ابن يسار ولم يشك انتهى. وكأنه رجع إلى الصواب فيه. ولم يقف ابن حبان على هذه العلة فأخرجه من طريق أبي عامر، والله الهادي إلى الصواب. وقد وافق فليحا على روايته إياه عن هلال عن عطاء عن أبي هريرة محمد بن جحادة عن عطاء أخرجه الترمذي من روايته مختصرا، ورواه زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار فاختلف عليه: فقال هشام بن سعد وحفص بن ميسرة والدراوردي عنه عن عطاء عن معاذ بن جبل أخرجه الترمذي وابن ماجه. وقال همام عن زيد عن عطاء عن عبادة بن الصامت أخرجه الترمذي والحاكم ورجح رواية الدراوردي ومن تابعه على رواية همام، ولم يتعرض لرواية هلال مع أن بين عطاء بن يسار ومعاذ انقطاعا. قوله: "وصام رمضان إلخ" قال ابن بطال لم يذكر الزكاة والحج لكونه لم يكن فرض. قلت: بل سقط ذكره على أحد الرواة، فقد ثبت الحج في الترمذي في حديث معاذ بن جبل وقال فيه: "لا أدري أذكر الزكاة أم لا" ، وأيضا فإن الحديث لم يذكر لبيان الأركان فكان الاقتصار على ما ذكر إن كان محفوظا لأنه هو المتكرر غالبا، وأما الزكاة فلا تجب إلا على من له مال بشرطه، والحج فلا يجب إلا مرة على التراخي. قوله: "أو جلس في بيته" فيه تأنيس لمن حرم الجهاد وأنه ليس محروما من الأجر، بل له من الإيمان والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة وإن قصر عن درجة المجاهدين. قوله: "فقالوا يا رسول الله" الذي خاطبه بذلك هو معاذ بن جبل كما في رواية الترمذي، أو أبو الدرداء كما وقع عند الطبراني، وأصله في النسائي لكن قال فيه: "فقلنا". قوله: "إن في الجنة مائة درجة" قال الطيبي: هذا الجواب من أسلوب الحكيم، أي بشرهم بدخولهم الجنة بما ذكر من الأعمال ولا تكتف بذلك بل بشرهم بالدرجات، ولا تقتنع بذلك بل بشرهم بالفردوس الذي هو أعلاها. قلت: لو لم يرد الحديث إلا كما وقع هنا لكان ما قال متجها، لكن وردت في الحديث زيادة دلت على أن قوله: "في الجنة مائة درجة" تعليل لترك البشارة المذكورة، فعند الترمذي من رواية معاذ المذكورة "قلت يا رسول الله ألا أخبر الناس؟ قال ذر الناس يعلمون، فإن في الجنة مائة درجة" فظهر أن المراد لا تبشر الناس بما ذكرته من دخول الجنة لمن آمن وعمل الأعمال المفروضة عليه فيقفوا عند ذلك ولا يتجاوزوه إلى ما هو أفضل منه من الدرجات التي تحصل بالجهاد، وهذه هي النكتة في قوله: "أعدها الله للمجاهدين" وإذا تقرر هذا كان فيه تعقب أيضا على قول بعض شراح المصابيح: سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين الجهاد في سبيل الله وبين عدمه وهو الجلوس في الأرض التي ولد المرء فيها، ووجه التعقب أن التسوية ليست كل عمومها وإنما هي في أصل دخول الجنة لا في تفاوت الدرجات كما قررته، والله أعلم. وليس في هذا السياق ما ينفي أن يكون في الجنة درجات أخرى أعدت لغير المجاهدين دون درجة المجاهدين. قوله: "كما بين السماء والأرض" في رواية محمد بن جحادة عند الترمذي "ما بين كل درجتين مائة عام" وللطبراني من هذا الوجه

(6/12)


"خمسمائة عام" فإن كانتا محفوظتين كان اختلاف العدد بالنسبة إلى اختلاف السير، زاد الترمذي من حديث أبي سعيد "لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم". قوله: " أوسط الجنة وأعلى الجنة" المراد بالأوسط هنا الأعدل والأفضل كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} فعلى هذا فعطف الأعلى عليه للتأكيد. وقال الطيبي: المراد بأحدها العلو الحسي وبالآخر العلو المعنوي. وقال ابن حبان: المراد بالأوسط السعة، وبالأعلى الفوقية. قوله: "أراه" بضم الهمزة، وهو شك من يحيى بن صالح شيخ البخاري فيه، وقد رواه غيره عن فليح فلم يشك منهم يونس بن محمد عند الإسماعيلي وغيره. قوله: "ومنه تفجر أنهار الجنة" أي من الفردوس، ووهم من زعم أن الضمير للعرش، فقد وقع في حديث عبادة بن الصامت عند الترمذي "والفردوس أعلاها درجة ومنها - أي من الدرجة التي فيها الفردوس - تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون عرش الرحمن" وروى إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق شيبان عن قتادة عنه قال: "الفردوس أوسط الجنة وأفضلها" وهو يؤيد التفسير الأول. قوله: "قال محمد بن فليح عن أبيه وفوقه عرش الرحمن" يعني أن محمدا روى هذا الحديث عن أبيه بإسناده هذا فلم يشك كما شك يحيى بن صالح بل جزم عنه بقوله: "وفوقه عرش الرحمن" قال أبو علي الجياني: وقع في رواية أبي الحسن القابسي "حدثنا محمد بن فليح" وهو وهم لأن البخاري لم يدركه. قلت: وقد أخرج البخاري رواية محمد بن فليح لهذا الحديث في كتاب التوحيد عن إبراهيم بن المنذر عنه بتمامه، ويأتي بقية شرحه هناك ورجال إسناده كلهم مدنيون. والفردوس هو البستان الذي يجمع كل شيء، وقيل هو الذي فيه العنب، وقيل هو بالرومية وقيل بالقبطية وقيل بالسريانية وبه جزم أبو إسحاق الزجاج، وفي الحديث فضيلة ظاهرة للمجاهدين، وفيه عظم الجنة وعظم الفردوس منها، وفيه إشارة إلى أن درجة المجاهد قد ينالها غير المجاهد إما بالنية الخالصة أو بما يوازيه من الأعمال الصالحة لأنه صلى الله عليه وسلم أمر الجميع بالدعاء بالفردوس بعد أن أعلمهم أنه أعد للمجاهدين، وقيل فيه جواز الدعاء بما لا يحصل للداعي لما ذكرته، والأول أولى والله أعلم. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل وجرير هو ابن حازم، وحديث سمرة تقدم بطوله في الجنائز، وهذه القطعة شاهدة لحديث أبي هريرة المذكور قبله ومفسرة، لأن المراد بالأوسط الأفضل لوصفه دار الشهداء في حديث سمرة بأنها أحسن وأفضل.

(6/13)


باب الغدوة و الروحة في سبيل الله ، و قاب قوس أحدكم في الجنة
...
5 - باب الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَابِ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ
2792- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"
[الحديث 2792 – طرفاه في: 2796، 6568]
2793- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَقَابُ قَوْسٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ وَقَالَ لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ".
[الحديث 2793 – طرفه في: 3253]

(6/13)


2794- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الرَّوْحَةُ وَالْغَدْوَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
[الحديث 2794 – أطرافه في: 2892، 3250، 6415]
قوله: "باب الغدوة والروحة في سبيل الله" أي فضلها، والغدوة بالفتح المرة الواحدة من الغدو وهو الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه، والروحة المرة الواحدة من الرواح وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها. قوله: "في سبيل الله" أي الجهاد. قوله: "وقاب قوس أحدكم" أي قدره، والقاب بتخفيف القاف وآخره موحدة معناه القدر، وكذلك القيد بكسر القاف بعدها تحتانية ساكنة ثم دال وبالموحدة بدل الدال، وقيل القاب ما بين مقبض القوس وسيته، وقيل ما بين الوتر والقوس، وقيل المراد بالقوس هنا الذراع الذي يقاس به، وكأن المعنى بيان فضل قدر الذراع من الجنة. قوله: "عن أنس" في رواية أبي إسحاق عن حميد "سمعت أنس بن مالك" وهو في الباب الذي يليه، والإسناد كله بصريون. قوله: "لغدوة" في رواية الكشميهني الغدوة بزيادة ألف في أوله بصيغة التعريف والأول أشهر واللام للقسم. قوله: "خير من الدنيا وما فيها" قال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين أحدهما أن يكون من باب تنزيل المغيب منزلة المحسوس تحقيقا له في النفس لكون الدنيا محسوسة في النفس مستعظمة في الطباع فلذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة. والثاني أن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله تعالى. قلت: ويؤيد هذا الثاني ما رواه ابن المبارك في كتاب الجهاد من مرسل الحسن قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا فيهم عبد الله بن رواحة، فتأخر ليشهد الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم " والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد، وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أمر أعظم من جميع ما في الدنيا فكيف بمن حصل منها أعلى الدرجات، والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد الميل إلى سبب من أسباب الدنيا فنبه هذا المتأخر أن هذا القدر اليسير من الجنة أفضل من جميع ما في الدنيا. قوله: "عن عبد الرحمن بن أبي عمرة" هو الأنصاري، والإسناد كله مدنيون. قوله: "لقاب قوس في الجنة" في حديث أنس في الباب الذي يليه "لقاب قوس أحدكم" وهو المطابق لترجمة هذا الباب. قوله: "خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب" هو المراد بقوله في الذي قبله "خير من الدنيا وما فيها". قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري. قوله: "عن أبي حازم" هو ابن دينار. قوله: "الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل" في رواية مسلم من طريق وكيع عن سفيان "غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا" والمعنى واحد، وفي الطبراني من طريق أبي غسان عن أبي حازم "لروحة" بزيادة لام القسم.

(6/14)


باب الحور العين و صفتهن
...
6 - باب الْحُورِ الْعِينِ وَصِفَتِهِنَّ
يُحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ} أَنْكَحْنَاهُمْ
2795- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ

(6/14)


أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلاَّ الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى".
[الحديث 2795 – طرفه في: 2817]
2796- قَالَ: وَسَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ يَعْنِي سَوْطَهُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لاَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلاَتْهُ رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"
قوله: "الحور العين وصفتهن" كذا لأبي ذر بغير باب وثبت لغيره، ووقع عند ابن بطال "باب نزول الحور العين إلخ " ولم أره لغيره. قوله: "يحار فيها الطرف" أي يتحير، قال ابن التين: هذا يشعر بأنه رأى أن اشتقاق الحور عن الحيرة، وليس كذلك، فإن الحور بالواو والحيرة بالياء، وأما قول الشاعر "حوراء عيناء من العين الحير" فهو للاتباع. قلت: لعل البخاري لم يرد الاشتقاق الأصغر. قوله: "شديدة سواد العين شديدة بياض العين" كأنه يريد تفسير العين، والعين بالكسر جمع عيناء وهي الواسعة العين الشديدة السواد والبياض قاله أبو عبيدة. قوله: "وزوجناهم بحور : أنكحناهم" هو تفسير أبي عبيدة ولفظه: زوجناهم أي جعلناهم أزواجا أي اثنين اثنين كما تقول زوجت النعل بالنعل. وقال في موضع آخر: أي جعلنا ذكران أهل الجنة أزواجا بحور من النساء. وتعقب بأن زوج لا يتعدى بالباء قاله الإسماعيلي وغيره، وفيه نظر لأن صاحب المحكم حكاه لكن قال: أنه قليل، والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، ومعاوية بن عمرو هو الأزدي، وهو من شيوخ البخاري يروى عنه تارة بواسطة كما هنا وتارة بلا واسطة كما في كتاب الجمعة. قوله: "حدثنا أبو إسحاق" هو الفزاري إبراهيم بن محمد. اشتمل هذا السياق على أربعة أحاديث: الأول يأتي شرحه بعد ثلاثة عشر بابا، الثاني تقدم شرحه في الذي قبله، الثالث والرابع يأتي شرحهما في صفة الجنة من كتاب الرقاق. وقوله في الباب: "ولقاب قوس أحدكم" تقدم شرح، "القاب" في الذي قبله، وقوله هنا "أو موضع قيد يعني سوطه" شك من الراوي هل قال قاب أو قيد، وقد تقدم أنهما بمعنى وهو المقدار. وقوله: "يعني سوطه" تفسير للقيد غير معروف، ولهذا جزم بعضهم بأنه تصحيف وأن الصواب "قد" بكسر القاف وتشديد الدال وهو السوط المتخذ من الجلد. قلت: ودعوى الوهم في التفسير أسهل من دعوى التصحيف في الأصل ولا سيما والقيد بمعنى القاب كما بينته، والمقصود من ذلك لهذه الترجمة الأخير، وقوله فيه، "ولنصيفها" بفتح النون وكسر الصاد المهملة بعدها تحتانية ساكنة ثم فاء هو الخمار بكسر المعجمة وتخفيف الميم، قال المهلب: إنما أورد حديث أنس هذا ليبين المعنى الذي من أجله يتمنى الشهيد أن يرجع إلى الدنيا ليقتل مرة أخرى في سبيل الله، لكونه يرى من الكرامة بالشهادة فوق ما في نفسه، إذ كل واحدة يعطاها من الحور العين لو اطلعت على الدنيا لأضاءت كلها انتهى. وروى ابن ماجه من طريق شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: "ذكر

(6/15)


الشهيد عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى تبتدره زوجاته من الحور العين وفي يد كل واحدة منها حلة خير من الدنيا وما فيها" ولأحمد والطبراني من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "أن للشهيد عند الله سبع خصال " فذكر الحديث وفيه: "ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين" إسناده حسن، وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب وصححه.

(6/16)


7 - باب تَمَنِّي الشَّهَادَةِ
2797- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ".
2798- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ وَقَالَ مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا" قَالَ أَيُّوبُ أَوْ قَالَ "مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ"
قوله: "باب تمني الشهادة" تقدم توجيهه في أول كتاب الجهاد وأن تمنيها والقصد لها مرغب فيه مطلوب. وفي الباب أحاديث صريحة في ذلك منها عن أنس مرفوعا: "من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم يصبها أي أعطي ثوابها ولو لم يقتل" أخرجه مسلم، وأصرح منه في المراد ما أخرجه الحاكم بلفظ: "من سأل القتل في سبيل الله صادقا ثم مات أعطاه الله أجر شهيد" وللنسائي من حديث معاذ مثله، وللحاكم من حديث سهل ابن حنيف مرفوعا: "من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه". قوله: "أن أبا هريرة" هذا الحديث رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين منهم سعيد بن المسيب هنا وأبو زرعة بن عمرو في "باب الجهاد من الإيمان" من كتاب الإيمان، وأبو صالح وهو في "باب الجعائل والحملان" في أثناء كتاب الجهاد، والأعرج وهو في كتاب التمني، وهمام وهو عند مسلم وسأذكر ما في رواية كل واحد منهم من زيادة فائدة. قوله: "والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم" في رواية أبي زرعة وأبي صالح "لولا أن أشق على أمتي" ورواية الباب تفسر المراد بالمشقة المذكورة وهي أن نفوسهم لا تطيب بالتخلف ولا يقدرون على التأهب لعجزهم عن آلة السفر من مركوب وغيره وتعذر وجوده عند النبي صلى الله عليه وسلم، وصرح بذلك في رواية همام ولفظه: "لكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي" وفي رواية أبي زرعة عند مسلم نحوه، ورواه الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري وفيه: "ولو خرجت ما بقي أحد فيه خير إلا انطلق معي، وذلك يشق علي وعليهم"، ووقع في رواية أبي صالح من الزيادة "ويشق على أن يتخلفوا عني". قوله: "والذي نفسي بيده لوددت" وقع في رواية أبي

(6/16)


زرعة المذكورة بلفظ: "ولوددت أني أقتل" بحذف القسم، وهو مقدر لما بينته هذه الرواية، فظهر أن اللام لام القسم وليست بجواب لولا، وفهم بعض الشراح أن قوله: "لوددت" معطوف على قوله: "ما قعدت" فقال: يجوز حذف اللام وإثباتها من جواب لولا، وجعل الودادة ممتنعة خشية وجود المشقة لو وجدت، وتقدير الكلام عنده: لولا أن أشق على أمتي لوددت أني أقتل في سبيل الله. ثم شرع يتكلف استشكال ذلك والجواب عنه، وقد بينت رواية الباب أنها جملة مستأنفة وأن اللام جواب القسم. ثم النكتة في إيراد هذه الجملة عقب ثلث إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم، وكأنه قال: الوجه الذي يسيرون له فيه من الفضل ما أتمنى لأجله أني أقتل مرات، فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل يحصل لكم مثله أو فوقه من فضل الجهاد، فراعى خواطر الجميع. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي وتخلف عنه المشار إليهم، وكان ذلك حيث رجحت مصلحة خروجه على مراعاة حالهم، وسيأتي بيان ذلك في "باب من حبسه العذر". قوله: "أقتل في سبيل الله" استشكل بعض الشراح صدور هذا التمني من النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لا يقتل، وأجاب ابن التين بأن ذلك لعله كان قبل نزول قوله تعالى :{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وهو متعقب فإن نزولها كان في أوائل ما قدم المدينة، وهذا الحديث صرح أبو هريرة بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قدم أبو هريرة في أوائل سنة سبع من الهجرة، والذي يظهر في الجواب أن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "وددت لو أن موسى صبر" كما سيأتي في مكانه، وسيأتي في كتاب التمني نظائر لذلك، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه، قال ابن التين: وهذا أشبه.
وحكى شيخنا ابن الملقن أن بعض الناس زعم أن قوله: "ولوددت" مدرج من كلام أبي هريرة قال: وهو بعيد، قال النووي: في هذا الحديث الحض على حسن النية، وبيان شدة شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واستحباب طلب القتل في سبيل الله، وجواز قول وددت حصول كذا من الخير وإن علم أنه لا يحصل. وفيه ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح أو لدفع مفسدة، وفيه جواز تمني ما يمتنع في العادة، والسعي في إزالة المكروه عن المسلمين. وفيه أن الجهاد على الكفاية إذ لو كان على الأعيان ما تخلف عنه أحد قلت: وفيه نظر، لأن الخطاب إنما يتوجه للقادر، وأما العاجز فمعذور، وقد قال سبحانه {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وأدلة كون الجهاد فرض كفاية تؤخذ من غير هذا، وسيأتي البحث في "باب وجوب النفير" إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار" بالمهملة وتشديد الفاء، كوفي ثقة يكنى أبا يعقوب، لم يخرج عنه البخاري سوى هذا الحديث، ورجال الإسناد من شيخه إسماعيل بن علية فصاعدا بصريون، وسيأتي شرح المتن في غزوة مؤتة من كتاب المغازي، ووجه دخوله في هذه الترجمة من قوله: "ما يسرهم أنهم عندنا" أي لما رأوا من الكرامة بالشهادة فلا يعجبهم أن يعودوا إلى الدنيا كما كانوا من غير أن يستشهدوا مرة أخرى، وبهذا التقرير يحصل الجمع بين حديثي الباب، ودليل ما ذكرته من الاستثناء ما سيأتي بعد أبواب من حديث أنس أيضا مرفوعا: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد" الحديث.

