الكتاب : 16.فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
----
جعل أحق بها لما يقتضيه صيغة أفعل من
الاشتراك، وأيضا فما ذكروه ينتقض بالشفعة، وأيضا فقد ورد التنصيص في حديث الباب على
أنه في صورة المبيع، وذلك فيما رواه سفيان الثوري في جامعه وأخرجه من طريقه ابن
خزيمة وابن حبان وغيرهما عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد بلفظ: "إذا ابتاع
الرجل سلعة ثم أفلس وهي عنده بعينها فهو أحق بها من الغرماء" ولابن حبان من
طريق هشام بن يحيى المخزومي عن أبي هريرة بلفظ: "إذا أفلس الرجل فوجد البائع
سلعته" والباقي مثله، ولمسلم في رواية ابن أبي حسين المشار إليها قبل
"إذا وجد عنده المتاع أنه لصاحبه الذي باعه" وفي مرسل ابن أبي مليكة عند
عبد الرزاق "من باع سلعة من رجل لم ينقده ثم أفلس الرجل فوجدها بعينها
فليأخذها من بين الغرماء" ، وفي مرسل مالك المشار إليه "أيما رجل باع
متاعا" وكذا هو عند من قدمنا أنه وصله، فظهر أن الحديث وارد في صورة البيع،
ويلتحق به القرض وسائر ما ذكر من باب الأولى. "تنبيه": وقع في الرافعي
سياق الحديث بلفظ الثوري الذي قدمته، فقال السبكي في "شرح المنهاج" هذا
الحديث أخرجه مسلم بهذا اللفظ وهو صريح في المقصود، فإن اللفظ المشهور أي الذي في
البخاري عام أو محتمل، بخلاف لفظ البيع فإنه نص لا احتمال فيه وهو لفظ مسلم، قال:
وجاء بلفظه بسند آخر صحيح انتهى. واللفظ المذكور ما هو في صحيح مسلم وإنما فيه ما
قدمته والله المستعان. وحمله بعض الحنفية أيضا على ما إذا أفلس المشتري قبل أن
يقبض السلعة، وتعقب بقوله في حديث الباب: "عند رجل" ولابن حبان من طريق
سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد "ثم أفلس وهي عنده" وللبيهقي من طريق ابن
شهاب عن يحيى "إذا أفلس الرجل وعنده متاع" فلو كان لم يقبضه ما نص في
الخبر على أنه عنده، واعتذارهم بكونه خبر واحد فيه نظر، فإنه مشهور من غير هذا
الوجه، أخرجه ابن حبان من حديث ابن عمر وإسناده صحيح، وأخرجه أحمد وأبو داود من
حديث سمرة وإسناده حسن، وقضى به عثمان وعمر بن عبد العزيز كما مضى، وبدون هذا يخرج
الخبر عن كونه فردا غريبا، قال ابن المنذر: لا نعرف لعثمان في هذا مخالفا من
الصحابة. وتعقب بما روى ابن أبي شيبة عن علي أنه أسوة الغرماء، وأجيب بأنه اختلف
على علي في ذلك بخلاف عثمان. وقال القرطبي في "المفهم": تعسف بعض
الحنفية في تأويل هذا الحديث بتأويلات لا تقوم على أساس، وقال النووي: تأوله
بتأويلات ضعيفة مردودة انتهى. واختلف القائلون في صورة - وهي ما إذا مات ووجدت
السلعة - فقال الشافعي: الحكم كذلك وصاحب السلعة أحق بها من غيره. وقال مالك
وأحمد: هو أسوة الغرماء، واحتجا بما في مرسل مالك "وإن مات الذي ابتاعه فصاحب
المتاع فيه أسوة الغرماء " وفرقوا بين الفلس والموت بأن الميت خربت ذمته فليس
للغرماء محل يرجعون إليه فاستووا في ذلك، بخلاف المفلس. واحتج الشافعي بما رواه من
طريق عمر بن خلدة قاضي المدينة عن أبي هريرة قال: "قضى رسول الله صلى الله
عليه وسلم أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه" وهو
حديث حسن يحتج بمثله، أخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم، وزاد
بعضهم في آخره: "إلا أن يترك صاحبه وفاء" ورجحه الشافعي على المرسل
وقال: يحتمل أن يكون آخره من رأى أبي بكر بن عبد الرحمن، لأن الذين وصلوه عنه لم
يذكروا قضية الموت، وكذلك الذين رووا عن أبي هريرة وغيره لم يذكروا ذلك، بل صرح
ابن خلدة عن أبي هريرة بالتسوية بين الإفلاس والموت فتعين المصير إليه لأنها زيادة
من ثقة. وجزم ابن العربي المالكي بأن الزيادة التي في مرسل مالك من قول الراوي،
وجمع الشافعي أيضا بين الحديثين بحمل حديث ابن خلدة على ما إذا مات مفلسا، وحديث
أبي بكر بن
(5/64)
عبد الرحمن على ما إذا مات مليئا والله أعلم. ومن فروع المسألة ما إذا أراد الغرماء أو الورثة إعطاء صاحب السلعة الثمن، فقال مالك: يلزمه القبول، وقال الشافعي وأحمد: لا يلزمه ذلك لما فيه من المنة، ولأنه ربما ظهر غريم آخر فزاحمه فيما أخذ. وأغرب ابن التين فحكى عن الشافعي أنه قال: لا يجوز له ذلك، ليس له إلا سلعته. ويلتحق بالمبيع المؤجر فيرجع مكتري الدابة أو الدار إلى عين دابته وداره ونحو ذلك، وهذا هو الصحيح عن الشافعية والمالكية. وإدراج الإجارة في هذا الحكم متوقف على أن المنافع يطلق عليها اسم المتاع أو المال، أو يقال اقتضى الحديث أن يكون أحق بالعين، ومن لوازم ذلك الرجوع في المنافع، فثبت بطريق اللزوم. واستدل به على حلول الدين المؤجل بالفلس من حيث أن صاحب الدين أدرك متاعه بعينه فيكون أحق به، ومن لوازم ذلك أن يجوز له المطالبة بالمؤجل وهو قول الجمهور، لكن الراجح عند الشافعية أن المؤجل لا يحل بذلك لأن الأجل حق مقصود له فلا يفوت، واستدل به على أن لصاحب المتاع أن يأخذه وهو الأصح من قولي العلماء، والقول الآخر يتوقف على حكم الحاكم كما يتوقف ثبوت الفلس، واستدل به على فسخ البيع إذا امتنع المشتري من أداء الثمن مع قدرته بمطل أو هرب قياسا على الفلس بجامع تعذر الوصول إليه حالا، والأصح من قولي العلماء أنه لا يفسخ، واستدل به على أن الرجوع إنما يقع في عين المتاع دون زوائده المنفصلة لأنها حدثت على ملك المشتري وليست بمتاع البائع. والله أعلم.
(5/65)
باب من أخر الغريم إلى الغد أو نحوه
ولم بر ذلك مطلا
...
15 - باب: مَنْ أَخَّرَ الْغَرِيمَ إِلَى الْغَدِ أَوْ نَحْوِهِ وَلَمْ يَرَ
ذَلِكَ مَطْلًا
وَقَالَ جَابِرٌ: "اشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ فِي دَيْنِ أَبِي
فَسَأَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلُوا
ثَمَرَ حَائِطِي فَأَبَوْا فَلَمْ يُعْطِهِمْ الْحَائِطَ وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ
وَقَالَ: سَأَغْدُو عَلَيْكَ غَدًا فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ فَدَعَا فِي
ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ، فَقَضَيْتُهُمْ"
قوله: "باب من أخر الغريم إلى الغد أو نحوه ولم ير ذلك مطلا" ذكر فيه
حديث جابر في قصة دين أبيه معلقا، وقد تقدم موصولا قريبا من طريق ابن كعب بن مالك
عن جابر، لكنه ليس فيه قوله: "ولم يكسره لهم" وذكرها في حديثه في كتاب
الهبة كما سيأتي، واستنبط من قوله صلى الله عليه وسلم: "سأغدو عليكم"
جواز تأخير القسمة لانتظار ما فيه مصلحة لمن عليه الدين ولا يعد ذلك مطلا.
"تنبيه" سقطت هذه الترجمة وحديثها من رواية النسفي، ولم يذكرها ابن بطال
ولا أكثر الشراح.
(5/65)
16 - باب: مَنْ بَاعَ مَالَ
الْمُفْلِسِ أَوْ الْمُعْدِمِ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَوْ أَعْطَاهُ
حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ
2403- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ
الْمُعَلِّمُ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أَعْتَقَ رَجُلٌ غُلاَمًا لَهُ
عَنْ دُبُرٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟
فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَخَذَ ثَمَنَهُ فَدَفَعَهُ
إِلَيْهِ"
قوله: "باب من باع مال المفلس أو المعدم فقسمه بين الغرماء، أو أعطاه حتى
ينفق على نفسه" ذكر فيه حديث
(5/16)
باب ‘ذا أقرضه إلى أجل مسمى أو أجله في
البيع
...
17 - باب: إِذَا أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَوْ أَجَّلَهُ فِي الْبَيْعِ
قَالَ: ابْنُ عُمَرَ فِي الْقَرْضِ إِلَى أَجَلٍ لاَ بَأْسَ بِهِ وَإِنْ أُعْطِيَ
أَفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ
وَقَالَ عَطَاءٌ: وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ هُوَ إِلَى أَجَلِهِ فِي الْقَرْضِ
2404- وَقَالَ: اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
"عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ
رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ
يُسْلِفَهُ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قوله: "باب إذا أقرضه إلى أجل مسمى أو أجله في البيع" أما القرض إلى أجل
فهو مما اختلف فيه، والأكثر على جوازه في كل شيء، ومنعه الشافعي. وأما البيع إلى
أجل فجائز اتفاقا. وكأن البخاري احتج للجواز في القرض بالجواز في البيع مع ما
استظهر به من أثر ابن عمر وحديث أبي هريرة. قوله: "وقال ابن عمر الخ"
وصله ابن أبي شيبة من طريق المغيرة قال: "قلت لابن عمر: إني أسلف جيراني إلى
العطاء فيقضوني أجود من دراهمي، قال: لا بأس به ما لم تشترط". وروى مالك في
"الموطأ" بإسناد صحيح "أن ابن عمر استسلف من رجل دراهم فقضاه خيرا
منها" وقد تقدم الكلام على هذا الشق في "باب استقراض الإبل". قوله:
"وقال عطاء وعمرو بن دينار: هو إلى أجله في القرض" وصله عبد الرزاق عن
ابن جريج عنهما. قوله: "وقال الليث الخ" ذكر طرفا من حديث الذي أسلف ألف
دينار، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في "باب الكفالة".
(5/66)
باب الشفاعة في وضع اليدين
...
1 - باب: الشَّفَاعَةِ فِي وَضْعِ الدَّيْنِ
2405- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ عَامِرٍ
عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أُصِيبَ عَبْدُ اللَّهِ وَتَرَكَ
عِيَالًا وَدَيْنًا فَطَلَبْتُ إِلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ أَنْ يَضَعُوا بَعْضًا
مِنْ دَيْنِهِ فَأَبَوْا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاسْتَشْفَعْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا فَقَالَ: صَنِّفْ تَمْرَكَ كُلَّ
شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ: عِذْقَ ابْنِ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَاللِّينَ عَلَى
حِدَةٍ وَالْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ ثُمَّ أَحْضِرْهُمْ حَتَّى آتِيَكَ فَفَعَلْتُ
ثُمَّ جَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ عَلَيْهِ وَكَالَ لِكُلِّ
رَجُلٍ حَتَّى اسْتَوْفَى وَبَقِيَ التَّمْرُ كَمَا هُوَ كَأَنَّهُ لَمْ
يُمَسَّ"
2406- وَغَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
نَاضِحٍ لَنَا فَأَزْحَفَ الْجَمَلُ فَتَخَلَّفَ عَلَيَّ فَوَكَزَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَلْفِهِ قَالَ: بِعْنِيهِ وَلَكَ
ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا دَنَوْنَا اسْتَأْذَنْتُ قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَمَا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ: ثَيِّبًا أُصِيبَ عَبْدُ اللَّهِ
وَتَرَكَ جَوَارِيَ صِغَارًا فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا تُعَلِّمُهُنَّ
وَتُؤَدِّبُهُنَّ ثُمَّ قَالَ: ائْتِ أَهْلَكَ فَقَدِمْتُ فَأَخْبَرْتُ خَالِي
بِبَيْعِ الْجَمَلِ فَلاَمَنِي فَأَخْبَرْتُهُ بِإِعْيَاءِ الْجَمَلِ، وَبِالَّذِي
كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَكْزِهِ إِيَّاهُ
فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَوْتُ إِلَيْهِ
بِالْجَمَلِ فَأَعْطَانِي ثَمَنَ الْجَمَلِ وَالْجَمَلَ وَسَهْمِي مَعَ
الْقَوْمِ"
قوله: "باب الشفاعة في وضع الدين" أي في تخفيفه، ذكر فيه حديث جابر في
دين أبيه، وفيه حديثه في قصة بيع الجمل جمعهما في سياق واحد، والمقصود منه قوله:
"فطلبت إلى أصحاب الدين أن يضعوا بعضا فأبوا، فاستشفعت بالنبي صلى الله عليه
وسلم عليهم فأبوا" الحديث. وقوله في هذه الرواية: "صنف تمرك" أي
اجعل كل صنف وحده، وقوله: "على حدة" بكسر الحاء وتخفيف الدال أي على
انفراد، وقوله: "عذق ابن زيد" بفتح العين وسكون الذال المعجمة نوع جيد
من التمر، والعذق بالفتح النخلة، واللين بكسر اللام وسكون التحتانية نوع من التمر،
وقيل هو الرديء. وقوله: "فأزحف" بفتح الهمزة وسكون الزاي وفتح المهملة
أي كل وأعيا، وأصله أن البعير إذا تعب يجر رسنه وكأنهم كنوا بقولهم أزحف رسنه أي
جره من الإعياء ثم حذفوا المفعول لكثرة الاستعمال. وحكى ابن التين أن في بعض النسخ
بضم الهمزة وزعم أن الصواب زحف الجمل من الثلاثي، وكأنه لم يقف على ما قدمناه.
وقوله: "ووكزه" كذا للأكثر بالواو أي ضربه بالعصا، وفي رواية أبي ذر عن
المستملي والحموي "وركزه" بالراء أي ركز فيه العصا والمراد المبالغة في
ضربه بها، سيأتي بقية الكلام على دين أبيه في علامات النبوة، وعلى بيع جمله في
الشروط إن شاء الله تعالى.
(5/67)
باب ما ينهى عن إضاعة المال وقوله
(والله لا يحب الفساد)
...
19 - باب: مَا يُنْهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وَ {لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} ،
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تعالى {أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ
آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ
(5/67)
نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}
وَقَالَ تعالى {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} وَمَا يُنْهَى عَنْ
الْخِدَاعِ
2407- حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار سمعت بن عمر رضي الله
عنهما قال: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أخدع في البيوع، فقال:
إذا بايعت فقل لا خلابة فكان الرجل يقوله"
2408- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ
عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ
شُعْبَةَ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ وَكَرِهَ
لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ"
قوله: "باب ما ينهى عن إضاعة المال، وقول الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ لا
يُحِبُّ الْفَسَادَ} كذا للأكثر، ووقع في رواية النسفي "إن الله لا يحب
الفساد" والأول هو الذي وقع في التلاوة. قوله: "ولا يُصْلِحُ عَمَلَ
الْمُفْسِدِينَ" كذا للأكثر، ولابن شبويه والنسفي "لا يحب" بدل لا
يصلح، قيل وهو سهو، ووجهه عندي - إن ثبت - أنه لم يقصد التلاوة لأن أصل التلاوة
{إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} . قوله: "وقال:
{أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ} - إلى قوله: - {مَا نَشَاءُ} قال المفسرون:
كان ينهاهم عن إفسادها فقالوا ذلك، أي إن شئنا حفظناها وان شئنا طرحناها. قوله:
"وقال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} الآية" قال الطبري
بعد أن حكى أقوال المفسرين في المراد بالسفهاء: الصواب عندنا أنها عامة في حق كل
سفيه صغيرا كان أو كبيرا ذكرا كان أو أنثى، والسفيه هو الذي يضيع المال ويفسده
بسوء تدبيره. قوله: "والحجر في ذلك" أي في السفه، وهو معطوف على قوله:
"إضاعة المال" والحجر في اللغة المنع، وفي الشرع المنع من التصرف في
المال، فتارة يقع لمصلحة المحجور عليه وتارة لحق غير المحجور عليه، والجمهور على
جواز الحجر على الكبير، وخالف أبو حنيفة وبعض الظاهرية ووافق أبو يوسف ومحمد، قال
الطحاوي لم أر عن أحد من الصحابة منع الحجر عن الكبير ولا عن التابعين إلا عن
إبراهيم النخعي وابن سيرين، ومن حجة الجمهور حديث ابن عباس أنه كتب إلى نجدة
"وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف
الأخذ لنفسه ضعيف العطاء، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما أخذ الناس فقد ذهب عنه
اليتم" وهو وإن كان موقوفا فقد ورد ما يؤيده كما سيأتي بعد بابين. قوله:
"وما ينهى عن الخداع" أي في حق من يسيء التصرف في ماله وإن لم يحجر
عليه. ثم ساق المصنف حديث ابن عمر في قصة الذي كان يخدع في البيوع، وقد تقدم
الكلام عليه في "باب ما يكره من الخداع في البيع" من كتاب البيوع، وفيه
توجيه الاحتجاج به للحجر على الكبير، ورد قول من احتج به لمنع ذلك والله المستعان.
قوله: "حدثني عثمان" هو ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور
هو ابن المعتمر، والإسناد كله كوفيون لكن سكن جرير الري، ومنصور وشيخه وشيخ شيخه
تابعيون في نسق. قوله: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات" يل خص الأمهات
بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء، ولينبه على أن بر الأم مقدم
على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك، والمقصود من إيراد هذا الحديث هنا قوله
فيه: "وإضاعة المال" وقد قال الجمهور: إن المراد به السرف في إنفاقه،
وعن سعيد بن جبير إنفاقه في الحرام، وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الأدب إن شاء
الله تعالى.
(5/68)
20 – باب: الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ
سَيِّدِهِ وَلاَ يَعْمَلُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
2409- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ:
فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ
رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ
رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ فَسَمِعْتُ هَؤُلاَءِ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ
عَنْ رَعِيَّتِهِ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"
قوله: "باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه" ذكر فيه حديث ابن
عمر "كلكم راع ومسئول عن رعيته" وفيه: "والخادم في مال سيده وهو
مسئول" كذا في رواية أبي ذر ولغيره: "في مال سيده راع وهو مسئول"
ولفظ الترجمة يأتي في النكاح من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر فذكر الحديث وفيه:
"والعبد راع على مال سيده وهو مسئول " وكأن المصنف استنبط قوله:
"ولا يعمل إلا بإذنه" من قوله: "وهو مسئول" لأن الظاهر أنه
يسأل هل جاوز ما أمره به أو وقف عنده. قوله: "فسمعت هؤلاء من النبي صلى الله
عليه وسلم، وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال: والرجل راع في مال أبيه" هذا
ظاهر في أن القائل "وأحسب" هو ابن عمر، وقد قدمت جزم الكرماني في
"باب الجمعة في القرى" بأنه يونس الراوي له عن الزهري وتعقبته، وسيأتي
الكلام على شرح الحديث في أول الأحكام إن شاء الله تعالى.
(5/69)
كتاب الخصومات
باب مايذكر في الإشخاص والخصومة بين المسلم واليهود
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
44 - كتاب الخصومات
1 - باب: مَا يُذْكَرُ فِي الإِشْخَاصِ، وَالْخُصُومَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ
وَالْيَهُودِ
2410- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ مَيْسَرَةَ أَخْبَرَنِي قَالَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ سَمِعْتُ
عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: "سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ مِنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلاَفَهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ
فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ قَالَ شُعْبَةُ أَظُنُّهُ قَالَ: لاَ تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ
مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا"
[الحديث2410 – أطرافه في: 1408 ، 3414 ، 3476 ، 4813 ، 5063 ، 6517 ، 6518 ، 7428
، 7477]
2411- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "اسْتَبَّ رَجُلاَنِ: رَجُلٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ قَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى
مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى
عَلَى الْعَالَمِينَ فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ
الْيَهُودِيِّ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ فَدَعَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ
فَأَخْبَرَهُ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى
مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَصْعَقُ مَعَهُمْ
فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَنِبَ الْعَرْشِ فَلاَ
أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى
اللَّهُ"
2412- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَالِسٌ جَاءَ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ ضَرَبَ وَجْهِي
رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِكَ فَقَالَ مَنْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ
ادْعُوهُ فَقَالَ: أَضَرَبْتَهُ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ بِالسُّوقِ يَحْلِفُ وَالَّذِي
اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ قُلْتُ أَيْ خَبِيثُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ ضَرَبْتُ وَجْهَهُ فَقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ
النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ
عَنْهُ الأَرْضُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ
الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ أَمْ حُوسِبَ بِصَعْقَةِ
الأُولَى"
[الحديث 2412- أطرافه في: 3398 ، 4638 ، 6916 ، 6917 ، 7427]
(5/70)
2413- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا
هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
"يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ قِيلَ: مَنْ فَعَلَ
هَذَا بِكِ أَفُلاَنٌ أَفُلاَنٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ
بِرَأْسِهَا فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ"
[الحديث 2413 - أطرافه في: 2746 ، 5295 ، 6876 ، 6877 ، 6879 ، 6884 ، 6885]
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - ما يذكر في الإشخاص والخصومة بين المسلم
واليهود" كذا للأكثر، ولبعضهم "واليهودي" بالإفراد، زاد أبو ذر
أوله "في الخصومات" وزاد في أثنائه "والملازمة". والإشخاص
بكسر الهمزة إحضار الغريم من موضع إلى موضع، يقال شخص بالفتح من بلد إلى بلد وأشخص
غيره. والملازمة مفاعلة من اللزوم، والمراد أن يمنع الغريم غريمه من التصرف حتى يعطيه
حقه. ثم ذكر في هذا الباب أربعة أحاديث. الأول قوله: "عبد الملك بن ميسرة
أخبرني" هو من تقديم الراوي على الصيغة وهو جائز عندهم، وابن ميسرة المذكور
هلالي كوفي تابعي يقال له الزراد بزاي ثم راء ثقيلة، وشيخه النزال بفتح النون
وتشديد الزاي ابن سبرة بفتح المهملة وسكون الموحدة هلالي أيضا من كبار التابعين،
وذكره بعضهم في الصحابة لإدراكه، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث عن عبد الله
بن مسعود وآخر في الأشربة عن علي، وقد أعاد حديث الباب في أحاديث الأنبياء وفي
فضائل القرآن، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك، والمقصود منه هنا قوله: "فأخذت
بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنه المناسب للترجمة. قوله:
"سمعت رجلا" سيأتي أنه يحتمل أن يفسر بعمر رضي الله عنه. قوله:
"آية" في "المبهمات" للخطيب أنها من سورة الأحقاف. قوله:
"قال شعبة" و بالإسناد المذكور، وقوله: "أظنه قال: "فاعل
القول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالإسناد المذكور. الثاني والثالث حديث
أبي هريرة وحديث أبي سعيد في قصة اليهودي الذي لطمه المسلم حيث قال: "والذي
اصطفى موسى" وسيأتي الكلام عليهما في أحاديث الأنبياء ؛ وقوله في حديث أبي
سعيد "والذي اصطفى موسى على البشر" كذا للأكثر، وللكشميهني: "على
النبيين". الحديث الرابع حديث أنس في قصة اليهودي الذي رض رأس الجارية،
وسيأتي الكلام عليه في كتاب الديات إن شاء الله تعالى".
(5/71)
2 - باب: مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ
وَالضَّعِيفِ الْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الإِمَامُ
وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ قَبْلَ النَّهْيِ ثُمَّ نَهَاهُ
وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ وَلَهُ عَبْدٌ لاَ
شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ فَأَعْتَقَهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ
قوله: "باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام"
يعني وفاقا لابن القاسم، وقصره أصبغ على من ظهر سفهه. وقال غيره من المالكية لا
يرد مطلقا إلا ما تصرف فيه بعد الحجر وهو قول الشافعية وغيرهم، واحتج ابن القاسم
بقصة المدبر حيث رد النبي صلى الله عليه وسلم بيعه قبل الحجر عليه؛ واحتج غيره
بقصة الذي كان يخدع في البيوع حيث لم يحجر عليه ولم يفسخ ما تقدم من بيوعه. وأشار
البخاري بما ذكر من أحاديث الباب إلى التفصيل بين من ظهرت منه الإضاعة فيرد تصرفه
فيما إذا كان في الشيء الكثير أو المستغرق وعليه تحمل قصة المدبر، وبين ما إذا كان
في الشيء اليسير أو جعله له شرطا يأمن به من إفساد ماله فلا يرد وعليه تحمل قصة
الذي كان
(5/71)
يخدع. قوله: "ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على المتصدق قبل النهي ثم نهاه" قال عبد الحق: مراده قصة الذي دبر عبده فباعه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا أشار إلى ذلك ابن بطال ومن بعده حتى جعله مغلطاي حجة في الرد على ابن الصلاح حيث قرر أن الذي يذكره البخاري بغير صيغة الجزم لا يكون حاكما بصحته فقال مغلطاي: قد ذكره بغير صيغة الجزم هنا وهو صحيح عنده، وتعقبه شيخنا في "النكت على ابن الصلاح" بأن البخاري لم يرد بهذا التعليق قصة المدبر، وإنما أراد قصة الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فأمرهم فتصدقوا عليه فجاء في الثانية فتصدق عليه بأحد ثوبيه فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال وهو حديث ضعيف أخرجه الدار قطني وغيره. قلت: لكن ليس هو من حديث جابر وإنما هو حديث أبي سعيد الخدري، وليس بضعيف بل هو إما صحيح وإما حسن، أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم، وقد بسطت ذلك فيما كتبته على ابن الصلاح، والذي ظهر لي أولا أنه أراد حديث جابر في قصة الرجل الذي جاء ببيضة من ذهب أصابها في معدن فقال: "يا رسول الله خذها مني صدقة فوالله مالي مال غيرها فأعرض عنه، فأعاد فحذفه بها، ثم قال: يأتي أحدكم بماله لا يملك غيره فيتصدق به ثم يقعد بعد ذلك يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى" وهو عند أبي داود وصححه ابن خزيمة. ثم ظهر لي أن البخاري إنما أراد قصة المدبر كما قال عبد الحق، وإنما لم يجزم به لأن القدر الذي يحتاج إليه في هذه الترجمة ليس على شرطه، وهو من طريق أبي الزبير عن جابر أنه قال: "أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دبر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألك مال غيره؟ فقال لا" الحديث وفيه: "ثم قال ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك" الحديث، وهذه الزيادة تفرد بها أبو الزبير عن جابر وليس هو من شرط البخاري والبخاري لا يجزم غالبا إلا بما كان على شرطه. والله أعلم. قوله: "وقال مالك الخ" هكذا أخرجه ابن وهب في موطئه عنه، وأخذ مالك ذلك من قصة المدبر كما ترى.
(5/72)
3- باب: من باع على الضعيف ونحوه فدفع
ثمنه إليه وأمره بالإصلاح والقيام بشأنه فإن أفسد بعد منعه ، لأن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن إضاعة المال ، وقال للذي يخدع في البيع: إذا بعت فقل: لاخلابة
،ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ماله
2414- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا عبد الله بن دينار
قال: سمعت بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رجل يخدع في البيع، فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم إذا بايعت فقل لا خلابة فكان يقوله"
2415- حدثنا عاصم بن علي حدثنا بن أبي ذئب عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله
عنه "أن رجلا أعتق عبدا له ليس له مال غيره فرده النبي صلى الله عليه وسلم
فابتاعه منه نعيم بن النحام"
قوله: "ومن باع على الضعيف ونحوه فدفع ثمنه إليه وأمره بالإصلاح الخ"
هكذا للجميع، ولأبي ذر هنا "باب من باع الخ" والأول أليق، وقد تقدم
توجيه ما ذكره في هذا الموضع وأنه لا يمنع من التصرف إلا بعد ظهور الإفساد، وقد
مضى الكلام على حديث النهي عن إضاعة المال قبل بابين، وحديث الذي يخدع في كتاب
البيوع،
(5/72)
ويأتي حديث المدبر في كتاب العتق إن شاء الله تعالى.
(5/73)
4 - باب: كَلاَمِ الْخُصُومِ
بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ
2416 ، 2417 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ
الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا
فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانُ قَالَ فَقَالَ الأَشْعَثُ فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ كَانَ
بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ قُلْتُ لاَ قَالَ فَقَالَ
لِلْيَهُودِيِّ احْلِفْ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ
وَيَذْهَبَ بِمَالِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ
بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ"
2418- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ
أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ عَنْ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي
حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ
أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ
حُجْرَتِهِ فَنَادَى يَا كَعْبُ قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ضَعْ
مِنْ دَيْنِكَ هَذَا فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَيْ الشَّطْرَ قَالَ لَقَدْ فَعَلْتُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قُمْ فَاقْضِهِ"
2419- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ
الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ
الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِيهَا وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ
أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَجِئْتُ بِهِ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ
هَذَا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا فَقَالَ لِي أَرْسِلْهُ ثُمَّ
قَالَ لَهُ اقْرَأْ فَقَرَأَ قَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ لِي اقْرَأْ
فَقَرَأْتُ فَقَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ
أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ
[الحديث 2419- أطرافه في: 4992 ، 5041 ، 6936 ، 7550]
قوله: "باب كلام الخصوم بعضهم في بعض" أي فيما لا يوجب حدا ولا تعزيرا
فلا يكون ذلك من الغيبة المحرمة، ذكر فيه أربعة أحاديث: الأول والثاني حديث ابن
مسعود والأشعث في نزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ} وقد تقدم قريبا في "باب الخصومة في البئر" والغرض منه قوله:
"قلت يا رسول الله إذا يحلف ويذهب بمالي" فإنه نسبه إلى الحلف الكاذب،
ولم يؤاخذ بذلك لأنه أخبر بما يعلمه منه في حال التظلم منه. الثالث حديث كعب بن
(5/73)
مالك "أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا" الحديث، وقد تقدم الكلام عليه في "باب التقاضي والملازمة في المسجد" وليس الغرض منه هنا قوله: "فارتفعت أصواتهما" فإنه غير دال على ما ترجم به، لكن أشار إلى قوله في بعض طرقه: "فتلاحيا" وقد تقدم أن ذلك كان سببا لرفع ليلة القدر. فدل على أنه كان بينهما كلام يقتضي ذلك وهو الذي يثبت ما ترجم به. الرابع حديث عمر في قصته مع هشام بن حكيم في قراءة سورة الفرقان، وفيه مع إنكاره عليه بالقول إنكاره عليه بالفعل، وذلك على سبيل الاجتهاد منه، ولذلك لم يؤاخذ به. وسيأتي الكلام عليه في فضائل القرآن.
(5/74)
باب إحراج أهل المعاصي والخصوم من
البيوت بعد المعرفة وقد أخرج عمرأخت أبي بكر حين ناحت
...
5 – باب: إِخْرَاجِ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْخُصُومِ مِنْ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ
وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ
2420- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ ثُمَّ
أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ فَأُحَرِّقَ
عَلَيْهِمْ"
قوله: "باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة" أي
بأحوالهم، أو بعد معرفتهم بالحكم ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم. قوله: "وقد
أخرج عمر أخت أبي بكر حين ناحت" وصله ابن سعد في "الطبقات" بإسناد
صحيح من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "لما توفي أبو بكر أقامت عائشة
عليه النوح، فبلغ عمر فنهاهن فأبين، فقال لهشام بن الوليد: اخرج إلى بيت أبي قحافة
- يعني أم فروة - فعلاها بالدرة ضربات فتفرق النوائح حين سمعن بذلك" ووصله
إسحاق بن راهويه في مسنده من وجه آخر عن الزهري وفيه: "فجعل يخرجهن امرأة
امرأة وهو يضربهن بالدرة". ثم ذكر المصنف حديث أبي هريرة في إرادة تحريق
البيوت على الذين لا يشهدون الصلاة، وقد مضى الكلام عليه في "باب وجوب صلاة
الجماعة" وغرضه منه أنه إذا أحرقها عليهم بادروا بالخروج منها فثبت مشروعية
الاقتصار على إخراج أهل المعصية من باب الأولى، ومحل إخراج الخصوم إذا وقع منهم من
المراء واللدد ما يقتضي ذلك.
(5/74)
6 - بَاب: دَعْوَى الْوَصِيِّ
لِلْمَيِّتِ
2421- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ
عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ فَقَالَ سَعْدٌ يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَوْصَانِي أَخِي إِذَا قَدِمْتُ أَنْ أَنْظُرَ ابْنَ أَمَةِ
زَمْعَةَ فَأَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنِي وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ أَخِي
وَابْنُ أَمَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي فَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ هُوَ لَكَ يَا
عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا
سَوْدَةُ"
(5/74)
7 - باب التَّوَثُّقِ مِمَّنْ تُخْشَى
مَعَرَّتُهُ
وَقَيَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِكْرِمَةَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ
وَالْفَرَائِضِ
2422- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ
"بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا قِبَلَ
نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ
أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي
الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ قَالَ عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ - فقَالَ أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ"
قوله: "باب التوثق ممن يخشى معرته" بفتح الميم والمهملة وتشديد الراء،
أي فساده وعبثه. قوله: "وقيد ابن عباس عكرمة على تعليم القرآن والسنن
والفرائض" وصله ابن سعد في "الطبقات" وأبو نعيم في
"الحلية" من طريق حماد بن زيد عن الزبير بن الخريت - بكسر المعجمة
والراء المشددة بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة - عن عكرمة قال: "كان ابن عباس
يجعل في رجلي الكبل" فذكره، والكبل بفتح الكاف وسكون الموحدة بعدها لام هو
القيد. ثم ذكر حديث أبي هريرة في قصة ثمامة بن أثال مختصرا، والشاهد منه قوله:
"فربطوه بسارية من سواري المسجد" وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب
المغازي إن شاء الله تعالى.
(5/75)
8 – باب: الرَّبْطِ وَالْحَبْسِ فِي
الْحَرَمِ
وَاشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ مِنْ
صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَلَى أَنَّ عُمَرَ إِنْ رَضِيَ فَالْبَيْعُ بَيْعُهُ
وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُ مِائَةِ دِينَارٍ وَسَجَنَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ
2423- حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا الليث قال حدثنا سعيد بن أبي سعيد سمع
أبا هريرة قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من
بني حنيفة يقال له ثمامة بن آثال فربطوه بسارية من سواري المسجد"
قوله: "باب الربط والحبس في الحرم" كأنه أشار بذلك إلى رد ما ذكر عن
طاوس، فعند ابن أبي شيبة من طريق قيس بن سعد عنه أنه "كان يكره السجن بمكة
ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة. فأراد البخاري معارضة قول طاوس
بأثر عمر وابن الزبير: وصفوان ونافع وهم من الصحابة. وقوي ذلك بقصة ثمامة وقد ربط
في مسجد المدينة وهي أيضا حرم فلم يمنع ذلك من الربط فيه. قوله: "واشترى نافع
بن عبد الحارث دارا للسجن
(5/75)
9 - باب: فِي الْمُلاَزَمَةِ
2424- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ
بْنُ رَبِيعَةَ وَقَالَ: غَيْرُهُ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي
جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ
الأَسْلَمِيِّ دَيْنٌ فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ فَتَكَلَّمَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ
أَصْوَاتُهُمَا فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ يَا كَعْبُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ النِّصْفَ فَأَخَذَ
نِصْفَ مَا عَلَيْهِ وَتَرَكَ نِصْفًا
قوله: "باب في الملازمة" ذكر فيه حديث كعب بن مالك أنه كان له على عبد
الله بن أبي حدرد دين، وقد تقدم
(5/76)
الكلام عليه في باب التقاضي والملازمة في المسجد. قوله فيه: "حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن جعفر" وقال غيره: "حدثني الليث قال: حدثني جعفر بن ربيعة" وصله الإسماعيلي من طريق شعيب بن الليث عن أبيه، ووقع في رواية الأصيلي وكريمة قبل هذه الترجمة بسملة وسقطت للباقين.
(5/77)
10 - باب: التَّقَاضِي
2425- حدثنا إسحاق حدثنا وهب بن جرير بن حازم أخبرنا شعبة عن الأعمش عن أبي الضحى
عن مسروق عن خباب قال: "كنت قينا في الجاهلية وكان لي على العاص بن وائل
دراهم فأتيته أتقاضاه فقال لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد
صلى الله عليه وسلم حتى يميتك الله ثم يبعثك قال فدعني حتى أموت ثم أبعث فأوتى
مالا وولدا ثم أقضيك فنزلت {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ
لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} الآية"
قوله: "باب التقاضي" أي المطالبة، ذكر فيه حديث خباب بن الأرت في مطالبة
العاصي بن وائل، وسيأتي شرحه في تفسير سورة مريم إن شاء الله تعالى.
"خاتمة": اشتمل كتاب الاستقراض وما معه من الحجر والتفليس وما اتصل به
من الإشخاص والملازمة على خمسين حديثا، المعلق منها ستة، المكرر منها فيه وفيما
مضى ثمانية وثلاثون حديثا والبقية خالصة، وافقه مسلم على جميعها سوى حديث أبي
هريرة "من أخذ أموال الناس يريد إتلافها" وحديث: "ما أحب أن لي
أحدا ذهبا" وحديث: "لي الواجد" وحديث ابن مسعود في الاختلاف في
القراءة. وفيه من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم اثنا عشر أثرا. والله أعلم.
(5/77)
كتاب اللقطة
باب إذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
45 - كِتَاب فِي اللُّقَطَةِ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب اللقطة" كذا للمستملي والنسفي،
واقتصر الباقون على البسملة وما بعدها. واللقطة الشيء الذي يلتقط، وهو بضم اللام
وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدثين. وقال عياض: لا يجوز غيره. وقال
الزمخشري في الفائق: اللقطة بفتح القاف والعامة تسكنها. كذا قال، وقد جزم الخليل
بأنها بالسكون قال: وأما بالفتح فهو اللاقط: وقال الأزهري: هذا الذي قاله هو
القياس، ولكن الذي سمع من العرب وأجمع عليه أهل اللغة والحديث الفتح. وقال ابن
بري: التحريك للمفعول نادر، فاقتضى أن الذي قاله الخليل هو القياس. وفيها لغتان
أيضا: لقاطة بضم اللام، ولقطة بفتحها. وقد نظم الأربعة ابن مالك حيث قال:
لقاطة ولقطة ولقطه ... ولقطة ما لاقط قد لقطه
ووجه بعض المتأخرين فتح القاف في المأخوذ أنه للمبالغة، وذلك لمعنى فيها اختصت به،
وهو أن كل من يراها يميل لأخذها فسميت باسم الفاعل لذلك.
1 - باب: إِذَا أَخْبَرَهُ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالْعَلاَمَةِ دَفَعَ إِلَيْهِ
2426- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ
حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ
غَفَلَةَ قَالَ: لَقِيتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ:
"أَصَبتُ صُرَّةً فيها مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا
فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا،
فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلاَثًا فَقَالَ: احْفَظْ
وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَ
فَاسْتَمْتِعْ بِهَا، فَاسْتَمْتَعْتُ. فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ: لاَ
أَدْرِي ثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلًا وَاحِدًا"
[الحديث 2426- طرفه في: 2437]
قوله: "باب إذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه" أورد فيه حديث أبي
بن كعب "أصبت صرة فيها مائة دينار" كذا للمستملي، وللكشميهني:
"وجدت" وللباقين "أخذت". ولم يقع في سياقه ما ترجم به صريحا،
وكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه كما سيأتي ذكره. قوله: "حدثنا آدم حدثنا
شعبة، وحدثني محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة" هكذا ساقه عاليا ونازلا،
والسياق للإسناد النازل. وقد أخرجه البيهقي من طريق آدم مطولا. قوله: "فإن
جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها" في رواية حماد بن سلمة وسفيان الثوري وزيد بن
أنيسة عند مسلم وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طريق الثوري وأحمد وأبو داود من
طريق حماد كلهم عن سلمة بن كهيل في هذا الحديث: "فإن جاء أحد يخبرك بعددها
ووعائها ووكائها فأعطها إياه" لفظ مسلم. وأما قول أبي داود: إن هذه الزيادة
زادها حماد بن سلمة وهي غير محفوظة فتمسك بها من حاول تضعيفها فلم يصعب، يل هي
صحيحة، وقد عرفت من وافق
(5/78)
حمادا عليها وليست شاذة. وقد أخذ بظاهرها مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي: إن وقع في نفسه صدقه جاز أن يدفع إليه، ولا يجبر على ذلك إلا ببينة، لأنه قد يصيب الصفة. وقال الخطابي: إن صحت هذه اللفظة لم يجز مخالفتها، وهي فائدة قوله: "اعرف عفاصها الخ" وإلا فالاحتياط مع من لم ير الرد إلا بالبينة، قال: ويتأول قوله: "اعرف عفاصها" على أنه أمره بذلك لئلا تختلط بماله. أو لتكون الدعوى فيها معلومة. وذكر غيره من فوائد ذلك أيضا أن يعرف صدق المدعي من كذبه، وأن فيه تنبيها على حفظ الوعاء وغيره لأن العادة جرت بإلقائه إذا أخذت النفقة، وأنه إذا نبه على حفظ الوعاء كان فيه تنبيه على حفظ المال من باب الأولى. قلت: قد صحت هذه الزيادة فتعين المصير إليها، وسيأتي أيضا في حديث زيد بن خالد في آخر أبواب اللقطة، وما اعتل به بعضهم من أنه إذا وصفها فأصاب فدفعها إليه فجاء شخص آخر فوصفها فأصاب لا يقتضي الطعن في الزيادة، فإنه يصير الحكم حينئذ كما لو دفعها إليه بالبينة فجاء آخر فأقام بينة أخرى أنها له، وفي ذلك تفاصيل للمالكية وغيرهم. وقال بعض متأخري الشافعية: يمكن أن يحمل وجوب الدفع لمن أصاب الوصف على ما إذا كان ذلك قبل التملك. لأنه حينئذ مال ضائع لم يتعلق به حق ثان، بخلاف ما بعد التملك فإنه حينئذ يحتاج المدعي إلى البينة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" ثم قال: أما إذا صحت الزيادة فتخص صورة الملتقط من عموم "البينة على المدعي" والله أعلم. وقوله: "احفظ وعاءها وعددها ووكاءها" الوعاء بالمد وبكسر الواو وقد تضم، وقرأ بها الحسن في قوله: {قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} وقرأ سعيد بن جبير "إعاء" بقلب الواو المكسورة همزة. والوعاء ما يجعل فيه الشيء، سواء كان من جلد أو خزف أو خشب أو غير ذلك. والوكاء بكسر الواو والمد الخيط الذي يشد به الصرة وغيرها. وزاد في حديث زيد بن خالد "العفاص" وسيأتي ذكره وشرحه وحكم هذه العلامات في الباب الذي بعده. قوله: "فلقيته بعد بمكة" القائل شعبة، والذي قال: "لا أدري" هو شيخه سلمة بن كهيل، وقد بينه مسلم من رواية بهز بن أسد عن شعبة أخبرني سلمة بن كهيل واختصر الحديث، قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: "عرفها عاما واحدا". وقد بينه أبو داود الطيالسي في مسنده أيضا فقال في آخر الحديث: "قال شعبة فلقيت سلمة بعد ذلك فقال لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا" . وأغرب ابن بطال فقال: الذي شك فيه هو أبي بن كعب، والقائل هو سويد بن غفلة انتهى. ولم يصب في ذلك إن تبعه جماعة منهم المنذري، بل الشك فيه من أحد رواته وهو سلمة لما استثبته فيه شعبة، وقد رواه غير شعبة عن سلمة بن كهيل بغير شك جماعة وفيه هذه الزيادة، وأخرجها مسلم من طريق الأعمش والثوري وزيد بن أبي أنيسة وحماد بن سلمة كلهم عن سلمة وقال: قالوا في حديثهم جميعا ثلاثة أحوال، إلا حماد بن سلمة فإن في حديثه عامين أو ثلاثة. وجمع بعضهم بين حديث أبي هذا وحديث زيد بن خالد الآتي في الباب الذي يليه فإنه لم يختلف عليه في الاقتصار على سنة واحدة فقال: يحمل حديث أبي بن كعب على مزيد الورع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها، وحديث زيد على ما لا بد منه، أو لاحتياج الأعرابي واستغناء أبي. قال المنذري: لم يقل أحد من أئمة الفتوى أن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام، إلا شيء جاء عن عمر انتهى. وقد حكاه الماوردي عن شواذ من الفقهاء. وحكى بن المنذر عن عمر أربعة أقوال: يعرفها ثلاثة أحوال، عاما واحدا، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام. ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها. وزاد ابن حزم عن عمر قولا خامسا وهو أربعة أشهر. وجزم ابن حزم وابن الجوزي بأن هذه الزيادة غلط. قال: والذي يظهر أن سلمة أخطأ فيها ثم
(5/79)
تثبت واستذكر واستمر على عام واحد، ولا يؤخذ إلا بما لم يشك فيه راويه. وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عرف أن تعريفها لم يقع على الوجه الذي ينبغي، فأمر أبيا بإعادة التعريف كما قال للمسيء صلاته "ارجع فصل فإنك لم تصل" انتهى. ولا يخفى بعد هذا على مثل أبي مع كونه من فقهاء الصحابة وفضلائهم. وقد حكى صاحب الهداية من الحنفية رواية عندهم أن الأمر في التعريف مفوض لأمر الملتقط، فعليه أن يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك، والله أعلم. وسيأتي بقبة الكلام على حديث أبي بن كعب في أواخر أبواب اللقطة قريبا إن شاء الله تعالى.