(6/17)


8 - باب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فَهُوَ مِنْهُمْ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [100 النساء]: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وَقَعَ: وَجَبَ

(6/17)


2799، 2800- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ قَالَتْ نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّي ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَتَبَسَّمُ فَقُلْتُ مَا أَضْحَكَكَ قَالَ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا الْبَحْرَ الأَخْضَرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ قَالَتْ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا لَهَا ثُمَّ نَامَ الثَّانِيَةَ فَفَعَلَ مِثْلَهَا فَقَالَتْ مِثْلَ قَوْلِهَا فَأَجَابَهَا مِثْلَهَا فَقَالَتْ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ أَنْتِ مِنْ الأَوَّلِينَ فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ
قوله: "باب فضل من يصرع في سبيل الله فمات فهو منهم" أي من المجاهدين، ومن موصولة، وكأنه ضمنها معنى الشرط فعطف عليها بالفاء وعطف الفعل الماضي على المستقبل وهو قليل، وكان نسق الكلام أن يقول: من صرع فمات، أو من يصرع فيموت، وقد سقط لفظ فمات من رواية النسفي. قوله: "وقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً} الآية، أي يحصل الثواب بقصد الجهاد إذا خلصت النية فحال بين القاصد وبين الفعل مانع، فإن قوله: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} أعم من أن يكون بقتل أو وقوع من دابته وغير ذلك فتناسب الآية الترجمة، وقد روى الطبري من طريق سعيد بن جبير والسدي وغيرهما أن الآية نزلت في رجل كان مسلما مقيما بمكة، فلما سمع قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} قال لأهله وهو مريض أخرجوني إلى جهة المدينة فأخرجوه فمات في الطريق، فنزلت، واسمه ضمرة على الصحيح، وقد أوضحت ذلك في كتابي في الصحابة. قوله: "وقع: وجب" ليس هذا في رواية المستملي وثبت لغيره، وهو تفسير أبي عبيدة في "المجاز" قال: قوله فقد وقع أجره على الله أي وجب ثوابه. ثم ذكر المصنف حديث أم حرام وقد تقدم قريبا أن شرحه يأتي في كتاب الاستئذان: والشاهد منه قوله فيه: "فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت"، مع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها أن تكون من الأولين وأنهم كالملوك على الأسرة في الجنة، وقوله في الرواية الماضية "فصرعت عن دابتها" لا يعارض قوله في هذه الرواية: "فقربت لتركبها فصرعتها" لأن التقدير فقربت إليها دابة لتركبها فركبتها فصرعتها. قال ابن بطال: وروى ابن وهب من حديث عقبة بن عامر مرفوعا: "من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد" فكأنه لما لم يكن على شرط البخاري أشار إليه في الترجمة. قلت: هو عند الطبراني وإسناده حسن قال: وفي حديث أم حرام أن حكم الراجع من الغزو حكم الذاهب إليه في الثواب. ويحيى المذكور في هذا الإسناد هو ابن سعيد الأنصاري، وفي الإسناد تابعيان هو وشيخه وصحابيان أنس وخالته، وقوله فيه: "أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية" كان ذلك في سنة ثمان وعشرين في خلافة عثمان.

(6/18)


9 - باب مَنْ يُنْكَبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
2801- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرُ الْحَوْضِيُّ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ

(6/18)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ خَالِي أَتَقَدَّمُكُمْ فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلاَ كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيبًا فَتَقَدَّمَ فَأَمَّنُوهُ فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَقَتَلُوهُمْ إِلاَّ رَجُلًا أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ قَالَ هَمَّامٌ فَأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ فَكُنَّا نَقْرَأُ أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ وَبَنِي عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
2802- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كَانَ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ وَقَدْ دَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ هَلْ أَنْتِ إِلاَّ إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ".
[الحديث 2802 – طرفه في: 6146]
قوله: "باب من ينكب" بضم أوله وسكون النون وفتح الكاف بعدها موحدة، والنكبة أن يصيب العضو شيء فيدميه، والمراد بيان فضل من وقع له ذلك في سبيل الله. حديث أنس في قصة قتل خاله وهو حرام بن ملحان وسيأتي شرحه في كتاب المغازي في غزوة بئر معونة، وقوله فيه: "عن إسحاق " هو ابن عبد الله بن أبي طلحة. قوله: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر" قال الدمياطي: هو وهم، فإن بني سليم مبعوث إليهم، والمبعوث هم القراء وهم من الأنصار. قلت: التحقيق أن المبعوث إليهم بنو عامر، وأما بنو سليم فغدروا بالقراء المذكورين، والوهم في هذا السياق من حفص بن عمر شيخ البخاري، فقد أخرجه هو في المغازي عن موسى بن إسماعيل عن همام فقال: "بعث أخا لأم سليم في سبعين راكبا، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل" الحديث، ويأتي شرحه مستوفى هناك، فلعل الأصل "بعث أقواما معهم أخو أم سليم إلى بني عامر" فصارت من بني سليم، وقد تكلف لتأويله بعض الشراح فقال: يحمل على أن أقواما منصوب بنزع الخافض أي بعث إلى أقوام من بني سليم منضمين إلى بني عامر وحذف مفعول بعث اكتفاء بصفة المفعول عنه، أو "في" زائدة ويكون "سبعين" مفعول بعث، ويحتمل أن تكون "من" لبست بيانية بل ابتدائية، أي بعث أقواما ولم يصفهم من بني سليم أو من جهة بني سليم انتهى. وهذا أقرب من التوجيه الأول ولا يخفى ما فيهما من التكلف. وقوله في آخر الحديث: "على رعل" بكسر الراء وسكون المهملة بعدها لام هم بطن من بني سليم، وكذا بعض من ذكر معهم؛ وسيأتي الحديث في أواخر الجهاد أنه دعا على أحياء من بني سليم حيث قتلوا القراء، وهو أصرح في المقصود. ثانيهما: حديث جندب، وسيأتي الكلام عليه في "باب ما يجوز من الشعر" من كتاب الأدب، ووقع فيه بلفظ: "نكبت إصبعه" وهو الموافق للترجمة، وكأنه أشار فيها إلى حديث معاذ الذي أشير إليه في الباب الذي يليه، وفي الباب ما أخرجه أبو داود والحاكم والطبراني من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا: "من وقصه فرسه

(6/19)


أو بعيره في سبيل الله أو لدغته هامة أو مات على أي حتف شاء الله فهو شهيد".

(6/20)


10 - باب مَنْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ"
قوله: "باب من يجرح في سبيل الله" أي فضله. قوله: "لا يكلم" بضم أوله وسكون الكاف وفتح اللام أي يجرح. قوله: "أحد" قيده في رواية همام عن أبي هريرة بالمسلم. قوله: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله" جملة معترضة قصد بها التنبيه على شرطية الإخلاص في نيل هذا الثواب. قوله: "إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم" في رواية همام عن أبي هريرة الماضية في كتاب الطهارة " تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجر دما". قوله: "والريح ريح المسك" في رواية همام "والعرف" بفتح المهملة وسكون الراء بعدها فاء وهو الرائحة، ولأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث معاذ بن جبل "من جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران وريحها المسك" وعرف بهذه الزيادة أن الصفة المذكورة لا تختص بالشهيد بل هي حاصلة لكل من جرح، ويحتمل أن يكون المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه قبل اندماله لا ما يندمل في الدنيا فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول، ولا ينفي ذلك أن يكون له فضل في الجملة، لكن الظاهر أن الذي "يجيء يوم القيامة وجرحه يثعب دما" من فارق الدنيا وجرحه كذلك، ويؤيده ما وقع عند ابن حبان في حديث معاذ المذكور "عليه طابع الشهداء" وقوله: "كأغزر ما كانت" لا ينافي قوله: "كهيئتها" لأن المراد لا ينقص شيئا بطول العهد، قال العلماء: الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد بفضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى. واستدل بهذا الحديث على أن الشهيد يدفن بدمائه وثيابه ولا يزال عنه الدم بغسل ولا غيره، ليجيء يوم القيامة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه نظر لأنه لا يلزم من غسل الدم في الدنيا أن لا يبعث كذلك، ويغني عن الاستدلال لترك غسل الشهيد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد "زملوهم بدمائهم" كما سيأتي بسطه في مكانه إن شاء الله تعالى.

(6/20)


باب قول الله عز وجل[52 التوبة] ( قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنين ) و الحرب سجال
...
11 - باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ [52 التوبة]{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} وَالْحَرْبُ سِجَالٌ
2804- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ
قوله: "باب قول الله عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} سيأتي في تفسير براءة تفسير

(6/20)


باب قول الله عز وجل [23 الأحزاب]{من المؤمنيبن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا}
...
12 - باب قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ [23 الأحزاب]
{مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}
2805- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْخُزَاعِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسًا قَالَ ح و حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ حَدَّثَنَا زِيَادٌ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ يَعْنِي أَصْحَابَهُ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ قَالَ سَعْدٌ فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ".
[الحديث 2805 – طرفاه في: 4048، 4783]
2806- وَقَالَ إِنَّ أُخْتَهُ وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا فَرَضُوا بِالأَرْشِ وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّهُ"
2807- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ أُرَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "نَسَخْتُ

(6/21)


الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فَلَمْ أَجِدْهَا إِلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}
[الحديث 2807 – أطرافه في: 4049، 4679، 4784، 4986، 4988، 4989، 7191، 7425]
قوله: "باب قول الله عز وجل: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية المراد بالمعاهدة المذكورة ما تقدم ذكره من قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} وكان ذلك أول ما خرجوا إلى أحد، وهذا قول ابن إسحاق، وقيل ما وقع ليلة العقبة من الأنصار إذ بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤوه وينصروه ويمنعوه، والأول أولى. وقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أي مات، وأصل النحب النذر، فلما كان كل حي لا بد له من الموت فكأنه نذر لازم له، فإذا مات فقد قضاه، والمراد هنا من مات على عهده لمقابلته بمن ينتظر ذلك. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس. قوله: "حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي" هو بصري يلقب بمردويه ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في غزوة خيبر، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة. قوله: "سألت أنسا" كذا أورده وعطف عليه الطريق الأخرى فأشعر بأن السياق لها، وأفادت رواية عبد الأعلى تصريح حميد له بالسماع من أنس فأمن تدليسه. وقد أخرجه مسلم والترمذي والنسائي من رواية ثابت عن أنس. قوله: "حدثنا زياد" لم أره منسوبا في شيء من الروايات، وزعم الكلاباذي ومن تبعه أنه ابن عبد الله البكائي بفتح الموحدة وتشديد الكاف، وهو صاحب ابن إسحاق وراوي المغازي عنه، وليس له ذكر في البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "غاب عمي أنس بن النضر" زاد ثابت عن أنس "الذي سميت به". قوله: "عن قتال بدر" زاد ثابت "فكبر عليه ذلك". قوله: "أول قتال" أي لأن بدرا أول غزوة خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه مقاتلا، وقد تقدمها غيرها لكن ما خرج فيها صلى الله عليه وسلم بنفسه مقاتلا. قوله: "لئن الله أشهدني" أي أحضرني. قوله: "ليرين الله ما أصنع" بتشديد النون للتأكيد، واللام جواب القسم المقدر، ووقع في رواية ثابت عند مسلم: "ليراني الله" بتخفيف النون بعدها تحتانية، وقوله: "ما أصنع" أعربه النووي بدلا من ضمير المتكلم. وفي رواية محمد بن طلحة عن حميد الآتية في المغازي "ليرين الله ما أجد" وهو بضم الهمزة وكسر الجيم وتشديد الدال، أو بفتح الهمزة وضم الجيم مأخوذ من الجد ضد الهزل، وزاد ثابت "وهاب أن يقول غيرها" أي خشي أن يلتزم شيئا فيعجز عنه فأبهم، وعرف من السياق أن مراده أنه يبالغ في القتال وعدم الفرار. قوله: "وانكشف المسلمون" في رواية عبد الوهاب الثقفي عن حميد عند الإسماعيلي: "وانهزم الناس" وسيأتي بيان ذلك في غزوة أحد. قوله: "أعتذر" أي من فرار المسلمين "وأبرأ" أي من فعل المشركين. قوله: "ثم تقدم" أي نحو المشركين "فاستقبله سعد بن معاذ" زاد ثابت عن أنس "منهزما" كذا في مسند الطيالسي، ووقع عند النسائي مكانها "مهيم" وهو تصحيف فيما أظن. قوله: "فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر" كأنه يريد والده، ويحتمل أن يريد ابنه فإنه كان له ابن يسمى النضر وكان إذ ذاك صغيرا. ووقع في رواية عبد الوهاب "فوالله" وفي رواية عبد الله بن بكر عن حميد عند الحارث بن أبي أسامة عنه "والذي نفسي بيده"، والظاهر أنه قال بعضها والبقية بالمعنى، وقوله: "الجنة"

(6/22)


بالنصب على تقدير عامل نصب أي أريد الجنة أو نحوه، ويجوز الرفع أي هي مطلوبي. قوله: "إني أجد ريحها" أي ريح الجنة "من دون أحد". وفي رواية ثابت، "واها لريح الجنة أجدها دون أحد" قال ابن بطال وغيره: يحتمل أن يكون على الحقيقة وأنه وجد ريح الجنة حقيقة أو وجد ريحا طيبة ذكره طيبها بطيب ريح الجنة، ويجوز أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد فتصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتل فيه فيكون المعنى إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فاشتاق لها. وقوله: "واها" قاله إما تعجبا وإما تشوقا إليها، فكأنه لما ارتاح لها واشتاق إليها صارت له قوة من اشتنشقها حقيقة. قوله: "قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع أنس" قال ابن بطال يريد ما استطعت أن أصف ما صنع أنس من كثرة ما أغنى وأبلى في المشركين. قلت: وقع عند يزيد بن هارون عن حميد "فقلت أنا معك فلم استطع أن أصنع ما صنع. وظاهره أنه نفي استطاعة إقدامه الذي صدر منه حتى وقع له ما وقع من الصبر على تلك الأهوال بحيث وجد في جسده ما يزيد على الثمانين من طعنة وضربة ورمية، فاعترف سعد بأنه لم يستطع أن يقدم إقدامه ولا يصنع صنيعه، وهذا أولى مما تأوله ابن بطال. قوله: "فوجدنا به" في رواية عبد الله بن بكر "قال أنس فوجدناه بين القتلى وبه". قوله: "بضعا وثمانين" لم أر في شيء من الروايات بيان هذا البضع وقد تقدم أنه ما بين الثلاث والتسع، وقوله: "ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم" أو هنا للتقسيم، ويحتمل أن تكون بمعنى الواو، وتفصيل مقدار كل واحدة من المذكورات غير معين. قوله: "وقد مثل به" بضم الميم وكسر المثلثة وتخفيفها وقد تشدد وهو من المثلة بضم الميم وسكون المثلثة وهو قطع الأعضاء من أنف وأذن ونحوها. قوله: "فما عرفه أحد إلا أخته" في رواية ثابت "فقالت عمتي الربيع بنت النضر أخته: فما عرفت أخي إلا ببنانه" زاد النسائي من هذا الوجه "وكان حسن البنان" والبنان الإصبع، وقيل طرف الإصبع. ووقع في رواية محمد بن طلحة المذكورة بالشك "ببنانه أو بشامة" بالشين المعجمة والأولى أكثر. قوله: "قال أنس: كنا نرى أو نظن" شك من الراوي وهما بمعنى واحد. وفي رواية أحمد عن يزيد ابن هارون عن حميد "فكنا نقول" وكذا لعبد الله بن بكر؛ وفي رواية أحمد بن سنان عن يزيد "وكانوا يقولون" أخرجه ابن أبي حاتم عنه، وكأن التردد فيه من حميد، ووقع في رواية ثابت "وأنزلت هذه الآية" بالجزم. قوله: "وقال إن أخته" كذا وقع هنا عند الجميع ولم يعين القائل، وهو أنس بن مالك راوي الحديث، والضمير في قوله: "أخته" للنضر بن أنس، ويحتمل أن يكون فاعل "قال" واحدا من الرواة دون أنس ولم أقف على تعيينه، ولا استخرج الإسماعيلي هذا الحديث هنا، وهي تسمى الربيع، بالتشديد أي أخت أنس ابن النضر وهي عمة أنس بن مالك، وسيأتي شرح قصتها في كتاب القصاص. وفي قصة أنس بن النضر من الفوائد جواز بذل النفس في الجهاد، وفضل الوفاء بالعهد ولو شق على النفس حتى يصل إلى إهلاكها، وأن طلب الشهادة في الجهاد لا يتناوله النهي عن الإلقاء إلى التهلكة. وفيه فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر وما كان عليه من صحة الإيمان وكثرة التوقي والتورع وقوة اليقين. قال الزين بن المنير: من أبلغ الكلام وأفصحه قول أنس بن النضر في حق المسلمين "أعتذر إليك" وفي حق المشركين "أبرأ إليك" فأشار إلى أنه لم يرض الأمرين جميعا مع تغايرهما(1) في المعنى، وسيأتي في غزوة أحد من
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: في نسخة "مع تقاربهما".

(6/23)


المغازي بيان ما وقعت الإشارة إليه هنا من انهزام بعض المسلمين ورجوعهم وعفو الله عنهم، رضي الله عنهم وقوله أجمعين. قوله: "وحدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وأخوه هو أبو بكر عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال أراه عن محمد بن أبي عتيق هو بضم الهمزة أي أظنه، وهو قول إسماعيل المذكور. قوله: "عن خارجة بن زيد" أي ابن ثابت، وللزهري في هذا الحديث شيخ آخر وهو عبيد بن السباق، لكن اختلف خارجة وعبيد في تعيين الآية التي ذكر زيد أنه وجدها مع خزيمة فقال خارجة: إنها قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا} وقال عبيد إنها قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وقد أخرج البخاري الحديثين جميعا بالإسنادين المذكورين فكأنهما جميعا صحا عنده، ويؤيد ذلك أن شعيبا حدث عن الزهري بالحديثين جميعا، وكذلك رواهما عن الزهري جميعا إبراهيم بن سعد كما سيأتي في فضائل القرآن. وفي رواية عبيد بن السباق زيادات ليست في رواية خارجة، وانفرد خارجة بوصف خزيمة بأنه "الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين" وسأذكر ما في هذه الزيادة من بحث في تفسير سورة الأحزاب إن شاء الله تعالى. والسياق الذي ساقه هنا لابن أبي عتيق، وأما سياق شعيب فسيأتي بيانه في تفسير الأحزاب وقال فيه عن الزهري "أخبرني خارجة" وتأتي بقية مباحثه في فضائل القرآن إن شاء الله تعالى.

(6/24)


باب عمل صالح قبل القتال . و قال أبو الدرداء : إنما تقاتلون بأعمالكم
...
13 - باب عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ
وَقَوْلُهُ [الصف 2-4] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}
2808- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ الْفَزَارِيُّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ قَالَ أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا".
قوله: "باب عمل صالح قبل القتال. وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم" هكذا وقع عند الجميع ولعله كان قاله أبو الدرداء وقال: "إنما تقاتلون بأعمالكم" وإنما قلت ذلك لأنني وجدت ذلك في "المجالسة للدينوري" من طريق أبي إسحاق الفزاري "عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد أن أبا الدرداء قال: أيها الناس عمل صالح قبل الغزو، فإنما تقاتلون بأعمالكم". ثم ظهر لي سبب تفصيل البخاري، وذلك أن هذه الطريق منقطعة بين ربيعة وأبي الدرداء، وقد روى ابن المبارك في كتاب الجهاد عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن ابن حلبس بفتح المهملة والموحدة بينهما لام ساكنة وآخره سين مهملة عن أبي الدرداء قال: "إنما تقاتلون بأعمالكم" ولم يذكر ما قبله فاقتصر البخاري على ما ورد بالإسناد المتصل فعزاه إلى أبي الدرداء، ولذلك جزم به عنه، واستعمل بقية ما ورد عنه بالإسناد المنقطع في الترجمة إشارة إلى أنه لم يغفله. قوله: "وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} إلى قوله: {بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} ذكر فيه حديث البراء في قصة الذي قتل حين أسلم، قال ابن المنير: مناسبة الترجمة والآية للحديث ظاهرة وفي مناسبة الترجمة للآية خفاء وكأنه من جهة أن الله عاتب من قال إنه يفعل

(6/24)


الخير ولم يفعله، وأثنى على من وفى وثبت عند القتال، أو من جهة أنه أنكر على من قدم على القتال قولا غير مرضي فكشف الغيب أنه أخلف، فمفهومه ثبوت الفضل في تقديم الصدق والعزم الصحيح على الوفاء وذلك من أصلح الأعمال انتهى. وهذا الثاني أظهر فيما أرى والله أعلم. وقال الكرماني: المقصود من الآية في هذه الترجمة قوله في آخرها "صفا كأنهم بنيان مرصوص" لأن الصف في القتال من العمل الصالح قبل القتال، انتهى. وسيأتي تفسير قوله: "مرصوص" في التفسير. قوله: "حدثني محمد بن عبد الرحيم" هو الحافظ المعروف بصاعقة، وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل" لم أقف على اسمه ووقع عند مسلم من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق أنه من الأنصار ثم من بني النبيت بفتح النون وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة فوق ولولا ذلك لأمكن تفسيره بعمرو بن ثابت بن وقش بفتح الواو والقاف بعدها معجمة وهو المعروف بأصرم بن عبد الأشهل، فإن بني عبد الأشهل بطن من الأنصار من الأوس وهم غير بني النبيت، وقد أخرج ابن إسحاق في المغازي قصة عمرو بن ثابت بإسناد صحيح عن أبي هريرة أنه كان يقول: "أخبروني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة؟ ثم يقول: هو عمرو بن ثابت" قال ابن إسحاق قال الحصين بن محمد: قلت لمحمود ابن لبيد: كيف كانت قصته؟ قال: "كان يأبى الإسلام، فلما كان يوم أحد بدا له فأخذ سيفه حتى أتى القوم فدخل في عرض الناس فقاتل حتى وقع جريحا، فوجده قومه في المعركة فقالوا: ما جاء بك؟ أشفقة على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما أصابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه من أهل الجنة" وروى أبو داود والحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة "كان عمرو يأبى الإسلام لأجل ربا كان له في الجاهلية، فلما كان يوم أحد قال: أين قومي؟ قالوا بأحد، فأخذ سيفه ولحقهم، فلما رأوه قالوا: إليك عنا، قال: إني قد أسلمت، فقاتل حتى جرح، فجاءه سعد بن معاذ فقال: خرجت غضبا لله ولرسوله، ثم مات فدخل الجنة وما صلى صلاة. فيجمع بين الروايتين بأن الذين رأوه وقالوا له: إليك عنا، ناس غير قومه، وأما قومه فما شعروا بمجيئه حتى وجدوه في المعركة". ويجمع بينهما وبين حديث الباب بأنه جاء أولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستشاره ثم أسلم ثم قاتل، فرآه أولئك الذين قالوا له إليك عنا. ويؤيد هذا الجمع قوله لهم "قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكأن قومه وجدوه بعد ذلك فقالوا له ما قالوا. ويؤيد الجمع أيضا ما وقع في سياق حديث البراء عند النسائي، فإنه أخرجه من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق نحو رواية إسرائيل وفيه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أني حملت على القوم فقاتلت حتى أقتل أكان خيرا لي ولم أصل صلاة؟ قال نعم" ونحوه لسعيد بن منصور من وجه آخر عن أبي إسحاق وزاد في أوله أنه قال: "أخير لي أن أسلم؟ قال نعم : فأسلم" فإنه موافق لقول أبي هريرة "إنه دخل الجنة وما صلى لله صلاة" وأما كونه من بني عبد الأشهل ونسب في رواية مسلم إلى بني النبيت فيمكن أن يحمل على أن له في بني النبيت نسبة ما، فإنهم إخوة بني عبد الأشهل يجمعهم الانتساب إلى الأوس. قوله: "مقنع" بفتح القاف والنون مشددة، وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب. قوله: "وأجر كثيرا" بالضم على البناء أي أجر أجرا كثيرا، وفي هذا الحديث أن الأجر الكثير قد يحصل بالعمل اليسير فضلا من الله وإحسانا.

(6/25)


14 - باب مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ
2809- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا

(6/25)


أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلاَ تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ قَالَ يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى".
[الحديث 2809 – أطرافه في: 3982، 6550، 6567]
قوله: "باب من أتاه سهم غرب" بتنوين سهم وبفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة هذا هو الأشهر وسيأتي بيان الخلاف فيه. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله" جزم الكلاباذي وتبعه غير واحد بأنه الذهلي، وهو محمد بن يحيى ابن عبد الله، نسبه البخاري إلى جده، ووقع في رواية أبي علي بن السكن: حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد الراء، فإن لم يكن ابن السكن نسبه من قبل نفسه وإلا فما قاله هو المعتمد. وقد أخرجه ابن خزيمة في التوحيد من صحيحه عن محمد بن يحيى الذهلي عن حسين بن محمد وهو المروزي بهذا الإسناد. قوله: "أن أم الربيع بنت البراء" كذا لجميع رواة البخاري. وقال بعد ذلك "وهي أم حارثة بن سراقة" وهذا الثاني هو المعتمد، والأول وهم نبه عليه غير واحد من آخرهم الدمياطي فقال: قوله أم الربيع بنت البراء وهم، وإنما هي الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن عمرو، وقد تقدم ذكر قتل أخيها أنس بن النضر وذكرها في آخر حديثه قريبا وهي أم حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي من بني عدي بن النجار ذكره ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما فيمن شهد بدرا، واتفقوا على أنه رماه حبان بكسر المهملة بعدها موحدة ثقيلة ابن العرقة - بفتح المهملة وكسر الراء بعدها قاف - وهو على حوض فأصاب نحره فمات. قلت: ووقع في رواية ابن خزيمة المذكورة أن الربيع بنت البراء بحذف "أم" فهذا أشبه بالصواب، لكن ليس في نسب الربيع بنت النضر أحد اسمه البراء فلعله كان فيه: "الربيع عمة البراء" فإن البراء بن مالك أخو أنس بن مالك فكل منهما ابن أخيها أنس بن النضر، وقد رواه الترمذي وابن خزيمة أيضا من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة فقال: "عن أنس أن الربيع بنت النضر أتت النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابنها حارثة بن سراقة أصيب يوم بدر" الحديث، ورواه النسائي من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: "انطلق حارثة ابن عمتي فجاءت عمتي أمه" وحكى أبو نعيم الأصبهاني أن الحكم بن عبد الملك رواه عن قتادة كذلك وقال: "حارثة بن سراقة" قال ابن الأثير في "جامع الأصول" الذي وقع في كتب النسب والمغازي وأسماء الصحابة أن أم حارثة هي الربيع بنت النضر عمة أنس، وأجاب الكرماني بأنه لا وهم للبخاري لأنه ليس في رواية النسفي إلا الاقتصار على قول أنس "أن أم حارثة بن سراقة" قال فيحمل على أنه كان في رواية الفربري حاشية لبعض الرواة غير صحيحة فألحقت بالمتن انتهى. وقد راجعت أصل النسفي من نسخة ابن عبد البر فوجدتها موافقة لرواية الفربري فالنسخة التي وقعت للكرماني ناقصة وادعاء الزيادة في مثل هذا الكتاب مردود على قائله، والظاهر أن لفظ أم وبنت وهم كما تقدم توجيهه قريبا، والخطب فيه سهل ولا يقدح ذلك في صحة الحديث ولا في ضبط رواته. وقد وقع في رواية سعيد بن أبي عروبة التي ضبط فيها اسم الربيع بنت النضر وهم في اسم ابنها فسماه "الحارث" بدل "حارثة". وقد روى هذا الحديث أبان عن قتادة فقال: أن أم حارثة لم ترد أخرجه أحمد، وكذلك أخرجه من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس

(6/26)


وسيأتي كذلك في المغازي من طريق حميد عن أنس. ثم شرع الكرماني في إبداء احتمالات بعيدة متكلفة لتوجيه الرواية التي في البخاري فقال: يحتمل أن يكون للربيع ابن يسمى الربيع يعني بالتخفيف من زوج آخر غير سراقة يسمى البراء وأن يكون "بنت البراء" خبرا لأن وضمير "هي" راجع إلى الربيع وأن يكون "بنت" صفة لوالدة الربيع فأطلق الأم على الجدة تجوزا وأن تكون إضافة الأم إلى الربيع للبيان أي الأم التي هي الربيع وبنت مصحف من عمة، قال: وارتكاب بعض هذه التكلفات أولى من تخطئة العدول الأثبات. قلت: إنما اختار البخاري رواية شيبان على رواية سعيد لتصريح شيبان في روايته بتحديث أنس لقتادة، وللبخاري حرص على مثل ذلك إذا وقعت الرواية عن مدلس أو معاصر، وقد قال هو في تسمية من شهد بدرا "وحارثة ابن الربيع وهو حارثة بن سراقة" فلم يعتمد على ما وقع في رواية شيبان أنه حارثة بن أم الربيع بل جزم بالصواب، والربيع أمه وسراقة أبوه. قوله: "أصابه سهم غرب" أي لا يعرف راميه، أو لا يعرف من أين أتى، أو جاء على غير قصد من راميه قاله أبو عبيد وغيره. والثابت في الرواية بالتنوين وسكون الراء، وأنكره ابن قتيبة فقال: كذا تقوله العامة والأجود فتح الراء والإضافة، وحكى الهروي عن ابن زيد: أن جاء من حيث لا يعرف فهو بالتنوين والإسكان، وإن عرف راميه لكن أصاب من لم يقصد فهو بالإضافة وفتح الراء، قال: وذكره الأزهري بفتح الراء لا غير، وحكى ابن دريد وابن فارس والقزاز وصاحب المنتهى وغيرهم الوجهين مطلقا. وقال ابن سيده: أصابه سهم غرب وغرب إذا لم يدر من رماه، وقيل إذا أتاه من حيث لا يدري، وقيل إذا قصد غيره فأصابه، قال وقد يوصف به. قلت: فحصلنا من هذا على أربعة أرجه. وقصة حارثة منزلة على الثاني فإن الذي رماه قصد غرته فرماه وحارثة لا يشعر به، وقد وقع في رواية ثابت عند أحمد أن حارثة خرج نظارا، زاد النسائي من هذا الوجه: ما خرج لقتال. قوله: "اجتهدت عليه في البكاء" قال الخطابي: أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا أي فيؤخذ منه الجواز. قلت: كان ذلك قبل تحريم النوح فلا دلالة فيه، فإن تحريمه كان عقب غزوة أحد، وهذه القصة كانت عقب غزوة بدر. ووقع في رواية سعيد بن أبي عروبة "اجتهدت في الدعاء" بدل قوله: "في البكاء" وهو خطأ، ووقع ذلك في بعض النسخ دون بعض، ووقع في رواية حميد الآتية في صفة الجنة من الرقاق وعند النسائي: "فإن كان في الجنة لم أبك عليه" وهو دال على صحة الرواية بلفظ البكاء. وقال في رواية حميد هذه "وإلا فسترى ما أصنعه" ونحوه في رواية حماد عن ثابت عند أحمد. قوله: "إنها جنان في الجنة" كذا هنا. وفي رواية سعيد بن أبي عروبة، "أنها جنان في جنة" وفي رواية أبان عند أحمد "أنها جنان كثيرة في جنة" وفي رواية حميد(1) المذكورة "أنها جنان كثيرة" فقط، والضمير في قوله: "إنها جنان" يفسره ما بعده، وهو كقولهم: هي العرب تقول ما شاءت، والقصد بذلك التفخيم والتعظيم، ومضى الكلام على "الفردوس" قريبا.
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: في نسخة صحيحة "حماد".