(5/80)
2 - باب: ضَالَّةِ الإِبِلِ
2427- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ رَبِيعَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ
بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ
فَقَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ
أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا وَإِلاَ فَاسْتَنْفِقْهَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ ضَالَّةُ
الإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ
وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ"
قوله: "باب ضالة الإبل" أي هل تلتقط أم لا؟ والضال الضائع، والضال في
الحيوان كاللقطة في غيره، والجمهور على القول بظاهر الحديث في أنها لا تلتقط. وقال
الحنفية: الأولى أن تلتقط، وحمل بعضهم النهي على من التقطها ليتملكها لا ليحفظها
فيجوز له، وهو قول الشافعية. وكذا إذا وجدت بقرية فيجوز التملك على الأصح عندهم،
والخلاف عند المالكية أيضا، قال العلماء حكمة النهي عن التقاط الإبل أن بقاءها حيث
ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبه لها في رحال الناس. وقالوا: في معنى الإبل
كل ما امتنع بقوته عن صغار السباع. قوله: "حدثنا عبد الرحمن" هو ابن
مهدي، وسفيان هو الثوري. قوله: "عن ربيعة" هو ابن أبي عبد الرحمن
المعروف بالرأي بسكون الهمزة، وقد رواه ابن وهب عن الثوري وغيره: "أن ربيعة حدثهم"
أخرجه مسلم. قوله: "مولى المنبعث" بضم الميم وسكون النون وفتح الموحدة
وكسر المهملة بعدها مثلثة، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد ذكره في العلم
والشرب وهنا في مواضع، ويأتي في الطلاق والأدب. قوله: "جاء أعرابي" في
رواية مالك عن ربيعة "جاء رجل" وزعم ابن بشكوال وعزاه لأبي داود وتبعه
بعض المتأخرين أن السائل المذكور هو بلال المؤذن، ولم أر عند أبي داود في شيء من
النسخ شيئا من ذلك، وفيه بعد أيضا لأنه لا يوصف بأنه أعرابي، وقيل السائل هو
الراوي وفيه بعد أيضا لما ذكرناه. ومستند من قال ذلك ما رواه الطبراني من وجه آخر
عن ربيعة بهذا الإسناد فقال فيه: "إنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم لكن رواه
أحمد من وجه آخر عن زيد بن خالد فقال فيه: "أنه سأل النبي صلى الله عليه
وسلم: أو أن رجلا سأل" على الشك. وأيضا فإن في رواية ابن وهب المذكورة عن زيد
بن خالد "أتى رجل وأنا معه" فدل هذا على أنه غيره، ولعله نسب السؤال إلى
نفسه لكونه كان مع السائل. ثم ظفرت بتسمية السائل وذلك فيما أخرجه الحميدي والبغوي
وابن السكن والبارودي والطبراني كلهم من طريق محمد بن معن الغفاري عن ربيعة
(5/80)
عن عقبة بن سويد الجهني عن أبيه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: عرفها سنة ثم أوثق وعاءها" فذكر الحديث. وقد ذكر أبو داود طرفا منه تعليقا ولم يسق لفظه. وكذلك البخاري في تاريخه. وهو أولى ما يفسر به هذا المبهم لكونه من رهط زيد بن خالد. وروى أبو بكر بن أبي شيبة والطبراني من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: "قلت يا رسول الله الورق يوجد عند القرية، قال: عرفها حولا" الحديث، وفيه سؤاله عن الشاة والبعير وجوابه وهو في أثناء حديث طويل أخرج أصله النسائي. وروى الإسماعيلي في "الصحابة" من طريق مالك بن عمير عن أبيه أنه "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: إن وجدت من يعرفها فادفعها إليه" الحديث وإسناده واه جدا، وروى الطبراني من حديث الجارود العبدي قال: "قلت يا رسول الله اللقطة نجدها، قال: أنشدها ولا تكتم ولا تغيب" الحديث. قوله: "فسأله عما يلتقطه" في أكثر الروايات أنه سأل عن اللقطة، زاد مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن يزيد مولى المنبعث "الذهب والفضة" وهو كالمثال وإلا فلا فرق بينهما وبين الجوهر واللؤلؤ مثلا وغير ذلك مما يستمتع به غير الحيوان في تسميته لقطة وفي إعطائه الحكم المذكور. ووقع لأبي داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن أبيه بلفظ: "وسئل عن اللقطة". قوله: "عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها" في رواية العقدي عن سليمان بن بلال الماضية في العلم "اعرف وكاءها أو قال عفاصها" ولمسلم من طريق بشير بن سعيد عن زيد بن خالد "فاعرف عفاصها ووعاءها وعددها" زاد فيه العدد كما في حديث أبي بن كعب. ووقع في رواية مالك كما سيأتي بعد باب "اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة" ووافقه الأكثر. نعم وافق الثوري ما أخرجه أبو داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث بلفظ: "عرفها حولا، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإلا اعرف وكاءها وعفاصها ثم اقبضها في مالك" الحديث. وهو يقتضي أن التعريف يقع بعد معرفة ما ذكر من العلامات. ورواية الباب تقتضي أن التعريف يسبق المعرفة. وقال النووي: يجمع بينهما بأن يكون مأمورا بالمعرفة في حالتين، فيعرف العلامات أول ما يلتقط حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها كما تقدم، ثم بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها فيعرفها مرة أخرى تعرفا وافيا محققا ليعلم قدرها وصفتها فيردها إلى صاحبها. قلت: ويحتمل أن تكون "ثم" في الروايتين بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبا ولا تقتضي تخالفا يحتاج إلى الجمع، ويقويه كون المخرج واحد والقصة واحدة، وإنما يحسن ما تقدم أن لو كان المخرج مختلفا فيحمل على تعدد القصة، وليس الغرض إلا أن يقع التعرف والتعريف مع قطع النظر عن أيهما أسبق. واختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء أظهرهما الوجوب لظاهر الأمر، وقيل يستحب. وقال بعضهم يجب عند الالتقاط، ويستحب بعده. والعفاص بكسر المهملة وتخفيف الفاء وبعد الألف مهملة: الوعاء الذي تكون فيه النفقة جلدا كان أو غيره، وقيل له العفاص أخذا من العفص وهو الثني لأن الوعاء يثنى على ما فيه وقد وقع في "زوائد المسند" لعبد الله بن أحمد من طريق الأعمش عن سلمة في حديث أبي "وخرقتها" بدل عفاصها، والعفاص أيضا الجلد الذي يكون على رأس القارورة، وأما الذي يدخل فم القارورة من جلد أو غيره فهو الصمام بكسر الصاد المهملة. قلت: فحيث ذكر العفاص مع الوعاء فالمراد الثاني، وحيث لم يذكر العفاص مع الوعاء فالمراد به الأول، والغرض معرفة الآلات التي تحفظ النفقة. ويلتحق بما ذكر حفظ الجنس والصفة والقدر والكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن والذرع فيما يذرع. وقال جماعة من الشافعية: يستحب تقييدها بالكتابة خوف النسيان، واختلفوا فيما إذا عرف بعض الصفات دون بعض بناء على القول بوجوب الدفع لمن عرف الصفة، قال ابن القاسم:
(5/81)
لا بد من ذكر جميعها، وكذا قال أصبغ. لكن قال لا يشترط معرفة العدد، وقول ابن القاسم أقوى لثبوت ذكر العدد في الرواية الأخرى، وزيادة الحافظ حجة. وقوله: "عرفها" بالتشديد وكسر الراء أي اذكرها للناس، قال العلماء: محل ذلك المحافل كأبواب المساجد والأسواق ونحو ذلك، يقول: من ضاعت له نفقة أو نحو ذلك من العبارات، ولا يذكر شيئا من الصفات. وقوله: "سنة" أي متوالية فلو عرفها سنة متفرقة لم يكف كأن يعرفها في كل سنة شهرا فيصدق أنه عرفها سنة في اثنتي عشرة سنة. وقال العلماء: يعرفها في كل يوم مرتين ثم مرة ثم في كل أسبوع ثم في كل شهر، ولا يشترط أن يعرفها بنفسه بل يجوز بوكيله، ويعرفها في مكان سقوطها وفي غيره. قوله: "فإن جاء أحد يخبرك بها" جواب الشرط محذوف تقديره فأدها إليه. وفي رواية محمد بن يوسف عن سفيان كما سيأتي في آخر أبواب اللقطة "فإن جاء أحد يخبرك بعفاصها ووكائها" وقد تقدم البحث فيه. قوله: "وإلا فاستنفقها" سيأتي البحث فيه بعد أبواب، واستدل به على أن الملتقط يتصرف فيها سواء كان غنيا أو فقيرا. وعن أبي حنيفة إن كان غنيا تصدق بها وإن جاء صاحبها تخير بين إمضاء الصدقة أو تغريمه، قال صاحب الهداية: إلا إن كان يأذن الإمام فيجوز للغني كما في قصة أبي بن كعب، وبهذا قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين. قوله: "قال يا رسول الله فضالة الغنم" أي ما حكمها؟ فحذف ذلك للعلم به. قال العلماء: الضالة لا تقع إلا على الحيوان، وما سواه يقال له لقطة. ويقال للضوال أيضا الهوامي والهوافي بالميم والفاء والهوامل. قوله: "لك أو لأخيك أو للذئب" فيه إشارة إلى جواز أخذها، كأنه قال: هي ضعيفة لعدم الاستقلال معرضة للهلاك مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك، والمراد به ما هو أعم من صاحبها أو من ملتقط آخر، والمراد بالذئب جنس ما يأكل الشاة من السباع. وفيه حث له على أخذها لأنه إذا علم أنه إن لم يأخذها بقيت للذئب كان ذلك أدعى له إلى أخذها. ووقع في رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة كما سيأتي بعد أبواب "فقال: خذها، فإنما هي لك" الخ، وهو صريح في الأمر بالأخذ، ففيه دليل على رد إحدى الروايتين عن أحمد في قوله: "يترك التقاط الشاة"، وتمسك به مالك في أنه يملكها بالأخذ ولا يلزمه غرامة ولو جاء صاحبها. واحتج له بالتسوية بين الذئب والملتقط، والذئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط. وأجيب بأن اللام ليست للتمليك لأن الذئب لا يملك وإنما يملكها الملتقط على شرط ضمانها. وقد أجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط لأخذها فدل على أنها باقية على ملك صاحبها، ولا فرق بين قوله في الشاة "هي لك أو لأخيك أو للذئب" وبين قوله في اللقطة "شأنك بها أو خذها" بل هو أشبه بالتملك لأنه لم يشرك معه ذئبا ولا غيره، ومع ذلك فقالوا في النفقة يغرمها إذا تصرف فيها ثم جاء صاحبها. وقال الجمهور: يجب تعريفها، فإذا انقضت مدة التعريف أكلها إن شاء وغرم لصاحبها، إلا أن الشافعي قال: لا يجب تعريفها إذا وجدت في الفلاة، وأما في القرية فيجب في الأصح. قال النووي: احتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى "فإن جاء صاحبها فأعطها إياه" وأجابوا عن رواية مالك بأنه لم يذكر الغرامة ولا نفاها فثبت حكمها بدليل آخر انتهى. وهو يوهم أن الرواية الأولى من روايات مسلم فيها ذكر حكم الشاة إذا أكلها الملتقط، ولم أر ذلك في شيء من روايات مسلم ولا غيره في حديث زيد بن خالد، نعم عند أبي داود والترمذي والنسائي والطحاوي والدار قطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في ضالة الشاة "فاجمعها حتى يأتيها باغيها" . قوله: "فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم" هو بالعين المهملة الثقيلة أي تغير، وأصله في الشجر إذا قل ماؤه فصار قليل النضرة عديم الإشراق، ويقال للوادي المجدب أمعر، ولو روي تمغر بالغين المعجمة لكان له وجه أي صار بلون المغرة وهو حمرة شديدة إلى كمودة،
(5/82)
ويقويه أن قوله في رواية إسماعيل بن جعفر "فغضب حتى احمرت وجنتاه أو وجهه". قوله: "مالك ولها" زاد في رواية سليمان بن بلال عن ربيعة السابقة في العلم "فذرها حتى يلقاها ربها" . قوله: "معها حذاؤها وسقاؤها" الحذاء بكسر المهملة بعدها معجمة مع المد أي خفها، وسقاؤها أي جوفها وقيل عنقها، وأشار بذلك إلى استغنائها عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش وتناول المأكول بغير تعب لطول عنقها فلا تحتاج إلى ملتقط.
(5/83)
3 - باب: ضَالَّةِ الْغَنَمِ
2428- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ
بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ أَنَّهُ سَمِعَ
زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "سُئِلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَالَ:
اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً " يَقُولُ يَزِيدُ
إِنْ لَمْ تُعْرَفْ اسْتَنْفَقَ بِهَا صَاحِبُهَا وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ
قَالَ يَحْيَى فَهَذَا الَّذِي لاَ أَدْرِي أَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِهِ" ثُمَّ قَالَ:
كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خُذْهَا
فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ " قَالَ يَزِيدُ:
وَهِيَ تُعَرَّفُ أَيْضًا" ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الإِبِلِ
قَالَ فَقَالَ: دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ
وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا"
قوله: "باب ضالة الغنم" كأنه أفردها بترجمة ليشير إلى افتراق حكمها عن
الإبل، وقد انفرد مالك بتجويز أخذ الشاة وعدم تعريفها متمسكا بقوله: "هي
لك" وأجيب بأن اللام ليست للتمليك كما أنه قال أو للذئب والذئب لا يملك
باتفاق، وقد أجمعوا على أن مالكها لو جاء قبل أن يأكلها الواجد لأخذها منه. قوله:
"حدثنا إسماعيل بن عبد الله" هو ابن أبي أويس، وقد روى الكثير عن شيخه
هنا سليمان بن بلال بواسطة. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد الأنصاري، وسبق
في العلم من وجه آخر عن سليمان بن بلال عن ربيعة فكأن له فيه شيخين، وقد أخرجه
الطحاوي من طريق عبد الله بن محمد الفهمي عن سليمان بن بلال عنهما جميعا عن يزيد مولى
المنبعث، وأخرجه النسائي وابن ماجة والطحاوي من طريق ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن
ربيعة عن يزيد فجعل ربيعة شيخ يحيى لا رفيقه، لكن سيأتي في آخر الطلاق من رواية
سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن يزيد مرسلا "قال سفيان قال يحيى وقال
ربيعة عن يزيد بن خالد قال سفيان ولقيت ربيعة فحدثني به" فالحاصل أن من رواه
عن يحيى عن يزيد عن زيد يكون قد سوى الإسناد فإن يحيى إنما سمع ذكر زيد فيه بواسطة
ربيعة، ويحتمل أن يكون يحيى لما حدث به سفيان كان ذاهلا عنه ثم ذكره لما حدث به
سليمان والله أعلم. قوله: "فزعم" أي قال. والزعم يستعمل في القول المحقق
كثيرا. قوله: "ثم عرفها سنة، يقول يزيد إن لم تعرف استنفق بها صاحبها"
أي ملتقطها وكانت وديعة عنده "قال يحيى هذا الذي لا أدري أهو في الحديث أم
شيء من عنده" أي من عند يزيد، والقائل يقول يزيد هو يحيى بن سعيد الأنصاري. والقائل
"قال: "هو سليمان، وهما موصولان بالإسناد المذكور "والغرض أن يحيى
بن سعيد شك هل قوله: "ولتكن وديعة عنده" مرفوع أو لا، وهذا القدر المشار
إليه بهذا دون ما قبله لثبوت ما قبله في أكثر الروايات وخلوها عن ذكر الوديعة، وقد
جزم يحيى بن سعيد برفعه مرة أخرى وذلك فيما أخرجه مسلم عن القعنبي
(5/83)
والإسماعيلي من طريق يحيى بن حسان كلاهما عن سليمان بن بلال عن يحيى فقال فيه: "فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك" وكذلك جزم برفعها خالد بن مخلد عن سليمان بن ربيعة عند مسلم، والفهمي عن سليمان عن يحيى وربيعة جميعا عند الطحاوي، وقد أشار البخاري إلى رجحان رفعها فترجم بعد أبواب "إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه، لأنها وديعة عنده" وسيأتي الكلام على المراد بكونها وديعة هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "قال يزيد وهي تعرف أيضا" هو بتشديد الراء وهو موصول بالإسناد المذكور، ولم يشك يحيى في كون هذه الجملة موقوفة على يزيد، ولم أرها مرفوعة في شيء من الطرق؛ وقد تقدم حكاية الخلاف فيه في الباب الذي قبله.
(5/84)
4 - باب: إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ
اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا
2429- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ
بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ
بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ
عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَ
فَشَأْنَكَ بِهَا قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ
أَوْ لِلذِّئْبِ. قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا
سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا
رَبُّهَا"
قوله: "باب إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها" أي غنيا كان
أو فقيرا كما تقدم، أورد فيه حديث زيد بن خالد المذكور من جهة مالك عن ربيعة وفيه
قوله: "ثم عرفها ستة، فإن جاء صاحبها وإلا شأنك بها" فيه حذف تقديره فإن
جاء صاحبها فأدها إليه وإن لم يجيء فشأنك بها، فحذف من هذه الرواية جواب الشرط
الأول وشرط "إن" الثانية والفاء من جوابها قاله ابن مالك في حديث أبي
الآتي في أواخر أبواب اللقطة بلفظ: "فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها"
وإنما وقع الحذف من بعض الرواة دون بعض، فقد تقدم حديث أبي في أول اللقطة بلفظ:
"فاستمتع بها" بإثبات الفاء في الجواب الثاني، ومضى من رواية الثوري عن
ربيعة في حديث الباب بلفظ: "وإلا فاستنفقها" ومثله ما سيأتي بعد أبواب
من رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة بلفظ: "ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها
إليه" ولمسلم من طريق ابن وهب المقدم ذكرها "فإذا لم يأت لها طالب
فاستنفقها" . واستدل به على أن اللاقط يملكها بعد انقضاء مدة التعريف، وهو
ظاهر نص الشافعي، فإن قوله: "شأنك بها" تفويض إلى اختياره، وقوله:
"فاستنفقها" الأمر فيه للإباحة، والمشهور عند الشافعية اشتراط التلفظ
بالتمليك، وقيل تكفي النية وهو الأرجح دليلا، وقيل تدخل في ملكه بمجرد الالتقاط،
وقد روى الحديث سعيد بن منصور عن الدراوردي عن ربيعة بلفظ: "وإلا فتصنع بها
ما تصنع بمالك" . قوله: "شأنك بها" الشأن الحال أي تصرف فيها، وهو
بالنصب أي الزم شأنك بها، ويجوز الرفع بالابتداء والخبر "بها" أي شأنك
متعلق بها، واختلف العلماء فيما إذا تصرف في اللقطة بعد تعريفها سنة ثم جاء صاحبها
هل يضمنها له أم لا؟ فالجمهور على وجوب الرد إن كانت العين موجودة، أو البدل إن
كانت استهلكت، وخالف في ذلك الكرابيسي صاحب الشافعي ووافقه صاحباه البخاري وداود
بن علي إمام الظاهرية، لكن وافق داود الجمهور إذا كانت العين قائمة، ومن حجة
الجمهور قوله في الرواية
(5/84)
الماضية "ولتكن وديعة عندك" وقوله أيضا عند مسلم في رواية بشر بن سعيد عن زيد بن خالد "فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه" فإن ظاهر قوله: "فإن جاء صاحبها الخ". بعد قوله: "كلها" يقتضي وجوب ردها بعد أكلها فيحمل على رد البدل، ويحتمل أن يكون في الكلام حذف يدل عليه بقية الروايات، والتقدير فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها إن لم يجيء صاحبها فإن جاء صاحبها فأدها إليه، وأصرح من ذلك رواية أبي داود من هذا الوجه بلفظ: "فإن جاء باغيها فأدها إليه، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء باغيها فأدها إليه" فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده، وهي أقوى حجة للجمهور، وروى أبو داود أيضا من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن أبيه عن زيد بن خالد في هذا الحديث: "فإن جاء صاحبها دفعتها إليه وإلا عرفت وكاءها وعفاصها ثم اقبضها في مالك فإن جاء صاحبها فادفعها إليه" وإذا تقرر هذا أمكن حمل قول المصنف في الترجمة "فهي لمن وجدها" أي في إباحة التصرف فيها حينئذ، وأما أمر ضمانها بعد ذلك فهو ساكت عنه، قال النووي: إن جاء صاحبها قبل أن يتملكها الملتقط أخذها بزوائدها المتصلة والمنفصلة، وأما بعد التملك فإن لم يجيء صاحبها فهي لمن وجدها ولا مطالبة عليه في الآخرة، وإن جاء صاحبها فإن كانت موجومة بعينها استحقها بزوائدها المتصلة ومهما تلف منها لزم الملتقط غرامته للمالك وهو قول الجمهور. وقال بعض السلف: لا يلزمه، وهو ظاهر اختيار البخاري والله أعلم. وسأذكر بقية فوائد حديث زيد بن خالد بعد أربعة أبواب إن شاء الله تعالى.
(5/85)
5 - باب: إِذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِي
الْبَحْرِ أَوْ سَوْطًا أَوْ نَحْوَهُ
2430- وَقَالَ: اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
"عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ
رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ فَخَرَجَ يَنْظُرُ لَعَلَّ
مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا هُوَ بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا
لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ"
قوله: "باب إذا وجد خشبة في البحر أو سوطا أو نحوه" أي ماذا يصنع به، هل
يأخذه أو يتركه؟ وإذا أخذه هل يتملكه أو يكون سبيله سبيل اللقطة؟ وقد اختلف
العلماء في ذلك. قوله: "وقال الليث الخ" تقدم الكلام عليه مستوفى في
الكفالة، وأورده هنا مختصرا، وسبق توجيه استنباط الترجمة منه وأنها من جهة أن شرع
من قبلنا شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما يخالفه، ولا سيما إذا ساقه الشارع مساق
الثناء على فاعله، فبهذا التقدير تم المراد من جواز أخذ الخشبة من البحر. وقد
اختلف العلماء في ذلك على ما سأذكره. وأما السوط وغيره فلم يقع له ذكر في الباب،
فاعترضه ابن المنير بسبب ذلك، وأجيب بأنه استنبطه بطريق الإلحاق. ولعله أشار
بالسوط إلى أثر يأتي بعد أبواب في حديث أبي بن كعب، أو أشار إلى ما أخرجه أبو داود
من حديث جابر قال: "رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط
والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به" وفي إسناده ضعف، واختلف في رفعه
ووقفه، والأصح عند الشافعية أنه لا فرق في اللقطة بين القليل والكثير في التعريف
وغيره، وفي وجه لا يجب التعريف أصلا، وقيل تعرف مرة وقيل ثلاثة أيام وقيل زمنا يظن
أن فاقده أعرض عنه، وهذا كله في قليل له قيمة أما ما لا قيمة له كالحبة الواحدة
فله الاستبداد به على الأصح، وفي الباب الذي يليه في حديث التمرة حجة لذلك،
(5/85)
وعند الحنفية أن كل شيء يعلم أن صاحبه لا يطلبه كالنواة جاز أخذه والانتفاع به من غير تعريف، إلا أنه يبقى على ملك صاحبه. وعند المالكية كذلك إلا أنه يزول ملك صاحبه عنه، فإن كان له قدر ومنفعة وجب تعريفه. واختلفوا في مدة التعريف، فإن كان مما يتسارع إليه الفساد جاز أكله ولا يضمن على الأصح.
(5/86)
6 - باب: إِذَا وَجَدَ تَمْرَةً فِي
الطَّرِيقِ
2431- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ
عَنْ طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "مَرَّ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ قَالَ لَوْلاَ
أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لاَكَلْتُهَا"
2432- وقال: يحيى حدثنا سفيان حدثني منصور. وقال زائدة عن منصور عن طلحة حدثنا أنس
وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِّي
لاَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي
فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا"
قوله: "باب إذا وجد تمرة في الطريق" أي يجوز له أخذها وأكلها وكذا نحوها
من المحقرات، وهو المشهور المجزوم به عند الأكثر، وأشار الرافعي إلى تخريج وجه
فيه. وقد روى ابن أبي شيبة من طريق ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها وجدت
تمرة فأكلتها وقالت: لا يحب الله الفساد، تعني أنها لو تركت فلم تؤخذ فتؤكل فسدت.
قوله: "عن طلحة" هو ابن مصرف. قوله: "لأكلتها" ظاهر في جواز
أكل ما يوجد من المحقرات ملقى في الطرقات، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لم
يمتنع من أكلها إلا تورعا لخشية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه، لا لكونها
مرمية في الطريق فقط. وقد أوضح ذلك قوله في حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب:
"على فراشي" فإنه ظاهر في أنه ترك أخذها تورعا لخشية أن تكون صدقة، فلو
لم يخش ذلك لأكلها، ولم يذكر تعريفا فدل على أن مثل ذلك يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى
تعريف، لكن هل يقال إنها لقطة لأن اللقطة ما من شأنه أن يتملك دون ما لا قيمة له؟
وقد استشكل بعضهم تركه صلى الله عليه وسلم التمرة في الطريق مع أن الإمام يأخذ
المال الضائع للحفظ وأجيب باحتمال أن يكون أخذها كذلك لأنه ليس في الحديث ما
ينفيه، أو تركها عمدا لينتفع بها من يجدها ممن تحل له الصدقة، وإنما يجب على
الإمام حفظ المال الذي يعلم تطلع صاحبه له، لا ما جرت به العادة بالإعراض عنه
لحقارته. والله أعلم. قوله: "وقال يحيى" أي ابن سعيد القطان، وقد وصله
مسدد في مسنده عنه، أخرجه الطحاوي من طريق مسدد. قلت: ولسفيان فيه إسناد آخر أخرجه
ابن أبي شيبة عن وكيع عنه بهذا الإسناد إلى طلحة فقال: "عن ابن عمر أنه وجد
تمرة فأكلها". قوله: "وقال زائدة الخ" وصله مسلم من طريق أبي أسامة
عن زائدة. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك، وقد تقدم الكلام
عليه مستوفى في أوائل البيوع.
(5/86)
7 - باب: كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ
أَهْلِ مَكَّةَ؟
وَقَالَ: طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا
إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا"
(5/86)
8 - باب: لاَ تُحْتَلَبُ مَاشِيَةُ
أَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ
2435- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ
امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ
فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ
ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ فَلاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ
إِلاَّ بِإِذْنِهِ"
قوله: "باب لا تحتلب ماشية أحد بغير إذنه" هكذا أطلق الترجمة على وفق
ظاهر الحديث إشارة إلى الرد على من
(5/88)
خصصه أو قيده. قوله: "عن نافع" في "موطأ محمد بن الحسن" عن مالك أخبرنا نافع. وفي رواية أبي قطن في "الموطآت للدار قطني" قلت لمالك أحدثك نافع. قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية يزيد بن الهاد عن مالك عند الدار قطني أيضا أنه "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول". قوله: "لا يحلبن" كذا في البخاري وأكثر الموطآت بضم اللام. وفي رواية ابن الهاد المذكورة "لا يحتلبن بكسرها وزيادة المثناة قبلها. قوله: "ماشية امرئ" في رواية ابن الهاد وجماعة من رواة الموطأ "ماشية رجل" وهو كالمثال وإلا فلا اختصاص لذلك بالرجال، وذكره بعض شراح الموطأ بلفظ: "ماشية أخيه" وقال: هو للغالب إذ لا فرق في هذا الحكم بين المسلم والذمي، وتعقب بأنه لا وجود لذلك في الموطأ وبإثبات الفرق عند كثير من أهل العلم كما سيأتي في فوائد هذا الحديث، وقد رواه أحمد من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ: "نهى أن يحتلب مواشي الناس إلا بإذنهم" والماشية تقع على الإبل والبقر والغنم، ولكنه في الغنم يقع أكثر قاله في النهاية. قوله: "مشربته" بضم الراء وقد تفتح أي غرفته، والمشربة مكان الشرب بفتح الراء خاصة والمشربة بالكسر إناء الشرب. قوله: "خزانته" الخزانة المكان أو الوعاء الذي يخزن فيه ما يراد حفظه، وفي رواية أيوب عند أحمد "فيكسر بابها". قوله: "فينتقل" بالنون والقاف وضم أوله يفتعل من النقل أي تحول من مكان إلى آخر، كذا في أكثر الموطآت عن مالك، ورواه بعضهم كما حكاه ابن عبد البر، وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة وغيره بلفظ: "فينتثل" بمثلثة بدل القاف، والنثل النثر مرة واحدة بسرعة، وقيل الاستخراج وهو أخص من النقل، وهكذا أخرجه مسلم من رواية أيوب وموسى بن عقبة وغيرهما عن نافع، ورواه عن الليث عن نافع بالقاف، وهو عند ابن ماجة من هذا الوجه بالمثلثة. قوله: "تخزن" بالخاء المعجمة الساكنة والزاي المضمومة بعدها نون. وفي رواية الكشميهني: "تحرز" بضم أوله وإهمال الحاء وكسر الراء بعدها زاي. قوله: "ضروع" الضرع للبهائم كالثدي للمرأة. قوله: "أطعماتهم" هو جمع أطعمة والأطعمة جمع طعام والمراد به هنا اللبن، قال ابن عبد البر: في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئا إلا بإذنه، وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه فنبه به على ما هو أولى منه، وبهذا أخذ الجمهور، لكن سواء كان بإذن خاص أو إذن عام، واستثنى كثير من السلف ما إذا علم بطيب نفس صاحبه، وإن لم يقع منه إذن خاص ولا عام، وذهب كثير منهم إلى الجواز مطلقا في الأكل والشرب سواء علم بطيب نفسه أو لم يعلم، والحجة لهم ما أخرجه أبو داود والترمذي وصححه من رواية الحسن عن سمرة مرفوعا: "إذا أتى أحدكم على ماشية فإن لم يكن صاحبها فيها فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحلب وليشرب ولا يحمل" إسناده صحيح إلى الحسن، فمن صحح سماعه من سمرة صححه ومن لا أعله بالانقطاع، لكن له شواهد من أقواها حديث أبي سعيد مرفوعا: "إذا أتيت على راع فناده ثلاثا، فإن أجابك وإلا فاشرب من غير أن تفسد، وإذا أنيت على حائط بستان" فذكر مثله أخرجه ابن ماجة والطحاوي وصححه ابن حبان والحاكم، وأجيب عنه بأن حديث النهي أصح، فهو أولى بأن يعمل به، وبأنه معارض للقواعد القطعية في تحريم مال المسلم بغير إذنه فلا يلتفت إليه، ومنهم من جمع بين الحديثين بوجوه من الجمع: منها حمل الإذن على ما إذا علم طيب نفس صاحبه، والنهي على ما إذا لم يعلم. ومنها تخصيص الإذن بابن السبيل دون عمره أو بالمضطر أو بحال المجاعة مطلقا وهي متقاربة، وحكى ابن بطال عن بعض شيوخه أن حديث الإذن كان في زمنه صلى الله عليه وسلم وحديث النهي أشار به إلى ما سيكون بعده من التشاح وترك المواساة. ومنهم من حمل حديث
(5/89)
النهي على ما إذا كان المالك أحوج من المار لحديث أبي هريرة "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة فثبنا إليها فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم، أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب؟ قلنا: لا، قال: فإن ذلك كذلك" أخرجه أحمد وابن ماجة واللفظ له. وفي حديث أحمد "فابتدرها القوم ليحلبوها" قالوا فيحمل حديث الإذن على ما إذا لم يكن المالك محتاجا، وحديث النهي على ما إذا كان مستغنيا. ومنهم من حمل الإذن على ما إذا كانت غير مصرورة والنهي على ما إذا كانت مصرورة لهذا الحديث، لكن وقع عند أحمد في آخره: "فإن كنتم لا بد فاعلين فاشربوا ولا تحملوا" فدل على عموم الإذن في المصرور وغيره، لكن بقيد عدم الحمل ولا بد منه. واختار ابن العربي الحمل على العادة قال: وكانت عادة أهل الحجاز والشام وغيرهم المسامحة في ذلك بخلاف بلدنا، قال: ورأى بعضهم أن مهما كان على طريق لا يعدل إليه ولا يقصد جاز للمار الأخذ منه، وفيه إشارة إلى قصر ذلك على المحتاج. وأشار أبو داود في "السنن" إلى قصر ذلك على المسافر في الغزو، وآخرون إلى قصر الأذن على ما كان لأهل الذمة والنهي على ما كان للمسلمين، واستؤنس بما شرطه الصحابة على أهل الذمة من ضيافة المسلمين وصح ذلك عن عمر. وذكر ابن وهب عن مالك في المسافر ينزل بالذمي قال: لا يأخذ منه شيئا إلا بإذنه، قيل له: فالضيافة التي جعلت عليهم؟ قال: كانوا يومئذ يخفف عنهم بسببها؛ وأما الآن فلا. وجنح بعضهم إلى نسخ الأذن وحملوه على أنه كان قبل إيجاب الزكاة، قالوا: وكانت الضيافة حينئذ واجبة ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة. قال الطحاوي: وكان ذلك حين كانت الضيافة واجبة ثم نسخت فنسخ ذلك الحكم وأورد الأحاديث في ذلك. وسيأتي الكلام على حكم الضيافة في المظالم قريبا إن شاء الله تعالى. وقال النووي في "شرح المهذب": اختلف العلماء فيمن مر ببستان أو زرع أو ماشية، قال الجمهور: لا يجوز أن يأخذ منه شيئا إلا في حال الضرورة فيأخذ ويغرم عند الشافعي والجمهور. وقال بعض السلف: لا يلزمه شيء، وقال أحمد: إذا لم يكن على البستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة في أصح الروايتين ولو لم يحتج لذلك، وفي الأخرى إذا احتاج ولا ضمان عليه في الحالين، وعلق الشافعي القول بذلك على صحة الحديث، قال البيهقي: يعني حديث ابن عمر مرفوعا: "إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ خبيئة" أخرجه الترمذي واستغربه، قال البيهقي: لم يصح، وجاء من أوجه أخر غير قوية. قلت: والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح، وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها، وقد بينت ذلك في كتابي "المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة". وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للإفهام وتمثيل ما قد يخفى بما هو أوضح منه، واستعمال القياس في النظائر، وفيه ذكر الحكم بعلته وإعادته بعد ذكر العلة تأكيدا وتقريرا، وأن القياس لا يشترط في صحته مساواة الفرع للأصل بكل اعتبار، بل ربما كانت للأصل مزية لا يضر سقوطها في الفرع إذا تشاركا في أصل الصفة، لأن الضرع لا يساوي الخزانة في الحرز كما أن الصر لا يساوي القفل فيه، ومع ذلك فقد ألحق الشارع الضرع المصرور في الحكم بالخزانة المقفلة في تحريم تناول كل منهما بغير إذن صاحبه، أشار إلى ذلك ابن المنير: وفيه إباحة خزن الطعام واحتكاره إلى وقت الحاجة إليه خلافا لغلاة المتزهدة المانعين من الادخار مطلقا قاله القرطبي. وفيه أن اللبن يسمى طعاما فيحنث به من حلف لا يتناول طعاما إلا أن يكون له نية في إحراج اللبن قاله النووي. قال: وفيه أن بيع لبن الشاة بشاة في ضرعها لبن باطل، وبه قال الشافعي والجمهور، وأجازه الأوزاعي. وفيه أن الشاة إذا كان لها لبن مقدور على حلبه قابله قسط من الثمن قاله الخطابي؛ وهو يؤيد خبر المصراة ويثبت حكمها في تقويم اللبن. وفيه أن من حلب من ضرع ناقة أو غيرها في
(5/90)
مصرورة محرزة بغير ضرورة ولا تأويل ما تبلغ قيمته ما يجب فيه القطع أن عليه القطع إن لم يأذن له صاحبها تعضهم أو إجمالا، لأن الحديث قد أفصح بأن ضروع الأنعام خزائن الطعام، وحكى القرطبي عن بعضهم وجوب القطع ولو لم تكن الغنم في حرز اكتفاء بحرز الضرع للبن، وهو الذي يقتضيه طاهر الحديث.
(5/91)
9 - باب: إِذَا جَاءَ صَاحِبُ
اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ رَدَّهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ
2436- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ
عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَجُلًا
سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ
قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْ
بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ
لِلذِّئْبِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ فَغَضِبَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ
- أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ - ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا
وَسِقَاؤُهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا"
قوله: "باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنه ردها عليه لأنها وديعة عنده"
أورد فيه حديث زيد بن خالد من طريق إسماعيل بن جعفر عن ربيعة، وليس فيه ذكر
الوديعة فكأنه أشار إلى رجحان رفع رواية سليمان بن بلال الماضية قبل خمسة أبواب
وقد تقدم بيانها. وقال ابن بطال: استراب البخاري بالشك المذكور فترجمه بالمعنى،
وقال ابن المنير: أسقطها لفظا وضمنها معنى لأن قوله: "فإن جاء صاحبها فأدها
إليه" يدل على بقاء ملك صاحبها خلافا لمن أباحها بعد الحول بلا ضمان. وقوله:
"ولتكن وديعة عندك" قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون المراد بعد
الاستنفاق، وهو ظاهر السياق، فتجوز بذكر الوديعة عن وجوب رد بدلها، لأن حقيقة
الوديعة أن تبقى عينها، والجامع وجوب رد ما يجد المرء لغيره وإلا فالمأذون في
استنفاقه لا تبقى عينه، ويحتمل أن تكون الواو في قوله: "ولتكن" بمعنى
أو، أي إما أن تستنفقها وتغرم بدلها وأما أن تتركها عندك على سبيل الوديعة حتى
يجيء صاحبها فتعطيها له، ويستفاد من تسميتها وديعة أنها لو تلفت لم يكن عليه
ضمانها وهو اختيار البخاري تبعا لجماعة من السلف، وقال ابن المنير: يستدل به لأحد
الأقوال عند العلماء إذا أتلفها الملتقط بعد التعريف وانقضاء زمنه ثم أخرج بدلها
ثم هلكت أن لا ضمان عليه في الثانية، وإذا ادعى أنه أكلها ثم غرمها ثم ضاعت قبل
قوله أيضا وهو الراجح من الأقوال، وتقدم الكلام على بقية فوائده قبل أربعة أبواب.
وقوله هنا: "حتى احمرت وجنتاه أو احمر وجهه" شك من الراوي، والوجنة ما
ارتفع من الخدين، وفيها أربع لغات: بالواو والهمزة والفتح فيهما والكسر.
(5/91)
باب هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع حتى
لا يأخ1ذها من لا يستحق؟
...
10 - باب: هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلاَ يَدَعُهَا تَضِيعُ حَتَّى لاَ
يَأْخُذَهَا مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ؟
2437- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ
بْنِ رَبِيعَةَ وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ فِي غَزَاةٍ فَوَجَدْتُ سَوْطًا فَقَالاَ
لِي أَلْقِهِ قُلْتُ لاَ وَلَكِنْ إِنْ وَجَدْتُ صَاحِبَهُ وَإِلاَ اسْتَمْتَعْتُ
بِهِ فَلَمَّا رَجَعْنَا حَجَجْنَا فَمَرَرْتُ بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلْتُ أُبَيَّ
بْنَ كَعْبٍ
(5/91)
11 - باب: مَنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ
وَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى السُّلْطَانِ
2438- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن
خالد رضي الله عنه "أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللقطة قال:
عرفها سنة فإن جاء أحد يخبرك بعفاصها ووكائها وإلا فاستنفق بها وسأله عن ضالة
الإبل فتمعر وجهه وقال: ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر،
دعها حتى يجدها ربها وسأله عن ضالة الغنم فقال: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب"
قوله: "باب من عرف اللقطة ولم يدفعها إلى السلطان" في رواية الكشميهني:
"يرفعها" بالراء بدل الدال، وكأنه أشار بالترجمة إلى رد قول الأوزاعي في
التفرقة بين القليل والكثير فقال: "إن كان قليلا عرفه وإن كان مالا كثيرا
رفعه إلى بيت المال" والجمهور على خلافه، نعم فرق بعضهم بين اللقطة والضوال،
وبعض المالكية والشافعية بين المؤتمن وغيره فقال: يعرف المؤتمن؛ وأما غير المؤتمن
فيدفعها إلى السلطان ليعطيها المؤتمن ليعرفها. وقال بعض المالكية إن كانت اللقطة
بين قوم مأمونين والسلطان جائز فالأفضل أن لا يلتقطها فإن التقطها لا يدفعها له،
وإن كان عادلا فكذلك ويخير في دفعها له، وإن كانت بين قوم مأمونين والإمام جائر
تخير الملتقط وعمل بما يترجح عنده، وإن كان عادلا فكذلك.