(6/27)


15 - باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
2810- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ

(6/27)


جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
قوله: "باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا" أي فضله، أو الجواب محذوف تقديره فهو المعتبر. قوله: "عن عمرو" هو ابن مرة. قوله: "عن أبي وائل عن أبي موسى" في رواية غندر عن شعبة في فرض الخمس "سمعت أبا وائل حدثنا أبا موسى". قوله: "جاء رجل" في رواية غندر المذكورة "قال أعرابي" وهذا يدل على وهم ما وقع عند الطبراني من وجه آخر "عن أبي موسى أنه قال يا رسول الله" فذكره، فإن أبا موسى وإن جاز أن يبهم نفسه لكن لا يصفها بكونه أعرابيا، وهذا الأعرابي يصلح أن يفسر بلاحق بن ضميرة، وحديثه عند أبي موسى المديني في "الصحابة" من طريق عفير بن معدان "سمعت لاحق بن ضميرة الباهلي قال: وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر فقال: لا شيء له" الحديث، وفي إسناده ضعف، وروينا في "فوائد أبي بكر بن أبي الحديد" بإسناد ضعيف، عن معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله كل بني سلمة يقاتل فمنهم من يقاتل رياء الحديث فلو صح لاحتمل أن يكون معاذ أيضا سأل عما سأل عنه الأعرابي، لأن سؤال معاذ خاص وسؤال الأعرابي عام، ومعاذ أيضا لا يقال له أعرابي فيحمل على التعدد. قوله: "الرجل يقاتل للمغنم" في رواية منصور عن أبي وائل الماضية في العلم، فقال: "ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل". قوله: "والرجل يقاتل للذكر" أي ليذكر بين الناس ويشتهر بالشجاعة وهي رواية الأعمش عن أبي وائل الآتية في التوحيد حيث قال: "ويقاتل شجاعة". قوله: "والرجل يقاتل ليرى مكانه" في رواية الأعمش "ويقاتل رياء" فمرجع الذي قبله إلى السمعة ومرجع هذا إلى الرياء وكلاهما مذموم، وزاد في رواية منصور والأعمش "ويقاتل حمية" أي لمن يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب، وزاد في رواية منصور "ويقاتل غضبا" أي لأجل حظ نفسه، ويحتمل أن يفسر القتال للحمية بدفع المضرة، والقتال غضبا بجلب المنفعة، فالحاصل من رواياتهم أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمية، والغضب، وكل منها يتناوله المدح والذم، فلهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي. قوله: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" المراد بكلمة الله دعوة الله إلى الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سببا من الأسباب المذكورة أخل بذلك، ويحتمل أن لا يخل إذا حصل ضمنا لا أصلا ومقصودا وبذلك صرح الطبري فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عرض له بعد ذلك، وبذلك قال الجمهور، لكن روى أبو داود والنسائي من حديث أبي أمامة بإسناد جيد قال: "جاء رجل فقال: يا رسول الله: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ قال لا شيء له، فأعادها ثلاثا كل ذلك يقول: لا شيء له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه" ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معا على حد واحد فلا يخالف المرجح أولا، فتصير المراتب خمسا: أن يقصد الشيئين معا، أو يقصد أحدهما صرفا أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمنا، فالمحذور أن يقصد غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمنا، وقد لا يحصل ويدخل تحته مرتبتان، وهذا ما دل عليه حديث أبي موسى، ودونه أن يقصدهما معا فهو محذور أيضا على ما دل عليه

(6/28)


حديث أبي أمامة، والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفا، وقد يحصل غير الإعلاء وقد لا يحصل ففيه مرتبتان أيضا، قال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه اهـ. ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمنا لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم، فرجعنا ولم نغنم شيئا، فقال: اللهم لا تكلهم إلي" الحديث. وفي إجابة النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر غاية البلاغة والإيجاز، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، لأنه لو أجابه بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله احتمل أن يكون ما عدا ذلك كله في سبيل الله وليس كذلك، فعدل إلى لفظ جامع عدل به عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل فتضمن الجواب وزيادة، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: "فهو" راجعا إلى القتال الذي في ضمن قاتل أي فقتاله قتال في سبيل الله، واشتمل طلب إعلاء كلمة الله على طلب رضاه وطلب ثوابه وطلب دحض أعدائه وكلها متلازمة. والحاصل مما ذكر أن القتال منشؤه القوة العقلية والقوة الغضبية والقوة الشهوانية، ولا يكون في سبيل الله إلا الأول. وقال ابن بطال: إنما عدل النبي صلى الله عليه وسلم عن لفظ جواب السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان لله فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلى لفظ جامع فأفاد دفع الإلباس وزيادة الإفهام، وفيه بيان أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة، وأن الفضل الذي ورد في المجاهد يختص بمن ذكر، وقد تقدم بعض مباحثه في أواخر كتاب العلم. وفيه جواز السؤال عن العلة وتقدم العلم على العمل، وفيه ذم الحرص على الدنيا وعلى القتال لحظ النفس في غير الطاعة.

(6/29)


16 - باب مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ [120 التوبة]: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
2811- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْسٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ".
قوله: "باب من اغبرت قدماه في سبيل الله" أي بيان ماله من الفضل. قوله: "وقول الله عز وجل: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} قال ابن بطال: مناسبة الآية للترجمة أنه سبحانه وتعالى قال في الآية {وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ} وفي الآية {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} قال: ففسر صلى الله عليه وسلم العمل الصالح أن النار لا تمس من عمل بذلك، قال: والمراد في سبيل الله جميع طاعاته ا هـ. وهو كما قال، إلا أن المتبادر عند الإطلاق من لفظ سبيل الله الجهاد، وقد أورده المصنف في "فضل المشي إلى الجمعة" استعمالا للفظ في عمومه، ولفظه هناك "حرمه الله على النار" وقال ابن المنير: مطابقة الآية من جهة أن الله أثابهم بخطواتهم وإن لم يباشروا قتالا، وكذلك دل الحديث على أن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار سواء باشر قتالا أم لا. اهـ. ومن تمام المناسبة أن الوطء يتضمن المشي المؤثر لتغبير القدم، ولا سيما في ذلك الزمان. قوله: "حدثنا إسحاق" قال أبو علي الجياني: نسبه الأصيلي ابن منصور. قلت:

(6/29)


وأخرجه الإسماعيلي من طريق إسحاق بن زيد الخطابي نزيل حران عن محمد بن المبارك المذكور، لكن زاد في آخر المتن قوله: "فتمسها النار أبدا" فالظاهر أنه ابن منصور، ويؤيده أن أبا نعيم أخرجه من طريق الحسن بن سفيان عن إسحاق بن منصور، ويزيد المذكور في الإسناد بالزاي، وعباية بفتح المهملة، وأبو عبس بسكون الموحدة هو ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة. قوله: "ما اغبرتا" كذا في رواية المستملي بالتثنية وهو لغة، وللباقين "ما اغبرت" وهو الأفصح، زاد أحمد من حديث أبي هريرة "ساعة من نهار". وقوله: "فتمسه النار" بالنصب، والمعنى أن المس ينتفي بوجود الغبار المذكور، وفي ذلك إشارة إلى عظيم قدر التصرف في سبيل الله، فإذا كان مجرد مس الغبار للقدم يحرم عليها النار فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفد وسعه؟ وللحديث شواهد: منها ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي الدرداء مرفوعا: "من اغبرت قدماه في سبيل الله باعد الله منه النار مسيرة ألف عام للراكب المستعجل" وأخرج ابن حبان من حديث جابر أنه كان في غزاة فقال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكر نحو حديث الباب، قال: "فتواثب الناس عن دوابهم، فما رؤى أكثر ماشيا من ذلك اليوم".

(6/30)


17 - باب مَسْحِ الْغُبَارِ عَنْ الرَّأْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
2812- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ وَلِعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ائْتِيَا أَبَا سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ فِي حَائِطٍ لَهُمَا يَسْقِيَانِهِ فَلَمَّا رَآنَا جَاءَ فَاحْتَبَى وَجَلَسَ فَقَالَ كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ وَقَالَ: "وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ".
قوله: "باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله" قال ابن المنير: ترجم بهذا وبالذي بعده دفعا لتوهم كراهية غسل الغبار ومسحه لكونه من جملة آثار الجهاد كما كره بعض السلف المسح بعد الوضوء. قلت: والفرق بينهما من جهة أن التنظيف مطلوب شرعا، والغبار أثر الجهاد وإذا انقضى فلا معنى لبقاء أثره. وأما الوضوء فالمقصود به الصلاة فاستحب بقاء أثره حتى يحصل المقصود فافترق المسحان. ثم أورد حديث أبي سعيد في قصة عمار في بناء المسجد، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في "باب التعاون في بناء المسجد" في أوائل الصلاة، وفيه ما يتعلق بقوله: "فأتيناه وهو وأخوه في حائط لهما" والمراد منه هنا قوله: "ومر به النبي صلى الله عليه وسلم فمسح عن رأسه الغبار".

(6/30)


باب الغسل بعد الحرب و الغبار
...
18 - باب الْغَسْلِ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْغُبَارِ
2813- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلاَحَ وَاغْتَسَلَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ فَقَالَ: "وَضَعْتَ السِّلاَحَ فَوَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَ؟ قَالَ: هَا هُنَا وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَتْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".

(6/30)


19 - باب فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [آل عمران 179-181]: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}
2814- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاَثِينَ غَدَاةً عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ أَنَسٌ أُنْزِلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ".
2815- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ "اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ فَقِيلَ لِسُفْيَانَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَالَ لَيْسَ هَذَا فِيهِ".
[الحديث 2815 – طرفاه في: 4044، 4618]
قوله: "باب فضل قول الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} كذا لأبي ذر، وساق الأصيلي وكريمة الآيتين، ومعنى قوله: "فضل قول الله" أي فضل من ورد فيه قول الله، وقد حذف الإسماعيلي لفظ فضل من الترجمة. ثم ذكر فيه حديثين: أحدهما: حديث أنس في قصة الذين قتلوا في بئر معونة أوردها مختصرة، وستأتي بتمامها في المغازي، وأشار بإيراد الآية إلى ما ورد في بعض طرقه كما سأذكره هناك في آخره عند قوله: "فأنزل فيهم بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه"، زاد عمر بن يونس عن إسحاق بن أبي طلحة فيه: "فنسخ بعدما قرأناه زمانا وأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية". ثانيهما: حديث جابر "اصطبح ناس الخمر يوم أحد ثم قتلوا شهداء" سيأتي في المغازي أن والد جابر كان من جملة من أشار إليهم، قال ابن المنير: مطابقته للترجمة فيه عسر، إلا أن يكون مراده أن الخمر التي شربوها يومئذ لم تضرهم لأن الله عز وجل أثنى عليهم بعد موتهم ورفع عنهم الخوف والحزن، وإنما كان ذلك لأنها كانت يومئذ مباحة. قلت: ويمكن أن يكون أورده للإشارة إلى أحد الأقوال في سبب نزول الآية المترجم بها، فقد روى الترمذي من حديث جابر أيضا أن الله لما كلم والد جابر وتمنى أن يرجع إلى الدنيا ثم قال: "يا رب بلغ من ورائي، فأنزل الله {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية". قوله: "فقيل لسفيان من آخر ذلك اليوم" قال: "ليس هذا فيه" أي أن في الحديث: "فقتلوا شهداء من آخر ذلك اليوم" فأنكر ذلك سفيان، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق القواريري عن سفيان بهذه الزيادة ولكن بلفظ: "اصطبح

(6/31)


قوم الخمر أول النهار وقتلوا آخر النهار شهداء" فلعل سفيان كان نسيه ثم تذكر، وقد أخرجه المصنف في المغازي عن عبد الله بن محمد عن سفيان بدون الزيادة، وأخرجه في تفسير المائدة عن صدقة بن الفضل عن سفيان بإثباتها، وسيأتي بقية شرحه في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى.

(6/32)


20 - باب ظِلِّ الْمَلاَئِكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ
2816- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: "جِيءَ بِأَبِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ فَنَهَانِي قَوْمِي فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ فَقِيلَ ابْنَةُ عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو فَقَالَ لِمَ تَبْكِي أَوْ لاَ تَبْكِي مَا زَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا قُلْتُ لِصَدَقَةَ أَفِيهِ حَتَّى رُفِعَ؟ قَالَ رُبَّمَا قَالَهُ".
قوله: "باب ظل الملائكة على الشهيد" ذكر فيه حديث جابر في قصة قتل أبيه، وسيأتي بيانه في غزوة أحد، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب الجنائز. قوله: "قلت لصدقة" القائل هو المصنف، وصدقة هو ابن الفضل شيخه فيه، وقد تقدم في الجنائز عن علي بن عبد الله وهو ابن المديني عن سفيان وفي آخره: "حتى رفع" وكذلك رواه الحميدي وجماعة عن سفيان.

(6/32)


21 - باب تَمَنِّي الْمُجَاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا
2817- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ".
قوله: "باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا" أورد فيه حديث قتادة " سمعت أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا " الحديث، وقد ورد بلفظ التمني وذلك فيما أخرجه النسائي والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله تعالى: يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب خير منزل، فيقول: سل وثمنه، فيقول: ما أسألك وأتمنى؟ أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات، لما رأى من فضل الشهادة" الحديث، ولمسلم من حديث ابن مسعود رفعه في الشهداء قال: "فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى" ولابن أبي شيبة من مرسل سعيد بن جبير أن الخاطب بذلك حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير، وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث جابر قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: يا عبد الله تمن علي أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون". قول شعبة في الإسناد "سمعت قتادة" في رواية أبي خالد الأحمر عن شعبة عن قتادة

(6/32)


22 - باب الْجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا: مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى.
2818- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَ كَاتِبَهُ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ" تَابَعَهُ الأُوَيْسِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.
[الحديث 2818 – أطرافه في: 2833، 2966، 3024، 7237]
قوله: "باب الجنة تحت بارقة السيوف" هو من إضافة الصفة إلى الموصوف وقد تطلق البارقة ويراد بها نفس السيف فتكون الإضافة بيانية، وقد أورده بلفظ: "تحت ظلال السيوف" وكأنه أشار بالترجمة إلى حديث عمار بن ياسر، فأخرج الطبراني بإسناد صحيح عن عمار بن ياسر أنه قال يوم صفين "الجنة تحت الأبارقة" كذا وقع فيه والصواب "البارقة" وهي السيوف اللامعة، وكذا وقع على الصواب في ترجمة عمار من طبقات ابن سعد، وروى سعيد بن منصور بإسناد رجاله ثقات من مرسل أبي عبد الرحمن الحبلي مرفوعا: "الجنة تحت الأبارقة" ويمكن تخريجه على ما قاله الخطابي الأبارقة جمع إبريق وسمي السيف إبريقا فهو إفعيل من البريق، ويقال أبرق الرجل بسيفه إذا لمع به والبارقة اللمعان، قال ابن المنير: كأن البخاري أراد أن السيوف لما كانت لها بارقة كان لها أيضا ظل، قال القرطبي: وهو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع الرجازة وعذوبة اللفظ، فإنه أفاد الحض على الجهاد والإخبار بالثواب عليه والحض على مقاربة العدو واستعمال السيوف والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين. وقال ابن الجوزي، المراد أن الجنة تحصل بالجهاد. والظلال جمع ظل وإذا تدانى الخصمان صار كل منهما تحت ظل سيف صاحبه لحرصه على رفعه عليه ولا يكون ذلك إلا عند التحام القتال. قوله: "وقال المغيرة إلخ" هو طرف من حديث طويل وصله المصنف بتمامه في الجزية، وقوله هنا "عن رسالة ربنا" ثبت للكشميهني وحده وهو كذلك في الطريق الموصولة، ويحتمل أن يكون حذف هنا اختصارا. قوله: "وقال عمر إلخ" هو طرف من حديث سهل بن حنيف في قصة عمرة الحديبية، وسيأتي بتمامه موصولا في

(6/33)


المغازي، وتقدمت الإشارة إليه في الشروط. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وأبو إسحاق هو الفزاري وعمر بن عبيد الله أي ابن معمر هو التيمي وكان أميرا على حرب الخوارج. قوله: "وكان كاتبه" أي أن سالما كان كاتب عبد الله بن أبي أوفى. قال: "كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى" الضمير لعمر بن عبيد الله، قال الدار قطني في التتبع: أخرجا حديث موسى بن عقبة عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله قال: "كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى فقرأته " الحديث. وقال أبو النضر لم يسمع من ابن أبي أوفى فهو حجة في رواية المكاتبة، وتعقب بأن شرط الرواية بالمكاتبة عند أهل الحديث أن تكون الرواية صادرة إلى المكتوب إليه، وابن أبي أوفى لم يكتب إلى سالم إنما كتب إلى عمر بن عبيد الله فعلى هذا تكون رواية سالم له عن عبد الله بن أبي أوفى من صور الوجادة، ويمكن أن يقال: الظاهر أنه من رواية سالم عن مولاه عمر بن عبيد الله بقراءته عليه لأنه كان كاتبه أبي عن عبد الله بن أبي أوفى أنه كتب إليه فيصير حينئذ من صور المكاتبة، وفيه تعقب على من صنف في رجال الصحيحين فإنهم لم يذكروا لعمر بن عبيد الله ترجمة، وقد ذكره ابن أبي حاتم وذكر له رواية عن بعض التابعين ولم يذكر فيه جرحا. قوله: "واعلموا أن الجنة" هكذا أورده هنا مختصرا، وذكر طرفا منه أيضا بهذا الإسناد بعد أبواب في "باب الصبر عند القتال" وأخرجه بعد أبواب كثيرة في "باب تأخير القتال حتى تزول الشمس" بهذا الإسناد مطولا، ثم أخرجه بعد أبواب أيضا مطولا من وجه آخر في النهي عن تمني لقاء العدو، ويأتي الكلام على شرحه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "تابعه الأويسي عن ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة" قلت: الأويسي هو عبد العزيز بن عبد الله أحد شيوخ البخاري، وقد حدث عنه بهذا الحديث موصولا خارج الصحيح، ورويناه في كتاب الجهاد لابن أبي عاصم قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري به، وقد رواه عمر بن شبة عن الأويسي فبين أن ذلك كان يوم الخندق. قال المهلب: في هذه الأحاديث جواز القول بأن قتلى المسلمين في الجنة، لكن على الإجمال لا على التعيين.

(6/34)


23 - باب مَنْ طَلَبَ الْوَلَدَ لِلْجِهَادِ
2819- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَم لاَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ - أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ - كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ".
[الحديث 2819 – أطرافه في: 3424، 5242، 6639، 6720، 7469]
قوله: "باب من طلب الولد للجهاد" أي ينوي عند المجامعة حصول الولد ليجاهد في سبيل الله فيحصل له بذلك أجر وإن لم يقع ذلك. قوله: "وقال الليث إلخ" وصله أبو نعيم في المستخرج من طريق يحيى بن بكير عن الليث بهذا الإسناد، وسيأتي الكلام عليه في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى، ثم تعجلت فشرحته في ترجمة سليمان.

(6/34)


باب الشجاعة في الحرب و الجبن
...
24 - باب الشَّجَاعَةِ فِي الْحَرْبِ وَالْجُبْنِ
2820- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ وَاقِدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَهُمْ عَلَى فَرَسٍ وَقَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا".
2821- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَعْطُونِي رِدَائِي لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلاَ كَذُوبًا وَلاَ جَبَانًا".
[الحديث 2821 – طرفه في: 3148]
قوله: "باب الشجاعة في الحرب والجبن" أي مدح الشجاعة وذم الجبن، والجبن بضم الجيم وسكون الموحدة ضد الشجاعة. وأورد فيه حديثين: أحدهما عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وسيأتي شرحه بعد عشرين بابا، ومضى بعض شرحه في آخر الهبة. وقوله: "وجدناه بحرا" أي واسع الجري. ثانيهما: حديث جبير بن مطعم في مقفله صلى الله عليه وسلم من حنين، والغرض منه قوله في آخره: "ثم لا تجدونني بخيلا ولا جبانا" وسيأتي شرحه في كتاب فرض الخمس. وعمر بن محمد بن جبير بن مطعم لم يرو عنه غير الزهري، وقد وثقه النسائي، وهذا مثال للرد على من زعم أن شرط البخاري أن لا يروي الحديث الذي يخرجه أقل من اثنين عن أقل من اثنين، فإن هذا الحديث ما رواه عن محمد بن جبير غير ولده عمر، ثم ما رواه عن عمر غير الزهري، هذا مع تفرد الزهري بالرواية عن عمر مطلقا، وقد سمع الزهري من محمد بن جبير أحاديث، وكأنه لم يسمع هذا منه فحمله عن ولده والله أعلم. وقوله فيه: "مقفله" بفتح الميم، وسكون القاف وفتح الفاء وباللام يعني زمان رجوعه، وقوله فعلقت بفتح العين وكسر اللام الخفيفة بعدها قاف. وفي رواية الكشميهني: "فطفقت" وهو بوزنه ومعناه. وقوله: "اضطروه إلى سمرة" أي ألجؤوه وإلى شجرة من شجر البادية ذات شوك، وقوله: "فخطفت" بكسر الطاء، وقوله: "العضاه" بكسر المهملة بعدها معجمة خفيفة وفي آخره هاء هو شجر ذو شوك، يقرأ في الوصل وفي الوقف بالهاء، وقوله: "نعم" بفتح النون والغير كذا لأبي ذر بالرفع على أنه اسم كان. و"عدد" بالنصب خبر مقدم، ولغيره، "نعما" بالنصب إما على التمييز وإما على أنه الخبر وعدد هو الاسم، والله أعلم.

(6/35)


25 - باب مَا يُتَعَوَّذُ مِنْ الْجُبْنِ
2822- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ الأَوْدِيَّ قَالَ: "كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ وَيَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ

(6/35)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَحَدَّثْتُ بِهِ مُصْعَبًا فَصَدَّقَهُ".
[الحديث 2822 – أطرافه في: 6365، 6370، 6374، 6390]
2823- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ".
[الحديث 2823 – أطرافه في: 4707، 6367، 6371]
قوله: "باب ما يتعوذ من الجبن" كذا للجميع بضم أول يتعوذ على البناء للمجهول. وذكر فيه حديثين: أحدهما: حديث سعد وهو ابن أبي وقاص في التعوذ من الجبن وغيره وسيأتي شرحه في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى، وقوله في آخره: "فحدثت به مصعبا فصدقه" قائل ذلك هو عبد الملك بن عمير، ومصعب هو ابن سعد بن أبي وقاص، وأغرب المزي فقال في الأطراف في رواية عمرو بن ميمون هذه عن سعد: لم يذكر البخاري مصعبا وذكره النسائي، كذا قال، وهو ثابت عند البخاري في جميع الروايات. وقوله في أوله "كان سعد يعلم بنيه" لم أقف على تعيينهم، وقد ذكر محمد بن سعد في الطبقات أولاد سعد فذكر من الذكور أربعة عشر نفسا ومن الإناث سبع عشرة وروى عنه الحديث منهم خمسة: عامر ومحمد ومصعب وعائشة وعمر. ثانيهما: حديث أنس بن مالك في التعوذ من العجز والكسل وغيرهما وسيأتي شرحه أيضا في الدعوات، والفرق بين العجز والكسل أن الكسل ترك الشيء مع القدرة على الأخذ في عمله، والعجز عدم القدرة.

(6/36)


باب من حدث بمشاهدة الحرب . قاله أبو عثمان عن سعد
...
26 - باب مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِي الْحَرْبِ. قَالَهُ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ سَعْدٍ
2824- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "صَحِبْتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَعْدًا وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ أَنِّي سَمِعْتُ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ".
[الحديث 2824 – طرفه في: 4062]
قوله: "باب من حدث بمشاهده في الحرب، قاله أبو عثمان" أي النهدي "عن سعد" أي ابن أبي وقاص، وأشار بذلك إلى ما سيأتي موصولا في المغازي عن أبي عثمان عن سعد "أني أول من رمى بسهم في سبيل الله"، وإلى ما سيأتي أيضا موصولا في فضل طلحة عن أبي عثمان "لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأيام التي قاتل فيها غير طلحة وسعد، عن حديثهما" أي أنهما حدثاه بذلك. قوله: "حدثنا حاتم" هو ابن إسماعيل، ومحمد بن يوسف هو الكندي وهو سبط للسائب المذكور، والسائب صحابي صغير ابن صحابيين، والإسناد كله مدنيون إلا قتيبة. قوله: "وسعدا" أي ابن أبي وقاص. قوله: "فما سمعت أحدا منهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية يحيى بن سعيد

(6/36)


الأنصاري عن السائب "صحبت سعد بن مالك من المدينة إلى مكة فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث واحد" أخرجه ابن ماجه، وسعد بن مالك هو ابن أبي وقاص. وأخرج آدم بن أبي إياس في العلم له من هذا الوجه فقال فيه: "صحبت سعدا كذا وكذا سنة". قوله: "إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد" لم يعين ما حدث به من ذلك، وقد أخرج أبو يعلى من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عمن حدثه عن طلحة أنه ظاهر بين درعين يوم أحد، قال ابن بطال وغيره: كان كثير من كبار الصحابة لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية المزيد والنقصان، وقد تقدم بيان ذلك في العلم، وأما تحديث طلحة فهو جائز إذا أمن الرياء والعجب، ويترقى إلى الاستحباب إذا كان هناك من يقتدي بفعله.

(6/37)


باب وجوب النفير ، و ما يجب من الجهاد و النية
...
27- باب وُجُوبِ النَّفِيرِ وَمَا يَجِبُ مِنْ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ.
وَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ [41 التوبة]: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ [38 التوبة] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ} إلى قوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "انْفِرُوا ثُبَاتٍ: سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ". ويُقَالُ: واحَدُ الثُّبَاتِ ثُبَةٌ
2825- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا".
قوله: "باب وجوب النفير" بفتح النون وكسر الفاء أي الخروج إلى قتال الكفار، وأصل النفير مفارقة مكان إلى مكان لأمر حرك ذلك. قوله: "وما يجب من الجهاد والنية" أي وبيان القدر الواجب من الجهاد ومشروعية النية في ذلك، وللناس في الجهاد حالان: إحداهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والأخرى بعده، فأما الأولى فأول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقا. ثم بعد أن شرع هل كان فرض عين أو كفاية؟ قولان مشهوران للعلماء وهما في مذهب الشافعي. وقال الماوردي: كان عينا على المهاجرين دون غيرهم، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حق كل من أسلم إلى المدينة لنصر الإسلام. وقال السهيلي: كان عينا على الأنصار دون غيرهم، ويؤيده مبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة على أن يؤووا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصروه، فيخرج من قولهما أنه كان عينا على الطائفتين كفاية في حق غيرهم، ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم، بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء، ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر فيما ذكره ابن إسحاق، فإنه كالصريح في ذلك، وقيل كان عينا في الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها، والتحقيق أنه كان عينا على من عينه النبي صلى الله عليه وسلم في حقه ولو لم يخرج. الحال الثاني بعده صلى الله عليه وسلم فهو فرض كفاية على المشهور إلا أن تدعو الحاجة إليه

(6/37)


كأن يدهم العدو ويتعين على من عينه الإمام، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور، ومن حجتهم أن الجزية تجب بدلا عنه ولا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقا فليكن بدلها كذلك، وقيل يجب كلما أمكن وهو قوي، والذي يظهر أنه استمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد وانتشر الإسلام في أقطار الأرض ثم صار إلى ما تقدم ذكره، والتحقيق أيضا أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه والله أعلم. قوله: "وقول الله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} الآية" هذه الآية متأخرة عن التي بعدها، والأمر فيها مقيد بما قبلها لأنه تعالى عاتب المؤمنين الذين يتأخرون بعد الأمر بالنفير ثم عقب ذلك بأن قال: "انفروا خفافا وثقالا" وكأن المصنف قدم آية الأمر على آية العتاب لعمومها، وقد روى الطبري من رواية أبي الضحى قال: "أول ما نزل من براءة {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} وقد فهم بعض الصحابة من هذا الأمر العموم فلم يكونوا يتخلفون عن الغزو حتى مات منهم أبو أيوب الأنصاري والمقداد بن الأسود وغيرهم" ومعنى قوله خفافا وثقالا: متأهبين أو غير متأهبين نشاطا أو غير نشاط، وقيل رجالا وركبانا. قوله: "وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} الآية" قال الطبري: يجوز أن يكون قوله تعالى: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} خاصا والمراد به من استنفره رسول الله صلى الله عليه وسلم فامتنع. وأخرج عن الحسن البصري وعكرمة أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} ثم تعقب ذلك، والذي يظهر أنها مخصوصة وليست بمنسوخة والله أعلم، وطريق عكرمة أخرجها أبو داود من وجه آخر حسن عنه عن ابن عباس. قوله: "ويذكر عن ابن عباس انفروا ثبات سرايا متفرقين" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه بهذا، أي اخرجوا سرية بعد سرية، أو انفروا جميعا أي مجتمعين، وزعم بعضهم أنها ناسخة لقوله تعالى :{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} والتحقيق أن لا نسخ، بل الرجوع في الآيتين إلى تعيين الإمام وإلى الحاجة إلى ذلك. "تنبيه": وقع في رواية أبي ذر والقابسي "ثباتا" بالألف، وهو غلط لا وجه له لأنه جمع ثبة كما سترى. قوله: "ويقال واحد الثبات: ثبة" أي بضم المثلثة وتخفيف الموحدة بعدها هاء تأنيث، وهو قول أبي عبيدة في "المجاز" وزاد: ومعناها جماعات في تفرقة، ويؤيده قوله بعده {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} قال وقد يجمع ثبة على ثبين وقال النحاس ليس من هذا ثبة الحوض وهو وسطه سمي بذلك لأن الماء يثوب إليه أي يرجع إليه ويجتمع فيه لأنها من ثاب يثوب وتصغيرها ثويبة، وثبة بمعنى الجماعة من ثبا يثبو وتصغيرها ثبية، والله أعلم. قوله: "لا هجرة بعد الفتح" أي فتح مكة، قال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجا فسقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو انتهى. وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى ذويه من الكفار فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: في نسخة "من أذى من يؤذيه".

(6/38)


فِيهَا} الآية، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها، وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده مرفوعا: "لا يقبل الله من مشرك عملا بعدما أسلم أو يفارق المشركين" ولأبي داود من حديث سمرة مرفوعا: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" وهذا محمول على من لم يأمن على دينه، وسيأتي مزيد لذلك في أبواب الهجرة من أول كتاب المغازي إن شاء الله تعالى. قوله: "ولكن جهاد ونية" قال الطيبي وغيره: هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك. قوله: "وإذا استنفرتم فانفروا" قال النووي: يريد أن الخبر الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه. وقال الطيبي: قوله: "ولكن جهاد" معطوف على محل مدخول "لا هجرة" أي الهجرة من الوطن إما للفرار من الكفار أو إلى الجهاد أو إلى غير ذلك كطلب العلم، فانقطعت الأولى وبقي الأخريان فاغتنموهما ولا تقاعدوا عنهما، بل إذا استنفرتم فانفروا. قلت: وليس الأمر في انقطاع الهجرة من الفرار من الكفار على ما قال، وقد تقدم تحرير ذلك. وقال ابن العربي: الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، كانت فرضا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، والتي انقطعت أصلا هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان. وفي الحديث بشارة بأن مكة تبقى دار إسلام أبدا. وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام، وأن الأعمال تعتبر بالنيات. "تكملة": قال ابن أبي جمرة ما محصله: إن هذا الحديث يمكن تنزيله على أحوال السالك لأنه أولا يؤمر بهجرة مألوفه حتى يحصل له الفتح، فإذا لم يحصل له أمر بالجهاد وهو مجاهدة النفس والشيطان مع النية الصالحة في ذلك.

(6/39)


باب الكافر يقتل المسلم ، ثم يسلم فيسدد بعد و يقتل
...
28 - باب الْكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسَدِّدُ بَعْدُ وَيُقْتَلُ
2826- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلاَنِ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ".
2827- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحُوهَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْهِمْ لِي فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ لاَ تُسْهِمْ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ فَقَالَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَاعَجَبًا لِوَبْرٍ تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ يَنْعَى عَلَيَّ قَتْلَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ وَلَمْ يُهِنِّي عَلَى يَدَيْهِ قَالَ فَلاَ أَدْرِي أَسْهَمَ لَهُ أَمْ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ".