(5/93)
باب حدثني إسحاق بن إبراهيم أخبرنا
النضر أخبرنا إسرائيل .....
...
12 باب
2439- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا
إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ أَخْبَرَنِي الْبَرَاءُ عَنْ أَبِي
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ح حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ
حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "انْطَلَقْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ
يَسُوقُ غَنَمَهُ فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ -
فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ - فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ فَقَالَ
نَعَمْ فَقُلْتُ هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي قَالَ نَعَمْ فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ
شَاةً مِنْ غَنَمِهِ ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنْ الْغُبَارِ
ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ هَكَذَا ضَرَبَ إِحْدَى
كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى - فَحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ
فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَانْتَهَيْتُ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ"
[الحديث 2439- أطرافه في: 3615 ، 3652 ، 3908 ، 3917 ، 5607]
(5/93)
كتاب المظالم
باب قصاص المظالم
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
46 - كِتَاب الْمَظَالِمِ وَالْغَصْبِ
في المظالم والغضب، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ
غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ
فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} : رَافِعِي الْمُقْنِعُ
وَالْمُقْمِحُ وَاحِدٌ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب المظالم. في المظالم والغصب" كذا
للمستملي، وسقط "كتاب" لغيره، وللنسفي "كتاب الغصب باب في
المظالم". والمظالم جمع مظلمة مصدر ظلم يظلم واسم لما أخذ بغير حق، والظلم
وضع الشيء في غير موضعه الشرعي، والغصب أخذ حق الغير بغير حق. قوله: "وقول
الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}
- إلى – {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} " كذا لأبي ذر. وساق غيره الآية. قوله:
" {مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} : رافعي رءوسهم، المقنع والمقمح واحد" سقط
للمستملي والكشميهني قوله: "رافعي رءوسهم" وهو تفسير مجاهد أخرجه
الفريابي من طريقه وهو قول أكثر أهل اللغة والتفسير وكذا قاله أبو عبيدة في
"المجاز" واستشهد بقول الراجز:
أنهض نحوي رأسه وأقنعا ... كأنما أبصر شيئا أطمعا
وحكى ثعلب أنه مشترك، يقال أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع إذا طأطأه، ويحتمل أن يراد
الوجهان: أن يرفع رأسه ينظر، ثم يطأطئه ذلا وخضوعا قاله ابن التين، وأما قوله:
"المقنع والمقمح واحد" فذكره أبو عبيدة أيضا في "المجاز" في
تفسير سورة يس وزاد: معناه أن يجذب الذقن حتى تصير في الصدر ثم يرفع رأسه، وهذا
يساعد قول ابن التين لكنه بغير ترتيب. قوله: "وقال مجاهد: مهطعين مديمي
النظر. وقال غيره: مسرعين" ثبت هذا هنا لغير أبي ذر ووقع له هو في ترجمة
الباب الذي بعده، وتفسير مجاهد وصله الفريابي أيضا، وأما تفسير غيره فالمراد به
أبو عبيدة أيضا فكذا قاله واستشهد عليه، وهو قول قتادة والمعروف في اللغة، ويحتمل
أن يكون المراد كلا من الأمرين، وقال ثعلب: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع لا يقطع
بصره. قوله: "وأفئدتهم هواء يعني جوفا لا عقول لهم" وهو تفسير أبي عبيدة
أيضا في "المجاز" واستشهد بقول حسان:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوف نخب هواء
والهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، أي لا قوة في قلوبهم ولا جراءة. وقال ابن
عرفة: معناه نزعت أفئدتهم من أجوافهم.
1 - باب: قِصَاصِ الْمَظَالِمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مُهْطِعِينَ} مُدِيمِي النَّظَرِ وَيُقَالُ مُسْرِعِينَ لاَ
يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} يَعْنِي جُوفًا لاَ
عُقُولَ لَهُمْ {وَأَنْذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ
وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ
مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ
(5/95)
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ
لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا
مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الْجِبَالُ فَلاَ تَحْسِبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}
2440- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ
النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَتَقَاصُّونَ
مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا
أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
لاَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي
الدُّنْيَا"
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا
أَبُو الْمُتَوَكِّلِ
[الحديث 2440- طرفه في: 6535]
قوله: "باب قصاص المظالم" يعني يوم القيامة، ذكر فيه حديث أبي سعيد
الخدري، وقد ترجم عليه في كتاب الرقاق "باب القصاص يوم القيامة" ويأتي
الكلام عليه هناك. وقوله: "بقنطرة" الذي يظهر أنها طرف الصراط مما يلي
الجنة، ويحتمل أن تكون من غيره بين الصراط والجنة. وقوله: "فيتقاصون"
بتشديد المهملة يتفاعلون من القصاص، والمراد به تتبع ما بينهم من المظالم وإسقاط
بعضها ببعض. وقوله: "حتى إذا نقوا" بضم النون بعدها قاف من التنقية،
ووقع للمستملي هنا "تقصوا" بفتح المثناة والقاف وتشديد المهملة أي
أكملوا التقاص. قوله: "وهذبوا" أي خلصوا من الآثام بمقاصصة بعضها ببعض،
ويشهد لهذا الحديث قوله في حديث جابر الآتي ذكره في التوحيد "لا يحل لأحد من
أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد قبله مظلمة" والمراد بالمؤمنين هنا بعضهم،
وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى: قوله:
"وقال يونس بن محمد الخ" وصله ابن منده في كتاب الإيمان، وأراد البخاري
به تصريح قتادة عن أبي المتوكل بالتحديث، واسم أبي المتوكل علي بن دؤاد بضم الدال
بعدها همزة.
(5/96)
2 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
2441- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي
قَتَادَةُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ: "بَيْنَمَا
أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ
عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "فِي النَّجْوَى فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ
فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا
أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ
بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي
الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ
وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: هَؤُلاَءِ
الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الظَّالِمِينَ"
[الحديث 2441- أطرافه في: 4685 ، 6070 ، 7514]
قوله: "باب قول الله تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
" ذكر فيه حديث ابن عمر "يدني الله المؤمن فيضع عليه كنفه" الحديث
وسيأتي الكلام عليه مستوفى في التوحيد، وفي كتاب الرقاق الإشارة إليه. قوله في هذه
الرواية:
(5/96)
"كنفه" بفتح النون والفاء عند الجميع، ووقع لأبي ذر عن الكشميهني بكسر المثناة وهو تصحيف قبيح قاله عياض. ووجه دخوله في أبواب الغصب الإشارة إلى أن عموم قوله هنا "أغفرها لك" مخصوص بحديث أبي سعيد الماضي في الباب قبله.
(5/97)
3 - باب: لاَ يَظْلِمُ الْمُسْلِمُ
الْمُسْلِمَ وَلاَ يُسْلِمُهُ
2442- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ
يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ
فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ
يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ"
[الحديث 2442- طرفه في: 6951]
قوله: "باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه" بضم أوله يقال: أسلم فلان
فلانا إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوه، وهو عام في كل من أسلم لغيره، لكن
غلب في الإلقاء إلى الهلكة. قوله: "المسلم أخو المسلم" هذه أخوة
الإسلام، فإن كل اتفاق بين شيئين يطلق بينهما اسم الأخوة، ويشترك في ذلك الحر
والعبد والبالغ والمميز. قوله: "لا يظلمه" هو خبر بمعنى الأمر، فإن ظلم
المسلم للمسلم حرام، وقوله: "ولا يسلمه" أي لا يتركه مع من يؤذيه ولا
فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم، وقد يكون ذلك واجبا وقد
يكون مندوبا بحسب اختلاف الأحوال، وزاد الطبراني من طريق أخرى عن سالم "ولا
يسلمه في مصيبة نزلت به" ولمسلم في حديث أبي هريرة "ولا يحقره" وهو
بالمهملة والقاف، وفيه: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" .
قوله: "ومن كان في حاجة أخيه" في حديث أبي هريرة عند مسلم: "والله
في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" . قوله: "ومن فرج عن مسلم
كربة" أي غمة، والكرب هو الغم الذي يأخذ النفس، وكربات بضم الراء جمع كربة
ويجوز فتح راء كربات وسكونها. قوله: "ومن ستر مسلما" أي رآه على قبيح
فلم يظهره أي للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه،
ويحمل الأمر في جواز الشهادة عليه بذلك على ما إذا أنكر عليه ونصحه فلم ينته عن
قبيح فعله ثم جاهر به، كما أنه مأمور بأن يستتر إذا وقع منه شيء، فلو توجه إلى
الحاكم وأقر لم يمتنع ذلك، والذي يطهر أن الستر محله في معصية قد انقضت، والإنكار
في معصية قد حصل التلبس بها فيجب الإنكار عليه وإلا رفعه إلى الحاكم، وليس من
الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة، وفيه إشارة إلى ترك الغيبة لأن من أظهر
مساوئ أخيه لم يستره. قوله: "ستره الله يوم القيامة" في حديث أبي هريرة
عند الترمذي "ستره الله في الدنيا والآخرة" وفي الحديث حض على التعاون
وحسن التعاشر والألفة، وفيه أن المجازاة تقع من جنس الطاعات، وأن من حلف أن فلانا
أخوه وأراد أخوة الإسلام لم يحنث. وفيه حديث عن سويد بن حنظلة في أبي داود في قصة
له مع وائل بن حجر.
(5/97)
4 - باب: أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ
مَظْلُومًا
2443- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ سَمِعَ
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا"
[الحديث 2443- طرفاه في: 2444 ، 6952]
2444- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انْصُرْ
أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ
مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ"
قوله: "باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما" ترجم بلفظ الإعانة، وأورد الحديث
بلفظ النصر، فأشار إلى ما ورد في بعض طرقه، وذلك فيما رواه خديج بن معاوية - وهو
بالمهملة وآخره جيم مصغر - عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: "أعن أخاك ظالما أو
مظلوما" الحديث أخرجه ابن عدي، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من
الوجه الذي أخرجه منه البخاري بهذا اللفظ. قوله: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"
كذا أورده مختصرا عن عثمان، وأخرجه الإسماعيلي من طرق عنه كذلك، وسيأتي في الإكراه
من طريق أخرى عن هشيم عن عبيد الله وحده وفيه من الزيادة "فقال رجل: يا رسول
الله أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تحجزه عن الظلم
فإن ذلك نصره" وهكذا أخرجه أحمد عن هشيم عن عبيد الله وحده، وأخرجه
الإسماعيلي من طرق أخرى عن هشيم عنهما نحوه. قوله: في الطريق الثانية "قال يا
رسول الله" في رواية أبي الوقت في البخاري "قالوا" وفي الرواية
التي في الإكراه "فقال رجل" ولم أقف على تسميته، قوله: "فقال تأخذ
فوق يديه" كنى به عن كفه عن الظلم بالفعل إن لم يكف بالقول، وعبر بالفوقية
إشارة إلى الأخذ بالاستعلاء والقوة، وفي رواية معاذ عن حميد عند الإسماعيلي:
"فقال يكفه عن الظلم، فذاك نصره إياه" ولمسلم في حديث جابر نحو الحديث
وفيه: "إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصرة" قال ابن بطال: النصر عند
العرب الإعانة، وتفسيره لنصر الظالم بمنعه من الظلم من تسمية الشيء بما يؤول إليه،
وهو من وجيز البلاغة، قال البيهقي: معناه أن الظالم مظلوم في نفسه فيدخل فيه ردع
المرء عن ظلمه لنفسه حسا ومعنى، فلو رأى إنسانا يريد أن يجب نفسه لظنه أن ذلك يزيل
مفسدة طلبه الزنا مثلا منعه من ذلك وكان ذلك نصرا له، واتحد في هذه الصورة الظالم
والمظلوم. وقال ابن المنير: فيه إشارة إلى أن الترك كالفعل في باب الضمان وتحته
فروع كثيرة. "تنبيه": ذكر مسلم في روايته من طريق أبي الزبير عن جابر
سببا لحديث الباب يستفاد منه زمن وقوعه، وسيأتي ذكره في تفسير المنافقين إن شاء
الله تعالى. "لطيفة": ذكر المفضل الضبي في كتابه "الفاخر" أن
أول من قال: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" جندب بن العنبر بن عمرو بن
تميم، وأراد بذلك ظاهره وهو ما اعتادوه من حمية الجاهلية، لا على ما فسره النبي
صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول شاعرهم:
إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم ... على القوم لم أنصر أخي حين يظلم
(5/98)
3 - باب: نَصْرِ الْمَظْلُومِ
2445- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَشْعَثِ
بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدٍ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ
عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ فَذَكَرَ عِيَادَةَ
الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ وَرَدَّ السَّلاَمِ
وَنَصْرَ الْمَظْلُومِ وَإِجَابَةَ الدَّاعِي وَإِبْرَارَ الْمُقْسِمِ"
2446- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ
بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ
كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ"
قوله: "باب نصر المظلوم" هو فرض كفاية، وهو عام في المظلومين، وكذلك في
الناصرين بناء على أن فرض الكفاية مخاطب به الجميع وهو الراجح، ويتعين أحيانا على
من له القدرة عليه وحده إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر، فلو
علم أو غلب على ظنه أنه لا يفيد سقط الوجوب وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور،
فلو تساوت المفسدتان تخير، وشرط الناصر أن يكون عالما بكون الفعل ظلما. ويقع النصر
مع وقوع الظلم وهو حينئذ حقيقة، وقد يقع قبل وقوعه كمن أنفذ إنسانا من يد إنسان
طالبه بمال ظلما وهدده إن لم يبذله، وقد يقع بعد وهو كثير ثم أورد المصنف فيه
حديثين. أحدهما حديث البراء في الأمر بسبع والنهي عن سبع فذكره مختصرا وسيأتي
الكلام على شرحه مستوفى في كتاب الأدب واللباس إن شاء الله تعالى، والمقصود منه هنا
قوله: "ونصر المظلوم" . ثانيهما حديث أبي موسى "المؤمن للمؤمن
كالبنيان" وسيأتي الكلام عليه في الأدب إن شاء الله تعالى. وقوله: "يشد
بعضه" في رواية الكشميهني يشد بعضهم بصيغة الجمع.
(5/99)
باب الانتصار من الظالم لقوله جل
ذكره(لا يحب الله الجهر بالسوء ...الأية)
...
6 - باب: الِانْتِصَارِ مِنْ الظَّالِمِ لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:
{لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ
يَنْتَصِرُونَ} قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا
فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا
قوله: "باب الانتصار من الظالم، لقوله جل ذكره: {لا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ. وَالَّذِينَ} يعني وقوله
والذين "{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}
" أما الآية الأولى فروى الطبري من طريق السدي قال في قوله: "إلا من
ظلم" أي فانتصر بمثل ما ظلم به فليس عليه ملام، وعن مجاهد "إلا من
ظلم" فانتصر فإن له أن يجهر بالسوء، وعنه نزلت في رجل نزل بقوم فلم يضيفوه
فرخص له أن يقول فيهم. قلت: ونزولها في واقعة عين لا يمنع حملها على عمومها. وعن
ابن عباس المراد بالجهر من القول الدعاء فرخص للمظلوم أن يدعو على من ظلمه، وأما
الآية الثانية فروى الطبري من طريق السدي أيضا في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا
أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} قال: يعني ممن بغى عليهم من غير أن
يعتدوا. وفي الباب حديث أخرجه النسائي وابن ماجة بإسناد حسن من طريق التيمي عن
عروة عن عائشة قالت: "دخلت على زينب بنت جحش فسبتني، فردعها النبي صلى الله
عليه وسلم فأبت" فقال لي سبيها. فسببتها حتى جف ريقها في فمها فرأيت وجهه
يتهلل" . قوله: "وقال إبراهيم" أي النخعي "كانوا" أي
السلف "يكرهون أن يستذلوا" بالذال
(5/99)
المعجمة من الذل وهو بضم أوله وفتح المثناة، وهذا الأثر وصله عبد بن حميد وابن عيينة في تفسيرهما في تفسير الآية المذكورة.
(5/100)
باب عفو المظلوم لقوله تعالى (إن تبدوا
خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء ... الأية)
...
7 - باب: عَفْوِ الْمَظْلُومِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء 149] وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ
مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ
وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَتَرَى
الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ
سَبِيلٍ}
[الشورى 40 - 44]
قوله: باب عفو المظلوم لقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ
تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} {وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} أي وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا
إلخ} وكأنه يشير إلى ما أخرجه الطبري عن السدي في قوله: {أَوْ تَعْفُوا عَنْ
سُوءٍ} أي عن ظلم، وروى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} قال: إذا شتمك شتمته بمثلها من غير أن تعتدي {فَمَنْ عَفَا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وعن الحسن رخص له إذا سبه أحد أن يسبه. وفي
الباب حديث أخرجه أحمد وأبو داود من طريق عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: ما من عبد ظلم مظلمة فعفا عنها
إلا أعز الله بها نصره" .
(5/100)
8 - باب: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ
2447- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ
الْمَاجِشُونُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
قوله: "باب الظلم ظلمات يوم القيامة" أورد فيه حديث ابن عمر بهذا اللفظ
من غير مزيد، وقد رواه أحمد من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر وزاد في أوله
"يا أيها الناس اتقوا الظلم" وفي رواية: "إياكم والظلم"
وأخرجه البيهقي في "الشعب" من هذا الوجه وزاد فيه: قال محارب أظلم الناس
من ظلم لغيره. وأخرجه مسلم من حديث جابر في أول حديث بلفظ: "اتقوا الظلم فإن
الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح" الحديث، مال ابن الجوزي: الظلم يشتمل
على معصيتين: أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة، والمعصية فيه أشد من
غيرها لأنه لا يقع غالبا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار، وإنما ينشأ الظلم
عن ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي
حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئا.
(5/100)
8 - بَاب: الِاتِّقَاءِ وَالْحَذَرِ
مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ
2448- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ
بْنُ إِسْحَاقَ الْمَكِّيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
(5/100)
10 - باب: مَنْ كَانَتْ لَهُ
مَظْلَمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلَمَتَهُ؟
2449- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ
لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ
أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ
مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ
سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ"
قَالَ: أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ:
"إِنَّمَا سُمِّيَ الْمَقْبُرِيَّ لِأَنَّهُ كَانَ نَزَلَ نَاحِيَةَ
الْمَقَابِرِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَسَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ هُوَ مَوْلَى
بَنِي لَيْثٍ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ وَاسْمُ أَبِي سَعِيدٍ كَيْسَانُ"
[الحديث 2449- طرفه في: 6534]
قوله: "باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له هل يبين مظلمته" ؟
المظلمة بكسر اللام على المشهور، وحكى ابن قتيبة وابن التين والجوهري فتحها وأنكره
ابن القوطية، ورأيت بخط مغلطاي أن القزاز حكى الضم أيضا. وقوله: "هل
يبين" فيه إشارة إلى الخلاف في صحة الإبراء من المجهول، وإطلاق الحديث يقوي
قول من ذهب إلى صحته، وقد ترجم بعد باب "إذا حلله ولم يبين كم هو" وفيه
إشارة إلى الإبراء من المجمل أيضا، وزعم ابن بطال أن في حديث الباب حجة لاشتراط
التعيين، لأن قوله: "مظلمة" يقتضي أن تكون معلومة القدر مشارا إليها ا
هـ. ولا يخفى ما فيه. قال ابن المنير: إنما وقع في الحديث التقدير حيث يقتص
المظلوم من الظالم حتى يأخذ منه بقدر حقه، وهذا متفق عليه، والخلاف إنما هو فيما
إذا أسقط المظلوم حقه في الدنيا هل يشترط أن يعرف قدره أم لا؟ وقد أطلق ذلك في
الحديث. نعم قام الإجماع على صحة التحليل من المعين المعلوم، فإن كانت العين
موجودة صحت هبتها دون الإبراء منها. قوله: "من كانت له مظلمة لأخيه"
اللام في قوله: "له" بمعنى على، أي من كانت عليه مظلمة لأخيه، وسيأتي في
الرقاق من رواية مالك عن المقبري بلفظ: "من كانت عنده مظلمة لأخيه" ،
والترمذي من طريق زيد بن أبي أنيسة عن المقبري "رحم الله عبدا كانت له عند
أخيه مظلمة". قوله: "من عرضه أو شيء" أي من الأشياء، وهو من عطف
العام على الخاص فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها. وفي رواية
الترمذي "من عرض أو مال" . قوله: "قبل أن لا يكون دينار ولا
درهم" أي يوم القيامة، وثبت ذلك في رواية علي بن الجعد عن ابن أبي ذئب عند
الإسماعيلي. قوله: "أخذ من سيئات صاحبه" أي صاحب المظلمة "فحمل
عليه" أي على الظالم، وفي رواية مالك "فطرحت عليه" ، وهذا الحديث قد
أخرج مسلم معناه من وجه آخر وهو أوضح سياقا من هذا
(5/101)
ولفظه: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسفك دم هذا وأكل مال هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه وطرح في النار" ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه ولم يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته، فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله تعالى في عباده، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قوله: "قال إسماعيل بن أبي أويس: إنما سمي المقبري إلخ" ثبت هذا في رواية الكشميهني وحده، وإسماعيل المذكور من شيوخ البخاري.
(5/102)
11 - باب: إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ
ظُلْمِهِ فَلاَ رُجُوعَ فِيهِ
2450- حدثنا محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله
عنها {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} قالت:
"الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من
شأني في حل، فنزلت هذه الآية في ذلك"
[الحديث 2450- أطرافه في: 2694 ، 4601 ، 5206]
قوله: "باب إذا حلله من ظلمه فلا رجوع فيه" أي معلوما عند من يشترطه أو
مجهولا عند من يجيزه، وهو فيما مضى باتفاق، وأما فيما سيأتي ففيه الخلاف. ثم أورد
المصنف حديث عائشة في قصة التي تختلع من زوجها وسيأتي الكلام عليه في تفسير سورة
النساء، ومحمد شيخه هو ابن مقاتل، وعبد الله هو ابن المبارك. ومطابقته للترجمة من
جهة إن الخلع عقد لازم فلا يصح الرجوع فيه، ويلتحق به كل عقد لازم كذلك، كذا قال
الكرماني فوهم، ومورد الحديث والآية إنما هو في حق من تسقط حقها من القسمة، وليس
من الخلع في شيء، فمن ثم وقع الإشكال فقال الداودي: ليست الترجمة بمطابقة للحديث،
ووجهه ابن المنير بأن الترجمة تتناول إسقاط الحق من المظلمة الفائتة والآية
مضمونها إسقاط الحق المستقبل حتى لا يكون عدم الوفاء به مظلمة لسقوطه، قال ابن
المنير: لكن البخاري تلطف في الاستدلال فكأنه يقول إذا نفذ الإسقاط في الحق
المتوقع فلأن ينفذ في الحق المحقق أولى. قلت: وسيأتي الكلام على هبة المرأة يومها
في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.
(5/102)
باب إذا أذن له أو أحل ولم يبين كم هو
...
12 - باب: إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ
2451- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي
حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ
بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ - وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ
- فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ فَقَالَ
الْغُلاَمُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ
أَحَدًا قَالَ فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
يَدِهِ"
قوله: "باب إذا أذن له" أي في استيفاء حقه "أو أحله" في رواية
الكشميهني: "أو أحل له". "ولم يبين كم
(5/102)
13 - باب: إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئًا
مِنْ الأَرْضِ
2452- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ
حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَمْرِو
بْنِ سَهْلٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ
ظَلَمَ مِنْ الأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"
[الحديث 2452– طرفه في: 3198]
2453- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا
حُسَيْنٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
أُنَاسٍ خُصُومَةٌ فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: يَا
أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبْ الأَرْضَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ
سَبْعِ أَرَضِينَ"
[الحديث 2453- طرفه في: 3195]
2454- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخَذَ مِنْ
الأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ
أَرَضِينَ" . قال: الفربري قال: أبو جعفر بن أبي حاتم قال أبو عبد الله: هذا
الحديث ليس بخراسان في كتب ابن المبارك، أملى عليهم بالبصرة.
[الحديث 2454- طرفه في: 3196]
قوله: "باب إثم من ظلم شيئا من الأرض" كأنه يشير إلى توجيه تصوير غصب
الأرض، خلافا لمن قال لا يمكن ذلك. قوله: "حدثني طلحة بن عبد الله" أي
ابن عوف، وكذا هو عند أحمد عن أبي اليمان، زاد الحميدي في مسنده من وجه آخر في هذا
الحديث: "وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف". قوله: "عبد الرحمن بن
عمرو بن سهل" هو المدني، وقد ينسب إلى جده، وقد نسبه المزي أنصاريا ولم أر
ذلك في شيء من طرق حديثه، بل في رواية ابن إسحاق التي سأذكرها ما يدل على أنه
قرشي، وقد ذكر الواقدي فيمن قتل بالحرة عبد الملك بن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل بن
عبد شمس بن عبد ود بن نصر العامري القرشي وأظنه ولد هذا، وكانت الحرة بعد هذه
القصة بنحو من عشر سنين، وليس لعبد الرحمن هذا في صحيح البخاري سوى هذا الحديث
الواحد. وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق
(5/103)
14 - باب إِذَا أَذِنَ إِنْسَانٌ
لِآخَرَ شَيْئًا جَازَ
2455- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَبَلَةَ كُنَّا
بِالْمَدِينَةِ فِي بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَصَابَنَا سَنَةٌ فَكَانَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الإِقْرَانِ إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ
أَخَاهُ"
[الحديث 2455- أطرافه في: 2489 ، 2490 ، 5446]
2456- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ
عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ "أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ
يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ كَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو
شُعَيْبٍ اصْنَعْ لِي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ وَأَبْصَرَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُوعَ فَدَعَاهُ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ،
فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا قَدْ اتَّبَعَنَا أَتَأْذَنُ
لَهُ قَالَ: نَعَمْ"
قوله: "باب إذا أذن إنسان لآخر شيئا جاز" قال ابن التين: نصب
"شيئا" على نزع الخافض، والتقدير في شيء كقوله تعالى: {وَاخْتَارَ
مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} وأورد المصنف فيه حديثين.أحدهما لابن عمر في
النهي عن القران، والمراد به أن لا يقرن تمرة بتمرة عند الأكل لئلا يجحف برفقته،
فإن أذنوا له في ذلك جاز لأنه حقهم فلهم أن يسقطوه، وهذا يقوي مذهب من يصحح هبة
المجهول، وسيأتي الكلام على الحديث مستوفى في كتاب الأطعمة مع بيان حال قوله:
"إلا أن يستأذن" ومن قال: إنه مدرج إن شاء الله تعالى. ثانيهما حديث أبي
مسعود في قصة الجزار الذي عمل الطعام والرجل الذي تبعهم، فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم: "أتأذن له" وسيأتي الكلام عليه في الأطعمة أيضا، وقوله فيه:
"وأبصر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم: " هي جملة حالية أي أنه قال
لغلامه "اصنع لي" في حال رؤيته تلك، وقوله: "فتبعهم رجل فقال إن
هذا اتبعنا" بتشديد التاء، قال ابن التين: هو افتعل من تبع وهو بمعناه، وخبط
الداودي هنا لظنه أنها همزة قطع فقال: معنى اتبعنا سار معنا، وتبعهم أي لحقهم،
وأطال ابن التين في تعقب كلامه.
(5/106)
15 - باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
[204 البقرة]: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}
2457- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ
الْخَصِمُ"
[الحديث 2457- طرفاه في: 4533 ، 7188]
قوله: "باب قول الله تعالى :{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} " الألد الشديد
اللدد أي الجدال، مشتق من اللديدين وهما صفحتا العنق، والمعنى أنه من أي جانب أخذ
من الخصومة قوي، وقيل غير ذلك في معناه. حديث عائشة "أن أبغض الرجال الألد
الخصم" بفتح المعجمة وكسر المهملة أي الشديد الخصومة، وسيأتي مستوفى في
(5/106)
تفسير سورة البقرة إن شاء الله تعالى.
(5/107)
16 - باب: إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي
بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ
2458- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ حَدَّثَنِي
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ
أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ
إِلَيْهِمْ فَقَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ
فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ
صَدَقَ فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ
فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ
َلْيَتْرُكْهَا"
[الحديث 2458- أطرافه في: 2680 ، 6967 ، 7169 ، 7181 ، 7185]
قوله: "باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه" أورد فيه حديث أم سلمة
"فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض" وفيه: "فإنما هي قطعة من
النار" وهو ظاهر فيما ترجم به، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الأحكام إن
شاء الله تعالى.
(5/107)
17 - باب: إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ
2459- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ
شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ
مُنَافِقًا أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ
مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ
وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"
قوله: "باب إذا خاصم فجر" أي ذم من إذا خاصم فجر أو إثمه، أورد فيه حديث
عبد الله بن عمرو في صفة المنافقين، وفيه: "وإذا خاصم فجر" وقد تقدم
شرحه في كتاب الإيمان.
(5/107)
18 - باب: قِصَاصِ الْمَظْلُومِ إِذَا
وَجَدَ مَالَ ظَالِمِهِ
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: يُقَاصُّهُ، وَقَرَأَ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا
بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [126 النحل]
2460- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
"جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ
مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ فَقَالَ: لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ
بِالْمَعْرُوفِ"
2461- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ:
حَدَّثَنِي يَزِيدُ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ
(5/107)
باب ما جاء في السقائف و جلس النبي في
سقيفة بني ساعدة
...
19 - باب: مَا جَاءَ فِي السَّقَائِفِ وَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ
2462- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ
حَدَّثَنِي مَالِكٌ وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
"أَخْبَرَهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ حِينَ تَوَفَّى
اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الأَنْصَارَ
اجْتَمَعُوا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ انْطَلِقْ
بِنَا فَجِئْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ"
[الحديث 2462- أطرافه في: 3445 ، 3928 ، 4021 ، 6829 ، 6830 ، 7323]
قوله: "باب ما جاء في السقائف" جمع سقيفة وهي المكان المظلل كالساباط أو
الحانوت بجانب الدار، وكأنه أشار إلى أن الجلوس في الأمكنة العامة جائز، وأن اتخاذ
صاحب الدار ساباطا أو مستظلا جائز إذا لم يضر المارة. قوله: "وجلس النبي صلى
الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة" هو طرف من حديث لسهيل بن سعد أسنده
المؤلف في الأشربة في أثناء حديث، وخفي ذلك على الإسماعيلي فقال: ليس في الحديث -
يعني حديث عمر - أنه صلى الله عليه وسلم جلس في السقيفة انتهى. والسبب في غفلته عن
ذلك أنه حذف الحديث المعلق الذي أشرت إليه واقتصر على الحديث المرفوع عن عمر
الموصول، مع أن البخاري لم يترجم بجلوس النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترجم بما
جاء في السقائف، ثم ذكر الحديث المصرح بجلوس النبي صلى الله عليه وسلم وأورده
معلقا، ثم بالحديث الذي فيه أن الصحابة جلسوا فيها وأورده موصولا، فكأن الإسماعيلي
ظن أن قوله: "وجلس" من كلام البخاري لا أنه حديث معلق، وسقيفة بني ساعدة
كانوا يجتمعون فيها؛ وكانت مشتركة بينهم، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم معهم فيها
عندهم. قوله: "حدثني مالك وأخبرني يونس" أي ابن يزيد عن
(5/109)
ابن شهاب، يعني أن كلا منهما رواه لابن وهب عن ابن شهاب، وكان ابن وهب حريصا على التفرقة بين التحديث والإخبار مراعاة للاصطلاح، ويقال إنه أول من اصطلح على ذلك بمصر. قوله: "أن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة" هو مختصر من قصة بيعة أبي بكر الصديق، وسيأتي في الهجرة وفي كتاب الحدود بطوله ونستوفي شرحه هناك إن شاء الله تعالى، والغرض منه أن الصحابة استمروا على الجلوس في السقيفة المذكورة، وقال الكرماني: مطابقة الحديث للترجمة أن الجلوس في السقيفة العامة ليس ظلما.
(5/110)
20 - باب: لاَ يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ
أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ
2463- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ
أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا لِي أَرَاكُمْ
عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاللَّهِ لاَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ"
[الحديث 2463- طرفاه في: 5627 ، 5628]
قوله: "باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره" كذا لأبي ذر
بالتنوين على إفراد الخشبة، ولغير بصيغة الجمع وهو الذي في حديث الباب، قال ابن
عبد البر. روي اللفظان في "الموطأ" والمعنى واحد لأن المراد بالواحد
الجنس انتهى. وهذا الذي يتعين للجمع بين الروايتين، وإلا فالمعنى قد يختلف باعتبار
أن أمر الخشبة الواحدة أخف في مسامحة الجار بخلاف الخشب الكثير، وروى الطحاوي عن
جماعة من المشايخ أنهم رووه بالإفراد، وأنكر ذلك عبد الغني بن سعيد فقال: الناس
كلهم يقولونه بالجمع إلا الطحاوي، وما ذكرته من اختلافه الرواة في الصحيح يرد على
عبد الغني بن سعيد إلا إن أراد خاصا من الناس كالذين روى عنهم الطحاوي فله اتجاه.
قوله: "عن ابن شهاب" كذا في "الموطأ" وقال خالد بن مخلد عن مالك
"عن أبي الزناد" بدل الزهري. وقال بشر بن عمرو عن مالك "عن الزهري
عن أبي سلمة" بدل الأعرج، ووافقه هشام بن يوسف عن مالك ومعمر عن الزهري،
ورواه الدار قطني في "الغرائب" وقال: المحفوظ عن مالك الأول. وقال في
"العلل": رواه هشام الدستوائي عن معمر "عن الزهري عن سعيد بن
المسيب" بدل الأعرج، وكذا قال عقيل عن الزهري. وقال ابن أبي حفصة "عن
الزهري عن حميد بن عبد الرحمن" بدل الأعرج والمحفوظ عن الزهري عن الأعرج
وبذلك جزم ابن عبد البر أيضا، ثم أشار إلى أنه يحتمل أن يكون عند الزهري عن
الجميع. قوله: "ولا يمنع" بالجزم على أن "لا" ناهية، ولأبي ذر
بالرفع على أنه خبر بمعني النهي، ولأحمد "لا يمنعن" بزيادة نون التوكيد
وهي تؤيد رواية الجزم. قوله: "جار جاره إلخ" استدل به على أن الجدار إذا
كان لواحد وله جار فأراد أن يضع جذعه عليه جاز سواء أذن المالك أم لا، فإن امتنع
أجبر وبه قال أحمد وإسحاق وغيرهما من أهل الحديث وابن حبيب من المالكية والشافعي
في القديم، وعنه في الجديد قولان أشهرهما اشتراط إذن المالك فإن امتنع لم يجبر وهو
قول الحنفية، وحملوا الأمر في الحديث على الندب والنهي على التنزيه جمعا بينه وبين
الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلا برضاه وفيه نطر كما سيأتي، وجزم الترمذي
وأبي عبد البر عن الشافعي بالقول القديم وهو نصه في البويطي، قال البيهقي: لم نجد
في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن نخصها، وقد حمله
الراوي على ظاهره، وهو أعلم بالمراد
(5/110)
بما حدث به، يشير إلى قول أبي هريرة "ما لي أراكم عنها معرضين" . قوله: "ثم يقول أبو هريرة" في رواية ابن عيينة عند أبي داود "فنكسوا رءوسهم" ولأحمد "فلما حدثهم أبو هريرة بذلك طأطؤوا رءوسهم" . قوله: "عنها" أي عن هذه السنة أو عن هذه المقالة. قوله: "لأرمينها" في رواية أبي داود "لألقينها" أي لأشيعن هذه المقالة فيكم ولأقرعنكم بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه ليستيقظ من غفلته. قوله: "بين أكتافكم" قال ابن عبد البر: رويناه في "الموطأ" بالمثناة وبالنون. والأكناف بالنون جمع كنف بفتحها وهو الجانب، قال الخطابي: معناه إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلنها أي الخشبة على رقابكم كارهين، قال وأراد بذلك المبالغة، وبهذا التأويل جزم إمام الحرمين تبعا لغيره وقال: إن ذلك وقع من أبي هريرة حين كان يلي إمرة المدينة، وقد وقع عند ابن عبد البر من وجه آخر "لأرمين بها بين أعينكم وإن كرهتم" وهذا يرجح التأويل المتقدم، واستدل المهلب من المالكية بقول أبي هريرة "ما لي أراكم عنها معرضين" بأن العمل كان في ذلك العصر على خلاف ما ذهب إليه أبو هريرة، قال: لأنه لو كان على الوجوب لما جهل الصحابة تأويله ولا أعرضوا عن أبي هريرة حين حدثهم به، فلولا أن الحكم قد تقرر عندهم بخلافه لما جاز عليهم جهل هذه الفريضة فدل على أنهم حملوا الأمر في ذلك علي الاستحباب انتهى. وما أدري من أين له أن المعرضين كانوا صحابة وأنهم كانوا عددا لا يجهل مثلهم الحكم، ولم لا يجوز أن يكون الذين خاطبهم أبو هريرة بذلك كانوا غير فقهاء، بل ذلك هو المتعين، وإلا فلو كانوا صحابة أو فقهاء ما واجههم بذلك. وقد قوى الشافعي في القديم القول بالوجوب بأن عمر قضى به ولم يخالفه أحد من أهل عصره فكان اتفاقا منهم على ذلك انتهى. ودعوى الاتفاق هنا أولى من دعوى المهلب، لأن أكثر أهل عصر عمر كانوا صحابة، وغالب أحكامه منتشرة لطول ولايته، وأبو هريرة إنما كان يلي إمرة المدينة نيابة عن مروان في بعض الأحيان، وأشار الشافعي إلى ما أخرجه مالك ورواه هو عنه بسند صحيح أن الضحاك بن خليفة سأل محمد بن مسلمة أن يسوق خليجا له فيمر به في أرض محمد بن مسلمة، فكلمه عمر في ذلك فأبى، فقال: والله ليمرن به ولو على بطنك، فحمل عمر الأمر على ظاهره وعداه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه. وفي دعوى العمل على خلافه نظر، فقد روى ابن ماجة والبيهقي من طريق عكرمة بن سلمة أن أخوين من بني المغيرة أعتق أحدهما إن غرز أحد في جداره خشبا، فأقبل مجمع بن جارية ورجال كثير من الأنصار فقالوا: شهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. الحديث، فقال الآخر: يا أخي قد علمت أنك مقضي لك علي وقد حلفت، فاجعل أسطوانا دون جداري فاجعل عليه خشبك. وروى ابن إسحاق في مسنده والبيهقي من طريقه عن يحيى بن جعدة أحد التابعين قال: أراد رجل أن يضع خشبة على جدار صاحبه بغير إذنه فمنعه، فإذا من شئت من الأنصار يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهاه أن يمنعه، فجبر على ذلك. وقيد بعضهم الوجوب بما إذا تقدم استئذان الجار في ذلك مستندا إلى ذكر الأذن في بعض طرقه، وهو في رواية ابن عيينة عند أبي داود وعقيل أيضا وأحمد عند عبد الرحمن بن مهدي عن مالك " من سأله جاره " وكذا لابن حبان من طريق الليث عن مالك، وكذا لأبي عوانة من طريق زياد بن سعد عن الزهري، وأخرجه البزار من طريق عكرمة عن أبي هريرة، ومنهم من حمل الضمير في جداره على صاحب الجذع أي لا يمنعه أن يضع جذعه على جدار نفسه ولو تضرر به من جهة منع الضوء مثلا ولا يخفى بعده، وقد تعقبه ابن التين بأنه إحداث قول ثالث في معنى الخبر، وقد رده أكثر أهل الأصول، وفيما قال نظر لأن لهذا
(5/111)
القائل أن يقول: هذا مما يستفاد من عموم النهي لا أنه المراد فقط والله أعلم. ومحل الوجوب عند من قال به أن يحتاج إليه الجار ولا يضع عليه ما يتضرر به المالك ولا يقدم على حاجة المالك، ولا فرق بين أن يحتاج في وضع الجذع إلى نقب الجدار أو لا، لأن رأس الجذع يسد المنفتح ويقوي الجدار
(5/112)
21 - باب: صَبِّ الْخَمْرِ فِي
الطَّرِيقِ
2464- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيَى أَخْبَرَنَا
عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ "كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ وَكَانَ
خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ
قَالَ فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا فَخَرَجْتُ
فَهَرَقْتُهَا فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ قَدْ
قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}
الْآيَةَ"
[الحديث 2464- أطرافه في: 4617 ، 4620 ، 5580 ، 5582 ، 5583 ، 5584 ، 5600 ، 5622
، 7253]
قوله: "باب صب الخمر في الطريق" أي المشتركة، إذا تعين ذلك طريقا لإزالة
مفسدة تكون أقوى من المفسدة الحاصلة بصبها. قوله: "حدثنا محمد بن عبد
الرحيم" هو المعروف بصاعقة، وشيخه عفان من كبار شيوخ البخاري وأكثر ما يحدث
عنه في الصحيح بواسطة. قوله: "كنت ساقي القوم" سيأتي تسمية من عرف منهم
في كتاب الأشربة مع الكلام عليه إن شاء الله تعالى. قوله: "فجرت في سكك
المدينة" أي طرقها، وفي السياق حذف تقديره حرمت (1) فأمر النبي صلى الله عليه
وسلم بإراقتها فأريقت فجرت ، وسيأتي مزيد بيان لذلك في تفسير المائدة. قال المهلب:
إنما صبت الخمر في الطريق للإعلان برفضها وليشهر تركها، وذلك أرجح في المصلحة من
التأذي بصبها في الطريق.
ـــــــ
(1) بهامش طبعة بولاق: قوله "وفي السياق حذف إلخ" لعله كتب على رواية
أبي ذر، فالرواية التي هنا ليست كذلك
(5/112)
22 - باب: أَفْنِيَةِ الدُّورِ
وَالْجُلُوسِ فِيهَا، وَالْجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَاتِ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَابْتَنَى أَبُو بَكْرٍ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ يُصَلِّي
فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ
فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ
مِنْهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ
2465- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ حَفْصُ بْنُ
مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ
فَقَالُوا مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ:
فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا قَالُوا
وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ
السَّلاَمِ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ"
[الحديث 2465– طرفه في: 6229]
(5/112)
باب الآبار التي على الطريق إذا لم
يتأذ بها
...
23 - باب: الْآبَارِ عَلَى الطُّرُقِ إِذَا لَمْ يُتَأَذَّ بِهَا
2466- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ
مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا
فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى
مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ
مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلاَ خُفَّهُ مَاءً
فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ
اللَّه وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لاَجْرًا؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ
رَطْبَةٍ أَجْرٌ"
(5/113)
قوله: "باب الآبار" بمدة وتخفيف الموحدة، ويجوز بغير مد وتسكين الموحدة بعدها همزه وهو الأصل في هذا الجمع. قوله: "التي على الطريق إذا لم يتأذ بها" بضم أول "يتأذ" على البناء للمجهول، أي إن حفرها جائز في طرق المسلمين لعموم النفع بها إذا لم يحصل بها تأذ لأحد منهم. وذكر فيه حديث أبي هريرة في الذي وجد بئرا في الطريق فنزل فيها فشرب ثم سقى الكلب، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الشرب، وقوله في هذه الرواية: "يلهث يأكل الثرى" يجوز أن يكون خبرا ثانيا وأن يكون حالا، وقوله: "في كل ذات كبد" أي في إرواء كل ذات كبد.
(5/114)
24 - باب: إِمَاطَةِ الأَذَى
وَقَالَ هَمَّامٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمِيطُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ
قوله: "باب إماطة الأذى" أي إزالته. قوله: "وقال همام إلخ" هو
طرف من حديث وصله المصنف في الجهاد في باب من أخذ بالركاب بلفظ: "وتميط الأذى
عن الطريق صدقة" وسيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. ووقع في حديث
أبي صالح عن أبي هريرة في ذكر شعب الإيمان "أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله،
وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" ومعنى كون الإماطة صدقة أنه تسبب إلى سلامة
من يمر به من الأذى، فكأنه تصدق عليه بذلك فحصل له أجر الصدقة. وقد جعل النبي صلى
الله عليه وسلم الإمساك عن الشر صدقة على النفس.
(5/114)
25 - باب: الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ
الْمُشْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا
2467- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ: "أَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُطُمٍ
مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي أَرَى
مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ"
2468- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي ثَوْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ لَهُمَا {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ
صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فَحَجَجْتُ مَعَه فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالإِدَاوَةِ
فَتَبَرَّزَ حَتَّى جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الإِدَاوَةِ
فَتَوَضَّأَ. فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}
فَقَالَ وَا عَجَبِاً لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ ثُمَّ
اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنْ
الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ
وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ
خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ
مِثْلَهُ. وَكُنَّا مَعْشَرَ
(5/114)
26 - باب: مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ عَلَى
الْبَلاَطِ أَوْ بَابِ الْمَسْجِدِ
2470- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ حَدَّثَنَا أَبُو
الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِي نَاحِيَةِ الْبَلاَطِ
فَقُلْتُ هَذَا جَمَلُكَ فَخَرَجَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْجَمَلِ: قَالَ الثَّمَنُ
وَالْجَمَلُ لَكَ"
قوله: "باب من عقل بعيره على البلاط" بفتح الموحدة وهي حجارة مفروشة
كانت عند باب المسجد، وقوله: "أو باب المسجد" هو بالاستنباط من ذلك،
وأشار به إلى ما ورد في بعض طرقه، وأورد فيه طرفا من حديث جابر في قصة جمله الذي
باعه النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الشروط، وغرضه
هنا قوله: "فعقلت الجمل في ناحية البلاط" فإنه يستفاد منه جواز ذلك إذا
لم يحصل به ضرر.
(5/117)
27 - باب: الْوُقُوفِ وَالْبَوْلِ
عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ
2471- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ: لَقَدْ أَتَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ
قَائِمًا"
(5/117)
28 - باب: مَنْ أَخَذَ الْغُصْنَ وَمَا
يُؤْذِي النَّاسَ فِي الطَّرِيقِ فَرَمَى بِهِ
2472- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ
أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ
وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ
لَهُ"
قوله: "باب من أخذ الغصن وما يؤذي الناس في الطريق فرمى به" في رواية
الكشميهني: "من أخر" بتشديد المعجمة بعدها راء، وأورد فيه حديث أبي
هريرة في ذلك بلفظ: "غصن شوك" وفي حديث أنس عند أحمد "أن شجرة كانت
على طريق الناس تؤذيهم فأتى رجل فعزلها" وقد تقدم في أواخر أبواب الأذان مع
الكلام عليه. وقوله: "فغفر له" وقع في حديث أنس المذكور "ولقد
رأيته يتقلب في ظلها في الجنة" وينظر في هذه الترجمة وفي التي قبلها بثلاثة
أبواب وهي إماطة الأذى. وكأن تلك أعم من هذه لعدم تقييدها بالطريق وإن تساويا في
فضل عموم المزال، وفيه أن قليل الخير يحصل به كثير الأجر، قال ابن المنير: إنما
ترجم به لئلا يتخيل أن الرمي بالغصن وغيره مما يؤدي تصرف في ملك الغير بغير إذنه
فيمتنع، فأراد أن يبين أن ذلك لا يمتنع لما فيه من الندب إليه، وقد روى مسلم من
حديث أبي برزة قال: "قلت يا رسول الله دلني على عمل أنتفع به، قال: اعزل
الأذى عن طريق المسلمين" . "تنبيه": أبو عقيل بفتح المهملة بعدها
قاف اسمه بشير بفتح أوله وبالمعجمة ابن عقبة، وسيأتي في الشركة قريبا زهرة بن معبد
وكنيته أبو عقيل أيضا وهو غير هذا.
(5/118)
29 - باب: إِذَا اخْتَلَفُوا فِي
الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ وَهِيَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ ثُمَّ
يُرِيدُ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ فَتُرِكَ مِنْهَا للطَّرِيقُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ
2473- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ
الزُّبَيْرِ بْنِ خِرِّيتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ"
قوله: "باب إذا اختلفوا في الطريق الميتاء" بكسر الميم وسكون التحتانية
بعدها مثناة ومد بوزن مفعال من الإتيان والميم زائدة، قال أبو عمرو الشيباني:
الميتاء أعظم الطرق وهي التي يكثر مرور الناس بها. وقال غيره: هي الطريق الواسعة
وقيل العامرة. قوله: "وهي الرحبة تكون بين الطريقين ثم يريد أهلها البنيان
إلخ" وهو مصير منه إلى اختصاص هذا الحكم بالصورة التي ذكرها، وقد وافقه الطحاوي
على ذلك فقال: لم نجد لهذا الحديث معنى أولى من حمله على الطريق التي يراد
ابتداؤها إذا اختلف من يبتدئها في قدرها كبلد يفتحها المسلمون وليس فيها طريق
مسلوك، وكموات يعطيه الإمام لمن يحييها إذا أراد أن يجعل فيها طريقا للمارة ونحو
ذلك. وقال غيره: مراد الحديث أن أهل الطريق إذا تراضوا على شيء كان لهم ذلك، وإن
اختلفوا جعل سبعة أذرع، وكذلك الأرض التي
(5/118)
30 - باب: النُّهْبَى بِغَيْرِ إِذْنِ
صَاحِبِهِ وَقَالَ عُبَادَةُ بَايَعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ لاَ نَنْتَهِبَ
2474- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّ وَهُوَ
جَدُّهُ أَبُو أُمِّهِ قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ"
[الحديث 2474- طرفه في: 5516]
2475- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنَا
عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَشْرَبُ
الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا
أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَعَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي
سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.. مِثْلَهُ، إِلاَّ النُّهْبَةَ"
(5/119)
قال الفربري: وجدت بخط أبي جعفر
"قال أبو عبد الله: تفسيره أن ينزع منه، يريد الإيمان"
[الحديث 2475- أطرافه في: 5578 ، 6772 ، 6810]
قوله: "باب النهبى بغير إذن صاحبه" أي صاحب الشيء المنهوب، والنهبى بضم
النون فعلى من النهب، وهو أخذ المرء ما لبس له جهارا، ونهب مال الغير غير حائز،
ومفهوم الترجمة أنه إذا أذن جاز، ومحله في المنهوب المشاع كالطعام يقدم للقوم فلكل
منهم أن يأخذ مما يليه ولا يجذب من غيره إلا برضاه، وبنحو ذلك فسره النخعي وغيره،
وكره مالك وجماعة النهب في نثار العرس، لأنه إما أن يحمل على أن صاحبه أذن
للحاضرين في أخذه فظاهره يقتضي التسوية والنهب يقتضي خلافها، وإما أن يحمل على أنه
علق التمليك على ما يحصل لكل أحد، ففي صحته اختلاف فلذلك كرهه. وسيأتي لذلك مزيد
بيان في أول كتاب الشركة إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال عبادة: بايعنا النبي
صلى الله عليه وسلم على أن لا ننتهب" هذا طرف من حديث وصله المؤلف في
"وفود الأنصار" وقد تقدمت الإشارة إليه في أوائل كتاب الإيمان، وكان من
شأن الجاهلية انتهاب ما يحصل لهم من الغارات، فوقعت البيعة على الزجر عن ذلك.
قوله: "سمعت عبد الله بن يزيد" كذا للأكثر، وللكشميهني وحده "ابن
زيد" وهو تصحيف. قوله: "وهو" يعني عبد الله "جده" أي جد
عدي لأمه، واسم أمه فاطمة وتكنى أم عدي، وعبد الله بن يزيد هو الخطمي مضى ذكره في
الاستسقاء، وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري غير هذا الحديث، وله
فيه عن الصحابة غير هذا. وقد اختلف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم. وروى
هذا الحديث يعقوب بن إسحاق الحضرمي عن شعبة فقال فيه: "عن عدي عن عبد الله بن
يزيد عن أبي أيوب الأنصاري" أشار إليه الإسماعيلي، وأخرجه الطبراني، والمحفوظ
عن شعبة ليس فيه أبو أيوب. وفيه اختلاف آخر على عدي بن ثابت كما سيأتي في كتاب
الذبائح. وفي النهي عن النهبة حديث جابر عند أبي داود بلفظ: "من انتهب فليس
منا" وحديث أنس عند الترمذي مثله، وحديث عمران عند ابن حبان مثله، وحديث
ثعلبة بن الحكم بلفظ: "إن النهبة لا تحل" عند ابن ماجة، وحديث زيد بن
خالد عند أحمد "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهبة" . قوله:
"عن النهبى والمثلة" بضم الميم وسكون المثلثة، ويجوز فتح الميم وضم
المثلثة، وسيأتي شرحها في كتاب الذبائح إن شاء الله تعالى. ثم أورد المصنف حديث:
"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" الحديث، وفيه: "ولا ينتهب نهبة
ترفع الناس إليه فيها أبصارهم" ومنه يستفاد التقييد بالإذن في الترجمة لأن
رفع البصر إلى المنتهب في العادة لا يكون إلا عند عدم الإذن، وسيأتي الكلام عليه
مستوفى في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. قوله: "وعن سعيد" يعني ابن
المسيب "وأبي سلمة" يعني ابن عبد الرحمن "عن أبي هريرة مثله إلا
النهبة" يعني أن الزهري روى الحديث عن هؤلاء الثلاثة عن أبي هريرة فانفرد أبو
بكر بن عبد الرحمن بزيادة ذكر النهبة فيه، وظاهره أن الحديث عند عقيل عن الزهري عن
الثلاثة على هذا الوجه، وقد أخرجه في الحدود فقال فيه: "عن ابن شهاب عن سعيد
وأبي سلمة مثله إلا النهبة" ورواه مسلم من طريق الأوزاعي عن الزهري عن
الثلاثة بتمامه، وكأن الأوزاعي حمل رواية سعيد وأبي سلمة على رواية أبي بكر، والذي
فصلها أحفظ منه فهو المحفوظ، وسيأتي مزيد بيان لذلك في كتاب الحدود إن شاء الله
تعالى. قوله: "قال الفربري: وجدت بخط أبي جعفر" هو ابن أبي حاتم وراق
البخاري، "قال أبو عبد الله" هو المصنف "تفسيره" أي تفسير
النفي في قوله: "لا يزني وهو مؤمن" "أن ينزع منه، يريد
(5/120)
الإيمان(1)" وهذا التفسير تلقاه البخاري من ابن عباس، فسيأتي في أول الحدود "وقال ابن عباس: ينزع منه نور الإيمان" وسنذكر هناك من وصله ومن وافقه على هذا التأويل ومن خالفه إن شاء الله تعالى.
(5/121)
31 - باب: كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ
الْخِنْزِيرِ
2476- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا
الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ
مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ
وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ"
قوله: "باب كسر الصليب وقتل الخنزير" أورد فيه حديث أبي هريرة
"ينزل ابن مريم" وسيأتي شرحه في أحاديث الأنبياء، وقد تقدم من وجه آخر
في "باب من قتل الخنزير" في أواخر البيوع. وفي إيراده هنا إشارة إلى أن
من قتل خنزيرا أو كسر صليبا لا يضمن لأنه فعل مأمورا به، وقد أخبر عليه الصلاة
والسلام بأن عيسى عليه السلام سيفعله، وهو إذا نزل كان مقررا لشرع نبينا صلى الله
عليه وسلم، كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى. ولا يخفى أن محل جواز كسر الصليب
إذا كان مع المحاربين، أو الذمي إذا جاوز به الحد الذي عوهد عليه، فإذا لم يتجاوز
وكسره مسلم كان متعديا لأنهم على تقريرهم على ذلك يؤدون الجزية، وهذا هو السر في
تعميم عيسى كسر كل صليب لأنه لا يقبل الجزية، وليس ذلك منه نسخا لشرع نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم، بل الناسخ هو شرعنا على لسان نبينا لإخباره بذلك وتقريره.
(5/121)
باب هل نكسر الدنان التي فيها خمر أو
نخرق الزقاق
...
32 - باب: هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ أَوْ تُخَرَّقُ
الزِّقَاقُ؟
فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ مَا لاَ يُنْتَفَعُ
بِخَشَبِهِ وَأُتِيَ شُرَيْحٌ فِي طُنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ
2477- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ
خَيْبَرَ قَالَ: عَلَى مَا تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ قَالُوا عَلَى الْحُمُرِ
الإِنْسِيَّةِ قَالَ: اكْسِرُوهَا وَأَهْرِقُوهَا قَالُوا أَلاَ نُهَرِيقُهَا
وَنَغْسِلُهَا قَالَ: اغْسِلُوا"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: كَانَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ "الْحُمُرِ
الأَنْسِيَّةِ" بِنَصْبِ الأَلِفِ وَالنُّونِ
[الحديث 2477- أطرافه في: 4196 ، 5497 ، 6148 ، 6331 ، 6891]
2478- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ
نُصُبًا فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ {جَاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الْآيَةَ"
[الحديث 2478- أطرافه في: 4287 ، 4720]
ـــــــ
(1) كانت في طبعة بولاق "أن ينزع منه نور الإيمان" والتصحيح من متن صحيح
البخاري
(5/121)
33 - باب: مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ
2480- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ
أَبِي أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ
شَهِيدٌ"
قوله: "باب من قاتل دون ماله" أي ما حكمه؟ قال القرطبي: "دون"
في أصلها ظرف مكان بمعنى تحت، وتستعمل للسببية على المجاز، ووجهه أن الذي يقاتل عن
ماله غالبا إنما يجعله خلفه أو تحته ثم يقاتل عليه. قوله: "حدثنا عبد الله بن
يزيد" هو المقرئ وأبو الأسود هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي، ووقع
منسوبا هكذا عند الإسماعيلي. قوله: "عن عكرمة" في رواية الطبري عن أبي
الأسود "أن عكرمة أخبره" وليس لعكرمة عن عبد الله بن عمرو وهو ابن العاص
في صحيح البخاري غير هذا الحديث الواحد. قوله: "من قتل دون ماله فهو
شهيد" قال الإسماعيلي وكذا أخرجه البخاري. وكأنه كتبه من حفظه أو حدث به
المقرئ من حفظه فجاء به على اللفظ المشهور، وإلا فقد رواه الجماعة عن المقرئ بلفظ:
"من قتل دون ماله مظلوما فله الجنة" قال: ومن أتى به على غير اللفظ الذي
اعتيد فهو أولى بالحفظ ولا سيما وفيهم مثل دحيم، وكذلك ما زادوه من قوله:
"مظلوما" فإنه لا بد من هذا القيد. وساقه من طريق دحيم وابن أبي عمر وعبد
العزيز بن سلام، قلت: وكذلك أخرجه النسائي عن عبيد الله بن فضالة عن المقرئ، وكذلك
رواه حيوة بن شريح عن أبي الأسود بهذا اللفظ أخرجه الطبري. نعم للحديث طريق أخرى
عن عكرمة أخرجها النسائي باللفظ المشهور، وأخرجه مسلم كذلك من طريق ثابت بن عياض
عن عبد الله بن عمرو، وفي روايته قصة قال: "لما كان بين عبد الله بن عمرو
وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان - يشير للقتال - فركب خالد بن العاص إلى عبد الله
بن عمرو فوعظه، فقال عبد الله بن عمرو: أما علمت.." فذكر الحديث، وأشار
بقوله: "ما كان" إلى ما بينه حيوة في روايته المشار إليها فإن أولها
"أن عاملا لمعاوية أجرى عينا من ماء ليسقي بها أرضا، فدنا من حائط لآل عمرو
بن العاص فأراد أن يخرجه ليجري العين منه إلى الأرض، فأقبل عبد الله بن عمرو
ومواليه بالسلاح وقالوا: والله لا تخرقون حائطنا حتى لا يبقى منا أحد" فذكر
الحديث، والعامل المذكور هو عنبسة بن أبي سفيان كما ظهر من رواية مسلم، وكان عاملا
لأخيه على مكة والطائف، والأرض المذكورة كانت بالطائف، وامتناع عبد الله بن عمرو
من ذلك لما يدخل عليه من الضرر فلا حجة فيه لمن عارض به حديث أبي هريرة فيمن أراد
أن يضع جذعه على جدار جاره والله أعلم. وأخرجه النسائي من وجهين آخرين، وأبو داود
والترمذي من وجه آخر كلهم عن عبيد الله بن عمرو باللفظ المشهور، وفي رواية لأبي
داود والترمذي
(5/123)
"من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد" ولابن ماجة من حديث ابن عمر نحوه، وكأن البخاري أشار إلى ذلك في الترجمة لتعبيره بلفظ: "قاتل" وروى الترمذي وبقية أصحاب السنن من حديث سعيد بن زيد نحوه وفيه ذكر الأهل والدم والدين، وفي حديث أبي هريرة عند ابن ماجة "من أريد ماله ظلما فقتل فهو شهيد" قال النووي: فيه جواز قتل من قصد أخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلا أو كثيرا وهو قول الجمهور، وشذ من أوجبه، وقال بعض المالكية: لا يجوز إذا طلب الشيء الخفيف. قال القرطبي: سبب الخلاف عندنا هل الإذن في ذلك من باب تغيير المنكر فلا يفترق الحال بين القليل والكثير، أو من باب دفع الضرر فيختلف الحال؟ وحكى ابن المنذر عن الشافعي قال: من أريد ماله أو نفسه أو حريمه فله الاختيار أن يكلمه أو يستغيث، فإن منع أو امتنع لم يكن له قتاله وإلا فله أن يدفعه عن ذلك ولو أتى على نفسه، وليس عليه عقل ولا دية ولا كفارة، لكن ليس له عمد قتله. قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلما بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث المجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه. وفرق الأوزاعي بين الحال التي للناس فيها جماعة وإمام فحمل الحديث عليها، وأما في حبال الاختلاف والفرقة فليستسلم ولا يقاتل أحدا. ويرد عليه ما وقع في حديث أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه. قال: أرأيت أن قاتلني؟ قال: فاقتله. قال: أرأيت أن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال أرأيت أن قتلته؟ قال: فهو في النار" قال ابن بطال: إنما أدخل البخاري هذه الترجمة في هذه الأبواب ليبين أن للإنسان أن يدفع عن نفسه وماله ولا شيء عليه، فإنه إذا كان شهيدا إذا قتل في ذلك فلا قود عليه ولا دية إذا كان هو القاتل.
(5/124)
باب إذا كسر قصعة أو شيء لغيره
...
34 - باب: إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ
2481- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا
فَكَسَرَتْ الْقَصْعَةَ فَضَمَّهَا وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَقَالَ كُلُوا
وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ
الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ" . وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ:
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 2481- طرفه في: 5225]
قوله: "باب إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره" أي هل يضمن المثل أو القيمة؟
قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه" في رواية
الترمذي من طريق سفيان الثوري عن حميد عن أنس "أهدت بعض أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم طعاما في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها" الحديث وأخرجه أحمد عن
ابن أبي عدي ويزيد بن هارون عن حميد به وقال: أظنها عائشة. قال الطيبي: إنما أبهمت
عائشة تفخيما لشأنها، وإنه مما لا يخفى ولا يلتبس أنها هي، لأن الهدايا إنما كانت
تهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها. قوله: "فأرسلت إحدى أمهات
المؤمنين مع خادم" لم أقف على اسم الخادم، وأما المرسلة فهي زينب بنت جحش
ذكره ابن حزم في "المحلى" من طريق الليث بن سعد عن جرير بن حازم عن
(5/124)
حميد "سمعت أنس بن مالك أن زينب بنت جحش أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عائشة ويومها جفنة من حيس" الحديث، واستفدنا منه معرفة الطعام المذكور. ووقع قريب من ذلك لعائشة مع أم سلمة، فروى النسائي من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي المتوكل "عن أم سلمة أنها أتت بطعام في صحفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة" الحديث، وقد اختلف في هذا الحديث على ثابت فقيل: عنه عن أنس، ورجح أبو زرعة الرازي فيما حكاه ابن أبي حاتم في "العلل" عنه رواية حماد بن سلمة وقال: إن غيرها خطأ، ففي الأوسط للطبراني من طريق عبيد الله العمري "عن ثابت عن أنس أنهم كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة إذ أتى بصحفة خبز ولحم من بيت أم سلمة، قال: فوضعنا أيدينا وعائشة تصنع طعاما عجلة، فلما فرغنا جاءت به ورفعت صحفة أم سلمة فكسرتها" الحديث. وأخرجه الدار قطني من طريق عمران بن خالد عن ثابت عن أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة معه بعض أصحابه ينتظرون طعاما فسبقتها - قال عمران أكثر ظني أنها حفصة - بصحفة فيها ثريد فوضعتها فخرجت عائشة - وذلك قبل أن يحتجبن - فضربت بها فانكسرت" الحديث. ولم يصب عمران في ظنه أنها حفصة بل هي أم سلمة كما تقدم، نعم وقعت القصة لحفصة أيضا، وذلك فيما رواه ابن أبي شيبة وابن ماجة من طريق رجل من بني سواءة غير مسمى عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فصنعت له طعاما وصنعت له حفصة طعاما فسبقتني، فقلت للجارية انطلقي فأكفئي قصعتها فأكفأتها فانكسرت وانتشر الطعام، فجمعه على النطع فأكلوا، ثم بعث بقصعتي إلى حفصة فقال: خذوا ظرفا مكان ظرفكم" وبقية رجاله ثقات، وهي قصة أخرى بلا ريب، لأن في هذه القصة أن الجارية هي التي كسرت الصحفة وفي الذي تقدم أن عائشة نفسها هي التي كسرتها. وروى أبو داود والنسائي من طريق جسرة بفتح الجيم وسكون المهملة عن عائشة قالت: "ما رأيت صانعة طعاما مثل صفية، أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إناء فيه طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته فقلت: يا رسول الله ما كفارته؟ قال: إناء كإناء وطعام كطعام" إسناده حسن: ولأحمد وأبي داود عنها "فلما رأيت الجارية أخذتني رعدة" فهذه قصة أخرى أيضا، وتحرر من ذلك أن المراد بمن أبهم في حديث الباب هي زينب لمجيء الحديث من مخرجه وهو حميد عن أنس، وما عدا ذلك فقصص أخرى لا يليق بمن يحقق أن يقول في مثل هذا: قيل المرسلة فلانة وقيل فلانة إلخ من غير تحرير. قوله: "بقصعة" بفتح القاف: إناء من خشب. وفي رواية ابن علية في النكاح عند المصنف "بصحفة" وهي قصعة مبسوطة وتكون من غير الخشب. قوله: "فضربت بيدها فكسرت القصعة" زاد أحمد "نصفين" وفي رواية أم سلمة عند النسائي: "فجاءت عائشة ومعها فهر ففلقت به الصحفة" وفي رواية ابن علية "فضربت التي في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت" والفلق بالسكون الشق، ودلت الرواية الأخرى على أنها انشقت ثم انفصلت. قوله: "فضمها" في رواية ابن علية "فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم" ولأحمد "فأخذ الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل فيها الطعام" ولأبي داود والنسائي من طريق خالد بن الحارث عن حميد نحوه وزاد: "كلوا فأكلوا" . قوله: "وحبس الرسول" زاد ابن علية "حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها". قوله: "فدفع القصعة الصحيحة" زاد ابن علية "إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت" زاد الثوري "وقال: إناء كإناء وطعام كطعام" قال ابن بطال: احتج به الشافعي والكوفيون فيمن استهلك عروضا أو حيوانا فعليه مثل ما استهلك، قالوا: ولا يقضى بالقيمة إلا عند
(5/125)
عدم المثل. وذهب مالك إلى القيمة مطلقا. وعنه في رواية كالأول. وعنه ما صنعه الآدمي فالمثل. وأما الحيوان فالقيمة. وعنه ما كان مكيلا أو موزونا فالقيمة وإلا فالمثل وهو المشهور عندهم. وما أطلقه عن الشافعي فيه نظر، وإنما يحكم في الشيء بمثله إذا كان متشابه الأجزاء، وأما القصعة فهي من المتقومات لاختلاف أجزائها. والجواب ما حكاه البيهقي بأن القصعتين كانتا للنبي صلى الله عليه وسلم في بيتي زوجتيه فعاقب الكاسرة بجعل القصعة المكسورة في بيتها وجعل الصحيحة في بيت صاحبتها ولم يكن هناك تضمين، ويحتمل على تقدير أن تكون القصعتان لهما أنه رأى ذلك سدادا بينهما فرضيتا بذلك، ويحتمل أن يكون ذلك في الزمان الذي كانت العقوبة فيه بالمال كما تقدم قريبا، فعاقب الكاسرة بإعطاء قصعتها للأخرى. قلت: ويبعد هذا التصريح بقوله: "إناء كإناء" وأما التوجيه الأول فيعكر عليه قوله في الرواية التي ذكرها ابن أبي حاتم "من كسر شيئا فهو له وعليه مثله" زاد في رواية الدار قطني "فصارت قضية" وذلك يقتضي أن يكون حكما عاما لكل من وقع له مثل ذلك، ويبقى دعوى من اعتذر عن القول به بأنها واقعة عين لا عموم فيها، لكن محل ذلك ما إذا أفسد المكسور، فأما إذا كان الكسر خفيفا يمكن إصلاحه فعلى الجاني أرشه، والله أعلم. وأما مسألة الطعام فهي محتملة لأن يكون ذلك من باب المعونة والإصلاح دون بت الحكم بوجوب المثل فيه لأنه ليس له مثل معلوم، وفي طرق الحديث ما يدل على ذلك وأن الطعامين كانا مختلفين والله أعلم. واحتج به الحنفية لقولهم إذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها زال ملك المغصوب عنها وملكها الغاصب وضمنها، وفي الاستدلال لذلك بهذا الحديث نظر لا يخفى، قال الطيبي: وإنما وصفت المرسلة بأنها أم المؤمنين إيذانا بسبب الغيرة التي صدرت من عائشة وإشارة إلى غيرة الأخرى حيث أهدت إلى بيت ضرتها، وقوله: "غارت أمكم" اعتذار منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحمل صنيعها على ما يذم، بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر على دفعها، وسيأتي مزيد لما يتعلق بالغيرة في كتاب النكاح حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى. وفي الحديث حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وإنصافه وحلمه، قال ابن العربي: وكأنه إنما لم يؤدب الكاسرة ولو بالكلام لما وقع منها من التعدي لما فهم من أن التي أهدت أرادت بذلك أذى التي هو في بيتها والمظاهرة عليها فاقتصر على تغريمها للقصعة، قال: وإنما لم يغرمها الطعام لأنه كان مهدي فإتلافهم له قبول أو في حكم القبول، وغفل رحمه الله عما ورد في الطرق الأخرى والله المستعان. قوله: "وقال ابن أبي مريم" هو سعيد شيخ البخاري، وأراد بذلك بيان التصريح بتحديث أنس لحميد، وقد وقع تصريحه بالسماع منه لهذا الحديث في رواية جرير بن حازم المذكورة أولا من عند ابن حزم.
(5/126)
باب إذا هدم حائطا فليبني مثله
...
35 - باب: إِذَا هَدَمَ حَائِطًا فَلْيَبْنِ مِثْلَهُ
2482- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ
يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ يُصَلِّي فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَأَبَى أَنْ
يُجِيبَهَا فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ
لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي
صَوْمَعَتِهِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ لاَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا فَتَعَرَّضَتْ لَهُ
فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا،
(5/126)
فَوَلَدَتْ غُلاَمًا فَقَالَتْ: هُوَ
مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ
فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟
قَالَ: الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لاَ إِلاَّ
مِنْ طِينٍ"
قوله: "باب إذا هدم حائطا فليبن مثله" أي خلافا لمن قال تلزمه القيمة من
المالكية وغيرهم. وأورد المصنف حديث أبي هريرة في قصة جريج الراهب مختصرا، وساقه
في أحاديث الأنبياء من هذا الوجه مطولا، ويأتي الكلام عليه هناك مستوفى إن شاء
الله تعالى. وموضع الحاجة منه هنا قوله: "فقالوا نبني صومعتك من ذهب، قال: لا
إلا من طين" وقال قبل ذلك "فكسروا صومعته" وتوجيه الاحتجاج به أن
شرع من قبلنا شرع لنا، وهو كذلك إذا لم يأت شرعنا بخلافه كما تقدم غير مرة، لكن في
الاستدلال بقصة جريج فيما ترجم به نظر، قال ابن المنير: الاستدلال بذلك غير ظاهر
فيما ترجم له؛ لأنهم عرضوا عليه مالا يلزمهم اتفاقا وهو بناؤها من ذهب، وما أجابهم
جريج إلا بقوله: "من طين" وأشار بذلك إلى الصفة التي كانت عليها قال:
ولا خلاف أن الهادم لو التزم الإعادة ورضي صاحبه في جواز ذلك. قال: ويحتمل على أصل
مالك أن لا يجوز، لأنه فسخ لما وجب ناجزا وهو القيمة إلا ما يتأخر وهو البنيان.
قال ابن مالك: في قوله: "لا إلا من طين" شاهد على حذف المجزوم بلا، فإن
التقدير لا تبنوها إلا من طين.
"خاتمة": اشتمل كتاب المظالم من الأحاديث المرفوعة على ثمانية وأربعين
حديثا. المعلق منها ستة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثمانية وعشرون حديثا، وافقه
مسلم على تخريجها سوى حديث أبي سعيد "إذا خلص المؤمنون" وحديث أنس
"انصر أخاك" وحديث أبي هريرة "من كانت له مظلمة" وحديث ابن
عمر "من أخذ شيئا من الأرض" وحديث عبد الله بن يزيد في النهي عن النهبى
والمثلة، وحديث أنس في القصعة المكسورة. وفيه من الآثار سبعة آثار. والله سبحانه
وتعالى أعلم.
(5/127)
كتاب الشركة
باب الشركة في الطعام والنهد والعروض
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
47 - كِتَاب الشَّرِكَةِ
1 - باب: الشَّرِكَةِ فِي الطَّعَامِ وَالنَّهْدِ وَالْعُرُوضِ
وَكَيْفَ قِسْمَةُ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مُجَازَفَةً أَوْ قَبْضَةً قَبْضَةً
لَمَّا لَمْ يَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي النَّهْدِ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ هَذَا
بَعْضًا وَهَذَا بَعْضًا وَكَذَلِكَ مُجَازَفَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْقِرَانُ فِي التَّمْرِ
2483- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ وَهْبِ
بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُ قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ
الْجَرَّاحِ وَهُمْ ثَلاَثُ مِائَةٍ وَأَنَا فِيهِمْ فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا
كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ
بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ
فَكَانَ يُقَوِّتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى فَنِيَ فَلَمْ يَكُنْ
يُصِيبُنَا إِلاَّ تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ فَقُلْتُ وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ فَقَالَ:
لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ قَالَ ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى
الْبَحْرِ فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ
ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ مِنْ
أَضْلاَعِهِ فَنُصِبَا ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ ثُمَّ مَرَّتْ
تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا"
[الحديث 2483- أطرافه في: 2983 ، 4360 ، 4361 ، 4362 ، 5493 ، 5494]
2484- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
"خَفَّتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ وَأَمْلَقُوا فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَحْرِ إِبِلِهِمْ فَأَذِنَ لَهُمْ فَلَقِيَهُمْ
عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ فَدَخَلَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَادِ
فِي النَّاسِ فَيَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ فَبُسِطَ لِذَلِكَ نِطَعٌ
وَجَعَلُوهُ عَلَى النِّطَعِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ
فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ"
[الحديث 2484- طرفه في: 2982]
2485- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا
أَبُو النَّجَاشِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعَصْرَ فَنَنْحَرُ جَزُورًا فَتُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا
قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ"
2486- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ
عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ
طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ
(5/128)
وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ
فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ"
قوله: "كتاب الشركة" كذا للنسفي وابن شبويه، وللأكثر "باب" ولأبي
ذر "في الشركة" وقدموا البسملة وأخرها. والشركة بفتح المعجمة وكسر
الراء، وبكسر أوله وسكون الراء، وقد تحذف الهاء، وقد يفتح أوله مع ذلك فتلك أربع
لغات. وهي شرعا: ما يحدث بالاختيار بين اثنين فصاعدا من الاختلاط لتحصيل الربح،
وقد تحصل بغير قصد كالإرث، قوله: "الشركة في الطعام والنهد" أما الطعام
فسيأتي القول فيه في باب مفرد، وأما النهد فهو بكسر النون وبفتحها إخراج القوم
نفقاتهم على قدر عدد الرفقة، يقال تناهدوا وناهد بعضهم بعضا قاله الأزهري وقال
الجوهري نحوه لكن قال: على قدر نفقة صاحبه، ونحوه لابن فارس، وقال ابن سيده: النهد
العون. وطرح نهده مع القوم أعانهم وخارجهم، وذلك يكون في الطعام والشراب. وقيل.
فذكر قول الأزهري. وقال عياض مثل قول الأزهري إلا أنه قيده بالسفر والخلط، ولم
يقيده بالعدد. وقال ابن التين: قال جماعة هو النفقة بالسوية في السفر وغيره، والذي
يظهر أن أصله في السفر، وقد تتفق رفقة فيضعونه في الحضر كما سيأتي في آخر الباب من
فعل الأشعريين، وأنه لا يتقيد بالتسوية إلا في القسمة، وأما في الأكل فلا تسوية
لاختلاف حال الآكلين، وأحاديث الباب تشهد لكل ذلك. وقال ابن الأثير: هو ما تخرجه
الرفقة عند المناهدة إلى الغزو، وهو أن يقتسموا نفقتهم بينهم بالسوية حتى لا يكون
لأحدهم على الآخر فضل، فزاده قيدا آخر وهو سفر الغزو، والمعروف أنه خلط الزاد في
السفر مطلقا، وقد أشار إلى ذلك المصنف في الترجمة حيث قال: "يأكل هذا بعضا
وهذا بعضا" وقال القابسي: هو طعام الصلح بين القبائل، وهذا غير معروف، فإن
ثبت فلعله أصله. وذكر محمد بن عبد الملك التاريخي أن أول من أحدث النهد حضين -
بمهملة ثم معجمة مصغر - الرقاشي. قلت وهو بعيد لثبوته في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم، وحضين لا صحبة له، فإن ثبتت احتملت أوليته فيه في زمن مخصوص أو في فئة
مخصوصة. قوله: "والعروض" بضم أوله جمع عرض بسكون الراء مقابل النقد،
وأما بفتحها فجميع أصناف المال، وما عدا النقد يدخل فيه الطعام فهو من الخاص بعد
العام ويدخل فيه الربويات، ولكنه اغتفر في النهد لثبوت الدليل على جوازه. واختلف
العلماء في صحة الشركة كما سيأتي. قوله: "وكيف قسمة ما يكال ويوزن" أي
هل يجوز قسمته مجازفة أو لا بد من الكيل في المكيل والوزن في الموزون، وأشار إلى
ذلك بقوله: "مجازفة أو قبضة قبضة" أي متساوية. قوله: "لما لم تر
المسلمون بالنهد بأسا" هو بكسر اللام وتخفيف الميم، وكأنه أشار إلى أحاديث
الباب، وقد ورد الترغيب في ذلك، وروى أبو عبيدة في "الغريب" عن الحسن
قال: "أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم". قوله:
"وكذلك مجازفة الذهب والفضة" كأنه ألحق النقد بالعرض للجامع بينهما وهو
المالية، لكن إنما يتم ذلك في قسمة الذهب مع الفضة، أما قسمة أحدهما خاصة - حيث
يقع الاشتراك في الاستحقاق - فلا يجوز إجماعا قاله ابن بطال. وقال ابن المنير: شرط
مالك في منعه أن يكون مصكوكا والتعامل فيه بالعدد. فعلى هذا يجوز بيع ما عداه
جزافا، ومقتضى الأصول منعه، وظاهر كلام البخاري جوازه، ويمكن أن يحتج له بحديث
جابر في مال البحرين، والجواب عن ذلك أن قسمة العطاء ليس على حقيقة القسمة، لأنه
غير مملوك للآخذين قبل التمييز، والله أعلم. قوله: "والقران في التمر"
يشير إلى حديث ابن عمر الماضي في المظالم، وسيأتي أيضا بعد بابين. ثم ذكر المصنف
في الباب
(5/129)
أربعة أحاديث: أحدها حديث جابر في بعث أبي عبيدة بن الجراح إلى جهة الساحل، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب المغازي، وشاهد الترجمة منه قوله: "فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع" الحديث. وقال الداودي ليس في حديث أبي عبيدة ولا الذي بعده ذكر المجازفة لأنهم لم يريدوا المبايعة ولا البدل، وإنما يفضل بعضهم بعضا لو أخذ الإمام من أحدهم للآخر. وأجاب ابن التين بأنه إنما أراد أن حقوقهم تساوت فيه بعد جمعه لكنهم تناولوه مجازفة كما جرت العادة. ثانيها حديث سلمة بن الأكوع في إرادة نحر إبلهم في الغزو، والشاهد منه جمع أزوادهم ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، وهو ظاهر فيما ترجم به من كون أخذهم منها كان بغير قسمة مستوية، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. وقوله فيه: "أزواد" في رواية المستملي: "أزودة" وقوله: "وأملقوا" أي افتقروا. قوله: "وبرك" بتشديد الراء أي دعا بالبركة، وقوله: "فاحتثى" بسكون المهملة بعدها مثناة مفتوحة ثم مثلثة افتعل من الحثي وهو الأخذ بالكفين. ثالثها حديث رافع بن خديج في تعجيل صلاة العصر، وهو من الأحاديث المذكورة في غير مظنتها، وقد ذكر المصنف في المواقيت من هذا الوجه عن رافع تعجيل المغرب، وفي هذا تعجيل العصر، والغرض منه هنا قوله: "فننحر جزورا فيقسم عشر قسم" قال ابن التين في حديث رافع الشركة في الأصل، وجمع الحظوظ في القسم، ونحر إبل المغنم، والحجة على من زعم أن أول وقت العصر مصير ظل الشيء مثليه. وقوله: "نضيجا" بالمعجمة وبالجيم أي استوى طبخه. رابعها حديث أبي موسى قوله: "عن بريد" هو بالموحدة والراء مصغرا. قوله: "إذا أرملوا" أي فني زادهم، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل من القلة كما قيل في {ذَا مَتْرَبَةٍ}. قوله: "فهم مني وأنا منهم" أي هم متصلون بي، وتسمى "من" هذه الاتصالية كقوله: "لست من دد"، وقيل: المراد فعلوا فعلي في هذه المواساة. وقال النووي: معناه المبالغة في اتحاد طريقهما واتفاقهما في طاعة الله تعالى. وفي الحديث فضيلة عظيمة للأشعريين قبيلة أبي موسى، وتحديث الرجل بمناقبه، وجواز هبة المجهول، وفضيلة الإيثار والمواساة، واستحباب خلط الزاد في السفر وفي الإقامة أيضا. والله أعلم.
(5/130)
2 - باب: مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ
فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فِي الصَّدَقَةِ
2487- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ
أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ
لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا
يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ"
قوله: "باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية في الصدقة"
أورد فيه حديث أنس عن أبي بكر في ذلك، وهو طرف من حديثه الطويل في الزكاة وتقدم
فيه، وقيده المصنف في الترجمة بالصدقة لوروده فيها، لأن التراجع لا يصح بين
الشريكين في الرقاب. وقال ابن بطال: فقه الباب أن الشريكين إذا خلط رأس مالهما
فالربح بينهما، فمن أنفق من مال الشركة أكثر مما أنفق صاحبه تراجعا عند القسمة
بقدر ذلك، لأنه عليه الصلاة والسلام أمر الخليطين في الغنم بالتراجع بينهما وهما
شريكان، فدل ذلك على أن كل شريكين في معناهما. وتعقبه ابن المنير بأن التراجع
الواقع بين الخليطين في الغنم ليس من باب قسمة الربح، وإنما أصله غرم مستهلك، لأنا
نقدر أن من لم
(5/130)
يعط استهلك مال من أعطى إذا أعطى عن حق وجب على غيره؛ وقد قيل إنه يقدر مستلفا من صاحبه، واستدل به على أن من قام عن غيره بواجب فله الرجوع عليه وإن لم يكن أذن له في القيام عنه قاله ابن المنير أيضا، وفيه نظر لأن صحته تتوقف على عدم الإذن، وهو هنا محتمل، فلا يتم الاستدلال مع قيام الاحتمال.
(5/131)
3 - باب: قِسْمَةِ الْغَنَمِ
2488- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ
رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ
فَأَصَابُوا إِبِلًا وَغَنَمًا قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ
ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ
فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَأَهْوَى
رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لِهَذِهِ
الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا
بِهِ هَكَذَا فَقَالَ: جَدِّي إِنَّا نَرْجُو - أَوْ نَخَافُ - الْعَدُوَّ غَدًا
وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ قَالَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ
وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ
وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ
فَمُدَى الْحَبَشَةِ"
[الحديث 2488- أطرافه في: 2507 ، 3075 ، 5498 ، 5503 ، 5506 ، 5509 ، 5543 ، 5544]
قوله: "باب قسمة الغنم" أي بالعدد، أورد فيه حديث رافع بن خديج، وفيه:
"ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير" وسيأتي الكلام عليه مستوفى في
الذبائح إن شاء الله تعالى.
(5/131)
باب القران في التمر بين الشركاءحتى
يستأذن أصحابه
...
4 - باب: الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ
أَصْحَابَهُ
2489- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا جَبَلَةُ
بْنُ سُحَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ:
"نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْرُنَ
الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ"
2490- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَبَلَةَ قَالَ:
"كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فَأَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
يَرْزُقُنَا التَّمْرَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ لاَ
تَقْرُنُوا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ
الإِقْرَانِ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ"
قوله: "باب القرآن في التمر بين الشركاء حتى يستأذن أصحابه" كذا في جميع
النسخ، ولعل "حتى" كانت "حين" فتحرفت، أو سقط من الترجمة شيء
إما لفظ النهي من أولها أو "لا يجوز" قبل "حتى". ذكر فيه حديث
ابن
(5/131)
5 - باب: تَقْوِيمِ الأَشْيَاءِ بَيْنَ
الشُّرَكَاءِ بِقِيمَةِ عَدْلٍ
2491- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ
أَوْ شِرْكًا أَوْ قَالَ نَصِيبًا وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ
الْعَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ وَإِلاَ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ"
قَالَ: لاَ أَدْرِي قَوْلُهُ "عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ" قَوْلٌ مِنْ
نَافِعٍ أَوْ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ"
[الحديث 2491- أطرافه في: 2503 ، 2521 ، 2522 ، 2523 ، 2524 ، 2525]
2492- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا
سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ
بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ
شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ فِي مَالِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ
مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"
[الحديث 2492- أطرافه في: 2504 ، 2526 ، 2527]
قوله: "باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل" قال ابن بطال: لا خلاف
بين العلماء أن قسمة العروض وسائر الأمتعة بعد التقويم جائز، وإنما اختلفوا في
قسمتها بغير تقويم: فأجازه الأكثر إذا كان على سبيل التراضي، ومنعه الشافعي وحجته
حديث ابن عمر فيمن أعتق بعض عبده فهو نص في الرقيق وألحق الباقي به. وأورد المصنف
الحديث المذكور عن ابن عمر وعن أبي هريرة، وسيأتي الكلام عليهما جميعا في كتاب
العتق مستوفى إن شاء الله تعالى.