(6/39)


قَالَ سُفْيَانُ وَحَدَّثَنِيهِ السَّعِيدِيُّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ السَّعِيدِيُّ هُوَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ.
[الحديث 2827 – أطرافه في: 4237، 4238، 4239]
قوله: "باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم" أي القاتل فيسدد بعد، أي يعيش على سداد أي استقامة في الدين. قوله: "ويقتل" في رواية النسفي "أو يقتل" وعليها اقتصر ابن بطال والإسماعيلي، وهي أليق بمراد المصنف. قال ابن المنير: في الترجمة "فيسدد" والذي وقع في الحديث: "فيستشهد" وكأنه نبه بذلك على أن الشهادة ذكرت للتنبيه على وجوه التسديد، وأن كل تسديد كذلك وإن كانت الشهادة أفضل، لكن دخول الجنة لا يختص بالشهيد، فجعل المصنف الترجمة كالشرح لمعنى الحديث. قلت: ويظهر لي أن البخاري أشار في الترجمة إلى ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من طريق أخرى عن أبي هريرة مرفوعا: "لا يجتمعان في النار مسلم قتل كافرا ثم سدد المسلم وقارب" الحديث. قوله: "عن أبي الزناد" كذا هو في الموطأ، ولمالك فيه إسناد آخر رواه أيضا عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس أخرجه الدار قطني. قوله: "يضحك الله إلى رجلين" في رواية النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد "أن الله يعجب من رجلين" قال الخطابي: الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى، وإنما هذا مثل ضرب لهذا الصنيع الذي يحل محل الإعجاب عند البشر فإذا رأوه أضحكهم، ومعناه الإخبار عن رضا الله بفعل أحدهما وقبوله للآخر ومجازاتهما على صنيعهما بالجنة ثم اختلاف حاليهما، قال: وقد تأول البخاري الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة وهو قريب، وتأويله على معنى الرضا أقرب، فإن الضحك يدل على الرضا والقبول، قال: والكرام يوصفون عندما يسألهم السائل بالبشر وحسن اللقاء، فيكون المعنى في قوله: "يضحك الله" أي يجزل العطاء. قال وقد يكون معنى ذلك أن يعجب الله ملائكته ويضحكهم من صنيعهما، وهذا يتخرج على المجاز ومثله في الكلام يكثر. وقال ابن الجوزي: أكثر السلف يمتنعون من تأويل مثل هذا ويمرونه كما جاء(1) وينبغي أن يراعى في مثل هذا الإمرار اعتقاد أنه لا تشبه صفات الله صفات الخلق، ومعنى الإمرار عدم العلم بالمراد منه مع اعتقاد التنزيه. قلت: ويدل على أن المراد بالضحك الإقبال بالرضا تعديته بإلى تقول: ضحك فلان إلى فلان إذا توجه إليه طلق الوجه مظهرا للرضا عنه. قوله: "يدخلان الجنة" زاد مسلم من طريق همام عن أبي هريرة "قالوا كيف يا رسول الله؟". قوله: "يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل" زاد همام فيلج الجنة، قال ابن عبد البر: معنى هذا الحديث عند أهل العلم أن القاتل الأول كان كافرا. قلت: وهو الذي استنبطه البخاري في ترجمته، ولكن لا مانع أن يكون مسلما لعموم قوله: "ثم يتوب الله على القاتل" كما لو قتل مسلم مسلما عمدا بلا شبهة ثم تاب القاتل واستشهد في سبيل الله، وإنما يمنع دخول مثل هذا من يذهب إلى أن قاتل المسلم عمدا لا تقبل له توبة، وسيأتي البحث فيه في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى، ويؤيده الأول أنه وقع في رواية همام "ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام" وأصرح من ذلك ما أخرجه أحمد من طرين الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي
ـــــــ
(1) وهذا هو الصواب الذي جرت عليه الملة وعمل به أئمتها من العصر النبوي إلى زمن الأئمة المتبوعين، والخروج عن هذه الطريقة إلى التأويل عدول عن طريقة الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان

(6/40)


هريرة بلفظ: "قيل: كيف يا رسول الله؟ قال: يكون أحدهما كافرا فيقتل الآخر ثم يسلم فيغزو فيقتل". قوله: "ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد" زاد همام "فيهديه إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد" قال ابن عبد البر: يستفاد من هذا الحديث أن كل من قتل في سبيل الله فهو في الجنة. قوله: "حدثنا الزهري" في رواية على بن المديني في المغازي عن سفيان "سمعت الزهري وسأله إسماعيل ابن أمية" وفي رواية ابن أبي عمر في مسنده عن سفيان "سمعت إسماعيل بن أمية يسأل الزهري". قوله: "أخبرني عنبسة" بفتح المهملة وسكون النون "ابن سعيد" أي ابن العاص بن سعيد بن العاص ابن أمية. قوله: "عن أبي هريرة" في رواية الزبيدي عن الزهري التصريح بسماع عنبسة له من أبي هريرة وسيأتي بيان ذلك في المغازي. قوله: "فقال بعض بني سعيد بن العاص لا تسهم له" هو أبان بن سعيد كما بينته رواية الزبيدي. قوله: "قلت هذا قاتل ابن قوقل" بقافين وزن جعفر يعني النعمان بن مالك بن ثعلبة بن أصرم بمهملتين وزن أحمد بن فهم بن ثعلبة بن غنم بفتح المعجمة وسكون النون بعدها ميم ابن عمرو بن عوف الأنصاري الأوسي، وقوقل لقب ثعلبة وقيل لقب أصرم، وقد ينسب النعمان إلى جده فيقال النعمان بن قوقل، وله ذكر في حديث جابر عند مسلم قال: "جاء النعمان بن قوقل فقال: يا رسول الله أرأيت إذا صليت المكتوبات" الحديث. وروى البغوي في "الصحابة" أن النعمان بن قوقل قال يوم أحد: أقسمت عليك يا رب أن لا تغيب الشمس حتى أطأ بعرجتي في الجنة. فاستشهد ذلك اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيته في الجنة" وذكر بعض أهل المغازي أن صفوان بن أمية هو الذي قتله، وهو مرجوح بهذا الحديث الذي في البخاري، ولعلهما جميعا اشتركا في قتله، وسيأتي بقية شرح حديث أبي هريرة هذا في كتاب المغازي، والمراد منه هنا قول أبان "أكرمه الله على يدي ولم يهنى على يديه" وأراد بذلك أن النعمان استشهد بيد أبان فأكرمه الله بالشهادة ولم يقتل أبان على كفره فيدخل النار، وهو المراد بالإهانة، بل عاش أبان حتى تاب وأسلم، وكان إسلامه قبل خيبر بعد الحديبية. وقال ذلك الكلام بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه، وهو موافق لما تضمنته الترجمة، قوله: "من قدوم ضأن" قال ابن دقيق العيد: وقع للجميع هنا بالنون، إلا في رواية الهمداني فباللام وهو الصواب وهو السدر البري، قلت وسيأتي في غزوة خيبر بأبسط من هذا. قوله: "فلا أدري أسهم له أم لم يسهم" سيأتي في غزوة خيبر في آخره: "فقال له يا أبان اجلس، ولم يقسم لهم" واحتج به من قال: إن من حضر بعد فراغ الوقعة ولو كان خرج مددا لهم أن لا يشارك من حضرها وهو قول الجمهور، وعند الكوفيين يشاركهم، وأجاب عنهم الطحاوي بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرسل إلى نجد قبل أن يشرع في التجهيز إلى خيبر فلذلك لم يقسم له، وأما من أراد الخروج مع الجيش فعاقه عائق ثم لحقهم فإنه الذي يقسم له كما أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان وغيره ممن لم يحضر الوقعة، لكن كانوا ممن أراد الخروج معه فعاقهم عن ذلك عوائق شرعية. قوله: "قال سفيان" أي ابن عيينة، ووقع في رواية الحميدي في مسنده "عن سفيان وحدثنيه السعيدي أيضا"، وفي رواية ابن أبي عمر "عن سفيان سمعت السعيدي". قوله: "وحدثنيه السعيدي" هو معطوف على قوله: "حدثنا الزهري" وهو موصول بالإسناد الذي قبله. قوله: "السعيدي هو عمرو إلخ" هو كلام البخاري، ووقع لغير أبي ذر "قال أبو عبد الله" فذكره.

(6/41)


29- باب مَنْ اخْتَارَ الْغَزْوَ عَلَى الصَّوْمِ
2828- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(6/41)


"كَانَ أَبُو طَلْحَةَ لاَ يَصُومُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ الْغَزْوِ فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ أَرَهُ مُفْطِرًا إِلاَّ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى".
قوله: "باب من اختار الغزو على الصوم" أي لئلا يضعفه الصوم عن القتال، ولا يمتنع ذلك لمن عرف أنه لا ينقصه كما سيأتي بعد ستة أبواب. قوله: "لا يصوم" في رواية أبي الوليد عند أبي نعيم وعلي بن الجعد كلاهما عن شعبة عند الإسماعيلي: "لا يكاد يصوم" وفي رواية عاصم بن علي عن شعبة عند الإسماعيلي: "كان قلما يصوم"، فدل على أن النفي في رواية آدم ليس على إطلاقه، وقد وافق آدم سليمان بن حرب عند الإسماعيلي أيضا. قوله: "إلا يوم فطر أو أضحى" أي فكان لا يصومهما، والمراد بيوم الأضحى ما تشرع فيه الأضحية فيدخل أيام التشريق، وفي هذه القصة إشعار بأن أبا طلحة لم يكن يلازم الغزر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ترك التطوع بالصوم لأجل الغزو خشية أن يضعفه عن القتال، مع أنه في آخر عمره رجع إلى الغزو، فروى ابن سعد والحاكم وغيرهما من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أن أبا طلحة قرأ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} فقال: استنفرنا الله شيوخا وشبانا جهزوني، فقال له بنوه: نحن نغزو عنك، فأبى فجهزوه، فغزا في البحر فمات، فدفنوه بعد سبعة أيام ولم يتغير" قال المهلب: مثل النبي صلى الله عليه وسلم المجاهد بالصائم لا يفطر، يعني كما تقدم في أول الجهاد فلذلك قدمه أبو طلحة على الصوم، فلما توطأ الإسلام وعلم أنه صار في سعة أراد أن يأخذ حظه من الصوم إذ فاته الغزو، وفيه أنه كان لا يرى بصيام الدهر بأسا. "تنبيه": وقع عند الحاكم في المستدرك من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أن أبا طلحة أقام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة لا يفطر إلا يوم فطر أو أضحى". وعلى الحاكم فيه مأخذان أحدهما أن أصله في البخاري فلا يستدرك، ثانيهما أن الزيادة في مقدار حياته بعد النبي صلى الله عليه وسلم غلط فإنه لم يقم بعده سوى ثلاث أو أربع وعشرين سنة. فلعلها كانت أربعا وعشرين فتغيرت.

(6/42)


30 - باب الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ
2829- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
2830- حدثنا بشر بن محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا عاصم عن حفصة بنت سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطَّاعُونُ شَهَادةٌ لكلِّ مُسْلِمٍ".
[الحديث 2830 – طرفه في: 5732]
قوله: "باب الشهادة سبع سوى القتل" اختلف في سبب تسمية الشهيد شهيدا، فقال النضر بن شميل: لأنه حي فكأن أرواحهم شاهدة أي حاضرة. وقال ابن الأنباري: لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة. وقيل: لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعد له من الكرامة. وقيل: لأنه يشهد له بالأمان من النار. وقيل: لأن عليه شاهدا بكونه

(6/42)


شهيدا. وقيل: لأنه لا يشهده عند موته إلا ملائكة الرحمة. وقيل: لأنه الذي يشهد يوم القيامة بإبلاغ الرسل. وقيل: لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة. وقيل: لأن الأنبياء تشهد له بحسن الاتباع. وقيل: لأن الله يشهد له بحسن نيته وإخلاصه. وقيل: لأنه يشاهد الملائكة عند احتضاره. وقيل: لأنه يشاهد الملكوت من دار الدنيا، ودار الآخرة. وقيل لأنه مشهود له بالأمان من النار. وقيل لأن عليه علامة شاهدة بأنه قد نجا. وبعض هذه يختص بمن قتل في سبيل الله، وبعضها يعم غيره، وبعضها قد ينازع فيه. وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مالك من رواية جابر بن عتيك بفتح المهلة وكسر المثناة بعدها تحتانية ساكنة ثم كاف "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت" فذكر الحديث وفيه: "ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من يقتل في سبيل الله" وفيه: "الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله"، فذكر زيادة على حديث أبي هريرة "الحريق، وصاحب ذات الجنب، والمرأة تموت بجمع". وتوارد مع أبي هريرة في المبطون والمطعون والغريق وصاحب الهدم. فأما صاحب ذات الجنب فهو مرض معروف ويقال له الشوصة، وأما المرأة تموت بجمع فهو بضم الجيم وسكون الميم، وقد تفتح الجيم وتكسر أيضا وهي النفساء؛ وقيل التي يموت ولدها في بطنها ثم تموت بسبب ذلك، وقيل التي تموت بمزدلفة وهو خطأ ظاهر، وقيل التي تموت عذراء والأول أشهر. قلت: حديث جابر بن عتيك أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن حبان، وقد روى مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة شاهدا لحديث جابر بن عتيك ولفظه: "ما تعدون الشهداء فيكم" وزاد فيه ونقص، من زيادته "ومن مات في سبيل الله فهو شهيد" ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت نحوه حديث جابر بن عتيك ولفظه: "وفي النفساء يقتلها ولدها جمعا شهادة" وله من حديث راشد بن حبيش نحوه وفيه: "والسل" وهو بكسر المهملة وتشديد اللام، وللنسائي من حديث عقبة بن عامر "خمس من قبض فيهن فهو شهيد" فذكر فيهم النفساء وروى أصحاب السنن وصححه الترمذي من حديث ابن زيد مرفوعا: "من قتل دون ماله فهو شهيد" وقال في الدين والدم والأهل مثل ذلك، وللنسائي من حديث سويد بن مقرن مرفوعا: "من قتل دون مظلمته فهو شهيد" قال الإسماعيلي الترجمة مخالفة للحديث. وقال ابن بطال: لا تخرج هذه الترجمة من الحديث أصلا، وهذا يدل على أنه مات قبل أن يهذب كتابه. وأجاب ابن المنير بأن ظاهر كلام ابن بطال أن البخاري أراد أن يدخل حديث جابر بن عتيك فأعجلته المنية عن ذلك، وفيه نظر، قال: ويحتمل أن يكون أراد التنبيه على أن الشهادة لا تنحصر في القتل بل لها أسباب أخر وتلك الأسباب اختلفت الأحاديث في عددها ففي بعضها خمسة وفي بعضها سبعة، والذي وافق شرط البخاري الخمسة فنبه بترجمة على أن العدد الوارد ليس على معنى التحديد انتهى. وقال بعض المتأخرين يحتمل أن يكون بعض الرواة - يعني رواة الخمسة - نسى الباقي. قلت: وهو احتمال بعيد، لكن يقربه ما تقدم من الزيادة في حديث أبي هريرة عند مسلم، وكذا وقع لأحمد من وجه آخر عنه "والمجنوب شهيد" يعني صاحب ذات الجنب، والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بالأقل ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك. وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة، فإن مجموع ما قدمته مما اشتملت عليه الأحاديث التي ذكرتها أربع عشرة خصلة، وتقدم في "باب من ينكب في سبيل الله" حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا: "من وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه على أي حتف شاء الله تعالى فهو شهيد" وصح الدار قطني من حديث ابن عمر "موت الغريب شهادة" ولابن حبان من حديث أبي هريرة "من مات مرابطا مات شهيدا"

(6/43)


الحديث، وللطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا: "المرء يموت على فراشه في سبيل الله شهيد" وقال ذلك أيضا في المبطون واللديغ والغريق والشريق والذي يفترسه السبع والخار عن دابته وصاحب الهدم وذات الجنب، ولأبي داود من حديث أم حرام "المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد" ، وقد تقدمت أحاديث فيمن طلب الشهادة بنية صادقة أنه يكتب شهيدا في "باب تمني الشهادة" ويأتي في كتاب الطب حديث فيمن صبر في الطاعون أنه شهيد، وتقدم حديث عقبة بن عامر فيمن صرعته دابته وأنه عند الطبراني. وعنده من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح "أن من يتردى من رءوس الجبال وتأكله السباع ويغرق في البحار لشهيد عند الله" ووردت أحاديث أخرى في أمور أخرى لم أعرج عليها لضعفها، قال ابن التين: هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعلها تمحيصا لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبلغهم بها مراتب الشهداء. قلت: والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء، ويدل عليه ما روى أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث جابر الدارمي وأحمد والطحاوي من حديث عبد الله بن حبشي، وابن ماجه من حديث عمرو بن عنبسة "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده وأهريق دمه" وروى الحسن بن علي الحلواني في "كتاب المعرفة" له بإسناد حسن من حديث ابن أبي طالب قال: "كل موتة يموت بها المسلم فهو شهيد" غير أن الشهادة تتفاضل وسيأتي شرح كثير من هذه الأمراض المذكورة في كتاب الطب، وكذا الكلام على حديث أنس في الطاعون إن شاء الله تعالى. ويتحصل مما ذكر في هذه الأحاديث أن الشهداء قسمان: شهيد الدنيا، وشهيد الآخرة وهو من يقتل في حرب الكفار مقبلا غير مدبر مخلصا. وشهيد الآخرة وهو من ذكر، بمعنى أنهم يعطون من جنس أجر الشهداء ولا تجري عليهم أحكامهم في الدنيا. وفي حديث العرباض بن سارية عند النسائي وأحمد ولأحمد من حديث عتبة بن عبد نحوه مرفوعا: "يختصم الشهداء والمتوفون على الفراش في الذين يتوفون من الطاعون فيقول: انظروا إلى جراحهم، فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم معهم ومنهم، فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم" . وإذا تقرر ذلك فيكون إطلاق الشهداء على غير المقتول في سبيل الله مجازا، فيحتج به من يجيز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، والمانع يجيب بأنه من عموم المجاز فقد يطلق الشهيد على من قتل في حرب الكفار لكن لا يكون له ذلك في حكم الآخرة لعارض يمنعه كالانهزام وفساد النية والله أعلم. قوله: "الشهداء خمسة - ثم قال - والشهيد في سبيل الله" قال الطيبي: يلزم منه حمل الشيء على نفسه لأن قوله: "خمسة" خبر للمبتدأ والمعدود بعده ببيان له، وأجاب بأنه من باب قول الشاعر " أنا أبو النجم وشعري شعري". ويحتمل أن يكون المراد بالشهيد في سبيل الله المقتول، فكأنه قال والمقتول فعبر عنه بالشهيد، ويؤيده قوله في رواية جابر بن عتيك "الشهداء سبعة سوى القتيل في سبيل الله" ويجوز أن يكون الشهيد مكررا في كل واحد منها فيكون من التفصيل بعد الإجمال والتقدير الشهداء خمسة الشهيد كذا والشهيد كذا إلى آخره.