(5/132)
6 - باب: هَلْ يُقْرَعُ فِي
الْقِسْمَةِ وَالِاسْتِهَامِ فِيهِ
2493- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ عَامِرًا
يَقُولُ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْقَائِمِ
عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى
سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ
الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ
فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ
مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ
أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا"
[الحديث 2493- طرفه في: 2686]
(5/132)
7 - باب: شَرِكَةِ الْيَتِيمِ وَأَهْلِ
الْمِيرَاثِ
2494- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ
الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا..
وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ - إِلَى - وَرُبَاعَ} فَقَالَتْ: يَا
ابْنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي
مَالِهِ فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا
يُعْطِيهَا غَيْرُهُ فَنُهُوا أَنْ يُنْكِحُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ
وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنْ الصَّدَاقِ وَأُمِرُوا أَنْ
يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ
عَائِشَةُ ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} - إلى قوله - : {وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ} وَالَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ الْآيَةُ الأُولَى الَّتِي قَالَ فِيهَا {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ
تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ}
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الأُخْرَى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ} يَعْنِي هِيَ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ لِيَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ
فِي حَجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ
يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ
إِلاَّ بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ"
[الحديث 2494- أطرافه في: 2763 ، 4573 ، 4574 ، 4600 ، 5064 ، 5092 ، 5098 ، 5128
، 5131 ، 5140 ، 6965]
قوله: "باب شركة اليتيم وأهل الميراث" الواو بمعنى مع، قال ابن بطال:
اتفقوا على أنه لا تجوز المشاركة في مال اليتيم إلا إن كان لليتيم في ذلك مصلحة
راجحة. وأورد المصنف في الباب حديث عائشة في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وسيأتي الكلام عليه مستوفى في تفسير سورة
النساء إن شاء الله تعالى. الأويسي المذكور في الإسناد هو عبد العزيز، وإبراهيم هو
ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان؛ والإسناد كله مدنيون. وقوله: "وقال الليث حدثني
يونس" وصله الطبري في تفسيره من طريق عبد الله بن صالح عن الليث مقرونا بطريق
ابن وهب عن يونس؛ وقوله فيه: "رغبة أحدكم يتيمته" وفي رواية الكشميهني:
"عن يتيمته" ولعله أصوب.
(5/133)
8 - باب: الشَّرِكَةِ فِي الأَرَضِينَ
وَغَيْرِهَا
2495- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ
(5/133)
باب إذا قسم الشركاء الدور أو غيرها
فليس لهم رجوع ولا شفعة
...
9 - باب: إِذَا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ الدُّورَ وَغَيْرَهَا فَلَيْسَ لَهُمْ
رُجُوعٌ وَلاَ شُفْعَةٌ
2496- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ
وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ"
قوله: "باب إذا قسم الشركاء الدور وغيرها فليس لهم رجوع ولا شفعة" أورد
فيه حديث جابر المذكور، قال ابن المنير: ترجم بلزوم القسمة، وليس في الحديث إلا
نفي الشفعة، لكن لكونه يلزم من نفيها نفي الرجوع - إذ لو كان للشريك أن يرجع لعادت
مشاعة - فعادت الشفعة.
(5/134)
10 - باب: الِاشْتِرَاكِ فِي الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ
وَمَا يَكُونُ فِيهِ الصَّرْفُ
2497 ، 2498- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ
عُثْمَانَ - يَعْنِي ابْنَ الأَسْوَدِ - قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي
مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا الْمِنْهَالِ عَنْ الصَّرْفِ يَدًا بِيَدٍ فَقَالَ:
"اشْتَرَيْتُ أَنَا وَشَرِيكٌ لِي شَيْئًا يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً
فَجَاءَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ فَعَلْتُ أَنَا
وَشَرِيكِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ وَمَا كَانَ
نَسِيئَةً فَذَرُوهُ"
قوله: "باب الاشتراك في الذهب والفضة وما يكون فيه الصرف" قال ابن بطال:
أجمعوا على أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد مثل ما أخرج صاحبه ثم يخلطا ذلك حتى
لا يتميز ثم يتصرفا جميعا، إلا أن يقيم كل واحد منهما الآخر مقام نفسه. وأجمعوا
على أن الشركة بالدراهم والدنانير جائزة، لكن اختلفوا إذا كانت الدنانير من أحدهما
والدراهم من الآخر، فمنعه الشافعي ومالك في المشهور عنه والكوفيون إلا الثوري ا
هـ، وزاد الشافعي أن لا تختلف الصفة أيضا كالصحاح والمكسرة، وإطلاق البخاري الترجمة
يشعر بجنوحه إلى قول الثوري، وقوله: "وما يكون في الصرف" أي كالدراهم
المغشوشة والتبر وغير ذلك، وقد اختلف العلماء في ذلك فقال الأكثر: يصح في كل مثلي
(5/134)
باب: مُشَارَكَةِ الذِّمِّيِّ
وَالْمُشْرِكِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ
2499- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ
أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
"أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ
الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا"
قوله: "باب مشاركة الذمي والمشركين في المزارعة" لواو في قوله:
"والمشركين" عاطفة وليس بمعنى مع، والتقدير مشاركة المسلم للذمي ومشاركة
المسلم للمشركين، وقد ذكر فيه حديث ابن عمر في إعطاء اليهود خيبر على أن يعملوها
مختصرا، وقد تقدم في المزارعة، وهو ظاهر في الذمي وألحق المشرك به لأنه إذا استأمن
صار في معنى الذمي، وأشار المصنف إلى مخالفة من خالف في الجواز كالثوري والليث
وأحمد وإسحاق، وبه قال مالك إلا أنه أجازه إذا كان يتصرف بحضرة المسلم، وحجتهم
خشية أن يدخل في مال المسلم ما لا يحل كالربا وثمن الخمر والخنزير، واحتج الجمهور
بمعاملة النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر، وإذا جاز في المزارعة جاز في غيرها،
وبمشروعية أخذ الجزية منهم مع أن في أموالهم ما فيها.
(5/135)
12 - باب: قِسْمَةِ الْغَنَمِ
وَالْعَدْلِ فِيهَا
2500- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ
غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ أَنْتَ"
قوله: "باب قسم الغنم والعدل فيها" ذكر فيه حديث عقبة بن عامر، وقد مضى
توجيه إيراده في الشركة في أوائل
(5/135)
13 - باب: الشَّرِكَةِ فِي الطَّعَامِ
وَغَيْرِهِ
وَيُذْكَرُ أَنَّ رَجُلًا سَاوَمَ شَيْئًا فَغَمَزَهُ آخَرُ فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ
لَهُ شَرِكَةً
2501 ، 2502- حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: "أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ عَنْ زُهْرَةَ بْنِ
مَعْبَدٍ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ - وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ
بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ فَقَالَ: هُوَ صَغِيرٌ فَمَسَحَ رَأْسَهُ
وَدَعَا لَهُ - وَعَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ
جَدُّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ إِلَى السُّوقِ فَيَشْتَرِي الطَّعَامَ
فَيَلْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
فَيَقُولاَنِ لَهُ أَشْرِكْنَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ فَيَشْرَكُهُمْ فَرُبَّمَا أَصَابَ
الرَّاحِلَةَ كَمَا هِيَ فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ"
[الحديث 2501- طرفه في: 7210]
[الحديث 2502- طرفه في: 6353]
قوله: "باب الشركة في الطعام وغيره" أي من المثليات، والجمهور على صحة
الشركة في كل ما يتملك، والأصح عند الشافعية اختصاصها بالمثلي، وسبيل من أراد
الشركة بالعروض عندهم أن يبيع بعض عرضه المعلوم ببعض عرض الآخر المعلوم ويأذن له
في التصرف، وفي وجه لا يصح إلا في النقد المضروب كما تقدم، وعن المالكية تكره
الشركة في الطعام، والراجح عندهما الجواز. قوله: "ويذكر أن رجلا" لم أقف
على اسمه. قوله: "فرأى عمر" كذا للأكثر. وفي رواية ابن شبويه "فرأى
ابن عمر" وعليها شرح ابن بطال، والأول أصح فقد رواه سعيد بن منصور من طريق إياس
بن معاوية "أن عمر أبصر رجلا يساوم سلعة وعنده رجل فغمزه حتى اشتراها، فرأى
عمر أنها شركة" وهذا يدل على أنه كان لا يشترط للشركة صيغة ويكتفي فيها
بالإشارة إذا ظهرت القرينة وهو قول مالك، وقال: مالك أيضا في السلعة تعرض للبيع
فيقف من يشتريها للتجارة، فإذا اشتراها واحد منهم واستشركه الآخر لزمه أن يشركه
لأنه انتفع بتركه الزيادة عليه، ووقع في نسخة الصغاني ما نصه "قال أبو عبد
الله - يعني المصنف - إذا قال الرجل للرجل أشركني فإذا سكت يكون شريكه في
النصف" ا هـ وكأنه أخذه من أثر عمر المذكور. قوله: "أخبرني سعيد" و
ابن أبي أيوب، وثبت في رواية ابن شبويه. قوله: "عن زهرة" هو بضم الزاي
وعند أبي داود من رواية المقبري عن سعيد "حدثني أبو عقيل زهرة بن معبد".
قوله: "عن جده عبد الله بن هشام" أي ابن زهرة التيمي من بني عمرو بن كعب
بن سعد بن تيم بن مرة رهط أبي بكر الصديق، وهو جد زهرة لأبيه. قوله: "وكان قد
أدرك النبي صلى الله عليه وسلم" ذكر ابن منده أنه أدرك من حياة النبي صلى
الله عليه وسلم ست سنين، وروى أحمد في مسنده أنه احتلم في زمن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، لكن في إسناده ابن لهيعة، وحديث الباب يدل على خطأ روايته هذه فإن ذهاب
أمه به كان في الفتح ووصف بالصغر إذ ذاك فإن كان ابن لهيعة ضبطه فيحتمل أنه بلغ في
أوائل سن الاحتلام. قوله: "وذهبت به أمه زينب
(5/136)
بنت حميد" أي ابن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى وهي معدودة في الصحابة، وأبوه هشام مات قبل الفتح كافرا، وقد شهد عبد الله بن هشام فتح مصر واختط بها فيما ذكره ابن يونس وغيره، وعاش إلى خلافة معاوية. قوله: "ودعا له" زاد المصنف في الأحكام من وجه آخر "عن زهرة" وأخرجه الحاكم في "المستدرك" من حديث ابن وهب بتمامه فوهم. قوله: "وعن زهرة بن معبد" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "فيلقاه ابن عمر وابن الزبير" قال الإسماعيلي رواه الخلق فلم يذكر أحد هذه الزيادة إلى آخرها إلا ابن وهب. قلت: وقد أخرجه المصنف في الدعوات عن عبد الله بن وهب بهذا الإسناد، وكذلك أخرجه أبو نعيم من وجهين عن ابن وهب، قال الإسماعيلي: تفرد به ابن وهب. قوله: "فيقولان له أشركنا" هو شاهد الترجمة لكونهما طلبا منه الاشتراك في الطعام الذي اشتراه فأجابهما إلى ذلك وهم من الصحابة ولم ينقل عن غيرهم ما يخالف ذلك فيكون حجة، وفي الحديث مسح رأس الصغير، وترك مبايعة من لم يبلغ، والدخول في السوق لطلب المعاش، وطلب البركة حيث كانت، والرد على من زعم أن السعة من الحلال مذمومة، وتوفر دواعي الصحابة على إحضار أولادهم عند النبي صلى الله عليه وسلم لالتماس بركته، وعلم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم لإجابة دعائه في عبد الله بن هشام. "تنبيهان": أحدهما وقع في رواية الإسماعيلي: "وكان - يعني عبد الله بن هشام - يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله" فعزا بعض المتأخرين هذه الزيادة للبخاري فأخطأ. ثانيهما وقع في نسخة الصغاني زيادة لم أرها في شيء من النسخ غيرها ولفظه: "قال أبو عبد الله: كان عروة البارقي يدخل السوق وقد ربح أربعين ألفا ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة حيث أعطاه دينارا يشتري به أضحية فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فبرك له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(5/137)
14 - باب: الشَّرِكَةِ فِي الرَّقِيقِ
2503- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ وَجَبَ
عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ قَدْرَ ثَمَنِهِ يُقَامُ
قِيمَةَ عَدْلٍ وَيُعْطَى شُرَكَاؤُهُ حِصَّتَهُمْ وَيُخَلَّى سَبِيلُ
الْمُعْتَقِ"
2504- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ أُعْتِقَ كُلُّهُ إِنْ كَانَ
لَهُ مَالٌ وَإِلاَ يُسْتَسْعَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"
قوله: "باب الشركة في الرقيق" أورد فيه حديثي ابن عمر وأبي هريرة فيمن
أعتق شقصا - أي نصيبا - من عبد، وهو ظاهر فيما ترجم له لأن صحة العتق فرع صحة
الملك.
(5/137)
باب الاشتراك في الهدي والبدن وإذا
أشرك الرجل رجلا في هديه بعد ما أهدى
...
15 - باب: الِاشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ وَالْبُدْنِ
وَإِذَا أَشْرَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي هَدْيِهِ بَعْدَ مَا أَهْدَى
2505 ، 2506- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ
(5/137)
باب من عدل عشرة من الغنم بجزور في
القسم
...
16 - باب: مَنْ عَدَلَ عَشْرًا مِنْ الْغَنَمِ بِجَزُورٍ فِي الْقَسْمِ
2507- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلًا، فَعَجِلَ
الْقَوْمُ فَأَغْلَوْا بِهَا الْقُدُورَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهَا فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ عَدَلَ عَشْرًا مِنْ
الْغَنَمِ بِجَزُورٍ. ثُمَّ إِنَّ بَعِيرًا نَدَّ وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ إِلاَّ
خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ فَحَبَسَهُ بِسَهْمٍ فَقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ
فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا. قَالَ قَالَ جَدِّي: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْجُو - أَوْ نَخَافُ - أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا،
وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، فَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ: اعْجَلْ، أَوْ أَرْنِي.
مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا لَيْسَ السِّنَّ
وَالظُّفُرَ وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا
الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ"
قوله: "باب من عدل عشرة من الغنم بجزور" بفتح الجيم وضم الزاي أي بعير
"في القسم" بفتح القاف. ذكر فيه حديث رافع في تلك، وقد تقدم قريبا وأنه
يأتي الكلام عليه في الذبائح إن شاء الله تعالى. ومحمد شيخ البخاري في هذا الحديث
لم ينسب في أكثر الروايات، ووقع في رواية ابن شبويه "حدثنا محمد بن
سلام". والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب الشركة من الأحاديث المرفوعة على سبعة وعشرين
حديثا، المعلق منها واحد والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثلاثة عشر
حديثا والخالص أربعة عشر، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث النعمان "مثل
القائم على حدود الله" وحديثي عبد الله بن هشام وحديثي عبد الله بن عمر وعبد
الله بن الزبير في قصته، وحديث ابن عباس الأخير. وفيه من الآثار أثر واحد. والله
أعلم.
(5/139)
كتاب الرهن
باب في الرهن في الحضر وقول الله عز وجل ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهن
مقبوضة)
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
48 - كتاب الرهن
1 - باب الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ، وقول الله عز وجل [283 البقرة]:
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}
2508- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا
قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "وَلَقَدْ رَهَنَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ، وَمَشَيْتُ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ
سَنِخَةٍ. وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا أَصْبَحَ لِآلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ صَاعٌ وَلاَ أَمْسَى، وَإِنَّهُمْ لَتِسْعَةُ
أَبْيَاتٍ"
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب في الرهن في الحضر، وقول الله عز وجل:
{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} كذا لأبي ذر، ولغيره: "باب" بدل
"كتاب"، ولابن شبويه "باب ما جاء" وكلهم ذكروا الآية من
أولها. والرهن بفتح أوله وسكون الهاء: في اللغة الاحتباس من قولهم رهن الشيء إذا
دام وثبت، ومنه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} . وفي الشرع: جعل مال
وثيقة على دين. ويطلق أيضا على العين المرهونة تسمية للمفعول باسم المصدر. وأما
الرهن بضمتين فالجمع، ويجمع أيضا على رهان بكسر الراء ككتب وكتاب، وقرئ بهما.
وقوله: "في الحضر" إشارة إلى أن التقييد بالسفر في الآية خرج للغالب فلا
مفهوم له لدلالة الحديث على مشروعيته في الحضر كما سأذكره وهو قول الجمهور،
واحتجوا له من حيث المعنى بأن الرهن شرع توثقة على الدين لقوله تعالى: {فَإِنْ
أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} فإنه يشير إلى أن المراد بالرهن الاستيثاق، وإنما قيده
بالسفر لأنه مظنة فقد الكاتب فأخرجه مخرج الغالب، وخالف في ذلك مجاهد والضحاك فيما
نقله الطبري عنهما فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود
وأهل الظاهر. وقال ابن حزم: إن شرط المرتهن الرهن في الحضر لم يكن له ذلك، وإن
تبرع به الراهن جاز، وحمل حديث الباب على ذلك. وقد أشار البخاري إلى ما ورد في بعض
طرقه كعادته، وقد تقدم الحديث في "باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم
بالنسيئة" في أوائل البيوع من هذا الوجه بلفظ: "ولقد رهن درعا له
بالمدينة عند يهودي" وعرف بذلك الرد على من اعترض بأنه ليس في الآية والحديث
تعرض للرهن في الحضر. قوله: "حدثنا مسلم بن إبراهيم" تقدم في أوائل
البيوع مقرونا بإسناد آخر، وساقه هناك على لفظه وهنا على لفظ مسلم بن إبراهيم.
قوله: "ولقد رهن درعه" هو معطوف على شيء محذوف، بينه أحمد من طريق أبان
العطار عن قتادة عن أنس "أن يهوديا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأجابه" والدرع بكسر المهملة يذكر ويؤنث. قوله: "بشعير" وقع في
أوائل البيوع من هذا الوجه بلفظ: "ولقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعا له
بالمدينة عند يهودي وأخذ منه شعيرا لأهله" وهذا اليهودي هو أبو الشحم، بينه
الشافعي ثم البيهقي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه
وسلم رهن درعا له عند أبي الشحم اليهودي رجل من بني ظفر في شعير" انتهى، وأبو
الشحم بفتح المعجمة وسكون المهملة اسمه كنيته، وظفر بفتح الظاء والفاء بطن من
الأوس وكان حليفا لهم، وضبطه بعض المتأخرين بهمزة موحدة ممدودة ومكسورة
(5/140)
اسم الفاعل من الإباء، وكأنه التبس عليه بأبي اللحم الصحابي، وكان قدر الشعير المذكور ثلاثين صاعا كما سيأتي للمصنف من حديث عائشة في الجهاد وأواخر المغازي. وكذلك رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وغيرهم من طريق عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه الترمذي والنسائي من هذا الوجه فقالا: "بعشرين" ولعله كان دون الثلاثين فجبر الكسر تارة وألغى أخرى، ووقع لابن حبان من طريق شيبان عن قتادة عن أنس أن قيمة الطعام كانت دينارا وزاد أحمد من طريق شيبان الآتية في آخره: "فما وجد ما يفتكها به حتى مات". قوله: "ومشيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالة سنخة" والإهالة بكسر الهمزة وتخفيف الهاء ما أذيب من الشحم والإلية، وقيل هو كل دسم جامد، وقيل ما يؤتدم به من الأدهان، وقوله: "سنخة" بفتح المهملة وكسر النون بعدها معجمة مفتوحة أي المتغيرة الريح، ويقال فيها بالزاي أيضا. ووقع لأحمد من طريق شيبان عن قتادة عن أنس "لقد دعي نبي الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على خبز شعير وإهالة سنخة" فكأن اليهودي دعا النبي صلى الله عليه وسلم على لسان أنس فلهذا قال: "مشيت إليه" بخلاف ما يقتضيه ظاهره أنه حضر ذلك إليه. قوله: "ولقد سمعته" فاعل "سمعت" أنس والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وهو فاعل يقول، وجزم الكرماني بأنه أنس وفاعل سمعت قتادة، وقد أشرت إلى الرد عليه في أوائل البيوع. وقد أخرجه أحمد وابن ماجة من طريق شيبان المذكورة بلفظ: "ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفس محمد بيده" فذكر الحديث لفظ ابن ماجة وساقه أحمد بتمامه. قوله: "ما أصبح لآل محمد إلا صاع ولا أمسى" كذا للجميع، وكذا ذكره الحميدي في "الجمع"، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق الكجي عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري فيه بلفظ: "ما أصبح لآل محمد ولا أمسى إلا صاع" وخولف مسلم بن إبراهيم في ذلك فأخرجه أحمد عن أبي عامر والإسماعيلي من طريقه والترمذي من طريق ابن أبي عدي ومعاذ بن هشام والنسائي من طريق هشام بلفظ: "ما أمسى في آل محمد صاع من تمر ولا صاع من حب" وتقدم من وجه آخر في أوائل البيوع بلفظ: "بر" بدل تمر. قوله: "وإنهم لتسعة أبيات" في رواية المذكورين "وإن عنده يومئذ لتسع نسوة" وسيأتي سياق أسمائهن في كتاب المناقب إن شاء الله تعالى. ومناسبة ذكر أنس لهذا القدر مع ما قبله الإشارة إلى سبب قوله صلى الله عليه وسلم هذا وإنه لم يقله متضجرا ولا شاكيا - معاذ الله من ذلك - وإنما قاله معتذرا عن إجابته دعوة اليهودي ولرهنه عنده درعه، ولعل هذا هو الحامل الذي زعم بأن قائل ذلك هو أنس فرارا من أن يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك بمعنى التضجر والله أعلم. وفي الحديث جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم، واستنبط منه جواز معاملة من أكثر ماله حرام. وفيه جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيا، وفيه ثبوت أملاك أهل الذمة في أيديهم وجواز الشراء بالثمن المؤجل واتخاذ الدروع والعدد وغيرها من آلات الحرب وأنه غير قادح في التوكل، وأن قنية آلة الحرب لا تدل على تحبيسها قاله ابن المنير، وأن أكثر قوت ذلك العصر الشعير قاله الداودي، وأن القول قول المرتهن في قيمة المرهون مع يمينه حكاه ابن التين. وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والزهد في الدنيا والتقلل منها مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادخار حتى احتاج إلى رهن درعه، والصبر على ضيق العيش والقناعة باليسير، وفضيلة لأزواجه لصبرهن معه على ذلك، وفيه غير ذلك مما مضى ويأتي. قال العلماء: الحكمة في عدوله صلى الله عليه وسلم عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود إما لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل
(5/141)
2 - بَاب: مَنْ رَهَنَ دِرْعَهُ
2509- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ
قَالَ: "تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ وَالْقَبِيلَ فِي
السَّلَفِ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى
مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ"
قوله "باب من رهن درعه" ذكر فيه حديث الأعمش "قال تذاكرنا عند
إبراهيم" هو النخعي "الرهن والقبيل" بفتح القاف وكسر الموحدة أي
الكفيل وزنا ومعنى. قوله: "اشترى من يهودي" تقدم التعريف به في الباب
الذي قبله. قوله: "طعاما إلى أجل" تقدم جنسه في الباب الذي قبله، وأما الأجل
ففي صحيح ابن حبان من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش أنه سنة. قوله:
"ورهنه درعه" تقدم في أوائل البيوع من طريق عبد الواحد عن الأعمش بلفظ:
"ورهنه درعا من حديد" واستدل به على جواز بيع السلاح من الكافر وسيذكر
في الذي بعده. ووقع في أواخر المغازي من طريق الثوري عن الأعمش بلفظ: "توفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة" وفي حديث أنس عند أحمد "فما
وجد ما يفتكها به" وفيه دليل على أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث
أبي هريرة "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" قيل هذا محله في غير
نفس الأنبياء فإنها لا تكون معلقة بدين فهي خصوصية، وهو حديث صححه ابن حبان وغيره:
"من لم يترك عند صاحب الدين ما يحصل له به الوفاء" وإليه جنح الماوردي؛
وذكر ابن الطلاع في "الأقضية النبوية" أن أبا بكر افتك الدرع بعد النبي
صلى الله عليه وسلم، لكن روى ابن سعد عن جابر أن أبا بكر قضى عدات النبي صلى الله
عليه وسلم وأن عليا قضى ديونه" وروى إسحاق بن راهويه في مسنده عن الشعبي
مرسلا "أن أبا بكر افتك الدرع وسلمها لعلي بن أبي طالب" وأما من أجاب
بأنه صلى الله عليه وسلم افتكها قبل موته فمعارض بحديث عائشة رضي الله عنها.
(5/143)
3 - باب: رَهْنِ السِّلاَحِ
2510- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو
سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ
آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَا فَأَتَاهُ فَقَالَ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ
وَسْقَيْنِ. فَقَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ
نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ.
قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ فَيُقَالُ: رُهِنَ
بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ؟ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللاَمَةَ
- قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي السِّلاَحَ - فَوَعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ،
فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرُوهُ"
[الحديث 2510- أطرافه في: 3031 ، 3032 ، 4037]
(5/142)
4 - باب: الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ
وَمَحْلُوبٌ
وَقَالَ مُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: تُرْكَبُ الضَّالَّةُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا
وَتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا وَالرَّهْنُ مِثْلُهُ
2511- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ،
وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا"
[الحديث 2511- طرفه في: 2512]
2512- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرَّهْنُ يُرْكَبُ
بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ
إِذَا كَانَ مَرْهُونًا وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ"
قوله: "باب الرهن مركوب ومحلوب" هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الحاكم
وصححه من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا قال الحاكم: لم يخرجاه، لأن
سفيان وغيره وقفوه على الأعمش انتهى. وقد ذكر الدار قطني الاختلاف على الأعمش
وغيره، ورجح الموقوف وبه جزم الترمذي، وهو مساو لحديث الباب من حيث المعنى وفي
حديث الباب زيادة. قوله: "وقال مغيرة" أي ابن مقسم "عن
إبراهيم" أي النخعي "تركب الضالة بقدر علفها وتحلب بقدر علفها" وقع
في رواية الكشميهني: "بقدر عملها" والأول أصوب. وهذا الأثر وصله سعيد بن
منصور عن هشيم عن مغيرة به. قوله: "والرهن مثله" أي في الحكم المذكور،
وقد وصله سعيد بن منصور بالإسناد المذكور ولفظه: "الدابة إذا كانت مرهونة
تركب بقدر علفها، وإذا كان لها لبن يشرب منه بقدر علفها"
(5/143)
5 - باب: الرَّهْنِ عِنْدَ الْيَهُودِ
وَغَيْرِهِمْ
2513- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
"اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ"
قوله: "باب الرهن عن اليهود وغيرهم" ذكر فيه حديث عائشة المتقدم قريبا،
وغرضه جواز معاملة غير المسلمين وقد تقدم البحث فيه قريبا.
(5/145)
6 - باب: إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ
وَالْمُرْتَهِنُ وَنَحْوُهُ
فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
2514- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَتَبَ إِلَيَّ إِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ"
[الحديث 2514- طرفاه في: 2668 ، 4552]
2515 ، 2516- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهُوَ فِيهَا
فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ
ذَلِكَ[77 آل عمران] {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} - فَقَرَأَ إِلَى – {عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثُمَّ
إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ فَحَدَّثْنَاهُ قَالَ فَقَالَ صَدَقَ لَفِيَّ وَاللَّهِ
أُنْزِلَتْ كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ قُلْتُ إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلاَ يُبَالِي فَقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا
مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} –
إِلَى – {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} "
قوله "باب إذا أختلف الراهن والمرتهن ونحوه فالبينة على المدعي واليمين على
المدعى عليه"سيأتي ذكر تعريف المدعي والمدعى عليه في كتاب الشهادات إن شاء
الله تعالى وألخص ما قيل فيه إن المدعي من إذا ترك ترك والمدعى عليه بخلافه، ثم
أورد فيه ثلاثة أحاديث. الأول حديث ابن عباس: قوله "كتبت إلى ابن عباس"
حذف المفعول وقد ذكره في تفسير آل عمران. قوله: "فكتب إلي أن النبي صلى الله
عليه وسلم" يجوز فتح همزة إن وكسرها، وسيأتي الكلام على هذا الحديث في كتاب
الشهادات. وأراد المصنف منه الحمل على عمومه خلافا لمن قال إن القول في الرهن قول
المرتهن ما لم يجاوز قدر الرهن، لأن الرهن كالشاهد للمرتهن، قال ابن التين: جنح
البخاري إلى أن الرهن لا يكون
(5/145)
كتاب العتق
باب في العتق وفضله
...
باب: فِي الْعِتْقِ وَفَضْلِهِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى[13 - 15 البلد] {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ
ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ}
2517- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ
صَاحِبُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً
مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ
قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ
فَعَمَدَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى عَبْدٍ لَهُ قَدْ
أَعْطَاهُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ - أَوْ
أَلْفَ دِينَارٍ - فَأَعْتَقَهُ"
[الحديث 2517- طرفه في: 6715]
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - في العتق وفضله" كذا للأكثر، زاد ابن
شبويه بعد البسملة "باب"، وزاد المستملي قبل البسملة "كتاب
العتق" ولم يقل باب، وأثبتهما النسفي. والعتق بكسر المهملة إزالة الملك، يقال
عتق يعتق عتقا بكسر أوله ويفتح وعتاقا وعتاقة، قال الأزهري: وهو مشتق من قولهم عتق
الفرس إذا سبق وعتق الفرخ إذا طار، لأن الرقيق يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء. قوله:
"وقول الله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} ساق إلى قوله: {مَقْرَبَةٍ} ووقع في
رواية أبي ذر {أو أطعم} ولغيره {أَوْ إِطْعَامٌ} وهما قراءتان مشهورتان، والمراد
بفك الرقبة تخليص الشخص من الرق من تسمية الشيء باسم بعضه، وإنما خصت بالذكر إشارة
إلى أن حكم السيد عليه كالغل في رقبته فإذا أعتق فك الغل من عنقه، وجاء في حديث
صحيح "أن فك الرقبة مختص بمن أعان في عتقها حتى تعتق" رواه أحمد وابن حبان
والحاكم من حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أعتق النسمة وفك الرقبة. قيل يا رسول الله أليستا واحدة؟ قال: لا، إن عتق
النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها"
(5/146)
وهو في أثناء حديث طويل أخرج الترمذي بعضه وصححه، وإذا ثبت الفضل في الإعانة على العتق ثبت الفضل في التفرد بالعتق من باب الأولى. قوله: "حدثنا واقد بن محمد" أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر أخو عاصم الذي روى عنه، وبذلك صرح الإسماعيلي من طريق معاذ العنبري عن عاصم بن محمد عن أخيه واقد. قوله: "حدثني سعيد ابن مرجانة" بفتح الميم وسكون الراء بعدها جيم وهي أمه، واسم أبيه عبد الله ويكنى سعيد أبا عثمان، وقوله: "صاحب علي بن الحسين" أي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان منقطعا إليه فعرف بصحبته، ووهم من زعم أنه سعيد بن يسار أبو الحباب فإنه غيره عند الجمهور، وليس لسعيد ابن مرجانة في البخاري غير هذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في التابعين وأثبت روايته عن أبي هريرة، ثم غفل فذكره في أتباع التابعين وقال لم يسمع من أبي هريرة ا هـ. وقد قال هنا "قال لي أبو هريرة" ووقع التصريح بسماعه منه عند مسلم والنسائي وغيرهما فانتفى ما زعمه ابن حبان. قوله: "أيما رجل" في رواية الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي عن عاصم بن محمد " أيما مسلم: "ووقع تقييده بذلك في رواية مسلم والنسائي من طريق إسماعيل بن أبي حكيم عن سعيد ابن مرجانة. قوله: "عضوا من النار" في رواية مسلم: "عضوا منه من النار" وله من رواية علي بن الحسين عن سعيد ابن مرجانة وستأتي مختصرة للمصنف في كفارات الأيمان "أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه" وللنسائي من حديث كعب بن مرة "وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار عظمين منهما بعظم، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار" إسناده صحيح، ومثله للترمذي من حديث أبي أمامة، وللطبراني من حديث عبد الرحمن بن عوف ورجاله ثقات. قوله: "قال سعيد ابن مرجانة" هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "فانطلقت به" أي بالحديث. وفي رواية مسلم: "فانطلقت حين سمعت الحديث من أبي هريرة فذكرته لعلي" زاد أحمد وأبو عوانة من طريق إسماعيل بن أبي حكيم عن سعيد ابن مرجانة "فقال علي بن الحسين: أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ فقال نعم". قوله: "فعمد علي بن الحسين إلى عبد له" اسم هذا العبد مطرف، وقع ذلك في رواية إسماعيل بن أبي حكيم المذكورة عند أحمد وأبي عوانة وأبي نعيم في مستخرجيهما على مسلم، وقوله: "عبد الله عن ابن جعفر" أي ابن أبي طالب وهو ابن عم والد علي بن الحسين وكانت وفاته سنة ثمانين من الهجرة، ومات سعيد ابن مرجانة سنة سبع وتسعين ومات علي بن الحسين قبله بثلاث أو أربع، وروايته عنه من رواية الأقران، وقوله: "عشرة آلاف درهم أو ألف دينار" شك من الراوي، وفيه إشارة إلى أن الدينار إذ ذاك كان بعشرة دراهم، وقد رواه الإسماعيلي من رواية عاصم بن علي فقال: "عشرة آلاف درهم" بغير شك. قوله: "فأعتقه" في رواية إسماعيل المذكورة "فقال اذهب أنت حر لوجه الله" وفي الحديث فضل العتق، وأن عتق الذكر أفضل من عتق الأنثى خلافا لمن فضل عتق الأنثى محتجا بأن عتقها يستدعي صيرورة ولدها حرا سواء تزوجها حر أو عبد بخلاف الذكر، ومقابله في الفضل أن عتق الأنثى غالبا يستلزم ضياعها، ولأن في عتق الذكر من المعاني العامة ما ليس في الأنثى كصلاحيته للقضاء وغيره مما يصلح للذكور دون الإناث، وفي قوله: "أعتق الله بكل عضو منه عضوا" إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يكون في الرقبة نقصان ليحصل الاستيعاب، وأشار الخطابي إلى أنه يغتفر النقص المجبور بمنفعة كالخصي مثلا إذا كان ينتفع به فيما لا ينتفع بالفحل، وما قاله في مقام المنع، وقد استنكره النووي وغيره وقال: لا شك أن في عتق الخصي وكل ناقص فضيلة، لكن الكامل أولى. وقال ابن المنير: فيه إشارة إلى أنه ينبغي في
(5/147)
الرقبة التي تكون للكفارة أن تكون مؤمنة، لأن الكفارة منقذة من النار فينبغي أن لا تقع إلا بمنقذة من النار. واستشكل ابن العربي قوله: "فرجه بفرجه" لأن الفرج لا يتعلق به ذنب يوجب له النار إلا الزنا، فإن حمل على ما يتعاطاه من الصغائر كالمفاخذة لم يشكل عتقه من النار بالعتق، وإلا فالزنا كبيرة لا تكفر إلا بالتوبة، ثم قال: فيحتمل أن يكون المراد أن العتق يرجح عند الموازنة بحيث يكون مرجحا لحسنات المعتق ترجيحا يوازي سيئة الزنا ا هـ. ولا اختصاص لذلك بالفرج، بل يأتي في غيره من الأعضاء مما آثاره فيه كاليد في الغصب مثلا. والله أعلم.
(5/148)
2 - باب: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ
2518- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
"سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ
أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ. قُلْتُ: فَأَيُّ
الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَعْلاَهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا:
قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: تُعِينُ ضَايِعًا، أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ
قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: تَدَعُ النَّاسَ مِنْ الشَّرّ،ِ فَإِنَّهَا
صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ"
قوله: "باب أي الرقاب أفضل" أي للعتق. قوله: "حدثنا عبيد الله بن
موسى عن هشام بن عروة" هذا من أعلى حديث وقع في البخاري، وهو في حكم
الثلاثيات، لأن هشام بن عروة شيخ شيخه من التابعين وإن كان هنا روى عن تابعي آخر وهو
أبوه، وقد رواه الحارث بن أسامة عن عبيد الله بن موسى فقال: "أخبرنا هشام بن
عروة" أخرجه أبو نعيم في "المستخرج". قوله: "عن أبيه" أي
رواية النسائي من طريق يحيى القطان "عن هشام حدثني أبي". قوله: "عن
أبي مراوح" بضم الميم بعدها راء خفيفة وكسر الواو بعدها مهملة، زاد مسلم من
طريق حماد بن زيد "عن هشام الليثي" ويقال له أيضا الغفاري، وهو مدني من
كبار التابعين لا يعرف اسمه، وشذ من قال اسمه سعد، قال الحاكم أبو أحمد: أدرك
النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره. قلت: وما له في البخاري سوى هذا الحديث، ورجاله
كلهم مدنيون إلا شيخه. وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق. وقد أخرجه مسلم من
رواية الزهري عن حبيب مولى عروة عن عروة فصار في الإسناد أربعة من التابعين. وفي
الصحابة أبو مراوح الليثي غير هذا سماه ابن منده واقدا وعزاه لأبي داود، ووقع في
رواية الإسماعيلي من طريق يحيى بن سعيد عن هشام أخبرني أبي أن أبا مراوح أخبره،
وذكر الإسماعيلي عددا كثيرا نحو العشرين نفسا رووه عن هشام بهذا الإسناد، وخالفهم
مالك فأرسله في المشهور عنه عن هشام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه
يحيى بن يحيى الليثي وطائفة عنه عن هشام عن أبيه عن عائشة، ورواه سعيد بن داود عنه
عن هشام كرواية الجماعة، قال الدار قطني: الرواية المرسلة عن مالك أصح، والمحفوظ
عن هشام كما قال الجماعة. قوله: "عن أبي ذر" في رواية يحيى بن سعيد
المذكورة "أن أبا ذر أخبره". قوله: "قال أعلاها" بالعين
المهملة للأكثر وهي رواية النسائي أيضا، وللكشميهني بالغين المعجمة وكذا للنسفي،
قال ابن قرقول: معناهما متقارب. قلت: وقع لمسلم من طريق حماد بن زيد عن هشام
"أكثرها ثمنا" وهو يبين المراد، قال النووي: محله والله أعلم فيمن أراد
أن يعتق رقبة واحدة، أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلا فأراد أن يشتري بها رقبة
يعتقها فوجد رقبة نفيسة أو رقبتين مفضولتين فالرقبتان أفضل، قال: وهذا بخلاف
(5/148)
الأضحية فإن الواحدة السمينة فيها أفضل، لأن المطلوب هنا فك الرقبة وهناك طيب اللحم ا هـ. والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فرب شخص واحد إذا أعتق انتفع بالعتق وانتفع به أضعاف ما يحصل من النفع بعتق أكثر عددا منه، ورب محتاج إلى كثرة اللحم لتفرقته على المحاويج الذين ينتفعون به أكثر مما ينتفع هو بطيب اللحم، فالضابط أن مهما كان أكثر نفعا كان أفضل سواء قل أو كثر، واحتج به لمالك في أن عتق الرقبة الكافرة إذا كانت أغلى ثمنا من المسلمة أفضل، وخالفه أصبغ وغيره وقالوا: المراد بقوله أغلى ثمنا من المسلمين، وقد تقدم تقييده بذلك في الحديث الأول. قوله: "وأنفسها عند أهلها" أي ما اغتباطهم بها أشد، فإن عتق مثل ذلك ما يقع غالبا إلا خالصا وهو كقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} . قوله: "قلت فإن لم أفعل" في رواية الإسماعيلي: "أرأيت إن لم أفعل" أي إن لم أقدر على ذلك، أطلق الفعل وأراد القدرة. وللدار قطني في "الغرائب" بلفظ: "فإن لم أستطع". قوله: "تعين ضائعا" بالضاد المعجمة وبعد الألف تحتانية لجميع الرواة في البخاري كما جزم به عياض وغيره، وكذا هو في مسلم، إلا في رواية السمرقندي كما قاله عياض أيضا، وجزم الدار قطني وغيره بأن هشاما رواه هكذا دون من رواه عن أبيه، وقال أبو علي الصدفي ونقلته من خطه: رواه هشام بن عروة بالضاد المعجمة والتحتانية، والصواب بالمهملة والنون كما قاله الزهري. وإذا تقرر هذا فقد خبط من قال من شراح البخاري إنه روي بالصاد المهملة والنون، فإن هذه الرواية لم تقع في شيء من طرقه، وروى الدار قطني من طريق معمر عن هشام هذا الحديث بالضاد المعجمة، قال معمر: كان الزهري يقول صحف هشام وإنما هو بالصاد المهملة والنون. قال الدار قطني: وهو الصواب لمقابلته بالأخرق وهو الذي ليس بصانع ولا يحسن العمل، وقال علي بن المديني: يقولون إن هشاما صحف فيه ا هـ. ورواية معمر عن الزهري عند مسلم كما تقدم وهي بالمهملة والنون، وعكس السمرقندي فيها أيضا كما نقله عياض، وقد وجهت رواية هشام بأن المراد بالضائع ذو الضياع من فقر أو عيال فيرجع إلى معنى الأول، قال أهل اللغة: رجل أخرق لا صنعة له والجمع خرق بضم ثم سكون، وامرأة خرقاء كذلك، ورجل صانع وصنع بفتحتين وامرأة صناع بزيادة ألف. قوله: "فإن لم أفعل" أي من الصناعة أو الإعانة، ووقع في رواية الدار قطني في "الغرائب": "أرأيت أن ضعفت" وهو يشعر بأن قوله إن لم أفعل أي للعجز عن ذلك لا كسلا مثلا. قوله: "تدع الناس من الشر" فيه دليل على أن الكف عن الشر داخل في فعل الإنسان وكسبه حتى يؤجر عليه ويعاقب، غير أن الثواب لا يحصل مع الكف إلا مع النية والقصد لا مع الغفلة والذهول قاله القرطبي ملخصا. قوله: "فإنها صدقة تصدق" بفتح المثناة والصاد المهملة الخفيفة على حذف إحدى التاءين والأصل تتصدق ويجوز تشديدها على الإدغام. وفي الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان، قال ابن حبان: الواو في حديث أبي ذر هذا بمعنى ثم، وهو كذلك في حديث أبي هريرة أي المتقدم في "باب من قال إن الإيمان هو العمل" وقد تقدم الكلام فيه على طريق الجمع بين ما اختلف من الروايات في أفضل الأعمال هناك، وقيل قرن الجهاد بالإيمان هنا لأنه كان إذ ذاك أفضل الأعمال، وقال القرطبي: تفضيل الجهاد في حال تعينه، وفضل بر الوالدين لمن يكون له أبوان فلا يجاهد إلا بإذنهما، وحاصله أن الأجوبة اختلفت باختلاف أحوال السائلين. وفي الحديث حسن المراجعة في السؤال، وصبر المفتي والمعلم على التلميذ ورفقه به، وقد روى ابن حبان والطبري وغيرهما من طريق أبي إدريس الخولاني وغيره عن أبي ذر حدثنا حديثا طويلا فيه أسئلة كثيرة وأجوبتها تشتمل على فوائد كثيرة: منها سؤاله
(5/149)
عن أي المؤمنين أكمل وأي المسلمين أسلم وأي الهجرة والجهاد والصدقة والصلاة أفضل، وفيه ذكر الأنبياء وعددهم وما أنزل عليهم، وآداب كثيرة من أوامر ونواهي وغير ذلك، قال ابن المنير: وفي الحديث إشارة إلى أن إعانة الصانع أفضل من إعانة غير الصانع لأن غير الصانع مظنة الإعانة فكل أحد يعينه غالبا، بخلاف الصانع فإنه لشهرته بصنعته يغفل عن إعانته، فهي من جنس الصدقة على المستور.
(5/150)
3 - باب: مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ
الْعَتَاقَةِ فِي الْكُسُوفِ أَوْ الْآيَاتِ
2519- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ
أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: "أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ"
تَابَعَهُ عَلِيٌّ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ هِشَامٍ
2520- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَثَّامٌ حَدَّثَنَا
هِشَامٌ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: "كُنَّا نُؤْمَرُ عِنْدَ الْخُسُوفِ
بِالْعَتَاقَةِ"
قوله: "باب ما يستحب من العتاقة" بفتح العين ووهم من كسرها، يقال عتق
يعتق عتاقا وعتاقة والمراد الإعتاق وهو ملزوم العتاقة. قوله: "في الكسوف أو
الآيات" كذا لأبي ذر وأبي شبويه وأبي الوقت وللباقين "والآيات"
بغير ألف، و "أو" للتنويع لا للشك؛ وقال الكرماني هي بمعنى الواو وبمعنى
بل لأن عطف الآيات على الكسوف من عطف العام على الخاص، وليس في حديث الباب سوى
الكسوف، وكأنه أشار إلى قوله في بعض طرقه: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات
الله يخوف الله بهما عباده" وأكثر ما يقع التخويف بالنار فناسب وقوع العتق
الذي يعتق من النار، لكن يختص الكسوف بالصلاة المشروعة بخلاف بقية الآيات. قوله:
"حدثنا موسى بن مسعود" وهو أبو حذيفة النهدي بفتح النون مشهور بكنيته
أكثر من اسمه، وقد تقدم الحديث في الكسوف عن راو آخر عن شيخه زائدة. قوله:
"تابعه علي" يعني ابن المديني وهو شيخ البخاري، ووهم من قال المراد به
ابن حجر، والدراوردي هو عبد العزيز بن محمد. قوله: "حدثنا محمد بن أبي
بكر" هو المقدمي، وعثام بفتح المهملة وتشديد المثلثة هو ابن علي بن الوليد
العامري الكوفي ما له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد، وهشام هو ابن عروة،
وفاطمة زوجته وهي ابنة عمه، وهذا الحديث مختصر من حديث طويل، وقد تقدم الكلام عليه
مستوفى في موضعه وتبين برواية زائدة أن الآمر في رواية عثام هو النبي صلى الله
عليه وسلم؛ وهو مما يقوي أن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" في حكم
المرفوع.
(5/150)
4 - باب: إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا
بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَمَةً بَيْنَ الشُّرَكَاءِ
2521- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو
عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَإِنْ
كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعْتَقُ"
(5/150)
باب إذا أعتق نصيبا في عبد ليس له مال
استسعى العبد غير مشقوق عليه على نحو الكتابة
...
5 - باب: إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبًا فِي عَبْدٍ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِيَ
الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ عَلَى نَحْوِ الْكِتَابَةِ
2526- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ
حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ سَمِعْتُ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي النَّضْرُ
بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ
شَقِيصًا مِنْ عَبْدٍ.."
2527- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ "مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا - أَوْ شَقِيصًا - فِي مَمْلُوكٍ
فَخَلاَصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلاَ قُوِّمَ عَلَيْهِ
فَاسْتُسْعِيَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"
تَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ وَأَبَانُ وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ عَنْ
قَتَادَةَ.. اخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ
قوله "باب إذا أعتق نصيبا في عبد وليس له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه،
على نحو الكتابة" أشار البخاري بهذه الترجمة إلى أن المراد بقوله في حديث ابن
عمر "وإلا فقد عتق منه ما عتق" أي وإلا، فإن كان المعتق لا مال له يبلغ
قيمة بقية العبد فقد تنجز عتق الجزء الذي كان يملكه وبقي الجزء الذي لشريكه على ما
كان عليه أولا إلى أن يستسعي العبد في تحصيل القدر الذي يخلص به باقيه من الرق إن
قوي على ذلك، فإن عجز نفسه استمرت حصة الشريك موقوفة. وهو مصير منه إلى القول بصحة
الحديثين جميعا والحكم برفع الزيادتين معا وهو قوله في حديث ابن عمر: "وإلا
فقد عتق منه ما عتق" وقد تقدم بيان من جزم بأنها من جملة الحديث، وبيان من
توقف فيها أو جزم بأنها من قول نافع. وقوله في حديث أبي هريرة "فاستسعي به
غير مشقوق عليه" وسأبين من جزم بأنها من جملة الحديث ومن توقف فيها أو جزم
بأنها من قول قتادة، وقد بينت ذلك في كتابي "المدرج" بأبسط مما هنا. وقد
استبعد الإسماعيلي إمكان الجمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة ومنع الحكم بصحتهما
معا وجزم بأنهما متدافعان، وقد جمع غيره بينهما بأوجه أخر يأتي بيانها في أواخر
الباب إن شاء الله تعالى. قوله: "جرير بن حازم سمعت قتادة" سيأتي بعد
أبواب من رواية جرير بن حازم عن نافع، فله فيه طريقان، وقد حفظ الزيادة التي في كل
منهما وجزم برفع كل منهما. قوله: "عن بشير بن نهيك" بفتح الموحدة وكسر
المعجمة وبفتح النون وكسر الهاء وزنا واحدا. قوله: "من أعتق شقيصا من
عبد" كذا أورده مختصرا وعطف عليه طريق سعيد عن قتادة، وقد تقدم في الشركة من
وجه آخر عن جرير بن حازم وبقيته "أعتق كله إن كان له مال وإلا يستسعي غير
مشقوق عليه" وأخرجه الإسماعيلي من طريق بشر بن السري ويحيى بن بكير جميعا عن
جرير بن حازم بلفظ: "من أعتق شقصا من غلام وكان للذي أعتقه من المال ما يبلغ
قيمة العبد أعتق في ماله، وإن لم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه".
قوله: "حدثنا سعيد" هو ابن أبي عروبة. قوله: "عن النضر" في
رواية جرير - التي قبلها - عن قتادة "حدثني
(5/156)
النضر". قوله: "وإلا قوم عليه فاستسعي به" في رواية عيسى بن يونس عن سعيد عند مسلم: "ثم يستسعي في نصيب الذي لم يعتق" الحديث. وفي رواية عبدة عند النسائي ومحمد بن بشر عند أبي داود كلاهما عن سعيد "فإن لم يكن له مال قوم ذلك العبد قيمة عدل واستسعي في قيمته لصاحبه" الحديث. قوله: "غير مشقوق عليه" تقدم توجيهه. وقال ابن التين: معناه لا يستغلي عليه في الثمن، وقيل معناه غير مكاتب وهو بعيدا جدا. وفي ثبوت الاستسعاء حجة على ابن سيرين حيث قال: يعتق نصيب الشريك الذي لم يعتق من بيت المال. قوله: "تابعه حجاج بن حجاج وأبان وموسى بن خلف عن قتادة واختصره شعبة" أراد البخاري بهذا الرد على من زعم أن الاستسعاء في هذا الحديث غير محفوظ. وأن سعيد بن أبي عروبة تفرد به، فاستظهر له برواية جرير بن حازم بموافقته، ثم ذكر ثلاثة تابعوهما على ذكرها. فأما رواية حجاج فهو في نسخة حجاج بن حجاج عن قتادة من رواية أحمد بن حفص أحد شيوخ البخاري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن حجاج وفيها ذكر السعاية، ورواه عن قتادة أيضا حجاج بن أرطاة أخرجه الطحاوي، وأما رواية أبان فأخرجها أبو داود والنسائي من طريقه قال: حدثنا قتادة أخبرنا النضر بن أنس ولفظه: "فإن عليه أن يعتق بقيته إن كان له مال وإلا استسعي العبد" الحديث، ولأبي داود "فعليه أن يعتقه كله والباقي سواء" وأما رواية موسى بن خلف فوصلها الخطيب في "كتاب الفصل والوصل" من طريق أبي ظفر عبد السلام بن مظهر عنه عن قتادة عن النضر ولفظه: "من أعتق شقصا له في مملوك فعليه خلاصه إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعي غير مشقوق عليه" وأما رواية شعبة فأخرجها مسلم والنسائي من طريق غندر عنه عن قتادة بإسناده ولفظه: "عن النبي صلى الله عليه وسلم في المملوك بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه قال: يضمن" ، ومن طريق معاذ عن شعبة بلفظ: "من أعتق شقصا من مملوك فهو حر من ماله" وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق الطيالسي عن شعبة وأبو داود من طريق روح عن شعبة بلفظ: "من أعتق مملوكا بينه وبين آخر فعليه خلاصه" وقد اختصر ذكر السعاية أيضا هشام الدستوائي عن قتادة إلا أنه اختلف عليه في إسناده: فمنهم من ذكر فيه النضر بن أنس ومنهم من لم يذكره، وأخرجه أبو داود والنسائي بالوجهين ولفظ أبي داود والنسائي جميعا من طريق معاذ بن هشام عن أبيه "من أعتق نصيبا له في مملوك عتق من ماله إن كان له مال" ولم يختلف على هشام في هذا القدر من المتن، وغفل عبد الحق فزعم أن هشاما وشعبة ذكرا الاستسعاء فوصلاه، وتعقب ذلك عليه ابن المواق فأجاد، وبالغ ابن العربي فقال: اتفقوا على أن ذكر الاستسعاء ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول قتادة. ونقل الخلال في "العلل" عن أحمد أنه ضعف رواية سعيد في الاستسعاء، وضعفها أيضا الأثرم عن سليمان بن حرب، واستند إلى أن فائدة الاستسعاء أن لا يدخل الضرر على الشريك قال: فلو كان الاستسعاء مشروعا للزم أنه لو أعطاه مثلا كل شهر درهمين أنه يجوز ذلك، وفي ذلك غاية الضرر على الشريك ا هـ، وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة، قال النسائي: بلغني أن هماما رواه فجعل هذا الكلام أي الاستسعاء من قول قتادة، وقال الإسماعيلي: قوله: "ثم استسعي العبد" ليس في الخبر مسندا، وإنما هو قول قتادة مدرج في الخبر على ما رواه همام. وقال ابن المنذر والخطابي: هذا الكلام الأخير من فتيا قتادة ليس في المتن. قلت: ورواية همام قد أخرجها أبو داود عن محمد بن كثير عنه عن قتادة لكنه لم يذكر الاستسعاء أصلا ولفظه: "أن رجلا أعتق شقصا من غلام، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه وغرمه بقية ثمنه" نعم رواه عبد الله بن يزيد المقرئ عن همام فذكر فيه السعاية وفصلها من الحديث المرفوع أخرجه الإسماعيلي وابن المنذر
(5/157)
والدار قطني والخطابي والحاكم في "علوم الحديث"والبيهقي والخطيب في "الفصل والوصل" كلهم من طريقه ولفظه مثل رواية محمد بن كثير سواء وزاد "قال: فكان قتادة يقول: إن لم يكن له مال استسعي العبد قال الدار قطني: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول ما أحسن ما رواه همام ضبطه وفصل بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وبين قول قتادة، هكذا جزم هؤلاء بأنه مدرج. وأبى ذلك آخرون منهم صاحبا الصحيح فصححا كون الجميع مرفوعا، وهو الذي رجحه ابن دقيق العيد وجماعة، لأن سعيد بن أبي عروبة أعرف بحديث قتادة لكثرة ملازمته له وكثرة أخذه عنه من همام وغيره، وهشام وشعبة إن كانا أحفظ من سعيد لكنهما لم ينافيا ما رواه، وإنما اقتصرا من الحديث على بعضه، وليس المجلس متحدا حتى يتوقف في زيادة سعيد، فإن ملازمة سعيد لقتادة كانت أكثر منهما فسمع منه ما لم يسمعه غيره، وهذا كله لو انفرد، وسعيد لم ينفرد، وقد قال النسائي في حديث أبي قتادة عن أبي المليح في هذا الباب بعد أن ساق الاختلاف فيه على قتادة: هشام وسعيد أثبت في قتادة من همام، وما أعل به حديث سعيد من كونه اختلط أو تفرد به مردود لأنه في الصحيحين وغيرهما من رواية من سمع منه قبل الاختلاط كيزيد بن زريع ووافقه عليه أربعة تقدم ذكرهم وآخرون معهم لا نطيل بذكرهم، وهمام هو الذي انفرد بالتفصيل، وهو الذي خالف الجميع في القدر المتفق على رفعه فإنه جعله واقعة عين وهم جعلوه حكما عاما، فدل على أنه لم يضبطه كما ينبغي. والعجب ممن طعن في رفع الاستسعاء بكون همام جعله من قول قتادة ولم يطعن فيما يدل على ترك الاستسعاء وهو قوله في حديث ابن عمر في الباب الماضي "وإلا فقد عتق منه ما عتق" بكون أيوب جعله من قول نافع كما تقدم شرحه، ففصل قول نافع من الحديث وميزه كما صنع همام سواء فلم يجعلوه مدرجا كما جعلوا حديث همام مدرجا مع كون يحيى بن سعيد وافق أيوب في ذلك وهمام لم يوافقه أحد، وقد جزم بكون حديث نافع مدرجا محمد بن وضاح وآخرون، والذي يظهر أن الحديثين صحيحان مرفوعان وفاقا لعمل صاحبي الصحيح، وقال ابن المواق: والإنصاف أن لا نوهم الجماعة بقول واحد مع احتمال أن يكون سمع قتادة يفتي به، فليس بين تحديثه به مرة وفتياه به أخرى منافاة. قلت: ويؤيد ذلك أن البيهقي أخرج من طريق الأوزاعي عن قتادة أنه أفتى بذلك، والجمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة ممكن بخلاف ما جزم به الإسماعيلي، قال ابن دقيق العيد: حسبك بما اتفق عليه الشيخان فإنه أعلى درجات الصحيح، والذين لم يقولوا بالاستسعاء تعللوا في تضعيفه بتعليلات لا يمكنهم الوفاء بمثلها في المواضع التي يحتاجون إلى الاستدلال فيها بأحاديث يرد عليها مثل تلك التعليلات، وكأن البخاري خشي من الطعن في رواية سعيد بن أبي عروبة فأشار إلى ثبوتها بإشارات خفية كعادته، فإنه أخرجه من رواية يزيد بن زريع عنه وهو من أثبت الناس فيه وسمع منه قبل الاختلاط، ثم استظهر له برواية جرير بن حازم بمتابعته لينفي عنه التفرد، ثم أشار إلى أن غيرهما تابعهما ثم قال: اختصره شعبة، وكأنه جواب عن سؤال مقدر، وهو أن شعبة أحفظ الناس لحديث قتادة فكيف لم يذكر الاستسعاء، فأجاب بأن هذا لا يؤثر فيه ضعفا لأنه أورده مختصرا وغيره ساقه بتمامه، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد والله أعلم. وقد وقع ذكر الاستسعاء في غير حديث أبي هريرة: أخرجه الطبراني من حديث جابر، وأخرجه البيهقي من طريق خالد بن أبي قلابة عن رجل من بني عذرة، وعمدة من ضعف حديث الاستسعاء في حديث ابن عمر قوله: "وإلا فقد عتق منه ما عتق" وقد تقدم أنه في حق المعسر وأن المفهوم من ذلك الجزء الذي لشريك المعتق باق على حكمه الأول، وليس فيه التصريح بأن يستمر رقيقا، ولا فيه التصريح بأنه يعتق كله. وقد احتج
(5/158)
بعض من ضعف رفع الاستسعاء بزيادة وقعت في الدار قطني وغيره من طريق إسماعيل بن أمية وغيره عن نافع عن ابن عمر قال في آخره: "ورق منه ما بقي" وفي إسناده إسماعيل بن مرزوق الكعبي وليس بالمشهور عن يحيى بن أيوب وفي حفظه شيء عنهم، وعلى تقدير صحتها فليس فيها أنه يستمر رقيقا، بل هي مقتضى المفهوم من رواية غيره، وحديث الاستسعاء فيه بيان الحكم بعد ذلك فللذي صحح رفعه أن يقول: معنى الحديثين أن المعسر إذا أعتق حصته لم يسر العتق في حصة شريكه بل تبقى حصة شريكه على حالها وهي الرق، ثم يستسعي في عتق بقيته فيحصل ثمن الجزء الذي لشريك سيده ويدفعه إليه ويعتق، وجعلوه في ذلك كالمكاتب، وهو الذي جزم به البخاري. والذي يظهر أنه في ذلك باختياره لقوله: "غير مشقوق عليه" فلو كان ذلك على سبيل اللزوم بأن يكلف العبد الاكتساب والطلب حتى يحصل ذلك لحصل له بذلك غاية المشقة، وهو لا يلزم في الكتابة بذلك عند الجمهور لأنها غير واجبة فهذه مثلها، وإلى هذا الجمع مال البيهقي وقال: لا يبقى بين الحديثين معارضة أصلا، وهو كما قال إلا أنه يلزم منه أن يبقى الرق في حصة الشريك إذا لم يختر العبد الاستسعاء، فيعارضه حديث أبي المليح عن أبيه "أن رجلا أعتق شقصا له من غلام فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لله شريك" وفي رواية: "فأجاز عتقه" أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد قوي وأخرجه أحمد بإسناد حسن من حديث سمرة "أن رجلا أعتق شقصا له في مملوك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو كله، فليس لله شريك" ويمكن حمله على ما إذا كان المعتق غنيا أو على ما إذا كان جميعه له فأعتق بعضه، فقد روى أبو داود من طريق ملقام بن التلب عن أبيه "أن رجلا أعتق نصيبه من مملوك فلم يضمنه النبي صلى الله عليه وسلم وإسناده حسن، وهو محمول على المعسر وإلا لتعارضا. وجمع بعضهم بطريق أخرى فقال أبو عبد الملك: المراد بالاستسعاء أن العبد يستمر في حصة الذي لم يعتق رقيقا فيسعى في خدمته بقدر ما له فيه من الرق، قالوا ومعنى قوله: "غير مشقوق عليه" أي من وجه سيده المذكور فلا يكلفه من الخدمة فوق حصة الرق، لكن يرد على هذا الجمع قوله في الرواية المتقدمة "واستسعي في قيمته لصاحبه"، واحتج من أبطل الاستسعاء بحديث عمران بن حصين عند مسلم: "أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة" ووجه الدلالة منه أن الاستسعاء لو كان مشروعا لنجز من كل واحد منهم عتق ثلثه وأمره بالاستسعاء في بقية قيمته لورثة الميت، وأجاب من أثبت الاستسعاء بأنها واقعة عين فيحتمل أن يكون قبل مشروعية الاستسعاء، ويحتمل أن يكون الاستسعاء مشروعا إلا في هذه الصورة وهي ما إذا أعتق جميع ما ليس له أن يعتقه، وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد رجاله ثقات عن أبي قلابة عن رجل من بني عذرة "أن رجلا منهم أعتق مملوكا له عند موته وليس له مال غيره فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثه وأمره أن يسعى في الثلثين" وهذا يعارض حديث عمران، وطريق الجمع بينهما ممكن. واحتجوا أيضا بما رواه النسائي من طريق سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "من أعتق عبدا وله فيه شركاء وله وفاء فهو حر ويضمن نصيب شركائه بقيمته لما أساء من مشاركتهم وليس على العبد شيء، والجواب مع تسليم صحته أنه مختص بصورة اليسار لقوله فيه: "وله وفاء"، والاستسعاء إنما هو في صورة الإعسار كما تقدم فلا حجة فيه، وقد ذهب إلى الأخذ بالاستسعاء إذا كان المعتق معسرا أبو حنيفة وصاحباه والأوزاعي والثوري وإسحاق وأحمد في رواية وآخرون، ثم اختلفوا فقال الأكثر: يعتق جميعه في الحال ويستسعي العبد في تحصيل قيمة نصيب الشريك، وزاد ابن أبي ليلى فقال: ثم يرجع العبد على المعتق الأول بما أداه للشريك، وقال:
(5/159)
فقال: يعتق كله وتقوم حصة الشريك فتؤخذ إن كان المعتق موسرا، وترتب في ذمته إن كان معسرا.
(5/160)
باب الخطأ والنسيان في العتاقةو الطلاق
ونحوه ولا عتاقة ألا لوجة الله تعالى وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لكل امري
مانوى) ولا نية للناسي والمخطي
...
6 - باب: الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ فِي الْعَتَاقَةِ وَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ
وَلاَ عَتَاقَةَ إِلاَّ لِوَجْهِ اللَّهِ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". وَلاَ نِيَّةَ لِلنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ
2528- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي
عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ
تَكَلَّمْ"
[الحديث 2528- طرفاه في: 5269 ، 6664]
2529- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ
وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِامْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى
مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"
قوله: "باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه" أي من التعليقات
لا يقع شيء منها إلا بالقصد، وكأنه أشار إلى رد ما روي عن مالك أنه يقع الطلاق
والعتاق عامدا كان أو مخطئا ذاكرا أو ناسيا، وقد أنكره كثير من أهل مذهبه، قال
الداودي: وقوع الخطأ في الطلاق والعتاق أن يريد أن يلفظ بشيء غيرهما فيسبق لسانه
إليهما، وأما النسيان ففيما إذا حلف ونسي. قوله: "ولا عتاقة إلا لوجه
الله" سيأتي في الطلاق نقل معنى ذلك عن علي رضي الله عنه، وفي الطبراني من
حديث ابن عباس مرفوعا: "لا طلاق إلا لعدة، ولا عتاق إلا لوجه الله"
وأراد المصنف بذلك إثبات اعتبار النية، لأنه لا يظهر كونه لوجه الله إلا مع القصد،
وأشار إلى الرد على من قال: من أعتق عبده لوجه الله أو الشيطان أو للصنم عتق لوجود
ركن الإعتاق، والزيادة على ذلك لا تخل بالعتق. قوله: هو طر "وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: لكل امرئ ما نوى" ف من حديث عمر، وقد ذكره في الباب بلفظ:
"وإنما لامرئ ما نوى" واللفظ المعلق أورده في أول الكتاب حيث قال فيه:
"وإنما لكل امرئ ما نوى" وأورده في أواخر الإيمان بلفظ: "ولكل امرئ
ما نوى" و "إنما" فيه مقدرة. قوله: "ولا نية للناسي
والمخطئ" وقع في رواية القابسي "الخاطئ" بدل المخطئ، قالوا: المخطئ
من أراد الصواب فصار إلى غيره والخاطئ من تعمد لما لا ينبغي. وأشار المصنف بهذا
الاستنباط إلى بيان أخذ الترجمة من حديث: "الأعمال بالنيات" ويحتمل أن
يكون أشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض الطرق كعادته، وهو الحديث الذي يذكره أهل
الفقه والأصول كثيرا بلفظ: "رفع الله عن أمتي
(5/160)
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" أخرجه ابن ماجة من حديث ابن عباس، إلا أنه بلفظ: "وضع" بدل "رفع" وأخرجه الفضل بن جعفر التيمي في فوائده بالإسناد الذي أخرجه به ابن ماجة بلفظ: "رفع" ورجاله ثقات، إلا أنه أعل بعلة غير قادحة، فإنه من رواية الوليد عن الأوزاعي عن عطاء عنه، وقد رواه بشر بن بكر عن الأوزاعي فزاد: "عبيد بن عمير" بين عطاء وابن عباس أخرجه الدار قطني والحاكم والطبراني. وهو حديث جليل، قال بعض العلماء: ينبغي أن يعد نصف الإسلام، لأن الفعل إما عن قصد واختيار أو لا، الثاني ما يقع عن خطأ أو نسيان أو إكراه فهذا القسم معفو عنه باتفاق وإنما اختلف العلماء: هل المعفو عنه الإثم أو الحكم أو هما معا؟ وظاهر الحديث الأخير، وما خرج عنه كالقتل فله دليل منفصل، وسيأتي بسط القول في ذلك في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. وتقدير قوله: "ولكل امرئ ما نوى" يعتد لكل امرئ ما نوى، وهو يحتمل أن يكون في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط وبحسب هذين الاحتمالين وقع الاختلاف في الحكم. قوله: "عن زرارة بن أوفى" يأتي في الأيمان والنذور بلفظ: "حدثنا زرارة" وهو من ثقات التابعين، كان قاضي البصرة، وليس له في البخاري إلا أحاديث يسيرة. قوله: "ما وسوست به صدورها" أتي في الطلاق بلفظ: "ما حدثت به أنفسها" وهو المشهور، و "صدورها" في أكثر الروايات بالضم، وللأصيلي بالفتح على أن وسوست مضمن معنى حدثت، وحكى الطبري هذا الاختلاف في "حدثت به أنفسها" والضم كقوله تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} . قوله: "ما لم تعمل أو تكلم" ويأتي في النذور بلفظ: "ما لم تعمل به" والمراد نفي الحرج عما يقع في النفس حتى يقع العمل بالجوارح، أو القول باللسان على وفق ذلك. والمراد بالوسوسة تردد الشيء في النفس من غير أن يطمئن إليه ويستقر عنده، ولهذا فرق العلماء بين الهم والعزم كما سيأتي الكلام عليه في حديث: "من هم بحسنة" ، ومن هنا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة، لأن الوسوسة لا اعتبار لها عند عدم التوطن فكذلك المخطئ والناسي لا توطن لهما، وزاد ابن ماجة عن هشام بن عمار عن ابن عيينة في آخره: "وما استكرهوا عليه" وأظنها مدرجة من حديث آخر، دخل على هشام حديث في حديث. قيل: لا مطابقة بين الحديث والترجمة لأن الترجمة في النسيان والحديث في حديث النفس، وأجاب الكرماني بأنه أشار إلى إلحاق النسيان بالوسوسة فكما أنه لا اعتبار للوسوسة لأنها لا تستقر فكذلك الخطأ والنسيان لا استقرار لكل منهما، ويحتمل أن يقال: إن شغل البال بحديث النفس ينشأ عن الخطأ والنسيان، ومن ثم رتب على من لا يحدث نفسه في الصلاة ما سبق في حديث عثمان في كتاب الطهارة من الغفران. "تنبيه": ذكر خلف في "الأطراف" أن البخاري أخرج هذا الحديث في العتق عن محمد بن عرعرة عن شعبة عن قتادة، ولم نره فيه، ولم يذكره أبو مسعود ولا الطوقي ولا ابن عساكر، ولا استخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم، وسيأتي الكلام على هذا الحديث مستوفى في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. قوله: "عن سفيان" هو الثوري. قوله: "الأعمال بالنية ولامرئ ما نوى" كذا أخرجه بحذف إنما في الموضعين، وقد أخرجه أبو داود عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه فقال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى" . قوله: "إلى دنيا" في رواية الكشميهني: "لدنيا" وهي رواية أبي داود المذكورة، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في أول الكتاب، ويأتي بقية منه في ترك الحيل وغيره إن شاء الله تعالى.
(5/161)
باب إذا قال لعبده هو لله ونوى العتق
والإشهاد في العتق
...
7 - باب: إِذَا قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ هُوَ لِلَّهِ وَنَوَى الْعِتْقَ
وَالإِشْهَادِ فِي الْعِتْقِ
2530- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ بِشْرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا أَقْبَلَ يُرِيدُ الإِسْلاَمَ - وَمَعَهُ غُلاَمُهُ
- ضَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَأَقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَبُو
هُرَيْرَةَ جَالِسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا غُلاَمُكَ قَدْ
أَتَاكَ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُ حُرٌّ. قَالَ فَهُوَ حِينَ
يَقُولُ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا ... عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ
الْكُفْرِ نَجَّتِ
[الحديث 2530- أطرافه في: 2531 ، 3532 ، 4393]
2531- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
"لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ
فِي الطَّرِيقِ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا ... عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ
الْكُفْرِ نَجَّتِ
قَالَ: وَأَبَقَ مِنِّي غُلاَمٌ لِي فِي الطَّرِيقِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْتُ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعْتُهُ، فَبَيْنَا أَنَا
عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الْغُلاَمُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا غُلاَمُكَ فَقُلْتُ: هُوَ حُرٌّ
لِوَجْهِ اللَّهِ، فَأَعْتَقْتُهُ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: لَمْ يَقُلْ أَبُو كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ
"حُرٌّ"
2532- حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ
عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: "لَمَّا أَقْبَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعَهُ غُلاَمُهُ - وَهُوَ يَطْلُبُ الإِسْلاَمَ
فَضَلَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ - بِهَذَا وَقَالَ - أَمَا إِنِّي أُشْهِدُكَ
أَنَّهُ لِلَّهِ"
قوله "باب إذا قال" أي الشخص "لعبده" وفي رواية الأصيلي
وكريمة: "إذا قال رجل لعبده": "هو لله ونوى العتق" أي صح.
قوله: "والإشهاد في العتق" قيل هو بجر الإشهاد، أي وباب الإشهاد في
العتق، وهو مشكل لأنه إن قدر منونا احتاج إلى خبر، وإلا لزم حذف التنوين من الأول
ليصح العطف عليه وهو بعيد، والذي يظهر أن يقرأ: "والإشهاد" بالضم فيكون
معطوفا على باب لا على ما بعده، وباب بالتنوين، ويجوز أن يكون التقدير: وحكم
الإشهاد في العتق، قال: المهلب لا خلاف بين العلماء إذا قال لعبده هو لله ونوى
العتق أنه يعتق، وأما الإشهاد في العتق فهو من حقوق المعتق، وإلا فقد تم العتق وإن
لم يشهد. قلت: وكأن المصنف أشار إلى تقييد ما رواه هشيم عن مغيرة "أن رجلا
قال لعبده أنت لله، فسئل الشعبي وإبراهيم وغيرهما فقالوا: هو حر" أخرجه ابن
أبي شيبة، فكأنه قال محل ذلك إذا نوى العتق، وإلا فلو قصد أنه لله بمعنى غير العتق
لم يعتق. قوله: "عن إسماعيل" هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم،
ورجاله كوفيون إلا الصحابي. قوله: "لما أقبل يريد
(5/162)
الإسلام" ظاهره أنه لم يكن أسلم بعد. قوله: "ومعه غلامه" لم أقف على اسمه. قوله: "ضل كل واحد" أي ضاع. قوله: "فهو حين يقول" أي الوقت الذي وصل فيه إلى المدينة، وقوله في الطريق الثانية "قلت في الطريق" أي عند انتهائه، وظاهره أن الشعر من نظم أبي هريرة، وقد نسبه بعضهم إلى غلامه حكاه ابن التين، وحكى الفاكهي في "كتاب مكة" عن مقدم بن حجاج السوائي أن البيت المذكور لأبي مرثد الغنوي في قصة له، فعلى هذا فيكون أبو هريرة قد تمثل به. قوله في الشعر "يا ليلة" كذا في جميع الروايات. قال الكرماني: ولا بد من إثبات فاء أو واو في أوله ليصير موزونا، وفيه نظر لأن هذا يسمى في العروض الخرم بالمعجمة المفتوحة والراء الساكنة، وهو أن يحذف من أول الجزء حرف من حروف المعاني، وما جاز حذفه لا يقال لا بد من إثباته، وذلك أمر معروف عند أهله. قوله: "وعنائها" بفتح العين وبالنون والمد أي تعبها، و "دارة الكفر" الدارة أخص من الدار، وقد كثر استعمالها في أشعار العرب كقول امرئ القيس: ولا سيما يوما بدارة جلجل. قوله: في الطريق الثانية "حدثنا عبيد الله بن سعيد" هو أبو قدامة السرخسي كذا في جميع الروايات التي اتصلت لنا "عبيد الله" بالتصغير، وفي "مستخرج أبي نعيم": أخرجه البخاري عن أبي سعيد الأشج، وأبو سعيد اسمه عبد الله مكبر فهذا محتمل، وذكر أبو مسعود وخلف أنه أخرجه هنا عن عبيد بن إسماعيل، وعبيد بغير إضافة ممن يروي في البخاري عن أبي أسامة، إلا أن الذي وقفت عليه هو الذي قدمت ذكره والله أعلم. قوله: "وأبق" بفتح الموحدة وحكى ابن القطاع كسرها. قوله: "قلت هو حر لوجه الله فأعتقه" أي باللفظ المذكور، وليس المراد أنه أعتقه بعد ذلك، وهذه الفاء هي التفسيرية. قوله: "لم يقل أبو كريب عن أبي أسامة حر" وصله في أواخر المغازي فقال: "حدثنا محمد بن العلاء وهو أبو كريب حدثنا أبو أسامة" وساق الحديث وقال في آخره: "هو لوجه الله فأعتقه" وكذا أخرجه أحمد بن حنبل ومحمد بن سعد عن أبي أسامة. وكذا أخرجه الإسماعيلي من وجهين عن أبي أسامة ليس فيه: "حر" وكذا أخرجه أبو نعيم من وجهين عن أبي أسامة أثبت قوله: "حر " في أحدهما، ووقع في بعض النسخ من البخاري "هو حر لوجه الله" وهو خطأ ممن ذكره عن البخاري في هذه الرواية لتصريحه بنفيه عن شيخه بعينه. قوله: في الطريق الأخيرة "فضل أحدهما صاحبه" بالنصب على نزع الخافض، وأصله "من صاحبه" كما في الطريق الأولى، ولو كانت أضل معداة بالهمز لم يحتج إلى تقدير، وقد ثبت كذلك في بعض الروايات، وفي الحديث استحباب العتق عند بلوغ الغرض والنجاة من المخاوف، وفيه جواز قول الشعر وإنشاده والتمثل به والتألم من النصب والسهر وغير ذلك.
(5/163)
8 - باب: أُمِّ الْوَلَدِ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّهَا"
2533- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ: "كانَ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ
بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنْ يَقْبِضَ إِلَيْهِ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ قَالَ
عُتْبَةُ إِنَّهُ ابْنِي فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ زَمَنَ الْفَتْحِ أَخَذَ سَعْدٌ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبَلَ
بِهِ إِلَى رَسُولِ
(5/163)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ مَعَهُ بِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ. فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ هَذَا ابْنُ أَخِي عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ فَقَالَ عَبْدُ بْنُ
زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَخِي، ابْنُ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وُلِدَ
عَلَى فِرَاشِهِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ فَإِذَا هُوَ أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ، فَقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ مِنْ أَجْلِ
أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ مِمَّا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ
بِعُتْبَةَ وَكَانَتْ سَوْدَةُ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ"
قوله: "باب أم الولد" أي هل يحكم بعتقها أم لا؟ أورد فيه حديثين وليس
فيهما ما يفصح بالحكم عنده، وأظن ذلك لقوة الخلاف في المسألة بين السلف، وإن كان
الأمر استقر عند الخلف على المنع حتى وافق في ذلك ابن حزم ومن تبعه من أهل الظاهر
على عدم جواز بيعهن ولم يبق إلا شذوذ. قوله: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى
الله عليه وسلم: من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربها" تقدم موصولا مطولا في
كتاب الإيمان بمعناه، وتقدم شرحه هناك مستوفى، وأن المراد بالرب السيد أو المالك،
وتقدم أنه لا دليل فيه على جواز بيع أم الولد ولا عدمه، قال النووي: استدل به
إمامان جليلان أحدهما على جواز بيع أمهات الأولاد والآخر على منعه، فأما من استدل
به على الجواز فقال: ظاهر قوله: "ربها" أن المراد به سيدها لأن ولدها من
سيدها ينزل منزلة سيدها لمصير مال الإنسان إلى ولده غالبا، وأما من استدل به على
المنع فقال: لا شك أن الأولاد من الإماء كانوا موجودين في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم وعهد أصحابه كثيرا، والحديث مسوق للعلامات التي قرب قيام الساعة، فدل على
حدوث قدر زائد على مجرد التسري. قال: والمراد أن الجهل يغلب في آخر الزمان حتى
تباع أمهات الأولاد فيكثر ترداد الأمة في الأيدي حتى يشتريها ولدها وهو لا يدري،
فيكون فيه إشارة إلى تحريم بيع أمهات الأولاد، ولا يخفى تكلف الاستدلال من
الطرفين، والله أعلم. ثم أورد المصنف حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة، وسيأتي
شرحه في كتاب الفرائض، والشاهد منه قول عبد بن زمعة "أخي ولد على فراش
أبي" وحكمه صلى الله عليه وسلم لابن زمعة بأنه أخوه، فإن فيه ثبوت أمية أم
الولد، ولكن ليس فيه تعرض لحريتها ولا لإرقاقها، إلا أن ابن المنير أجاب بأن فيه
إشارة إلى حرية أم الولد لأنه جعلها فراشا فسوى بينها وبين الزوجة في ذلك، وأفاد
الكرماني أنه رأى في بعض النسخ في آخر الباب ما نصه "فسمى النبي صلى الله
عليه وسلم أم ولد زمعة أمة ووليدة فدل على أنها لم تكن عتيقة" أ هـ. فعلى هذا
فهو ميل منه إلى أنها لا تعتق بموت السيد، وكأنه اختار أحد التأويلين في الحديث
الأول، وقد تقدم ما فيه. قال الكرماني: وبقية كلامه لم تكن عتيقة من هذا الحديث،
لكن من يحتج بعتقها في هذه الآية: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يكون له
ذلك حجة. قال الكرماني: كأنه أشار إلى أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عبد بن
زمعة على قوله: "أمة أبي" ينزل منزلة القول منه صلى الله عليه وسلم،
ووجه الدلالة مما قال أن الخطاب في الآية للمؤمنين، وزمعة لم يكن مؤمنا فلم يكن له
ملك يمين فيكون ما في يده في حكم الأحرار. قال: ولعل غرض البخاري أن بعض الحنفية
لا يقول: إن الولد في الأمة للفراش، فلا يلحقونه بالسيد، إلا إن أقر به، ويخصون
الفراش بالحرة، فإذا احتج عليهم بما في هذا الحديث أن الولد للفراش قالوا: ما كانت
أمة بل كانت حرة، فأشار البخاري إلى رد حجتهم هذه بما ذكره. وتعلق الأئمة بأحاديث
أصحها حديثان: أحدهما
(5/164)
حديث أبي سعيد في سؤالهم عن العزل كما سيأتي شرحه في كتاب النكاح، وممن تعلق به النسائي في السنن فقال: "باب ما يستدل به على منع بيع أم الولد" فساق حديث أبي سعيد، ثم ساق حديث عمرو بن الحارث الخزاعي كما سيأتي في الوصايا، قال: "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا ولا أمة" الحديث، ووجه الدلالة من حديث أبي سعيد أنهم قالوا: "إنا نصيب سبايا فنحب الأثمان، فكيف ترى في العزل"؟ وهذا لفظ البخاري كما مضى في "باب بيع الرقيق" من كتاب البيوع؛ قال البيهقي: لولا أن الاستيلاء يمنع من نقل الملك وإلا لم يكن لعزلهم لأجل محبة الأثمان فائدة. وللنسائي من وجه آخر عن أبي سعيد "فكان منا من يريد أن يتخذ أهلا، ومنا من يريد البيع، فتراجعنا في العزل" الحديث. وفي رواية لمسلم: "وطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل" وفي الاستدلال به نظر، إذ لا تلازم بين حملهن وبين استمرار امتناع البيع، فلعلهم أحبوا تعجيل الفداء وأخذ الثمن، فلو حملت المسبية لتأخر بيعها إلى وضعها. ووجه الدلالة من حديث عمرو بن الحارث أن مارية أم ولده إبراهيم كانت قد عاشت بعده، فلولا أنها خرجت عن الوصف بالرق لما صح قوله: "أنه لم يترك أمة"، وقد ورد الحديث عن عائشة أيضا عند ابن حبان مثله، وهو عند مسلم لكن ليس فيه ذكر الأمة، وفي صحة الاستدلال بذلك وقفة، لاحتمال أن يكون نجز عتقها، وأما بقية أحاديث الباب فضعيفة، ويعارضها حديث جابر "كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حي لا يرى بذلك بأسا" وفي لفظ: "بعنا أمهات الأولاد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر نهانا فانتهينا" وقول الصحابي: "كنا نفعل" محمول على الرفع على الصحيح، وعليه جرى عمل الشيخين في صحيحهما ولم يستند الشافعي في القول بالمنع إلا إلى عمر فقال: قلته تقليدا لعمر. قال بعض أصحابه: لأن عمر لما نهى عنه فانتهوا صار إجماعا، يعني فلا عبرة بندور المخالف بعد ذلك، ولا يتعين معرفة سند الإجماع. قوله: "أخذ سعد ابن وليدة" سعد بالرفع والتنوين وابن منصوب على المفعولية ويكتب بالألف، وقوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" برفع عبد ويجوز نصبه، وكذا ابن، وكذا قوله يا سودة بنت زمعة. "تنبيهان" أحدهما وقع في نسخة الصغاني هنا "قال أبو عبد الله يعني المصنف: سمى النبي صلى الله عليه وسلم أم ولد زمعة أمة ووليدة فلم تكن عتيقة لهذا الحديث، ولكن من يحتج بعتقها في هذه الآية: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يكون له ذلك حجة". الثاني ذكر المزي في "الأطراف" أن البخاري قال عقب طريق شعيب عن الزهري هذه "وقال الحديث عن يونس عن الزهري" ولم أر ذلك في شيء من نسخ البخاري، نعم ذكر هذا التعليق في "باب غزوة الفتح" من كتاب المغازي مقرونا بطريق مالك عن الزهري والله أعلم.