(6/44)


باب قول الله عز وجل { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر و المجاهدون في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم
...
31 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} إلى قوله: {غَفُورًا رَحِيمًا}

(6/44)


2831- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: "لما نزلت {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا، فجاءه بكتف فكتبها. وشكا ابن أم مكتوم ضرارته، فنزلت {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}".
[الحديث 2831 – طرفاه في: 4593، 4594، 4990]
2832- حدَّثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد الزهري قال: حدثني صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: "رأيت مروان بن الحكم جالسا في المسجد فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليَّ {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها عليَّ، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت – وكان رجلا أعمى – فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم فخذه على فخذي، فثقلت عليَّ حتى خفت أن ترضَّ فخذي، ثم سُرِّيَ عنه، فأنزل الله عز وجل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}".
[الحديث 2832 – طرفه في: 4592]
قوله باب قول الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ذكر فيه حديثي البراء بن عازب وزيد بن ثابت في سبب نزولها، وفيه ذكر ابن أم مكتوم، وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى في تفسير سورة النساء.

(6/45)


32 - باب الصَّبْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ
2833- حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق عن موسى بن عقبة عن سالم أبي النضر أن عبد الله بن أبي أوفى كتب فقرأته إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا لقيتموهم فاصبروا".
قوله: "باب الصبر عند القتال" ذكر فيه طرفا من حديث ابن أبي أوفى، وقد تقدم التنبيه عليه قريبا.

(6/45)


33 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَقَوْلِ الله عزَّ وجلَّ [65 الأنفال]: {حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}
2834- حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق عن حميد قال: سمعت أنسا رضي الله عنه يقول: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع، قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر اللهم للأنصار والمهاجرة" فقالوا مجيبين له:

(6/45)


34- باب حَفْرِ الْخَنْدَقِ
2835- حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه قال: "جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة وينقلون التراب على متونهم ويقولون: نحن الذين بايعوا محمدا، على الجهاد ما بقينا أبدا. والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم ويقول: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجرة".
2836- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت البراء رضي الله عنه يقول: "كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل ويقول: "لولا أنت ما اهتدينا".
[الحديث 2836 – أطرافه في: 2837، 3034، 4104، 4106، 6620، 7136]
2837- حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل التراب – وقد وارى التراب بياض بطنه – وهو يقول: لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزل سكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا، إن الألى قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا".
قوله: "باب حفر الخندق" ذكر فيه حديث أنس من وجه آخر وسيأتي في المغازي، وسياقه هناك أتم، وذكر فيه حديث البراء بن عازب في ذلك من وجهين، ويأتي هناك شرحه مستوفى إن شاء الله تعالى.

(6/46)


35 - باب مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ عَنْ الْغَزْوِ
2838- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ قَالَ: "رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
[الحديث 2838 – طرفاه في: 2839، 4423]
2839- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ

(6/46)


36 - باب فَضْلِ الصَّوْمِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
2840- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَسُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا".

(6/47)


قوله: "باب فضل الصوم في سبيل الله" قال ابن الجوزي: إذا أطلق ذكر سبيل الله فالمراد به الجهاد. وقال القرطبي: سبيل الله طاعة الله، فالمراد من صام قاصدا وجه الله. قلت: ويحتمل أن يكون ما هو أعم من ذلك. ثم وجدته في "فوائد أبي الطاهر الذهلي" من طريق عبد الله بن عبد العزيز الليثي عن المقبري عن أبي هريرة بلفظ: "ما من مرابط يرابط في سبيل الله فيصوم يوما في سبيل الله" الحديث. وقال ابن دقيق العيد: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، فإن حمل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين، قال: ويحتمل أن يراد بسبيل الله طاعته كيف كانت، والأول أقرب، ولا يعارض ذلك أن الفطر في الجهاد أولى لأن الصائم يضعف عن اللقاء كما تقدم تقريره في "باب من اختار الغزو على الصوم" لأن الفضل المذكور محمول على من لم يخش ضعفا، ولا سيما من اعتاد به فصار ذلك من الأمور النسبية، فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقه أفضل ليجمع بين الفضيلتين، وقد تقدم مزيد لذلك في كتاب الصيام في الكلام على الصوم في السفر. قوله: "أخبرني يحيى بن سعيد" هو الأنصاري، وسهيل بن أبي صالح لم يخرج له البخاري موصولا إلا هذا، ولم يحتج به لأنه قرنه بيحيى بن سعيد، وقد اختلف في إسناده على سهيل فرواه الأكثر عنه هكذا، وخالفهم شعبة فرواه عنه عن صفوان بن يزيد عن أبي سعيد أخرجه النسائي، ولعل لسهيل فيه شيخين. وأخرجه النسائي أيضا من طريق أبي معاوية عن سهيل عن المقبري عن أبي سعيد، ووهم فيه أبو معاوية، وإنما يرويه المقبري عن أبي هريرة لا عن أبي سعيد، وإنما رواه سهيل من حديث أبي هريرة عن أبيه عنه لا عن المقبري. كذلك أخرجه النسائي من طريق سعيد بن عبد الرحمن عن سهيل عن أبيه، وكذا أخرجه أحمد عن أنس بن عياض عن سهيل. قوله: "سبعين خريفا" الخريف زمان معلوم من السنة، والمراد به هنا العام، وتخصيص الخريف بالذكر دون بقية الفصول - الصيف والشتاء والربيع - لأن الخريف أزكى الفصول لكونه يجني فيه الثمار. ونقل الفاكهاني أن الخريف يجتمع فيه الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة دون غيره، ورد بأن الربيع كذلك. قال القرطبي: ورد ذكر السبعين لإرادة التكثير كثيرا انتهى. ويؤيده أن النسائي أخرج الحديث المذكور عن عقبة بن عامر والطبراني عن عمرو بن عبسة وأبو يعلى عن معاذ بن أنس فقالوا جميعا في رواياتهم "مائة عام".

(6/48)


37 - باب فَضْلِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
2841- حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ أَيْ فُلُ هَلُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَاكَ الَّذِي لاَ تَوَى عَلَيْهِ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لاَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ".
2842- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا فَبَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا وَثَنَّى بِالأُخْرَى فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أو يأتي الْخَيْرُ

(6/48)


ِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا يُوحَى إِلَيْهِ وَسَكَتَ النَّاسُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرَ ثُمَّ إِنَّهُ مَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا أَوَخَيْرٌ هُوَ؟ ثَلاَثًا إِنَّ الْخَيْرَ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِالْخَيْرِ وَإِنَّهُ كُلَّمَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضِرِ كُلَّمَا أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلاَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ بِحَقِّهِ فَهُوَ كَالْآكِلِ الَّذِي لاَ يَشْبَعُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
قوله: "باب فضل النفقة في سبيل الله" ذكر فيه حديثين: أحدهما: عن أبي هريرة "من أنفق زوجين في سبيل الله" وقد تقدم في أول الصوم من وجه آخر، وقوله في هذا الإسناد عن أبي سلمة يأتي الكلام عليه وعلى قوله: "أي فل" في فضل أبي بكر، وأن الخطابي جزم أنه ترخيم من فلان، وجزم غيره بأنه لغة فيه، وتقدم في "باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين" التنبيه على وهم القابسي في قوله: "سعيد بن حفص" وقوله: "زوجين" أي شيئين من أي نوع كان مما ينفق، والزوج يطلق على الواحد وعلى الاثنين وهو هنا على الواحد جزما، وقوله: "كل خزنة باب" كأنه من المقلوب لأن المراد خزنة كل باب، قال المهلب. في هذا الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال، لأن المجاهد يعطي أجر المصلى والصائم والمتصدق وإن لم يفعل ذلك، لأن باب الريان للصائمين، وقد ذكر في هذا الحديث أن المجاهد يدعى من تلك الأبواب كلها بإنفاق قليل المال في سبيل الله انتهى. وما جرى فيه على ظاهر الحديث يرده ما قدمته في الصيام من زيادة في الحديث لأحمد حيث قال فيه: "لكل أهل عمل باب يدعون بذلك العمل" وهذا يدل على أن المراد بسبيل الله ما هو أعم من الجهاد وغيره من الأعمال الصالحة، وقوله: "لا توى عليه" بالمثناة والأكثر أنه مقصور، وحكى ابن فارس المد. حديث أبي سعيد "إنما أخشى عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من بركات الأرض" وسيأتي شرحه مستوفى في الرقاق إن شاء الله تعالى، والغرض منه هنا قوله، "فجعله في سبيل الله" فإنه مطابق لما ترجم له، وقد روى النسائي وصححه ابن حبان من حديث خريم بالراء مصغر ابن فاتك بفاء ومثناة مكسورة رفعه: "من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف" قلت: وهو موافق لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية. وقوله في هذه الرواية: "وإنه كل ما ينبت الربيع يقتل أو يلم" بضم أوله وكسر اللام وتشديد الميم أي يقرب من القتل. وقوله: "أكلت حتى إذا امتدت" وقع في السياق حذف تقديره إلا آكله الخضر أكلت، وقد بين في الرواية الأخرى، وكذا أثبته الأصيلي هنا وسقط للباقين، وكذا سقط قوله: "حبطا" وهو بفتح المهملة والموحدة، وهو انتفاخ البطن من كثرة الأكل.

(6/49)


38 - باب فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ
2843- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا".

(6/49)


2844- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: "إِنِّي أَرْحَمُهَا قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي".
قوله: "باب فضل من جهز غازيا" أي هيأ له أسباب سفره "أو خلفه" بفتح المعجمة واللام الخفيفة أي قام بحال من يتركه. قوله: "حدثنا الحسين" هو المعلم نسبه الطبراني عن حفص بن عمر عن أبي معمر، وكذا صرح به مسلم في روايته من وجه آخر عنه، ويحيى هو ابن أبي كثير، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق هو وأبو سلمة وبسر وهو بضم الموحدة وسكون المهملة، وقد سمع أبو سلمة من زيد بن خالد وحدث عنه هنا بواسطة وحدث عنه بلا واسطة في غير هذا عند أبي داود والترمذي وصححه وغيرهما. قوله: "فقد غزا" قال ابن حبان: معناه أنه مثله في الأجر وإن لم يغز حقيقة. ثم أخرجه من وجه آخر عن بسر بن سعيد بلفظ: "كتب له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجره شيء" ولابن ماجه وابن حبان من حديث عمر نحوه بلفظ: "من جهز غازيا حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع" وأفادت فائدتين إحداهما أن الوعد المذكور مرتب على تمام التجهيز، وهو المراد بقوله: "حتى يستقل". ثانيهما أنه يستوي معه في الأجر إلى أن تنقضي تلك الغزوة. وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وقال: ليخرج من كل رجلين رجل والأجر بينهما" وفي رواية له "ثم قال للقاعد: وأيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج" ففيه إشارة إلى أن الغازي إذا جهز نفسه أو قام بكفاية من يخلفه بعده كان له الأجر مرتين. وقال القرطبي: لفظة "نصف" يشبه أن تكون مقحمة، أي مزيدة من بعض الرواة، وقد احتج بها من ذهب إلى أن المراد بالأحاديث التي وردت بمثل ثواب الفعل حصول أصل الأجر له بغير تضعيف، وأن التضعيف يختص بمن باشر العمل، قال القرطبي: ولا حجة له في هذا الحديث لوجهين: أحدهما أنه لا يتناول محل النزاع لأن المطلوب إنما هو أن الدال على الخير مثلا هل له مثل أجر فاعله ثم التضعيف أو بغير تضعيف، وحديث الباب إنما يقتضي المشاركة والمشاطرة فافترقا. ثانيهما ما تقدم من احتمال كون لفظة "نصف" زائدة. قلت: ولا حاجة لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في الصحيح؛ والذي يظهر في توجيهها أنها أطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير، فإن الثواب إذا انقسم بينهما نصفين كان لكل منهما مثل ما للآخر فلا تعارض بين الحديثين. وأما من وعد بمثل ثواب العمل وإن لم يعمله إذا كانت له فيه دلالة أو مشاركة أو نية صالحة فليس على إطلاقه في عدم التضعيف لكل أحد، وصرف الخبر عن ظاهره يحتاج إلى مستند، وكأن مستند القائل أن العامل يباشر المشقة بنفسه بخلاف الدال ونحوه، لكن من يجهز الغازي بماله مثلا وكذا من يخلفه فيمن يترك بعده يباشر شيئا من المشقة أيضا، فإن الغازي لا يتأتى منه الغزر إلا بعد أن يكفي ذلك العمل فصار كأنه يباشر معه الغزو، بخلاف من اقتصر على النية مثلا والله أعلم. وستكون لنا عودة إلى البحث في هذا الكلام على قوله: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" في شرح فضائل القرآن إن شاء الله تعالى. قوله: "عن إسحاق بن عبد الله" أي ابن أبي طلحة. وفي رواية عمرو بن عاصم عن همام "أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة" أخرجه ابن سعد عنه، وعند الإسماعيلي من طريق حبان بن هلال عن همام

(6/50)


"حدثنا إسحاق". قوله: "لم يكن يدخل بالمدينة بيتا غير بيت أم سليم" قال الحميدي: لعله أراد على الدوام، وإلا فقد تقدم أنه كان يدخل على أم حرام. وقال ابن التين: يريد أنه كان يكثر الدخول على أم سليم، وإلا فقد دخل على أختها أم حرام، ولعلها أي أم سليم كانت شقيقة المقتول أو وجدت عليه أكثر من أم حرام. قلت: لا حاجة إلى هذا التأويل فإن بيت أم حرام وأم سليم واحد، ولا مانع أن تكون الأختان في بيت واحد كبير لكل منهما فيه معزل فنسب تارة إلى هذه وتارة إلى هذه. قوله: "فقيل له" لم أقف على اسم القائل. قوله: "إني أرحمها، قتل أخوها معي" هذه العلة أولى من قول من قال: إنما كان يدخل عليها لأنها كانت محرما له، وسيأتي بيان ما في هذه القصة في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى. والمراد بقوله: "أخوها" حرام بن ملحان الذي تقدم ذكره في "باب من ينكب في سبيل الله" وستأتي قصة قتله في غزوة بئر معونة من كتاب المغازي، والمراد بقوله: "معي" أي مع عسكري أو على أمري وفي طاعتي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهد بئر معونة وإنما أمرهم بالذهاب إليها، وغفل القرطبي فقال: قتل أخوها معه في بعض حروبه وأظنه يوم أحد، ولم يصب في ظنه، والله أعلم. "تنبيه": قال ابن المنير: مطابقة حديث أنس للترجمة من جهة قوله: "أو خلفه في أهله" لأن ذلك أعم من أن يكون في حياته أو بعد موته، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يجبر قلب أم سليم بزيارتها، ويعلل ذلك بأن أخاها قتل معه، ففيه أنه خلفه في أهله بخير بعد وفاته، وذلك من حسن عهده صلى الله عليه وسلم.

(6/51)


39 - باب التَّحَنُّطِ عِنْدَ الْقِتَالِ
2845- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَالَ وَذَكَرَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ قَالَ: "أَتَى أَنَسٌ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْهِ وَهُوَ يَتَحَنَّطُ فَقَالَ يَا عَمِّ مَا يَحْبِسُكَ أَنْ لاَ تَجِيءَ قَالَ الْآنَ يَا ابْنَ أَخِي وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ يَعْنِي مِنْ الْحَنُوطِ ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ انْكِشَافًا مِنْ النَّاسِ فَقَالَ هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حَتَّى نُضَارِبَ الْقَوْمَ مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَقْرَانَكُمْ". رَوَاهُ حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ.
قوله: "باب التحنط عند القتال" أي استعمال الحنوط، وهو ما يطيب به الميت، وقد تقدم بيانه في كتاب الجنائز. قوله: "عن موسى بن أنس" أي ابن مالك. قوله: "ذكر" كذا للحموي وللباقين "وذكره" بزيادة الواو وهي للحال. قوله: "يوم اليمامة" أي حين حاصرت المسلمون مسيلمة الكذاب وأتباعه في خلافة أبي بكر الصديق. قوله: "أتى أنس بن مالك ثابت بن قيس" بالنصب على المفعولية، قال الحميدي كذا قال، لم يقل عن أنس، وأخرجه البرقاني من وجه آخر فقال: "عن موسى بن أنس عن أبيه قال أتيت ثابت بن قيس". قلت: وصله الطبري والإسماعيلي من طريق ابن أبي زائدة عن ابن عون. وقال ابن سعد في الطبقات "حدثنا الأنصاري حدثنا ابن عون حدثنا موسى بن أنس عن أنس بن مالك قال: لما كان يوم اليمامة جئت إلى ثابت بن قيس بن شماس" فذكره، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" من طريق أخرى عن الأنصاري كذلك. قوله: "وقد حسر" بمهملتين مفتوحتين أي كشف وزنه ومعناه. قوله: "يا عم" إنما دعاه بذلك لأنه كان أسن منه، ولأنه من قبيلة الخزرج.

(6/51)


قوله: "ما يحبسك" أي يؤخرك. وفي رواية الأنصاري "فقلت يا عم ألا ترى ما يلقى الناس" زاد معاذ بن معاذ عن ابن عون عند الإسماعيلي: "ألا تجئ" وكذا أخرجه خليفة في تاريخه عن معاذ وقال في جوابه "بلى يا ابن أخي الآن". قوله: "ألا" بالتشديد وتجيء بالنصب. قوله: "وجعل يتحنط يعني من الحنوط" كذا في الأصل، وكأن قائلها أراد دفع من يتوهم أنها من الحنطة، ولم يقع ذلك في رواية الأنصاري المذكورة. قوله: "فذكر من الناس انكشافا" في رواية ابن أبي زائدة "فجاء حتى جلس في الصف، والناس ينكشفون" أي ينهزمون. قوله: "فقال: هكذا عن وجوهنا" أي افسحوا لي حتى أقاتل. قوله: "ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي بل كان الصف لا ينحرف عن موضعه. قوله: "بئس ما عودتم أقرانكم" كذا للأكثر، ووقع في رواية المستملي: "عودكم أقرانكم" أي نظراؤكم، وهو جمع قرن بكسر القاف، وهو الذي يعادل الآخر في الشدة، والقرن بكسر القاف من يعادل في السن، وأراد ثابت بقوله هذا توبيخ المنهزمين، أي عودتم نظراءكم في القوة من عدوكم القرار منهم حتى طمعوا فيكم، وزاد معاذ بن معاذ الأنصاري وابن أبي زائدة في روايتهما: "فتقدم فقاتل حتى قتل". قوله: "رواه حماد" أي ابن أبي سلمة "عن ثابت عن أنس" كذا قال، وكأنه أشار إلى أصل الحديث، وإلا فرواية حماد أتم من رواية موسى بن أنس، وقد أخرجه ابن سعد والطبراني والحاكم من طرق عنه ولفظه: "أن ثابت بن قيس بن شماس جاء يوم اليمامة وقد تحنط ولبس ثوبين أبيضين يكفن فيهما وقد انهزم القوم، فقال: اللهم أني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون واعتذر إليك مما صنع هؤلاء - ثم قال - بئس ما عودتم أقرانكم منذ اليوم، خلوا بيننا وبينهم ساعة، فحمل فقاتل حتى قتل، وكانت درعه قد سرقت، فرآه رجل فيما يرى النائم فقال: أنها في قدر تحت إكاف بمكان كذا، فأوصاه بوصايا، فوجدوا الدرع كما قال، وأنفذوا وصاياه". وأخرج الحاكم قصة الدرع والوصية مطولة من وجه آخر عن بنت ثابت بن قيس المذكورة وفيها "أنه أوصى بعتق بعض رقيقه"، وسمى الواقدي في كتاب الردة من وجه آخر من أوصى بعتقه وهم سعد وسالم، وأفاد الواقدي أن رائي المنام هو بلال المؤذن، قال المهلب وغيره: فيه جواز استهلاك النفس في الجهاد وترك الأخذ بالرخصة، والتهيئة للموت بالتحنط والتكفين، وفيه قوة ثابت بن قيس وصحة يقينه ونيته، وفيه التداعي إلى الحرب والتحريض عليها وتوبيخ من يفر، وفيه الإشارة إلى ما كان الصحابة عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الشجاعة والثبات في الحرب، واستدل به على أن الفخذ ليست عورة، وقد مضى البحث فيه في أوائل كتاب الصلاة.

(6/52)


40 - باب فَضْلِ الطَّلِيعَةِ
2846- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَوْمَ الأَحْزَابِ قَالَ الزُّبَيْرُ أَنَا ثُمَّ قَالَ مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ قَالَ الزُّبَيْرُ أَنَا. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ".
[الحديث 2846 – أطرافه في: 2847، 2997، 3719، 4113، 7261]
قوله: "باب فضل الطليعة" أي من يبعث إلى العدو ليطلع على أحوالهم، وهو اسم جنس يشمل الواحد فما فرقه، وقد تقدم في كتاب الشروط في حديث المسور الطويل بيان ذلك. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري. قوله:

(6/52)


"من يأتيني بخبر القوم يوم الأحزاب" في رواية وهب بن كيسان عن جابر عند النسائي: "لما اشتد الأمر يوم بني قريظة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأتينا بخبرهم" الحديث، وفيه أن الزبير توجه إلى ذلك ثلاث مرات، ومنه يظهر المراد بالقوم في رواية ابن المنكدر، وسيأتي بيان ذلك في المغازي، وأن الأحزاب من قريش وغيرهم لما جاءوا إلى المدينة وحفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق بلغ المسلمين أن بني قريظة من اليهود نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين ووافقوا قريشا على حرب المسلمين، وسيأتي الكلام على شرح "الحواري" في المناقب إن شاء الله تعالى.

(6/53)


41 - باب هَلْ يُبْعَثُ الطَّلِيعَةُ وَحْدَهُ
2747- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ قَالَ صَدَقَةُ أَظُنُّهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ".
قوله: "باب هل يبعث الطليعة وحده" ذكر فيه حديث جابر المذكور من رواية سفيان بن عيينة. وقوله: "ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس قال صدقة أظنه يوم الخندق" صدقة هو ابن الفضل شيخ البخاري فيه، وما ظنه هو الواقع فقد رواه الحميدي عن ابن عيينة فقال فيه: "يوم الخندق" ولم يشك، في الحديث جواز استعمال التجسس في الجهاد، وفيه منقبة للزبير وقوة قلبه وصحة يقينه، وفيه جواز سفر الرجل وحده، وأن النهي في السفر وحده إنما هو حيث لا تدعو الحاجة إلى ذلك، وسيأتي مزيد بحث في ذلك في أواخر الجهاد في "باب السير وحده". واستدل به بعض المالكية علي أن طليعة اللصوص المحاربين يقتل وإن كان لم يباشر قتلا ولا سلبا، وفي أخذه من هذا الحديث تكلف.

(6/53)


42 - باب سَفَرِ الِاثْنَيْنِ
2848- حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث قال: "انصرفت من عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لنا – أنا وصاحب لي -: "أذِّنا وأقيما وليؤمَّكما أكبرُكمَا".
قوله: "باب سفر الاثنين" أي جوازه، والمراد سفر الشخصين لا سفر يوم الاثنين، بخلاف ما فهمه الداودي ثم اعترض على البخاري، ورده ابن التين بأن البخاري أورد فيه حديث مالك بن الحويرث "أذنا وأقيما" وأشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما ذلك حين أرادا السفر إلى قومهما، فيؤخذ الجواز من إذنه لهما. قلت: وكأنه لمح بضعف الحديث الوارد في الزجر عن سفر الواحد والاثنين، وهو ما أخرجه أصحاب السنن من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "الراكب شيطان والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب". قلت: وهو حديث حسن الإسناد، وقد صححه ابن خزيمة والحاكم، وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة وصححه وترجم له ابن خزيمة: "النهي عن سفر الاثنين وأن ما دون الثلاثة عصاة" لأن معنى قوله شيطان أي عاص. وقال الطبري: هذا الزجر زجر أدب وإرشاد لما يخشى على الواحد من الوحشة والوحدة، وليس بحرام فالسائر وحده في فلاة وكذا البائت في بيت وحده لا يأمن من الاستيحاش لا سيما إذا كان ذا فكرة رديئة وقلب ضعيف، والحق أن

(6/53)


43 - باب الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
2849- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
[الحديث 2849 – طرفه في: 3644]
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُصَيْنٍ وَابْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". قَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ تَابَعَهُ مُسَدَّدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ.
[الحديث 2850 – أطرافه في: 2852، 3119، 3643]
2851- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ".
[الحديث 2851 – طرفه في: 3645]
قوله: "باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" هكذا ترجم بلفظ الحديث من غير مزيد، وقد استنبط منه ما يأتي في الباب بعده وذكر فيه ثلاثة أحاديث. الأول: حديث ابن عمر قوله: "الخيل في نواصيها الخير" كذا في الموطأ ليس فيه: "معقود" ووقع بإثباتها عند الإسماعيلي من رواية عبد الله بن نافع عن مالك، وسيأتي في علامات النبوة من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع بإثباتها وذلك في رواية أبي ذر عن الكشميهني وحده. الحديث الثاني: حديث عروة بن الجعد قوله: "عن حصين" بالتصغير هو ابن عبد الرحمن، وابن أبي السفر بفتح المهملة والفاء هو عبد الله. قوله: "عن عروة بن الجعد" في رواية زكريا عن الشعبي "حدثنا عروة" وهو في الباب الذي بعده. قوله: "قال سليمان" هو ابن حرب "عن شعبة عن عروة بن أبي الجعد" يعني أن سليمان بن حرب خالف حفص بن عمر في اسم والد عروة فقال حفص "عروة بن الجعد" وقال سليمان "عروة بن أبي الجعد"، وطريق سليمان وصلها الطبراني عن أبي مسلم الكجي عنه، وأخرجها أبو نعيم في المستخرج من وجه آخر عن أبي مسلم، قال الإسماعيلي: قال أكثر الرواة عن شعبة "عروة بن الجعد" إلا سليمان وابن أبي عدي. قلت: رواية ابن أبي عدي عند النسائي وتابعهما مسلم بن إبراهيم أخرجه ابن أبي خيثمة عنه، ولشعبة فيه إسناد آخر فقال فيه: "عروة بن الجعدي" أيضا أخرجه مسلم من طريق غندر عنه عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن عروة.

(6/54)


قوله: "تابعه مسدد عن هشيم عن حصين إلخ" هكذا رويناه موصولا في مسند مسدد رواية معاذ في المثنى عنه وقال فيه: "عروة بن أبي الجعد" كما قال البخاري، ولكن رواه أحمد في مسنده عن هشيم فقال: "عروة البارقي" وكذا قال زكريا في الباب الذي بعده، وكذا أخرجه مسلم من طريق ابن فضيل وابن إدريس عن حصين، وأخرجه من طريق جرير عن حصين فقال: "عروة بن الجعد" وصوب ابن المديني أنه "عروة بن أبي الجعد" وذكر ابن أبي حاتم أن اسم أبي الجعد سعد، وأما الرشاطي فقال: هو عروة بن عياض بن أبي الجعد نسب في الرواية إلى جده، قال: وكان ممن شهد فتوح الشام ونزلها، ثم نقله عثمان إلى الكوفة. قلت: ويأتي في علامات النبوة أنه كان يربط الخيل الكثيرة حتى قال الراوي: رأيت في داره سبعين فرسا. ولمسدد في هذا الحديث شيخ آخر سيأتي في "باب حل الغنائم" عنه عن خالد وهو الطحان عن حصين وقال فيه أيضا عروة البارقي، ووقع في رواية ابن إدريس عن حصين في هذا الحديث من الزيادة "والإبل عز لأهلها والغنم بركة" أخرجه البرقاني في مستخرجه ونبه عليه الحميدي. والبارقي بالموحدة وكسر الراء بعدها قاف نسبة إلى بارق جبل باليمن، وقيل ماء بالسراة نزله بنو عدي بن حارثة بن عمر. وقبيلة من الأزد، ولقب به منهم سعد بن عدي وكان يقال له بارق، وزعم الرشاطي أنه منسوب إلى ذي بارق قبيلة من ذي رعين. قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان، وأبو التياح بمثناة وتحتانية ثقيلة وآخره مهملة، والإسناد كله بصريون. قوله: "البركة في نواصي الخيل" كذا وقع، ولا بد فيه من شيء محذوف يتعلق به المجرور وأولى ما يقدر ما ثبت في رواية أخرى فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي بن شعبة بلفظ: "البركة تنزل في نواصي الخيل" وأخرجه من طريق ابن مهدي عن شعبة بلفظ: "الخير معقود في نواصي الخيل" وسيأتي في علامات النبوة من طريق خالد بن الحارث عن شعبة بلفظ حديث عروة البارقي إلا أنه ليس فيه: "إلى يوم القيامة" قال عياض إذا كان في نواصيها البركة فيبعد أن يكون فيها شؤم، فيحتمل أن يكون الشؤم الآتي ذكره في غير الخيل التي ارتبطت للجهاد وأن الخيل التي أعدت له هي المخصوصة بالخير والبركة أو يقال الخير والشر يمكن اجتماعهما في ذات واحدة، فإنه فسر الخير بالأجر والمغنم، ولا يمنع ذلك أن يكون ذلك الفرس مما يتشاءم به. قلت: وسيأتي مزيد لذلك بعد ثلاثة أبواب، قوله: "الخيل" المراد بها ما يتخذ للغزو بأن يقاتل عليه أو يرتبط للأجل ذلك لقوله في الحديث الآتي بعد أربعة أبواب "الخيل ثلاثة" الحديث، فقد روى أحمد من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعا: "الخيل في نواصيها الخير معقود إلى يوم القيامة، فمن ربطها عدة في سبيل الله وأنفق عليه احتسابا كان شبعها وجوعها وريها وظمؤها وأرواثها وأبوالها فلاحا في موازينه يوم القيامة" الحديث، ولقوله في رواية زكريا كما في الباب الذي يليه "الأجر والمغنم" وقوله الأجر بدل من قوله الخير، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هو الأجر والمغنم، ووقع عند مسلم من رواية جرير عن حصين "قالوا: بم ذاك يا رسول الله؟ قال: الأجر والمغنم" قال الطيبي: يحتمل أن يكون الخير الذي فسر بالأجر والمغنم استعارة لظهوره وملازمته، وخص الناصية لرفعة قدرها وكأنه شبهه لظهوره بشيء محسوس معقود على مكان مرتفع فنسب الخير إلى لازم المشبه به وذكر الناصية تجريدا للاستعارة، والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة قاله الخطابي وغيره. قالوا: ويحتمل أنما يكون كني بالناصية عن جميع ذات الفرس كما يقال فلان مبارك الناصية، ويبعده لفظ الحديث الثالث، وقد روى مسلم من حديث

(6/55)


جرير قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوي ناصية فرسه بإصبعه ويقول" فذكر الحديث، فيحتمل أن تكون الناصية خصت بذلك لكونها المقدم منها، إشارة إلى أن الفضل في الإقدام بها على العدو دون المؤخر لما فيه من الإشارة إلى الأدبار، واستدل به على أن الذي ورد فيها من الشؤم على غير ظاهره، لكن يحتمل أن يكون المراد هنا جنس الخيل، أي أنها بصدد أن يكون فيها الخير، فأما من ارتبطها لعمل غير صالح فحصول الوزر لطريان ذلك الأمر العارض، وسيأتي مزيد لذلك في مكانه بعد أبواب. قال عياض: في هذا الحديث مع وجيز لفظه من البلاغة والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن، مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير. قال الخطابي: وفيه إشارة إلى أن المال الذي يكتسب باتخاذ الخيل من خير وجوه الأموال وأطيبها، والعرب تسمى المال خيرا كما تقدم في الوصايا في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} وقال ابن عبد البر: فيه إشارة إلى تفضيل الخيل على غيرها من الدواب، لأنه لم يأت عنه صلى الله عليه وسلم في شيء غيرها مثل هذا القول، وفي النسائي عن أنس بن مالك "لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخيل". الحديث الثالث ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............