(5/165)
9 - باب: بَيْعِ الْمُدَبَّرِ
2534- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ: "أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَدَعَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فَبَاعَهُ قَالَ جَابِرٌ مَاتَ
الْغُلاَمُ عَامَ أَوَّلَ"
قوله: "باب بيع المدبر" أي جوازه، أو ما حكمه؟ وقد تقدمت هذه الترجمة
بعينها في كتاب البيوع، وأورد
(5/165)
هنا حديث جابر مختصرا جدا، وقد تقدم شرحه مستوفى هناك. قوله: "أعتق رجل منا عبدا له" لم يقع واحد منهما مسمى في شيء من طرق البخاري، وقد قدمت في البيوع أن في رواية مسلم من طريق أيوب عن أبي الزبير عن جابر "أن رجلا من الأنصار يقال له أبو مذكور أعتق غلاما له عن دبر يقال له يعقوب" ففيه التعريف بكل منهما، وله من رواية الليث عن أبي الزبير أن الرجل كان من بني عذرة، وكذا للبيهقي من طريق مجاهد عن جابر، فلعله كان من بني عذرة وحالف الأنصار. قوله: "فدعا النبي صلى الله عليه وسلم" حذف المفعول. وفي رواية أيوب المذكورة "فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يشتريه" أي الغلام. قوله: "فاشتراه نعيم بن عبد الله" في رواية ابن المنكدر عن جابر كما مضى في الاستقراض "نعيم بن النحام" وهو نعيم بن عبد الله المذكور، والنحام بالنون والحاء المهملة الثقيلة عند الجمهور، وضبطه ابن الكلبي بضم النون وتخفيف الحاء، ومنعه الصغاني، وهو لقب نعيم، وظاهر الرواية أنه لقب أبيه، قال النووي: وهو غلط لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فسمعت فيها نحمة من نعيم" ا هـ. وكذا قال ابن العربي وعياض وغير واحد، لكن الحديث المذكور من رواية الواقدي وهو ضعيف، ولا ترد الروايات الصحيحة بمثل هذا، فلعل أباه أيضا كان يقال له النحام. والنحمة بفتح النون وإسكان المهملة: الصوت وقيل السعلة وقيل النحنحة. ونعيم المذكور هو ابن عبد الله بن أسيد بن عبد بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي، وأسيد وعبيد وعويج في نسبه مفتوح أول كل منها، قرشي عدوي أسلم قديما قبل عمر فكتم إسلامه، وأراد الهجرة فسأله بنو عدي أن يقيم على أي دين شاء لأنه كان ينفق على أراملهم وأيتامهم ففعل، ثم هاجر عام الحديبية ومعه أربعون من أهل بيته، واستشهد في فتوح الشام زمن أبي بكر أو عمر. وروى الحارث في مسنده بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه صالحا، وكان اسمه الذي يعرف به نعيما. قوله: "قال جابر مات الغلام عام أول" يأتي في الأحكام من رواية حماد عن عمرو "سمعت جابرا يقول عبدا قبطيا مات عام أول" زاد مسلم من طريق ابن عيينة عن عمرو "في إمارة ابن الزبير" وقد تقدم في "باب بيع المدبر" من البيوع نقل مذاهب الفقهاء في بيع المدبر، وأن الجواز مطلقا مذهب الشافعي وأهل الحديث، وقد نقله البيهقي في "المعرفة" عن أكثر الفقهاء، وحكى النووي عن الجمهور مقابله وعن الحنفية والمالكية أيضا تخصيص المنع بمن دبر تدبيرا مطلقا، أما إذا قيده - كأن يقول: إن مت من مرضي هذا ففلان حر - فإنه يجوز بيعه لأنها كالوصية فيجوز الرجوع فيها، وعن أحمد يمتنع بيع المدبرة دون المدبر، وعن الليث يجوز بيعه إن شرط على المشتري عتقه، وعن ابن سيرين لا يجوز بيعه إلا من نفسه، ومال ابن دقيق العيد إلى تقييد الجواز بالحاجة فقال: من منع بيعه مطلقا كان الحديث حجة عليه لأن المنع الكلي يناقضه الجواز الجزئي. ومن أجازه في بعض الصور فله أن يقول: قلت بالحديث في الصورة التي ورد فيها، فلا يلزمه القول به في غير ذلك من الصور. وأجاب من أجازه مطلقا بأن قوله: "وكان محتاجا" لا مدخل له في الحكم، وإنما ذكر لبيان السبب في المبادرة لبيعه ليتبين للسيد جواز البيع، ولولا الحاجة لكان عدم البيع أولى. وأما من ادعى أنه إنما باع خدمته كما تقدمت حكايته في الباب المذكور فقد أجيب عنه بما تقدم، وهو أنه لا تعارض بين الحديثين، وبأن المخالفين لا يقولون بجواز بيع خدمة المدبر، وقد اتفقت طرق رواية عمرو بن دينار عن جابر أيضا على أن البيع وقع في حياة السيد، إلا ما أخرجه الترمذي من طريق ابن عيينة عنه بلفظ: "أن رجلا من الأنصار دبر غلاما له فمات ولم يترك مالا غيره: "الحديث، وقد أعله الشافعي بأنه سمعه من ابن عيينة مرارا لم يذكر قوله: "فمات"، وكذلك رواه الأئمة
(5/166)
أحمد وإسحاق وابن المديني والحميدي وابن أبي شيبة عن ابن عيينة، ووجه البيهقي الرواية المذكورة بأن أصلها "أن رجلا من الأنصار أعتق مملوكه إن حدث به حادث فمات، فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فباعه من نعيم" كذلك رواه مطر الوراق عن عمرو، قال البيهقي: فقوله فمات من بقية الشرط، أي فمات من ذلك الحدث، وليس إخبارا عن أن المدبر مات، فحذف من رواية ابن عيينة قوله: "إن حدث به حدث" فوقع الغلط بسبب ذلك والله أعلم ا هـ. وقد تقدم الجواب عما وقع من مثل ذلك في رواية عطاء عن جابر من طريق شريك عن سلمة بن كهيل في الباب المذكور والله أعلم.
(5/167)
10 - باب: بَيْعِ الْوَلاَءِ
وَهِبَتِهِ
2535- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ:
"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ
الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ بيع الولاء وهبته"
[الحديث 2535- طرفه في: 6756]
2536- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قَالَتْ: "اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاَءَهَا
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
أَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ فَأَعْتَقْتُهَا
فَدَعَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَيَّرَهَا مِنْ
زَوْجِهَا فَقَالَتْ: لَوْ أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا مَا ثَبَتُّ عِنْدَهُ
فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا"
قوله "باب بيع الولاء وهبته" أي حكمه، والولاء بالفتح والمد: حق ميراث
المعتق من المعتق بالفتح. أورد فيه حديث ابن عمر المشهور، وسيأتي شرحه في كتاب
الفرائض إن شاء الله تعالى مع توجيه عدم صحة بيعه من دلالة النهي المذكور. وحديث
عائشة في قصة بريرة وسيأتي بعد عشرة أبواب. ووجه دخوله في الترجمة من قوله في أصل
الحديث: "فإنما الولاء لمن أعتق" وهو إن كان لم يسقه هنا بهذا اللفظ
فكأنه أشار إليه كعادته، ووجه الدلالة منه حصره في المعتق فلا يكون لغيره معه منه
شيء، قال الخطابي: لما كان الولاء كالنسب كان من أعتق ثبت له الولاء كمن ولد له
ولد ثبت له نسبه؛ فلو نسب إلى غيره لم ينتقل نسبه عن والده، وكذا إذا أراد نقل
ولائه عن محله لم ينتقل.
(5/167)
11 - باب: إِذَا أُسِرَ أَخُو
الرَّجُلِ أَوْ عَمُّهُ هَلْ يُفَادَى إِذَا كَانَ مُشْرِكًا؟
وَقَالَ أَنَسٌ: "قَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا"
وَكَانَ عَلِيٌّ لَهُ نَصِيبٌ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ الَّتِي أَصَابَ مِنْ
أَخِيهِ عَقِيلٍ وَعَمِّهِ عَبَّاسٍ
2537- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رِجَالًا مِنْ الأَنْصَارِ
اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا:
ائْذَنْ
(5/167)
12 - باب: عِتْقِ الْمُشْرِكِ
2538- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ
هِشَامٍ أَخْبَرَنِي أَبِي "أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ
بَعِيرٍ فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ وَأَعْتَقَ مِائَةَ
رَقَبَةٍ قَالَ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَصْنَعُهَا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا - يَعْنِي أَتَبَرَّرُ بِهَا – قَالَ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ
خَيْرٍ"
قوله: "باب عتق المشرك" يحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل أو المفعول،
وعلى الثاني جرى ابن بطال فقال لا خلاف في جواز عتق المشرك تطوعا، وإنما اختلفوا
في عتقه عن الكفارة، وحديث الباب في قصة حكيم بن حزام حجة في الأول، لأن حكيما لما
أعتق وهو كافر لم يحصل له الأجر إلا بإسلامه فمن فعل ذلك وهو مسلم لم يكن بدونه بل
أولى ا هـ. وقال ابن المنير: الذي يظهر أن مراد البخاري أن المشرك إذا أعتق مسلما
نفذ عتقه وكذا إذا أعتق كافرا فأسلم العبد، قال: وأما قوله: "أسلمت على ما
سلف لك من خير" فليس المراد به صحة التقرب منه في حال كفره، وإنما تأويله أن
الكافر إذا فعل ذلك انتفع به إذا أسلم لما حصل له من التدرب على فعل الخير فلم
يحتج إلى مجاهدة جديدة، فيثاب بفضل الله عما تقدم بواسطة انتفاعه بذلك بعد إسلامه
انتهى. وقد قدمت لذلك أجوبة أخرى في كتاب الزكاة مع الكلام على بقية فوائد الحديث
المذكور. قوله: "أن حكيم بن حزام أعتق" طاهر سياقه الإرسال لأن عروة لم
يدرك زمن ذلك، لكن بقية الحديث أوضحت الوصل وهي قوله: "قال فسألت" ففاعل
قال هو حكيم، فكأن عروة قال: قال حكيم، فيكون بمنزلة قوله: عن حكيم، وقد أخرجه
مسلم من طريق أبي معاوية عن هشام فقال: "عن أبيه عن حكيم". قوله:
"أتبرر بها" بالموحدة وراءين الأولى ثقيلة، أي أطلب بها البر وطرح
الحنث، وقد تقدم نقل الخلاف في ضبطه في الزكاة. وقوله: "يعني أتبرر" هو
من تفسير هشام بن عروة راويه كما ثبت عند مسلم والإسماعيلي، وقصر من زعم أنه تفسير
البخاري.
(5/169)
باب من ملك من العرب رقيفقا فوهب وباع
وجامع وفدى وسبى الذرية وقوله تعالى (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا ... الأية)
...
12 - باب: مَنْ مَلَكَ مِنْ الْعَرَبِ رَقِيقًا فَوَهَبَ وَبَاعَ وَجَامَعَ
وَفَدَى وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى [النحل 75]: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا
يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ
مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ}
2539 ، 2540- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: "أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ
عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ذَكَرَ عُرْوَةُ أَنَّ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ
بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ فَقَالَ إِنَّ مَعِي مَنْ تَرَوْنَ وَأَحَبُّ
الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا
الْمَالَ وَإِمَّا السَّبْيَ وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ - وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ
لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ - فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَّ
إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا فَقَامَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ
(5/169)
فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ
أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا،
تَائِبِينَ وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ
مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى
حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا
فَلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ طَيَّبْنَا: لَكَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّا لاَ نَدْرِي
مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ. فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ
إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ. فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ
عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا فَهَذَا الَّذِي
بَلَغَنَا عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ وَقَالَ أَنَسٌ قَالَ عَبَّاسٌ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا"
2541- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: "كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ فَكَتَبَ إِلَيَّ
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ عَلَى بَنِي
الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ
مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ
حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ"
2542- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ
بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ ابْنِ
مُحَيْرِيزٍ قَالَ: "رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ
الْعَرَبِ فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ فَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ
وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا مَا مِنْ نَسَمَةٍ
كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ وَهِيَ كَائِنَةٌ"
2543- حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ
الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ "لاَ أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ.." وحَدَّثَنِي ابْنُ سَلاَمٍ
أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ الْحَارِثِ
عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ مُنْذُ
ثَلاَثٍ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
فِيهِمْ سَمِعْتُهُ: يَقُولُ هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ قَالَ:
وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذِهِ
صَدَقَاتُ قَوْمِنَا وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ:
أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ"
[الحديث2543- طرفه في: 4366]
قوله: "باب من ملك من العرب رقيقا فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية"
هذه الترجمة معقودة لبيان الخلاف في استرقاق العرب، وهي مسألة مشهورة، والجمهور
على أن العربي إذا سبي جاز أن يسترق، وإذا تزوج أمة بشرطه كان ولدها رقيقا. وذهب
الأوزاعي والثوري وأبو ثور إلى أن على سيد الأمة تقويم الولد ويلزم أبوه بأداء
القيمة ولا يسترق الولد أصلا، وقد جنح المصنف إلى الجواز، وأورد الأحاديث الدالة
على ذلك، ففي حديث المسور ما ترجم به من الهبة. وفي حديث أنس ما ترجم به من
الفداء، وفي حديث ابن عمر ما ترجم به من سبي الذرية،
(5/170)
وفي حديث أبي سعيد ما ترجم به من
الجماع ومن الفدية أيضا، ويتضمن ما ترجم به من البيع، وفي حديث أبي هريرة ما ترجم
به من البيع لقوله في بعض طرقه: "ابتاعي" كما سأبينه، وقوله في الترجمة:
"وقوله الله تعالى: {عَبْداً مَمْلُوكاً} إلى آخر الآية" قال ابن
المنير: مناسبة الآية للترجمة من جهة أن الله تعالى أطلق العبد المملوك ولم يقيده
بكونه عجميا فدل على أن لا فرق في ذلك بين العربي والعجمي انتهى. وقال ابن بطال:
تأول بعض الناس من هذه الآية أن العبد لا يملك، وفي الاستدلال بها لذلك نظر لأنها
نكرة في سياق الإثبات فلا عموم فيها، وقد ذكر قتادة أن المراد به الكافر خاصة. نعم
ذهب الجمهور إلى كونه لا يملك شيئا واحتجوا بحديث ابن عمر الماضي ذكره في الشرب
وغيره. وقالت طائفة: إنه يملك، روي ذلك عن عمر وغيره. واختلف قول مالك فقال: من
باع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا بشرط. وقال فيمن أعتق عبدا وله مال: فإن
المال للعبد إلا بشرط. قال: وحجته في البيع حديثه عن نافع المذكور وهو نص في ذلك،
وحجته في العتق ما رواه عبيد الله بن أبي جعفر عن بكير بن الأشج عن نافع عن ابن
عمر رفعه: "من أعتق عبدا فمال العبد له، إلا أن يستثنيه بسيده". قلت:
وهو حديث أخرجه أصحاب السنن بإسناد صحيح، وفرق بعض أصحاب مالك بأن الأصل أنه لا
يملك، لكن لما كان العتق صورة إحسان إليه ناسب ذلك أن لا ينزع منه ما بيده تكميلا
للإحسان، ومن ثم شرعت المكاتبة وساغ له أن يكتسب ويؤدي إلى سيده، ولولا أن له
تسلطا على ما بيده في صورة العتق ما أغنى ذلك عنه شيئا، والله أعلم. فأما قصة
هوازن سيأتي شرحها مستوفى في المغازي، وقوله في هذه الطريق عن ابن شهاب "قال
ذكر عروة" سيأتي في الشروط من طريق معمر عن الزهري "أخبرني عروة"
وقوله: "استأنيت" بالمثناة قبل الألف المهموزة الساكنة ثم نون مفتوحة
وتحتانية ساكنة أي انتظرت، وقوله: "حتى يفيء (1)" بفتح أوله ثم فاء
مكسورة وهمزة بعد التحتانية الساكنة أي يرجع إلينا من مال الكفار من خراج أو غنيمة
أو غير ذلك، ولم يرد الفيء الاصطلاحي وحده. وأما قصة بني المصطلق من حديث ابن عمر
فعبد الله المذكور في الإسناد هو ابن المبارك، وقوله: "أغار على بني
المصطلق" بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء وكسر اللام بعدها قاف، وبنو
المصطلق بطن شهير من خزاعة وهو المصطلق بن سعيد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو
بن عامر، ويقال إن المصطلق لقب واسمه جذيمة بفتح الجيم بعدها ذال معجمة مكسورة،
وسيأتي شرح هذه الغزاة في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى، وقوله: "وهم
غارون" بالغين المعجمة وتشديد الراء جمع غار بالتشديد أي غافل، أي أخذهم على
غرة. قوله: "وأصاب يومئذ جويرية" بالجيم مصغرا بنت الحارث بن أبي ضرار
بكسر المعجمة وتخفيف الراء ابن الحارث بن مالك بن المصطلق، وكان أبوها سيد قومه
وقد أسلم بعد ذلك، وقد روى مسلم هذا الحديث من وجه آخر عن ابن عون وبين فيه أن
نافعا استدل بهذا الحديث على نسخ الأمر بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال، وسيأتي
البحث في ذلك في "باب الدعوة قبل القتال" من كتاب الجهاد إن شاء الله
تعالى. وأما حديث أبي سعيد فسيأتي الكلام عليه في كتاب النكاح مستوفى إن شاء الله
تعالى حيث ساقه هناك تاما، وقوله هنا: "ابن حبان"هو بفتح أوله والموحدة
الثقيلة، وابن محيريز بالمهملة وراء وزاي مصغر، وقوله: "نسمة" بفتح
النون والمهملة أي نفس. وأما حديث أبي هريرة أورده المصنف عن شيخين له كل منهما
حدثه به عن جرير لكنه فرقهما، لأن أحدهما زاد فيه عن جرير إسنادا آخر، وساقه هنا
على
ـــــــ
(1) لفظ الرواية في المتن "من أول ما يفئ علينا" بضم أوله من
"أفاء"
(5/171)
لفظ أحدهما وهو محمد بن سلام، وسيأتي في المغازي على لفظ الآخر وهو زهير بن حرب، ومغيرة هو ابن مقسم الضبي، والحارث هو ابن يزيد، والعكلي بضم المهملة وسكون الكاف وليس له في البخاري إلا هذا الحديث، وقد أغفله الكلاباذي من رجال البخاري، وهو ثقة جليل القدر من أقران الراوي عنه مغيرة لكنه تقدم عليه في الوفاة، والإسناد كله كوفيون غير طرفيه الصحابي وشيخ البخاري. قوله: "ما زلت أحب بني تميم" أي القبيلة الكبيرة المشهورة ينتسبون إلى تميم بن مر بضم الميم بلا هاء ابن أد بضم أوله وتشديد الدال ابن طابخة بموحدة مكسورة ومعجمة ابن إلياس بن مضر. قوله: "منذ ثلاث" أي من حين سمعت الخصال الثلاث، زاد أحمد من وجه آخر عن أبي زرعة عن أبي هريرة "وما كان قوم من الأحياء أبغض إلي منهم فأحببتهم" ا هـ، وكان ذلك لما كان يقع بينهم وبين قومه في الجاهلية من العداوة. قوله: "هم أشد أمتي على الدجال" في رواية الشعبي عن أبي هريرة عند مسلم: "هم أشد الناس قتالا في الملاحم" وهي أعم من رواية أبي زرعة: ويمكن أن يحمل العام في ذلك على الخاص فيكون المراد بالملاحم أكبرها وهو قتال الدجال، أو ذكر الدجال ليدخل غيره بطريق الأولى. قوله: "هذه صدقات قومنا" إنما نسبهم إليه لاجتماع نسبهم بنسبه صلى الله عليه وسلم في إلياس بن مضر، ووقع عند الطبراني في "الأوسط" من طريق الشعبي عن أبي هريرة في هذا الحديث: "وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بنعم من صدقة بني سعد، فلما راعه حسنها قال: هذه صدقة قومي" ا هـ، وبنو سعد بطن كبير شهير من تميم، ينسبون إلى سعد بن زيد مناة بن تميم، من أشهرهم في الصحابة قيس بن عاصم بن سنان بن خالد السعدي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا سيد أهل الوبر". قوله: "وكانت سبية منهم عند عائشة" أي من بني تميم، والمراد بطن منهم أيضا، وقد وقع عند الإسماعيلي من طريق أبي معمر عن جرير "وكانت على عائشة نسمة من بني إسماعيل فقدم سبي خولان فقالت عائشة يا رسول الله أبتاع منهم؟ قال: لا. فلما قدم سبي بني العنبر قال: ابتاعي فإنهم ولد إسماعيل"، ووقع عند أبي عوانة من طريق الشعبي عن أبي هريرة أيضا: "وجيء بسبي بني العنبر" ا هـ، وبنو العنبر بطن شهير أيضا من بني تميم ينسبون إلى العنبر - وهو بلفظ الطيب المعروف - ابن عمرو بن تميم. "تنبيه": وقع في نسخة الصحيحين "سبية" بوزن فعيلة مفتوح الأول من السبي أو من السبا، ولم أقف على اسمها، لكن عند الإسماعيلي من طريق هارون بن معروف عن جرير "نسمة" بفتح النون والمهملة أي نفس، وله من رواية أبي معمر المذكورة "وكانت على عائشة نسمة من بني إسماعيل" وفي رواية الشعبي المذكورة عند أبي عوانة "وكان على عائشة محرر" وبين الطبراني في "الأوسط" في رواية الشعبي المذكورة المراد بالذي كان عليها وأنه كان نذرا ولفظه: "نذرت عائشة أن تعتق محررا من بني إسماعيل" وله في "الكبير" من حديث دريح وهو بمهملات مصغرا ابن ذؤيب بن شعثم بضم المعجمة والمثلثة بينهما عين مهملة العنبري "أن عائشة قالت: يا نبي الله إني نذرت عتيقا من ولد إسماعيل، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اصبري حتى يجيء فيء بني العنبر غدا، فجاء فيء بني العنبر فقال لها: خذي منهم أربعة، فأخذت رديحا وزبيبا وزخيا وسمرة" ا هـ. فأما رديح فهو المذكور، وأما زبيب فهو بالزاي والموحدة مصغر أيضا - وضبطه العسكري بنون ثم موحدة - وهو ابن ثعلبة بن عمرو، وزخي بالزاي والخاء المعجمة مصغر أيضا وضبطه ابن عون بالراء أوله، وسمرة وهو ابن عمرو بن قرط بضم القاف وسكون الراء، قال في الحديث المذكور "فمسح النبي رءوسهم وبرك عليهم ثم قال: يا عائشة هؤلاء من بني إسماعيل قصدا" ا هـ. والذي تعين لعتق عائشة من هؤلاء الأربعة إما
(5/172)
رديح وإما زخي، ففي سنن أبي داود من حديث الزبيب بن ثعلبة ما يرشد إلى ذلك، وفي أول الحديث عنده "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى بني العنبر فأخذوهم بركبة من ناحية الطائف فاستاقوهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وركبة بضم الراء وسكون الكاف بعدها موحدة موضع معروف وهي غير ركوبة الثنية المعروفة التي بين مكة والمدينة، وذكر ابن سعد أن سرية عيينة بن حصن هذه كانت في المحرم سنة تسع من الهجرة وأنه سبى إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا والله أعلم. وفي قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "ابتاعيها فأعتقيها" دليل للجمهور في حصة تملك العربي، وإن كان الأفضل عتق من يسترق منهم، ولذلك قال عمر: "من العار أن يملك الرجل ابن عمه وبنت عمه" حكاه ابن بطال عن المهلب. وقال ابن المنير: لا بد في هذه المسألة من تفصيل، فلو كان العربي مثلا من ولد فاطمة عليهما السلام وتزوج أمة بشرطه لاستبعدنا استرقاق ولده، قال: وإذا أفاد كون المسبي من ولد إسماعيل يقتضي استحباب إعتاقه فالذي بالمثابة التي فرضناها يقتضي وجوب حريته حتما، والله أعلم. وفي الحديث أيضا فضيلة ظاهرة لبني تميم، وكان فيهم في الجاهلية وصدر الإسلام جماعة من الأشراف والرؤساء. وفيه الإخبار عما سيأتي من الأحوال الكائنة في آخر الزمان. وفيه الرد على من نسب جميع اليمن إلى بني إسماعيل لتفرقته صلى الله عليه وسلم بين خولان وهم من اليمن وبين بني العنبر وهم من مضر، والمشهور في خولان أنه ابن عمرو بن مالك بن الحارث من ولد كهلان بن سبأ. وقال ابن الكلبي خولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وسيأتي بسط القول في ذلك في أوائل المناقب إن شاء الله تعالى.
(5/173)
14 - باب: فَضْلِ مَنْ أَدَّبَ
جَارِيَتَهُ وَعَلَّمَهَا
2544- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ فُضَيْلٍ
عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ
جَارِيَةٌ فَعَالَهَا فَأَحْسَنَ إِلَيْهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا
كَانَ لَهُ أَجْرَانِ"
قوله: "باب فضل من أدب جاريته" سقط لفظ: "فضل" من رواية أبي
ذر والنسفي، وزاد النسفي "وأعتقها" أورد فيه حديث أبي موسى مختصرا،
وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. مطرف المذكور في
السند هو ابن طريف كوفي مشهور. وقوله في هذه الرواية: "فعلمها" في رواية
أبي ذر عن المستملي والسرخسي "فعالها"
(5/173)
15 - باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَبِيدُ إِخْوَانُكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ
مِمَّا تَأْكُلُونَ"
وَقَوْلِهِ تَعَالَى [النساء 36]: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ
بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: ذِي
الْقُرْبَى الْقَرِيبُ وَالْجُنُبُ الْغَرِيبُ
2545- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
وَاصِلٌ الأَحْدَبُ قَالَ سَمِعْتُ الْمَعْرُورَ بْنَ سُويْدٍ قَالَ:
"رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ
حُلَّةٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي
سَابَبْتُ
(5/173)
16 - باب: الْعَبْدِ إِذَا أَحْسَنَ
عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ سَيِّدَهُ
2546- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ سَيِّدَهُ وَأَحْسَنَ
عِبَادَةَ رَبِّهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ"
[الحديث 2546- طرفه في: 2550]
2547- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ
الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ
جَارِيَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا
فَلَهُ أَجْرَانِ وَأَيُّمَا عَبْدٍ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ
فَلَهُ أَجْرَانِ"
2548- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا
يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ قَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لَوْلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لاَحْبَبْتُ
أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ"
2549- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ
الأَعْمَشِ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ مَا لِأَحَدِهِمْ يُحْسِنُ
عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ"
قوله: "باب العبد إذا أحسن عبادة ربه ونصح سيده" أي بيان فضله أو ثوابه.
أورد فيه أربعة أحاديث: أحدها حديث ابن عمر المصرح بأن لمن فعل ذلك أجرين. ثانيها:
حديث أبي موسى مثله وزيادة ذكر من كانت له جارية فعلمها وأعتقها فتزوجها، وهو طرف
من حديث تقدم في الإيمان بلفظ: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين" فذكر فيه أيضا
مؤمن أهل الكتاب. ثالثها: حديث أبي هريرة "للعبد المملوك الصالح أجران"
، واسم الصلاح يشمل ما تقدم من الشرطين وهما إحسان العبادة والنصح للسيد، ونصيحة
السيد تشمل أداء حقه من الخدمة وغيرها، وسيأتي في الباب الذي يليه من حديث أبي
موسى بلفظ: "ويؤدي إلى سيده الذي له عليه من الحق والنصيحة والطاعة"
رابعها حديث أبي هريرة أيضا "نعم ما لأحدهم يحسن عبادة ربه وينصح لسيده"
وهو مفسر للحديث الذي قبله
(5/175)
موافق للحديثين الآخرين. "تنبيه": وقع لابن بطال عزو حديث أبي هريرة ثالث أحاديث الباب لأبي موسى، وهو غلط فاحش. قوله: "والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك" ظاهر هذا السياق رفع هذه الجمل إلى آخرها وعلى ذلك مجرى الخطابي فقال: لله أن يمتحن أنبياءه وأصفياءه بالرق كما امتحن يوسف ا هـ. وجزم الداودي وابن بطال وغير واحد بأن ذلك مدرج من قول أبي هريرة، ويدل عليه من حيث المعنى قوله: "وبر أمي" فإنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حينئذ أم يبرها، ووجهه الكرماني فقال أراد بذلك تعليم أمته، أو أورده على سبيل فرض حياتها أو المراد أمه التي أرضعته ا هـ. وفاته التنصيص على إدراج ذلك فقد فصله الإسماعيلي من طريق أخرى عن ابن المبارك ولفظه: "والذي نفس أبي هريرة بيده إلخ" وكذلك أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في "كتاب البر والصلة" عن ابن المبارك، وكذلك أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن وهب وأبي صفوان الأموي والمصنف في "الأدب المفرد" من طريق سليمان بن بلال والإسماعيلي من طريق سعيد بن يحيى اللخمي وأبو عوانة من طريق عثمان بن عمر كلهم عن يونس، زاد مسلم في آخر طريق ابن وهب "قال - يعني الزهري - وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها" ولأبي عوانة وأحمد من طريق سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أنه كان يسمعه يقول: "لولا أمران لأحببت أن أكون عبدا، وذلك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما خلق الله عبدا يؤدي حق الله عليه وحق سيده إلا وفاه الله أجره مرتين" فعرف بذلك أن الكلام المذكور من استنباط أبي هريرة، ثم استدل له بالمرفوع؛ وإنما استثنى أبو هريرة هذه الأشياء لأن الجهاد والحج يشترط فيهما إذن السيد، وكذلك بر الأم فقد يحتاج فيه إلى إذن السيد في بعض وجوهه، بخلاف بقية العبادات البدنية. ولم يتعرض للعبادات المالية إما لكونه كان إذ ذاك لم يكن له مال يزيد على قدر حاجته فيمكنه صرفه في القربات بدون إذن السيد، وإما لأنه كان يرى أن للعبد أن يتصرف في ماله بغير إذن السيد. "فائدة": اسم أم أبي هريرة أميمة بالتصغير وقيل ميمونة، وهي صحابية ذكر إسلامها في "صحيح مسلم"وبيان اسمها في "ذيل المعرفة" لأبي موسى قال ابن عبد البر: معنى هذا الحديث عندي أن العبد لما اجتمع عليه أمران واجبان طاعة ربه في العبادات وطاعة سيده في المعروف فقام بهما جميعا كان له ضعف أجر الحر المطيع لطاعته، لأنه قد ساواه في طاعة الله وفضل عليه بطاعة من أمره الله بطاعته، قال ومن هنا أقول: إن من اجتمع عليه فرضان فأداهما أفضل ممن ليس له عليه إلا فرض واحد فأداه كمن وجب عليه صلاة وزكاة فقام بهما فهو أفضل ممن وجبت عليه صلاة فقط، ومقتضاه أن من اجتمعت عليه فروض فلم يؤد منها شيئا كان عصيانه أكثر من عصيان من لم يجب عليه إلا بعضها ا هـ ملخصا. والذي يظهر أن مزيد الفضل للعبد الموصوف بالصفة لما يدخل عليه من مشقة الرق، وإلا فلو كان التضعيف بسبب اختلاف جهة العمل لم يختص العبد بذلك. وقال ابن التين: المراد أن كل عمل يعمله يضاعف له، قال: وقيل سبب التضعيف أنه زاد لسيده نصحا وفي عبادة ربه إحسانا فكان له أجر الواجبين وأجر الزيادة عليهما. قال: والظاهر خلاف هذا وأنه بين ذلك لئلا يظن أنه غير مأجور على العبادة ا هـ. وما ادعى أنه الظاهر لا ينافي ما نقله قبل ذلك، فإن قيل يلزم أن يكون أجر المماليك ضعف أجر السادات أجاب الكرماني بأن لا محذور في ذلك أو يكون أجره مضاعفا من هذه الجهة، وقد يكون للسيد جهات أخرى يستحق بها أضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما ا هـ. ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر مختصا بالعمل الذي يتحد
(5/176)
فيه طاعة الله وطاعة السيد فيعمل عملا واحدا ويؤجر عليه أجرين بالاعتبارين، وأما العمل المختلف الجهة فلا اختصاص له بتضعيف الأجر فيه على غيره من الأحرار والله أعلم. واستدل به على أن العبد لا جهاد عليه ولا حج في حال العبودية وإن صح ذلك منه. قوله في حديث أبي هريرة "حدثنا إسحاق بن نصر" هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر، نسب إلى جده. قوله: "نعما لأحدهم" بفتح النون وكسر العين وإدغام الميم في الأخرى، ويجوز كسر النون، وتكسر النون وتفتح أيضا مع إسكان العين وتحريك الميم، فتلك أربع لغات. قال الزجاج "ما" بمعنى الشيء فالتقدير نعم الشيء. ووقع لبعض رواة مسلم: "نعمى" بضم النون وسكون العين مقصور بالتنوين وغيره، وهو متجه المعنى إن ثبتت به الرواية. وقال ابن التين: وقع في نسخة الشيخ أبي الحسن أي القابسي "نعم ما" بتشديد الميم الأولى وفتحها ولا وجه له، وإنما صوابه إدغامها في "ما" وهي كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} . قوله: "يحسن" هو مبين للمخصوص بالمدح في قوله: "نعم"، زاد مسلم من طريق همام عن أبي هريرة "نعما للمملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله" أي يموت على ذلك، وفيه إشارة إلى أن الأعمال بالخواتيم.
(5/177)
باب كراهة التطاول على الرقيق وقوله
عبدي أو أمتي
...
17 - باب: كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ وَقَوْلِهِ عَبْدِي أَوْ
أَمَتِي
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} ،
وَقَالَ {عَبْداً مَمْلُوكاً} {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} وَقَالَ
{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} وَقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ" و {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} عِنْدَ
سَيِّدِكَ "وَمَنْ سَيِّدُكُمْ"
2550- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي
نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا نَصَحَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ
وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ"
2551- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ
بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمَمْلُوكُ الَّذِي
يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ
مِنْ الْحَقِّ وَالنَّصِيحَةِ وَالطَّاعَةِ لَهُ أَجْرَانِ"
2552- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ: "لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ وَضِّئْ رَبَّكَ اسْقِ
رَبَّكَ وَلْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلاَيَ وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتِي
وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلاَمِي"
2553- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ
نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ الْعَبْدِ فَكَانَ لَهُ مِنْ
الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ وَأُعْتِقَ
مِنْ مَالِهِ، وَإِلاَ فَقَدْ أعَتَقَ مِنْهُ ما عتق"
2554- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ:
حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
(5/177)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ
فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالرَّجُلُ
رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ
عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ وَالْعَبْدُ رَاعٍ
عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ
وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"
2555 ، 2556- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا زَنَتْ الأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ إِذَا زَنَتْ
فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ
الرَّابِعَةِ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ"
قوله: "باب كراهية التطاول على الرقيق" أي الترفع عليهم، والمراد مجاوزة
الحد في ذلك، والمراد بالكراهة كراهة التنزيه. قوله: "عبدي أو أمتي" أي
وكراهية ذلك من غير تحريم، ولذلك استشهد للجواز بقوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ
مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وبغيرها من الآيات والأحاديث الدالة على الجواز،
ثم أردفها بالحديث الوارد في النهي عن ذلك، واتفق العلماء على أن النهي الوارد في
ذلك للتنزيه، حتى أهل الظاهر، إلا ما سنذكره عن ابن بطال في لفظ الرب. قوله:
"وقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم" هو طرف من حديث أبي
سعيد في قصة سعد بن معاذ وحكمه على بني قريظة، وسيأتي تاما في المغازي مع الكلام
عليه. قوله: "ومن سيدكم" سقط هذا من رواية النسفي وأبي ذر وأبي الوقت
وثبت للباقين، وهو طرف من حديث أخرجه المؤلف في "الأدب المفرد" من طريق
حجاج الصواف عن أبي الزبير قال: "حدثنا جابر قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: من سيدكم يا بني سلمة؟ قلنا: الجد بن قيس، على أنا نبخله. قال: وأي داء
أدوى من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح" وكان عمرو يعترض على أصنامهم في
الجاهلية، وكان يولم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج. وأخرجه الحاكم من
طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه، ورواه ابن عائشة في نوادره من
طريق الشعبي مرسلا وزاد: قال فقال بعض الأنصار في ذلك:
وقال رسول الله والقول قوله ... لمن قال منا من تسمون سيدا
فقالوا له جد بن قيس على التي ... نبخله فيها وإن كان أسودا
فسود عمرو بن الجموح لجوده ... وحق لعمرو بالندى أن يسودا
انتهى. والجد بفتح الجيم وتشديد الدال هو ابن قيس بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد
بن عدي بن غنم بسكون النون ابن كعب بن سلمة بكسر اللام، يكنى أبا عبد الله، له ذكر
في حديث جابر أنه حمله معه في بيعة العقبة. قال ابن عبد البر: كان يرمى بالنفاق،
ويقال: إنه تاب وحسنت توبته، وعاش إلى أن مات في خلافة عثمان. وأما عمرو بن الجموح
بفتح الجيم وضم الميم الخفيفة وآخره مهملة ابن زيد بن حرام بمهملتين ابن كعب بن
غنم بن كعب بن سلمة، قال ابن إسحاق: كان من سادات بني سلمة، وذكر له قصة في صنمه
وسبب إسلامه وقوله فيه: تالله لو كنت إلها لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن. وروى
أحمد، وعمر بن شبة في "أخبار المدينة" بإسناد حسن عن أبي قتادة أن عمرو
بن الجموح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إن قاتلت حتى أقتل في
سبيل الله تراني أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ فقال: نعم. وكانت عرجاء. زاد عمر
فقتل يوم أحد رحمه الله. وقد روى ابن منده وأبو
(5/178)
الشيخ في "الأمثال" والوليد بن أبان في "كتاب الجود" له من حديث كعب بن مالك " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا جد بن قيس" فذكر الحديث، فقال: "سيدكم بشر بن البراء بن معرور" وهو بسكون العين المهملة ابن صخر يجتمع مع عمرو بن الجموح في صخر، ورجال هذا الإسناد ثقات، إلا أنه اختلف في وصله وإرساله على الزهري، ويمكن الجمع بأن تحمل قصة بشر على أنها كانت بعد قتل عمرو بن الجموح جمعا بين الحديثين، ومات بشر المذكور بعد خيبر، أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة التي سم فيها، وكان قد شهد العقبة وبدرا، ذكره ابن إسحاق وغيره. وما ذكره المصنف يحتاج إلى تأويل الحديث الوارد في النهي عن إطلاق السيد على المخلوق، وهو في حديث مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه عند أبي داود والنسائي والمصنف في "الأدب المفرد" ورجاله ثقات وقد صححه غير واحد، ويمكن الجمع بأن يحمل النهي عن ذلك على إطلاقه على غير المالك، والإذن بإطلاقه على المالك وقد كان بعض أكابر العلماء يأخذ بهذا ويكره أن يخاطب أحدا بلفظه أو كتابته بالسيد، ويتأكد هذا إذا كان المخاطب غير تقي، فعند أبي داود والمصنف في الأدب من حديث بريدة مرفوعا: "لا تقولوا للمنافق سيدا" الحديث ونحوه عند الحاكم. ثم أورد المصنف في الباب غير هذين المعلقين سبعة أحاديث: حديثا ابن عمر وأبي موسى في العبد الذي له أجران وقد تقدما من وجهين آخرين في الباب الذي قبله. والغرض منهما قوله في حديث ابن عمر "إذا نصح سيده" وفي حديث أبي موسى "ويؤدي إلى سيده" . ثالثها حديث أبي هريرة، ومحمد شيخ المؤلف فيه لم أره منسوبا في شيء من الروايات إلا في رواية أبي علي بن شبويه فقال: "حدثنا محمد بن سلام" وكذا حكاه الجياني عن رواية أبي علي بن السكن، وحكي عن الحاكم أنه الذهلي. قلت: وقد أخرجه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق فيحتمل أن يكون هو شيخ البخاري فيه، فقد حدث عنه في الصحيح أيضا، وكلام الطرقي يشير إليه. قوله: "لا يقل أحدكم أطعم ربك إلخ" هي أمثلة، وإنما ذكرت دون غيرها لغلبة استعمالها في المخاطبات، ويجوز في ألف "اسق" الوصل والقطع. وفيه نهي العبد أن يقول لسيده ربي، كذلك نهي غيره فلا يقول له أحد ربك، ويدخل في ذلك أن يقول السيد ذلك عن نفسه فإنه قد يقول لعبده اسق ربك فيضع الظاهر موضع الضمير على سبيل التعظيم لنفسه، والسبب في النهي أن حقيقة الربوبية لله تعالى، لأن الرب هو المالك والقائم بالشيء فلا توجد حقيقة ذلك إلا لله تعالى. قال الخطابي: سبب المنع أن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله وترك الإشراك معه، فكره له المضاهاة في الاسم لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد، فأما ما لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة كقوله رب الدار ورب الثوب. وقال ابن بطال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله رب، كما لا يجوز أن يقال له إله أ هـ. والذي يختص بالله تعالى إطلاق الرب بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجوز إطلاقه كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} . وقوله {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} وقوله عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة "أن تلد الأمة ربها" فدل على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد من ذلك فلبيان الجواز. وقيل هو مخصوص بغير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرد ما في القرآن، أو المراد النهي عن الإكثار من ذلك واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن ذكرها في الجملة. قوله: "وليقل سيدي مولاي" فيه جواز إطلاق العبد على مالكه سيدي، قال القرطبي وغيره: إنما فرق بين الرب والسيد لأن الرب من أسماء الله تعالى اتفاقا، واختلف في
(5/179)
السيد، ولم يرد في القرآن أنه من أسماء الله تعالى. فإن قلنا إنه ليس من أسماء الله تعالى فالفرق واضح إذ لا التباس وإن قلنا إنه من أسمائه فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الرب فيحصل الفرق بذلك أيضا، وقد روى أبو داود والنسائي وأحمد والمصنف في "الأدب المفرد" من حديث عبد الله بن الشخير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السيد الله" وقال الخطابي: إنما أطلقه لأن مرجع السيادة إلى معنى الرياسة على من تحت يده والسياسة له وحسن التدبير لأمره، ولذلك سمي الزوج سيدا، قال: وأما المولى فكثير التصرف في الوجوه المختلفة من ولي وناصر وغير ذلك، ولكن لا يقال السيد ولا المولى على الإطلاق من غير إضافة إلا في صفة الله تعالى انتهى. وفي الحديث جواز إطلاق مولاي أيضا، وأما ما أخرجه مسلم والنسائي من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في هذا الحديث نحوه وزاد: "ولا يقل أحدكم مولاي فإن مولاكم الله، ولكن ليقل سيدي" فقد بين مسلم الاختلاف في ذلك على الأعمش وأن منهم من ذكر هذه الزيادة ومنهم من حذفها. وقال عياض: حذفها أصح. وقال القرطبي: المشهور حذفها قال: وإنما صرنا إلى الترجيح للتعارض مع تعذر الجمع وعدم العلم بالتاريخ انتهى. ومقتضى ظاهر هذه الزيادة أن إطلاق السيد أسهل من إطلاق المولى، وهو خلاف المتعارف، فإن المولى يطلق على أوجه متعددة منها الأسفل والأعلى، والسيد لا يطلق إلا على الأعلى، فكان إطلاق المولى أسهل وأقرب إلى عدم الكراهة والله أعلم. وقد رواه محمد بن سيرين عن أبي هريرة فلم يتعرض للفظ المولى إثباتا ولا نفيا، أخرجه أبو داود والنسائي والمصنف في "الأدب المفرد" بلفظ: "لا يقولن أحدكم عبدي ولا أمتي ولا يقل المملوك ربي وربتي، ولكن ليقل المالك فتاي وفتاتي والمملوك سيدي وسيدتي، فإنكم المملوكون والرب الله تعالى" ويحتمل أن يكون المراد النهي عن الإطلاق كما تقدم من كلام الخطابي، ويؤيد كلامه حديث ابن الشخير المذكور والله أعلم، وعن مالك تخصيص الكراهة بالنداء فيكره أن يقول يا سيدي ولا يكره في غير النداء. قوله: "ولا يقل أحدكم عبدي أمتي" زاد المصنف في "الأدب المفرد" ومسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة "كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله" ونحو ما قدمته من رواية ابن سيرين، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى العلة في ذلك لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى، ولأن فيها تعظيما لا يليق بالمخلوق استعماله لنفسه. قال الخطابي: المعنى في ذلك كله راجع إلى البراءة من الكبر والتزام الذل والخضوع لله عز وجل، وهو الذي يليق بالمربوب. قوله: "وليقل فتاي وفتاتي وغلامي" زاد مسلم في الرواية المذكورة "وجاريتي" إلى ما يؤدي المعنى مع السلامة من التعاظم، لأن لفظ الفتى والغلام ليس دالا على محض الملك كدلالة العبد، فقد كثر استعمال الفتى في الحر وكذلك الغلام والجارية، قال النووي: المراد بالنهي من استعمله على جهة التعاظم لا من أراد التعريف انتهى. ومحله ما إذا لم يحصل التعريف بدون ذلك استعمالا للأدب في اللفظ كما دل عليه الحديث. الحديث الرابع حديث ابن عمر "من أعتق نصيبا له من عبد" قد تقدم شرحه قريبا، والمراد منه إطلاق لفظ العبد، وكأن مناسبته للترجمة من جهة أنه لو لم يحكم عليه بعتق كله إذا كان موسرا لكان بذلك متطاولا عليه. الخامس حديثه: "كلكم راع" سيأتي الكلام عليه في أول الأحكام، والغرض منه هنا قوله: "والعبد راع على مال سيده" فإنه إن كان ناصحا له في خدمته مؤديا له الأمانة ناسب أن يعينه ولا يتعاظم عليه. السادس والسابع حديث أبي هريرة وزيد بن خالد "إذا زنت الأمة فاجلدوها" سيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. والغرض منه هنا ذكر الأمة وأنها إذا عصت تؤدب، فإن لم تنجع وإلا بيعت،
(5/180)
وكل ذلك مباين للتعاظم عليها.
(5/181)
18 - باب: إِذَا أَتَاهُ خَادِمُهُ
بِطَعَامِهِ
2557- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ
خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَليُنَاوِلْهُ لُقْمَةً
أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ فَإِنَّهُ وَلِيَ
عِلاَجَهُ"
[الحديث 2557- طرفه في: 5460]
قوله: "باب إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه" أي فليجلسه معه ليأكل. قوله:
"أخبرني محمد بن زياد" هو الجمحي. قوله: "إذا أتى أحدكم خادمه
بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة" هكذا أورده، ويفهم منه إباحة ترك
إجلاسه معه، وسيأتي البحث في ذلك في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى. وقوله:
"أكلة" بضم أوله أي لقمة، والشك فيه من شعبة كما سأبينه. وقوله:
"ولي علاجه" زاد في الأطعمة "وحره". واستدل به على أن قوله في
حديث أبي ذر الماضي "فأطعموهم مما تطعمون" ليس على الوجوب.
(5/181)
19 - باب: الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ
سَيِّدِهِ وَنَسَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَالَ إِلَى السَّيِّدِ
2558- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ
فَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ
وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ
وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ
وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ – قَالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلاَءِ مِنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ - فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"
قوله: "باب العبد راع في مال سيده" أي ويلزمه حفظه، ولا يعمل إلا بإذنه.
قوله: "ونسب صلى الله عليه وسلم المال إلى السيد" كأنه يشير بذلك إلى
حديث ابن عمر "من باع عبدا وله مال فماله للسيد" وقد تقدمت الإشارة إليه
في "باب من باع نخلا قد أبرت" من كتاب البيوع وفي كتاب الشرب، وكلام ابن
بطال يشير إلى أن ذلك مستفاد من قوله: "العبد راع في مال سيده" فإنه قال
في شرح حديث الباب: فيه حجة لمن قال إن العبد لا يملك، وتعقبه ابن المنير بأنه لا
يلزم من كونه راعيا في مال سيده أن لا يكون هو له مال، فإن قيل فاشتغاله برعاية
مال سيده يستوعب أحواله، فالجواب أن المطلق لا يفيد العموم، ولا سيما إذا سيق لغير
قصد العموم، وحديث الباب إنما سيق للتحذير من الخيانة والتخويف بكونه مسئولا
ومحاسبا، فلا تعلق له بكونه يملك أو لا يملك انتهى. وقد تقدم الكلام على مسألة
كونه هل يملك قبل ستة أبواب. قوله: "والمرأة في بيت زوجها راعية" إنما
قيد بالبيت لأنها لا تصل إلى ما سواه غالبا
(5/181)
20 - باب: إِذَا ضَرَبَ الْعَبْدَ
فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ
2559- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ فُلاَنٍ عَنْ سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحَدَّثَنَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ"
قوله: "باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه" العبد بالنصب على المفعولية
والفاعل محذوف للعلم به، وذكر العبد ليس قيدا بل هو من جملة الأفراد الداخلين في
ذلك، وإنما خص بالذكر لأن المقصود هنا بيان حكم الرقيق، كذا قرره بعض الشراح، وأظن
المصنف أشار إلى ما أخرجه في "الأدب المفرد" من طريق محمد بن عجلان
أخبرني سعيد عن أبي هريرة فذكر الحديث بلفظ: "إذا ضرب أحدكم خادمه" .
قوله في الإسناد "حدثني محمد بن عبيد الله" هو ابن ثابت المدني؛ ورجال
الإسناد كلهم مدنيون، وكأن أبا ثابت تفرد به عن ابن وهب، فإني لم أره في شيء من
المصنفات إلا من طريقه. قوله: "قال وأخبرني ابن فلان" قائل ذلك هو أبو
ثابت فهو موصول وليس بمعلق، وفاعل قال هو ابن وهب، وكأنه سمعه من لفظ مالك
وبالقراءة على الآخر. وكان ابن وهب حريصا على تمييز ذلك. وأما "ابن
فلان" فقال المزي: يقال هو ابن سمعان، يعني عبد الله بن زياد بن سليمان بن
سمعان المدني، وهو يوهم تضعيف ذلك، وليس كذلك فقد جزم بذلك أبو نصر الكلاباذي
وغيره، وقاله قبله بعض القدماء أيضا؛ فوقع في رواية أبي ذر الهروي في روايته عن
المستملي: قال أبو حرب الذي قال: "ابن فلان" هو ابن وهب، وابن فلان هو
ابن سمعان. قلت: وأبو حرب هذا هو بيان وقد أخرجه الدار قطني في "غرائب
مالك" من طريق عبد الرحمن بن خراش بكسر المعجمة عن البخاري "قال حدثنا
أبو ثابت محمد بن عبيد الله المدني" فذكر الحديث لكن قال بدل قوله ابن فلان
"ابن سمعان" فكأن البخاري كنى عنه في الصحيح عمدا لضعفه، ولما حدث به
خارج الصحيح نسبه، وقد بين ذلك أبو نعيم في "المستخرج" بما خرجه من طريق
العباس بن الفضل عن أبي ثابت وقال فيه: "ابن سمعان" وقال بعده: أخرجه
البخاري عن أبي ثابت فقال ابن فلان وأخرجه في موضع آخر فقال ابن سمعان، وابن سمعان
المذكور مشهور بالضعف متروك الحديث كذبه مالك وأحمد وغيرهما وماله في البخاري شيء
إلا في هذا الموضع، ثم إن البخاري لم يسق المتن من طريقه مع كونه مقرونا بمالك بل
ساقه على لفظ الرواية الأخرى وهي رواية همام عن أبي هريرة، وقد أخرجه مسلم من طريق
أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "فليتق" بدل "فليجتنب" وهي رواية
أبي نعيم المذكورة، وأخرجه مسلم أيضا من طريق الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "إذا
ضرب" ومثله للنسائي من طريق عجلان، ولأبي داود من طريق أبي سلمة كلاهما عن
أبي هريرة وهو يفيد أن قوله في رواية همام "قاتل" بمعنى قتل، وأن
المفاعلة فيه ليست على ظاهرها ويحتمل أن تكون على ظاهرها ليتناول ما يقع عند دفع
الصائل مثلا فينهى دافعه عن القصد بالضرب إلى وجهه، ويدخل في النهي كل من ضرب في
حد أو تعزير أو تأديب
(5/182)
وقد وقع في حديث أبي بكرة وغيره عند أبي داود وغيره في قصة التي زنت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها وقال: "ارموا واتقوا الوجه" وإذا كان ذلك في حق من تعين إهلاكه فمن دونه أولى. قال النووي: قال العلماء إنما نهي عن ضرب الوجه لأنه لطيف يجمع المحاسن، وأكثر ما يقع الإدراك بأعضائه، فيخشى من ضربه أن تبطل أو تتشوه كلها أو بعضها، والشين فيها فاحش لظهورها وبروزها، بل لا يسلم إذا ضربه غالبا من شين ا هـ. والتعليل المذكور حسن، لكن ثبت عند مسلم تعليل آخر، فإنه أخرج الحديث المذكور من طريق أبي أيوب المراغي عن أبي هريرة وزاد: "فإن الله خلق آدم على صورته" واختلف في الضمير على من يعود؟ فالأكثر على أنه يعود على المضروب لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه، ولولا أن المراد التعليل بذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباط بما قبلها. وقال القرطبي: أعاد بعضهم الضمير على الله متمسكا بما ورد في بعض طرقه: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن" قال: وكأن من رواه أورده بالمعنى متمسكا بما توهمه فغلط في ذلك. وقد أنكر المازري ومن تبعه صحة هذه الزيادة ثم قال: وعلى تقدير صحتها فيحمل على ما يليق بالباري سبحانه وتعالى. قلت: الزيادة أخرجها ابن أبي عاصم في "السنة" والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات وأخرجها ابن أبي عاصم أيضا من طريق أبي يونس عن أبي هريرة بلفظ يرد التأويل الأول قال: "من قاتل فليجتنب الوجه فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن" فتعين إجراء ما في ذلك على ما تقرر بين أهل السنة من إمراره كما جاء من غير اعتقاد تشبيه، أو من تأويله على ما يليق بالرحمن جل جلاله، وسيأتي في أول كتاب الاستئذان من طريق همام عن أبي هريرة رفعه: خلق الله آدم على صورته الحديث، وزعم بعضهم أن الضمير يعود على آدم أي على صفته أي خلقه موصوفا بالعلم الذي فضل به الحيوان وهذا محتمل، وقد قال المازري: غلط ابن قتيبة فأجرى هذا الحديث على ظاهره وقال: صورة لا كالصور انتهى. وقال حرب الكرماني في "كتاب السنة" سمعت إسحاق بن راهويه يقول: صح أن الله خلق آدم على صورة الرحمن. وقال إسحاق الكوسج سمعت أحمد يقول هو حديث صحيح وقال الطبراني في كتاب السنة "حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قال رجل لأبي إن رجلا قال خلق الله آدم على صورته - أي صورة الرجل - فقال: كذب هو قول الجهمية" انتهى. وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" وأحمد من طريق ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعا: "لا تقولن قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته" وهو ظاهر في عود الضمير على المقول له ذلك، وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم أيضا من طريق أبي رافع عن أبي هريرة بلفظ: " إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورة وجهه" ولم يتعرض النووي لحكم هذا النهي، وظاهره التحريم. ويؤيده حديث سويد بن مقرن الصحابي "أنه رأى رجلا لطم غلامه فقال: أو ما علمت أن الصورة محترمة" أخرجه مسلم وغيره.
(5/183)
كتاب المكاتب
مدخل
...
50 – كتاب المكاتب
قوله "باب في المكاتب" كذا لأبي ذر، ولغيره "كتاب المكاتب"
وأثبتوا كلهم البسملة والمكاتب بالفتح من تقع له الكتابة وبالكسر من تقع منه وكاف
الكتابة تكسر وتفتح كعين العتاقة، قال الراغب: اشتقاقها من كتب بمعنى أوجب، ومنه
قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ – إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} أو بمعنى جمع وضم، ومنه كتبت الخط، وعلى
الأول تكون مأخوذة من معنى الالتزام، وعلى الثاني تكون مأخوذة من الخط لوجوده عند
عقدها غالبا قال الروياني: الكتابة إسلامية ولم تكن تعرف في الجاهلية، كذا قال
وكلام غيره يأباه، ومنه قول ابن التين: كانت الكتابة متعارفة قبل الإسلام فأقرها
النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن خزيمة في كلامه على حديث بريرة: قيل إن بريرة
أول مكاتبة في الإسلام، وقد كانوا يكاتبون في الجاهلية بالمدينة، وأول من كوتب من
الرجال في الإسلام سلمان، وقد تقدم ذكر ذلك في البيوع في "باب البيع والشراء
مع المشركين" وحكى ابن التين أن أول من كوتب أبو المؤمل، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: أعينوه، وأول من كوتب من النساء بريرة كما سيأتي حديثها في هذه
الأبواب، وأول من كوتب بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو أمية مولى عمر، ثم سيرين
مولى أنس. واختلف في تعريف الكتابة، وأحسنه: تعليق عتق بصفة على معاوضة مخصوصة.
والكتابة خارجة عن القياس عند من يقول إن العبد لا يملك، وهي لازمة من جهة السيد
إلا إن عجز العبد، وجائزة له على الراجح من أقوال العلماء فيها
(5/184)
باب من قذف مملوكه
...
باب: إثم من قذف مملوكه
قوله "باب إثم من قذف مملوكه" كذا للجميع هنا إلا النسفي وأبا ذر، ولم
يذكر من أثبت هذه الترجمة فيها حديثا، ولا أعرف لدخولها في أبواب المكاتب معنى. ثم
وجدتها في رواية أبي علي بن شبويه مقدمة قبل كتاب المكاتب فهذا هو المتجه، وعلى
هذا فكأن المصنف ترجم بها وأخلى بياضا ليكتب فيها الحديث الوارد في ذلك فلم يكتب
كما وقع له في غيرها وقد ترجم في كتاب "الحدود باب قذف العبد" أورد فيه
حديث "من قذف مملوكه - وهو بريء مما قال - جلد يوم القيامة" الحديث،
فلعله أشار بذلك إلى أنه يدخل في هذه الأبواب
(5/184)
1 - باب: الْمُكَاتِبِ وَنُجُومِهِ فِي
كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ
وَقَوْلِهِ [33 النور]: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ
مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وَقَالَ رَوْحٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْتُ
لِعَطَاءٍ أَوَاجِبٌ عَلَيَّ إِذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالًا أَنْ أُكَاتِبَهُ قَالَ
مَا أُرَاهُ إِلاَّ وَاجِبًا وَقَالَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ
تَأْثُرُهُ عَنْ أَحَدٍ قَالَ لاَ ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنَّ مُوسَى بْنَ أَنَسٍ
أَخْبَرَهُ أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا الْمُكَاتَبَةَ وَكَانَ كَثِيرَ
الْمَالِ فَأَبَى فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ
كَاتِبْهُ فَأَبَى فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ وَيَتْلُو عُمَرُ {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} فَكَاتَبَه"ُ
(5/184)
باب ما يجوز من شروط المكاتب من الشترط
شرطا ليس في كتاب الله فيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
...
20 - باب: مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ وَمَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ
فِي كِتَابِ اللَّهِ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2561- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ
عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ بَرِيرَةَ
جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا
شَيْئًا قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ
أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي فَعَلْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ
بَرِيرَةُ لِأَهْلِهَا فَأَبَوْا وَقَالُوا: إِنْ
(5/187)
شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ
فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لَنَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ
قَالَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا
بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ
اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ شَرَطَ
مِائَةَ مَرَّةٍ شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ"
2562- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَرَادَتْ
عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً لِتُعْتِقَهَا فَقَالَ
أَهْلُهَا عَلَى أَنَّ وَلاَءَهَا لَنَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لاَ يَمْنَعُكِ ذَلِكِ فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
قوله: "باب ما يجوز من شروط المكاتب، ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله"
جمع في هذه الترجمة بين حكمين، وكأنه فسر الأول بالثاني، وأن ضابط الجواز ما كان
في كتاب الله، وسيأتي في الشروط أن المراد بما ليس في كتاب الله ما خالف كتاب
الله، وقال ابن بطال: المراد بكتاب الله هنا حكمه من كتابه أو سنة رسوله أو إجماع
الأمة. وقال ابن خزيمة: ليس في كتاب الله أي ليس في حكم الله جوازه أو وجوبه، لا
أن كل من شرط شرطا لم ينطق به الكتاب يبطل، لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا
يبطل الشرط، ويشترط في الثمن شروط من أوصافه أو من نجومه ونحو ذلك فلا يبطل. وقال
النووي: قال العلماء الشروط في البيع أقسام، أحدها يقتضيه إطلاق العقد كشرط
تسليمه، الثاني شرط فيه مصلحة كالرهن وهما جائزان اتفاقا، الثالث اشتراط العتق في
العبد وهو جائز عند الجمهور لحديث عائشة وقصة بريرة، الرابع ما يزيد على مقتضى
العقد ولا مصلحة فيه للمشتري كاستثناء منفعته فهو باطل. وقال القرطبي: قوله: "ليس
في كتاب الله" أي ليس مشروعا في كتاب الله تأصيلا ولا تفصيلا، ومعنى هذا أن
من الأحكام ما يؤخذ تفصيله من كتاب الله كالوضوء، ومنها ما يؤخذ تأصيله دون تفصيله
كالصلاة، ومنها ما أصل أصله كدلالة الكتاب على أصلية السنة والإجماع وكذلك القياس
الصحيح، فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلا فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلا. قوله:
"فيه عن ابن عمر" كذا لأبي ذر، ولغيره: "فيه ابن عمر عن النبي صلى
الله عليه وسلم: "وكأنه أشار بذلك إلى حديث ابن عمر الآتي في الباب الذي
يليه، وقد مضى بلفظ الاشتراط في "باب البيع والشراء مع النساء" من كتاب
البيوع. قوله: "إن بريرة" هي بفتح الموحدة بوزن فعيلة، مشتقة من البرير
وهو ثمر الأراك. وقيل إنها فعيلة من البر بمعنى مفعولة كمبرورة، أو بمعنى فاعلة
كرحيمة، هكذا وجهه القرطبي. والأول أولى لأنه صلى الله عليه وسلم غير اسم جويرية
وكان اسمها برة وقال: "لا تزكوا أنفسكم" فلو كانت بريرة من البر
لشاركتها في ذلك. وكانت بريرة لناس من الأنصار كما وقع عند أبي نعيم، وقيل لناس من
بني هلال قاله ابن عبد البر، ويمكن الجمع. وكانت تخدم عائشة قبل أن تعتق كما سيأتي
في حديث الإفك، وعاشت إلى خلافة معاوية، وتفرست في عبد الملك بن مروان أنه يلي
الخلافة فبشرته بذلك وروى هو ذلك عنها. قوله: "فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك
ويكون ولاؤك لي فعلت" كذا في هذه الرواية، وهي نظير رواية مالك
(5/188)
عن هشام بن عروة الآتية في الشروط بلفظ: "إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت" وظاهره أن عائشة طلبت أن يكون الولاء لها إذا بذلت جميع مال المكاتبة. ولم يقع ذلك إذ لو وقع ذلك لكان اللوم على عائشة بطلبها ولاء من أعتقها غيرها. وقد رواه أبو أسامة عن هشام بلفظ يزيل الإشكال فقال بعد قوله: "أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت": وكذلك رواه وهيب عن هشام، فعرف بذلك أنها أرادت أن تشتريها شراء صحيحا ثم تعتقها إذ العتق فرع ثبوت الملك، ويؤيده قوله في بقية حديث الزهري في هذا الباب: "فقال صلى الله عليه وسلم: ابتاعي فأعتقي" وهو يفسر قوله في رواية مالك عن هشام "خذيها" ويوضح ذلك أيضا قوله في طريق أيمن الآتية "دخلت على بريرة وهي مكاتبة فقالت: اشتريني وأعتقيني، قالت نعم" وقوله في حديث ابن عمر "أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها" وبهذا يتجه الإنكار على موالي بريرة، إذ وافقوا عائشة على بيعها ثم أرادوا أن يشترطوا أن يكون الولاء لهم، ويؤيده قوله في رواية أيمن المذكورة "قالت لا تبيعوني حني تشترطوا ولائي" وفي رواية الأسود الآتية في الفرائض عن عائشة "اشتريت بريرة لأعتقها، فاشترط أهلها ولاءها" وسيأتي قريبا في الهبة من طريق القاسم عن عائشة "أنها أرادت أن تشتري بريرة وأنهم اشترطوا ولاءها". قوله: "ارجعي إلى أهلك" المراد بالأهل هنا السادة، والأهل في الأصل الآل، وفي الشرع من تلزم نفقته على الأصح عند الشافعية. قوله: "إن شاءت أن تحتسب" هو من الحسبة بكسر المهملة أي تحتسب الأجر عند الله ولا يكون لها ولاء. قوله: "فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية هشام "فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته" وفي رواية مالك عن هشام "فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني عرضت عليهم فأبوا، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أيمن الآتية "فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه" زاد في الشروط من هذا الوجه فقال: "ما شأن بريرة" ولمسلم من رواية أبي أسامة، ولابن خزيمة من رواية حماد بن سلمة كلاهما عن هشام "فجاءتني بريرة والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فقالت لي فيما بيني وبينها: ما أراد أهلها، فقلت: لاها الله إذا، ورفعت صوتي وانتهرتها، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته" لفظ ابن خزيمة. قوله: "ابتاعي فأعتقي" هو كقوله في حديث ابن عمر: "لا يمنعك ذلك" وليس في ذلك شيء من الإشكال الذي وقع في رواية هشام الآتية في الباب الذي يليه. قوله: "وإن شرط" في رواية أبي ذر "وإن اشترط". قوله: "مائة مرة" في رواية المستملي: "مائة شرط" وكذا هو في رواية هشام وأيمن، قال النووي: معنى قوله: "ولو اشترط مائة شرط" أنه لو شرط مائة مرة توكيدا فهو باطل، ويؤيده قوله في الرواية الأخيرة: "إن شرط مائة مرة" وإنما حمله على التأكيد لأن العموم في قوله: "كل شرط" وفي قوله: "من اشترط شرطا" دال على بطلان جميع الشروط المذكورة فلا حاجة إلى تقييدها بالمائة فإنها لو زادت عليها كان الحكم كذلك لما دلت عليها الصيغة. نعم الطريق الأخيرة من رواية أيمن عن عائشة بلفظ: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط" وإن احتمل التأكيد لكنه ظاهر في أن المراد به التعدد، وذكر المائة على سبيل المبالغة والله أعلم. وقال القرطبي: قوله: "ولو كان مائة شرط" خرج مخرج التكثير، يعني أن الشروط الغير المشروعة باطلة ولو كثرت، ويستفاد منه أن الشروط المشروعة صحيحة وسيأتي التنصيص على ذلك في كتاب الشروط إن شاء الله تعالى. قوله عن ابن عمر "أرادت عائشة" في رواية مسلم: "عن يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن عائشة" فصار من مسند عائشة، وأشار ابن عبد البر إلى تفرده عن مالك بذلك، وليس كذلك فقد أخرجه أبو
(5/189)
عوانة في صحيحه عن الربيع عن الشافعي عن مالك كذلك وكذا أخرجه البيهقي في "المعرفة" من طريق الربيع، ويمكن أن يكون هنا "عن" لا يراد بها أداة الرواية بل في السياق شيء محذوف تقديره عن قصة عائشة في إرادتها شراء بريرة، وقد وقع نظير ذلك في قصة بريرة، ففي النسائي من طريق يزيد بن رومان "عن عروة عن بريرة أنها كان فيها ثلاث سنين" قال النسائي: هذا خطأ والصواب رواية عروة عن عائشة. قلت: وإذا حمل على ما قررته لم يكن خطأ، بل المراد عن قصة بريرة، ولم يرد الرواية عنها نفسها. وقد قررت هذه المسألة بنظائرها فيما كتبته على ابن الصلاح. قوله: "لا يمنعك" في رواية أبي ذر "لا يمنعنك" بنون التأكيد، والأول رواية مسلم.
(5/190)
3 - باب: اسْتِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ
وَسُؤَالِهِ النَّاسَ
2563- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ: "جَاءَتْ بَرِيرَةُ فَقَالَتْ إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى
تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ وَقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي فَقَالَتْ عَائِشَةُ إِنْ
أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ
وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهَا
فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
الْوَلاَءُ لَهُمْ فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ خُذِيهَا فَأَعْتِقِيهَا
وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلاَءَ فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ قَالَتْ
عَائِشَةُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَمَا
بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ
فَأَيُّمَا شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ
مِائَةَ شَرْطٍ فَقَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ مَا بَالُ
رِجَالٍ مِنْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ أَعْتِقْ يَا فُلاَنُ وَلِيَ الْوَلاَءُ
إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"
قوله: "باب استعانة المكاتب وسؤاله الناس" هو من عطف الخاص على العام،
لأن الاستعانة تقع بالسؤال وبغيره، وكأنه يشير إلى جواز ذلك لأنه صلى الله عليه
وسلم أقر بريرة على سؤالها عائشة في إعانتها على كتابتها، وأما ما أخرجه أبو داود
في "المراسيل" من طريق يحيى بن أبي كثير يرفعه في هذه الآية "إن
علمتم فيهم خيرا" قال حرفة؛ ولا ترسلوهم كلا على الناس، فهو مرسل أو معضل فلا
حجة فيه. قوله: "عن هشام" زاد أبو ذر "ابن عروة". قوله:
"فأعينيني" كذا للأكثر بصيغة الأمر للمؤنث من الإعانة، وفي رواية
الكشميهني: "فأعيتني" بصيغة الخبر الماضي من الإعياء، والضمير للأواقي،
وهو متجه المعنى، أي أعجزتني عن تحصيلها. وفي رواية حماد بن سلمة عن هشام عند ابن
خزيمة وغيره: "فأعتقيني" بصيغة الأمر للمؤنث بالعتق، إلا أن الثابت في
طريق مالك وغيره عن هشام الأول. قوله: "فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء"
زاد مسلم من هذا الوجه "فانتهرتها" وكأن عائشة كانت عرفت الحكم في ذلك.
قوله: "خذيها فأعتقيها واشترطي لهم الولاء" قال ابن عبد البر وغيره: كذا
رواه أصحاب هشام عن عروة وأصحاب مالك عنه عن هشام، واستشكل صدور الإذن منه صلى
الله عليه وسلم في البيع على شرط فاسد، واختلف العلماء في ذلك: فمنهم من أنكر
الشرط في الحديث، فروى الخطابي في "المعالم" بسنده إلى يحيى بن أكثم أنه
أنكر ذلك، وعن الشافعي في "الأم" الإشارة إلى تضعيف رواية هشام المصرحة
بالاشتراط لكونه انفرد بها دون أصحاب أبيه، وروايات
(5/190)
غيره قابلة للتأويل. وأشار غيره إلى أنه روي بالمعنى الذي وقع له، وليس كما ظن، وأثبت الرواية آخرون وقالوا: هشام ثقة حافظ، والحديث متفق على صحته فلا وجه لرده. ثم اختلفوا في توجيهها: فزعم الطحاوي أن المزني حدثه به عن الشافعي بلفظ: "وأشرطي" بهمزة قطع بغير تاء مثناة، ثم وجهه بأن معناه: أظهري لهم حكم الولاء. والإشراط الإظهار، قال أوس بن حجر "فأشرط فيها نفسه وهو معصم" أي أظهر نفسه انتهى. وأنكر غيره الرواية. والذي في "مختصر المزني" و "الأم" وغيرهما عن الشافعي كرواية الجمهور "واشترطي" بصيغة أمر المؤنث من الشرط، ثم حكى الطحاوي أيضا تأويل الرواية التي بلفظ: "اشترطي" وأن اللام في قوله: "اشترطي لهم" بمعنى "علي" كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وهذا هو المشهور عن المزني وجزم به عنه الخطابي، وهو صحيح عن الشافعي أسنده البيهقي في "المعرفة" من طريق أبي حاتم الرازي عن حرملة عنه، وحكى الخطابي عن ابن خزيمة أن قول يحيى بن أكثم غلط، والتأويل المنقول عن المزني لا يصح. وقال النووي: تأويل اللام بمعنى على هنا ضعيف، لأنه عليه الصلاة والسلام أنكر الاشتراط، ولو كانت بمعنى على لم ينكره. فإن قيل ما أنكر إلا إرادة الاشتراط في أول الأمر، فالجواب أن سياق الحديث يأبى ذلك. وضعفه أيضا ابن دقيق العيد وقال: اللام لا تدل بوضعها على الاختصاص النافع، بل على مطلق الاختصاص، فلا بد في حملها على ذلك من قرينة. وقال آخرون: الأمر في قوله: "اشترطي" للإباحة، وهو على جهة التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم فوجوده وعدمه سواء، وكأنه يقول: اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا يفيدهم. ويقوي هذا التأويل قوله في رواية أيمن الآتية آخر أبواب المكاتب "اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاؤوا" وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بأن اشتراط البائع الولاء باطل، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بريرة، فلما أرادوا أن يشترطوا ما تقدم لهم العلم ببطلانه أطلق الأمر مريدا به التهديد على مآل الحال كقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وكقول موسى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أي فليس ذلك بنافعكم، وكأنه يقول: اشترطي لهم فسيعلمون أن ذلك لا ينفعهم، ويؤيده قوله حين خطبهم "ما بال رجال يشترطون شروطا إلخ" فوبخهم بهذا القول مشيرا إلى أنه قد تقدم منه بيان حكم الله بإبطاله، إذ لو لم يتقدم بيان ذلك لبدأ ببيان الحكم في الخطبة لا بتوبيخ الفاعل، لأنه كان يكون باقيا على البراءة الأصلية. وقيل الأمر فيه بمعنى الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} . وقال الشافعي في "الأم": لما كان من اشترط خلاف ما قضى الله ورسوله عاصيا وكانت في المعاصي حدود وآداب وكان من أدب العاصين أن يعطل عليهم شروطهم ليرتدعوا عن ذلك ويرتدع به غيرهم كان ذلك من أيسر الأدب. وقال غيره: معنى اشترطي اتركي مخالفتهم فيما شرطوه ولا تظهري نزاعهم فيما دعوا إليه مراعاة لتنجيز العتق لتشوف الشارع إليه، وقد يعبر عن الترك بالفعل كقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي نتركهم يفعلون ذلك، وليس المراد بالإذن إباحة الإضرار بالسحر، قال ابن دقيق العيد: وهذا وإن كان محتملا إلا أنه خارج عن الحقيقة من غير دلالة على المجاز من حيث السياق. وقال النووي: أقوى الأجوبة أن هذا الحكم خاص بعائشة في هذه القضية وأن سببه المبالغة في الرجوع عن هذا الشرط لمخالفته حكم الشرع، وهو كفسخ الحج إلى العمرة كان خاصا بتلك الحجة مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج. ويستفاد منه ارتكاب أخف المفسدتين إذا استلزم إزالة أشدهما، وتعقب بأنه استدلال بمختلف فيه على مختلف فيه، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التخصيص
(5/191)
لا يثبت إلا بدليل، ولأن الشافعي نص على خلاف هذه المقالة. وقال ابن الجوزي: ليس في الحديث أن اشتراط الولاء والعتق كان مقارنا للعقد فيحمل على أنه كان سابقا للعقد فيكون الأمر بقوله: "اشترطي" مجرد الوعيد ولا يجب الوفاء به، وتعقب باستبعاد أنه صلى الله عليه وسلم يأمر شخصا أن يعد مع علمه بأنه لا يفي بذلك الوعد. وأغرب ابن حزم فقال: كان الحكم ثابتا بجواز اشتراط الولاء لغير المعتق، فوقع الأمر باشتراطه في الوقت الذي كان جائزا فيه، ثم نسخ ذلك الحكم بخطبته صلى الله عليه وسلم وبقوله: "إنما الولاء لمن أعتق" ولا يخفى بعدما قال، وسياق طرق هذا الحديث تدفع في وجه هذا الجواب والله المستعان. وقال الخطابي: وجه هذا الحديث أن الولاء لما كان كلحمة النسب، والإنسان إذا ولد له ولد ثبت له نسبة ولا ينتقل نسبه عنه ولو نسب إلى غيره، فكذلك إذا أعتق عبدا ثبت له ولاؤه ولو أراد نقل ولائه عنه أو أذن في نقله عنه لم ينتقل، فلم يعبأ باشتراطهم الولاء، وقيل اشترطي ودعيهم يشترطون ما شاؤوا ونحو ذلك لأن ذلك غير قادح في العقد بل هو بمنزلة اللغو من الكلام، وأخر إعلامهم بذلك ليكون رده وإبطاله قولا شهيرا يخطب به على المنبر ظاهرا، إذ هو أبلغ في النكير وأوكد في التعبير ا هـ. وهو يؤول إلى أن الأمر فيه بمعنى الإباحة كما تقدم. قوله: "فقضاء الله أحق" أي بالاتباع من الشروط المخالفة له. قوله: "وشرط الله أوثق" أي باتباع حدوده التي حدها، وليست المفاعلة هنا على حقيقتها إذ لا مشاركة بين الحق والباطل، وقد وردت صيغة أفعل لغير التفضيل كثيرا، ويحتمل أن يقال ورد ذلك على ما اعتقدوه من الجواز. قوله: "ما بال رجال" أي ما حالهم. قوله: "إنما الولاء لمن أعتق" يستفاد منه أن كلمة "إنما" للحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه. ولولا ذلك لما لزم من إثبات الولاء للمعتق نفيه عن غيره، واستدل بمفهومه على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل أو وقع بينه وبينه محالفة خلافا للحنفية، ولا للملتقط خلافا لإسحاق. وسيأتي مزيد بسط لذلك في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى. ويستفاد من منطوقه إثبات الولاء لمن أعتق سابيه خلافا لمن قال يصير ولاؤه للمسلمين، ويدخل فيمن أعتق عتق المسلم للمسلم وللكافر، وبالعكس ثبوت الولاء للمعتق. "تنبيه": زاد النسائي من طريق جرير بن عبد الحميد عن هشام بن عروة في آخر هذا الحديث: "فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين زوجها وكان عبدا" وهذه الزيادة ستأتي في النكاح من حديث ابن عباس، ويأتي الكلام عليها هناك إن شاء الله تعالى، مع ذكر الخلاف في زوجها هل كان حرا أو عبدا، وتسميته، وما اتفق له بعد فراقها. وفي حديث بريرة هذا من الفوائد - سوى ما سبق وسوى ما سيأتي في النكاح - جواز كتابة الأمة كالعبد، وجواز كتابة المتزوجة ولو لم يأذن الزوج، وأنه ليس له منعها من كتابتها ولو كانت تؤدي إلى فراقها منه، كما أنه ليس للعبد المتزوج منع السيد من عتق أمته التي تحته وإن أدى ذلك إلى بطلان نكاحها. ويستنبط من تمكينها من السعي في مال الكتابة أنه ليس عليها خدمته. وفيه جواز سعي المكاتبة وسؤالها واكتسابها وتمكين السيد لها من ذلك، ولا يخفى أن محل الجواز إذا عرفت جهة حل كسبها، وفيه البيان بأن النهي الوارد عن كسب الأمة محمول على من لا يعرف وجه كسبها، أو محمول على غير المكاتبة. وفيه أن للمكاتب أن يسأل من حين الكتابة ولا يشترط في ذلك عجزه خلافا لمن شرطه. وفيه جواز السؤال لمن احتاج إليه من دين أو غرم أو نحو ذلك. وفيه أنه لا بأس بتعجيل مال الكتابة. وفيه جواز المساومة في البيع وتشديد صاحب السلعة فيها، وأن المرأة الرشيدة تتصرف لنفسها في البيع وغيره ولو كانت مزوجة خلافا لمن أبى ذلك، وسيأتي له مزيد في كتاب الهبة، وأن من لا يتصرف بنفسه فله أن يقيم غيره مقامه في ذلك، وأن العبد إذا
(5/192)
أذن السيد له في التجارة جاز تصرفه. وفيه جواز رفع الصوت عند إنكار المنكر، وأنه لا بأس لمن أراد أن يشتري للعتق أن يظهر ذلك لأصحاب الرقبة ليتساهلوا له في الثمن ولا يعد ذلك من الرياء. وفيه إنكار القول الذي لا يوافق الشرع وانتهار الرسول فيه. وفيه أن الشيء إذا بيع بالنقد كانت الرغبة فيه أكثر مما لو بيع بالنسيئة، وأن للمرء أن يقضي عنه دينه برضاه. وفيه جواز الشراء بالنسيئة، وأن المكاتب لو عجل بعض كتابته قبل المحل على أن يضع عنه سيده الباقي لم يجبر السيد على ذلك. وجواز الكتابة على قدر قيمة العبد وأقل منها وأكثر، لأن بين الثمن المنجز والمؤجل فرقا، ومع ذلك فقد بذلت عائشة المؤجل ناجزا فدل على أن قيمتها كانت بالتأجيل أكثر مما كوتبت به وكان أهلها باعوها بذلك. وفيه أن المراد بالخير في قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} القوة على الكسب، والوفاء بما وقعت الكتابة عليه، وليس المراد به المال، ويؤيد ذلك أن المال الذي في يد المكاتب لسيده فكيف يكاتبه بماله، لكن من يقول إن العبد يملك لا يرد عليه هذا، وقد نقل عن ابن عباس أن المراد بالخير المال مع أنه يقول إن العبد لا يملك، فنسب إلى التناقض، والذي يظهر أنه لا يصح عنه أحد الأمرين، واحتج غيره بأن العبد مال سيده والمال الذي معه لسيده فكيف يكاتبه بماله؟ وقال آخرون لا يصح تفسير الخير بالمال في الآية لأنه لا يقال فلان لا مال فيه وإنما يقال لا مال له أو لا مال عنده، فكذا إنما يقال فيه وفاء وفيه أمانة وفيه حسن معاملة ونحو ذلك. وفي الحديث أيضا جواز كتابة من لا حرفة له وفاقا للجمهور، واختلف عن مالك وأحمد وذلك أن بريرة جاءت تستعين على كتابتها ولم تكن قضت منها شيئا، فلو كان لها مال أو حرفة لما احتاجت إلى الاستعانة لأن كتابتها لم تكن حالة. وقد وقع عند الطبري من طريق أبي الزبير عن عروة "أن عائشة ابتاعت بريرة مكاتبة وهي لم تقض من كتابتها شيئا" وتقدمت الزيادة من وجه آخر. وفيه جواز أخذ الكتابة من مسألة الناس، والرد على من كره ذلك وزعم أنه أوساخ الناس. وفيه مشروعية معونة المكاتبة بالصدقة، وعند المالكية رواية أنه لا يجزئ عن الفرض. وفيه جواز الكتابة بقليل المال وكثيره، وجواز التأقيت في الديون في كل شهر مثلا كذا من غير بيان أوله أو وسطه، ولا يكون ذلك مجهولا لأنه يتبين بانقضاء الشهر الحلول، كذا قال ابن عبد البر، وفيه نظر لاحتمال أن يكون قول بريرة: "في كل عام أوقية" أي في غرته مثلا، وعلى تقدير التسليم فيمكن التفرقة بين الكتابة والديون، فإن المكاتب لو عجز حل لسيده ما أخذ منه بخلاف الأجنبي. وقال ابن بطال: لا فرق بين الديون وغيرها، وقصة بريرة محمولة على أن الراوي قصر في بيان تعيين الوقت وإلا يصير الأجل مجهولا. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السلف إلا إلى أجل معلوم. وفيه أن العد في الدراهم الصحاح المعلومة الوزن يكفي عن الوزن، وأن المعاملة في ذلك الوقت كانت بالأواقي، والأوقية أربعون درهما كما تقدم في الزكاة. وزعم المحب الطبري أن أهل المدينة كانوا يتعاملون بالعد إلى مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ثم أمروا بالوزن، وفيه نظر لأن قصة بريرة متأخرة عن مقدمه بنحو من ثمان سنين، لكن يحتمل قول عائشة "أعدها لهم عدة واحدة" أي ادفعها لهم، وليس مرادها حقيقة العد، ويؤيده قولها في طريق عمرة في الباب الذي يليه "أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة"، وفيه جواز البيع على شرط العتق بخلاف البيع بشرط أن لا يبيعه لغيره ولا يهبه مثلا، وأن من الشروط في البيع ما لا يبطل ولا يضر البيع. وفيه جواز بيع المكاتب إذا رضي وإن لم يكن عاجزا عن أداء نجم قد حل عليه، لأن بريرة لم تقل إنها عجزت ولا استفصلها النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي بسط ذلك في الباب الذي يليه. وفيه جواز مناجاة
(5/193)
المرأة دون زوجها سرا إذا كان المناجي ممن يؤمن، وأن الرجل إذا رأى شاهد الحال يقتضي السؤال عن ذلك سأل وأعان، وأنه لا بأس للحاكم أن يحكم لزوجته ويشهد. وفيه قبول خبر المرأة ولو كانت أمة، ويؤخذ منه حكم العبد بطريق الأولى. وفيه أن عقد الكتابة قبل الأداء لا يستلزم العتق، وأن بيع الأمة ذات الزوج ليس بطلاق. وفيه البداءة في الخطبة بالحمد والثناء، وقول أما بعد فيها، والقيام فيها، وجواز تعدد الشروط لقوله: "مائة شرط" وأن الإيتاء الذي أمر به السيد ساقط عنه إذا باع مكاتبه للعتق. وفيه أن لا كراهة في السجع في الكلام إذا لم يكن عن قصد ولا متكلفا. وفيه أن للمكاتب حالة فارق فيها الأحرار والعبيد. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يظهر الأمور المهمة من أمور الدين ويعلنها ويخطب بها على المنبر لإشاعتها، ويراعي مع ذلك قلوب أصحابه، لأنه لم يعين أصحاب بريرة بل قال: "ما بال رجال" ولأنه يؤخذ من ذلك تقرير شرع عام للمذكورين وغيرهم في الصورة المذكورة وغيرها. وهذا بخلاف قصة علي في خطبته بنت أبي جهل فإنها كانت خاصة بفاطمة فلذلك عينها. وفيه حكاية الوقاع لتعريف الأحكام، وأن اكتساب المكاتب له لا لسيده، وجواز تصرف المرأة الرشيدة في مالها بغير إذن زوجها، ومراسلتها الأجانب في أمر البيع والشراء كذلك، وجواز شراء السلعة للراغب في شرائها بأكثر من ثمن مثلها لأن عائشة بذلت ما قرر نسيئة على جهة النقد مع اختلاف القيمة بين النقد والنسيئة. وفيه جواز استدانة من لا مال له عند حاجته إليه. قال ابن بطال: أكثر الناس في تخريج الوجوه في حديث بريرة حتى بلغوها نحو مائة وجه، وسيأتي الكثير منها في كتاب النكاح. وقال النووي: صنف فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين أكثرا فيهما من استنباط الفوائد منها فذكرا أشياء. قلت: ولم أقف على تصنيف ابن خزيمة، ووقفت على كلام ابن جرير من كتابه "تهذيب الآثار" ولخصت منه ما تيسر بعون الله تعالى. وقد بلغ بعض المتأخرين الفوائد من حديث بريرة إلى أربعمائة أكثرها مستبعد متكلف، كما وقع نظير ذلك الذي صنف في الكلام على حديث المجامع في رمضان فبلغ به ألف فائدة وفائدة.
(5/194)
4 - باب: بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِذَا
رَضِيَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
وَقَالَ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:
هُوَ عَبْدٌ إِنْ عَاشَ وَإِنْ مَاتَ وَإِنْ جَنَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
2564- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ "أَنَّ بَرِيرَةَ
جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
فَقَالَتْ لَهَا: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَصُبَّ لَهُمْ ثَمَنَكِ صَبَّةً
وَاحِدَةً فَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ فَذَكَرَتْ بَرِيرَةُ ذَلِكَ لِأَهْلِهَا
فَقَالُوا: لاَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَلاَؤُكِ لَنَا قَالَ مَالِكٌ قَالَ يَحْيَى
فَزَعَمَتْ عَمْرَةُ أَنَّ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّ