الجمعة، 6 مايو 2022

كتاب :15 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

 كتاب :15 فتح الباري  أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه وذكر أطرافها : محمد فؤاد عبد الباقي
[متن صحيح البخاري مشكول وترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بتعليقات الشيخ ابن باز وحواشي محب الدين الخطيب ، وعقب كل حديث أطرافه كما ذكرها محمد فؤاد عبد الباقي]

30 - باب ذِكْرِ الْخَيَّاطِ
2092- حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول ثم إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه قال أنس بن مالك فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام فقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزا ومرقا فيه دباء وقديد فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة قال فلم أزل أحب الدباء من يومئذ"
[الحديث 2092- أطرافه في: 5379، 5420، 5433، 5435، 5436، 5437، 5439]
قوله: "باب الخياط" بالمعجمة والتحتانية، قال الخطابي: في أحاديث هذه الأبواب دلالة على جواز الإجازة. وفي الخياطة معنى زائد، لأن الغالب أن يكون الخيط من عند الخياط فيجتمع فيها إلى الصنعة الآلة، وكان القياس أنه لا تصح إذ لا تتميز إحداهما عن الأخرى غالبا، لكن الشارع أقره لما فيه من الإرفاق واستقر عمل الناس عليه، وسيأتي الكلام على حديث الباب في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى. وفيه دلالة على أن الخياطة لا تنافي المروءة.

(4/318)


31 - باب ذِكْرِ النَّسَّاجِ
2093- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم قال سمعت سهل بن سعد رضي الله عنه قال ثم جاءت امرأة ببردة قال أتدرون ما البردة فقيل له نعم هي الشملة منسوج في حاشيتها قالت يا رسول الله إني نسجت هذه بيدي أكسوكها فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها فخرج إلينا وإنها إزاره فقال رجل من القوم يا رسول الله اكسنيها فقال نعم والحاصل النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه فقال له القوم ما أحسنت سألتها إياه لقد علمت أنه لا يرد سائلا فقال الرجل والله ما سألته إلا لتكون كفني يوم أموت قال سهل فكانت كفنه"
قوله: "باب النساج" بالنون والمهملة وآخره جيم، أورد فيه حديث سهل في البردة وقد تقدم الكلام عليه مستوفي في "باب من استعد الكفن" في كتاب الجنائز. وقوله: "فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاج إليها" أي وهو محتاج إليها

(4/318)


32 - باب النَّجَّارِ
2094- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز عن أبي حازم قال ثم أتى رجال إلى سهل بن سعد يسألونه عن المنبر فقال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة امرأة قد سماها سهل أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس فأمرته يعملها من طرفاء الغابة ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فأمر بها فوضعت فجلس عليه"
2095- حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ثم أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه فإن لي غلاما نجارا قال إن شئت قال فعملت له المنبر فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر الذي صنع فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت قال بكت على ما كانت تسمع من الذكر"
قوله: "باب النجار" بالنون والجيم، وللكشميهني بكسر النون وتخفيف الجيم وزيادة هاء في آخره وبه ترجم أبو نعيم في "المستخرج" والأول أشبه بسياق بقية التراجم، وأورد فيه حديث سهل أيضا في قصة المنبر، وحديث جابر في ذكر المنبر وحنين الجذع، وقد تقدم الكلام على فوائدهما في كتاب الجمعة. وقوله في آخر الحديث: "الذي يسكت" بضم أوله وتشديد الكاف، وقوله: "قال بكت على ما كانت تسمع من الذكر". يحتمل أن يكون فاعل قال راوي الحديث، لكن صرح وكيع في روايته عن عبد الواحد ابن أيمن بأنه النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عنه.

(4/319)


33 - باب شِرَاءِ الإِمَامِ الْحَوَائِجَ بِنَفْسِهِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اشْتَرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَلًا مِنْ عُمَرَ وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِنَفْسِهِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَاءَ مُشْرِكٌ بِغَنَمٍ فَاشْتَرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ شَاةً وَاشْتَرَى مِنْ جَابِرٍ بَعِيرًا"
2096- حدثنا يوسف بن عيسى حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنهما قالت ثم اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من زفر طعاما بنسيئة ورهنه درعه"
قوله: "باب شراء الإمام الحوائج بنفسه" كذا لأبي ذر عن غير الكشميهني، وسقطت الترجمة للباقين، ولبعضهم "شراء الحوائج بنفسه" أي الرجل. وفائدة الترجمة رفع توهم من يتوهم أن تعاطي ذلك يقدح في المروءة. قوله: "وقال

(4/319)


باب شراء الدواب و الحمير
...
34 - باب شِرَاءِ الدَّوَابِّ وَالْحُمُرِ
وَإِذَا اشْتَرَى دَابَّةً أَوْ جَمَلًا وَهُوَ عَلَيْهِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ؟
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِعُمَرَ بِعْنِيهِ يَعْنِي جَمَلًا صَعْبًا"
2097- حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأبطأ بي جملي وأعيا فأتى علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال جابر فقلت نعم قال ثم ما شأنك قلت أبطأ علي جملي وأعيا فتخلفت فنزل يحجنه بمحجنه ثم قال اركب فركبت فلقد رأيته أكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تزوجت قلت نعم قال بكر أم ثيبا قلت بل ثيبا قال أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك قلت إن لي أخوات فأحببت أن أتزوج امرأة تجمعهن وتمشطهن وتقوم عليهن قال أما إنك قادم فإذا قدمت فالكيس الكيس ثم قال أتبيع جملك قلت نعم فاشتراه مني بأوقية ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلي وقدمت بالغداة فجئنا إلى المسجد فوجدته على باب المسجد قال آلآن قدمت قلت نعم قال فدع جملك فادخل فصل ركعتين فدخلت فصليت فأمر بلالا أن يزن لي أوقية فوزن لي بلال فأرجح في الميزان فانطلقت حتى وليت فقال ادع لي جابرا قلت الآن يرد علي الجمل ولم يكن شيء أبغض إلي منه قال خذ جملك ولك ثمنه"
قوله: "باب شراء الدواب والحمير" في رواية أبي ذر "الحمر" بضمتين، وليس في حديثي الباب ذكر للحمر وكأنه أشار إلى إلحاقها في الحكم بالإبل لأن حديثي الباب إنما فيهما ذكر بعير وجمل، ولا اختصاص في الحكم المذكور بدابة دون دابة فهذا وجه الترجمة. قوله: "وإذا اشترى دابة أو جملا وهو" أي البائع "عليه هل يكون ذلك قبضا"

(4/320)


يعني أو يشترط في القبض قدر زائد على مجرد التخلية؟ وهي مسألة خلافية سيأتي شرحها قريبا في "باب إذا اشترى شيئا فوهب من ساعته". قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعمر بعنيه يعني جملا صعبا" هذا طرف من حديث سيأتي في الباب المذكور. ثم أورد حديث جابر في قصة بيع جمله، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الشروط إن شاء الله تعالى ويقال إن الغزوة التي كان فيها هي غزوة ذات الرقاع، وقوله فيه: "يحجنه" بفتح أوله وسكون المهملة وضم الجيم أي يطعنه وقوله: "أبكرا أم ثيبا" بالنصب فيهما بتقدير أتزوجت، ويجوز الرفع بتقدير أهي.

(4/321)


35 - باب الأَسْوَاقِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَبَايَعَ بِهَا النَّاسُ فِي الإِسْلاَمِ
2098- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن بن عباس رضي الله عنهما قال ثم كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فأنزل الله { ليس عليكم جناح} في مواسم الحج قرأ بن عباس كذا"
قوله: "باب الأسواق التي كانت في الجاهلية، فتبايع بها الناس في الإسلام".قال ابن بطال: فقه هذه الترجمة أن مواضع المعاصي وأفعال الجاهلية لا تمنع من فعل الطاعة فيها، ثم أورد المصنف فيه حديث ابن عباس، وقد تقدم التنبيه عليه في أول البيوع وأن شرحه مضى في كتاب الحج.

(4/321)


36 - باب شِرَاءِ الإِبِلِ الْهِيمِ أَوْ الأَجْرَبِ الْهَائِمُ الْمُخَالِفُ لِلْقَصْدِ فِي كُلِّ شَيْءٍ
2099- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عَمْرٌو كَانَ هَا هُنَا رَجُلٌ اسْمُهُ نَوَّاسٌ وَكَانَتْ عِنْدَهُ إِبِلٌ هِيمٌ فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَاشْتَرَى تِلْكَ الإِبِلَ مِنْ شَرِيكٍ لَهُ فَجَاءَ إِلَيْهِ شَرِيكُهُ فَقَالَ بِعْنَا تِلْكَ الإِبِلَ فَقَالَ مِمَّنْ بِعْتَهَا قَالَ مِنْ شَيْخٍ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ وَيْحَكَ ذَاكَ وَاللَّهِ ابْنُ عُمَرَ فَجَاءَهُ فَقَالَ إِنَّ شَرِيكِي بَاعَكَ إِبِلًا هِيمًا وَلَمْ يَعْرِفْكَ قَالَ فَاسْتَقْهَا قَالَ فَلَمَّا ذَهَبَ يَسْتَاقُهَا فَقَالَ دَعْهَا رَضِينَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ عَدْوَى سَمِعَ سُفْيَانُ عَمْرًا
[الحديث 2099- أطرافه في: 2858، 5093، 5094، 5753، 5772]
قوله: "باب شراء الإبل الهيم" بكسر الهاء جمع أهيم للمذكر ويقال للأنثى هيمي. قوله: "أو الأجرب" في رواية النسفي "والأجرب" وهو من عطف المفرد على الجمع في الصفة لأن الموصوف هنا هو الإبل وهو اسم جنس صالح للجمع والمفرد، فكأنه قال شراء الإبل الهيم وشراء الإبل الجرب. قوله: "الهائم المخالف للقصيد في كل شيء" قال ابن التين: ليس الهائم واحد الهيم، وما أدري لم ذكر البخاري الهائم هنا ا هـ. وقد أثبت غيره ما نفاه، قال الطبري في تفسيره: الهيم جمع أهيم، ومن العرب من يقول هائم ثم يجمعونه على هيم كما قالوا غائط وغيط، قال: والإبل الهيم التي أصابها الهيام بضم الهاء وبكسرها داء تصير منه عطشي تشرب فلا تروى. وقيل الإبل الهيم المطلية بالقطران من الجرب فتصير عطشي من حرارة الجرب، وقيل هو داء ينشأ عنه الجرب. ثم أسند من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس من قوله: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} قال: الإبل العطاش. ومن طريق عكرمة هي

(4/321)


باب بيع السلاح في الفتنة و غيرها
...
37 - باب بَيْعِ السِّلاَحِ فِي الْفِتْنَةِ وَغَيْرِهَا،وَكَرِهَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بَيْعَهُ فِي الْفِتْنَةِ
2100- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حُنَيْنٍ فَأَعْطَاهُ يَعْنِي دِرْعًا فَبِعْتُ الدِّرْعَ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ فَإِنَّهُ لاَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلاَمِ
[الحديث 2100- أطرافه في: 3142، 4321، 4322، 7170]

(4/322)


قوله: "باب بيع السلاح في الفتنة وغيرها" أي هل يمنع أم لا؟ قوله: "وكره عمران بن حصين بيعه في الفتنة" أي في أيام الفتنة، وهذا وصله ابن عدي في الكامل من طريق أبي الأشهب عن أبي رجاء عن عمران، ورواه الطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي رجاء عن عمران مرفوعا وإسناده ضعيف، وكأن المراد بالفتنة ما يقع من الحروب بين المسلمين لأن في بيعه إذ ذاك إعانة لمن اشتراه، وهذا محله إذا اشتبه الحال، فأما إذا تحقق الباغي فالبيع للطائفة التي في جانبها الحق لا بأس به، قال ابن بطال: إنما كره بيع السلاح في الفتنة لأنه من باب التعاون على الإثم ومن ثم كره مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بيع العنب ممن يتخذه خمرا وذهب مالك إلى فسخ البيع وكأن المصنف أشار إلى خلاف الثوري في ذلك حيث قال بع حلالك ممن شئت. قوله: "عن يحيى بن سعيد" هو الأنصاري، وعمر بن كثير هو ابن أفلح وقع في رواية يحيى بن يحيى الأندلسي "عمرو" بفتح العين وهو تصحيف. والإسناد كله مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق أولهم يحيى. قوله: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين فبعت الدرع" كذا وقع مختصرا، فقال الخطابي: سقط شيء من الحديث لا يتم الكلام إلا به وهو أنه قتل رجلا من الكفار فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم وكان الدرع من سلبه، وتعقبه ابن التين بأنه تعسف في الرد على البخاري لأنه إنما أراد جواز بيع الدرع فذكر موضعه من الحديث وحذف سائره، وكذا يفعل كثيرا. قلت: وهو كما قال. وليس ما قاله الخطابي بمدفوع، وسيأتي الحديث مستوفي مع الكلام عليه في غزوة حنين من كتاب المغازي. وقد استشكل مطابقته للترجمة: قال الإسماعيلي ليس في هذا الحديث من ترجمة الباب شيء، وأجيب بأن الترجمة مشتملة على بيع السلاح في الفتنة وغيرها فحديث أبي قتادة منزل على الشق الثاني وهو بيعه في غير الفتنة. وقرأت بخط القطب في شرحه: يحتمل أن يكون الرجل لما قال فأرضه منه فأراد أن يأخذ الدرع ويعوضه عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه بمنزلة البيع؛ وكان ذلك وقت الفتنة. انتهى. ولا يخفى تعسف هذا التأويل، والحق أن الاستدلال بالبيع إنما هو في بيع أبي قتادة الدرع بعد ذلك، لأنه باع الدرع فاشترى بثمنه البستان، وكان ذلك في غير زمن الفتنة، ويحتمل أن المراد بإيراد هذا الحديث جواز بيع السلاح في الفتنة لمن لا يخشى منه الضرر، لأن أبا قتادة باع درعه في الوقت الذي كان القتال فيه قائما بين المسلمين والمشركين وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، والظن به أنه لم يبعه ممن يعين على قتال المسلمين، فيستفاد منه جواز بيعه في زمن القتال لمن لا يخشى منه. قوله: "مخرفا" بالمعجمة الساكنة والفاء مفتوح الأول هو البستان، وبكسر الميم الوعاء الذي يجمع فيه الثمار. قوله: "بني سلمة" بكسر اللام. قوله: "تأثلته" بالمثلثة قبل اللام أي جمعته قاله ابن فارس. وقال القزاز جعلته أصل مالي، وأثلة كل شيء أصله.

(4/323)


باب في العطار و بيع المسك
...
38 - باب فِي الْعَطَّارِ وَبَيْعِ الْمِسْكِ
2101- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً"
[الحديث – 2101- طرفه في 5534]

(4/323)


قوله: "باب في العطار وبيع المسك" ليس في حديث الباب سوى ذكر المسك، وكأنه ألحق العطار به لاشتراكهما في الرائحة الطيبة. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد، وأبو بردة بن عبد الله هو بريد بن عبد الله بن أبي بردة ابن أبي موسى. قوله: "كمثل صاحب المسك" في رواية أبي أسامة عن بريد كما سيأتي في الذبائح "كحامل المسك" وهو أعم من أن يكون صاحبه أو لا. قوله: "وكير الحداد" بكسر الكاف بعدها تحتانية ساكنة معروف. وفي رواية أبي أسامة "كحامل المسك ونافخ الكير" وحقيقته البناء الذي يركب عليه الزق والزق هو الذي ينفخ فيه فأطلق على الزق اسم الكير مجازا لمجاورته له، وقيل الكير هو الزق نفسه وأما البناء فاسمه الكور. قوله: "لا يعدمك" بفتح أوله وكذلك الدال من العدم أي لا يعدمك إحدى الخصلتين أى لا يعدوك، تقول ليس يعدمني هذا الأمر أي ليس يعدوني. وفي رواية أبي ذر بضم أوله وكسر الدال من الإعدام أي لا يعدمك صاحب المسك إحدى الخصلتين. قوله: "إما تشتريه أو تجد ريحه" في رواية أبي أسامة إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، ورواية عبد الواحد أرجح لأن الإحذاء - وهو الإعطاء - لا يتعين بخلاف الرائحة فإنها لازمة سواء وجد البيع أو لم يوجد. قوله: "وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك" في رواية أبي أسامة "ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك" ولم يتعرض لذكر البيت وهو واضح، وفي الحديث النهي عن مجالسة من يتأذى بمجالسته في الدين والدنيا، والترغيب في مجالسة من ينتفع بمجالسته فيهما، وفيه جواز بيع المسك والحكم بطهارته لأنه صلى الله عليه وسلم مدحه ورغب فيه ففيه الرد على من كرهه وهو منقول عن الحسن البصري وعطاء وغيرهما، ثم انقرض هذا الخلاف واستقر الإجماع على طهارة المسك وجواز بيعه، وسيأتي لذلك مزيد بيان في كتاب الذبائح، ولم يترجم المصنف للحداد لأنه تقدم ذكره، وفيه ضرب المثل والعمل في الحكم بالأشباه والنظائر.

(4/324)


39 - باب ذِكْرِ الْحَجَّامِ
2102- حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن حميد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ثم حجم أبو طيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر له بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا من خراجه"
[الحديث 2102- أطرافه في: 2210، 2277، 2280، 2281،5696]
2103- حدثنا مسدد حدثنا خالد هو بن عبد الله حدثنا خالد عن عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما قال ثم احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الذي حجمه ولو كان حراما لم يعطه"
قوله: "باب ذكر الحجام" قال ابن المنير: ليست هذه الترجمة تصويبا لصنعة الحجامة فإنه قد ورد فيها حديث يخصها، وإن كان الحجام لا يظلم أجره فالنهي على الصانع لا على المستعمل، والفرق بينهما ضرورة المحتجم إلى الحجامة وعدم ضرورة الحجام لكثرة الصنائع سواها. قلت: إن أراد بالتصويب التحسين والندب إليها فهو كما قال، وإن أراد التجويز فلا فإنه يسوغ للمستعمل تعاطيها للضرورة، ومن لازم تعاطيها للمستعمل تعاطي الصانع لها فلا فرق إلا بما أشرت إليه، إذ لا يلزم من كونها من المكاسب الدنيئة أن لا تشرع فالكساح أسوأ حالا من الحجام ولو تواطأ الناس على تركه لأضر ذلك بهم، وسيأتي الكلام على كسب الحجام في كتاب الإجارة، ويأتي الكلام هناك عن

(4/324)


حديثي الباب عن أنس وابن عباس إن شاء الله تعالى.

(4/325)


باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال و النساء
...
40 - باب التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
2104- حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أبو بكر بن حفص عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر رضي الله عنه بحلة حرير أو سيراء فرآها عليه فقال إني لم أرسل بها إليك لتلبسها إنما يلبسها من لا خلاق له إنما بعثت إليك لتستمتع بها يعني تبيعها"
2105- حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أخبرته ثم أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخله فعرفت في وجهه الكراهية فقلت يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ماذا أذنبت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال هذه النمرقة قلت اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون فيقال لهم أحيوا ما خلقتم وقال إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة"
[الحديث 2105- أطرافه في 3224، 5181، 5957، 5961، 7557]
قوله: "باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء" أي إذا كان مما ينتفع به غير من كره له لبسه، أما ما لا منفعة فيه شرعية فلا يجوز بيعه أصلا على الراجح من أقوال العلماء، وذكر فيه حديثين: أحدهما حديث ابن عمر في قصة عمر في حلة عطارد وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها، يعني تبيعها" وسيأتي في اللباس من وجه آخر بلفظ: "إنما بعثت بها إليك لتبيعها أو لتكسوها" وهو واضح فيما ترجم له هنا من جواز بيع ما يكره لبسه للرجال، والتجارة وإن كانت أخص من البيع لكنها جزؤه المستلزمة له، وأما ما يكره لبسه للنساء فبالقياس عليه، أو المراد بالكراهة في الترجمة ما هو أعم من التحريم والتنزيه فيدخل فيه الرجال والنساء، فعرف بهذا جواب ما اعترض به الإسماعيلي من أن حديث ابن عمر لا يطابق الترجمة حيث ذكر فيها النساء. الثاني حديث عائشة في قصة النمرقة المصورة، وسيأتي الكلام عليه وعلى الذي قبله مستوفي في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى" ووجه الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم لم يفسخ البيع في النمرقة، وسيأتي أن في بعض طرق الحديث المذكور أنه صلى الله عليه وسلم توكأ عليها بعد ذلك، والثوب الذي فيه الصورة يشترك في المنع منه الرجال والنساء فهو مطابق للترجمة من هذه الحيثية، بخلاف ما اعترض به الإسماعيلي. وقال ابن المنير: في الترجمة إشعار بحمل قوله: "إنما يلبس هذه من لا خلاق له" على العموم حتى يشترك في ذلك الرجال والنساء، لكن الحق أن ذلك خاص بالرجال، وإنما الذي يشترك فيه الرجال والنساء المنع من النمرقة، وحاصله أن حديث ابن عمر يدل على بعض الترجمة، وحديث عائشة يدل على جميعها

(4/325)


41 - باب صَاحِبُ السِّلْعَةِ أَحَقُّ بِالسَّوْمِ

(4/325)


42 - باب كَمْ يَجُوزُ الْخِيَارُ
2107- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ نَافِعًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ فِي بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ"
[الحديث 2107- أطرافه في: 2109، 2111، 2112،02113، 2116]
2108- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا وَزَادَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا بَهْزٌ قَالَ قَالَ هَمَّامٌ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي التَّيَّاحِ فَقَالَ كُنْتُ مَعَ أَبِي الْخَلِيلِ لَمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بِهَذَا الْحَدِيثِ"
قوله: "باب" بالتنوين "كم يجوز الخيار" والخيار بكسر الخاء اسم من الاختيار أو التخيير، وهو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه، وهو خياران: خيار المجلس وخيار الشرط، وزاد بعضهم خيار النقيصة، وهو مندرج في الشرط فلا يزاد. والكلام هنا علي خيار الشرط والترجمة معقودة لبيان مقداره وليس في حديثي الباب بيان لذلك، قال ابن المنير: لعله أخذ من عدم تحديده في الحديث أنه لا يتقيد بل يفوض الأمر فيه إلى الحاجة لتفاوت السلع في ذلك. قلت: وقد روى البيهقي من طريق أبي علقمة الغروي عن نافع عن ابن عمر مرفوعا: "الخيار ثلاثة أيام" وهذا كأنه مختصر من الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن من طريق محمد بن إسحاق عن نافع في قصة حبان بن منقذ وسأذكره بعد خمسة أبواب، وبه احتج للحنفية والشافعية في أن أمد الخيار ثلاثة أيام، وأنكر مالك التوقيت في خيار الشرط ثلاثة أيام بغير زيادة وإن كانت في الغالب يمكن الاختيار فيها، لكن لكل شيء أمد بحسبه يتخير فيه

(4/326)


، فللدابة مثلا والثوب يوم أو يومان وللجارية جمعة وللدار شهر. وقال الأوزاعي يمتد الخيار شهرا وأكثر بحسب الحاجة إليه. وقال الثوري: يختص الخيار بالمشتري ويمتد له إلى عشرة أيام وأكثر، ويقال إنه انفرد بذلك، وقد صح القول بامتداد الخيار عن عمر وغيره وسيأتي شيء منه في أبواب الملازمة، ويحتمل أن يكون مراد البخاري بقوله: "كم يجوز الخيار" أي كم يخير أحد المتبايعين الآخر مرة. وأشار إلى ما في الطريق الآتية بعد ثلاثة أبواب من زيادة همام "ويختار ثلاث مرار" لكن لما لم تكن الزيادة ثابتة أبقى الترجمة على الاستفهام كعادته. قوله: "حدثنا صدقة" هو ابن الفضل المروزي، وعبد الوهاب هو الثقفي، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري. قوله: "إن المتبايعين بالخيار" كذا للأكثر، وحكى ابن التين في رواية القابسي "إن المتبايعان" قال وهي لغة. وفي رواية أيوب عن نافع في الباب الذي يليه "البيعان" بتشديد التحتانية، والبيع بمعنى البائع كضيق وضائق وصين وصائن وليس كبين وبائن فإنهما متغايران كقيم وقائم، واستعمال البيع في المشتري إما على سبيل التغليب أو لأن كلا منهما بائع. قوله: "ما لم يتفرقا" في رواية النسائي: "يفترقا" بتقديم الفاء، ونقل ثعلب عن الفضل بن سلمة افترقا بالكلام وتفرقا بالأبدان، ورده ابن العربي بقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فإنه ظاهر في التفرق بالكلام لا أنه بالاعتقاد، وأجيب بأنه من لازمه في الغالب لأن من خالف آخر في عقيدته كان مستدعيا لمفارقته إياه ببدنه، ولا يخفى ضعف هذا الجواب، والحق حمل كلام المفضل على الاستعمال بالحقيقة، وإنما استعمل أحدهما في موضع الآخر اتساعا. قوله: "أو يكون البيع خيارا" سيأتي شرحه بعد باب. قوله: "قال نافع وكان ابن عمر الخ" هو موصول بالإسناد المذكور، وقد ذكره مسلم أيضا من طريق ابن جريج عن نافع، وهو ظاهر في أن ابن عمر كان يذهب إلى أن التفرق المذكور بالأبدان كما سيأتي. وفي الحديث ثبوت الخيار لكل من المتبايعين ما داما في المجلس وسيأتي بعد باب. قوله: "عن أبي الخليل" في رواية شعبة الآتية بعد باب "عن قتادة عن صالح أبي الخليل" وفي رواية أحمد عن غندر عن شعبة عن قتادة "سمعت أبا الخليل". قوله: "عن عبد الله بن الحارث" هو أبو نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ولم ينسب في شيء من طرق حديثه في الصحيحين، لكن وقع لأحمد من طريق سعيد عن قتادة "عبد الله بن الحارث الهاشمي" ورواه ابن خزيمة والإسماعيلي عنه من وجه آخر عن شعبة فقال عن قتادة "سمعت أبا الخليل يحدث عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل" وعبد الله هذا مذكور في الصحابة لأن ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأتى به فحنكه، وهو معدود من حيث الرواية في كبار التابعين، وقتادة وشيخه تابعيان أيضا، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وحديث آخر عن العباس في قصة أبي طالب. قوله: "وزاد أحمد حدثنا بهز" أي ابن أسد، وهذه الطريق وصلها أبو عوانة في صحيحه عن أبي جعفر الدارمي واسمه أحمد بن سعيد عن بهز به ولم أرها في مسند أحمد بن حنبل، وزعم بعضهم أنه أحمد المذكور، وستأتي هذه الزيادة من وجه آخر عن همام بعد ثلاثة أبواب بأوضح من سياقه. وفي صنيع همام فائدة طلب علو الإسناد لأن بينه وبين أبي الخليل في إسناده الأول رجلين وفي الثاني رجل واحد.

(4/327)


43 - باب إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فِي الْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ؟
2109- حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما

(4/327)


قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر وربما قال أو يكون بيع خيار"
قوله: "باب إذا لم يوقت الخيار" أي إذا لم يعين البائع أو المشتري وقتا للخيار وأطلقاه "هل يجوز البيع" وكأنه أشار بذلك إلى الخلاف الماضي في حد خيار الشرط، والذي ذهب إليه الشافعية والحنفية أنه لا يزاد فيه على ثلاثة أيام، وذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وآخرون إلى أنه لا أمد لمدة خيار الشرط بل البيع جائز والشرط لازم إلى الوقت الذي يشترطانه وهو اختيار ابن المنذر، فإن شرطا أو أحدهما الخيار مطلقا فقال الأوزاعي وابن أبي ليلى: هو شرط باطل والبيع جائز. وقال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي: يبطل البيع أيضا. وقال أحمد وإسحاق للذي شرط الخيار أبدا. "تنبيه": قوله: "أو يقول أحدهما" كذا هو في جميع الطرق بإثبات الواو في يقول، وفي إثباتها نظر لأنه مجزوم عطفا على قوله: "ما لم يتفرقا" فلعل الضمة أشبعت كما أشبعت الياء في قراءة من قرأ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} ويحتمل أن تكون بمعنى "إلا أن" فيقرأ حينئذ بنصب اللام وبه جزم النووي وغيره، ثم ذكر المصنف في الباب حديث ابن عمر من وجه آخر عن نافع وفيه: "أو يكون بيع خيار" والمعنى أن المتبايعين إذا قال أحدهما لصاحبه اختر إمضاء البيع أو فسخه فاختار إمضاء البيع مثلا أن البيع يتم وإن لم يتفرقا، وبهذا قال الثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وآخرون. وقال أحمد لا يتم البيع حتى يتفرقا، وقيل إنه تفرد بذلك، وقيل المعنى بقوله: "أو يكون بيع خيار" أي أن يشترطا الخيار مطلقا فلا يبطل بالتفرق، وسيأتي البحث فيه بعد بابين مستوفي إن شاء الله تعالى.

(4/328)


باب البيعان بالخيار مالم يتفرقا
...
44 - باب الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ
2110- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلاَلٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ قَتَادَةُ أَخْبَرَنِي عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ سَمِعْتُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا"
2111- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ"
قوله: "باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وبه قال ابن عمر" أي بخيار المجلس، وهو بين من صنيعه الذي مضى قبل باب، وأنه كان إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه. وللترمذي من طريق ابن فضيل عن يحيى بن سعيد "وكان ابن عمر إذا ابتاع بيعا وهو قاعد قام ليجب له" ولابن أبي شيبة من طريق محمد بن إسحاق عن نافع "كان ابن عمر إذا باع انصرف ليجب له البيع" ولمسلم من طريق ابن جريج قال: أملى على نافع فذكر الحديث وفيه: "قال نافع: وكان إذا بايع رجلا فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنيهة ثم رجع إليه" وسيأتي صنيع ابن عمر ذلك من وجه آخر بعد بابين،

(4/328)


وروى سعيد بن منصور عن خالد بن عبد الله عن عبد العزيز بن حكيم "رأيت ابن عمر اشترى من رجل بعيرا فأخرج ثمنه فوضعه بين يديه فخيره بين بعيره وبين الثمن". قوله: "وشريح والشعبي" أي قالا بخيار المجلس، وهذا وصله سعيد بن منصور عن هشيم عن محمد ابن علي: سمعت أبا الضحى يحدث أنه شهد شريحا واختصم إليه رجلان اشترى أحدهما من الآخر دارا بأربعة آلاف فأوجبها له، ثم بدا له في بيعها قبل أن يفارق صاحبها فقال لي: لا حاجة لي فيها، فقال البائع: قد بعتك فأوجبت لك، فاختصما إلى شريح فقال: هو بالخيار ما لم يتفرقا. قال محمد: وشهدت الشعبي قضى بذلك. وروى ابن أبي شيبة عن وكيع عن شعبة عن الحكم عن شريح قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" وعن جرير عن مغيرة عن وكيع عن الشعبي أنه أتى في رجل اشترى من رجل برذونا فأراد أن يرده قبل أن يتفرقا فقضى الشعبي أنه قد وجب البيع، فشهد عنده أبو الضحى أن شريحا أتى في مثل ذلك فرده على البائع، فرجع الشعبي إلى قول شريح. قوله: "وطاوس" قال الشافعي في "الأم" : أخبرنا ابن عيينة عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال: "خير رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بعد البيع" قال وكان أبي يحلف ما الخيار إلا بعد البيع.قوله: "وعطاء وابن أبي مليكة" وصلها ابن أبي شيبة عن جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة وعطاء قالا: البيعان بالخيار حتى يتفرقا عن رضا. ونقل ابن المنذر القول به أيضا عن سعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب من أهل المدينة، وعن الحسن البصري والأوزاعي وابن جريح وغيرهم، وبالغ ابن حزم فقال لا نعلم لهم مخالفا من التابعين لا النخعي وحده ورواية مكذوبة عن شريح، والصحيح عنه القول به، وأشار إلى ما رواه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن حجاج عن الحكم عن شريح قال: إذا تكلم الرجل بالبيع فقد وجب البيع، وإسناده ضعيف لأجل حجاج وهو ابن أرطاة. قوله: "حدثنا إسحاق" قال أبو علي الجياني: لم أره منسوبا في شيء من الروايات، ولعله إسحاق ابن منصور، فإن مسلما روى عن إسحاق بن منصور عن حبان بن هلال. قلت: قد رأيته منسوبا في رواية أبي علي بن شبويه عن الفربري في هذا الحديث إسحاق بن منصور، ولم أره في مسند إسحاق بن راهويه من روايته عن حبان، فقوى ما قال أبو علي رحمه الله. ثم رأيت أبا نعيم استخرجه من طريق إسحاق بن راهويه عن حبان وقال: أخرجه البخاري عن إسحاق فالله أعلم. قوله: "حبان بن هلال" هو بفتح الحاء بعدها موحدة ثقيلة. قوله: "حدثنا شعبة" سيأتي بعد باب من هذا الوجه "عن همام" بدل شعبة، وهو محمول على أنه كان عند حبان عن شيخين حدثاه به عن شيخ واحد. قوله: "ما لم يتفرقا" في رواية همام الماضية قبل باب "ما لم يفترقا" وفي رواية سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر، وعن عطاء عن ابن عباس مرفوعا: "ما لم يفارقه صاحبه فإن فارقه فلا خيار له" وقد اختلف القائلون بأن المراد أن يتفرقا بالأبدان هل للتفرق المذكور حد ينتهي إليه؟ والمشهور الراجح من مذهب العلماء في ذلك أنه موكول إلى العرف، فكل ما عد في العرف تفرقا حكم به وما لا فلا والله أعلم. قوله: "فإن صدقا وبينا" أي صدق البائع في إخبار المشترى مثلا وبين العيب إن كان في السلعة، وصدق المشتري في قدر الثمن مثلا وبين العيب إن كان في الثمن، ويحتمل أن يكون الصدق والبيان بمعنى واحد وذكر أحدهما تأكيد للآخر. قوله: "محقت بركة بيعهما" يحتمل أن يكون على ظاهره وأن شؤم التدليس والكذب وقع في ذلك العقد فمحق بركته، وإن كان الصادق مأجورا والكاذب مأزورا. ويحتمل أن يكون ذلك مختصا بمن وقع منه التدليس، والعيب دون الآخر، ورجحه ابن أبي جمرة. وفي الحديث فضل الصدق والحث عليه وذم الكذب والحث على منعه، وأنه سبب لذهاب البركة، وأن عمل الآخرة يحصل خيري الدنيا والآخرة. قوله: "إلا بيع الخيار" أي فلا

(4/329)


يحتاج إلى التفرق كما سيأتي شرحه في الباب الذي يليه. وفي رواية أيوب عن نافع في الباب الذي قبله "ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر" وهو ظاهر في حصر لزوم البيع بهذين الأمرين، وفيه دليل على إثبات خيار المجلس وقد مضى قبل بباب أن ابن عمر حمله على التفرق بالأبدان، وكذلك أبو برزة الأسلمي، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة. وخالف في ذلك إبراهيم النخعي فروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه قال: "البيع جائز وإن لم يتفرقا" ورواه سعيد بن منصور عنه بلفظ: "إذا وجبت الصفقة فلا خيار" وبذلك قال المالكية إلا ابن حبيب والحنفية كلهم، قال ابن حزم: لا نعلم لهم سلفا إلا إبراهيم وحده، وقد ذهبوا في الجواب عن حديثي الباب فرقا: فمنهم من رده لكونه معارضا لما هو أقوى منه، ومنهم من صححه ولكن أوله على غير ظاهره، فقالت طائفة منهم: هو منسوخ بحديث: "المسلمون على شروطهم" والخيار بعد لزوم العقد يفسد الشرط، وبحديث التحالف عند اختلاف المتبايعين لأنه يقتضي الحاجة إلى اليمين وذلك يستلزم لزوم العقد ولو ثبت الخيار لكان كافيا في رفع العقد، وبقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} والإشهاد إن وقع بعد التفرق لم يطابق الأمر وإن وقع قبل التفرق لم يصادف محلا، ولا حجة في شيء من ذلك لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الدليلين مهما أمكن لا يصار معه إلى الترجيح، والجمع هنا ممكن بين الأدلة المذكورة بغير تعسف ولا تكلف. وقال بعضهم هو من رواية مالك وقد عمل بخلافه فدل على أنه عارضه ما هو أقوى منه، والراوي إذا عمل بخلاف ما روى دل على وهن. المروي عنده. وتعقب بأن مالكا لم يتفرد به، فقد رواه غيره وعمل به وهم أكثر عددا رواية وعملا، وقد خص كثير من محققي أهل الأصول الخلاف المشهور - فيما إذا عمل الراوي بخلاف ما روى - بالصحابة دون ما جاء بعدهم، ومن قاعدتهم أن الراوي أعلم بما روى، وابن عمر هو راوي الخبر وكان يفارق إذا باع ببدنه فاتباعه أولى من غيره. وقالت طائفة هو معارض بعمل أهل المدينة، ونقل ابن التين عن أشهب بأنه مخالف لعمل أهل مكة أيضا. وتعقب بأنه قال به ابن عمر ثم سعيد بن المسيب ثم الزهري ثم ابن أبي ذئب كما مضى، وهؤلاء من أكابر علماء أهل المدينة في أعصارهم ولا يحفظ عن أحد من علماء المدينة القول بخلافه سوى عن ربيعة. وأما أهل مكة فلا يعرف أحد منهم القول بخلافه، فقد سبق عن عطاء وطاوس وغيرهما من أهل مكة، وقد اشتد إنكار ابن عبد البر وابن العربي على من زعم من المالكية أن مالكا ترك العمل به لكون عمل أهل المدينة على خلافه، قال ابن العربي: إنما لم يأخذ به مالك لأن وقت التفرق غير معلوم فأشبه بيوع الغرر كالملامسة، وتعقب بأنه يقول بخيار الشرط ولا يحده بوقت معين، وما ادعاه من الغرر موجود فيه وبأن الغرر في خيار المجلس معدوم لأن كلا منهما متمكن من إمضاء البيع أو فسخه بالقول أو بالفعل فلا غرر. وقالت طائفة هو خبر واحد فلا يعمل به إلا فيما تعم به البلوى، ورد بأنه مشهور فيعمل به كما ادعوا نظير ذلك في خبر القهقهة في الصلاة وإيجاب الوتر. وقال آخرون: هو مخالف للقياس الجلي في إلحاق ما قبل التفرق بما بعده، وتعقب بأن القياس مع النص فاسد الاعتبار. وقال آخرون: التفرق بالأبدان محمول على الاستحباب تحسينا للمعاملة مع المسلم لا على الوجوب. وقال آخرون: هو محمول على الاحتياط للخروج من الخلاف وكلاهما على خلاف الظاهر. وقالت طائفة: المراد بالتفرق في الحديث التفرق بالكلام كما في عقد النكاح والإجارة والعتق، وتعقب بأنه قياس مع ظهور الفارق لأن البيع ينقل فيه ملك رقبة المبيع ومنفعته بخلاف ما ذكر. وقال ابن حزم: سواء قلنا التفرق بالكلام أو بالأبدان فإن خيار المجلس بهذا الحديث ثابت، أما حيث

(4/330)


قلنا التفرق بالأبدان فواضح، وحيث قلنا بالكلام فواضح أيضا، لأن قول أحد المتبايعين مثلا بعتكه بعشرة وقول الآخر بل بعشرين مثلا افتراق في الكلام بلا شك، بخلاف ما لو قال اشتريته بعشرة فإنهما حينئذ متوافقان فيتعين ثبوت الخيار لهما حين يتفقان لا حين يتفرقان وهو المدعي. وفيل المراد بالمتبايعين المتساومان، ورد بأنه مجاز والحمل على الحقيقة أو ما يقرب منها أولى. واحتج الطحاوي بآيات وأحاديث استعمل فيها المجاز وقال: من أنكر استعمال لفظ البائع في السائم فقد غفل عن اتساع اللغة: وتعقب بأنه لا يلزم من استعمال المجاز في موضع طرده في كل موضع، فالأصل من الإطلاق الحقيقة حتى يقوم الدليل على خلافه. وقالوا أيضا: وقت التفرق في الحديث هو ما بين قول البائع بعتك هذا بكذا وبين قول المشتري اشتريت، قالوا فالمشتري بالخيار في قوله اشتريت أو تركه والبائع بالخيار إلى أن يوجب المشتري، وهكذا حكاه الطحاوي عن عيسى بن أبان منهم، وحكاه ابن خويز منداد عن مالك، قال عيسى بن أبان: وفائدته تظهر فيما لو تفرقا قبل القبول فإن القبول يتعذر، وتعقب بأن تسميتهما متبايعين قبل تمام العقد مجاز أيضا، فأجيب بأن تسميتهما متبايعين بعد تمام العقد مجاز أيضا، لأن اسم الفاعل في الحال حقيقة وفيما عداه مجاز، فلو كان الخيار بعد انعقاد البيع لكان لغير البيعين والحديث يرده فتعين حمل التفرق على الكلام، وأجيب بأنه إذا تعذر الحمل على الحقيقة تعين المجاز، وإذا تعارض المجازان فالأقرب إلى الحقيقة أولى. وأيضا فالمتبايعان لا يكونان متبايعين حقيقة إلا في حين تعاقدهما، لكن عقدهما لا يتم إلا بأحد أمرين إما بإبرام العقد أو التفرق على ظاهر الخبر فصح أنهما متعاقدان ما داما في مجلس العقد، فعلى هذا تسميتهما متبايعين حقيقة بخلاف حمل المتبايعين على المتساومين فإنه مجاز باتفاق. وقالت طائفة التفرق يقع بالأقوال كقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} وأجيب بأنه سيئ بذلك لكونه يفضي إلى التفرق بالأبدان، قال البيضاوي: ومن نفى خيار المجلس ارتكب مجازين بحمله التفرق على الأقوال وحمله المتبايعين على المتساومين، وأيضا فكلام الشارع يصان عن الحمل عليه، لأنه يصير تقديره إن المتساومين إن شاءا عقدا البيع، وإن شاءا لم يعقداه وهو تحصيل الحاصل لأن كل أحد يعرف ذلك، ويقال لمن زعم أن التفرق بالكلام: ما هو الكلام الذي يقع به التفرق، أهو الكلام الذي وقع به العقد أم غيره؟ فإن كان غيره فما هو، فليس بين المتعاقدين كلام غيره؟ وإن كان هو ذلك الكلام بعينه لزم أن يكون الكلام الذي اتفقا عليه وتم بيعهما به هو الكلام الذي افترقا به وانفسخ بيعهما به وهذا في غاية الفساد. وقال آخرون العمل بظاهر الحديث متعذر فيتعين تأويله، وبيان تعذره أن المتبايعين إن اتفقا في الفسخ أو الإمضاء لم يثبت لواحد منهما على الآخر خيار، وإن اختلفا فالجمع بين الفسخ والإمضاء جمع بين النقيضين وهو مستحيل. وأجيب بأن المراد أن لكل منهما الخيار في الفسخ، وأما الإمضاء فلا احتياج إلى اختياره فإنه مقتضى العقد والحال يفضي إليه مع السكوت بخلاف الفسخ. وقال آخرون: حديث بن عمر هذا وحكيم بن حزام معارض بحديث عبد الله بن عمرو، وذلك فيما أخرجه أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله" قال ابن العربي: ظاهر هذه الزيادة مخالف لأول الحديث في الظاهر، فإن تأولوا الاستقالة فيه على الفسخ تأولنا الخيار فيه على الاستقالة وإذا تعارض التأويلان فزع إلى الترجيح، والقياس في جانبنا وتعقب بأن حمل الاستقالة على الفسخ أوضح من حمل الخيار على الاستقالة، لأنه لو كان المراد حقيقة

(4/331)


الاستقالة لم تمنعه من المفارقة لأنها لا تختص بمجلس العقد، وقد أثبت في أول الحديث الخيار ومده إلى غاية التفرق، ومن المعلوم أن من له الخيار لا يحتاج إلى الاستقالة فتعين حملها على الفسخ، وعلى ذلك حمله الترمذي وغيره من العلماء فقالوا: معناه لا يحل له أن يفارقه بعد البيع خشية أن يختار فسخ البيع لأن العرب تقول استقلت ما فات عني إذا استدركه، فالمراد بالاستقالة فسخ النادم منهما للبيع. وحملوا نفي الحل على الكراهة لأنه لا يليق بالمروءة وحسن معاشرة المسلم، إلا أن اختيار الفسخ حرام، قال ابن حزم: احتجاجهم بحديث عمرو بن شعيب على التفرق بالكلام لقوله فيه: "خشية أن يستقيله" لكون الاستقالة لا تكون إلا بعد تمام البيع، وصحة انتقال الملك تستلزم أن يكون الخبر المذكور لا فائدة له لأنه يلزم من حمل التفرق على القول إباحة المفارقة، خشي أن يستقيله أو لم يخش. وقال بعضهم التفرق بالأبدان في الصرف قبل القبض يبطل العقد فكيف يثبت العقد ما يبطله؟ وتعقب باختلاف الجهة وبالمعارضة بنظيره، وذلك أن النقد وترك الأجل شرط لصحة الصرف وهو يفسد السلم عندهم. واحتج بعضهم بحديث ابن عمر الآتي بعد بابين في قصة البكر الصعب وسيأتي توجهه وجوابه، واحتج الطحاوي بقول ابن عمر: ما أدركت الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المبتاع: وتعقب بأنهم يخالفونه، أما الحنفية فقالوا: هو من مال البائع ما لم يره المبتاع أو ينقله. والمالكية قالوا: إن كان غائبا غيبة بعيدة فهو من البائع وأنه لا حجة فيه لأن الصفقة فيه محمولة على البيع الذي انبرم لا على ما لم ينبرم جمعا بين كلاميه. وقال بعضهم معنى قوله حتى يتفرقا أي حتى يتوافقا يقال للقوم: على ماذا تفارقتم؟ أي على ماذا اتفقتم؟ وتعقب بما ورد في بقية حديث ابن عمر في جميع طرقه ولا سيما في طريق الليث الآتية في الباب الذي بعد هذا. وقال بعضهم حديث: "البيعان بالخيار" جاء بألفاظ مختلفة فهو مضطرب لا يحتج به، وتعقب بأن الجمع بين ما اختلف من ألفاظه ممكن بغير تكلف ولا تعسف فلا يضره الاختلاف، وشرط المضطرب أن يتعذر الجمع بين مختلف ألفاظه وليس هذا الحديث من ذلك. وقال بعضهم: لا يتعين حمل الخيار في هذا الحديث على خيار الفسخ، فلعله أريد به خيار الشراء أو خيار الزيادة في الثمن أو المثمن، وأجيب بأن المعهود في كلامه صلى الله عليه وسلم حيث يطلق الخيار إرادة خيار الفسخ كما في حديث المصراة وكما في حديث الذي يخدع في البيوع. وأيضا فإذا ثبت أن المراد بالمتبايعين المتعاقدان فبعد صدور العقد لا خيار في الشراء ولا في الثمن. وقال ابن عبد البر: قد أكثر المالكية والحنفية من الاحتجاج لرد هذا الحديث بما يطول ذكره، وأكثره لا يحصل منه شيء. وحكى ابن السمعاني في "الاصطلاح" عن بعض الحنفية قال: البيع عقد مشروع بوصف وحكم، فوصفه اللزوم وحكمه الملك، وقد تم البيع بالعقد فوجب أن يتم بوصفه وحكمه، فأما تأخير ذلك إلى أن يفترقا فليس عليه دليل لأن السبب إذا تم يفيد حكمه، ولا ينتفي إلا بعارض ومن ادعاه فعليه البيان. وأجاب أن البيع سبب للإيقاع في الندم والندم يحوج إلى النظر فأثبت الشارع خيار المجلس نظرا للمتعاقدين ليسلما من الندم، ودليله خيار الرؤية عندهم وخيار الشرط عندنا. قال: ولو لزم العقد بوصفه وحكمه لما شرعت الإقالة، لكنا شرعت نظرا للمتعاقدين، إلا أنها شرعت لاستدراك ندم ينفرد به أحدهما فلم تجب، وخيار المجلس شرع لاستدراك ندم يشتركان فيه فوجب.

(4/332)


باب اذا خير احداهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع
...
45 - باب إِذَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ
2112- حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه

(4/332)


قال إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع"
قوله: "باب إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع" أي وقبل الفرق "فقد وجب البيع" أي وإن لم يتفرقا. أورد فيه حديث ابن عمر من طريق الليث عن نافع بلفظ: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، أي فينقطع الخيار، وقوله: "وكانا جميعا" تأكيد لذلك، وقوله: "أو يخير أحدهما الآخر" أي فينقطع الخيار، وقوله: "فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع" أي وبطل الخيار، وقوله: "وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك أحد منهما البيع" أي لم يفسخه "فقد وجب البيع" أي بعد التفرق، وهذا ظاهر جدا في انفساخ البيع بفسخ أحدهما، قال الخطابي: هذا أوضح شيء في ثبوت خيار المجلس، وهو مبطل لكل تأويل مخالف لظاهر الحديث، وكذلك قوله في آخره: "وإن تفرقا بعد أن تبايعا، فيه البيان الواضح أن التفرق بالبدن هو القاطع للخيار، ولو كان معناه التفرق بالقول لخلا الحديث عن فائدة. انتهى. وقد أقدم الداودي على رد هذا الحديث المتفق على صحته بما لا يقبل منه فقال: قول الليث في هذا الحديث: "وكانا جميعا الخ" ليس بمحفوظ لأن مقام الليث في نافع ليس كمقام مالك ونظراته. انتهى. وهو رد لما اتفق الأئمة على ثبوته بغير مستند، وأي لوم على من روى الحديث مفسرا لأحد محتملاته حافظا من ذلك ما لم يحفظه غيره مع وقوع تعدد المجلس، فهو محمول على أن شيخهم حدثهم به تارة مفسرا وتارة مختصرا، وقد اختلف العلماء في المراد بقوله في حديث مالك "إلا بيع الخيار" فقال الجمهور وبه جزم الشافعي: هو استثناء من امتداد الخيار إلى التفرق، والمراد أنهما إن اختارا إمضاء البيع قبل التفرق لزم البيع حينئذ وبطل اعتبار التفرق، فالتقدير إلا البيع الذي جرى فيه التخاير. قال النووي: اتفق أصحابنا على ترجيح هذا التأويل وأبطل كثير منهم ما سواه وغلطوا قائله. انتهى. ورواية الليث ظاهرة جدا في ترجيحه، وقيل هو استثناء من انقطاع الخيار بالتفرق، وقيل المراد بقوله: "أو يفرق أحدهما الآخر" أي فيشترط الخيار مدة معينة فلا ينقضي الخيار بالتفرق بل يبقى حتى تمضي المدة حكاه ابن عبد البر عن أبي ثور، ورجح الأول بأنه أقل في الإضمار، وتعينه رواية النسائي من طريق إسماعيل - قيل هو ابن أمية وقيل غيره - عن نافع بلفظ إلا أن يكون البيع كان عن خيار" فإن كان البيع عن خيار وجب البيع، وقيل هو استثناء من إثبات خيار المجلس، والمعنى أو يخير أحدهما الآخر فيختار في خيار المجلس فينتفي الخيار وهذا أضعف هذه الاحتمالات، وقيل قوله: "إلا أن يكون بيع خيار" أي هما بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يتخايرا ولو قبل التفرق وإلا أن يكون البيع بشرط الخيار ولو بعد التفرق، وهو قول يجمع التأويلين الأولين، ويؤيده رواية عبد الرزاق عن سفيان في حديث الباب الذي يليه حيث قال فيه: "إلا بيع الخيار أو يقول لصاحبه اختر إن حملنا " أو" على التقسيم لا على الشك. "تنبيه": قوله: "أو يخير أحدهما الآخر" بإسكان الراء من "يخير" عطفا على قوله: "ما لم يتفرقا" ويحتمل نصب الراء على أن "أو" بمعنى "إلا أن" كما تقدم قريبا مثله في قوله: "أو يقول أحدهما لصاحبه اختر"

(4/333)


46 - باب إِذَا كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ ؟
2113- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ

(4/333)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ"
2114- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا قَالَ هَمَّامٌ وَجَدْتُ فِي كِتَابِي يَخْتَارُ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا رِبْحًا وَيُمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا قَالَ وَحَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
قوله: "باب إذا كان البائع بالخيار هل يجوز البيع" كأنه أراد الرد على من حصر الخيار في المشتري دون البائع فإن الحديث قد سوى بينهما في ذلك. قوله: "كل بيعين" بتشديد التحتانية. قوله: "لا بيع بينهما" أي لازم. قوله: "حتى يتفرقا" أي فيلزم البيع حينئذ بالتفرق: قوله: "إلا بيع الخيار" أي فيلزم باشتراطه كما تقدم البحث فيه، وظاهره حصر لزوم البيع في التفرق أو في شرط الخيار، والمعنى أن البيع عقد جائز فإذا وجد أحد هذين الأمرين كان لازما. قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن منصور، وحبان هو ابن هلال. قوله: "حتى يتفرقا" في رواية الكشميهني: "ما لم يتفرقا". قوله: "قام همام: وجدت في كتابي يختار ثلاث مرار" أشار أبو داود إلى أن هماما تفرد بذلك عن أصحاب قتادة، ووقع عند أحمد عن عفان عن همام قال: "وجدت في كتابي الخيار ثلاث مرار" ولم يصرح همام بمن حدثه بهذه الزيادة فإن ثبتت فهي على سبيل الاختيار. وقد أخرجه الإسماعيلي وجه آخر عن حبان بن هلال فذكر هذه الزيادة في آخر الحديث. قوله: "وحدثنا همام" القائل هو حبان بن هلال المذكور، وقد تقدم قبل بابين من وجه آخر عن همام. قال الكرماني: القائل هو حبان، فإن قيل لم قال: "حدثنا" وقال قبل ذلك "قال همام" فالجواب أنه حيث قال: قال كان سمع ذلك في المذاكرة وحيث قال حدثنا سمع منه في مقام التحديث ا هـ. وفي جزمه بذلك نظر، والذي يظهر أنه حيث ساقه بالإسناد عبر بقوله حدثنا، وحيث ذكر كلام همام عبر عنه بقوله قال.

(4/334)


47 - باب إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي
أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ وَقَالَ طَاوُسٌ فِيمَنْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضَا ثُمَّ بَاعَهَا وَجَبَتْ لَهُ وَالرِّبْحُ لَهُ
2115- وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ فَكَانَ يَغْلِبُنِي فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِعُمَرَ بِعْنِيهِ قَالَ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِعْنِيهِ فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ"
[الحديث 2115- طرفاه في: 2610- 2611 ]
2116- قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ

(4/334)


اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بِعْتُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَالًا بِالْوَادِي بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ فَلَمَّا تَبَايَعْنَا رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِي حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي الْبَيْعَ وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَلَمَّا وَجَبَ بَيْعِي وَبَيْعُهُ رَأَيْتُ أَنِّي قَدْ غَبَنْتُهُ بِأَنِّي سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلاَثِ لَيَالٍ وَسَاقَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاَثِ لَيَالٍ "
قوله: "باب إذا اشترى شيئا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا ولم ينكر البائع على المشتري" أي هل ينقطع خياره بذلك؟ قال ابن المنير: أراد البخاري إثبات خيار المجلس بحديث ابن عمر ثاني حديثي الباب، وفيه قصته مع عثمان وهو بين في ذلك، ثم خشي أن يعترض عليه بحديث ابن عمر في قصة البعير الصعب لأن النبي صلى الله عليه وسلم تصرف في البكر بنفس تمام العقد فأسلف الجواب عن ذلك في الترجمة بقوله: "ولم ينكر البائع" يعني أن الهبة المذكورة إنما تمت بإمضاء البائع وهو سكوته المنزل منزلة قوله. وقال ابن التين: هذا تعسف من البخاري، ولا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه وهب ما فيه لأحد خيار ولا إنكار لأنه إنما بعث مبينا ا هـ. وجوابه أنه صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك بالأحاديث السابقة المصرحة بخيار المجلس، والجمع بين الحديثين ممكن بأن يكون بعد العقد فارق عمر بأن تقدمه أو تأخر عنه مثلا ثم وهب، وليس في الحديث ما يثبت ذلك ولا ما بنفيه فلا معنى للاحتجاج بهذه الواقعة العينية في إبطال ما دلت عليه الأحاديث الصريحة من إثبات خيار المجلس فإنها إن كانت متقدمة على حديث: "البيعان بالخيار" فحديث البيعان قاض عليها، وإن كانت متأخرة عنه حمل على أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بالبيان السابق، واستفيد منه أن المشتري إذا تصرف في المبيع ولم ينكر البائع كان ذلك قاطعا لخيار البائع كما فهمه البخاري والله أعلم. وقال ابن بطال أجمعوا على أن البائع إذا لم ينكر على المشتري ما أحدثه من الهبة والعتق أنه بيع جائز، واختلفوا فيما إذا أنكر ولم يرض: فالذين يرون أن البيع يتم بالكلام دون اشتراط التفرق بالأبدان يجيزون ذلك، ومن يرى التفرق بالأبدان لا يجيزونه والحديث حجة عليهم ا هـ. وليس الأمر على ما ذكره من الإطلاق، بل فرقوا بين المبيعات: فاتفقوا على منع بيع الطعام قبل قبضه كما سيأتي، واختلفوا فيما عدا الطعام على مذاهب: أحدها: لا يجوز بيع شيء قبل قبضه مطلقا وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن، ثانيها: يجوز مطلقا إلا الدور والأرض وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ثالثها: يجوز مطلقا إلا المكيل والموزون وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق، رابعها: يجوز مطلقا إلا المأكول والمشروب وهو قول مالك وأبي ثور واختيار ابن المنذر، واختلفوا في الإعتاق فالجمهور على أنه يصح الإعتاق ويصير قبضا سواء كان للبائع حق الحبس بأن كان الثمن حالا ولم يدفع أم لا، والأصح في الوقف أيضا صحته، وفي الهبة والرهن خلاف، والأصح عند الشافعية فهما أنهما لا يصحان، وحديث ابن عمر في قصة البعير الصعب حجة لمقابله، ويمكن الجواب عنه بأنه يحتمل أن يكون ابن عمر كان وكيلا في القبض قبل الهبة وهو اختيار البغوي قال: إذا أذن المشتري للموهوب له في قبض المبيع كفى وتم البيع وحصلت الهبة بعده، لكن لا يلزم من هذا اتحاد القابض والمقبض لأن ابن عمر كان راكب البعير حينئذ وقد احتج به للمالكية والحنفية في أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية، وإليه مال البخاري كما تقدم له في "باب شراء الدواب والحمر" إذا اشترى دابة وهو عليها هل يكون ذلك قبضا؟ وعند الشافعية والحنابلة تكفي التخلية في الدور والأراضي وما أشبهها دون المنقولات، ولذلك لم يجزم البخاري بالحكم بل أورد الترجمة مورد الاستفهام

(4/335)


.وقال ابن قدامة ليس في الحديث تصريح بالبيع، فيحتمل أن يكون قول عمر "هو لك" أي هبة، وهو الظاهر فإنه لم يذكر ثمنا. قلت: وفيه غفلة عن قوله في حديث الباب: "فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وقد وقع في بعض طرق هذا الحديث عند البخاري "فاشتراه" وسيأتي في الهبة، فعلى هذا فهو بيع، وكون الثمن لم يذكر لا يلزم أن يكون هبة مع التصريح بالشراء، وكما لم يذكر الثمن يحتمل أن يكون القبض المشترط وقع وإن لم ينقل، قال المحب الطبري: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ساقه بعد العقد كما ساقه أولا، وسوقه قبض له لأن قبض كل شيء بحسبه. قوله: "أو اشترى عبدا فأعتقه" جعل المصنف مسألة الهبة أصلا ألحق بها مسألة العتق لوجود النص في مسألة الهبة دون العتق، والشافعية نظروا إلى المعنى في أن للعتق قوة وسراية ليست لغيره، ومن ألحق به منهم الهبة قال إن العتق إتلاف للمالية والإتلاف قبض فكذلك الهبة والله أعلم. قوله: "وقال طاوس فيمن يشتري السلعة على الرضا ثم باعها وجبت له والربح له" وصله سعيد ابن منصور وعبد الرزاق من طريق ابن طاوس عن أبيه نحوه، وزاد عبد الرزاق "وعن معمر عن أيوب عن ابن سيرين إذا بعت شيئا على الرضا فإن الخيار لهما حتى يتفرقا عن رضا". قوله: "وقال الحميدي" في رواية ابن عساكر بإسناد البخاري "قال لنا الحميدي" وجزم الإسماعيلي وأبو نعيم بأنه علقه، وقد رويناه أيضا موصولا في "مسند الحميدي" وفي "مستخرج الإسماعيلي:" وسيأتي من وجه آخر عن سفيان في الهبة موصولا. قوله: "في سفر" لم أقف على تعيينه. قوله: "على بكر" بفتح الموحدة وسكون الكاف: ولد الناقة أول ما يركب. قوله: "صعب" أي نفور. قوله: "فباعه" زاد في الهبة "فاشتراه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت" وفي هذا الحديث ما كان الصحابة عليه من توقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم وأن لا يتقدموه في المشي، وفيه جواز زجر الدواب، وإنه لا يشترط في البيع عرض صاحب السلعة بسلعته بل يجوز أن يسأل في بيعها، وجواز التصرف في المبيع قبل بدل الثمن. ومراعاة النبي صلى الله عليه وسلم أحوال الصحابة وحرصه على ما يدخل عليهم السرور. قوله: "وقال الليث" وصله الإسماعيلي من طريق ابن زنجويه والرمادي وغيرهما، وأبو نعيم من طريق يعقوب بن سفيان كلهم عن أبي صالح كاتب الليث عن الليث به، وذكر البيهقي أن يحيى بن بكير رواه عن الليث عن يونس عن الزهري نحوه، وليس ذلك بعلة فقد ذكر الإسماعيلي أيضا أن أبا صالح رواه عن الليث كذلك فوضح أن الليث فيه شيخين، وقد أخرجه الإسماعيلي أيضا من طريق أيوب عن سويد عن يونس عن الزهري. قوله: "بعت من أمير المؤمنين عثمان بن عفان مالا" أي أرضا أو عقارا. قوله: "بالوادي" يعني وادي القرى. قوله: "فلما تبايعا رجعت على عقبي" في رواية أيوب بن سويد "فطفقت أنكص على عقبي القهقرى". قوله: "يرادني" بتشديد الدال أصله يراددني أي يطلب مني استرداده. قوله: "وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا" يعني أن هذا هو السبب في خروجه من بيت عثمان، وأنه فعل ذلك ليجب له البيع ولا يبقى لعثمان خيار في فسخه. واستدل ابن بطال بقوله: "وكانت السنة" على أن ذلك كان في أول الأمر، فأما في الزمن الذي فعل ابن عمر ذلك فكان التفرق بالأبدان متروكا فلذلك فعله ابن عمر لأنه كان شديد الاتباع، هكذا قال، وليس في قوله: "وكانت السنة" ما ينفي استمرارها. وقد وقع في رواية أيوب بن سويد "كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يفترق المتبايعان، فتبايعت أنا وعثمان" فذكر القصة وفيها إشعار باستمرار ذلك، وأغرب ابن رشد في "المقدمات" له فزعم أن عثمان قال لابن عمر "ليست السنة بافتراق الأبدان، قد انتسخ ذلك" وهذه الزيادة لم أر لها إسنادا، ولو صحت لم تخرج المسألة على الخلاف لأن أكثر

(4/336)


الصحابة قد نقل عنهم القول بأن الافتراق بالأبدان. قوله: "سقته إلى أرض ثمود بثلاث ليال" أي زدت المسافة التي بينه وبين أرضه التي صارت إليه على المسافة التي كانت بينه وبين أرضه التي باعها بثلاث ليال. قوله: "وساقني إلى المدينة بثلاث ليال" يعني أنه نقص المسافة التي بيني وبين أرضي التي أخذ بها عن المسافة التي كانت بيني وبين أرضي التي بعتها بثلاث ليال، وإنما قال إلى المدينة لأنهما جميعا كانا بها فرأى ابن عمر الغبطة في القرب من المدينة فلذلك قال: "رأيت أني قد غبنته" وفي هذه القصة جواز بيع العين الغائبة على الصفة، وسيأتي نقل الخلاف فيها في "باب بيع الملامسة" وجواز التحيل في إبطال الخيار، وتقديم المرء مصلحة نفسه على مصلحة غيره، وفيه جواز بيع الأرض بالأرض، وفيه أن الغبن لا يرد به البيع.

(4/337)


48 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْخِدَاعِ فِي الْبَيْعِ
2117- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ"
[الحديث 2117- أطرافه في:2407، 2414، 696]
قوله: "باب ما يكره من الخداع في البيع" كأنه أشار بهذه الترجمة إلى أن الخداع في البيع مكروه ولكنه لا يفسخ البيع، إلا أن شرط المشتري الخيار على ما تشعر به القصة المذكورة في الحديث. قوله: "أن رجلا" في رواية أحمد من طريق محمد بن إسحاق "حدثني نافع عن ابن عمر، كان رجل من الأنصار" زاد ابن الجارود في "المنتقى" من طريق سفيان عن نافع أنه حبان بن منقذ، وهو بفتح المهملة والموحدة الثقيلة، ورواه الدار قطني من طريق عبد الأعلى والبيهقي من طريق يونس بن بكير كلاهما عن ابن إسحاق به وزاد فيه: "قال ابن إسحاق فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال هو جدي منقذ بن عمرو" وكذلك رواه ابن منده من وجه آخر عن ابن إسحاق. قوله: "ذكر النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية ابن إسحاق" فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يلقى من الغبن". قوله: "أنه يخدع في البيوع" بين ابن إسحاق في روايته المذكورة سبب شكواه وهو ما يلقى من الغبن، وقد أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث أنس بلفظ: "إن رجلا كان يباع، وكان في عقدته ضعف". قوله: "لا خلابة" بكسر المعجمة وتخفيف اللام أي لا خديعة و "لا" لنفي الجنس أي لا خديعة في الدين لأن الدين النصيحة، زاد ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير وعبد الأعلى عنه "ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فأردد "فبقي حتى أدرك زمان عثمان وهو ابن مائة وثلاثين سنة، فكثر الناس في زمن عثمان، وكان إذا اشترى شيئا فقيل له إنك غبنت فيه رجع به فيشهد له الرجل من الصحابة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعله بالخيار ثلاثا فيرد له دراهمه. قال العلماء: لقنه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول ليتلفظ به عند البيع فيطلع به صاحبه على أنه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة فيرى له كما يرى لنفسه، لما تقرر من حض المتبايعين على أداء النصيحة كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام "فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما" الحديث. واستدل بهذا الحديث لأحمد واحد قولي مالك أنه يرد بالغبن الفاحش لمن لم يعرف قيمة السلعة، وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما جعل له الخيار لضعف عقله ولو كان الغبن يملك به الفسخ لما احتاج إلى شرط الخيار. وقال ابن العربي: يحتمل أن الخديعة في قصة هذا الرجل كانت في العيب أو في

(4/337)


الكذب أو في الثمن أو في الغبن فلا يحتج بها في مسألة الغبن بخصوصها، وليست قصة عامة وإنما هي خاصة في واقعة عين فيحتج بها في حق من كان بصفة الرجل قال: وأما ما روي عن عمر أنه كلم في البيع فقال: ما أجد لكم شيئا أوسع مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ ثلاثة أيام، فمداره علي ابن لهيعة وهو ضعيف انتهى، وهو كما قال أخرجه الطبراني والدار قطني وغيرهما من طريقه، لكن الاحتمالات التي ذكرها قد تعينت بالرواية التي صرح بها بأنه كان يغبن في البيوع، واستدل به على أن أمد الخيار المشترط ثلاثة أيام من غير زيادة لأنه حكم ورد على خلاف الأصل فيقتصر به على أقصى ما ورد فيه، ويؤيده جعل الخيار في المصراة ثلاثة أيام، واعتبار الثلاث في غير موضع، وأغرب بعض المالكية فقال إنما قصره على ثلاث لأن معظم بيعه كان في الرقيق، وهذا يحتاج إلى دليل ولا يكفي فيه مجرد الاحتمال، واستدل به على أن من قال عند العقد "لا خلابة" أنه يصير في تلك الصفقة بالخيار سواء وجد فيه عيبا أو غبنا أم لا، وبالغ ابن حزم في جموده فقال: لو قال لا خديعة أو لا غش أو ما أشبه ذلك لم يكن له الخيار حتى يقول لا خلابة. ومن أسهل ما يرد به عليه أنه ثبت في صحيح مسلم أنه كان يقول: "لا خيابة" بالتحتانية بدل اللام وبالذال المعجمة بدل اللام أيضا وكأنه كان لا يفصح باللام للثغة لسانه ومع ذلك لم يتغير الحكم في حقه عند أحد من الصحابة الذين كانوا يشهدون له بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله بالخيار فدل على أنهم اكتفوا في ذلك بالمعنى، واستدل به على أن الكبير لا يحجر عليه ولو تبين سفهه لما في بعض طرق حديث أنس أن أهله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله احجر عليه، فدعاه فنهاه عن البيع فقال لا أصبر عنه فقال: "إذا بايعت فقل لا خلابة" وتعقب بأنه لو كان الحجر على الكبير لا يصح لأنكر عليهم، وأما كونه لم يحجر عليه فلا يدل على منع الحجر على السفيه. واستدل به على جواز البيع بشرط الخيار وعلى جواز شرط الخيار للمشتري وحده، وفيه ما كان أهل ذلك العصر عليه من الرجوع إلى الحق وقبول خبر الواحد في الحقوق وغيرها.

(4/338)


باب ماذكر في الاسواق
...
49 - باب مَا ذُكِرَ فِي الأَسْوَاقِ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قُلْتُ هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ قَالَ سُوقُ قَيْنُقَاعَ
وَقَالَ أَنَسٌ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ وَقَالَ عُمَرُ أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ
2118- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ قَالَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ"
2119- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَلاَةُ أَحَدِكُمْ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي سُوقِهِ وَبَيْتِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَذَلِكَ بِأَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ لاَ يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاّ

(4/338)


رُفِعَ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ وَالْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ وَقَالَ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا كَانَتْ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ"
2120- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّوقِ فَقَالَ رَجُلٌ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي"
[الحديث 2120 – طرفاه في: 2121، 3537]
2121- حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا زهير عن حميد عن أنس رضي الله عنه ثم دعا رجل بالبقيع يا أبا القاسم فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال لم أعنك قال سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي"
2122- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةِ النَّهَارِ لاَ يُكَلِّمُنِي وَلاَ أُكَلِّمُهُ حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ فَقَالَ أَثَمَّ لُكَعُ أَثَمَّ لُكَعُ فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا أَوْ تُغَسِّلُهُ فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ وَقَالَ اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ قَالَ سُفْيَانُ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ رَأَى نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ"
[الحديث 2122- طرفه في: 5884]
2123- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ"
[ الحدبث 2123- أطرافه في: 2131، 2137، 2166، 2167، 6852]
2124- قَالَ وَحَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاعَ الطَّعَامُ إِذَا اشْتَرَاهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ"
[الحديث 2124- أطرافه في 2126، 2133، 2136]
قوله: "باب ما ذكر في الأسواق" قال ابن بطال أراد بذكر الأسواق إباحة المتاجر ودخول الأسواق للأشراف والفضلاء وكأنه أشار إلى ما لم يثبت على شرطه من أنها شر البقاع وهو حديث أخرجه أحمد والبزار وصححه الحاكم من حديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق" وإسناده حسن، وأخرجه ابن حبان والحاكم أيضا من حديث ابن عمر نحوه، قال ابن بطال: وهذا خرج على الغالب وإلا فرب سوق يذكر فيها الله أكثر من كثير من المساجد. قوله: "وقال عبد الرحمن بن عوف الخ" تقدم موصولا في

(4/339)


أوائل البيوع، والغرض منه هنا ذكر السوق فقط وكونه كان موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتعاهده الفضلاء من الصحابة لتحصيل المعاش للكفاف وللتعفف عن الناس. قوله: "وقال أنس قال عبد الرحمن بن عوف" تقدم أيضا موصولا هناك. قوله: "وقال عمر: ألهاني الصفق بالأسواق" تقدم موصولا أيضا هناك في أثناء حديث أبي موسى الأشعري. قوله: "عن محمد بن سوقة" بضم المهملة وسكون الواو بعدها قاف كوفي ثقة عابد يكنى أبا بكر من صغار التابعين، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في العيدين. قوله: "عن نافع بن جبير" أي ابن مطعم النوفلي وليس له في البخاري عن عائشة سوى هذا الحديث، ووقع في رواية محمد بن بكار عن إسماعيل بن زكريا عن محمد بن سوقه "سمعت نافع بن جبير" أخرجه الإسماعيلي. قوله: "حدثتني عائشة" هكذا قال إسماعيل بن زكريا عن محمد بن سوقة، وخالفه سفيان بن عيينة فقال: "عن محمد بن سوقة عن نافع بن جبير عن أم سلمة" أخرجه الترمذي، ويحتمل أن يكون نافع ابن جبير سمعه منهما فإن روايته عن عائشة أتم من روايته عن أم سلمة، وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن عائشة، وروي من حديث حفصة شيئا منه، وروى الترمذي من حديث صفية نحوه.قوله: "يغزو جيش الكعبة" في رواية مسلم: "عبث النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فقلنا له صنعت شيئا لم تكن تفعله، قال: العجب أن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش" وزاد في رواية أخرى أن أم سلمة قالت ذلك زمن ابن الزبير، وفي أخرى أن عبد الله بن صفوان أحد رواة الحديث عن أم سلمة قال: والله ما هو هذا الجيش. قوله: "ببيداء من الأرض" في رواية مسلم: "بالبيداء" وفي حديث صفية على الشك. وفي رواية لمسلم عن أبي جعفر الباقر قال: هي بيداء المدينة. انتهى. والبيداء مكان معروف بين مكة والمدينة تقدم شرحه في كتاب الحج. قوله: "يخسف بأولهم وآخرهم" زاد الترمذي في حديث صفية "ولم ينج أوسطهم" وزاد مسلم في حديث حفصة "فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم" واستغنى بهذا عن تكلف الجواب عن حكم الأوسط وأن العرف يقضي بدخوله فيمن هلك أو لكونه آخرا بالنسبة للأول وأولا بالنسبة للآخر فيدخل. قوله: "وفيهم أسواقهم" كذا عند البخاري بالمهملة والقاف جمع سوق وعليه ترجم، والمعنى أهل أسواقهم أو السوقة منهم. وقوله: "ومن ليس منهم" أي من رافقهم ولم يقصد موافقتهم. ولأبي نعيم من طريق سعيد بن سليمان عن إسماعيل بن زكريا "وفيهم أشرافهم" بالمعجمة والراء والفاء. وفي رواية محمد ابن بكار عند الإسماعيلي: "وفيهم سواهم" وقال وقع في رواية البخاري "أسواقهم" فأظنه تصحيفا فإن الكلام في الخسف بالناس لا بالأسواق. قلت: بل لفظ: "سواهم" تصحيف فإنه بمعنى قوله ومن ليس منهم فيلزم منه التكرار، بخلاف رواية البخاري. نعم أقرب الروايات إلى الصواب رواية أبي نعيم، وليس في لفظ: "أسواقهم" ما يمنع أن يكون الخسف بالناس فالمراد بالأسواق أهلها أي يخسف بالمقاتلة منهم ومن ليس من أهل القتال كالباعة. وفي رواية مسلم: "فقلنا إن الطريق يجمع الناس، قال نعم فيهم المستبصر - أي المستبين لذلك القاصد للمقاتلة - والمجبور بالجيم والموحدة - أي المكره - وابن السبيل - أي - مالك الطريق معهم وليس منهم" والغرض كله أنها استشكلت وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة فوقع الجواب بأن العذاب يقع عاما لحضور آجالهم ويبعثون بعد ذلك على نياتهم. وفي رواية مسلم: "يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى" وفي حديث أم سلمة عند مسلم: "فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارها؟ قال: يخسف به، ولكن يبعث يوم القيامة على نيته" أي يخسف بالجميع لشؤم

(4/340)


الأشرار ثم يعامل كل أحد عند الحساب بحسب قصده، قال المهلب: في هذا الحديث أن من كثر سواد قوم في المعصية مختارا أن العقوبة تلزمه معهم. قال واستنبط منه مالك عقوبة من يجالس شربة الخمر وإن لم يشرب، وتعقبه ابن المنير بأن العقوبة التي في الحديث هي الهجمة السماوية فلا يقاس عليها العقوبات الشرعية، ويؤيده آخر الحديث حيث قال: "ويبعثون على نياتهم" وفي هذا الحديث أن الأعمال تعتبر بنية العامل، والتحذير من مصاحبة أهل الظلم ومجالستهم وتكثير سوادهم إلا لمن اضطر إلى ذلك، ويتردد النظر في مصاحبة التاجر لأهل الفتنة هل هي إعانة لهم على ظلمهم أو هي من ضرورة البشرية، ثم يعتبر عمل كل أحد بنيته. وعلى الثاني يدل ظاهر الحديث. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون هذا الجيش الذي يخسف بهم هم الذين يهدمون الكعبة فينتقم منهم فيخسف بهم، وتعقب بأن في بعض طرقه عند مسلم: "إن ناسا من أمتي" والذين شهدونها من كفار الحبشة. وأيضا فمقتضى كلامه أنهم يخسف بهم بعد أن يهدموها ويرجعوا، وظاهر الخبر أنه يخسف بهم قبل أن يصلوا إليها. حديث أبي هريرة قد تقدم مستوفي في أبواب الجماعة. والغرض منه ذكر السوق وجواز الصلاة فيه، وقوله: "لا ينهزه" بضم أوله وسكون النون وكسر الهاء بعدها زاي: ينهضه وزنا ومعنى، والمراد لا يزعجه، والجملة بيان للجملة التي قبلها وهي "لا يريد إلا الصلاة" وقوله: "اللهم صل عليه" بيان لقوله يصلي عليه أي يقول اللهم صل عليه، وقوله: "ما لم يؤذ فيه"، أي يحصل منه أذى للملائكة أو لمسلم بالفعل أو بالقول. حديث أنس في سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" أورده من طريقين عن حميد عنه وسيأتي في كتاب الاستئذان، والغرض منه هنا قوله في أول الطريق الأولى "كان النبي صلى الله عليه وسلم في السوق" وفائدة إيراده الطريق الثانية قوله فيها إنه كان بالبقيع، فأشار إلى أن المراد بالسوق في الرواية الأولى السوق الذي كان بالبقيع، وقد قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} . قوله: "عن عبيد الله" بالتصغير، في رواية مسلم عن أحمد بن حنبل عن سفيان "حدثني عبيد الله" ولكنه أورده مختصرا جدا. قوله: "عن نافع بن جبير" هو المذكور في الحديث الأول، وليس له أيضا عن أبي هريرة في البخاري سوى هذا الحديث. قوله: "في طائفة من النهار" أي في قطعة منه، وحكى الكرماني أن في بعض الروايات "طائفة" بالصاد المهملة بدل طائفة أي في حر النهار، يقال يوم صائف أي حار. قوله: "لا يكلمني ولا أكلمه" أما من جانب النبي صلى الله عليه وسلم فلعله كان مشغول الفكر بوحي أو غيره، وأما من جانب أبي هريرة فللتوقير، وكان ذلك من شأن الصحابة إذا لم يروا منه نشاطا. قوله: "حتى أتى سوق بني قينقاع فجلس بفناء بيت فاطمة فقال" هكذا في نسخ البخاري، قال الداودي: سقط بعض الحديث عن الناقل، أو أدخل حديثا في حديث، لأن بيت فاطمة ليس في سوق بني قينقاع. انتهى. وما ذكره أولا احتمالا هو الواقع، ولم يدخل للراوي حديث في حديث، وقد أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان فأثبت ما سقط منه ولفظه: "حتى جاء سوق بني قينقاع، ثم انصرف حتى أتى فناء فاطمة" وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طرق عن سفيان، وأخرجه الحميدي في مسنده عن سفيان فقال فيه: "حتى أتى فناء عائشة فجلس فيه:" والأول أرجح، والفناء بكسر الفاء بعدها نون ممدودة أي الموضع المتسع أمام البيت. قوله: "أثم لكع" بهمزة الاستفهام بعدها مثلثة مفتوحة، ولكع بضم اللام وفتح الكاف، قال الخطابي: اللكع على معنيين أحدهما الصغير والآخر اللئيم، والمراد هنا الأول، والمراد بالثاني ما ورد في حديث أبي هريرة أيضا: "يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع "وقال ابن

(4/341)


التين: زاد ابن فارس أن العبد أيضا يقال له لكع. انتهى. ولعل من أطلقه على العبد أراد أحد الأمرين المذكورين. وقال بلال بن جرير التميمي: اللكع في لغتنا الصغير، وأصله في المهر ونحوه. وعن الأصمعي: اللكع الذي لا يهتدي لمنطق ولا غيره، مأخوذ من الملاكيع وهي التي تخرج من السلا. قال الأزهري: وهذا القول أرجح الأقوال هنا، لأنه أراد أن الحسن صغير لا يهتدي لمنطق، ولم يرد أنه لئيم ولا عبد.قوله: "فحبسته شيئا" أي منعته من المبادرة إلى الخروج إليه قليلا، والفاعل فاطمة. قوله: "فظننت أنها تلبسه سخايا" بكسر المهملة بعدها معجمة خفيفة وبموحدة، قال الخطابي: هي قلادة تتخذ من طيب ليس فيها ذهب ولا فضة. وقال الداودي من قرنفل. وقال الهروي هو خيط من خرز يلبسه الصبيان والجواري، وروى الإسماعيلي عن ابن أبي عمر أحد رواة هذا الحديث قال: السخاب شيء يعمل من الحنظل كالقميص والوشاح. قوله: "أو تغسله" في رواية الحميدي وتغسله بالواو. قوله: "فجاء يشتد" أي يسرع في المشي، في رواية عمر بن موسى عند الإسماعيلي: "فجاء الحسن" وفي رواية ابن أبي عمر عند الإسماعيلي: "فجاء الحسن أو الحسين" وقد أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر فقال في روايته: "أثم لكع؟ يعني حسنا" وكذا قال الحميدي في مسنده، وسيأتي في اللباس من طريق ورقاء عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ: "فقال أين لكع، ادع الحسن بن علي، فقال الحسن بن علي يمشي". قوله: "فجاء يشتد حتى عاتقه وقبله" في رواية ورقاء "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بيده هكذا". أي مدها. فقال الحسن بيده هكذا فالتزمه". قوله: "فقال اللهم أحبه" بفتح أوله بلفظ الدعاء. وفي رواية الكشميهني: "أحببه" بفك الإدغام، زاد مسلم عن ابن أبي عمر "فقال: اللهم إني أحبه فأحبه". وفي الحديث بيان ما كان الصحابة عليه من توقير النبي صلى الله عليه وسلم والمشي معه، وما كان عليه من التواضع من الدخول في السوق والجلوس بفناء الدار، ورحمة الصغير والمزاح معه ومعانقته وتقبيله، ومنقبة للحسن بن علي، وسيأتي الكلام عليها في مناقبه إن شاء الله تعالى. قوله: "قال سفيان" هو ابن عيينة، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "عبيد الله أخبرني" فيه تقديم اسم الراوي على الصيغة وهو جائز، وعبيد الله هو شيخ سفيان في الحديث المذكور، وأراد البخاري بإيراد هذه الزيادة بيان لفي عبيد الله لنافع بن جبير فلا تضر العنعنة في الطريق الموصولة لأن من ليس بمدلس إذا ثبت لقاؤه لمن حدث عنه حملت عنعنته على السماع اتفاقا، وإنما الخلاف في المدلس أو فيمن لم يثبت لقيه لمن روي عنه. وأبعد الكرماني فقال: إنما ذكر الوتر هنا لأنه لما روي الحديث الموصول عن نافع بن جبير انتهز الفرصة لبيان ما ثبت في الوتر مما اختلف في جوازه، والله أعلم. حديث ابن عمر في نقل الطعام من المكان الذي يشتري منه إلى حيث يباع الطعام وفيه حديثه في النهي عن بيع الطعام حتى يستوفيه وسيأتي الكلام عليهما بعد أربعة أبواب. وقد استشكل إدخال هذا الحديث في باب الأسواق، وأجيب بأن السوق اسم لكل مكان وقع فيه التبايع بين من يتعاطى البيع، فلا يختص الحكم المذكور بالمكان المعروف بالسوق بل يعم كل مكان يقع فيه التبايع، فالعموم في قوله في الحديث: "حيث يباع الطعام".

(4/342)


50 - باب كَرَاهِيَةِ السَّخَبِ فِي السُّوقِ
2125- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قُلْتُ أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ قَالَ أَجَلْ وَاللَّهِ

(4/342)


إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا تَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ هِلاَلٍ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ هِلاَلٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ سَلاَمٍ غُلْفٌ كُلُّ شَيْءٍ فِي غِلاَفٍ سَيْفٌ أَغْلَفُ وَقَوْسٌ غَلْفَاءُ وَرَجُلٌ أَغْلَفُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُونًا"
[الحديث 2125_ طرفه في 4838]
قوله: "باب كراهية السخب في الأسواق" بفتح المهملة والخاء المعجمة بعدها موحدة، ويقال فيه الصخب بالصاد المهملة بدل السين، وهو رفع الصوت بالخصام، وقد تقدم ذكره في الكلام على حديث أبي سفيان في قصة هرقل في أول الكتاب. وأخذت الكراهة من نفي الصفة المذكورة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما نفيت عنه صفة الفظاظة والغلظة. وأورد المصنف فيه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، والغرض منه قوله فيه: "ولا سخاب في الأسواق" وسيأتي الكلام على شرحه مستوفي في تفسير سورة الفتح، ويستفاد منه أن دخول الإمام الأعظم السوق لا يحط من مرتبته لأن النفي إنما ورد في ذم السخب فيها لا عن أصل الدخول. وهلال المذكور في إسناده هو ابن علي، ويقال له هلال بن أبي هلال، وليس لشيخه عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو في الصحيح غير هذا الحديث، وقوله فيه: "وحرزا" بكسر المهملة أي حافظا، وأصل الحرز الموضع الحصين، وهو استعارة. وقوله: "حتى يقيم به الملة العوجاء" أي ملة العرب، ووصفها بالعوج لما دخل فيها من عبادة الأصنام، والمراد بإقامتها أن يخرج أهلها من الكفر إلى الإيمان. وقوله: "وقلوب غلف" وقع في رواية النسفي والمستملي: "قال أبو عبد الله يعني المصنف: الغلف كل شيء في غلاف، يقال سيف أغلف وقوس غلفاء ورجل أغلف إذا لم يكن مختونا" انتهى. وهو كلام أبي عبيدة في "كتاب المجاز". قوله: "تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال" ستأتي هذه المتابعة موصولة في تفسير سورة الفتح. قوله: "وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن ابن سلام" سعيد هو ابن أبي هلال، وقد خالف عبد العزيز وفليحا في تعيين الصحابي، وطريقه هذه وصلها الدارمي في مسنده ويعقوب بن سفيان في تاريخه والطبراني جميعا بإسناد واحد عنه، ولا مانع أن يكون عطاء بن يسار حمله عن كل منهما، فقد أخرجه ابن سعد من طريق زيد بن أسلم قال: "بلغنا أن عبد الله بن سلام كان يقول: "فذكره. وأظن المبلغ لزيد هو عطاء بن يسار فإنه معروف بالرواية عنه فيكون هذا شاهدا لرواية سعيد بن أبي هلال والله أعلم. وسأذكر لرواية عبد الله بن سلام متابعات في تفسير سورة الفتح. ومما جاء عنه في ذلك مجملا ما أخرجه الترمذي من طريق محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده قال: "مكتوب في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم يدفن معه".

(4/343)


باب الكيل علي البائع و المعطي
...
51 - باب الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِي
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى[المطففين] : {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} يَعْنِي كَالُوا لَهُمْ وَوَزَنُوا لَهُمْ كَقَوْلِهِ [الشعراء 72] {يَسْمَعُونَكُمْ} يَسْمَعُونَ لَكُمْ.
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا وَيُذْكَرُ عَنْ

(4/343)


عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ إِذَا بِعْتَ فَكِلْ وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ"
2126- حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه"
2127-حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَاسْتَعَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَضَعُوا مِنْ دَيْنِهِ فَطَلَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ وَعَذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَيَّ فَفَعَلْتُ ثُمَّ أَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ فَجَلَسَ عَلَى أَعْلاَهُ أَوْ فِي وَسَطِهِ ثُمَّ قَالَ كِلْ لِلْقَوْمِ فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمْ الَّذِي لَهُمْ وَبَقِيَ تَمْرِي كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَالَ فِرَاسٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّاهُ وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "جُذَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ"
[الحديث2127- أطرافه في: 2395، 2396، 2405، 2601، 2709، 2781، 3580، 4053، 6250]
قوله: "باب الكيل على البائع والمعطى" أي مؤنة الكيل على المعطى بائعا كان أو موفى دين أو غير ذلك. ويلتحق بالكيل في ذلك الوزن فيما يوزن من السلع وهو قول فقهاء الأمصار، وكذلك مؤنة وزن الثمن على المشتري إلا نقد الثمن فهو على البائع على الأصح عند الشافعية. قوله: "وقول الله عز وجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} يعني كالوا لهم أو وزنوا لهم" هو تفسير أبي عبيدة في "المجاز" وبه جزم الفراء وغيره، وخالفهم عيسى بن عمر فكان يقف على كالوا وعلى وزنوا ثم يقول هم. وزيفه الطبري، والجمهور أعربوه على حذف الجار ووصل الفعل. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون على حذف المضاف وهو المكيل مثلا أي كالوا مكيلهم وقوله كقوله يسمعونكم أى يسمعون لكم. ومعنى الترجمة أن المرء يكيل له غيره إذا اشترى ويكيل هو إذا باع. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتالوا حتى تستوفوا" هذا طرف من حديث وصله النسائي وابن حبان من حديث طارق بن عبد الله المحاربي قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين" فذكر الحديث وفيه: "فلما أظهر الله الإسلام خرجنا إلى المدينة، فبينا نحن قعود إذ أتى رجل عليه ثوبان ومعنا جمل أحمر فقال: أتبيعون الجمل؟ قلنا نعم، فقال بكم؟ قلنا بكذا وكذا صاعا من تمر، قال: قد أخذت، فأخذ بخطام الجمل ثم ذهب حتى توارى، فلما كان العشاء أتانا رجل فقال أنا رسول رسول الله إليكم وهو يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا ففعلنا، ثم قدمنا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب" فذكر الحديث. ومطابقته للترجمة أن الاكتيال يستعمل لما يأخذه المرء لنفسه كما يقال اشتوى إذا اتخذ الشواء واكتسب إذا حصل الكسب، ويفسر ذلك حديث عثمان المذكور بعده. قوله: "ويذكر عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل" وصله الدار قطني من طريق عبيد الله بن المغيرة المصري عن منقذ مولى ابن سراقة عن عثمان بهذا، ومنقذ مجهول الحال، لكن له طريق أخرى أخرجها أحمد وابن ماجة والبزار

(4/344)


من طريق موسى بن وردان عن سعيد ابن المسيب عن عثمان به، وفيه ابن لهيعة ولكنه من قديم حديثه. لأن ابن عبد الحكم أورده في "فتوح مصر" من طريق الليث عنه، وأشار ابن التين إلى أنه لا يطابق الترجمة قال: لأن معنى قوله: "إذا بعت فكل" أى فأوف "وإذا ابتعت فاكتل" أي فاستوف، قال والمعنى أنه إذا أعطى أو أخذ لا يزيد ولا ينقص، أي لا لك ولا عليك انتهى. لكن في طريق الليث زيادة تساعد ما أشار إليه البخاري ولفظه: "إن عثمان قال: كنت أشتري التمر من سوق بني قينقاع ثم أجلبه إلى المدينة ثم أفرغه لهم وأخبرهم بما فيه من المكيلة فيعطوني ما رضيت به من الربح فيأخذونه ويأخذونه بخبري. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال، فظهر أن المراد بذلك تعاطى الكيل حقيقة لا خصوص طلب عدم الزيادة والنقصان، وله شاهد مرسل أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الحكم قال: "قدم لعثمان طعام" فذكر نحوه بمعناه. ثم أورد المصنف حديث ابن عمر "من باع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه:" وسيأتي الكلام عليه بعد أبواب، وحديث جابر في قصة دين أبيه، وسيأتي الكلام عليه وعلى ما اختلف من ألفاظه وطرقه في "علامات النبوة" إن شاء الله تعالى: والغرض منه قوله فيه: "ثم قال كل القوم" فإنه مطابق لقوله في الترجمة "الكيل على المعطى". وقوله فيه: "صنف تمرك أصنافا" أي اعزل كل صنف منه وحده، وقوله فيه: "وعذق ابن زيد" العذق بفتح العين النخلة وبكسرها العرجون والذال فيهما معجمة، وابن زيد شخص نسب إليه النوع المذكور من التمر. وأصناف تمر المدينة كثيرة جدا، فقد ذكر الشيخ أبو محمد الجويني في "الفروق" أنه كان بالمدينة فبلغه أنهم عدوا عند أميرها صنوف التمر الأسود خاصة فزادت على الستين، قال: والتمر الأحمر أكثر من الأسود عندهم. قوله: "وقال فراس عن الشعبي الخ" هو طرف من الحديث المذكور، وصله المؤلف في آخر أبواب الوصايا بتمامه وفيه اللفظ المذكور. قوله: "وقال هشام عن وهب عن جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "جذ له فأوف له" وهذا أيضا طرف من حديثه المذكور، وقد وصله المؤلف في الاستقراض بتمامه، وهشام المذكور هو ابن عروة، ووهب هو ابن كيسان. وقوله: "جذ" بلفظ الأمر من الجذاذ بالجيم والذال المعجمة وهو قطع العراجين، وبين في هذه الطريق قدر الدين وقدر الذي فضل بعد وفائه، وقد تضمن قوله: "فأوف له" معنى قوله: "كل للقوم".

(4/345)


باب مايستحب من الكيل
...
52 - باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْكَيْلِ
2128- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ"
قوله: "باب ما يستحب من الكيل" أي في المبايعات. قوله: "الوليد" هو ابن مسلم. قوله: "عن ثور" هو ابن يزيد الدمشقي. وفي رواية الإسماعيلي من طريق دحيم "عن الوليد حدثنا ثور". قوله: "عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب" هكذا رواه الوليد وتابعه يحيى بن حمزة عن ثور، وهكذا رواه عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن ثور أخرجه أحمد عنه وتابعه يحيى بن سعد1 عن خالد بن معدان، وخالفهم أبو الربيع الزهراني عن ابن المبارك فأدخل بين خالد والمقدام جبير بن نفير أخرجه الإسماعيلي أيضا، وروايته من المزيد في متصل
ـــــــ
1 لعله " بحير بن سعيد "وهو السحولي، فإنه يروى عن ابن معدان، وليس في الرواة عن ابن معدان يحيى ين سعد، ولا يحيى بن سعيد. محب الدين

(4/345)


الأسانيد. ووقع في رواية إسماعيل بن عياش عند الطبراني ونفيه1 عنده وعند ابن ماجة كلاهما عن يحيى2 بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام عن أبي أيوب الأنصاري زاد فيه أبا أيوب، وأشار الدار قطني إلى رجحان هذه الزيادة. قوله: "يبارك لكم" كذا في جميع روايات البخاري، ورواه أكثر من تقدم ذكره فزادوا في آخره: "فيه". قال ابن بطال: الكيل مندوب إليه فيما ينفقه المرء على عياله، ومعنى الحديث أخرجوا بكيل معلوم يبلغكم إلى المدة التي قدرتم، مع ما وضع الله من البركة في مد أهل المدينة بدعوته صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الجوزي: يشبه أن تكون هذه البركة للتسمية عليه عند الكيل. وقال المهلب: ليس بين هذا الحديث وحديث عائشة "كان عندي شطر شعير آكل منه حتى طال على فكلته ففني" يعني الحديث الآتي ذكره في الرقاق معارضة، لأن معنى حديث عائشة أنها كانت تخرج قوتها - وهو شيء يسير - بغير كيل فبورك لها فيه مع بركة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كالته علمت المدة التي يبلغ إليها عند انقضائها ا هـ. وهو صرف لما يتبادر إلى الذهن من معنى البركة، وقد وقع في حديث عائشة المذكور عند ابن حبان: "فما زلنا نأكل منه حتى كالته الجارية فلم نلبث أن فني، ولو لم تكله لرجوت أن يبقى أكثر" وقال المحب الطبري: لما أمرت عائشة بكيل الطعام ناظرة إلى مقتضى العادة غافلة عن طلب البركة في تلك الحالة ردت إلى مقتضى العادة ا هـ. والذي يظهر لي أن حديث المقدام محمول على الطعام الذي يشتري، فالبركة تحصل فيه بالكيل لامتثال أمر الشارع، وإذا لم يمتثل الأمر فيه بالاكتيال نزعت منه لشؤم العصيان، وحديث عائشة محمول على أنها كالته للاختبار فلذلك دخله النقص، وهو شبيه بقول أبي رافع لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم في الثالثة "ناولني الذراع، قال وهل للشاة إلا ذراعان فقال: لو لم تقل هذا لناولتني ما دمت أطلب منك "فخرج من شؤم المعارضة انتزاع البركة، ويشهد لما قلته حديث: "لا تحصى فيحصى الله عليك" الآتي. والحاصل أن الكيل بمجرده لا تحصل به البركة ما لم ينضم إليه أمر آخر وهو امتثال الأمر فيما يشرع فيه الكيل، ولا تنزع البركة من المكيل بمجرد الكيل ما لم ينضم إليه أمر آخر كالمعارضة والاختبار والله أعلم. ويحتمل أن يكون معنى قوله: "كيلوا طعامكم" أي إذا ادخرتموه طالبين من الله البركة واثقين بالإجابة، فكان من كاله بعد ذلك إنما يكيله ليتعرف مقداره فيكون ذلك شكا في الإجابة فيعاقب بسرعة نفاده، قاله المحب الطبري. ويحتمل أن تكون البركة التي تحصل بالكيل بسبب السلامة من سوء الظن بالخادم لأنه إذا أخرج بغير حساب قد يفرغ ما يخرجه وهو لا يشعر فيتهم من يتولى أمره بالأخذ منه، وقد يكون بريئا، وإذا كاله أمن من ذلك والله أعلم. وقد قيل: إن في "مسند البزار" أن المراد بكيل الطعام تصغير الأرغفة، ولم أتحقق ذلك ولا خلافه.
ـــــــ
1 كذا في طبعة بولاق "ولعل الصواب " بقية " وهو ابن الوليد عن بحير بن سعيد ---- محب الدين
2 لعله " بحير" بالباء الموحدة والراء وهو المذكور في التعليقين السابقين

(4/346)


باب بركة صاع النبي و مده
...
53 - باب بَرَكَةِ صَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُدِّهِ . فِيهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2129- حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَدَعَوْتُ لَهَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم لِمَكَّةَ

(4/346)


2130- حدثني عبد الله بن سلمة عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اللهم بارك لهم في مكيالهم ، وبارك لهم في صاعهم ومدهم . يعني أهل المدينة"
[الحديث2030- طرفاه في :6714 7331 ]
قوله: "باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده" في رواية النسفي "ومدهم" بصيغة الجمع كذا لأبي ذر عن غير الكشميهني وبه جزم الإسماعيلي وأبو نعيم، والضمير يعود للمحذوف في صاع النبي أي صاع أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ومدهم. ويحتمل أن يكون الجمع لإرادة التعظيم، وشرح ابن بطال على الأول. قوله: "فيه عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم" يشير إلى ما أخرجه موصولا من حديثها في آخر الحج عنها قالت: "وعك أبو بكر وبلال - الحديث وفيه - اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا" . قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل، وقد تقدم الكلام على ما تضمنه حديث عبد الله بن زيد وهو ابن عاصم المذكور هنا في أواخر الحج، وكذا حديث أنس وسيعاد في كتاب الاعتصام. "تنبيه": إيراد المصنف هذه الترجمة عقب التي قبلها يشعر بأن البركة المذكورة في حديث المقدام مقيدة بما إذا وقع الكيل بمد النبي صلى الله عليه وسلم وصاعه، ويحتمل أن يتعدى ذلك إلى ما كان موافقا لهما لا إلى ما يخالفهما. والله أعلم.

(4/347)


باب مايذكر في بيع الطعام و الحكرة
...
54 - باب مَا يُذْكَرُ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ وَالْحُكْرَةِ
2131- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ"
حديث ابن عمر في تأديب من يبيع الطعام قبل أن يؤويه إلى رحله، وسيأتي الكلام عليه بعد باب.
2132- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ طَعَامًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ ذَاكَ قَالَ ذَاكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ مُرْجَئُونَ[ التوبة 106] {مُؤَخَّرُونَ}
[الحديث 2132- طرفه في: 2135]
2133- حَدَّثَنِي أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ"
2134- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ كَانَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ مَنْ عِنْدَهُ صَرْفٌ فَقَالَ طَلْحَةُ أَنَا حَتَّى يَجِيءَ خَازِنُنَا مِنْ الْغَابَةِ قَالَ سُفْيَانُ هُوَ الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ فَقَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ

(4/347)


وَهَاءَ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ"
[الحديث 2134- طرفاه في: 2170، 2174]
قوله: "باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة" أي بضم المهملة وسكون الكاف: حبس السلع عن البيع، هذا مقتضى اللغة، وليس في أحاديث الباب للحكرة ذكر كما قال الإسماعيلي، وكأن المصنف استنبط ذلك من الأمر بنقل الطعام إلى الرحال ومنع بيع الطعام قبل استيفائه، فلو كان الاحتكار حراما لم يأمر بما يئول إليه، وكأنه لم يثبت عنده حديث معمر بن عبد الله مرفوعا: "لا يحتكر إلا خاطئ" أخرجه مسلم، لكن لمجرد إيواء الطعام إلى الرحال لا يستلزم الاحتكار الشرعي، لأن الاحتكار الشرعي إمساك الطعام عن البيع وانتظار الغلاء مع استغناء عنه وحاجة الناس إليه، وبهذا فسره مالك عن أبي الزناد عن سعيد ابن المسيب. وقال مالك فيمن رفع طعاما من ضيعته إلى بيته: ليست هذه بحكرة. وعن أحمد إنما يحرم احتكار الطعام المقتات دون غيره من الأشياء. ويحتمل أن يكون البخاري أراد بالترجمة بيان تعريف الحكرة التي نهى عنها في غير هذا الحديث وأن المراد بها قدر زائد على ما يفسره أهل اللغة، فساق الأحاديث التي فيها تمكين الناس من شراء الطعام ونقله، ولو كان الاحتكار ممنوعا لمنعوا من نقله، أو لبين لهم عند نقله الأمد الذي ينتهون إليه، أو لأخذ على أيديهم من شراء الشيء الكثير الذي هو مظنة الاحتكار، وكل ذلك مشعر بأن الاحتكار إنما يمنع في حالة مخصوصة بشروط مخصوصة. وقد ورد في ذم الاحتكار أحاديث: منها حديث معمر المذكور أولا وحديث عمر مرفوعا: "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس" رواه ابن ماجة وإسناده حسن، وعنه مرفوعا قال: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" أخرجه ابن ماجة والحاكم وإسناده ضعيف، وعن ابن عمر مرفوعا: "من احتكر طماعا أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ منه" أخرجه أحمد والحاكم وفي إسناده مقال، وعن أبي هريرة مرفوعا: "من احتكر حكرة يريد أن يغالي بها على المسلمين فهو خاطئ" أخرجه الحاكم. ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث: حديث وابن عمر في النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفي، وسيأتي الكلام عليهما في الباب الذي يليه. حديث ابن عباس في النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفي، وسيأتي الكلام عليهما في الباب الذي يليه حديث عمر "الذهب بالورق ربا" ومطابقته للترجمة لما فيه من اشتراط قبض الشعير وغيره من الربويات في المجلس فإنه داخل في قبض الطعام بغير شرط آخر. وقد استشعر ابن بطال مباينته للترجمة فأدخله في ترجمة "باب بيع ما ليس عندك" وهو مغاير للنسخ المروية عن البخاري. وقوله في حديث عمر "حدثنا علي" هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وقوله: "كان عمرو بن دينار يحدث عن الزهري عن مالك بن أوس أنه قال: من عنده صرف؟ فقال طلحة - أي ابن عبيد الله - أنا حتى يجيء خازننا من الغابة" تأتى بقيته في رواية مالك عن الزهري بعد نيف وعشرين بابا. قوله: "قال سفيان" هو ابن عيينة بالإسناد المذكور، وقوله: "هذا الذي حفظناه من الزهري ليس فيه زيادة" أشار إلى القصة المذكورة وأنه حفظ من الزهري المتن بغير زيادة، وقد حفظها مالك وغيره عن الزهري، وأبعد الكرماني فقال: غرض سفيان تصديق عمرو وأنه حفظ نظير ما روي. قوله: "الذهب بالورق" هكذا رواه أكثر أصحاب ابن عيينة عنه وهي رواية أكثر أصحاب الزهري. وقال بعضهم فيه الذهب بالذهب كما سيأتي شرحه في المكان المذكور إن شاء الله تعالى. قوله في آخر حديث ابن عباس "قال أبو عبد الله" أي المصنف "مرجئون" أي مؤرخون، وهذا في رواية المستملي

(4/348)


وحده، وهو موافق لتفسير أبي عبيدة حيث قال في قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} أي مؤخرون لأمر الله، يقال أرجأتك أي أخرتك، وأراد به البخاري شرح قول ابن عباس "والطعام مرجأ" أي مؤخر، ويجوز همز مرجأ وترك همزه، ووقع في كتاب الخطابي بتشديد الجيم بغير همز وهو للمبالغة.

(4/349)


باب بيع الطعام ان يقبض وبيع ما ليس عندك
...
55 - باب بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ
2135- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعَ طَاوُسًا يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُقْبَضَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلاَ أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ مِثْلَهُ"
2136- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ زَادَ إِسْمَاعِيلُ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ"
قوله: "باب بيع الطعام قبل أن يقبض، وبيع ما ليس عندك" لم يذكر في حديثي الباب بيع ما ليس عندك، وكأنه لم يثبت على شرطه فاستنبطه من النهي عن البيع قبل القبض. ووجه الاستدلال منه بطريق الأولى، وحديث النهي عن بيع ما ليس عندك أخرجه أصحاب السنن من حديث حكيم بن حزام بلفظ: "قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي، أبيعه منه ثم ابتاعه له من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك" وأخرجه الترمذي مختصرا ولفظه: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندي" قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين أحدهما أن يقول: أبيعك عبدا أو دارا معينة وهي غائبة، فيشبه بيع الغرر لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها، ثانيهما أن يقول: هذه الدار بكذا، على أن أشتريها لك من صاحبها، أو على أن يسلمها لك صاحبها ا هـ. وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة، وقوله: "الذي حفظناه من عمرو "كأن سفيان يشير إلى أن في رواية غير عمرو بن دينار عن طاوس زيادة على ما حدثهم به عمرو بن دينار عنه، كسؤال طاوس من ابن عباس عن سبب النهي وجوابه وغير ذلك. قوله عن ابن عباس "أما الذي نهى عنه الخ" أي وأما الذي لم أحفظ نهيه فما سوى ذلك. قوله: "فهو الطعام أن يباع حتى يقبض" في رواية مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه" قال مسعر: وأظنه قال: "أو علفا" وهو بفتح المهملة واللام والفاء. قوله: "قال ابن عباس لا أحسب كل شيء إلا مثله" ولمسلم من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه "وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام" وهذا من تفقه ابن عباس، ومال ابن المنذر إلى اختصاص ذلك بالطعام واحتج باتفاقهم على أن من اشترى عبدا فأعتقه قبل قبضه أن عتقه جائز، قال: فالبيع كذلك. وتعقب بالفارق وهو تشوف الشارع إلى العتق. وقول طاوس في الباب قبله "قلت لابن عباس كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدارهم والطعام مرجأ" معناه أنه استفهم عن سبب هذا النهي فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدارهم. ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم: "قال طاوس قلت لابن عباس: لم؟ قال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ" أي فإذا اشترى طعاما بمائه دينار

(4/349)


مثلا ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارا وقبضها والطعام في يد البائع فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارا، وعلى هذا التفسير لا يختص النهي بالطعام، ولذلك قال ابن عباس "لا أحسب كل شيء إلا مثله" ويؤيده حديث زيد بن ثابت "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان، قال القرطبي: هذه الأحاديث حجة على عثمان الليثي حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه، وقد أخذ بظاهرها مالك فحمل الطعام على عمومه وألحق بالشراء جميع المعاوضات، وألحق الشافعي وابن حبيب وسحنون بالطعام كل ما فيه حق توفية، وزاد أبو حنيفة والشافعي فعدياه إلى كل مشتري، إلا أن أبا حنيفة استثنى العقار وما لا ينقل، واحتج الشافعي بحديث عبد الله بن عمر وقال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن" أخرجه الترمذي. قلت: وفي معناه حديث حكيم بن حزام المذكور في صدر الترجمة. وفي صفة القبض عن الشافعي تفصيل: فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول، وما لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية، وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به، وفيه قول أنه يكفي فيه التخلية. قوله عقب حديث ابن عمر" زاد إسماعيل فلا يبعه حتى يقبضه" يعني أن إسماعيل ابن أبي أويس روى الحديث المذكور عن مالك بسنده بلفظ: "حتى يقبضه" بدل قوله: "حتى يستوفيه:" وقد وصله البيهقي من طريق إسماعيل كذلك. وقال الإسماعيلي: وافق إسماعيل على هذا اللفظ ابن وهب وابن مهدي والشافعي وقتيبة قلت: وقول البخاري "زاد إسماعيل" يريد الزيادة في المعنى، لأن في قوله حتى يقبضه زيادة في المعنى على قوله: "حتى يستوفيه" لأنه قد يستوفيه بالكيل بأن يكيله البائع ولا يقبضه للمشتري بل يحبسه عنده لينقده الثمن مثلا، وعرف بهذا جواب من اعترضه من الشراح فقال: ليس في هذه الرواية زيادة، وجواب من حمل الزيادة على مجرد اللفظ فقال: معناه زاد لفظا آخر وهو يقبضه وإن كان هو بمعنى يستوفيه، ويعرف من ذلك أن اختيار البخاري أن استيفاء المبيع المنقول من البائع وتبقيته في منزل البائع لا يكون قبضا شرعيا حتى ينقله المشتري إلى مكان لا اختصاص للبائع به كما تقدم نقله عن الشافعي، وهذا هو النكتة في تعقيب المصنف له بالترجمة الآتية.

(4/350)


باب راي اذا اشتري طعاما جزافا ان لايبيعه حتي يؤويه الى رحله و الادب في ذلك
...
56 - باب مَنْ رَأَى إِذَا اشْتَرَى طَعَامًا جِزَافًا أَنْ لاَ يَبِيعَهُ حَتَّى يُؤْوِيَهُ إِلَى رَحْلِهِ وَالأَدَبِ فِي ذَلِكَ
2137- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن بن شهاب قال أخبرني سالم بن عبد الله أن بن عمر رضي الله عنهما قال ثم لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون جزافا يعني الطعام يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم"
قوله: "باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله، والأدب في ذلك" أي تعزير من يبيعه قبل أن يؤويه إلى رحله. ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك، وهو ظاهر فيما ترجم له، وبه قال الجمهور، لكنهم لم يخصوه بالجزاف ولا قيدوه بالإيواء إلى الرحال، أما الأول فلما ثبت من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه فدخل فيه المكيل، وورد التنصيص على المكيل من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا أخرجه أبو داود. وأما الثاني فلأن الإيواء إلى الرحال خرج مخرج الغالب، وفي بعض طرق مسلم عن ابن عمر "كنا نبتاع الطعام فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه" وفرق مالك في المشهور

(4/350)


عنه بين الجزاف والمكيل: فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه وبه قال الأوزاعي وإسحاق، واحتج لهم بأن الجزاف مربى فتكفى فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون، وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا: "من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبيعه حتى يقبضه" ورواه أبو داود والنسائي بلفظ: "نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه:" والدار قطني من حديث جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع والمشتري" ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وفي ذلك دلالة على اشتراط القبض في المكيل بالكيل وفي الموزون بالوزن، فمن اشترى شيئا مكايلة أو موازنة فقبضه جزافا فقبضه فاسد، وكذا لو اشترى مكايلة فقبضه موازنة وبالعكس، ومن اشترى مكايلة وقبضه ثم باعه لغيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا، وبذلك كله قال الجمهور. وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا، وقيل إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول، والأحاديث المذكورة ترد عليه. وفي الحديث مشروعية تأديب من يتعاطى العقود الفاسدة، وإقامة الإمام على الناس من يراعى أحوالهم في ذلك والله أعلم. وقوله: "جزافا" مثلثة الجيم والكسر أفصح. وفي هذا الحديث جواز بيع الصبرة جزافا سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم، وعن مالك التفرقة، فلو علم لم يصح. وقال ابن قدامة: يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل البائع والمشتري قدرها فإن اشتراها جزافا ففي بيعها قبل نقلها روايتان عن أحمد، ونقلها قبضها.

(4/351)


57 - باب إِذَا اشْتَرَى مَتَاعًا أَوْ دَابَّةً فَوَضَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا أَدْرَكَتْ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ الْمُبْتَاعِ
2138- حدثنا فروة بن أبي المغراء أخبرنا علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم لقل يوم كان يأتي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا يأتي فيه بيت أبي بكر أحد طرفي النهار فلما أذن له في الخروج إلى المدينة لم يرعنا إلا وقد أتانا ظهرا فخبر به أبو بكر فقال ما جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة إلا لأمر حدث فلما دخل عليه قال لأبي بكر أخرج من عندك قال يا رسول الله إنما هما ابنتاي يعني عائشة وأسماء قال أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج قال الصحبة يا رسول الله قال الصحبة قال يا رسول الله إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج فخذ إحداهما قال قد أخذتها بالثمن"
قوله "باب إذا اشترى متاعا أو دابة فوضعها عند البائع أو مات قبل أن يقبض" أورد فيه حديث عائشة في قصة الهجرة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر عن الناقة "أخذتها بالثمن" قال المهلب: وجه الاستدلال به أن قوله: "أخذتها" لم يكن أخذا باليد ولا بحيازة شخصها وإنما كان التزاما منه لابتياعها بالثمن وإخراجها عن ملك أبي بكر ا هـ. وليس ما قاله بواضح لأن القصة ما سيقت لبيان ذلك، فلذلك اختصر فيها قدر الثمن وصفة العقد، فيحمل كل ذلك على أن الراوي اختصره لأنه ليس من غرضه في سياقه، وكذلك اختصر صفة القبض فلا يكون فيه حجة في عدم اشتراط القبض. وقال ابن المنير: مطابقة الحديث للترجمة من جهة أن البخاري أراد أن يحقق انتقال الضمان في الدابة ونحوها إلى

(4/351)


المشتري بنفس العقد، فاستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "قد أخذتها بالثمن" وقد علم أنه لم يقبضها بل أبقاها عند أبى بكر، ومن المعلوم أنه ما كان ليبقيها في ضمان أبي بكر لما يقتضيه مكارم أخلاقه حتى يكون الملك له والضمان على أبي بكر من غير قبض ثمن، ولا سيما وفي القصة ما يدل على إيثاره لمنفعة أبي بكر حيث أبى أن يأخذها إلا بالثمن. قلت: ولقد تعسف في هذا كما تعسف من قبله، وليس في الترجمة ما يلجئ إلى ذلك، فإن دلالة الحديث على قوله: "فوضعه عند البائع" ظاهرة جدا وقد قدمت أنه لا يستلزم صحة المبيع بغير قبض، وأما دلالته على قوله: "أو مات قبل أن يقبض" فهو وارد على سبيل الاستفهام، ولم يجزم بالحكم في ذلك بل هو على الاحتمال فلا حاجة لتحميله ما لم يتحمل، نعم ذكره لأثر ابن عمر في صدر الترجمة مشعر باختيار ما دل عليه فلذلك احتيج إلى إبداء المناسبة، والله الموفق. قوله: "وقال ابن عمر ما أدركت الصفقة" أي العقد "حيا" أي بمهملة وتحتانية مثقلة "مجموعا" أي لم يتغير عن حالته "فهو من المبتاع" أي من المشتري، وهذا التعليق وصله الطحاوي والدار قطني من طريق الأوزاعي عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه وقال في روايته: "فهو من مال المبتاع" ورواه الطحاوي أيضا من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري مثله لكن ليس فيه: "مجموعا" وإسناد الإدراك إلى العقد مجاز، أي ما كان عند العقد موجودا وغير منفصل، قال الطحاوي: ذهب ابن عمر إلى أن الصفقة إذا أدركت شيئا حيا فهلك بعد ذلك عند البائع فهو من ضمان المشتري، فدل على أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال قبل الفرقة بالأبدان ا هـ. وما قاله ليس بلازم، وكيف يحتج بأمر محتمل في معارضة أمر مصرح به، فابن عمر قد تقدم عنه التصريح بأنه كان يرى الفرقة بالأبدان، والمنقول عنه هنا يحتمل أن يكون قبل التفرق بالأبدان، ويحتمل أن يكون بعده فحمله على ما بعده أولى جمعا بين حديثيه. وقال ابن حبيب: اختلف العلماء فيمن باع عبدا واحتبسه بالثمن فهلك في يديه قبل أن يأتي المشتري بالثمن، فقال سعيد بن المسيب وربيعة: هو على البائع. وقال سليمان بن يسار هو على المشتري، ورجع إليه مالك بعد أن كان أخذ بالأول، وتابعه أحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال بالأول الحنفية والشافعية، والأصل في ذلك اشتراط القبض في صحة البيع، فمن اشترطه في كل شيء جعله من ضمان البائع ومن لم يشترطه جعله من ضمان المشتري والله أعلم، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طاوس في ذلك تفصيلا قال: إن قال البائع لا أعطيكه حتى تنقدني الثمن فهلك فهو من ضمان البائع، وإلا فهو من ضمان المشتري. وقد فسر بعض الشراح المبتاع في أثر ابن عمر بالعين المبيعة وهو جيد، وقد سئل الإمام أحمد عمن اشترى طعاما فطلب من يحمله فرجع فوجده قد احترق، فقال: هو من ضمان المشتري، وأورد أثر ابن عمر المذكور بلفظ: "فهو من مال المشتري" وفرع بعضهم على ذلك أن المبيع إذا كان معينا دخل في ضمان المشتري بمجرد العقد ولو لم يقبض، بخلاف ما يكون في الذمة فإنه لا يكون من ضمان المشتري إلا بعد القبض كما لو اشترى قفيزا من صبرة والله أعلم. وسيأتي الكلام على حديث عائشة في أول الهجرة إن شاء الله تعالى، فقد أورده هناك من وجه آخر عن عروة أتم من السياق الذي هنا، وبالله التوفيق.

(4/352)


باب لا يبيع علي بيع اخيه و لا يسوم علي سوم اخيه حتي ياذن له او يترك
...
58 - باب لاَ يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلاَ يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَتْرُكَ
2139- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ"
[الحديث 2139- طرفاه في: 2165، 5142]

(4/352)


2140- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلاَ تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا"
[الحديث 2140- أطرافه في: 2148، 2150، 2151، 2160، 2162، 2723، 2727، 5144، 5152، 6601]
قوله: "باب لا يبيع على بيع أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه، حتى يأذن له أو يترك" أورد فيه حديثي ابن عمر وأبي هريرة في ذلك، وأشار بالتقييد إلى ما ورد في بعض طرقه، وهو ما أخرجه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث بلفظ: " لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له" وقوله: "إلا أن يأذن له" يحتمل أن يكون استثناء من الحكمين كما هو قاعدة الشافعي، ويحتمل أن يختص بالأخير، ويؤيد الثاني رواية المصنف في النكاح من طريق ابن جريج عن نافع بلفظ: "نهي أن يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه، حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب" ومن ثم نشأ خلاف للشافعية: هل يختص ذلك بالنكاح أو يلتحق به البيع في ذلك؟ والصحيح عدم الفرق. وقد أخرجه النسائي من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر" وترجم البخاري أيضا بالسوم ولم يقع له ذكر في حديثي الباب، وكأنه أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه أيضا، وهو ما أخرجه في الشروط من حديث أبي هريرة بلفظ: "وأن يستام الرجل على سوم وأخيه" وأخرجه مسلم في حديث نافع عن ابن عمر أيضا. وذكر "المسلم:" لكونه أقرب إلى امتثال الأمر من غيره، وفي ذكره إيذان بأنه لا يليق به أن يستأثر على مسلم مثله. قوله: "لا يبيع" كذا للأكثر بإثبات الياء في "يبيع" على أن "لا" نافية، ويحتمل أن تكون ناهية وأشبعت الكسرة كقراءة من قرأ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ}، ويؤيده رواية الكشميهني بلفظ: "لا يبع" بصيغة النهي. قوله: "بعضكم على بيع أخيه" كذا أخرجه عن إسماعيل عن مالك، وسيأتي في "باب النهي عن تلقي الركبان" عن عبد الله بن يوسف عن مالك بلفظ: "على بيع بعض" وظاهر التقييد بأخيه أن يختص ذلك بالمسلم وبه قال الأوزاعي وأبو عبيد بن حربوية من الشافعية، وأصرح من ذلك رواية مسلم من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: "لا يسوم المسلم على سوم المسلم:" وقال الجمهور: لا فرق في ذلك بين المسلم والذمي: وذكر الأخ خرج للغالب فلا مفهوم له. قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا الخ" عطف صيغة النهي على معناها، فتقدير قوله: "نهي أن يبيع حاضر لباد" أي قال لا يبيع حاضر لباد فعطف عليه "ولا تناجشوا" وسيأتي الكلام على بيع الحاضر للبادي بعد في باب مفرد، وكذا على النجش في الباب الذي يليه. وقوله هنا "ولا تناجشوا" ذكره بصيغة التفاعل لأن التاجر إذا فعل لصاحبه ذلك كان بصدد أن يفعل له مثله، ويأتي الكلام على الخطبة في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. قال العلماء: البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء على الشراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار: افسخ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع افسخ لاشترى منك بأزيد، وهو مجمع عليه. وأما السوم فصورته أن يأخذ شيئا ليشتريه فيقول له رده لأبيعك خيرا منه بثمنه أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك استرده لأشتريه منك بأكثر، ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر، فإن كان ذلك

(4/353)


صريحا فلا خلاف في التحريم، وإن كان ظاهرا ففيه وجهان للشافعية، ونقل ابن حزم اشتراط الركون عن مالك وقال: إن لفظ الحديث لا يدل عليه، وتعقب بأنه لا بد من أمر مبين لموضع التحريم في السوم، لأن السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد لا يحرم اتفاقا كما نقله ابن عبد البر. فتعين أن السوم المحرم ما وقع فيه قدر زائد على ذلك، وقد استثنى بعض الشافعية من تحريم البيع والسوم على الآخر ما إذا لم يكن المشتري مغبونا غبنا فاحشا، وبه قال ابن حزم واحتج بحديث: "الدين النصيحة"، لكن لم تنحصر النصيحة في البيع والسوم فله أن يعرفه أن قيمتها كذا وأنك إن بعتها بكذا مغبون من غير أن يزيد فيها، فيجمع بذلك بين المصلحتين. وذهب الجمهور إلى صحة البيع المذكور مع تأثيم فاعله، وعند المالكية والحنابلة في فساده روايتان، وبه جزم أهل الظاهر، والله أعلم.

(4/354)


59 - باب بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ
وَقَالَ عَطَاءٌ أَدْرَكْتُ النَّاسَ لاَ يَرَوْنَ بَأْسًا بِبَيْعِ الْمَغَانِمِ فِيمَنْ يَزِيدُ
2141- حدثنا بشر بن محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا الحسين المكتب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ثم أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر فاحتاج فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يشتريه مني فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا فدفعه إليه"
[الحديث 2141- أطرافه في: 2230، 2321، 2403، 2415، 2534، 6716، 6947، 7186]
قوله: "باب بيع المزايدة" لما أن تقدم في الباب قبله النهي عن السوم أراد أن يبين موضع التحريم منه وقد أوضحته في الباب الذي قبله، وورد في البيع فيمن يزيد حديث أنس "أنه صلى الله عليه وسلم باع حلسا وقدحا وقال: من يشتري هذا الحلس والقدح؟ فقال رجل: أخذتها بدرهم، فقال: من يزيد على درهم؟ فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه" أخرجه أحمد وأصحاب السنن مطولا ومختصرا واللفظ للترمذي وقال حسن، وكأن المصنف أشار بالترجمة إلى تضعيف ما أخرجه البزار من حديث سفيان بن وهب سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهي عن بيع المزايدة" فإن في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف. قوله: "وقال عطاء أدركت الناس لا يرون بأسا ببيع المغانم فيمن يزيد" وصله ابن أبي شيبة؛ ونحوه عن عطاء ومجاهد، وروى هو وسعيد بن منصور عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا بأس ببيع من يزيد، وكذلك كانت تباع الأخماس. وقال الترمذي عقب حديث أنس المذكور: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لم يروا بأسا ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث، قال ابن العربي: لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث فإن الباب واحد والمعنى مشترك ا هـ. وكأن الترمذي يقيد بما ورد في حديث ابن عمر الذي أخرجه ابن خزيمة وابن الجارود والدار قطني من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع أحدكم على بيع أحد حتى يذر، إلا الغنائم والمواريث" ا هـ. وكأنه خرج على الغالب فيما يعتاد فيه البيع مزايدة وهي الغنائم والمواريث، ويلتحق بهما غيرهما للاشتراك في الحكم. وقد أخذ بظاهره الأوزاعي وإسحاق فخصا الجواز ببيع المغانم والمواريث. وعن إبراهيم النخعي أنه كره بيع من يزيد. ثم أورد المصنف حديث جابر في بيع المدبر وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه" وسيأتي شرحه مستوفي في "باب بيع المدبر" في أواخر البيوع. وقوله: "بكذا وكذا" يأتي أنه ثمانمائة درهم، ويأتي أيضا تسمية الرجل المذكور إن شاء الله تعالى. وقد اعترضه الإسماعيلي فقال: ليس في قصة المدبر بيع المزايدة فإن بيع المزايدة أن

(4/354)


يعطى به واحد ثمنا ثم يعطى به غيره زيادة عليها ا هـ. وأجاب ابن بطال بأن شاهد الترجمة منه قوله في الحديث: "من يشتريه مني" قال فعرضه للزيادة ليستقضي فيه للمفلس الذي باعه عليه، وسيأتي بيان كونه كان مفلسا في أواخر كتاب الاستقراض.

(4/355)


60 - باب النَّجْشِ وَمَنْ قَالَ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ الْبَيْعُ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ وَهُوَ خِدَاعٌ بَاطِلٌ لاَ يَحِلُّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"
2142- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّجْشِ"
[الحديث 2142- طرفه في: 6963]
قوله: "باب النجش" بفتح النون وسكون الجيم بعدها معجمة، وهو في اللغة تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد، يقال نجشت الصيد أنجشه بالضم نجشا. وفي الشرع الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، سمى بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة ويقع ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الإثم، ويقع ذلك بغير علم البائع فيختص بذلك الناجش، وقد يختص به البائع كمن يخبر بأنه اشترى سلعة بأكثر مما اشتراها به ليغر غيره بذلك كما سيأتي من كلام الصحابي في هذا الباب. وقال ابن قتيبة النجش الختل والخديعة، ومنه قيل للصائد ناجش لأنه يختل الصيد ويحتال له. قوله: "ومن قال لا يجوز ذلك البيع" كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق من طريق عمر بن عبد العزيز "أن عاملا له باع سبيا فقال له: لولا أني كنت أزيد فأنفقه لكان كاسدا، فقال له عمر: هذا نجش لا يحل، فبعث مناديا ينادي: إن البيع مردود وأن البيع لا يحل، قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان ذلك بمواطأة البائع أو صنعه، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية قياسا على المصراة، والأصح عندهم صحة البيع مع الإثم، وهو قول الحنفية. وقال الرافعي: أطلق الشافعي في "المختصر" تعصية الناجش، وشرط في تعصية من باع على بيع أخيه أن يكون عالما بالنهي. وأجاب الشارحون بأن النجش خديعة، وتحريم الخديعة واضح لكل أحد وإن لم يعلم هذا الحديث بخصوصه، بخلاف البيع على بيع أخيه فقد لا يشترك فيه كل أحد. واستشكل الرافعي الفرق بأن البيع على بيع أخيه إضرار والإضرار يشترك في علم تحريمه كل أحد، قال: فالوجه تخصيص المعصية في الموضعين بمن علم التحريم ا هـ. وقد حكى البيهقي في "المعرفة" و "السنن" عن الشافعي تخصيص التعصية في النجش أيضا بمن علم النهي فظهر أن ما قاله الرافعي بحثا منصوص، ولفظ الشافعي: النجش أن يحضر الرجل السلعة تباع فيعطي بها الشيء وهو لا يريد شراءها ليقتدى به السوام فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون لو لم يسمعوا سومه، فمن نجش فهو عاص بالنجش إن كان عالما بالنهي، والبيع جائز لا يفسده معصية رجل نجش عليه. قوله: "وقال ابن أبي أوفى: الناجش

(4/355)


آكل ربا خائن" هذا طرف من حديث أورده المصنف في الشهادات في "باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} . ثم ساق فيه من طريق السكسكي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: "أقام رجل سلعته فحلف بالله لقد أعطى فيها ما لم يعط فنزلت. قال ابن أبي أوفى: الناجش أكل ربا خائن" أورده من طريق يزيد بن هارون عن السكسكي، وقد أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور عن يزيد مقتصرين على الموقوف، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن ابن أبي أوفى مرفوعا لكن قال: "ملعون" بدل خائن ا هـ. وأطلق ابن أبي أوفى على من أخبر بأكثر مما اشترى به أنه ناجش لمشاركته لمن يزيد في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها في غرور الغير فاشتركا في الحكم لذلك وكونه آكل ربا بهذا التفسير، وكذلك يصح على التفسير الأول إن واطأه البائع على ذلك وجعل له عليه جعلا فيشتركان جميعا في الخيانة، وقد اتفق أكثر العلماء على تفسير النجش في الشرع بما تقدم، وقيد ابن عبد البر وابن العربي وابن حزم التحريم بأن تكون الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل، قال ابن العربي: فلو أن رجلا رأى سلعة رجل تباع بدون قيمتها فزاد فيها لتنتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشا عاصيا بل يؤجر على ذلك بنيته، وقد وافقه على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية، وفيه نظر إذ لم تتعين النصيحة في أن يوهم أنه يريد الشراء وليس من غرضه بل غرضه أن يزيد على من يريد الشراء أكثر مما يريد أن يشتري به، فللذي يريد النصيحة مندوحة عن ذلك أن يعلم البائع بأن قيمة سلعتك أكثر من ذلك ثم هو باختياره بعد ذلك، ويحتمل أن لا يتعين عليه إعلامه بذلك حتى يسأله للحديث الآتي "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه" والله أعلم. قوله: "وهو خداع باطل لا يحل" هو من تفقه المصنف، وليس من تتمة كلام ابن أبي أوفى، وقد ذكرنا توجيه ما قاله المصنف قبل. قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الخديعة في النار، ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" أما الحديث الثاني فسيأتي موصولا من حديث عائشة في كتاب الصلح، وأما حديث: "الخديعة في النار" فرويناه في "الكامل لابن عدي" من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المكر والخديعة في النار" لكنت من أمكر الناس، وإسناده لا بأس به. وأخرجه الطبراني في "الصغير" من حديث ابن مسعود والحاكم في "المستدرك" من حديث أنس وإسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة وفي إسناد كل منهما مقال، لكن مجموعهما يدل على أن للمتن أصلا، وقد رواه ابن المبارك في "البر والصلة" عن عوف عن الحسن قال: "بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" فذكره. قوله: "عن النجش" تقدم أن المشهور أنه بفتح الجيم وحكى المطرزي فيه السكون.

(4/356)


باب بيع الغرور و حبل الحبلة
...
61 - باب بَيْعِ الْغَرَرِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ
2143- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا"
[الحديث 2143- طرفاه في: 2256، 3843]
قوله: "باب بيع الغرر" بفتح المعجمة وبراءين "و" بيع" حبل الحبلة" بفتح المهلة والموحدة وقيل في الأول بسكون الموحدة وغلطه عياض، وهو مصدر حبلت تحبل حبلا والحبلة جمع حابل مثل ظلمة وظالم وكتبة وكاتب والهاء

(4/356)


فيه للمبالغة وقيل للإشعار بالأنوثة وقد ندر فيه امرأة حابلة فالهاء فيه للتأنيث، وقيل حبلة مصدر يسمى به المحبول، قال أبو عبيد: لا يقال لشيء من الحيوان حبلت إلا الآدميات إلا ما ورد في هذا الحديث. وأثبته صاحب "المحكم" قولا، فقال: اختلف أهي للإناث عامة أم للآدميات خاصة، وأنشد في التعميم قول الشاعر أو ذيخة حبلى مجح مقرب وفي ذلك تعقب على نقل النووي اتفاق أهل اللغة على التخصيص. ثم إن عطف بيع حبل الحبلة على بيع الغرر من عطف الخاص على العام، ولم يذكر في الباب بيع الغرر صريحا وكأنه أشار إلى ما أخرجه أحمد من طريق ابن إسحاق حدثني نافع وابن حبان من طريق سليمان التيمي عن نافع عن ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر" وقد أخرج مسلم النهي عن بيع الغرر من حديث أبي هريرة وابن ماجة من حديث ابن عباس والطبراني من حديث سهل ابن سعد، ولأحمد من حديث ابن مسعود رفعه: "لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر" وشراء السمك في الماء نوع من أنواع الغرر، ويلتحق به الطير في الهواء والمعدوم والمجهول والآبق ونحو ذلك. قال النووي: النهي عن بيع الغرر أصل من أصول البيع فيدخل تحته مسائل كثيرة جدا، ويستثنى من بيع الغرر أمران أحدهما ما يدخل في المبيع تبعا فلو أفرد لم يصح بيعه، والثاني ما يتسامح بمثله إما لحقارته أو للمشقة في تمييزه وتعيينه، فمن الأول بيع أساس الدار والدابة التي في ضرعها اللبن والحامل، ومن الثاني الجبة المحشوة والشرب من السقاء، قال وما اختلف العلماء فيه مبنى على اختلافهم في كونه حقيرا أو يشق تمييزه أو تعيينه فيكون الغرر فيه كالمعدوم فيصح البيع وبالعكس. وقال ومن بيوع الغرر ما اعتاده الناس من الاستجرار من الأسواق بالأوراق مثلا فإنه لا يصح لأن الثمن ليس حاضرا فيكون من المعاطاة ولم توجد صيغة يصح بها العقد، وروى الطبري عن ابن سيرين بإسناد صحيح قال: لا اعلم ببيع الغرر بأسا. قال ابن بطال: لعله لم يبلغه النهي وإلا فكل ما يمكن أن يوجد وإن لا يوجد لم يصح، وكذلك إذا كان لا يصح غالبا، فإن كان يصح غالبا كالثمرة في أول بدو صلاحها أو كان مستمرا تبعا كالحمل مع الحامل جاز لقلة الغرر، ولعل هذا هو الذي أراده ابن سيرين، لكن منع من ذلك ما رواه ابن المنذر عنه أنه قال: لا بأس ببيع العبد الآبق إذا كان علمهما فيه واحدا. فهذا يدل على أنه يرى بيع الغرر إن سلم في المال والله أعلم. قوله: "وكان" أي بيع حبل الحبلة" بيعا يتبايعه أهل الجاهلية الخ" كذا وقع هذا التفسير في الموطأ متصلا بالحديث، قال الإسماعيلي وهو مدرج يعني أن التفسير من كلام نافع، وكذا ذكر الخطيب في المدرج وسيأتي في آخر السلم عن موسى بن إسماعيل التبوذكي عن جويرية التصريح بأن نافعا هو الذي فسره، لكن لا يلزم من كون نافع فسره لجويرية أن لا يكون ذلك التفسير مما حمله عن مولاه ابن عمر، فسيأتي في أيام الجاهلية من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع ابن عمر قال: "كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك" فظاهر هذا السياق أن هذا التفسير من كلام ابن عمر ولهذا جزم ابن عبد البر بأنه من تفسير ابن عمر، وقد أخرجه مسلم من رواية الليث والترمذي والنسائي من رواية أيوب كلاهما عن نافع بدون التفسير، وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عمر بدون التفسير أيضا. قوله: "الجزور" بفتح الجيم وضم الزاي هو البعير ذكرا كان أو أنثى، إلا أن لفظه مؤنث تقول هذه الجزور وإن أردت ذكرا، فيحتمل أن يكون ذكره في الحديث قيدا فيما كان أهل الجاهلية يفعلونه فلا يتبايعون هذا البيع إلا في الجزور أو لحم الجزور، ويحتمل أن يكون ذكر على سبيل المثال، وأما في الحكم فلا فرق بين الجزور وغيرها في ذلك. قوله: "إلى أن

(4/357)


تنتج" بضم أوله وفتح ثالثه أي تلد ولدا، والناقة فاعل، وهذا الفعل وقع في لغة العرب على صيغة الفعل المسند إلى المفعول وهو حرف نادر، وقوله: "ثم تنتج التي في بطنها" أي ثم تعيش المولودة حتى تكبر ثم تلد، وهذا القدر زائد على رواية عبيد الله بن عمر فإنه اقتصر على قوله: "ثم تحمل التي في بطنها" ورواية جويرية أخصر منهما ولفظه: "أن تنتج الناقة ما في بطنها" وبظاهر هذه الرواية قال سعيد ابن المسيب فيما رواه عنه مالك. وقال به مالك والشافعي وجماعة، وهو أن يبيع بثمن إلى أن يلد ولد الناقة. وقال بعضهم: أن يبيع بثمن إلى أن تحمل الدابة وتلد ويحمل ولدها، وبه جزم أبو إسحاق في "التنبيه" فلم يشترط وضع حمل الولد كرواية مالك، ولم أر من صرح بما اقتضته رواية جويرية وهو الوضع فقط، وهو في الحكم مثل الذي قبله، والمنع في الصور الثلاث للجهالة في الأجل ومن حقه على هذا التفسير أن يذكر في السلم. وقال أبو عبيدة وأبو عبيد وأحمد وإسحاق وابن حبيب المالكي وأكثر أهل اللغة وبه جزم الترمذي: هو بيع ولد نتاج الدابة، والمنع في هذا من جهة أنه بيع معدوم ومجهول وغير مقدور على تسليمه فيدخل في بيوع الغرر، ولذلك صدر البخاري بذكر الغرر في الترجمة لكنه أشار إلى التفسير الأول بإيراد الحديث في كتاب السلم أيضا، ورجح الأول لكونه موافقا للحديث وإن كان كلام أهل اللغة موافقا للثاني، لكن قد روى الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر ما يوافق الثاني ولفظه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتبايعون ذلك البيع يبتاع الرجل بالشارف حبل الحبلة فنهوا عن ذلك "وقال ابن التين: محصل الخلاف هل المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين؟ وعلى الأول هل المراد بالأجل ولادة الأم أو ولادة ولدها؟ وعلى الثاني هل المراد بيع الجنين الأول أو بيع جنين الجنين؟ فصارت أربعة أقوال انتهى. وحكى صاحب "المحكم" قولا آخر أنه بيع ما في بطون الأنعام، وهو أيضا من بيوع الغرر، لكن هذا إنما فسر به سعيد بن المسيب - كما رواه مالك في الموطأ - بيع المضامين، وفسر به غيره بيع الملاقيح، واتفقت هذه الأقوال - على اختلافها - على أن المراد بالحبلة جمع حابل أو حابلة من الحيوان، إلا ما حكاه صاحب "المحكم" وغيره عن ابن كيسان أن المراد بالحبلة الكرمة، وأن النهي عن بيع حبلها أي حملها قبل أن تبلغ كما نهى عن بيع ثمر النخلة قبل أن تزهى، وعلى هذا فالحبلة بإسكان الموحدة وهو خلاف ما ثبتت به الروايات، لكن حكى في الكرمة فتح الباء، وادعى السهيلي تفرد ابن كيسان به، وليس كذلك فقد حكاه ابن السكيت في "كتاب الألفاظ" ونقله القرطبي في "المفهم" عن أبي العباس المبرد، والهاء على هذا للمبالغة وجها واحدا.

(4/358)


62 - باب بَيْعِ الْمُلاَمَسَةِ
وَقَالَ أَنَسٌ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2144- حدثنا سعيد بن عفير قال حدثني الليث قال حدثني عقيل عن بن شهاب قال أخبرني عامر بن سعد أن أبا سعيد رضي الله عنه أخبره ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه ونهى عن الملامسة والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه"
2145- حدثنا قتيبة حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ثم نهي عن لبستين أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد ثم يرفعه على منكبه وعن بيعتين اللماس

(4/358)


والنباذ"

(4/359)


63 - بَاب بَيْعِ الْمُنَابَذَةِ
وَقَالَ أَنَسٌ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2146- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ"
2147- حدثنا عياش بن الوليد حدثنا عبد الأعلى حدثنا معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبستين وعن بيعتين الملامسة والمنابذة"
قوله: "باب بيع الملامسة قال أنس: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه" ثم قال: "باب بيع المنابذة" وعلق عن أنس مثله، وأورد في البابين حديث أبي سعيد من وجهين وحديث أبي هريرة من وجهين. فأما حديث أنس فسيأتي موصولا بعد ثلاثين بابا في "باب بيع المخاضرة". قوله في حديث أبي سعيد "نهى عن المنابذة" وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى رجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، ونهى عن الملامسة، والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه، وسيأتي في اللباس من طريق يونس عن الزهري بلفظ: "والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك". والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر بثوبه ويكون بيعهما عن غير نظر ولا تراض. ولأبي عوانة من طريق أخرى عن يونس "وذلك أن يتبايع القوم السلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها أو يتنابذ القوم السلع كذلك "فهذا من أبواب القمار. وفي رواية ابن ماجة من طريق سفيان عن الزهري "والمنابذة أن يقول ألق إلى ما معك وألقى إليك ما معي". وللنسائي حديث أبي هريرة "الملامسة أن يقول الرجل للرجل أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر ولكن يلمسه لمسا، والمنابذة أن يقول أنبذ ما معي وتنبذ ما معك، يشتري كل واحد منهما من الآخر ولا يدري كل واحد منهما كم مع الآخر ونحو ذلك، ولم يذكر التفسير في طريق أبي سعيد الثانية هنا ولا في طريق أبي هريرة، وقد وقع التفسير أيضا عند أحمد من طريق معمر هذه أخرجه عن عبد الرزاق عنه وفي آخره: "والمنابذة أن يقول: إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع. والملامسة أن يلمس بيده ولا ينشره ولا يقلبه إذا مسه وجب البيع" ولمسلم من طريق عطاء بن ميناء عن أبي هريرة "أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل، والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر لم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه" وقد تقدم في الصيام من هذا الوجه وليس فيه التفسير، وهذا التفسير الذي في حديث أبي هريرة أقعد بلفظ الملامسة والمنابذة لأنها مفاعلة فتستدعى وجود الفعل من الجانبين. واختلف العلماء في تفسير الملامسة على ثلاث صور وهي أوجه للشافعية: أصحها أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستام فيقول له صاحب الثوب بعتكه بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك ولا خيار لك إذا رأيته، وهذا هو موافق للتفسيرين اللذين في الحديث الثاني، أن يجعلا نفس اللمس بيعا بغير صيغة زائدة. الثالث أن يجعلا اللمس شرطا في قطع خيار المجلس وغيره. والبيع على التأويلات كلها باطل، ومأخذ الأول عدم شرط رؤية المبيع واشتراط نفي الخيار، ومأخذ الثاني اشتراط نفي الصيغة في عقد البيع فيؤخذ منه بطلان بيع المعاطاة مطلقا، لكن من أجاز المعاطاة قيدها بالمحقرات أو بما جرت فيه العادة بالمعاطاة،

(4/359)


وأما الملامسة والمنابذة عند من يستعملهما فلا يخصهما بذلك، فعلى هذا يجتمع بيع المعاطاة مع الملامسة والمنابذة في بعض صور المعاطاة، فلمن يجيز بيع المعاطاة أن يخص النهي في بعض صور الملامسة والمنابذة عما جرت العادة فيه بالمعاطاة، وعلى هذا يحمل قول الرافعي: إن الأئمة أجروا في بيع الملامسة والمنابذة الخلاف الذي في المعاطاة والله أعلم. ومأخذ الثالث شرط نفي خيار المجلس، وهذه الأقوال هي التي اقتصر عليها الفقهاء، ونخرج مما ذكرناه من طرق الحديث زيادة على ذلك. وأما المنابذة فاختلفوا فيها أيضا على ثلاثة أقوال وهي أوجه للشافعية أصحها: أن يجعلا نفس النبذ بيعا كما تقدم في الملامسة وهو الموافق، للتفسير في الحديث المذكور، والثاني أن يجعلا النبذ بيعا بغير صيغة، والثالث أن يجعلا النبذ قاطعا للخيار. واختلفوا في تفسير النبذ فقيل: هو طرح الثوب كما وقع تفسيره في الحديث المذكور، وقيل هو نبذ الحصاة، والصحيح أنه غيره. وقد روى مسلم النهي عن بيع الحصاة من حديث أبي هريرة. واختلف في تفسير بيع الحصاة فقيل هو أن يقول بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه هذه الحصاة ويرمي حصاة، أو من هذه الأرض ما انتهت إليه في الرمي، وقيل هو أن يشترط الخيار إلى أن يرمي الحصاة، والثالث: أن يجعلا نفس الرمي بيعا. وقوله في الحديث: "لمس الثوب لا ينظر إليه" استدل به على بطلان بيع الغائب وهو قول الشافعي في الجديد، وعن أبي حنيفة يصح مطلقا ويثبت الخيار إذا رآه وحكى عن مالك والشافعي أيضا، وعن مالك يصح إن وصفه وإلا فلا، وهو قول الشافعي في القديم وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأهل الظاهر، واختاره البغوي والروياني من الشافعية وإن اختلفوا في تفاصيله، ويؤيده قوله في رواية أبى عوانة التي قدمتها "لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها" وفي الاستدلال لذلك وفاقا وخلافا طول، واستدل به على بطلان بيع الأعمى مطلقا وهو قول معظم الشافعية حتى من أجاز منهم بيع الغائب لكون الأعمى لا يراه بعد ذلك فيكون كبيع الغائب مع اشتراط نفي الخيار، وقيل يصح إذا وصفه له غيره وبه قال مالك وأحمد، وعن أبي حنيفة يصح مطلقا على تفاصيل عندهم أيضا. "تنبيهات": الأول وقع عند ابن ماجة أن التفسير من قول سفيان بن عيينة، وهو خطأ من قائله بل الظاهر أنه قول الصحابي كما سأبينه بعد. الحديث الثاني حديث أبي سعيد اختلف فيه على الزهري: فرواه معمر وسفيان وابن أبي حفصة وعبد الله بن بديل وغيرهم عنه عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد، ورواه عقيل ويونس وصالح بن كيسان وابن جريح عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبي سعيد، وروى ابن جريج بعضه عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي سعيد، وهو محمول عند البخاري على أنها كلها عند الزهري، واقتصر مسلم على طريق عامر بن سعد وحده وأعرض عما سواها؛ وقد خالفهم كلهم الزبيدي فرواه عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة، وخالفهم أيضا جعفر بن برقان فرواه عن الزهري عن سالم عن أبيه وزاد في آخره: "وهي بيوع كانوا يتبايعون بها في الجاهلية" أخرجهما النسائي وخطأ رواية جعفر. الثالث حديث أبي هريرة أخرجه البخاري عنه من طرق ثالثها طريق حفص بن عاصم عنه وهو في مواقيت الصلاة ولم يذكر في شيء من طرقه عنه تفسير المنابذة والملاسة، وقد وقع تفسيرهما في رواية مسلم والنسائي كما تقدم، وظاهر الطرق كلها أن التفسير من الحديث المرفوع، لكن وقع في رواية النسائي ما يشعر بأنه من كلام من دون النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: "وزعم أن الملامسة أن يقول الخ" فالأقرب أن يكون ذلك من كلام الصحابي لبعد أن يعبر الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ زعم، ولوقوع التفسير في حديث أبي سعيد الخدري من قوله أيضا كما تقدم. الرابع وقع في حديث أبي هريرة في الطريق الأولى هنا نهى عن لبستين، واقتصر على لبسة

(4/360)


واحدة ولم يذكره في موضع آخر، وقد وقع بيان الثانية عند أحمد من طريق هشام عن محمد بن سيرين ولفظه: "أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء، وأن يرتدي في ثوب يرفع طرفيه على عاتقيه".

(4/361)


باب النهى للبائع ان لايحفل الابل و البقر و الغنم وكل محفلة
...
64 - باب النَّهْيِ لِلْبَائِعِ أَنْ لاَ يُحَفِّلَ الإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَكُلَّ مُحَفَّلَةٍ
وَالْمُصَرَّاةُ الَّتِي صُرِّيَ لَبَنُهَا وَحُقِنَ فِيهِ وَجُمِعَ فَلَمْ يُحْلَبْ أَيَّامًا وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ الْمَاءِ يُقَالُ مِنْهُ صَرَّيْتُ الْمَاءَ إِذَا حَبَسْتَهُ"
2148- حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الأَعْرَجِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ وَمُوسَى بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعَ تَمْرٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَلاَثًا وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ"
2149- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَرَدَّهَا فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُلَقَّى الْبُيُوعُ"
[الحديث2149- طرفه في: 2164]
2150- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلاَ تُصَرُّوا الْغَنَمَ وَمَنْ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ"
قوله: "باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم" كذا في معظم الروايات. و "لا" زائدة وقد ذكره أبو نعيم بدون "لا" ويحتمل أن تكون "أن" مفسرة و "لا يحفل" بيان للنهي. وفي رواية النسفي "نهى البائع أن يحفل الإبل والغنم" وقيد النهي بالبائع إشارة إلى أن المالك لو حفل فجمع اللبن للولد أو لعياله أو لضيفه لم يحرم وهذا هو الراجح كما سيأتي، وذكر البقر في الترجمة وإن لم يذكر في الحديث إشارة إلى أنها في معنى الإبل والغنم في الحكم خلافا لداود، وإنما اقتصر عليهما لغلبتهما عندهم، والتحفيل بالمهملة والفاء التجميع، قال أبو عبيد: سميت بذلك لأن اللبن يكثر في ضرعها، وكل شيء كثرته فقد حفلته تقول: ضرع حافل أي عظيم واحتفل القوم إذا كثر جمعهم ومنه سمى المحفل. قوله: "وكل محفلة" بالنصب عطفا على المفعول وهو من عطف العام على الخاص إشارة إلى أن إلحاق غير النعم من مأكول اللحم بالنعم للجامع بينهما وهو تغرير المشتري. وقال الحنابلة وبعض الشافعية: يختص ذلك بالنعم، واختلفوا في غير المأكول كالأتان والجارية فالأصح لا يرد للبن عوضا، وبه قال الحنابلة في الأتان دون

(4/361)


الجارية. قوله: "والمصراة" بفتح المهملة وتشديد الراء "التي صرى لبنها وحقن فيه" أي في الثدي "وجمع فلم يحلب" وعطف الحقن على التصرية عطف تفسيري لأنه بمعناه. قوله: "وأصل التصرية حبس الماء يقال: منه صريت الماء إذا حبسته" وهذا التفسير قول أبي عبيد وأكثر أهل اللغة. وقال الشافعي: هو ربط أخلاف الناقة أو الشاة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشتري أن ذلك عادتها فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها. قوله: "لا تصروا" بضم أوله وفتح ثانيه بوزن تزكوا يقال صرى يصري تصرية كزكى يزكي تزكية. والإبل بالنصب على المفعولية، وقيده بعضهم بفتح أوله وضم ثانيه، والأول أصح لأنه من صريت اللبن في الضرع إذا جمعته وليس من صررت الشيء إذا ربطته، إذ لو كان منه لقيل مصرورة أو مصررة ولم يقل مصراة، على أنه قد سمع الأمران في كلام العرب. قال الأغلب:
رأت غلاما قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان سيرته
وقال مالك بن نويرة:
فقلت لقومي هذه صدقاتكم ... مصررة أخلافها لم تحرر
وضبطه بعضهم بضم أوله وفتح ثانيه لكن بغير واو على البناء للمجهول والمشهور الأول. قوله: "الإبل والغنم" لم يذكر البقر، وقد تقدم بيانه في الترجمة، وظاهر النهي تحريم التصرية سواء قصد التدليس أم لا وسيأتي في الشروط من طريق أبي حازم عن أبي هريرة "نهى عن التصرية" وبهذا جزم بعض الشافعية وعلله بما فيه من إيذاء الحيوان لكن أخرج النسائي حديث الباب من طريق سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج بلفظ: "لا تصروا الإبل والغنم للبيع" وله من طريق أبي كثير السحيمي عن أبي هريرة "إذا باع أحدكم الشاة أو اللقحة فلا يحفلها" وهذا هو الراجح وعليه يدل تعليل الأكثر بالتدليس، ويجاب عن التعليل بالإيذاء بأنه ضرر يسير لا يستمر فيغتفر لتحصيل المنفعة. قوله: "فمن ابتاعها بعد" أي من اشتراها بعد التحفيل، زاد عبيد الله بن عمر عن أبي الزناد "فهو بالخيار ثلاثة أيام" أخرجه الطحاوي وسيأتي ذكر من وافقه على ذلك، وابتداء هذه المدة من وقت بيان التصرية وهو قول الحنابلة، وعند الشافعية أنها من حين العقد وقيل من التفرق، ويلزم عليه أن يكون الغرر أوسع من الثلاث في بعض الصور وهو ما إذا تأخر ظهور التصرية إلى آخر الثلاث، ويلزم عليه أيضا أن تحسب المدة قبل التمكن من الفسخ وذلك يفوت مقصود التوسع بالمدة. قوله: "بخير النظرين" أي الرأيين. قوله: "أن يحتلبها" كذا في الأصل وهو بكسر أن على أنها شرطية وجزم يحتلبها، ولابن خزيمة والإسماعيلي من طريق أسيد بن موسى عن الليث "بعد أن يحتلبها" بفتح أن ونصب يحتلبها، وظاهر الحديث أن الخيار لا يثبت إلا بعد الحلب، والجمهور على أنه إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار ولو لم يحلب، لكن لما كانت التصرية لا تعرف غالبا إلا بعد الحلب ذكر قيدا في ثبوت الخيار، فلو ظهرت التصرية بغير الحلب فالخيار ثابت. قوله: "إن شاء أمسك" في رواية مالك عن أبي الزناد في آخر الباب: "إن رضيها أمسكها" أي أبقاها على ملكه وهو يقتضي صحة بيع المصراة وإثبات الخيار للمشتري، فلو اطلع على عيب بعد الرضا بالتصرية فردها هل يلزم الصاع؟ فيه خلاف، والأصح عند الشافعية وجوب الرد، ونقلوا نص الشافعي على أنه لا يرد، وعند المالكية قولان. قوله: "وإن شاء ردها" في رواية مالك "وإن سخطها ردها" وظاهره اشتراط الفور وقياسا على سائر العيوب، لكن الرواية التي فيها أن له الخيار ثلاثة أيام مقدمة على

(4/362)


هذا الإطلاق، ونقل أبو حامد والروياني فيه نص الشافعي وهو قول الأكثر، وأجاب من صحح الأول بأن هذه الرواية محمولة على ما إذا لم يعلم أنها مصراة إلا في الثلاث لكون الغالب أنها لا تعلم فيما دون ذلك، قال ابن دقيق العيد: والثاني أرجح لأن حكم التصرية قد خالف القياس في أصل الحكم لأجل النص فيطرد ذلك ويتبع في جميع موارده. قلت: ويؤيده أن في بعض روايات أحمد والطحاوي من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة "فهو بأحد النظرين: بالخيار إلى أن يحوزها أو يردها وسيأتي". قوله: "وصاع تمر" في رواية مالك "وصاعا من تمر" والواو عاطفة للصاع على الضمير في ردها، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ويستفاد منه فورية الصاع مع الرد، ويجوز أن يكون مفعولا معه، ويعكر عليه قول جمهور النحاة إن شرط المفعول معه أن يكون فاعلا، فإن قيل التعبير بالرد في المصراة واضح فما معنى التعبير بالرد في الصاع؟ فالجواب أنه مثل قول الشاعر علفتها تبنا وماء باردا أي علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا، ويجعل علفتها مجازا عن فعل شامل للأمرين أي ناولتها، فيحمل الرد في الحديث على نحو هذا التأويل، واستدل به على وجوب رد الصاع مع الشاة إذا اختار فسخ البيع، فلو كان اللبن باقيا ولم يتغير فأراد رده هل يلزم البائع قبوله؟ فيه وجهان أصحهما لا، لذهاب طراوته ولاختلاطه بما تجدد عند المبتاع، والتنصيص على التمر يقتضى تعيينه كما سيأتي. قوله: "ويذكر عن أبي صالح ومجاهد والوليد بن رباح وموسى بن يسار الخ" يعني أن أبا صالح ومن بعده وقع في رواياتهم تعيين التمر، فأما رواية أبي صالح فوصلها أحمد ومسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه بلفظ: "من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام فإن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر " وأما رواية مجاهد فوصلها البزار، قال مغلطاي لم أرها إلا عنده. قلت: قد وصلها أيضا الطبراني في "الأوسط" من طريق محمد بن مسلم الطائفي عن ابن أبي نجيح، والدار قطني من طريق ليث ابن أبي سليم كلاهما عن مجاهد، وأول رواية ليث "لا تبيعوا المصراة من الإبل والغنم" الحديث، وليث ضعيف وفي محمد بن مسلم أيضا لين وأما رواية الوليد بن رباح وهو بفتح الراء وبالموحدة فوصلها أحمد ابن منيع في مسنده بلفظ: "من اشترى مصراة فليرد معها صاعا من تمر" وأما رواية موسى بن يسار - وهو بالتحتانية والمهملة - فوصلها مسلم بلفظ: "من اشترى شاة مصراة فلينقلب بها فليحلبها فإن رضى بها أمسكها وإلا ردها ومعها صاع من تمر" وسياقه يقتضى الفورية. قوله: "وقال بعضهم عن ابن سيرين" صاعا من طعام وهو بالخيار ثلاثا" وقال بعضهم عن ابن سيرين "صاعا من تمر" ولم يذكر ثلاثا" أما رواية من رواه بلفظ الطعام والثلاث فوصلها مسلم والترمذي من طريق قرة بن خالد عنه بلفظ: "من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها صاعا من طعام لا سمراء" وأخرجه أبو داود من طريق حماد بن سلمة عن هشام وحبيب وأيوب عن ابن سيرين نحوه، وأما رواية من رواه بلفظ التمر دون ذكر الثلاث فوصلها أحمد من طريق معمر عن أيوب عن ابن سيرين بلفظ: "من اشترى شاة مصراة فإنه يحلبها فإن رضيها أخذها وإلا ردها ورد معها صاعا من تمر" وقد رواه سفيان عن أيوب فذكر الثلاث أخرجه مسلم من طريقه بلفظ: "من اشترى شاة مصراة فهو يخير النظرين ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر لا سمراء" ورواه بعضهم عن ابن سيرين بذكر الطعام ولم يقل ثلاثا أخرجه أحمد والطحاوي من طريق عون عن ابن سيرين وخلاس بن عمرو كلاهما عن أبي هريرة بلفظ: "من اشترى لقحة مصراة أو شاة مصراة فحلبها فهو بأحد النظرين بالخيار إلى أن يحوزها أو يردها وإناء من طعام" فحصلنا عن ابن سيرين على أربع روايات: ذكر التمر والثلاث، وذكر التمر بدون الثلاث

(4/363)


والطعام بدل التمر كذلك. والذي يظهر في الجمع بينها أن من زاد الثلاث معه زيادة علم وهو حافظ، ويحمل الأمر فيمن لم يذكرها على أنه لم يحفظها أو اختصرها وتحمل الرواية التي فيها الطعام على التمر، وقد روى الطحاوي من طريق أيوب عن ابن سيرين أن المراد بالسمراء الحنطة الشامية وروى ابن أبي شيبة وأبو عوانة من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين "لا سمراء" يعني الحنطة. وروى ابن المنذر من طريق ابن عون عن ابن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول: "لا سمراء، تمر ليس ببر" فهذه الروايات تبين أن المراد بالطعام التمر، ولما كان المتبادر إلى الذهن أن المراد بالطعام القمح نفاه بقوله: "لا سمراء". لكن يعكر على هذا الجمع ما رواه البزار من طريق أشعث بن عبد الملك عن ابن سيرين بلفظ: "إن ردها ردها ومعها صاع من بر، لا سمراء" وهذا يقتضى أن المنفي في قوله لا سمراء حنطة مخصوصة وهي الحنطة الشامية فيكون المثبت لقوله: "من طعام" أي من قمح، ويحتمل أن يكون راويه رواه بالمعنى الذي ظنه مساويا، وذلك أن المتبادر من الطعام البر فظن الراوي أنه البر فعبر به، وإنما أطلق لفظ الطعام على التمر لأنه كان غالب قوت أهل المدينة، فهذا طريق الجمع بين مختلف الروايات عن ابن سيرين في ذلك، لكن يعكر على هذا ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من الصحابة نحو حديث الباب وفيه: "فإن ردها رد معها صاعا من طعام أو صاعا من تمر" فإن ظاهره يقتضي التخيير بين التمر والطعام وأن الطعام غير التمر ويحتمل أن تكون "أو" شكا من الراوي لا تخييرا، وإذا وقع الاحتمال في هذه الروايات لم يصح الاستدلال بشيء منها فيرجع إلى الروايات التي لم يختلف فيها وهي التمر فهي الراجحة كما أشار إليه البخاري، وأما ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر بلفظ: "إن ردها رد معها مثل أو مثلى لبنها قمحا" ففي إسناده ضعف، وقد قال ابن قدامة إنه متروك الظاهر بالاتفاق. قوله: "والتمر أكثر" أي أن الروايات الناصة على التمر أكثر عددا من الروايات التي لم تنص عليه أو أبدلته بذكر الطعام. فقد رواه بذكر التمر - غير من تقدم ذكره - ثابت بن عياض كما يأتي في الباب الذي يليه وهمام بن منبه عند مسلم وعكرمة وأبو إسحاق عند الطحاوي ومحمد بن زياد عند الترمذي والشعبي عند أحمد وابن خزيمة كلهم عن أبي هريرة، وأما رواية من رواه بذكر الإناء فيفسرها رواية من رواه بذكر الصاع وقد تقدم ضبطه في الزكاة، وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جمهور أهل العلم وأفتى به ابن مسعود وأبو هريرة ولا مخالف لهم من الصحابة. وقال به من التابعين ومن بعدهم من لا يحصى عدده ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلا أو كثيرا، ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا، وخالف في أصل المسألة أكثر الحنفية وفي فروعها آخرون، أما الحنفية فقالوا لا يرد بعيب التصرية ولا يجب رد صاع من التمر، وخالفهم زفر فقال بقول الجمهور إلا أنه قال يتخير بين صاع تمر أو نصف صار بر، وكذا قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف في رواية إلا أنهما قالا لا يتعين صاع التمر بل قيمته. وفي رواية عن مالك وبعض الشافعية كذلك لكن قالوا يتعين قوت البلد قياسا على زكاة الفطر، وحكى البغوي أن لا خلاف في المذهب أنهما لو تراضيا بغير التمر من قوت أو غيره كفي، وأثبت ابن كج الخلاف في ذلك، وحكى الماوردي وجهين فيما إذا عجز عن التمر هل تلزمه قيمته ببلده أو بأقرب البلاد التي فيها التمر إليه؟ وبالثاني قال الحنابلة، واعتذر الحنفية عن الأخذ بحديث المصراة بأعذار شتى: فمنهم من طعن في الحديث لكونه من رواية أبي هريرة ولم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة فلا يأخذ بما رواه مخالفا للقياس الجلي، وهو كلام آذى قائله به نفسه، وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه، وقد ترك أبو حنيفة القياس

(4/364)


الجلى لرواية أبي هريرة وأمثاله كما في الوضوء بنبيذ التمر ومن القهقهة في الصلاة وغير ذلك، وأظن أن لهذه النكتة أورد البخاري حديث ابن مسعود عقب حديث أبي هريرة إشارة منه إلى أن ابن مسعود قد أفتى بوفق حديث أبي هريرة فلولا أن خبر أبي هريرة في ذلك ثابت لما خالف ابن مسعود القياس الجلي في ذلك. وقال ابن السمعاني في "الاصطلام" : التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله بل هو بدعة وضلالة، وقد اختص أبو هريرة بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له - يعني المتقدم في كتاب العلم وفي أول البيوع أيضا - وفيه قوله: "إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا" الحديث. ثم مع ذلك لم ينفرد أبو هريرة برواية هذا الأصل، فقد أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عنه، وأبو يعلى من حديث أنس، وأخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث عمرو بن عوف المزني، وأخرجه أحمد من رواية رجل من الصحابة لم يسم. وقال ابن عبد البر: هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل واعتل من لم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها، ومنهم من قال هو حديث مضطرب لذكر التمر فيه تارة والقمح أخرى واللبن أخرى، واعتباره بالصاع تارة، وبالمثل أو المثلين تارة وبالإناء أخرى. والجواب أن الطرق الصحيحة لا اختلاف فيها كما تقدم، والضعيف لا يعل به الصحيح. ومنهم من قال هو معارض لعموم القرآن كقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وأجيب بأنه من ضمان المتلفات لا العقوبات، والمتلفات تضمن بالمثل وبغير المثل. ومنهم من قال هو منسوخ، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا دلالة على النسخ مع مدعيه لأنهم اختلفوا في الناسخ فقيل: حديث النهي عن بيع الدين بالدين، وهو حديث أخرجه ابن ماجة وغيره من حديث ابن عمر، ووجه الدلالة منه أن لبن المصراة يصير دينا في ذمة المشتري، فإذا ألزم بصاع من تمر نسيئة صار دينا بدين، وهذا جواب الطحاوي، وتعقب بأن الحديث ضعيف، باتفاق المحدثين، وعلى التنزل فالتمر إنما شرع في مقابل الحلب سواء كان اللبن موجودا أو غير موجود فلم يتعين في كونه من الدين بالدين، وقيل ناسخه حديث: "الخراج بالضمان" وهو حديث أخرجه أصحاب السنن عن عائشة، ووجه الدلالة منه أن اللبن فضلة من فضلات الشاة ولو هلكت لكان من ضمان المشتري فكذلك فضلاتها تكون له فكيف يغرم بدلها للبائع؟ حكاه الطحاوي أيضا، وتعقب بأن حديث المصراة أصح منه باتفاق فكيف يقدم المرجوح على الراجح؟ ودعوى كونه بعده لا دليل عليها، وعلى التنزال فالمشتري لم يؤمر بغرامة ما حدث في ملكه بل بغرامة اللبن الذي ورد عليه العقد ولم يدخل في العقد فليس بين الحديثين على هذا تعارض. وقيل ناسخه الأحاديث الواردة في رفع العقوبة بالمال، وقد كانت مشروعة قبل ذلك كما في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده في مانع الزكاة "فإنا آخذوها وشطر ماله" وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في الذي يسرق من الجرين يغرم مثليه وكلاهما في السنن، وهذا جواب عيسى بن أبان، فحديث المصراة من هذا القبيل وهي كلها منسوخة، وتعقبه الطحاوي بأن التصرية إنما وجدت من البائع، فلو كان من ذلك الباب للزمه التغريم، والفرض أن حديث المصراة يقتضي تغريم المشتري فافترقا. ومنهم من قال ناسخه حديث: "والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا" وهذا جواب محمد بن شجاع، ووجه الدلالة منه أن الفرقة تقطع الخيار فثبت أن لا خيار بعدها إلا لمن استثناه الشارع بقوله: "إلا بيع الخيار" وتعقبه الطحاوي بأن الخيار الذي في المصراة من خيار الرد بالعيب، وخيار الرد بالعيب لا تقطعه الفرقة، ومن الغريب أنهم لا يقولون بخيار المجلس ثم يحتجون به

(4/365)


فيما لم يرد فيه. ومنهم من قال هو خبر واحد لا يفيد إلا الظن، وهو مخالف لقياس الأصول المقطوع به فلا يلزم العمل به، وتعقب بأن التوقف في خبر الواحد إنما هو في مخالفة الأصول لا في مخالفة قياس الأصول، وهذا الخير إنما خالف قياس الأصول بدليل أن الأصول الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والكتاب والسنة في الحقيقة هما الأصل والآخران مردودان إليهما، فالسنة أصل والقياس فرع فكيف يرد الأصل بالفرع؟ بل الحديث الصحيح أصل بنفسه فكيف يقال إن الأصل يخالف نفسه؟ وعلى تقدير التسليم يكون قياس الأصول يفيد القطع وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن، فتناول الأصل لا يخالف هذا الخبر الواحد غير مقطوع به لجواز استثناء محله عن ذلك الأصل. قال ابن دقيق العيد: وهذا أقوى متمسك به في الرد على هذا المقام. وقال ابن السمعاني: متى ثبت الخبر صار أصلا من الأصول ولا يحتاج إلى عرضه على أصل آخر لأنه إن وافقه فذاك وإن خالفه فلا يجوز رد أحدهما لأنه رد للخبر بالقياس وهو مردود باتفاق فإن السنة مقدمة على القياس بلا خلاف، إلى أن قال: والأولى عندي في هذه المسألة تسليم الأقيسة لكنها ليست لازمة لأن السنة الثابتة مقدمة عليها والله تعالى أعلم. وعلى تقدير التنزل فلا نسلم أنه مخالف لقياس الأصول لأن الذي ادعوه عليه من المخالفة بينوها بأوجه: أحدها: أن المعلوم من الأصول أن ضمان المثليات بالمثل والمتقومات بالقيمة، وهاهنا إن كان اللبن مثليا فليضمن باللبن وإن كان متقوما فليضمن بأحد النقدين، وقد وقع هنا مضمونا بالتمر فخالف الأصل. والجواب منع الحصر، فإن الحر يضمن في ديته بالإبل وليست مثلا ولا قيمة. وأيضا فضمان المثل بالمثل ليس مطردا فقد يضمن المثل بالقيمة إذا تعذرت المماثلة كمن أتلف شاة لبونا كان عليه قيمتها، ولا يجعل بإزاء لبنها لبنا آخر لتعذر المماثلة. ثانيها: أن القواعد تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف وذلك مختلف، وقد قدر هنا بمقدار واحد وهو الصاع فخرج عن القياس. والجواب منع التعميم في المضمونات كالموضحة فأرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر، والغرة مقدرة في الجنين مع اختلافه، والحكمة في ذلك أن كل ما يقع فيه التنازع فليقدر بشيء معين لقطع التشاجر، وتقدم هذه المصلحة على تلك القاعدة فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط باللبن الموجود وقت العقد فلم يعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري، ولو عرف مقداره فوكل إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لأفضى إلى النزاع والخصام، فقطع الشارع النزاع والخصام وقدره بحد لا يتعديانه فصلا للخصومة. وكان تقديره بالتمر أقرب الأشياء إلى اللبن فإنه كان قوتهم إذ ذاك كاللبن وهو مكيل كاللبن ومقتات فاشتركا في كون كل واحد منهما مطعوما مقتاتا مكيلا، واشتركا أيضا في أن كلا منهما يقتات به بغير صنعة ولا علاج. ثالثها: أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرد فقد حدث على ملك المشتري فلا يضمنه، وإن كان مختلطا فما كان منه موجودا عند العقد وما كان حادثا لم يجب ضمانه، والجواب أن يقال إنما يمتنع الرد بالنقص إذا لم يكن لاستعلام العيب وإلا فلا يمتنع وهنا كذلك. رابعها: أنه خالف الأصول في جعل الخيار فيه ثلاثا مع أن خيار العيب لا يقدر بالثلاث وكذا خيار المجلس عند من يقول به وخيار الرؤية عند من يثبته، والجواب بأن حكم المصراة انفرد بأصله عن مماثلة فلا يستغرب أن ينفرد بوصف زائد على غيره، والحكمة فيه أن هذه المدة هي التي يتبين بها لبن الخلقة من اللبن المجتمع بالتدليس غالبا فشرعت لاستعلام العيب، بخلاف خيار الرؤية والعيب فلا يتوقف على مدة، وأما خيار المجلس فليس لاستعلام العيب، فظهر الفرق بين الخيار في المصراة وغيرها. خامسها: أنه يلزم من الأخذ به الجمع بين العوض والمعوض فيما إذا

(4/366)


كانت قيمة الشاة صاعا من تمر فإنها ترجع إليه من الصاع الذي هو مقدار ثمنها. والجواب أن التمر عوض عن اللبن لا عن الشاة فلا يلزم ما ذكروه. سادسها: أنه مخالف لقاعدة الربا فيما إذا اشترى شاة بصاع فإذا استرد معها صاعا فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن فيكون قد باع شاة وصاعا بصاع، والجواب أن الربا إنما يعتبر في العقود لا الفسوخ، بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يحز أن يتفرقا قبل القبض، فلو تقايلا في هذا العقد بعينه جاز التفرق قبل القبض. سابعها: أنه يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها فيما إذا كان اللبن موجودا، والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها كالمغصوب. والجواب أن اللبن وإن كان موجودا لكنه تعذر رده، لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد وتعذر تمييزه فأشبه الآبق بعد الغصب فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر الرد. ثامنها: أنه يلزم منه إثبات الرد بغير عيب ولا شرط، أما الشرط فلم يوجد وأما العيب فنقصان اللبن لو كان عيبا لثبت به الرد من غير تصرية، والجواب أن الخيار يثبت بالتدليس كمن باع رحى دائرة بما جمعه لها بغير علم المشتري فإذا اطلع عليه المشتري كان له الرد، وأيضا فالمشتري لما رأى ضرعا مملوءا لبنا ظن أنه عادة لها فكأن البائع شرط له ذلك فتبين الأمر بخلافه فثبت له الرد لفقد الشرط المعنوي لأن البائع يظهر صفة المبيع تارة بقوله وتارة بفعله فإذا أظهر المشتري على صفة فبان الأمر بخلافها كان قد دلس عليه فشرع له الخيار وهذا هو محض القياس ومقتضى العدل، فإن المشتري إنما بذل ماله بناء على الصفة التي أظهرها له البائع، وقد أثبت الشارع الخيار للركبان إذا تلقوا واشترى منهم قبل أن يهبطوا إلى السوق ويعلموا السعر وليس هناك عيب ولا خلف في شرط. ولكن لما فيه من الغش والتدليس. ومنهم من قال الحديث صحيح لا اضطراب فيه ولا علة ولا نسخ وإنما هو محمول على صورة مخصوصة وهو ما إذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب مثلا خمسة أرطال وشرط فيها الخيار فالشرط فاسد، فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صح العقد وإن لم يتفقا بطل العقد ووجب رد الصاع من التمر لأنه كان قيمة اللبن يومئذ، وتعقب بأن الحديث ظاهر في تعليق الحكم التصرية، وما ذكره هذا القائل يقتضى تعليقه بفساد الشرط سواء وجدت التصرية أم لا فهو تأويل متعسف، وأيضا فلفظ الحديث لفظ عموم، وما ادعوه على تقدير تسليمه فرد من أفراد ذلك العموم فيحتاج من ادعى قصر العموم عليه الدليل على ذلك ولا وجود له، قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصل في النهي عن الغش، وأصل في ثبوت الخيار لمن دلس عليه بعيب، وأصل في أنه لا يفسد أصل البيع، وأصل في أن مدة الخيار ثلاثة أيام، وأصل في تحريم التصرية وثبوت الخيار بها، وقد روى أحمد وابن ماجة عن ابن مسعود مرفوعا: "بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم:" وفي إسناده ضعف قد رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق موقوفا بإسناد صحيح، وروى ابن أبي شيبة من طريق قيس بن أبي حازم قال كان يقال: التصرية خلابة، وإسناده صحيح، واختلف القائلون به في أشياء منها لو كان عالما بالتصرية هل يثبت له الخيار؟ فيه وجه للشافعية، ويرجح أنه لا يثبت رواية عكرمة عن أبي هريرة في هذا الحديث عند الطحاوي فإن لفظه: "من اشترى مصراة ولم يعلم أنها مصراة" الحديث. ولو صار لبن المصراة عادة واستمر على كثرته هل له الرد؟ فيه وجه لهم أيضا خلافا للحنابلة في المسألتين. ومنها لو تحفلت بنفسها أو صرها المالك لنفسه ثم بدا له فباعها فهل يثبت ذلك الحكم؟ فيه خلاف: فمن نظر إلى المعنى أثبته لأن العيب مثبت للخيار ولا يشترط فيه تدليس للبائع، ومن نظر إلى أن حكم التصرية خارج عن القياس خصه بمورده وهو حالة العمد فإن النهي إنما تناولها فقط. ومنها لو كان الضرع مملوءا لحما وظنه المشتري لبنا فاشتراها على ذلك ثم ظهر له أنه لحم هل

(4/367)


يثبت له الخيار؟ فيه وجهان حكاهما بعض المالكية. ومنها لو اشترى غير المصراة ثم اطلع على عيب بها بعد حلبها، فقد نص الشافعي على جواز الرد مجانا لأنه قليل غير معتنى بجمعه، وقيل يرد بدل اللبن كالمصراة. وقال البغوي يرد صاعا من تمر. قوله: "حدثنا مسدد حدثنا معتمر" سيأتي في "باب النهي عن تلقي الركبان" بعد سبعة أبواب عن مسدد عن يزيد بن زريع، وكأن الحديث عند مسدد عن شيخين فذكره المصنف عنه في موضعين، وسياقه عن معتمر أتم. قوله: "سمعت أبي" هو سليمان التيمي، وأبو عثمان هو النهدي، ورجال الإسناد بصريون سوى الصحابي قوله: "قال من اشترى شاة محفلة فردها فليرد معها صاعا من تمر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تلقى البيوع" هكذا رواه الأكثر عن معتمر بن سليمان موقوفا، وأخرجه الإسماعيلي من طريق عبيد الله ابن معاذ عن معتمر مرفوعا وذكر أن رفعه غلط، ورواه أكثر أصحاب سليمان عنه كما هنا: حديث المحفلة موقوف من كلام ابن مسعود، وحديث النهي عن التلقي مرفوع. وخالفهم أبو خالد الأحمر عن سليمان التيمي فرواه بهذا الإسناد مرفوعا أخرجه الإسماعيلي وأشار إلى وهمه أيضا. قوله: "فردها" أي أراد ردها، بقرينة قوله: "فليرد معها" عملا بحقيقة المعية، أو تحمل المعية على البعدية فلا يحتاج الرد إلى تأويل. وقد وردت مع بمعنى البعدية كقوله تعالى: { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} الآية. قوله في رواية مالك "لا تلقوا الركبان" يأتي الكلام عليه بعد أبواب وعلى بيع الحاضر للبادي قريبا، ومضى الكلام على البيع وعلى النجش، ومضى الكلام على التصرية بما يغني عن إعادته.

(4/368)


باب بيع المصراة وفي حلبتها صاع من تمر
...
65 - باب إِنْ شَاءَ رَدَّ الْمُصَرَّاةَ وَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ
2151- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ"
قوله: "باب إن شاء رد المصرأة وفي حلبتها" بسكون اللام على أنه اسم الفعل ويجوز الفتح على إرادة المحلوب، وظاهره أن التمر مقابل للحلبة، وزعم ابن حزم أن التمر في مقابلة الحلب لا في مقابلة اللبن لأن الحلبة حقيقة في الحلب مجاز في اللبن والحمل على الحقيقة أولى فلذلك قال يجب رد التمر واللبن معا وشذ بذلك عن الجمهور. قوله: "حدثنا محمد بن عمرو" كذا للأكثر غير منسوب، ووقع في رواية عبد الرحمن الهمداني عن المستملي: "محمد بن عمرو بن جبلة" وكذا قال أبو أحمد الجرجاني في روايته عن الفربري. وفي رواية أبي علي بن شبويه عن الفربري "حدثنا محمد بن عمرو يعني ابن جبلة" وأهمله الباقون، وجزم الدار قطني بأنه محمد بن عمرو أبو غسان الرازي المعروف بزنيج، وجزم الحاكم والكلاباذي بأنه محمد بن عمرو السواق البلخي، والأول أولى، والله أعلم. قوله: "حدثنا المكي" هو ابن إبراهيم، وهو من مشايخ البخاري وستأتي روايته عنه بلا واسطة في "باب لا يشتري حاضر لباد". قوله: "أخبرني زياد" هو ابن سعد الخراساني. قوله: "أن ثابتا" هو ابن عياض، وعبد الرحمن بن زيد مولاه من فوق أي ابن الخطاب. قوله: "من اشترى غنما مصراة فاحتلبها" ظاهره أن صاع التمر متوقف على الحلب كما تقدم. قوله: "ففي حلبتها صاع من تمر" ظاهره أن صاع التمر في مقابل المصراة سواء كانت واحدة أو أكثر لقوله: "من اشترى

(4/368)


غنما "ثم قال: "ففي حلبتها صاع من تمر" ونقله ابن عبد البر عمن استعمل الحديث، وابن بطال عن أكثر العلماء، وابن قدامة عن الشافعية والحنابلة، وعن أكثر المالكية يرد عن كل واحدة صاعا حتى قال المازري: من المستبشع أن يغرم متلف لبن ألف شاة كما يغرم متلف لبن شاة واحدة، وأجيب بأن ذلك مغتفر بالنسبة إلى ما تقدم من أن الحكمة في اعتبار الصاع قطع النزاع فجعل حدا يرجع إليه عند التخاصم فاستوى القليل والكثير، ومن المعلوم أن لبن الشاة الواحدة أو الناقة الواحدة يختلف اختلافا متباينا، ومع ذلك فالمعتبر الصاع سواء قل اللبن أم كثر، فكذلك هو معتبر سواء قلت المصراة أو كثرت.
والله تعالى أعلم.

(4/369)


66 - باب بَيْعِ الْعَبْدِ الزَّانِي
وَقَالَ شُرَيْحٌ إِنْ شَاءَ رَدَّ مِنْ الزِّنَا
2152- حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث قال حدثني سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمعه يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر"
[الحديث 2152- أطرافه في 2153، 2233، 2234، 2555، 6837، 6839]
2153- 2154- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير قال بن شهاب لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة"
[الحديث 2154- أطرافه في: 2232، 2556، 6838]
قوله: "باب بيع العبد الزاني" أي جوازه مع بيان عيبه. قوله: "وقال شريح إن شاء رد من الزنا" وصله سعيد بن منصور من طريق ابن سيرين أن رجلا اشترى من رجل جارية كانت فجرت ولم يعلم بذلك المشتري، فخاصمه إلى شريح فقال: إن شاء رد من الزنا، وإسناده صحيح. ثم أورد المصنف في الباب حديث: "إذا زنت الأمة فليجلدها" الحديث أورده من وجهين، وشاهد الترجمة منه قوله في آخره: "فليبعها ولو بحبل من شعر" فإنه يدل على جواز بيع الزاني، ويشعر بأن الزنا عيب في المبيع لقوله ولو بحبل من شعر، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: فائدة الأمر ببيع الأمة الزانية المبالغة في تقبيح فعلها، والإعلام بأن الأمة الزانية لا جزاء لها إلا البيع أبدا، وأنها لا تبقى عند سيد زجرا لها عن معاودة الزنا، ولعل ذلك يكون سببا لإعفافها إما أن يزوجها المشتري أو يعفها بنفسه أو يصونها بهيبته.

(4/369)


67- باب الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَعَ النِّسَاءِ
2155- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال عروة بن الزبير قالت عائشة رضي الله عنها ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتري وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق

(4/369)


باب هل يبيع حاضر لباد بغير اجر و هل يعينه او ينصحه
...
68 - باب هَلْ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيْرِ أَجْرٍ وَهَلْ يُعِينُهُ أَوْ يَنْصَحُهُ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ
2157- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ سَمِعْتُ جَرِيرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"
2158- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ قَالَ فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ لاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ قَالَ لاَ يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا"
[الحديث 2158- طرفاه في: 2163، 2274]
قوله: "باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر، وهل يعينه أو ينصحه" قال ابن المنير وغيره: حمل المصنف النهي عن بيع الحاضر للبادي على معنى خاص وهو البيع بالأجر أخذا من تفسير ابن عباس، وقوى ذلك بعموم أحاديث "الدين النصيحة" لأن الذي يبيع بالأجرة لا يكون غرضه نصح البائع غالبا وإنما غرضه تحصيل الأجرة فاقتضى ذلك

(4/370)


إجازة بيع الحاضر للبادي بغير أجرة من باب النصيحة. قلت: ويؤيده ما سيأتي في بعض طرق الحديث المعلق أول أحاديث الباب، وكذلك ما أخرجه أبو داود من طريق سالم المكي "أن أعرابيا حدثه أنه قدم بحلوبة له على طلحة بن عبيد الله، فقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد، ولكن اذهب إلى السوق فانظر من يبايعك فشاورني حتى آمرك وأنهاك". قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له" هو طرف من حديث وصله أحمد من حديث عطاء بن السائب عن حكيم بن أبى يزيد عن أبيه "حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح الرجل الرجل فلينصح له" ورواه البيهقي من طريق عبد الملك بن عمير عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا مثله، وقد أخرجه مسلم من طريق أبي خيثمة عن أبي الزبير بلفظ: "لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" . قوله: "ورخص فيه عطاء" أي في بيع الحاضر للبادي، وصله عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الله ابن عثمان أي ابن خثيم عن عطاء بن أبي رباح قال: "سألته عن أعرابي أبيع له فرخص لي "وأما ما رواه سعيد بن منصور من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: "إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد لأنه أراد أن يصيب المسلمون غرتهم، فأما اليوم فلا بأس. فقال عطاء: لا يصلح اليوم. فقال مجاهد. ما أرى أبا محمد إلا لو أتاه ظئر له من أهل البادية إلا سيبيع له"، فالجمع بين الروايتين عن عطاء أن يحمل قوله هذا على كراهة التنزيه ولهذا نسب إليه مجاهد ما نسب، وأخذ بقول مجاهد في ذلك أبو حنيفة وتمسكوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" وزعموا أنه ناسخ لحديث النهي، وحمل الجمهور حديث: "الدين النصيحة" على عمومه إلا في بيع الحاضر للبادي فهو خاص فيقضى على العام والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وجمع البخاري بينهما بتخصيص النهي بمن يبيع له بالأجرة كالسمسار، وأما من ينصحه فيعلمه بأن السعر كذا مثلا فلا يدخل في النهي عنده والله أعلم. ثم أورد المصنف في الباب حديثين: حديث جرير في النصح لكل مسلم وقد تقدم الكلام عليه في آخر كتاب الإيمان. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد قوله: "لا تلقوا الركبان" زاد الكشميهني في روايته: "للبيع" وسيأتي الكلام عليه قريبا. قوله: "لا يكون له سمسارا" بمهملتين هو في الأصل القيم بالأمر والحافظ له، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره، وفي هذا التفسير تعقب على من فسر الحاضر بالبادي بأن المراد نهى الحاضر أن يبيع للبادي في زمن الغلاء شيئا يحتاج إليه أهل البلد فهذا مذكور في كتب الحنفية. وقال غيرهم: صورته أن يجيء البلد غريب بسلعته يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه بلدي فيقول له: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر، فجعلوا الحكم منوطا بالبادي ومن شاركه في معناه. قال وإنما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب فالحق به من يشاركه في عدم معرفة السعر الحاضر وإضرار أهل البلد بالإشارة عليه بأن لا يبادر بالبيع، وهذا تفسير الشافعية والحنابلة، وجعل المالكية البداوة قيدا، وعن مالك لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلا من كان يشبهه، قال فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والأسواق فليسوا داخلين في ذلك. قال ابن المنذر: اختلفوا في هذا النهي فالجمهور أنه على التحريم بشرط العلم بالنهي وأن يكون المتاع المجلوب مما يحتاج إليه وأن يعرض الحضري ذلك على البدوي، فلو عرضه البدوي على الحضري لم يمنع. وزاد بعض الشافعية عموم الحاجة وأن يظهر ببيع ذلك المتاع السعة في تلك البلد، قال ابن دقيق العيد: أكثر هذه الشروط تدور بين اتباع المعنى أو اللفظ، والذي ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء فحيث يظهر يخصص

(4/371)


النص أو يعمم، وحيث يخفي فاتباع اللفظ أولى، فأما اشتراط أن يلتمس البلدي ذلك فلا يقوي لعدم دلالة اللفظ عليه وعدم ظهور المعنى فيه، فإن الضرر الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البلدي وعدمه، وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعو الحاجة إليه فمتوسط بين الظهور وعدمه، وأما اشتراط ظهور السعة فكذلك أيضا لاحتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح والرزق على أهل البلد، وأما اشتراط العلم بالنهي فلا إشكال فيه. وقال السبكي: شرط حاجة الناس إليه معتبر، ولم يذكر جماعة عمومها وإنما ذكره الرافعي تبعا للبغوي ويحتاج إلى دليل. واختلفوا أيضا فيما إذا وقع البيع مع وجود الشروط المذكورة هل يصح مع التحريم أو لا يصح؟ على القاعدة المشهورة.

(4/372)


باب من كره ان يبع حاضر لباد بأجر
...
69 - باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِأَجْرٍ
2159- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ"
قوله: "باب من كره أن يبيع حاضر لباد بأجر" وبه قال ابن عباس، أي حيث فسر ذلك بالسمسار كما في الحديث الذي قبله. قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد" كذا أورده من حديث ابن عمر ليس فيه التقييد بالأجر كما في الترجمة. قال ابن بطال: أراد المصنف أن بيع الحاضر للبادي لا يجوز بأجر ويجوز بغير أجر، واستدل على ذلك بقول ابن عباس، وكأنه قيد به مطلق حديث ابن عمر قال: وقد أجاز الأوزاعي أن يشير الحاضر على البادي وقال: ليست الإشارة بيعا. وعن الليث وأبي حنيفة لا يشير عليه، لأنه إذا أشار عليه فقد باعه. وعند الشافعية في ذلك وجهان والراجح منهما الجواز لأنه إنما نهى عن البيع له وليست الإشارة بيعا، وقد ورد الأمر بنصحه فدل على جواز الإشارة. "تنبيه": حديث ابن عمر فرد غريب لم أره إلا من رواية أبي علي الحنفي عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن دينار، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي وعلى أبي نعيم فلم يخرجاه إلا من طريق البخاري، وله أصل من حديث ابن عمر أخرجه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر وليس هو في "الموطأ" قال البيهقي: عدوه في أفراد الشافعي، وقد تابعه القعنبي عن مالك ثم ساقه بإسنادين إلى القعنبي.

(4/372)


باب لايبيع حاضر لباد بالسمسرة
...
70- باب لاَ يَشْتَرِي حَاضِرٌ لِبَادٍ بِالسَّمْسَرَةِ. وَكَرِهَهُ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ إِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ بِعْ لِي ثَوْبًا وَهِيَ تَعْنِي الشِّرَاءَ
2160- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَبْتَاعُ الْمَرْءُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ"
2161- حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ حدثنا بن عون عن محمد قال أنس بن مالك رضي الله

(4/372)


باب النهى عن تلقى الركبان و ان بيعه مردود
...
71 - باب النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَأَنَّ بَيْعَهُ مَرْدُودٌ
لِأَنَّ صَاحِبَهُ عَاصٍ آثِمٌ إِذَا كَانَ بِهِ عَالِمًا وَهُوَ خِدَاعٌ فِي الْبَيْعِ وَالْخِدَاعُ لاَ يَجُوزُ
2162- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّلَقِّي وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ"
2163- حَدَّثَنِي عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا مَعْنَى قَوْلِهِ لاَ يَبِيعَنَّ حَاضِرٌ لِبَادٍ فَقَالَ لاَ يَكُنْ لَهُ سِمْسَارًا"
2164- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنِي التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَنْ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا قَالَ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَلَقِّي الْبُيُوعِ"
2165- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلاَ تَلَقَّوْا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ"

(4/373)


قوله: "باب النهي عن تلقي الركبان، وأن بيعه مردود لأن صاحبه عاص آثم إذا كان به عالما، وهو خدع في البيع والخداع لا يجوز" جزم المصنف بأن البيع مردود بناء على أن النهي يقتضي الفساد، لكن محل ذلك عند المحققين فيما يرجع إلى ذات المنهي عنه لا ما إذا كان يرجع إلى أمر خارج عنه فيصح البيع ويثبت الخيار بشرطه الآتي ذكره، وأما كون صاحبه عاصيا آثما والاستدلال عليه بكونه خداعا فصحيح، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون البيع مردودا لأن النهي لا يرجع إلى نفس العقد ولا يخل بشيء من أركانه وشرائطه وإنما هو لدفع الأضرار بالركبان، والقول ببطلان البيع صار إليه بعض المالكية وبعض الحنابلة، ويمكن أن يحمل قول البخاري أن البيع مردود على ما إذا اختار البائع رده فلا يخالف الراجح، وقد تعقبه الإسماعيلي وألزمه التناقض ببيع المصراة فإن فيه خداعا ومع ذلك لم يبطل البيع، وبكونه فصل في بيع الحاضر للبادي بين أن يبيع له بأجر أو بغير أجر، واستدل عليه أيضا بحديث حكيم بن حزام الماضي في بيع الخيار ففيه: "فإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما" قال فلم يبطل بيعهما بالكذب والكتمان للعيب، وقد ورد بإسناد صحيح "أن صاحب السلعة إذا باعها لمن تلقاه يصير بالخيار إذا دخل السوق" ثم ساقه من حديث أبي هريرة، قال ابن المنذر: أجاز أبو حنيفة التلقي وكرهه الجمهور. قلت: الذي في كتب الحنفية يكره التلقي في حالتين: أن يضر بأهل البلد، وأن يلتبس السعر على الواردين. ثم اختلفوا: فقال الشافعي من تلقاه فقد أساء وصاحب السلعة بالخيار، وحجته حديث أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تلقي الجلب، فإن تلقاه فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق". قلت: وهو حديث أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة من طريق أيوب، وأخرجه مسلم من طريق هشام عن ابن سيرين بلفظ: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار" وقوله: "فهو بالخيار" أي إذا قدم السوق وعلم السعر، وهل يثبت له مطلقا أو بشرط أن يقع له في البيع غبن؟ وجهان، أصحهما الأول وبه قال الحنابلة، وظاهره أيضا أن النهي لأجل منفعة البائع وإزالة الضرر عنه وصيانته ممن يخدعه. قال ابن المنذر: وحمله مالك على نفع أهل السوق لا على نفع رب السلعة، وإلى ذلك جنح الكوفيون والأوزاعي قال: والحديث حجة للشافعي لأنه أثبت الخيار للبائع لا لأهل السوق. انتهى. واحتج مالك بحديث ابن عمر المذكور في آخر الباب، وسيأتي الكلام على ذلك. وقد ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث:قوله: "حدثنا عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي. قوله: "عن سعيد بن أبي سعيد" هو المقبري. قوله: "عن التلقي" ظاهره منع التلقي مطلقا سواء كان قريبا أم بعيدا، سواء كان لأجل الشراء منهم أم لا، وسيأتي البحث فيه. قوله: "حدثنا عبد الأعلى" هو ابن عبد الأعلى. قوله: "سألت ابن عباس" كذا رواه مختصرا وليس فيه للتلقي ذكر، وكأنه أشار على عادته إلى أصل الحديث، فقد سبق قبل بابين من وجه آخر عن معمر وفي أوله "لا تلقوا الركبان" وكذا أخرجه مسلم من وجه آخر عن معمر، والقول في حديث ابن عباس كالقول في حديث أبي هريرة، وقوله: "لا تلقوا الركبان" خرج مخرج الغالب في أن من يجلب الطعام يكونون عددا ركبانا، ولا مفهوم له بل لو كان الجالب عددا مشاة أو واحدا راكبا أو ماشيا لم يختلف الحكم. وقوله: "للبيع" يشمل البيع لهم والبيع منهم، ويفهم منه اشتراط قصد ذلك بالتلقي، فلو تلقى الركبان أحد للسلام أو الفرجة أو خرج لحاجة له فوجدهم فبايعهم هل يتناوله النهي؟ فيه احتمال، فمن نظر إلى المعنى لم يفترق عنده الحكم بذلك وهو الأصح عند الشافعية، وشرط بعض الشافعية في

(4/374)


النهي أن يبتدئ المتلقي فيطلب من الجالب البيع، فلو ابتدأ الجالب بطلب البيع فاشترى منه المتلقي لم يدخل في النهي، وذكر إمام الحرمين في صورة التلقي المحرم أن يكذب في سعر البلد ويشتري منهم بأقل من ثمن المثل، وذكر المتولي فيها أن يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدخول، وذكر أبو إسحاق الشيرازي أن يخبرهم بكساد ما معهم ليغبنهم، وقد يؤخذ من هذه التقييدات إثبات الخيار لمن وقعت له ولو لم يكن هناك تلق، لكن صرح الشافعية أن كون إخباره كذبا ليس شرطا لثبوت الخيار وإنما يثبت له الخيار إذا ظهر الغبن فهو المعتبر وجودا وعدما. حديث ابن مسعود، وقد مضى الكلام عليه في المصراة، والغرض منه هنا قوله: "ونهى عن تلقي البيوع" فإنه يقتضي تقييد النهي المطلق في التلقي بما إذا كان لأجل المبايعة. حديث ابن عمر، وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده. فدلت الطريقة الثالثة - وهي في الباب الذي يليه من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع - أن الوصول إلى أول السوق لا يلقى حتى يدخل السوق، وإلى هذا ذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وغيرهم، وصرح جماعة من الشافعية بأن منتهى النهي عن التلقي لا يدخل البلد سواء وصل إلى السوق أم لا، وعند المالكية في ذلك اختلاف كثير في حد التلقي. قوله: "ولا تلقوا السلع" بفتح أوله واللام وتشديد القاف المفتوحة وضم الواو أي تتلقوا فحذفت إحدى التاءين. ثم إن مطلق النهي عن التلقي يتناول طول المسافة وقصرها وهو ظاهر إطلاق الشافعية، وقيد المالكية محل النهي بحد مخصوص، ثم اختلفوا فيه فقيل ميل وقيل فرسخان وقيل يومان وقيل مسافة القصر وهو قول الثوري، وأما ابتداؤها فسيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده.

(4/375)


72 - باب مُنْتَهَى التَّلَقِّي
2166- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِي مِنْهُمْ الطَّعَامَ فَنَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى يُبْلَغَ بِهِ سُوقُ الطَّعَامِ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ هَذَا فِي أَعْلَى السُّوقِ يُبَيِّنُهُ حَدِيثُ عُبَيْدِ اللَّهِ
2167- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عبيد الله قال حدثني نافع عن عبد الله رضي الله عنه قال ثم كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق فيبيعونه في مكانهم فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه"
قوله: "باب منتهى التلقي" أي وابتدائه، وقد ذكرنا أن الظاهر أنه لا حد لانتهائه من جهة الجالب، وأما من جهة المتلقي فقد أشار المصنف بهذه الترجمة إلى أن ابتداءه الخروج من السوق أخذا من قول الصحابي إنهم كانوا يتبايعون بالطعام في أعلى السوق فيبيعونه في مكانه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه، ولم ينههم عن التبايع في أعلى السوق فدل على أن التلقي إلى أعلى السوق جائز، فإن خرج عن السوق ولم يخرج من البلد فقد صرح الشافعية بأنه لا يدخل في النهي، وحد ابتداء التلقي عندهم الخروج من البلد والمعنى فيه أنهم إذا قدموا البلد أمكنهم معرفة السعر وطلب الحظ لأنفسهم، فإن لم يفعلوا ذلك فهو من تقصيرهم، وأما إمكان معرفتهم ذلك قبل دخول البلد فنادر، والمعروف عند المالكية اعتبار السوق مطلقا كما هو ظاهر الحديث، وهو قول أحمد وإسحاق، وعن الليث

(4/375)


كراهة التلقي ولو في الطريق ولو على باب البيت حتى تدخل السلعة السوق. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف. قوله: "هذا في أعلى السوق" أي حديث جويرية عن نافع بلفظ: "كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام" الحديث، قال البخاري: وبينه حديث عبيد الله بن عمر يعني عن نافع أي حيث قال: "كانوا يتبايعون الطعام في أعلى السوق" الحديث مثله، وأراد البخاري بذلك الرد على من استدل به على جواز تلقي الركبان لإطلاق قول ابن عمر "كنا نتلقى الركبان" ولا دلالة فيه، لأن معناه أنهم كانوا يتلقونهم في أعلى السوق كما في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع، وقد صرح مالك في روايته عن نافع بقوله: "ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها السوق" فدل على أن التلقي الذي لم ينه عنه إنما هو ما بلغ السوق، والحديث يفسر بعضه بعضا. وادعى الطحاوي التعارض في هاتين الروايتين وجمع بينهما بوقوع الضرر لأصحاب السلع وعدمه، قال فيحمل حديث النهي على ما إذا حصل الضرر، وحديث الإباحة على ما إذا لم يحصل، ولا يخفى رجحان الجمع الذي جمع به البخاري والله أعلم. "تنبيه": وقع قول البخاري" هذا في أعلى السوق "عقب رواية عبيد الله بن عمر في رواية أبي ذر، ووقع في رواية غيره عقب حديث جويرية وهو الصواب.

(4/376)


باب اذا اشترط شروطا في البيع لاتحل
...
73 - باب إِذَا اشْتَرَطَ شُرُوطًا فِي الْبَيْعِ لاَ تَحِلُّ
2168-حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم جاءتني بريرة فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقلت إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق"
2169- حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ثم أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية فتعتقها فقال أهلها نبيعكها على أن ولاءها لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق"
قوله: "باب إذا اشترط في البيع شروطا لا تحل" أي هل يفسد البيع بذلك أم لا؟ أورد فيه حديثي عائشة وابن عمر في قصة بريرة، وكأن غرضه بذلك أن النهي يقتضي الفساد فيصح ما ذهب إليه من أن النهي عن تلقي الركبان يرد به البيع، وسيأتي الكلام عليه في كتاب الشروط إن شاء الله تعالى.

(4/376)


74 - باب بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ
2170- حدثنا أبو الوليد حدثنا الليث عن بن شهاب عن مالك بن أوس سمع عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم البر بالبر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء
قوله: "باب بيع التمر بالتمر" أورد فيه حديث عمر مختصرا. وسيأتي الكلام عليه بعد باب.

(4/377)


باب بيع الزبيب بالزبيب و الطعام بالطعام
...
75 - باب بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالزَّبِيبِ وَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ
2171- حدثنا إسماعيل حدثنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمزابنة بيع الثمر بالتمر كيلا وبيع الزبيب بالكرم كيلا"
[الحديث 2171- أطرافه في: 2172، 2185، 2205]
2172- حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة قال والمزابنة أن يبيع الثمر بكيل إن زاد فلي وإن نقص فعلي قال وحدثني زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا بخرصها"
[الحديث 2172- أطرافه في: 2184، 2188، 2192، 2380]
قوله: "باب بيع الزبيب بالزبيب والطعام بالطعام" ذكر فيه حديث ابن عمر في النهي عن المزابنة من طريقين، وسيأتي الكلام عليه بعد خمسة أبواب.وفي الطريق الثانية حديث ابن عمر عن زيد بن ثابت في العرايا، وسيأتي الكلام عليه بعد سبعة أبواب. وذكر في الترجمة الطعام بالطعام وليس في الحديث الذي ذكره للطعام ذكر، وكذلك ذكر فيها الزبيب بالزبيب والذي في الحديث الزبيب بالكرم، قال الإسماعيلي: لعله أخذ ذلك من جهة المعنى، قال: ولو ترجم للحديث ببيع التمر في رءوس الشجر بمثله من جنسه يابسا لكان أولى. انتهى. ولم يخل البخاري بذلك كما سيأتي بعد ستة أبواب، وأما هنا فكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه من ذكر الطعام، وهو في رواية الليث عن نافع كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وروى مسلم من حديث معمر بن عبد الله مرفوعا: "الطعام بالطعام مثلا بمثل".

(4/377)


76 - باب بَيْعِ الشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ
2174- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي فَأَخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنْ الْغَابَةِ وَعُمَرُ يَسْمَعُ ذَلِكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ قال

(4/377)


77 - باب بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ
2175- حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا إسماعيل بن علية قال حدثني يحيى بن أبي إسحاق حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة قال قال أبو بكرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء والفضة بالفضة إلا سواء بسواء وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم"
[الحديث 2175_ طرفه في: 2182]
قوله: "باب بيع الذهب بالذهب" تقدم حكمه في الباب الذي قبله، وذكر المصنف فيه حديث أبي بكرة، ثم أورده بعد ثلاثة أبواب من وجه آخر عن يحيى بن أبى إسحاق، ورجال الإسنادين بصريون كلهم. وأخذ حكم بيع الذهب بالورق من قوله: "وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم "وفي الرواية الأخرى "وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا" الحديث، وسيأتي الكلام عليه.

(4/379)


78 - باب بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ
2176- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا عَمِّي حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ حَدَّثَهُ مِثْلَ ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ يَا أَبَا سَعِيدٍ مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ فِي الصَّرْفِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ مِثْلًا بِمِثْلٍ"
[الحديث 2176- طرفاه في: 2177، 2178]
2177- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ

(4/379)


79 - باب بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارِ نَسَاءً
2178- 2179 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ الزَّيَّاتَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ فَقُلْتُ لَهُ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ يَقُولُهُ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَأَلْتُهُ فَقُلْتُ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ كُلَّ ذَلِكَ لاَ أَقُولُ وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لاَ رِبًا إِلاَّ فِي النَّسِيئَةِ"
قوله: "باب بيع الدينار بالدينار نساء" بفتح النون المهملة والمد والتنوين منصوبا، أي مؤجلا مؤخرا، يقال أنسأه نساء ونسيئة. قوله: "الضحاك بن مخلد" هو أبو عاصم شيخ البخاري، وقد حدث في مواضع عنه بواسطة كهذا الموضع. قوله: "سمع أبا سعيد الخدري يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم" كذا وقع في هذه الطريق، وقد أخرجه مسلم من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار فزاد فيه: "مثلا بمثل، من زاد أو ازداد فقد أربى". قوله: "إن ابن عباس لا يقوله" في رواية مسلم: "يقول غير هذا". قوله: "فقال أبو سعيد سألته" في رواية مسلم: "لقد لقيت ابن عباس فقلت له". قوله: "فقال كل ذلك لا أقول" بنصب "كل"؛ على أنه مفعول مقدم، وهو في المعنى نظير قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ذي اليدين "كل ذلك لم يكن" فالمنفي هو المجموع. وفي رواية مسلم: "فقال لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا وجدته في كتاب الله عز وجل" ولمسلم من طريق عطاء "أن أبا سعيد لقي ابن عباس" فذكر نحوه وفيه: "فقال كل ذلك لا أقول، أما رسول الله فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله فلا أعلمه" أي لا أعلم هذا الحكم فيه، وإنما قال لأبي سعيد "أنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني" لكون أبي سعيد وأنظاره كانوا أسن منه وأكثر ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي السياق دليل على أن أبا سعيد وابن عباس متفقان على أن الأحكام الشرعية لا تطلب إلا من الكتاب أو السنة. قوله: "لا ربا إلا في النسيئة" في رواية مسلم: "الربا في النسيئة" وله من طريق عبيد الله بن أبي يزيد وعطاء جميعا عن ابن عباس "إنما الربا في النسيئة" زاد في رواية عطاء "ألا إنما الربا" وزاد في رواية طاوس عن ابن عباس "لا ربا فيما كان يدا بيد" وروى مسلم من طريق أبي نضرة قال: "سألت ابن عباس عن الصرف فقال: أيدا بيد؟ قلت نعم، قال فلا بأس. فأخبرت أبا سعيد فقال: أو قال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتكموه" وله من وجه آخر عن أبي نضرة "سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به

(4/381)


بأسا، فإني لقاعد عند أبي سعيد فسألته عن الصرف فقال: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك لقولهما. فذكر الحديث قال: "فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه". والصرف بفتح المهملة: دفع ذهب وأخذ فضة وعكسه، وله شرطان: منع النسيئة مع اتفاق النوع واختلافه وهو المجمع عليه، ومنع التفاضل في النوع الواحد منهما وهو قول الجمهور. وخالف فيه ابن عمر ثم رجع، وابن عباس واختلف في رجوعه وقد روى الحاكم من طريق حيان العدوي وهو بالمهملة والتحتانية "سألت أبا مجلز عن الصرف فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره ما كان منه عينا بعين يدا بيد، وكان يقول: إنما الربا في النسيئة فلقيه أبو سعيد" فذكر القصة والحديث، وفيه: "التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والذهب بالذهب والفضة بالفضة يدا بيد مثلا بمثل، فمن زاد فهو ربا، فقال ابن عباس: أستغفر الله وأتوب إليه، فكان ينهي عنه أشد النهي". واتفق العلماء على صحة حديث أسامة، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد فقيل: منسوخ، لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وقيل المعنى في قوله: "لا ربا" الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول العرب لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد لأن دلالته بالمنطوق، ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر كما تقدم والله أعلم. وقال الطبري: معنى حديث أسامة "لا ربا إلا في النسيئة" إذا اختلفت أنواع البيع والفضل فيه يدا بيد ربا جمعا بينه وبين حديث أبي سعيد. "تنبيه": وقع في نسخة الصغاني هنا "قال أبو عبد الله" يعني البخاري "سمعت سليمان بن حرب يقول: لا ربا إلا في النسيئة هذا عندنا في الذهب بالورق والحنطة بالشعير متفاضلا ولا بأس به يدا بيد ولا خير فيه نسيئة" قلت: وهذا موافق 1 وفي قصة أبي سعيد مع ابن عمر ومع ابن عباس أن العالم يناظر العالم ويوقفه على معنى قوله ويرده من الاختلاف إلى الاجتماع ويحتج عليه بالأدلة وفيه إقرار الصغير للكبير بفضل التقدم.
ـــــــ
1 بياض بالاصل

(4/382)


80 - باب بَيْعِ الْوَرِقِ بِالذَّهَبِ نَسِيئَةً
2180-0 2181- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْمِنْهَالِ قَالَ سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ الصَّرْفِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ هَذَا خَيْرٌ مِنِّي فَكِلاَهُمَا يَقُولُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا
قوله: "باب بيع الورق بالذهب نسيئة" البيع كله إما بالنقد أو بالعرض حالا أو مؤجلا، فهي أربعة أقسام: فبيع النقد إما بمثله وهو المراطلة، أو بنقد غيره وهو الصرف. وبيع العرض بنقد يسمى النقد ثمنا والعرض عوضا، وبيع العرض بالعرض يسمى مقابضة. والحلول في جميع ذلك جائز، وأما التأجيل فإن كان النقد بالنقد مؤخرا فلا يجوز، وإن كان العرض جاز، وإن كان العرض مؤخرا فهو السلم، وإن كانا مؤخرين فهو بيع الدين بالدين وليس بجائز إلا في الحوالة عند من يقول إنها بيع، والله أعلم. قوله: "عن الصرف" أي بيع الدراهم

(4/382)


بالذهب أو عكسه، وسمى به لصرفه عن مقتضى البياعات من جواز التفاضل فيه، وقيل من الصريف وهو تصويتهما في الميزان، وسيأتي في أوائل الهجرة من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال: "باع شريك لي دراهم - أي بذهب - في السوق نسيئة، فقلت: سبحان الله أيصلح هذا؟ فقال. لقد بعتها في السوق فما عابه على أحد، فسألت البراء بن عازب" فذكره. قوله: "هذا خير مني" في رواية سفيان المذكورة "قال فالق زيد بن أرقم فاسأله فإنه كان أعظمنا تجارة، فسألته" فذكره. وفي رواية الحميدي في مسنده من هذا الوجه عن سفيان "فقال صدق البراء" وقد تقدم في "باب التجارة في البر" من وجه آخر عن أبي المنهال بلفظ: "إن كان يدا بيد فلا بأس، وإن كان نسيئا فلا يصلح" وفي الحديث ما كان عليه الصحابة من التواضع، وإنصاف بعضهم بعضا، ومعرفة أحدهم حق الآخر، واستظهار العالم في الفتيا بنظيره في العلم، وسيأتي بعد الكلام على هذا الحديث في الشركة إن شاء الله تعالى.

(4/383)


81 - باب بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ يَدًا بِيَدٍ
2182- حدثنا عمران بن ميسرة حدثنا عباد بن العوام أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا والفضة بالذهب كيف شئنا"
قوله: "باب بيع الذهب بالورق يدا بيد" ذكر فيه حديث أبي بكرة الماضي قبل بثلاثة أبواب، وليس فيه التقييد بالحلول، وكأنه أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقة: فقد أخرجه مسلم عن أبي الربيع عن عباد الذي أخرجه البخاري من طريقه وفيه: "فسأله رجل فقال: يدا بيد، فقال: هكذا سمعت" وأخرجه مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير عن يحيى بن أبي إسحاق فلم يسق لفظه، فساقه أبو عوانة في مستخرجه فقال في آخره: "والفضة بالذهب كيف شئتم يدا بيد" واشتراط القبض في الصرف متفق عليه، وإنما وقع الاختلاف في التفاضل بين الجنس الواحد واستدل به على بيع الربويات بعضها ببعض إذا كان يدا بيد، وأصرح به حديث عبادة بن الصامت عند مسلم بلفظ: "فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم" .

(4/383)


باب بيع المزابنة وهى بيع الثمر بالتمر و بيع الزبيب بالكرم و بيع العرايا
...
82 - باب بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ:وَهِيَ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْكَرْمِ وَبَيْعُ الْعَرَايَا
قَالَ أَنَسٌ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ
2183- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ وَلاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ"
2184- قَالَ سَالِمٌ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ

(4/383)


باب بيع الثمر على رؤوس النخيل بالذهب والفضة
...
83 - باب بَيْعِ الثَّمَرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلاَّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ إِلاَّ الْعَرَايَا"
2190- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكًا وَسَأَلَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ أَحَدَّثَكَ دَاوُدُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ قَالَ نَعَمْ"
[الحديث 2190- طرفه في: 2384]
2191- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ بُشَيْرًا قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً أُخْرَى إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ يَبِيعُهَا أَهْلُهَا بِخَرْصِهَا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا قَالَ هُوَ سَوَاءٌ قَالَ سُفْيَانُ فَقُلْتُ لِيَحْيَى وَأَنَا غُلاَمٌ إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فَقَالَ وَمَا يُدْرِي أَهْلَ مَكَّةَ قُلْتُ إِنَّهُمْ يَرْوُونَهُ عَنْ جَابِرٍ فَسَكَتَ قَالَ سُفْيَانُ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّ جَابِرًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قِيلَ لِسُفْيَانَ وَلَيْسَ فِيهِ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ قَالَ لاَ"
[الحديث 2191- طرفه في: 2384]
قوله: "باب بيع الثمر" بفتح المثلثة والميم "على رءوس النخل" أي بعد أن يطيب. وقوله: "بالذهب أو الفضة" اتبع فيه ظاهر الحديث وسيأتي البحث فيه. قوله: "عن عطاء" هو ابن أبي رباح، وأبو الزبير هو محمد بن مسلم، كذا جمع بينهما ابن وهب، وتابعه أبو عاصم عند مسلم ويحيى بن أيوب عند الطحاوي، وكلاهما عن ابن جريج، ورواه ابن عيينة عند مسلم عن ابن جريج عن عطاء وحده، ووقع في روايته عن ابن جريج "أخبرني عطاء". قوله: "عن جابر" في رواية أبي عاصم المذكورة "أنهما سمعا جابر بن عبد الله". قوله: "عن بيع الثمر" بفتح المثلثة أي الرطب. قوله: "حتى يطيب" في رواية ابن عيينة "حتى يبدو صلاحه" وسيأتي تفسيره بعد باب. قوله: "ولا يباع شيء منه إلا بالدينار والدرهم" قال ابن بطال: إنما اقتصر على الذهب والفضة لأنهما جل ما يتعامل به الناس، وإلا فلا خلاف بين الأمة في جواز بيعه بالعروض يعني بشرطه. قوله: "إلا العرايا" زاد

(4/387)


يحيى بن أيوب في روايته: "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيها" أي فيجوز بيع الرطب فيها بعد أن يخرص ويعرف قدره بقدر ذلك من الثمر كما سيأتي البحث فيه، قال ابن المنذر: ادعى الكوفيون أن بيع العرايا منسوخ بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر وهذا مردود لأن الذي روى النهي عن بيع الثمر بالتمر هو الذي روى الرخصة في العرايا فأثبت النهي والرخصة معا. قلت: ورواية سالم الماضية في الباب الذي قبله تدل على أن الرخصة في بيع العرايا وقع بعد النهي عن بيع الثمر بالتمر، ولفظه عن ابن عمر مرفوعا: "ولا تبيعوا الثمر بالتمر" قال: وعن زيد بن ثابت "أنه صلى الله عليه وسلم رخص بعد ذلك في بيع العرية" وهذا هو الذي يقتضيه لفظ الرخصة فإنها تكون بعد منع، وكذلك بقية الأحاديث التي وقع فيها استثناء العرايا بعد ذكر بيع الثمر بالتمر، وقد قدمت إيضاح ذلك. قوله: "حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب" هو الحجبي بفتح المهملة والجيم ثم موحدة، بصري مشهور. قوله: "حدثنا مالكا الخ" فيه إطلاق السماع على ما قرئ على الشيخ فأقر به، وقد استقر الاصطلاح على أن السماع مخصوص بما حدث به الشيخ لفظا. قوله: "وسأله عبيد الله" هو بالتصغير، والربيع أبوه هو حاجب المنصور وهو والد الفضل وزير الرشيد. قوله: "رخص" كذا للأكثر بالتشديد وللكشميهني: "أرخص". قوله: "في بيع العرايا" أي في بيع ثمر العرايا لأن العرية هي النخلة والعرايا جمع عرية كما تقدم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. قوله: "في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق" شك من الراوي، بين مسلم في روايته أن الشك فيه من داود بن الحصين، وللمصنف في آخر الشرب من وجه آخر عن مالك مثله، وذكر ابن التين تبعا لغيره أن داود تفرد بهذا الإسناد قال: وما رواه عنه إلا مالك بن أنس. والوسق ستون صاعا، وقد تقدم بيانه في كتاب الزكاة، وقد اعتبر من قال بجواز بيع العرايا بمفهوم هذا العدد ومنعوا ما زاد عليه، واختلفوا في جواز الخمسة لأجل الشك المذكور، والخلاف عند المالكية والشافعية، والراجح عند المالكية الجواز في الخمسة فما دونها، وعند الشافعية الجواز فيما دون الخمسة ولا يجوز في الخمسة، وهو قول الحنابلة وأهل الظاهر، فمأخذ المنع أن الأصل التحريم وبيع العرايا رخصة، فيؤخذ منه بما يتحقق منه الجواز ويلغي ما وقع فيه الشك. وسبب الخلاف أن النهي عن بيع المزابنة هل ورد متقدما ثم وقعت الرخصة في العرايا، أو النهي عن بيع المزابنة وقع مقرونا بالرخصة في بيع العرايا؟ فعلى الأول لا يجوز في الخمسة للشك في رفع التحريم، وعلى الثاني يجوز للشك في قدر التحريم، ويرجح الأول رواية سالم المذكورة في الباب قبله. واحتج بعض المالكية بأن لفظة "دون" صالحة لجميع ما تحت الخمسة، فلو عملنا بها للزم رفع هذه الرخصة، وتعقب بأن العمل بها ممكن بأن يحمل على أقل ما تصدق عليه وهو المفتى به في مذهب الشافعي، وقد روى الترمذي حديث الباب من طريق زيد بن الحباب عن مالك بلفظ: "أرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق" ولم يتردد في ذلك، وزعم المازري أن ابن المنذر ذهب إلى تحديد ذلك بأربعة أوسق لوروده في حديث جابر من غير شك فيه فتعين طرح الرواية التي وقع فيها الشك والأخذ بالرواية المتيقنة، قال: وألزم المزني الشافعي القول به ا ه، وفيما نقله نظر، أما ابن المنذر فليس في شيء من كتبه ما نقله عنه وإنما فيه ترجيح القول الصائر إلى أن الخمسة لا تجوز وإنما يجوز ما دونها، وهو الذي ألزم المزني أن يقول به الشافعي كما هو بين من كلامه، وقد حكى ابن عبد البر هذا القول عن قوم قال: واحتجوا بحديث جابر، ثم قال: ولا خلاف بين الشافعي ومالك ومن اتبعهما في جواز العرايا في أكثر من أربعة أوسق مما لم يبلغ خمسة أوسق ولم يثبت عندهم حديث جابر. قلت: حديث

(4/388)


جابر الذي أشار إليه أخرجه الشافعي وأحمد وصححه ابن خزيمة ابن حبان والحاكم أخرجوه كلهم من طريق ابن إسحاق "حدثني محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع ابن حبان عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول: الوسق والوسقين والثلاثة والأربع" لفظ أحمد، وترجم عليه ابن حبان: "الاحتياط أن لا يزيد على أربعة أوسق" وهل الذي قاله يتعين المصير إليه، وأما جعله حدا لا يجوز تجاوزه فليس بالواضح، واحتج بعضهم لمالك بقول سهل بن أبي حثمة "إن العرية تكون ثلاثة أوسق أو أربعة أو خمسة" وسيأتي ذكره في الباب الذي يليه، ولا حجة فيه لأنه موقوف. ومن فروع هذه المسألة ما لو زاد في صفقة على خمسة أوسق فإن البيع يبطل في الجميع. وخرج بعض الشافعية من جواز تفريق الصفقة أنه يجوز، وهو بعيد لوضوح الفرق، ولو باع ما دون خمسة أوسق في صفقة ثم باع مثلها البائع بعينه للمشتري بعينه في صفقة أخرى جاز عند الشافعية على الأصح، ومنعه أحمد وأهل الظاهر، والله أعلم. قوله: "قال نعم" القائل هو مالك، وكذلك أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى قال: "قلت لمالك أحدثك داود" فذكره وقال في آخره: "نعم" وهذا التحمل يسمى عرض السماع، وكان مالك يختاره على التحديث من لفظه. واختلف أهل الحديث هل يشترط أن يقول الشيخ "نعم" أم "لا" والصحيح أن سكوته ينزل منزلة إقراره إذا كان عارفا ولم يمنعه مانع، وإذا قال نعم فهو أولى بلا نزاع. قوله: "سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "قال يحيى بن سعيد" هو الأنصاري، وسيأتي في آخر الباب ما يدل على أن سفيان صرح بتحديث يحيى بن سعيد له به وهو السر في إيراد الحكاية المذكورة. قوله: "سمعت بشيرا" بالموحدة والمعجمة مصغرا، وهو ابن يسار بالتحتانية ثم المهملة مخففا الأنصاري. قوله: "سمعت سهل بن أبي حثمة" زاد الوليد بن كثير عند مسلم عن بشير بن يسار أن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة حدثاه، ولمسلم من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سهل بن أبي حثمة. قوله: "أن تباع بخرصها" هو بفتح الخاء المعجمة وأشار ابن التين إلى جواز كسرها، وجزم ابن العربي بالكسر وأنكر الفتح، وجوزهما النووي وقال الفتح أشهر، قال: ومعناه تقدير ما فيها: إذا صار تمرا، فمن فتح قال هو اسم الفعل، ومن كسر قال هو اسم للشيء المخروص اه. والخرص هو التخمين والحدس، وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه في تفسير العرايا. قوله: "وقال سفيان مرة أخرى الخ" هو كلام علي بن عبد الله، والغرض أن ابن عيينة حدثهم به مرتين على لفظين والمعنى واحد، وإليه الإشارة بقوله: "هو سواء" أي المعنى واحد. قوله: "قال سفيان" أي بالإسناد المذكور "فقلت ليحيى" أي ابن سعيد لما حدثه به. قوله: "وأنا غلام" جملة حالية، والغرض الإشارة إلى قدم طلبه وتقدم فطنته وأنه كان في سن الصبا يناظر شيوخه ويباحثهم. قوله: "رخص لهم في بيع العرايا" محل الخلاف بين رواية يحيى بن سعيد ورواية أهل مكة أن يحيى ابن سعيد قيد الرخصة في بيع العرايا بالجرس وأن يأكلها أهلها رطبا. وأما ابن عيينة في روايته عن أهل مكة فأطلق الرخصة في بيع العرايا ولم يقيدها بشيء مما ذكر. قوله: "قلت إنهم يروونه عن جابر" في رواية أحمد في مسنده عن سفيان" قلت أخبرهم عطاء أنه سمع من جابر". قلت: ورواية ابن عيينة كذلك عن ابن جريج عن عطاء عن جابر تقدمت الإشارة إليها وأنها تأتي في كتاب الشرب، وهي على الإطلاق كما في روايته التي في أول الباب. قوله: "قال سفيان" أي بالإسناد المذكور "إنما أردت" أي الحامل لي على قولي ليحيى بن سعيد "إنهم يروونه عن جابر" "أن جابرا من أهل المدينة" فيرجع

(4/389)


الحديث إلى أهل المدينة، وكان ليحيى ابن سعيد أن يقول له: وأهل المدينة رووا أيضا فيه التقييد فيحمل المطلق على المقيد حتى يقوم الدليل على العمل بالإطلاق، والتقييد بالجرس زيادة حافظ فتعين المصير إليها. وأما التقييد بالأكل كالذي يظهر أنه لبيان الواقع لا أنه قيد، وسيأتي عن أبي عبيد أنه شرطه والله أعلم. قوله: "قيل لسفيان" لم أقف على تسمية القائل. قوله: "أليس فيه" أي في الحديث المذكور "نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه؟ قال لا" أي ليس هو في حديث سهل بن أبي حثمة، وإن كان هو صحيحا من رواية غيره، وسيأتي بعد باب. وقد حدث به عبد الجبار بن العلاء عن سفيان في حديث الباب بهذا اللفظ الذي نفاه سفيان، وحكى الإسماعيلي عن ابن صاعد أنه أشار إلى أنه وهم فيه. قلت. قد أخرجه النسائي عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري عن سفيان كذلك، فظهر أن عبد الجبار لم ينفرد بذلك.

(4/390)


84 - باب تَفْسِيرِ الْعَرَايَا
وَقَالَ مَالِكٌ الْعَرِيَّةُ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِتَمْرٍ وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ الْعَرِيَّةُ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِالْكَيْلِ مِنْ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ لاَ يَكُونُ بِالْجِزَافِ وَمِمَّا يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ بِالأَوْسُقِ الْمُوَسَّقَةِ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَتْ الْعَرَايَا أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ فِي مَالِهِ النَّخْلَةَ وَالنَّخْلَتَيْنِ وَقَالَ يَزِيدُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ الْعَرَايَا نَخْلٌ كَانَتْ تُوهَبُ لِلْمَسَاكِينِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْتَظِرُوا بِهَا رُخِّصَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا بِمَا شَاءُوا مِنْ التَّمْرِ
2192- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَالْعَرَايَا نَخَلاَتٌ مَعْلُومَاتٌ تَأْتِيهَا فَتَشْتَرِيهَا"
قوله: "باب تفسير العرايا" هي جمع عرية وهي عطية ثمر النخل دون الرقبة، كان العرب في الجدب يتطوع أهل النخل بذلك على من لا ثمر له كما يتطوع صاحب الشاة أو الإبل بالمنيحة وهي عطية اللبن دون الرقبة، قاله حسان بن ثابت فيما ذكر ابن التين - وقال غيره هي لسويد بن الصلت: -
ليست بسنهاء ولا رحبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
ومعنى "سنهاء" أن تحمل سنة دون سنة و "الرحبية" التي تدعم حين تميل من الضعف، والعرية فعيلة بمعنى مفعولة أو فاعلة، يقال: عرى النخل بفتح العين والراء بالتعدية يعروها إذا أفردها عن غيرها، بأن أعطاها لآخر على سبيل المنحة ليأكل ثمرها وتبقى رقبتها لمعطيها، ويقال عريت النخل بفتح العين وكسر الراء تعرى على أنه قاصر فكأنها عريت عن حكم أخواتها واستثبتت بالعطية، واختلف في المراد بها شرعا. قوله: "وقال مالك: العرية أن يعرى الرجل الرجل النخلة" أي يهبها له أو يهب له ثمرها "ثم يتأذى بدخوله عليه فرخص له" أي للواهب "أن يشتريها" أي يشتري رطبها "منه" أي من الموهوبة له "بتمر" أي يابس، وهذا التعليق وصله ابن عبد

(4/390)


البر من طريق ابن وهب عن مالك، وروى الطحاوي من طريق ابن نافع عن مالك أن العرية النخلة للرجل في حائط غيره، وكانت العادة أنهم يخرجون بأهليهم في وقت الثمار إلى البساتين فيكره صاحب النخل الكثير دخول الآخر عليه فيقول له: أنا أعطيك بخرص نخلتك تمرا فرخص له في ذلك، ومن شرط العرية عند مالك أنها لا تكون بهذه المعاملة إلا مع المعرى خاصة لما يدخل على المالك من الضرر بدخول حائطه، أو ليدفع الضرر عن الآخر بقيام صاحب النخل بالسقي والكلف. ومن شرطها أن يكون البيع بعد بدو الصلاح. وأن يكون بتمر مؤجل. وخالفه الشافعي في الشرط الأخير فقال: يشترط التقابض. قوله: "وقال ابن إدريس: العرية لا تكون إلا بالكيل من التمر يدا بيد، ولا تكون بالجزاف" ابن إدريس هذا رجح ابن التين أنه عبد الله الأودي الكوفي، وتردد ابن بطال ثم السبكي في "شرح المهذب" وجزم المزي في "التهذيب" بأنه الشافعي، والذي في "الأم للشافعي" وذكره عنه البيهقي في "المعرفة" من طريق الربيع عنه قال: العرايا أن يشتري الرجل ثمر النخلة فأكتر بخرصه من التمر، بأن يخرص الرطب ثم يقدركم ينقص إذا يبس ثم يشتري بخرصه تمرا، فإن تفرقا قبل أن يتقابضا فسد البيع انتهى. وهذا وإن غاير ما علقه البخاري لفظا فهو يوافقه في المعنى لأن محصلهما أن لا يكون جزافا ولا نسيئة، وقد جاء عن الشافعي بلفظ آخر قرأته بخط أبي على الصدفي بهامش نسخته قال: لفظ الشافعي ولا تبتاع العرية بالتمر إلا أن تخرص العرية كما يخرص المعشر فيقال: فيها الآن كذا وكذا من الرطب، فإذا يبس كان كذا وكذا، فيدفع من التمر بكيله خرصا ويقبض النخلة بثمرها قبل أن يتفرقا، فإن تفرقا قبل قبضها فسد. قوله: "ومما يقويه" أي قول الشافعي بأن لا يكون جزافا قول سهل بن أبي حثمة "بالأوسق الموسقة" وقول سهل هذا أخرجه الطبري من طريق الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن سهل موقوفا ولفظه: "لا يباع الثمر في رءوس النخل بالأوساق الموسقة إلا أوسقا ثلاثة أو أربعة أو خمسة يأكلها الناس" وما ذكره المصنف عن الشافعي هو شرط العرية عند أصحابه، وضابط العرية عندهم أنها بيع رطب في نخل يكون خرصه إذا صار تمرا أقل من خمسة أوسق بنظيره في الكيل من التمر مع التقابض في المجلس. وقال ابن التين: احتجاج البخاري لابن إدريس بقول سهل بالأوسق الموسقة لا دليل فيه، لأنها لا تكون مؤجلة، وإنما يشهد له قول سفيان بن حسين يعني الآتي. قلت: لعله أراد أن مجموع ما أورده بعد قول ابن إدريس يقوى قول ابن إدريس. ثم إن صور العرية كثيرة: منها أن يقول الرجل لصاحب حائط: بعني ثمر نخلات بأعيانها بخرصها من التمر. فيخرصها ويبيعه ويقبض منه التمر ويسلم إليه النخلات بالتخلية فينتفع برطبها. ومنها أن يهب صاحب الحائط لرجل نخلات أو ثمر. نخلات معلومة من حائطه، ثم يتضرر بدخوله عليه فيخرصها ويشتري منه رطبها بقدر خرصه بتمر يعجله له. ومنها أن يهبه إياها فيتضرر الموهوب له بانتظار صيرورة الرطب تمرا ولا يحب أكلها رطبا لاحتياجه إلى التمر فيبيع ذلك الرطب بخرصه من الواهب أو من غيره بتمر يأخذه معجلا. ومنها أن يبيع الرجل تمر حائطه بعد بدو صلاحه ويستثنى منه نخلات معلومة يبقيها لنفسه أو لعياله وهي التي عف له عن خرصها في الصدقة، وسميت عرايا لأنها أعريت من أن تخرص في الصدقة فرخص لأهل الحاجة الذين لا نقد لهم وعندهم فضول من تمر قوتهم أن يبتاعوا بذلك التمر من رطب تلك النخلات بخرصها. ومما يطلق عليه اسم عرية أن يعرى رجلا تمر نخلات يبيح له أكلها والتصرف فيها، وهذه هبة مخصوصة. ومنها أن يعرى عامل الصدقة لصاحب الحائط من حائطه نخلات معلومة لا يخرصها في الصدقة. وهاتان الصورتان من العرايا لا يبيع

(4/391)


فيها. وجميع هذه الصور صحيحة عند الشافعي والجمهور، وقصر مالك العرية في البيع على الصورة الثانية، وقصرها أبو عبيد على الصورة الأخيرة من صور البيع وزاد أنه رخص لهم أن يأكلوا الرطب ولا يشتروه لتجارة ولا ادخار. ومنع أبو حنيفة صور البيع كلها وقصر العرية على الهبة، وهو أن يعرى الرجل تمر نحلة من نخله ولا يسلم ذلك له ثم يبدو له في ارتجاع تلك الهبة فرخص له أن يحتبس ذلك ويعطيه بقدر ما وهبه له من الرطب بخرصه تمرا، وحمله على ذلك أخذه بعموم النهي عن بيع الثمر بالتمر، وتعقب بالتصريح باستثناء العرايا في حديث ابن عمر كما تقدم وفي حديث غيره. وحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان من أصحابهم أن معنى الرخصة أن الذي وهبت له العرية لم يملكها لأن الهبة لا تملك إلا بالقبض، فلما جاز له أن يعطي بدلها تمرا وهو لم يملك المبدل منه حتى يستحق البدل كان ذلك مستثنى وكان رخصة. وقال الطحاوي: بل معنى الرخصة فيه أن المرء مأمور بإمضاء ما وعد به ويعطي بدله ولو لم يكن واجبا عليه، فلما أذن له أن يحبس ما وعد به ويعطي بدله ولا يكون في حكم من أخلف وعده ظهر بذلك معنى الرخصة واحتج لمذهبه بأشياء تدل على أن العرية العطية. ولا حجة في شيء منها لأنه لا يلزم من كون أصل العرية العطية أن لا تطلق العرية شرعا على صور أخرى، قال ابن المنذر: الذي رخص في العرية هو الذي نهى عن بيع الثمر بالتمر في لفظ واحد من رواية جماعة من الصحابة، قال: ونظير ذلك الإذن في السلم مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبع ما ليس عندك" قال: فمن أجاز المسلم مع كونه مستثنى من بيع ما ليس عندك ومنع العرية مع كونها مستثناة من بيع الثمر بالتمر فقد تناقض. وأما حملهم الرخصة على الهبة فبعيد مع تصريح الحديث بالبيع واستثناء العرايا منه، فلو كان المراد الهبة لما استثنيت العرية من البيع، ولأنه عبر بالرخصة والرخصة لا تكون إلا بعد ممنوع والمنع إنما كان في البيع لا الهبة وبأن الرخصة قيدت بخمسة أوسق أو ما دونها والهبة لا تتقيد لأنهم لم يفرقوا في الرجوع في الهبة بين ذي رحم وغيره، وبأنه لو كان الرجوع جائزا فليس إعطاؤه بالتمر بدل الرطب بل هو تجديد هبة أخرى فإن الرجوع لا يجوز فلا يصح تأويلهم. قوله: "وقال ابن إسحاق في حديثه عن نافع عن ابن عمر "كانت العرايا أن يعرى الرجل الرجل في ماله النخلة والنخلتين" أما حديث ابن إسحاق عن نافع فوصله الترمذي دون تفسير ابن إسحاق، وأما تفسيره فوصله أبو داود عنه بلفظ: "النخلات" وزاد فيه: "فيشق عليه فيبيعها بمثل خرصها" وهذا قريب من الصورة التي قصر مالك العرية عليها. قوله: "وقال يزيد" يعني ابن هارون "عن سفيان بن حسين: العرايا نخل كانت توهب للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها فرخص لهم أن يبيعوها بما شاءوا من التمر" وهذا وصله الإمام أحمد في حديث سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه عن زيد بن ثابت مرفوعا في العرايا قال سفيان بن حسين فذكره، وهذه إحدى الصور المتقدمة، واحتج لمالك في قصر العرية على ما ذكره بحديث سهل بن أبي حثمة المذكور في الباب الذي قبله بلفظ: "يأكلها أهلها رطبا" فتمسك بقوله: "أهلها" والظاهر أنه الذي أعراها ويحتمل أن يراد بالأهل من تصير إليه بالشراء، والأحسن في الجواب أن حديث سهل دل على صورة من صور العرية وليس فيه التعرض لكون غيرها ليس عرية وحكى عن الشافعي تقييدها بالمساكين على ما في حديث سفيان بن حسين وهو اختيار المزني، وأنكر الشيخ أبو حامد نقله عن الشافعي، ولعل مستند من أثبته ما ذكره الشافعي في "اختلاف الحديث" عن محمود بن لبيد قال: "قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ قال: فلان وأصحابه شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يحضر وليس عندهم ذهب ولا فضة يشترون بها منه وعندهم فضل

(4/392)


تمر من قوت سنتهم، فرخص لهم أن يشتروا العرايا بخرصها من التمر يأكلونها رطبا" قال الشافعي: وحديث سفيان يدل لهذا، فإن قوله: "يأكله أهلها رطبا" يشعر بأن مشتري العرية يشتريها ليأكلها وأنه ليس له رطب يأكله غيرها، ولو كان المرخص له في ذلك صاحب الحائط يعني كما قال مالك لكان لصاحب الحائط في حائطه من الرطب ما يأكله غيرها ولم يفتقر إلى بيع العرية. وقال ابن المنذر: هذا الكلام لا أعرف أحدا ذكره غير الشافعي. وقال السبكي: هذا الحديث لم يذكر الشافعي إسناده، وكل من ذكره إنما حكاه عن الشافعي، ولم يجد البيهقي في "المعرفة" له إسنادا، قال: ولعل الشافعي أخذه من السير، يعني سير الواقدي، قال: وعلى تقدير صحته فليس فيه حجة للتقييد بالفقير لأنه لم يقع في كلام الشارع وإنما ذكره في القصة فيحتمل أن تكون الرخصة وقعت لأجل الحاجة المذكورة، ويحتمل أن يكون للسؤال فلا يتم الاستدلال مع إطلاق الأحاديث المنصوصة من الشارع. وقد اعتبر هذا القيد الحنابلة مضموما إلى ما اعتبره مالك، فعندهم لا تجوز العرية إلا لحاجة صاحب الحائط إلى البيع أو لحاجة المشتري إلى الرطب، والله أعلم. قوله: "حدثنا محمد" كذا للأكثر غير منسوب، ووقع في رواية أبي ذر هو ابن مقاتل، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: "قال موسى بن عقبة" أي بالإسناد المذكور إليه. قوله: "والعرايا نخلات معلومات تأتيها فتشتريها" أي تشتري ثمرتها بتمر معلوم، وكأنه اختصره للعلم به ولم أجده في شيء من الطرق عنه إلا هكذا، ولعله أراد أن يبين أنها مشتقة من عروت إذا أتيت وترددت إليه لا من العرى بمعنى التجرد قاله الكرماني، وقد تقدم قول يحيى بن سعيد: العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا، وفي لفظ عنه: أن العرية النخلة تجعل للقوم فيبيعونها بخرصها تمرا. وقال القرطبي: كأن الشافعي اعتمد في تفسير العرية على قول يحيى بن سعيد، وليس يحيى صحابيا حتى يعتمد عليه مع معارضة رأي غيره له. ثم قال: وتفسير يحيى مرجوح بأنه عين المزابنة المنهي عنها في قصة لا ترهق إليها حاجة أكيدة ولا تندفع بها مفسدة، فان المشتري لها بالتمر متمكن من بيع ثمره بعين وشرائه بالعين ما يريد من الرطب، فإن قال يتعذر هذا، قيل له فأجز بيع الرطب بالتمر ولو لم يكن الرطب على النخل، وهو لا يقول بذلك. انتهى. والشافعي أقعد باتباع أحاديث هذا الباب من غيره، فإنها ناطقة باستثناء العرايا من بيع المزابنة، وأما إلزامه الأخير فليس بلازم لأنها رخصة وقعت مقيدة بقيد فيتبع القيد وهو كون الرطب على رءوس النخل، مع أن كثيرا من الشافعية ذهبوا إلى إلحاق الرطب بعد القطع بالرطب على رءوس النخل بالمعنى كما تقدم، والله أعلم. ما ورد من تفسير العرايا في الأحاديث لا يخالفه الشافعي، فقد روى أبو داود من طريق عمرو بن الحارث عن عبد ربه بن سعيد وهو أخو يحيى ابن سعيد قال: العرية الرجل يعرى الرجل النخلة، أو الرجل يستثنى من ماله النخلة يأكلها رطبا فيبيعها تمرا. وقال أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه" حدثنا وكيع قال سمعنا في تفسير العرية أنها النخلة يرثها الرجل أو يشتريها في بستان الرجل" وإنما يتجه الاعتراض على من تمسك بصورة من الصور الواردة في تفسير العرية ومنع غيرها، وأما من عمل بها كلها ونظمها في ضابط يجمعها فلا اعتراض عليه، والله أعلم.

(4/393)


85 - باب بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا
2193- وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الأَنْصَارِيِّ مِنْ بَنِي

(4/393)


حَارِثَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ قَالَ الْمُبْتَاعُ إِنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَانُ أَصَابَهُ مُرَاضٌ أَصَابَهُ قُشَامٌ عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا- فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ فَإِمَّا لاَ فَلاَ تَتَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُ الثَّمَرِ كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّنَ الأَصْفَرُ مِنْ الأَحْمَرِ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ حَدَّثَنَا حَكَّامٌ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ عَنْ زَكَرِيَّاءَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ سَهْلٍ عَنْ زَيْدٍ
2194- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ"
2195- حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةُ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يَعْنِي حَتَّى تَحْمَرَّ"
2196- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَا قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ فَقِيلَ وَمَا تُشَقِّحُ قَالَ تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا"
قوله: "باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها" يبدو بغير همز أي يظهر، والثمار بالمثلثة جمع ثمرة بالتحريك وهي أعم من الرطب وغيره، ولم يجزم بحكم في المسألة لقوة الخلاف فيها، وقد اختلف في ذلك على أقوال: فقيل يبطل مطلقا وهو قول ابن أبي ليلى والثوري، ووهم من نقل الإجماع على البطلان. وقيل يجوز مطلقا ولو شرط التبقية وهو قول يزيد بن أبي حبيب، ووهم من نقل الإجماع فيه أيضا. وقيل إن شرط القطع لم يبطل وإلا بطل وهو قول الشافعي وأحمد والجمهور ورواية عن مالك. وقيل يصح إن لم يشترط التبقية والنهي فيه محمول على بيع الثمار قبل أن توجد أصلا وهو قول أكثر الحنفية. وقيل هو على ظاهره لكن النهي فيه للتنزيه، وحديث زيد بن ثابت المصدر به الباب يدل للأخير، وقد يحمل على الثاني. وذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: الأول حديث زيد بن ثابت. قوله: "وقال الليث عن أبي الزناد الخ" لم أره موصولا من طريق الليث، وقد رواه سعيد بن منصور عن أبي الزناد عن أبيه نحو حديث الليث ولكن بالإسناد الثاني دون الأول، وأخرجه أبو داود والطحاوي من طريق يونس بن يزيد عن أبي الزناد بالإسناد الأول دون الثاني، وأخرجه البيهقي من طريق يونس بالإسنادين معا. قوله: "من بني حارثة" بالمهملة والمثلثة. وفي هذا الإسناد رواية تابعي عن مثله عن صحابي عن مثله، والأربعة مدنيون. قوله: "فإذا جذ الناس" بالجيم والذال المعجمة الثقيلة أي قطعوا ثمر النخل، أي استحق الثمر القطع. وفي رواية أبي ذر عن المستملى والسرخسي "أجذ" بزيادة ألف ومثله النسفي، قال ابن التين معناه دخلوا في زمن الجذاذ

(4/394)


كأظلم إذا دخل في الظلام، والجذاذ صرام النخل وهو قطع ثمرتها وأخذها من الشجر. قوله: "وحضر تقاضيهم" بالضاد المعجمة. قوله: "قال المبتاع" أي المشتري. قوله: "الدمان" بفتح المهملة وتخفيف الميم ضبطه أبو عبيد، وضبطه الخطابي بضم أوله، قال عياض هما صحيحان والضم رواية القابسي والفتح رواية السرخسي، قال: ورواها بعضهم بالكسر. وذكره أبو عبيد عن أبي الزناد بلفظ الأدمان زاد في أوله الألف وفتحها وفتح الدال، وفسره أبو عبيد بأنه فساد الطلع وتعفنه وسواده. وقال الأصمعي الدمال باللام: العفن. وقال القزاز الدمان: فساد النخل قبل إدراكه، وإنما يقع ذلك في الطلع يخرج قلب النخلة أسود معفونا. ووقع في رواية يونس الدمار بالراء بدل النون وهو تصحيف كما قاله عياض، ووجهه غيره بأنه أراد الهلاك كأنه قرأه بفتح أوله. قوله: "أصابه مرض" في رواية الكشميهني والنسفي "مراض" بكسر أوله للأكثر. وقال الخطابي بضمه وهو اسم لجميع الأمراض بوزن الصداع والتعال، وهو داء يقع في الثمرة فتهلك يقال أمرض إذا وقع في ماله عاهة، وزاد الطحاوي في رواية: "أصابه عفن" وهو بالمهملة والفاء المفتوحتين. قوله: "قشام" بضم القاف بعدها معجمة خفيفة زاد الطحاوي في روايته: "والقشام شيء يصيبه حتى لا يرطب" وقال الأصمعي: هو أن ينتقض ثمر النخل قبل أن يصير بلحا، وقيل هو أكال يقع في الثمر. قوله: "عاهات" جمع عاهة وهو بدل من المذكورات أولا، والعاهة العيب والآفة، والمراد بها هنا ما يصيب الثمر مما ذكر. قوله: "فإما لا" أصلها إن الشرطية وما زائدة فأدغمت، قال ابن الأنباري: هي مثل قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} فاكتفى بلفظه عن الفعل، وهو نظير قولهم: من أكرمني أكرمته ومن لا، أي ومن لم يكرمني لم أكرمه، والمعنى إن لا تفعل كذا فافعل كذا، وقد نطقت العرب بإمالة لا إمالة خفيفة، والعامة تشبع إمالتها وهو خطأ. قوله: "كالمشورة" بضم المعجمة وسكون الواو، وسكون المعجمة وفتح الواو لغتان، فعلى الأول فهي فعولة وعلى الثاني مفعلة. وزعم الحريري أن الإسكان من لحن العامة، وليس كذلك فقد أثبتها "الجامع" و "الصحاح" و "المحكم" وغيرهم. قوله: "وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت" القائل هو أبو الزناد. قوله: "حتى تطلع الثريا" أي مع الفجر، وقد روى أبو داود من طريق عطاء عن أبي هريرة مرفوعا قال: "إذا طلع النجم صباحا رفعت العاهة عن كل بلد" وفي رواية أبى حنيفة عن عطاء "رفعت العاهة عن الثمار" والنجم هو الثريا، وطلوعها صباحا يقع في أول فصل الصيف وذلك عند اشتداد الحر في بلاد الحجاز وابتداء نضج الثمار؛ فالمعتبر في الحقيقة النضج وطلوع النجم علامة له، وقد بينه في الحديث بقوله: "ويتبين الأصفر من الأحمر" وروى أحمد من طريق عثمان بن عبد الله بن سراقة "سألت ابن عمر عن بيع الثمار فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة. قلت ومتى ذلك؟ قال: حتى تطلع الثريا" ووقع في رواية ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة عن أبيه "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فسمع خصومة فقال: ما هذا" ؟ فذكر الحديث، فأفاد مع ذكر السبب وقت صدور النهي المذكور. قوله: "ورواه علي بن بحر" هو القطان الرازي أحد شيوخ البخاري، وحكام هو ابن سلم بفتح المهملة وسكون اللام رازي أيضا، وعنبسة بسكون النون وفتح الموحدة بعدها مهملة هو ابن سعيد بن الضريس بالضاد المعجمة مصغر ضرس كوفي ولي قضاء الري فعرف بالرازي وقد روى أبو داود حديث الباب من طريق عنبسة بن خالد عن يونس بن يزيد وهو غير هذا، وقد خفي هذا على أبي علي الصدفي فرأيت بخطه في هامش نسخته ما نصه: حديث عنبسة الذي أخرجه البخاري عن حكام أخرجه

(4/395)


الباجي من طريق أبي داود عن أحمد بن صالح عن عنبسة. انتهى. فظن أنهما واحد وليس كذلك بل هما اثنان، وشيخهما مختلف، وليس لعنبسة بن سعيد هذا في البخاري سوى هذا الموضع الموقوف، بخلاف عنبسة بن خالد. وكذا زكريا شيخه وهو ابن خالد الرازي ولا أعرف عنه راويا غير عنبسة بن سعيد المذكور. وقوله: "عن سهل" أي ابن أبي حثمة المتقدم ذكره، وزيد هو ابن ثابت، والغرض أن الطريق الأولى عن أبي الزناد ليست غريبة فردة. حديث نافع عن ابن عمر بلفظ: "نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها" نهى البائع والمشتري. أما البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل، وأما المشتري فلئلا يضيع ماله ويساعد البائع على الباطل. وفيه أيضا قطع النزاع والتخاصم، ومقتضاه جواز بيعها بعد بدو الصلاح مطلقا سواء اشترط الإبقاء أم لم يشترط، لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، وقد جعل النهي ممتدا إلى غاية بدو الصلاح، والمعنى فيه أن تؤمن فيها الغاية وتغلب السلامة فيثق المشتري بحصولها، بخلاف ما قبل بدو الصلاح فإنه بصدد الغرر. وقد أخرج مسلم الحديث من طريق أيوب عن نافع فزاد في الحديث: "حتى يأمن العاهة" وفي رواية يحيى ابن سعيد عن نافع بلفظ: "وتذهب عنه الآفة ببدو صلاحه حمرته وصفرته" وهذا التفسير من قول ابن عمر بينه مسلم في روايته من طريق شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر "فقيل لابن عمر ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته" وإلى الفرق بين ما قبل ظهور الصلاح وبعده ذهب الجمهور، وعن أبي حنيفة إنما يصح بيعها في هذه الحالة حيث لا يشترط الإبقاء، فإن شرطه لم يصح البيع. وحكى النووي في "شرح مسلم:" عنه أنه أوجب شرط القطع في هذه الصورة، وتعقب بأن الذي صرح به أصحاب أبي حنيفة أنه صحح البيع حالة الإطلاق قبل بدو صلاح وبعده، وأبطله بشرط الإبقاء قبله وبعده، وأهل مذهبه أعرف به من غيرهم. واختلف السلف في قوله: "حتى يبدو صلاحها" هل المراد به جنس الثمار حتى لو بدا الصلاح في بستان من البلد مثلا جاز بيع ثمرة جميع البساتين وإن لم يبدا الصلاح فيها، أو لا بد من بدو الصلاح في كل بستان على حدة، أو لا بد من بدو الصلاح في كل جنس على حدة أو في كل شجرة على حدة؟ على أقوال: والأول قول الليث، وهو عند المالكية بشرط أن يكون الصلاح متلاحقا. والثاني قول أحمد، وعنه رواية كالرابع، والثالث قول الشافعية. ويمكن أن يؤخذ ذلك من التعبير ببدو الصلاح لأنه دال على الاكتفاء بمسمى الإزهار من غير اشتراط تكامله فيؤخذ منه الاكتفاء بزهو بعض الثمرة وبزهو الشجرة مع حصول المعنى وهو الأمن من العاهة، ولولا حصول المعنى لكان تسميتها مزهية بأزهاء بعضها قد لا يكتفي به لكونه على خلاف الحقيقة، وأيضا فلو قيل بإزهاء الجميع لأدى إلى فساد الحائط أو أكثره، وقد من الله تعالى بكون الثمار لا تطيب دفعة واحدة ليطول زمن التفكه بها. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "عن أنس" سيأتي في الباب الذي يليه من وجه آخر عن حميد قال: "حدثنا أنس". قوله: "نهى أن تباع ثمرة النخل" كذا وقع التقييد بالنخل في هذه الطريق، وأطلق في غيرها، ولا فرق في الحكم بين النخل وغيره وإنما ذكر النخل لكونه كان الغالب عندهم. قوله: "قال أبو عبد الله: يعني حتى تحمر" كذا وقع هنا، وأبو عبد الله هو المصنف. ورواية الإسماعيلي تشعر بأن قائل ذلك هو عبد الله بن المبارك، فلعل أداة الكنية في روايتنا مزيدة وسيأتي هذا التفسير في الباب الذي يليه في نفس الحديث، ونذكر فيه من حكى أنه مدرج. قوله: "حتى تشقح" بضم أوله من الرباعي يقال أشقح ثمر النخل إشقاحا إذا احمر أو اصفر، والاسم الشقح

(4/396)


بضم المعجمة وسكون القاف بعدها مهملة، وذكره مسلم من وجه آخر عن جابر بلفظ: "حتى تشقه" فأبدل من الحاء هاء لقربها منها. قوله: "فقيل وما تشقح" ؟ هذا التفسير من قول سعيد بن ميناء راوي الحديث، بين ذلك أحمد في روايته لهذا الحديث عن بهز بن أسد عن سليم بن حيان أنه هو الذي سأل سعيد بن ميناء عن ذلك فأجابه بذلك، وكذلك أخرجه مسلم من طريق بهز، وأخرجه الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سليم بن حبان فقال في روايته: "قلت لجابر ما تشقح الخ" فظهر أن السائل عن ذلك هو سعيد، والذي فسره هو جابر، وقد أخرج مسلم الحديث من طريق زيد بن أبي أنيسة عن أبي الوليد عن جابر مطولا وفيه: "وأن يشتري النخل حتى يشقه، والإشقاء أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء" وفي آخره: "فقال زيد فقلت لعطاء أسمعت جابرا يذكر هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم" وهو يحتمل أن يكون مراده بقوله هذا جميع الحديث فيدخل فيه التفسير، ويحتمل أن يكون مراده أصل الحديث لا التفسير فيكون التفسير من كلام الراوي، وقد ظهر من رواية ابن مهدي أنه جابر والله أعلم. ومما يقوي كونه مرفوعا وقوع ذلك في حديث أنس أيضا، وفيه دليل على أن المراد ببدو الصلاح قدر زائد على ظهور الثمرة، وسبب النهي عن ذلك خوف الغرر لكثرة الجوائح فيها، وقد بين ذلك في حديث أنس الآتي في الباب بعده "فإذا احمرت وأكل منها أمنت العاهة علها" أي غالبا. قوله: "تحمار وتصفار" قال الخطابي لم يرد بذلك اللون الخالص من الصفرة والحمرة، وإنما أراد حمرة أو صفرة بكمودة فلذلك قال تحمار وتصفار قال: ولو أراد اللون الخالص لقال تحمر وتصفر. وقال ابن التين: التشقيح تغير لونها إلى الصفرة والحمرة، فأراد بقوله تحمار وتصفار ظهور أوائل الحمرة والصفرة قبل أن تشبع، قال: وإنما يقال تفعال في اللون الغير المتمكن إذا كان يتلون، وأنكر هذا بعض أهل اللغة وقال: لا فرق بين تحمر وتصفر وتحمار وتصفار، ويحتمل أن يكون المراد المبالغة في احمرارها واصفرارها، كما تقرر أن الزيادة تدل على التكثير والمبالغة. "تكميل": قال الداودي الشارح: قول زيد بن ثابت كالمشورة يشير بها عليهم تأويل من بعض نقلة الحديث، وعلى تقدير أن يكون من قول زيد بن ثابت فلعل ذلك كان في أول الأمر ثم ورد الجزم بالنهي كما بينه حديث ابن عمر وغيره. قلت: وكان البخاري استشعر ذلك فرتب أحاديث الباب بحسب ذلك، فأفاد حديث زيد بن ثابت سبب النهي، وحديث ابن عمر التصريح بالنهي، وحديث أنس وجابر بيان الغاية التي ينتهي إليها النهي.

(4/397)


86 - باب بَيْعِ النَّخْلِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا
2197- حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا وَعَنْ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ قِيلَ وَمَا يَزْهُو قَالَ يَحْمَارُّ أَوْ يَصْفَارُّ"
قوله: "باب بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها" هذه الترجمة معقودة لبيان حكم بيع الأصول، والتي قبلها لحكم بيع الثمار. قوله: "معلى بن منصور" هو من كبار شيوخ البخاري. وإنما روى عنه في الجامع بواسطة، ووقع في نسخة الصغاني في آخر الباب: "قال أبو عبد الله: كتبت أنا عن معلى بن منصور، إلا أني لم أكتب عنه هذا الحديث.

(4/397)


قوله: "حتى يزهو" يقال زها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته، وسيأتي في الباب الذي بعده بلفظ: "حتى تزهى" وهو من أزهى يزهى إذا احمر أو اصفر. قوله: "قيل وما يزهو" لم يسم السائل عن ذلك في هذه الرواية ولا المسؤول، وقد رواه إسماعيل ابن جعفر كما سيأتي بعد خمسة أبواب عن حميد وفيه: "قلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر" وفي رواية مسلم من هذا الوجه "فقلت لأنس" وكذلك رواه أحمد عن يحيى القطان عن حميد لكن قال: "قيل لأنس ما تزهو".

(4/398)


87 - باب إِذَا بَاعَ الثِّمَارَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا ثُمَّ أَصَابَتْهُ عَاهَةٌ فَهُوَ مِنْ الْبَائِعِ
2198- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ فَقِيلَ لَهُ وَمَا تُزْهِي قَالَ حَتَّى تَحْمَرَّ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ"
2199- قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ ثَمَرًا قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ ثُمَّ أَصَابَتْهُ عَاهَةٌ كَانَ مَا أَصَابَهُ عَلَى رَبِّهِ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ تَتَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا وَلاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ"
قوله: "باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ثم أصابته عاهة فهو من البائع" جنح البخاري في هذه الترجمة إلى صحة البيع وإن لم يبد صلاحه، لكنه جعله قبل الصلاح من ضمان البائع، ومقتضاه أنه إذا لم يفسد فالبيع صحيح وهو في ذلك متابع للزهري كما أورده عنه في آخر الباب.قوله: "حتى تزهى" قال الخطابي. هذه الرواية هي الصواب فلا يقال في النخل تزهو إنما يقال تزهى لا غير وأثبت غيره ما نفاه فقال: زها إذا طال واكتمل، وأزهى إذا احمر واصفر. قوله: "فقيل وما تزهى" لم يسم السائل في هذه الرواية ولا المسؤول أيضا، وقد رواه النسائي من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بلفظ: "قيل يا رسول الله وما تزهى؟ قال تحمر" وهكذا أخرجه الطحاوي من طريق يحيى بن أيوب وأبو عوانة من طريق سليمان بن بلال كلاهما عن حميد وظاهره الرفع ورواه إسماعيل بن جعفر وغيره عن حميد موقوفا على أنس كما تقدم في الباب الذي قبله. قوله: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إذا منع الله الثمرة الحديث" هكذا صرح مالك برفع هذه الجملة، وتابعه محمد بن عباد عن الدراوردي عن حميد مقتصرا على هذه الجملة الأخيرة، وجزم الدار قطني وغير واحد من الحفاظ بأنه أخطأ فيه، وبذلك جزم ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه وأبي زرعة، والخطأ في رواية عبد العزيز من محمد بن عباد، فقد رواه إبراهيم بن حمزة عن الدراوردي كرواية إسماعيل ابن جعفر الآتي ذكرها. ورواه معتمر بن سليمان وبشر بن المفضل عن حميد فقال فيه: "قال أفرأيت الخ" قال: فلا أدري أنس قال: "بم يستحل" أو حدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه الخطيب في "المدرج" ورواه إسماعيل بن جعفر عن حميد فعطفه على كلام أنس في تفسير قوله: "تزهى" وظاهره الوقف وأخرجه الجوزقي من طريق يزيد بن هارون والخطيب من طريق أبي خالد الأحمر كلاهما عن حميد بلفظ: "قال أنس أرأيت إن منع الله الثمرة" الحديث، ورواه ابن المبارك وهشيم كما تقدم آنفا عن حميد فلم يذكر هذا القدر المختلف

(4/398)


فيه، وتابعهما جماعة من أصحاب حميد عنه على ذلك. قلت: وليس في جميع ما تقدم ما يمنع أن يكون التفسير مرفوعا، لأن مع الذي رفعه زيادة على ما عند الذي وقفه، وليس في رواية الذي وقفه ما ينفي قول من رفعه. وقد روى مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر ما يقوي رواية الرفع في حديث أنس ولفظه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته عاهة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟" واستدل بهذا على وضع الجوائح في الثمر يشتري بعد بدو صلاحه ثم تصيبه جائحة، فقال مالك: يضع عنه الثلث. وقال أحمد وأبو عبيد يضع الجميع. وقال الشافعي والليث والكوفيون: لا يرجع على البائع بشيء وقالوا إنما ورد وضع الجائحة فيما إذا بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع فيحمل مطلق الحديث في رواية جابر على ما قيد به في حديث أنس والله أعلم. واستدل الطحاوي بحديث أبي سعيد "أصيب رجل في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا عليه. فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" أخرجه مسلم وأصحاب السنن، قال: فلما لم يبطل دين الغرماء بذهاب الثمار وفيهم باعتها ولم يؤخذ الثمن منهم دل على أن الأمر بوضع الجوائح ليس على عمومه والله أعلم. وقوله: "بم يستحل أحدكم مال أخيه؟" أي لو تلف الثمر لانتفى في مقابلته العوض فكيف يأكله بغير عوض؟ وفيه إجراء الحكم على الغالب، لأن تطرق التلف إلى ما بدا صلاحه ممكن، وعدم التطرق إلى ما لم يبد صلاحه ممكن، فأنيط الحكم بالغالب في الحالتين. قوله: "وقال الليث حدثني يونس الخ" هذا التعليق وصله الذهلي في "الزهريات" وقد تقدم الحديث عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل بهذا وأتم منه، والغرض منه هنا ذكر استنباط الزهري للحكم المترجم به من الحديث.

(4/399)


88 - باب شِرَاءِ الطَّعَامِ إِلَى أَجَلٍ
2200- حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش قال ذكرنا ثم إبراهيم الرهن في السلف فقال لا بأس به ثم حدثنا عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاما من زفر إلى أجل فرهنه درعه"
قوله: "باب شراء الطعام إلى أجل" ذكر فيه حديث عائشة في شرائه صلى الله عليه وسلم طعاما إلى أجل، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في الرهن إن شاء الله تعالى.

(4/399)


89 - باب إِذَا أَرَادَ بَيْعَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ خَيْرٍ مِنْهُ
2201-02202- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ

(4/399)


باب قبض من باع نخلا قد أبرت او أرضا مزروعة او باجارة
...
90 - باب مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ بِإِجَارَةٍ
2203- قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ و قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُخْبِرُ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا نَخْلٍ بِيعَتْ قَدْ أُبِّرَتْ لَمْ يُذْكَرْ الثَّمَرُ فَالثَّمَرُ لِلَّذِي أَبَّرَهَا وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْحَرْثُ سَمَّى لَهُ نَافِعٌ هَذه الثَّلاَثَ"
[الحديث 2203- أطرافه في: 2204، 2206، 2379، 2716]
2204- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ"
قوله: "باب من باع نخلا قد أبرت أو أرضا مزروعة أو بإجارة" أي أخذ شيئا مما ذكر بإجارة. والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث والجمع نخيل، وقوله أبرت بضم الهمزة وكسر الموحدة مخففا على المشهور ومشددا والراء مفتوحة يقال أبرت النخل آبره أبرا بوزن أكلت الشيء آكله أكلا، ويقال أبرته بالتشديد أؤبرة تأبيرا، بوزن

(4/401)


علمته أعلمه تعليما والتأبير التشقيق والتلقيح ومعناه شق طلع النخلة الأنثى ليذر فيه شيء من طلع النخلة الذكر، والحكم مستمر بمجرد التشقيق ولو لم يضع فيه شيئا. وروى مسلم من حديث طلحة قال: "مررت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح" ؛ الحديث. قوله: "وقال لي إبراهيم" يعني ابن وموسى الرازي، وهشام شيخه هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: "أيما نخل" هكذا رواه ابن جريج عن نافع موقوفا، قال البيهقي: ونافع يروي حديث النخل عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث العبد عن ابن عمر عن عمر موقوفا. قلت: وقد أسند المؤلف حديث العبد مرفوعا كما سيأتي التنبيه عليه في كتاب الشرب، ونذكر هناك إن شاء الله تعالى ما وقع لصاحب "العمدة" وشارحيها من الوهم فيه، وحديث الحارث لم يروه غير ابن جريج، والرواية الموصولة ذكرها مالك والليث كما تراه في هذا الباب وفي الباب الذي يلي الباب الذي بعده، ووصل مالك والليث وغيرهما عن نافع عن ابن عمر قصة النخل دون غيرها. واختلف على نافع وسالم في رفع ما عدا النخل: فرواه الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعا في قصة النخل والعبد معا هكذا أخرجه الحفاظ عن الزهري، وخالفهم سفيان بن حسين فزاد فيه ابن عمر عن عمر مرفوعا لجميع الأحاديث أخرجه النسائي، وروى مالك والليث وأيوب وعبيد الله بن عمر وغيرهم عن نافع عن ابن عمر قصة النخل، وعن ابن عمر عن عمر قصة العبد موقوفة، كذلك أخرجه أبو داود من طريق مالك بالإسنادين معا، وسيأتي في الشرب من طريق مالك في قصة العبد موقوفة. وجزم مسلم والنسائي والدار قطني بترجيح رواية نافع المفصلة على رواية سالم، ومال على بن المديني والبخاري وابن عبد البر إلى ترجيح رواية سالم، وروى عن نافع القصتين أخرجه النسائي من طريق عبد ربه بن سعيد عنه وهو وهم، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع قال: ما هو إلا عن عمر شأن العبد؛ وهذا لا يدفع قول من صحح الطريقين وجوز أن يكون الحديث عند نافع عن ابن عمر على الوجهين. قوله: "وكذلك العبد والحرث" يشير بالعبد إلى حديث: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع" وصورة تشبيهه بالنخل من جهة الزوائد في كل منهما، وأما الحرث فقال القرطبي: أبار كل شيء بحسب ما جرت العادة أنه إذا فعل فيه نبتت الثمرة، ثمرته وانعقدت فيه، ثم قد يعبر به عن ظهور الثمرة وعن انعقادها وإن لم يفعل فها شيء. قوله: "من باع نخلا قد أبرت" في رواية نافع الآتية بعد يسير "أيما رجل أبر نخلا ثم باع أصلها الخ" وقد استدل بمنطوقه على أن من باع نخلا وعليها ثمرة مؤبرة لم تدخل الثمرة في البيع بل تستمر على ملك البائع، وبمفهومه على أنها إذا كانت غير موبرة أنها تدخل في البيع وتكون للمشتري وبذلك قال جمهور العلماء، وخالفهم الأوزاعي وأبو حنيفة فقالا: تكون للبائع قبل التأبير وبعده، وعكس ابن أبي ليلى فقال: تكون للمشتري مطلقا. وهذا كله عند إطلاق بيع النخل من غير تعرض للثمرة، فإن شرطها المشتري بأن قال اشتريت النخل بثمرتها كانت للمشتري، وإن شرطها البائع لنفسه قبل التأبير كانت له. وخالف مالك فقال: لا يجوز شرطها للبائع. فالحاصل أنه يستفاد من منطوقه حكمان ومن مفهومه حكمان أحدهما بمفهوم الشرط والآخر بمفهوم الاستثناء، قال القرطبي: القول بدليل الخطاب يعني بالمفهوم في هذا ظاهر لأنه لو كان حكم غير المؤبرة حكم المؤبرة لكان تقييده بالشرط لغوا لا فائدة فيه."تنبيه": لا يشترط في التأبير أن يؤبره أحد، بل لو تأبر بنفسه لم يختلف الحكم عند جميع القائلين به. قوله: "إلا أن يشترط المبتاع" المراد بالمبتاع المشترى بقرينة الإشارة إلى البائع بقوله من باع، وقد استدل بهذا

(4/402)


الإطلاق على أنه يصح اشتراط بعض الثمرة كما يصح اشتراط جميعها وكأنه قال إلا أن يشترط المبتاع شيئا من ذلك وهذه هي النكتة في حذف المفعول. وانفرد ابن القاسم فقال: لا يجوز له شرط بعضها، واستدل به على أن المؤبر يخالف في الحكم غير المؤبر. وقال الشافعية. لو باع نخلة بعضها مؤبر وبعضها غير مؤبر فالجميع للبائع، وإن باع نخلتين فكذلك يشترط اتحاد الصفقة، فإن أفرد فلكل حكمه. ويشترط كونهما في بستان واحد، فإن تعدد فلكل حكمه. ونص أحمد على أن الذي يؤبر للبائع والذي لا يؤبر للمشتري؛ وجعل المالكية الحكم للأغلب. وفي الحديث جواز التأبير وأن الحكم المذكور مختص بإناث النخل دون ذكوره وأما ذكوره فللبائع نظرا إلى المعنى، ومن الشافعية من أخذ بظاهر التأبير فلم يفرق بين أنثى وذكر، واختلفوا فيما لو باع نخلة وبقيت ثمرتها له ثم خرج طلع آخر من تلك النخلة فقال ابن أبي هريرة: هو للمشتري لأنه ليس للبائع إلا ما وجد دون ما لم يوجد؛ وقال الجمهور: هو للبائع لكونه من ثمرة المؤبرة دون غيرها. ويستفاد من الحديث أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد لا يفسد البيع فلا يدخل في النهي عن بيع وشرط، واستدل الطحاوي بحديث الباب على جواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؛ واحتج به لمذهبه الذي حكيناه في ذلك. وقد تعقبه البيهقي وغيره بأنه يستدل بالشيء في غير ما ورد فيه حتى إذا جاء ما ورد فيه استدل بغيره عليه كذلك، فيستدل لجواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بحديث التأبير، ولا يعمل بحديث التأبير، بل لا فرق عنده كما تقدم في البيع قبل التأبير وبعده فإن الثمرة في ذلك للمشتري سواء شرطها البائع لنفسه أو لم يشترطها، والجمع بين حديث التأبير وحديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح سهل بأن الثمرة في بيع النخل تابعة للنخل وفي حديث النهي مستقلة، وهذا واضح جدا، والله أعلم بالصواب.

(4/403)


91 - باب بَيْعِ الزَّرْعِ بِالطَّعَامِ كَيْلًا
2205- حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما قال ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا أو كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام ونهى عن ذلك كله"
قوله: "باب بيع الزرع بالطعام كيلا" ذكر فيه حديث ابن عمر في النهي عن المزابنة وفيه: "وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام" قال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه لا يجوز بيع الزرع قبل أن يقطع بالطعام، لأنه بيع مجهول بمعلوم، وأما بيع رطب ذلك بيابسه بعد القطع وإمكان المماثلة فالجمهور لا يجيزون بيع شيء من ذلك بجنسه لا متفاضلا ولا متماثلا. انتهى. وقد تقدم البحث في ذلك قبل أبواب. واحتج الطحاوي لأبي حنيفة في جواز بيع الزرع الرطب بالحب اليابس بأنهم أجمعوا على جواز بيع الرطب بالرطب مثلا بمثل مع أن رطوبة أحدهما ليست كرطوبة الآخر بل تختلف اختلافا متباينا، وتعقب بأنه قياس في مقابلة النص فهو فاسد، وبأن الرطب بالرطب وإن تفاوت لكنه نقصان يسير فعفي عنه لقلته بخلاف الرطب بالتمر فإن تفاوته تفاوت كثير، والله أعلم.

(4/403)


92 - باب بَيْعِ النَّخْلِ بِأَصْلِهِ
2206- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم

(4/403)


93 - باب بَيْعِ الْمُخَاضَرَةِ
2207- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُخَاضَرَةِ وَالْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْمُزَابَنَةِ"
2208- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ التَّمْرِ حَتَّى يَزْهُوَ فَقُلْنَا لِأَنَسٍ مَا زَهْوُهَا قَالَ تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ"
قوله: "باب بيع المخاضرة" بالخاء والضاد المعجمتين، وهي مفاعلة من الخضرة، والمراد بيع الثمار والحبوب قبل أن يبدو صلاحها. قوله: "حدثنا إسحاق بن وهب" أي العلاف الواسطي، وهو ثقة ليس له ولا لشيخه ولا لشيخ شيخه في البخاري غير هذا الموضع. قوله: "حدثنا عمر بن يونس حدثنا أبي" هو يونس بن القاسم اليمامي من بني حنيفة، وثقه يحيى ابن معين وغيره، وهو قليل الحديث. قوله: "عن المحاقلة" قال أبو عبيد: هو بيع الطعام في سنبله بالبر مأخوذ من الحقل. وقال الليث: الحقل الزرع إذا تشعب من قبل أن يغلظ سوقه، والمنهي عنه بيع الزرع قبل إدراكه، وقيل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وقيل بيع ما في رءوس النخل بالتمر، وعن مالك هو كراء الأرض بالحنطة أو بكيل طعام أو إدام، والمشهور أن المحاقلة كراء الأرض ببعض ما تنبت، وسيأتي البحث فيه في كتاب المزارعة إن شاء الله تعالى. وقد تقدم الكلام على الملامسة والمنابذة في بابه وكذلك المزابنة. زاد الإسماعيلي في روايته: "قال يونس بن القاسم. والمخاضرة بيع الثمار قبل أن تطعم وبيع الزرع قبل أن يشتد ويفرك منه". وللطحاوي قال عمر بن يونس: فسر لي أبي في المخاضرة قال: "لا يشترى من ثمر النخل حتى يونع: يحمر أو يصفر" وبيع الزرع الأخضر مما يحصد بطنا بعد بطن مما يهتم بمعرفة الحكم فيه، وقد أجازه الحنفية مطلقا ويثبت الخيار إذا اختلف، وعند مالك يجوز إذا بدا صلاحه وللمشترى ما يتجدد منه بعد ذلك حتى ينقطع، ويغتفر الغرر في ذلك للحاجة، وشبهه بجواز كراء خدمة العبد مع أنها تتجدد وتختلف، وبكراء المرضعة مع أن لبنها يتجدد ولا يدري كم يشرب منه الطفل، وعند الشافعية يصح بعد بدو الصلاح مطلقا، وقبله يصح بشرط القطع. ولا يصح بيع الحب في سنبله كالجوز واللوز. حديث أنس في النهي عن بيع ثمر النخل حتى يزهو، وقد تقدم

(4/404)


البحث فيه قريبا.

(4/405)


94 - باب بَيْعِ الْجُمَّارِ وَأَكْلِهِ
2209- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَأْكُلُ جُمَّارًا فَقَالَ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ كَالرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ فَإِذَا أَنَا أَحْدَثُهُمْ قَالَ هِيَ النَّخْلَة"
قوله: "باب بيع الجمار وأكله" بضم الجيم وتشديد الميم هو قلب النخلة، وهو معروف، ذكر فيه حديث ابن عمر "من الشجرة شجرة كالرجل المؤمن" وقد تقدمت مباحثه في كتاب العلم، وليس فيه ذكر البيع لكن الأكل منه يقتضى جواز بيعه قاله ابن المنير، ويحتمل أن يكون أشار إلى أنه لم يجد حديثا على شرطه يدل بمطابقته على بيع الجمار. وقال ابن بطال: بيع الجمار وأكله من المباحات بلا خلاف، وكل ما انتفع به للأكل فبيعه جائز، قلت: فائدة الترجمة رفع توهم المنع من ذلك لأنه قد يظن إفساد أو إضاعة وليس كذلك، وفي الحديث أكل النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة القوم فيرد بذلك على من كره إظهار الأكل واستحب إخفاءه قياسا على إخفاء مخرجه.

(4/405)


باب من اجرى امر الامصار على مايتعارفون بينهم في البيوع و الاجارة
...
95 - باب مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الأَمْصَارِ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ
بَيْنَهُمْ فِي الْبُيُوعِ وَالإِجَارَةِ وَالْمِكْيَالِ وَالْوَزْنِ وَسُنَنِهِمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ الْمَشْهُورَةِ
وَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْغَزَّالِينَ سُنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ رِبْحًا وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ لاَ بَأْسَ الْعَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ وَيَأْخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبْحًا وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِهِنْدٍ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وَاكْتَرَى الْحَسَنُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِرْدَاسٍ حِمَارًا فَقَالَ بِكَمْ قَالَ بِدَانَقَيْنِ فَرَكِبَهُ ثُمَّ جَاءَ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ الْحِمَارَ الْحِمَارَ فَرَكِبَهُ وَلَمْ يُشَارِطْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ
2210- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو طَيْبَةَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ
2211- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ هِنْدٌ أُمُّ مُعَاوِيَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا قَالَ خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ
[الحديث 2211- أطرافه في: 2460، 3825، 5359، 5364، 5370، 6641، 7161، 7180]

(4/405)


96 - باب بَيْعِ الشَّرِيكِ مِنْ شَرِيكِهِ
2213- حدثني محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر رضي الله عنه ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل مال لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة"
[الحديث 2213- أطرافه في: 2214، 2257، 2495، 2496، 2976]
قوله: "باب بيع الشريك من شريكه" قال ابن بطال: هو جائز في كل شيء مشمع، وهو كبيعه من الأجنبي، فإن باعه من الأجنبي فللشريك الشفعة؛ وإن باعه من الشريك ارتفعت الشفعة. وذكر فيه حديث جابر في الشفعة وسيأتي الكلام عليه في بابه: وحاصل كلام ابن بطال مناسبة الحديث للترجمة. وقال غيره معنى الترجمة حكم بيع الشريك من شريكه، والمراد منه حض الشريك أن لا يبيع ما فيه الشفعة إلا من شريكه لأنه إن باعه لغيره كان للشريك أخذه بالشفعة قهرا، وقيل وجه المناسبة أن الدار إذا كانت بين ثلاثة فباع أحدهم للآخر كان للثالث أن يأخذ بالشفعة

(4/407)


ولو كان المشتري شريكا. وقيل ينبني على الخلاف. هل الأخذ بالشفعة أخذ من المشتري أو من البائع؟ فإن كان من المشتري فيكون شريكا، وإن كان من البائع فهو شريك شريكه. وقيل مراده أن الشفيع إن كان له الأخذ قهرا فللبائع إذا كان شريكه أن يبيع له ذلك بطريق الاختيار بل أولى، والله أعلم.

(4/408)


باب بيع الارض و الدور و العروض مشعاً غير مقسوم
...
97 - باب بَيْعِ الأَرْضِ وَالدُّورِ وَالْعُرُوضِ مُشَاعًا غَيْرَ مَقْسُومٍ
2214- حدثنا محمد بن محبوب حدثنا عبد الواحد حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال ثم قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مال لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة"
حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد ثم بهذا وقال في كل ما لم يقسم تابعه هشام عن معمر قال عبد الرزاق في كل مال رواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري
قوله: "باب بيع الأرض والدور والعروض مشاعا غير مقسوم" ذكر فيه حديث جابر في الشفعة أيضا وسيأتي في مكانه. ذكر هنا اختلاف الرواة في قوله: "كل ما لم يقسم" أو "كل ما لم يقسم" فقال عبد الواحد بن زياد وهشام بن يوسف عن معمر "كل ما لم يقسم" وقال عبد الرزاق عن معمر "كل مال" وكذا قال عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، وطريق هشام وصلها المؤلف في "ترك الحيل" وطريق عبد الرزاق وصلها في الباب الذي قبله، وطريق عبد الرحمن بن إسحاق وصلها مسدد في مسنده عن بشر ابن المفضل عنه، ووقع عند السرخسي في رواية عبد الرزاق وفي رواية عبد الواحد في الموضعين "كل مال" وللباقين "كل ما" في رواية عبد الواحد و "كل مال" في رواية عبد الرزاق، وقد رواه إسحاق عن عبد الرزاق بلفظ: "قضى بالشفعة في الأموال ما لم تقسم" وهو يرجح رواية غير السرخسي والله أعلم. قال الكرماني: الفرق بين هذه الثلاث يعني قوله: "تابعه" و "قال:" و "رواه" أن المتابعة أن يروي الراوي الآخر الحديث بعينه والرواية إنما تستعمل عند المذاكرة والقول أعم، وما ادعاه من الاتحاد في المتابعة مردود فإنها أعم من أن تكون باللفظ أو بالمعنى، وحصره الرواية في المذاكرة مردود أيضا فإن في هذا الكتاب ما عبر عنه بقوله: "رواه فلان" ثم أسنده هو في موضع آخر بصيغة "حدثنا". وأما الذي هنا بخصوصه فعبد الرحمن بن إسحاق ليس على شرطه ولذلك حذفه مع كونه أخرج الحديث عن مسدد الذي وصله عن عبد الرحمن.

(4/408)


98 - باب إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَرَضِيَ
2215- حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبو عاصم أخبرنا بن جريج قال أخبرني موسى بن عقبة عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر فدخلوا في غار في جبل فانحطت عليهم صخرة قال فقال بعضهم لبعض ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه فقال أحدهم اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت أخرج فأرعى ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب فآتي به

(4/408)


باب الشراء و البيع مع المشركين و أهل الحرب
...
99 - باب الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ
2216- حدثنا أبو النعمان حدثنا الفاء بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال ثم كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء رجل مشرك بغنم يسوقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيعا أم عطية أو قال أم هبة قال لا بل بيع فاشترى منه شاة "
[الحديث 2216- طرفاه في: 2618، 5382]
قوله: "باب الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب" قال ابن بطال: معاملة الكفار جائزة، إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين. واختلف العلماء في مبايعة من غالب ماله الحرام، وحجة من رخص فيه قوله صلى الله عليه وسلم للمشرك "أبيعا أم هبة" ؟ وفيه جواز بيع الكافر وإثبات ملكه على ما في يده، وجواز قبول الهدية منه، وسيأتي حكم هدية المشركين في كتاب الهبة. قلت: وأورد المصنف فيه حديث الباب بإسناده هذا أتم سياقا منه، ويأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. وقوله فيه: "مشعان" بضم الميم وسكون المعجمة بعدها مهملة وآخره نون ثقيلة أي طويل شعث الشعر، وسيأتي تفسيره للمصنف في الهبة. وقوله: "أبيعا أم عطية" ؟ منصوب بفعل مضمر أي أتجعله ونحو ذلك، ويجوز الرفع أي أهذا، وقد تقدم قريبا في "باب بيع السلاح في الفتنة" ما يتعلق بمبايعة أهل الشرك.

(4/410)


باب شراء المملوك من الحربي و هبته و عتقه
...
100 - باب شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ مِنْ الْحَرْبِيِّ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِهِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِسَلْمَانَ كَاتِبْ وَكَانَ حُرًّا فَظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ وَسُبِيَ عَمَّارٌ وَصُهَيْبٌ وَبِلاَلٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى[النحل71] {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}
2217- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم بِسَارَةَ فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ أَوْ جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ مَنْ هَذِهِ الَّتِي مَعَكَ قَالَ أُخْتِي ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ لاَ تُكَذِّبِي حَدِيثِي فَإِنِّي أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِي وَاللَّهِ إِنْ عَلَى الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهَا فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي فَقَالَتْ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ

(4/410)


101 - باب جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ
2221- حدثنا زهير بن حرب حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن صالح قال حدثني بن شهاب أن عبيد الله بن عبد الله أخبره أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال هلا استمتعتم بإهابها قالوا إنها ميتة قال إنما حرم أكلها"
قوله: "باب جلود الميتة قبل أن تدبغ" أي هل يصح بيعها أم لا؟ أورد فيه حديث ابن عباس في شاة ميمونة، وكأنه أخذ جواز البيع من جواز الاستمتاع لأن كل ما ينتفع به يصح بيعه ومالا فلا، وبهذا يحاب عن اعتراض الإسماعيلي بأنه ليس في الخير الذي أورده تعرض للبيع، والانتفاع بجلود الميتة مطلقا قبل الدباغ وبعده مشهور من مذهب الزهري، وكأنه اختيار البخاري، وحجته مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما حرم أكلها" فإنه يدل على أن كل

(4/413)


ما عدا أكلها مباح، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الذبائح إن شاء الله تعالى.

(4/414)


102 - باب قَتْلِ الْخِنْزِيرِ وَقَالَ جَابِرٌ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْخِنْزِيرِ
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن بن شهاب عن بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ليوشكن أن بن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد"
[الحديث 2222- أطرافه في: 2476، 3448، 3449]
قوله: "باب قتل الخنزير" أي هل يشرع كما شرع تحريم أكله؟ ووجه دخوله في أبواب البيع الإشارة إلى أن ما أمر بقتله لا يجوز بيعه، قال ابن التين: شذ بعض الشافعية فقال لا يقتال الخنزير إذا لم يكن فيه ضراوة. قال: والجمهور على جواز قتله مطلقا. والخنزير بوزن غربيب ونونه أصلية وقيل زائدة وهو مختار الجوهري. قوله: "وقال جابر حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الخنزير" هذا طرف من حديث وصله المؤلف كما سيأتي بعد تسعة أبواب، ثم ذكر المصنف في الباب حديث أبي هريرة في نزول عيسى بن مريم فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في أحاديث الأنبياء، وموضع الترجمة منه قوله: "ويقتل الخنزير" أي يأمر بإعدامه مبالغة في تحريم أكله، وفيه توبيخ عظيم للنصارى الذين يدعون أنهم على طريقة عيسى ثم يستحلون أكل الخنزير ويبالغون في محبته.

(4/414)


باب لايذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه
...
103 - باب لاَ يُذَابُ شَحْمُ الْمَيْتَةِ وَلاَ يُبَاعُ وَدَكُهُ
رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2223- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ أَخْبَرَنِي طَاوُسٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ فُلاَنًا بَاعَ خَمْرًا فَقَالَ قَاتَلَ اللَّهُ فُلاَنًا أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا"
[الحديث 2223- طرفه في 3460]
2224- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قَاتَلَ اللَّهُ يَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ لَعَنَهُمْ {قُتِلَ} لُعِنَ {الْخَرَّاصُونَ} الْكَذَّابُونَ"
قوله: "باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم" أي روى معناه. وسيأتي شرح ذلك في "باب بيع الميتة والأصنام".قوله: "بلغ عمر بن الخطاب أن فلانا باع خمرا" في رواية مسلم وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة بهذا الإسناد" أن سمرة باع خمرا فقال: قاتل الله سمرة" زاد البيهقي من طريق الزعفراني "عن سفيان عن سمرة بن جندب" قال ابن الجوزي والقرطبي وغيرهما اختلف في كيفية بيع سمرة للخمر

(4/414)


باب بيع التصاوير التى ليس فيها روح و مايكره من ذلك
...
104 - باب بَيْعِ التَّصَاوِيرِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا رُوحٌ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ
2225- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَخْبَرَنَا عَوْفٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبَّاسٍ إِنِّي إِنْسَانٌ إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ أُحَدِّثُكَ إِلاَّ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ وَيْحَكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ كُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ سَمِعَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ مِنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ هَذَا الْوَاحِدَ"
[الحديث 2225- طرفاه في: 5963، 7042]
قوله: "باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح؛ وما يكره من ذلك" أي من الاتخاذ أو البيع أو الصنعة أو ما هو أعم من ذلك، والمراد بالتصاوير الأشياء التي تصور. ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عباس مرفوعا: "من صور صورة فإن الله معذبه" الحديث، وجه الاستدلال به على كراهية البيع وغيره واضح، وسعيد بن أبي الحسن راويه عن ابن عباس هو أخو الحسن البصري وهو أسن منه ومات قبله وليس له في البخاري موصولا سوى هذا الحديث، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. قوله: "فربا الرجل" بالراء والموحدة أي انتفخ، قال الخليل: ربا الرجل أصابه نفس في جوفه وهو الربو والربوة؛ وقيل معناه ذعر وامتلأ خوفا. وقوله ربوة بضم الراء وبفتحها. قوله: "فعليك بهذا الشجر كل شيء ليس فيه روح" كذا في الأصل بخفض "كل" على أنه بدل كل من بعض؛ وقد جوزه بعض النحاة. ويحتمل أن يكون على حذف مضاف أي عليك بمثل الشجر، أو على حذف واو العطف أي وكل شيء، ومثله قولهم في التحيات الصلوات إذ المعنى والصلوات،

(4/416)


وبهذا الأخير جزم الحميدي في جمعه، وكذا ثبت في رواية مسلم والإسماعيلي بلفظ: "فاصنع الشجر وما لا نفس له" ولأبي نعيم من طريق هوذة عن عوف "فعليك بهذا الشجر وكل شيء ليس فيه روح" بإثبات واو العطف. وقال الطيبي قوله: "كل شيء" هو بيان للشجر لأنه لما منعه عن التصوير وأرشده إلى الشجر كان غير واف بمقصوده ولأنه قصد كل ما لا روح فيه ولم يقصد خصوص الشجر، وقوله كل بالخفض ويجوز النصب. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف. قوله: "سمع سعيد بن أبي عروبة من النضر بن أنس هذا الواحد" أي الحديث، سقطت هذه الزيادة من رواية النسفي هنا، وأشار بذلك إلى ما أخرجه في اللباس من طريق عبد الأعلى عن سعيد عن النضر عن ابن عباس بمعناه، وسأذكر ما بين الروايتين من التغاير هناك إن شاء الله تعالى. ثم وجدت في نسخة الصغاني قبل قوله: "سمع سعيد" ما نصه "قال أبو عبد الله: وعن محمد عن عبدة عن سعيد بن أبي عروبة سمعت النضر بن أنس قال: كنت عند ابن عباس "بهذا الحديث وبعده" قال أبو عبد الله سمع سعيد الخ" فزال الإشكال بهذا، ولم أجد هذا في شيء من نسخ البخاري إلا في نسخة الصغاني، ومحمد المذكور هو ابن سلام، وعبدة هو ابن سليمان.

(4/417)


105 - باب تَحْرِيمِ التِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ
وَقَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ
2226- حدثنا مسلم حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها ثم لما نزلت آيات سورة البقرة عن آخرها خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال حرمت التجارة في الخمر"
قوله: "باب تحريم التجارة في الخمر" تقدم نظير هذه الترجمة في أبواب المساجد لكن بقيد المسجد، وهذه أعم من تلك. قوله: "وقال جابر حرم النبي صلى الله عليه وسلم الخمر" سيأتي موصولا بعد ستة أبواب، ونذكر تحرير المسألة هناك إن شاء الله تعالى. ثم أورد حديث عائشة بلفظ: "حرمت التجارة في الخمر" وقد تقدم في "بأب أكل الربا" من هذا الوجه أتم سياقا، ولأحمد والطبراني من حديث تميم الداري مرفوعا: "إن الخمر حرام شراؤها وثمنها".

(4/417)


106 - باب إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا
2227- حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ
[الحديث 2227- طرفه في: 2270]
قوله: "باب إثم من باع حرا" أي عالما متعمدا، والحر الظاهر أن المراد به من بني آدم، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك فيدخل مثل الموقوف. قوله: "حدثنا بشر بن مرحوم" هو بشر بن عبيس بمهملة ثم موحدة مصغرا بن مرحوم بن عبد العزيز ابن مهران العطار فنسب إلى جده، وهو شيخ بصري ما أخرج عنه من الستة إلا البخاري، وقد أخرج حديثه هذا في الإجارة عن شيخ آخر وافق بشرا في روايته له عن شيخهما. قوله: "حدثنا يحيى بن سليم" بالتصغير هو الطائفي نزيل مكة مختلف في توثيقه، وليس له في البخاري موصولا سوى هذا الحديث،

(4/417)


باب امر النبي اليهود بيع أراضيهم حين أجلاهم
...
107 - باب أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ بِبَيْعِ أَرَضِيهِمْ حِينَ أَجْلاَهُمْ
فِيهِ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قوله: "باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ببيع أرضيهم" كذا في رواية أبي ذر بفتح الراء وكسر الضاد المعجمة جمع أرض وهو جمع شاذ لأنه جمع جمع السلامة ولم يبق مفرده سالما لأن الراء في المفرد ساكنة وفي الجمع محركة. قوله: "حين أجلاهم" أي من المدينة. قوله: "فيه المقبري عن أبي هريرة" يشير إلى ما أخرجه في الجهاد في "باب إخراج اليهود من جزيرة العرب من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: "بينا نحن في المسجد إذ خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: انطلقوا إلى اليهود - وفيه - فقال إني أريد أن أجليكم، فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه" وهذه القصة

(4/418)


وقعت لبني النضير كما سيأتي بيان ذلك في موضعه، وكأن المصنف أخذ بيع الأرض من عموم بيع المال، وقد تقدم في أبواب الخيار في قصة عثمان وابن عمر إطلاق المال على الأرض، وغفل الكرماني عن الإشارة إلى هذا الحديث فقال: إنما ذكر البخاري هذا الحديث بهذه الصيغة مقتضبا لكونه لم يثبت الحديث المذكور على شرطه والصواب أنه اكتفى هنا بالإشارة إليه لاتحاد مخرجه عنده ففر من تكرار الحديث على صورته بغير فائدة زائدة كما هو الغالب من عادته.

(4/419)


باب بيع العبيد و الحيوان نسيئة
...
108 - باب بَيْعِ الْعَبِيدِ وَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً
وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ يُوفِيهَا صَاحِبَهَا بِالرَّبَذَةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ يَكُونُ الْبَعِيرُ خَيْرًا مِنْ الْبَعِيرَيْنِ وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا وَقَالَ آتِيكَ بِالْآخَرِ غَدًا رَهْوًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لاَ رِبَا فِي الْحَيَوَانِ الْبَعِيرُ بِالْبَعِيرَيْنِ وَالشَّاةُ بِالشَّاتَيْنِ إِلَى أَجَلٍ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لاَ بَأْسَ بَعِيرٌ بِبَعِيرَيْنِ نَسِيئَةً
2228- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ فِي السَّبْيِ صَفِيَّةُ فَصَارَتْ إِلَى دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ثُمَّ صَارَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب بيع والعبد والحيوان بالحيوان نسيئة" التقدير بيع العبد بالعبد نسيئة والحيوان بالحيوان نسيئة وهو من عطف العام على الخاص، وكأنه أراد بالعبد جنس من يستعبد فيدخل فيه الذكر والأنثى ولذلك ذكر قصة صفية، أو أشار إلى إلحاق حكم الذكر بحكم الأنثى في ذلك لعدم الفرق، قال ابن بطال: اختلفوا في ذلك فذهب الجمهور إلى الجواز، لكن شرط مالك أن يختلف الجنس، ومنع الكوفيون وأحمد مطلقا لحديث سمرة المخرج في السنن ورجاله ثقات إلا أنه اختلف في سماع الحسن من سمرة، وفي الباب عن ابن عباس عند البزار والطحاوي ورجاله ثقات أيضا إلا أنه اختلف في وصله وإرساله فرجح البخاري وغير واحد إرساله، وعن جابر عند الترمذي وغيره وإسناده لين، وعن جابر بن سمرة عند عبد الله في زيادات المسند، وعن ابن عمر عند الطحاوي والطبراني، واحتج للجمهور بحديث عبد الله بن عمرو "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا - وفيه - فابتاع البعير بالبعيرين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أخرجه الدار قطني وغيره وإسناده قوي، واحتج البخاري هنا بقصة صفية واستشهد بآثار الصحابة. قوله: "واشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة...الحديث" وصل مالك والشافعي عنه عن نافع عن ابن عمر بهذا ورواه ابن أبي شيبة من طريق أبي بشر عن نافع "أن ابن عمر اشترى ناقة بأربعة أبعرة بالربذة فقال لصاحب الناقة: اذهب فانظر فإن رضيت فقد وجب البيع" وقوله: "راحلة" أي ما أمكن ركوبه من الإبل ذكرا أو أنثى، وقوله: "مضمونة" صفة راحلة أي تكون في ضمان البائع حتى يوفيها أي يسلمها للمشتري، والربذة بفتح الراء والموحدة والمعجمة مكان معروف بين مكة والمدينة. قوله: "وقال ابن عباس قد يكون البعير خيرا من البعيرين" وصله الشافعي من طريق طاوس أن ابن عباس سئل عن بعير ببعيرين فقاله. قوله: "واشترى رافع بن خديج بعيرا ببعيرين

(4/419)


فأعطاه أحدهما وقال: آتيك بالآخر غدا رهوا إن شاء الله" وصله عبد الرزاق من طريق مطرف بن عبد الله عنه، وقوله: "رهوا" بفتح الراء وسكون الهاء أي سهلا، والرهو السير السهل، والمراد به هنا أن يأتيه به سريعا من غير مطل. قوله: "وقال ابن المسيب: لا ربا في الحيوان البعير بالبعيرين والشاة بالشاتين إلى أجل" أما قول سعيد فوصله مالك عن ابن شهاب عنه "لا ربا في الحيوان" ووصله ابن أبي شيبة من طريق أخرى عن الزهري عنه "لا بأس بالبعير بالبعيرين نسيئة". قوله: "وقال ابن سيرين: لا بأس ببعير ببعيرين ودرهم بدرهم نسيئة" كذا في معظم الروايات، ووقع في بعضها ودرهم بدرهمين نسيئة وهو خطأ والصواب درهم بدرهم، وقد وصله عبد الرزاق من طريق أيوب عنه بلفظ: "لا بأس بعير ببعيرين ودرهم بدرهم نسيئة، فإن كان أحد البعيرين نسيئة فهو مكروه" وروى سعيد بن منصور من طريق يونس عنه أنه كان لا يرى بأسا بالحيوان يدا بيد أو الدراهم نسيئة، ويكره أن تكون الدراهم نقدا والحيوان نسيئة. قوله: "كان في السبي صفية فصارت إلى دحية ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم" كذا أورده مختصرا وأشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه مما يناسب ترجمته أنه صلى الله عليه وسلم عوض دحية عنها بسبعة أرؤس، وهو عند مسلم من طريق حماد بن ثابت، وللمصنف من وجه آخر كما سيأتي "فقال لدحية خذ جارية من السبي غيرها" قال ابن بطال: ينزل تبديلها بجارية غير معينة يختارها منزلة بيع جارية بجارية نسيئة، وسيأتي الكلام على قصة صفية هذه مستوفى في غزوة خيبر إن شاء الله تعالى.

(4/420)


109 - باب بَيْعِ الرَّقِيقِ
2229- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني بن محيريز ثم أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه أخبره أنه بينما هو جالس ثم النبي صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله إنا نصيب سبيا فنحب الأثمان فكيف ترى في العزل فقال أو إنكم تفعلون ذلك لا عليكم أن لا تفعلوا ذلكم فإنها ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي خارجة"
[الحديث 2229- أطرافه في: 2542، 4138، 5210، 6603، 7409]
قوله: "باب بيع الرقيق" أورد فيه حديث أبي سعيد أنه قال: "يا رسول الله إنا نصيب سبايا فنحب الأثمان" الحديث ودلالته على الترجمة واضحة، وسيأتي الكلام عليه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. وقوله في هذا السياق "أنه بينما هو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نصيب سبيا" يوهم أنه السائل، وليس كذلك، بل وقع في السياق حذف ظهر بيانه مما ساقه النسائي عن عمرو بن منصور عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه بلفظ: "بينما هو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم جاء رجل من الأنصار فقال:" فذكره، وسيأتي البحث في ذلك.

(4/420)


باب بيع مد بر
...
110 - باب بَيْعِ الْمُدَبَّرِ
2230- حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُدَبَّرَ

(4/420)


111 - باب هَلْ يُسَافِرُ بِالْجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا ؟
وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُبَاشِرَهَا
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا وُهِبَتْ الْوَلِيدَةُ الَّتِي تُوطَأُ أَوْ بِيعَتْ أَوْ عَتَقَتْ فَلْيُسْتَبْرَأْ رَحِمُهَا بِحَيْضَةٍ وَلاَ تُسْتَبْرَأُ الْعَذْرَاءُ وَقَالَ عَطَاءٌ لاَ بَأْسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الْحَامِلِ مَا دُونَ الْفَرْجِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}
2235- حدثنا عبد الغفار بن داود حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب وقد قتل زوجها وكانت عروسا فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه فخرج بها حتى بلغنا سد الروحاء حلت فبنى بها ثم صنع حيسا في نطع صغير ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آذن من حولك فكانت تلك وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية ثم خرجنا إلى المدينة قال فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة ثم يجلس ثم بعيره فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب"
قوله: "باب هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها" هكذا قيد بالسفر، وكأن ذلك لكونه مظنة الملامسة والمباشرة غالبا. قوله: "ولم ير الحسن بأسا أن يقبلها أو يباشرها" وصله ابن أبي شيبة من طريق يونس بن عبيدة عنه قال: وكان ابن سيرين يكره ذلك. وروى عبد الرزاق من وجه آخر عن الحسن قال يصيب ما دون الفرج، قال الداودي: قول الحسن إن كان في المسبية صواب. وتعقبه ابن التين بأنه لا فرق في الاستبراء بين المسبية وغير ها. قوله: "وقال ابن عمر: إذا وهبت الوليدة التي توطأ أو بيعت أو عتقت فليستبرأ رحمها بحيضة، ولا تستبرأ العذراء" أما قوله الأول فوصله ابن أبي شيبة من طريق عبد الله عن نافع عنه، وأما قوله: "ولا تستبرأ العذراء" فوصله عبد الرزاق من طريق أيوب عن نافع عنه، وكأنه يرى أن البكارة تمنع الحمل أو تدل على عدمه أو عدم الوطء وفيه نظر، وعلى تقديره ففي الاستبراء شائبة تعبد ولهذا تستبرأ التي أيست من الحيض. قوله: "وقال عطاء: لا بأس أن يصيب من جاريته الحامل ما دون الفرج، قال الله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} قال ابن التين: إن أراد عطاء بالحامل من حملت من سيدها فهو فاسد لأنه لا يرتاب في حله، وإن أراد من غيره ففيه خلاف

(4/423)


. قلت: والثاني أشبه بمراده، ولذلك قيده بما دون الفرج، ووجه استدلاله بالآية أنها دلت على جواز الاستمتاع بجميع وجوهه، فخرج الوطء بدليل فبقي الباقي على الأصل. ثم ذكر المصنف في الباب حديث أنس في قصة صفية وسيأتي مبسوطا في المغازي، والغرض منه هنا قوله: "حتى بلغنا سد الروحاء حلت فبنى بها" فإن المراد بقوله: "حلت" أي طهرت من حيضها. وقد روى البيهقي بإسناد لين أنه صلى الله عليه وسلم استبرأ صفية بحيضة، وأما ما رواه مسلم من طريق ثابت عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم ترك صفية عند أم سليم حتى انقضت عدتها" فقد شك حماد راويه عن ثابت في رفعه، وفي ظاهره نظر لأنه صلى الله عليه وسلم دخل بها منصرفه من خيبر بعد قتل زوجها بيسير فلم يمض زمن يسع انقضاء العدة، ولا نقلوا أنها كانت حاملا فتحمل العدة على طهرها من المحيض وهو المطلوب، والصريح في هذا الباب حديث أبي سعيد مرفوعا: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" قاله في سبايا أو طاس أخرجه أبو داود وغيره وليس على شرط الصحيح.

(4/424)


باب بيع الميتة و الاصنام
...
112 - باب بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالأَصْنَامِ
2236- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ فَقَالَ لاَ هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عِنْدَ ذَلِكَ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ قَالَ أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ كَتَبَ إِلَيَّ عَطَاءٌ سَمِعْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 2236- طرفاه في: 4296، 4633]
قوله: "باب بيع الميتة والأصنام" أي تحريم ذلك، والميتة بفتح الميم ما زالت عنه الحياة لا بذكاة شرعية، والميتة بالكسر الهيئة وليست مرادا هنا، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على تحريم بيع الميتة، ويستثنى من ذلك السمك والجراد. والأصنام جمع صنم قال الجوهري: هو الوثن. وقال غيره: الوثن ما له جثة، والصنم ما كان مصورا، فبينهما عموم وخصوص وجهي، فإن كان مصورا فهو وثن وصنم. قوله: "عن عطاء" بين في الرواية المعلقة تلو هذه الرواية المتصلة أن يزيد بن أبي حبيب لم يسمعه من عطاء وإنما كتب به إليه، وليزيد فيه إسناد آخر ذكره أبو حاتم في "العلل" من طريق حاتم بن إسماعيل عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد بن عبيدة عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: قد رواه محمد بن إسحاق عن يزيد عن عطاء، ويزيد لم يسمع من عطاء ولا أعلم أحدا من المصريين رواه عن يزيد متابعا لعبد الحميد بن جعفر، فإن كان حفظه فهو صحيح لأن محله الصدق. قلت: قد اختلف فيه على عبد الحميد، ورواية أبي عاصم عنه الموافقة لرواية غيره عن يزيد أرجح فتكون رواية حاتم بن إسماعيل شاذة. قوله: "عن جابر" في رواية أحمد عن حجاج بن محمد عن الليث بسنده "سمعت جابر بن عبد الله بمكة". قوله: "وهو بمكة عام الفتح" فيه بيان تاريخ ذلك؛ وكان ذلك

(4/424)


في رمضان سنة ثمان من الهجرة، ويحتمل أن يكون التحريم وقع قبل ذلك ثم أعاده صلى الله عليه وسلم ليسمعه من لم يكن سمعه. قوله: "إن الله ورسوله حرم" هكذا وقع في الصحيحين بإسناد الفعل إلى ضمير الواحد وكان الأصل "حرما" فقال القرطبي: إنه صلى الله عليه وسلم تأدب فلم يجمع بينه وبين اسم الله في ضمير الاثنين، لأنه من نوع ما رد به على الخطيب الذي قال: "ومن يعصهما" كذا قال، ولم تتفق الرواة في هذا الحديث على ذلك فإن في بعض طرقه في الصحيح "إن الله حرم" ليس فيه و "رسوله" وفي رواية لابن مردويه من وجه آخر عن الليث "إن الله ورسوله حرما" وقد صح حديث أنس في النهي عن أكل الحمر الأهلية "إن الله ورسوله ينهيانكم" ووقع في رواية النسائي في هذا الحديث: "ينهاكم" والتحقيق جواز الإفراد في مثل هذا، ووجهه الإشارة إلى أن أمر النبي ناشئ عن أمر الله، وهو نحو قوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} والمختار في هذا أن الجملة الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها، والتقدير عند سيبويه: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه، وهو كقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما عنـ ... دك راض والرأي مختلف
وقيل أحق أن يرضوه خبر عن الاسمين، لأن الرسول تابع لأمر الله. قوله: "فقيل يا رسول الله" لم أقف على تسمية القائل. وفي رواية عبد الحميد الآتية "فقال رجل". قوله: "أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس" أي فهل يحل بيعها لما ذكر من المنافع فإنها مقتضية لصحة البيع. قوله: "فقال: لا هو حرام" أي البيع، هكذا فسره بعض العلماء كالشافعي ومن اتبعه، ومنهم من حمل قوله: "وهو حرام" على الانتفاع فقال: يحرم الانتفاع بها وهو قول أكثر العلماء، فلا ينتفع من الميتة أصلا عندهم إلا ما خص بالدليل وهو الجلد المدبوغ، واختلفوا فيما يتنجس من الأشياء الطاهرة فالجمهور على الجواز. وقال أحمد وابن الماجشون: لا ينتفع بشيء من ذلك، واستدل الخطابي على جواز الانتفاع بإجماعهم على أن من ماتت له دابة ساغ له إطعامها لكلاب الصيد فكذلك يسوغ دهن السفينة بشحم الميتة ولا فرق. قوله: "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عند ذلك: قاتل الله اليهود الخ" وسياقه مشعر بقوة ما أوله الأكثر أن المراد بقوله: "هو حرام" البيع لا الانتفاع، وروى أحمد والطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا: "الويل لبني إسرائيل، إنه لما حرمت عليهم الشحوم باعوها فأكلوا ثمها، وكذلك ثمن الخمر عليكم حرام" وقد مضى في "باب تحريم تجارة الخمر" حديث تميم الداري في ذلك. قوله: "وقال أبو عاصم حدثنا عبد الحميد" هو ابن جعفر، وهذه الطريق وصلها أحمد عن أبي عاصم وأخرجها مسلم عن أبي موسى عن أبي عاصم ولم يسبق لفظه بل قال مثل حديث الليث، والظاهر أنه أراد أصل الحديث، وإلا ففي سياقه بعض مخالفة، قال أحمد: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن عبد الحميد ابن جعفر أخبرني يزيد بن أبي حبيب ولفظه: "يقول عام الفتح: إن الله حرم بيع الخنازير وبيع الميتة وبيع الخمر وبيع الأصنام، قال رجل: يا رسول الله فما ترى في بيع شحوم الميتة؟ فإنها تدهن بها السفن والجلود ويستصبح بها. فقال: قاتل الله يهود" . الحديث فظهر بهذه الرواية أن السؤال وقع عن بيع الشحوم وهو يؤيد ما قررناه، ويؤيده أيضا ما أخرجه أبو داود من وجه آخر عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال وهو عند الركن "قاتل الله اليهود، إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه " قال جمهور العلماء: العلة في منع بيع الميتة والخمر والخنزير النجاسة فيتعدى ذلك إلى كل نجاسة، ولكن المشهور عند مالك طهارة الخنزير. والعلة في منع بيع

(4/425)


الأصنام عدم المنفعة المباحة، فعلى هذا إن كانت بحيث إذا كسرت ينتفع برضاضها جاز بيعها عند بعض العلماء من الشافعية وغيرهم، والأكثر على المنع حملا للنهي على ظاهره، والظاهر أن النهي عن بيعها للمبالغة في التنفير عنها، ويلتحق بها في الحكم الصلبان التي تعظمها النصارى ويحرم نحت جميع ذلك وصنعته، وأجمعوا على تحريم بيع الميتة والخمر والخنزير إلا ما تقدمت الإشارة إليه في "باب تحريم الخمر" ولذلك رخص بعض العلماء في القليل من شعر الخنزير للخرز حكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي يوسف وبعض المالكية، فعلى هذا فيجوز بيعه، ويستثنى من الميتة عند بعض العلماء ما لا تحله الحياة كالشعر والصوف والوبر فإنه طاهر فيجوز بيعه وهو قول أكثر المالكية والحنفية، وزاد بعضهم العظم والسن والقرن والظلف. وقال بنجاسة الشعور الحسن والليث والأوزاعي. ولكنها تطهر عندهم بالغسل، وكأنها متنجسة عندهم بما يتعلق بها من رطوبات لميتة لا نجسة العين، ونحوه قول ابن القاسم في عظم الفيل إنه يطهر إذا سلق بالماء، وقد تقدم كثير من مباحث هذا الحديث في "باب لا يذاب شحم الميتة".

(4/426)


113 - باب ثَمَنِ الْكَلْبِ
2237- حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن بن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن"
[الحديث 2237- أطرافه في: 2282، 5346، 5761]
2238- حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة قال أخبرني عون بن أبي جحيفة قال ثم رأيت أبي اشترى حجاما فأمر بمحاجمه فكسرت فينبغي عن ذلك قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب الأمة ولعن الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله ولعن المصور"
قوله: "باب ثمن الكلب" أورد فيه حديثين: أحدهما عن أبي مسعود "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن". ثانيهما حديث أبي جحيفة "نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب. وكسب الأمة" الحديث، وقد تقدم في "باب موكل الربا" في أوائل البيع. واشتمل هذان الحديثان على أربعة أحكام أو خمسة إن غايرنا بين كسب الأمة ومهر البغي: الأول ثمن الكلب، وظاهر النهي تحريم بيعه، وهو عام في كل كلب معلما كان أو غيره مما يجوز اقتناؤه أو لا يجوز، ومن لازم ذلك أن لا قيمة على متلفه، وبذلك قال الجمهور. وقال مالك لا يجوز بيعه وتجب القيمة على متلفه، وعنه كالجمهور، وعنه كقول أبي حنيفة يجوز وتجب القيمة. وقال عطاء والنخعي يجوز بيع كلب الصيد دون غيره وروى أبو داود من حديث ابن عباس مرفوعا: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وقال: إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا" وإسناده صحيح، وروى أيضا بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعا: "لا يحل ثمن الكلب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي" والعلة في تحريم بيعه عند الشافعي نجاسته مطلقا وهي قائمة في المعلم وغيره، وعلة المنع عند من لا يرى نجاسته النهي عن اتخاذه والأمر بقتله ولذلك خص منه ما أذن

(4/426)


في اتخاذه، ويدل عليه حديث جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد" أخرجه النسائي بإسناد رجاله ثقات إلا أنه طعن في صحته، وقد وقع في حديث ابن عمر عند ابن أبي حاتم بلفظ: "نهى عن ثمن الكلب وإن كان ضاريا" يعني مما يصيد وسنده ضعيف، قال أبو حاتم هو منكر. وفي رواية لأحمد "نهى عن ثمن الكلب وقاله طعمة جاهلية" ونحوه للطبراني من حديث ميمونة بنت سعد. وقال القرطبي مشهور مذهب مالك جواز اتخاذ الكلب وكراهية بيعه ولا يفسخ إن وقع، وكأنه لما لم يكن عنده نجسا وأذن في اتخاذه لمنافعه الجائزة كان حكمه حكم جميع المبيعات، لكن الشرع نهى عن بيعه تنزيها لأنه ليس من مكارم الأخلاق، قال وأما تسويته في النهي بينه وبين مهر البغي وحلوان الكاهن فمحمول على الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه، وعلى تقدير العموم في كل كلب فالنهي في هذه الثلاثة في القدر المشترك من الكراهة أعم من التنزيه والتحريم، إذ كان واحد منهما منهي عنه ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منهما من دليل آخر، فإنا عرفنا تحريم مهر البغي وحلوان الكاهن من الإجماع لا من مجرد النهي، ولا يلزم من الاشتراك في العطف الاشتراك في جميع الوجوه إذ قد يعطف الأمر على النهي والإيجاب على النفي. الحكم الثاني مهر البغي وهو ما تأخذه الزانية على الزنا سماه مهرا مجازا، والبغي بفتح الموحدة وكسر المعجمة وتشديد التحتانية وهو فعيل بمعنى فاعلة وجمع البغي بغايا، والبغاء بكسر أوله الزنا والفجور، وأصل البغاء الطلب غير أنه أكثر ما يستعمل في الفساد، واستدل به على أن الأمة إذا أكرهت على الزنا فلا مهر لها، وفي وجه للشافعية يجب للسيد. الحكم الثالث كسب الأمة، وسيأتي في الإجارة "باب كسب البغي والإماء" وفيه حديث أبي هريرة "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الإماء" زاد أبو داود من حديث رافع بن خديج "نهى عن كسب الأمة حتى يعلم من أين هو" فعرف بذلك النهي والمراد به كسبها بالزنا لا بالعمل المباح، وقد روى أبو داود أيضا من حديث رفاعة بن رافع مرفوعا: "نهى عن كسب الأمة إلا ما عملت بيدها" وقال هكذا بيده نحو الغزل والنفش وهو بالفاء أي نتف الصوف، وقيل المراد بكسب الأمة جميع كسبها وهو من باب سد الذرائع لأنها لا تؤمن إذا ألزمت بالكسب أن تكسب بفرجها، فالمعنى أن لا يجعل عليها خراج معلوم تؤديه كل يوم. الحكم الرابع حلوان الكاهن، وهو حرام بالإجماع لما فيه من أخذ العوض على أمر باطل، وفي معناه التنجيم والضرب بالحصى وغير ذلك مما يتعاناه العرافون من استطلاع الغيب، والحلوان مصدر حلوته حلوانا إذا أعطيته، وأصله من الحلاوة شبه بالشيء الحلو من حيث أنه يأخذه سهلا بلا كلفة ولا مشقة يقال حلوته إذا أطعمته الحلو، والحلوان أيضا الرشوة، والحلوان أيضا أخذ الرجل مهر ابنته لنفسه. وسيأتي الكلام على الكهانة وأصلها وحكمها في أواخر كتاب الطب من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. الحكم الخامس ثمن الدم، واختلف في المراد به فقيل أجرة الحجامة، وقيل هو على ظاهره، والمراد تحريم بيع الدم كما حرم بيع الميتة والخنزير، وهو حرام إجماعا أعني بيع الدم وأخذ ثمنه، وسيأتي الكلام على حكم أجرة الحجام في الإجارة إن شاء الله تعالى. "خاتمة": اشتمل كتاب البيوع من المرفوع على مائتي حديث وسبعة وأربعين حديثا، المعلق منها ستة وأربعون وما عداها موصول، المكرر منه فيه وفيما مضى مائة وتسعة وثلاثون حديثا والخالص مائة وثمانية أحاديث، وافقه مسلم على تخريجها سوى تسعة وعشرين حديثا وهي: حديث عبد الرحمن ابن عوف في قصة تزويجه، وحديث أبي هريرة في التمرة الساقطة، وحديث عائشة في التسمية على الذبيحة، وحديث أبي هريرة "يأتي على الناس

(4/427)


زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال" وحديث أبي بكر "قد علم قومي أن حرفتي" وحديث المقدام "أطيب ما أكل من كسبه" وحديث أبي هريرة "أن داود كان يأكل من كسبه" وحديث جابر "رحمه الله عبدا سمحا" وحديث العداء في العهدة، وحديث أبي جحيفة في الحجام، وحديث ابن عباس "آخر آية أنزلت: وحديث ابن أبي أوفى "أن رجلا أقام سلعة" وحديث ابن عمر "كان على جمل صعب" وحديثه في الإبل الهيم، وحديث: "اكتالوا حتى تستوفوا" وحديث: "إذا بعت فكل" وحديث جابر في دين أبيه، وحديث المقدام "كيلوا طعامكم" وحديث عائشة في شأن الهجرة، وحديث: "المكر والخديعة في النار" وحديث أنس في الملامسة والمنابذة، وحديث: "إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه" وحديث ابن عمر "لا يبيع حاضر لباد" وحديث ابن عباس في المزابنة، وحديث زيد بن ثابت في بيع الثمار، وحديث سلمان في مكاتبته، وحديث عبد الرحمن بن عوف مع صهيب، وحديث أبي هريرة "ثلاثة أنا خصمهم" وحديثه في إجلاء اليهود. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين اثنان وخمسون أثرا. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(4/428)


كتاب السلم
باب السلم في الكيل معلوم
...
35 - كتاب السلم
1 - باب السَّلَمِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ
2239- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَالنَّاسُ يُسْلِفُونَ فِي الثَّمَرِ الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ أَوْ قَالَ عَامَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً شَكَّ إِسْمَاعِيلُ فَقَالَ مَنْ سَلَّفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ بِهَذَا فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ"
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب السلم.باب السلم في كيل معلوم" كذا في رواية المستملي، والبسملة متقدمة عنده ومتوسطة في رواية الكشميهني بين كتاب وباب، وحذف النسفي كتاب السلم وأثبت الباب وأخر البسملة عنه. والسلم بفتحتين: السلف وزنا ومعنى. وذكر الماوردي أن السلف لغة أهل العراق والسلم لغة أهل الحجاز، وقيل السلف تقديم رأس المال والسلم تسليمه في المجلس. فالسلف أعم. والسلم شرعا: بيع موصوف في الذمة، ومن قيده بلفظ السلم زاده في الحد، ومن زاد فيه ببدل يعطى عاجلا فيه نظر لأنه ليس داخلا في حقيقته. واتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب. واختلفوا في بعض شروطه. واتفقوا على أنه يشترط له ما يشترط للبيع، وعلى تسليم رأس المال في المجلس. واختلفوا هل هو عقد غرر جوز للحاجة أم لا؟ وقول المصنف "باب السلم في كيل معلوم" أي فيما يكال، واشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل متفق عليه من أجل اختلاف

(4/428)


المكاييل، إلا أن لا يكون في البلد سوى كيل واحد فإنه ينصرف إليه عند الإطلاق. ثم أورد حديث ابن عباس مرفوعا: "من أسلف في شيء" الحديث من طريق ابن علية، وفي الباب الذي بعده من طريق ابن عيينة كلاهما عن ابن أبي نجيح، وذكره بعد من طرق أخرى عنه، ومداره على عبد الله بن كثير وقد اختلف فيه فجزم القابسي وعبد الغني والمزي بأنه المكي القاري المشهور، وجزم الكلاباذي وابن طاهر والدمياطي بأنه ابن كثير بن المطلب ابن أبي وداعة السهمي، وكلاهما ثقة، والأول أرجح فإنه مقتضى صنيع المصنف في تاريخه، وأبو المنهال شيخه هو عبد الرحمن بن مطعم الذي تقدمت روايته قريبا عن البراء وزيد بن أرقم. قوله: "عامين أو ثلاثة شك إسماعيل" يعني ابن علية، ولم يشك سفيان فقال: "وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث" وقوله عامين وقوله السنتين منصوب إما على نزع الخافض أو على المصدر. قوله: "من سلف في تمر" كذا لابن علية بالتشديد. وفي رواية ابن عيينة "من أسلف في شيء" وهي أشمل، وقوله: "ووزن معلوم" الواو بمعنى أو، والمراد اعتبار الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن. قوله: "حدثنا محمد أخبرنا إسماعيل" هو ابن علية، واختلف في محمد فقال الجياني لم أره منسوبا، وعندي أنه ابن سلام وبه جزم الكلاباذي، زاد السفيانان "إلى أجل معلوم" وسيأتي البحث فيه في بابه.

(4/429)


2 - باب السَّلَمِ فِي وَزْنٍ مَعْلُومٍ
2240- حدثنا صدقة أخبرنا بن عيينة أخبرنا بن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن بن عباس رضي الله عنهما قال ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث فقال من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم حدثنا علي حدثنا سفيان قال حدثني بن أبي نجيح وقال فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم"
2241- حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن بن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال قال سمعت بن عباس رضي الله عنهما يقول ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم وقال في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"
2243- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ابْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ و حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدٌ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْمُجَالِدِ قَالَ اخْتَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ وَأَبُو بُرْدَةَ فِي السَّلَفِ فَبَعَثُونِي إِلَى ابْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ إِنَّا كُنَّا نُسْلِفُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَسَأَلْتُ ابْنَ أَبْزَى فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ"
[الحديث 2242- طرفاه في: 2244، 2255]
[الحديث 2243- طرفاه في: 2245، 2254]

(4/429)


قوله: "باب السلم في وزن معلوم" أي فيما يوزن، وكأنه يذهب إلى أن ما يوزن لا يسلم فيه مكيلا وبالعكس، وهو أحد الوجهين والأصح عند الشافعية الجواز، وحمله إمام الحرمين على ما يعد الكيل في مثله ضابطا، واتفقوا على اشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل كصاع الحجاز وقفيز العراق وأردب مصر، بل مكاييل هذه البلاد في نفسها مختلفة فإذا أطلق صرف إلى الأغلب. وأورد فيه حديثين: أحدهما حديث ابن عباس الماضي في الباب قبله ذكره عن ثلاثة من مشايخه حدثوه به عن ابن عيينة، قال في الأولى "من أسلف في شيء ففي كيل معلوم" الحديث. وقال في الثانية "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم" ولم يذكر الوزن، وذكره في الثالثة. وصرح في الطريق الأولى بالإخبار بين ابن عيينة وابن أبي نجيح، وقوله: "في شيء" أخذ منه جواز السلم في الحيوان إلحاقا للعدد بالكيل المخالف فيه الحنفية، وسيأتي القول بصحته عن الحسن بعد ثلاثة أبواب. ثانيهما حديث ابن أبي أوفى. قوله: "عن ابن أبي المجالد" كذا أبهمه أبو الوليد عن شعبة وسماه غيره عنه محمد بن أبي المجالد. ومنهم من أورده على الشك محمدا وعبد الله، وذكر البخاري الروايات الثلاث، وأورده النسائي من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة عن عبد الله. وقال مرة "محمد" وقد أخرجه البخاري في الباب الذي يليه من رواية عبد الواحد بن زياد وجماعة عن أبي إسحاق الشيباني فقال: "عن محمد بن أبي المجالد" ولم يشك في اسمه، وكذلك ذكره البخاري في تاريخه في المحمدين، وجزم أبو داود بأن اسمه عبد الله، وكذا قال ابن حبان ووصفه بأنه كان صهر مجاهد وبأنه كوفي ثقة وكان مولى عبد الله بن أبي أوفى، ووثقه أيضا يحيى ابن معين وغيره، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد. قوله: "اختلف عبد الله بن شداد" أي ابن الهاد الليثي، وهو من صغار الصحابة "وأبو بردة" أي ابن أبي موسى الأشعري. قوله: "في السلف" أي هل يجوز السلم إلى من ليس عنده المسلم فيه في تلك الحالة أم لا؟ وقد ترجم له كذلك في الباب الذي يليه. قوله: "وسألت ابن أبزى" هو عبد الرحمن الخزاعي أحد صغار الصحابة، ولأبيه أبزى صحبة على الراجح، وهو بالموحدة والزاي وزن أعلى، ووجه إيراد هذا الحديث في باب السلم في وزن معلوم الإشارة إلى ما في بعض طرقه وهو في الباب الذي يليه بلفظ: "فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت "لأن الزيت من جنس ما يوزن، قال ابن بطال. أجمعوا على أنه إن كان في السلم ما يكال أو يوزن فلا بد فيه من ذكر الكيل المعلوم والوزن المعلوم، فإن كان فيما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم. قلت: أو ذرع معلوم، والعدد والذرع ملحق بالكيل والوزن للجامع بينهما وهو عدم الجهالة بالمقدار، ويجري في الذرع ما تقدم شرطه في الكيل والوزن من تعيين الذراع لأجل اختلافه في الأماكن. وأجمعوا على أنه لا بد من معرفة صفة الشيء المسلم فيه صفة تميزه عن غيره، وكأنه لم يذكر في الحديث لأنهم كانوا يعملون به وإنما تعرض لذكر ما كانوا يهملونه.

(4/430)


3 - باب السَّلَم إِلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلٌ
2244- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْمُجَالِدِ قَالَ بَعَثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ وَأَبُو بُرْدَةَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالاَ سَلْهُ هَلْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْلِفُونَ فِي الْحِنْطَةِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا نُسْلِفُ نَبِيطَ أَهْلِ الشَّأْمِ فِي الْحِنْطَةِ

(4/430)


وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ قُلْتُ إِلَى مَنْ كَانَ أَصْلُهُ عِنْدَهُ قَالَ مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ بَعَثَانِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْلِفُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ نَسْأَلْهُمْ أَلَهُمْ حَرْثٌ أَمْ لاَ "
2245- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُجَالِدٍ بِهَذَا وَقَالَ فَنُسْلِفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ وَقَالَ وَالزَّيْتِ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ وَقَالَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ"
2246- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيَّ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُوكَلَ مِنْهُ وَحَتَّى يُوزَنَ فَقَالَ الرَّجُلُ وَأَيُّ شَيْءٍ يُوزَنُ قَالَ رَجُلٌ إِلَى جَانِبِهِ حَتَّى يُحْرَزَ وَقَالَ مُعَاذٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" مِثْلَهُ
[الحديث 2246- طرفاه في: 2248، 2250]
قوله: "باب السلم إلى من ليس عنده أصل" أي مما أسلم فيه، وقيل المراد بالأصل أصل الشيء الذي يسلم فيه، فأصل الحب مثلا الزرع وأصل الثمر مثلا الشجر، والغرض من الترجمة أن ذلك لا يشترط. وأورد المصنف حديث ابن أبي أوفى من طريق الشيباني فأورده أولا من طريق عبد الواحد - وهو ابن زياد - عنه فذكر الحنطة والشعير والزيت، ومن طريق خالد عن الشيباني ولم يذكر الزيت، ومن طريق جرير عن الشيباني فقال الزبيب بدل الزيت ومن طريق سفيان عن الشيباني فقال - وذكره بعد ثلاثة أبواب من وجه آخر عن سفيان - كذلك. قوله: "نبيط أهل الشام" في رواية سفيان "أنباط من أنباط الشام" وهم قوم من العرب دخلوا في العجم والروم واختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم، وكان الذين اختلطوا بالعجم منهم ينزلون البطائح بين العراقين، والذين اختلطوا بالروم ينزلون في بوادي الشام ويقال لهم النبط بفتحتين والنبيط بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية، والأنباط قيل سموا بذلك لمعرفتهم بأنباط الماء أي استخراجه لكثرة معالجتهم الفلاحة. قوله: "قلت إلى من كان أصله عنده" أي المسلم فيه، وسيأتي من طريق سفيان بلفظ: "قلت أكان لهم زرع أو لم يكن لهم". قوله: "ما كنا نسألهم عن ذلك" كأنه استفاد الحكم من عدم الاستفصال وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. قوله: "وقال عبد الله بن الوليد" هو العدني، وسفيان هو الثوري، وطريقه موصولة في "جامع سفيان" من طريق علي بن الحسن الهلالي عن عبد الله بن الوليد المذكور، واستدل بهذا الحديث على صحة السلم إذا لم يذكر مكان القبض، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور، وبه قال مالك وزاد: ويقبضه في مكان السلم، فإن اختلفا فالقول قول البائع. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي: لا يجوز السلم فيما له حمل ومؤنة إلا أن يشترط في تسليمه مكانا معلوما. واستدل به على جواز السلم فيما ليس موجودا في وقت السلم إذا أمكن وجوده في وقت حلول السلم وهو قول الجمهور، ولا يضر انقطاعه قبل المحل وبعده عندهم. وقال أبو حنيفة: لا يصح فيما ينقطع قبله، ولو أسلم فيما يعم فانقطع في محله لم ينفسخ البيع عند الجمهور، وفي وجه

(4/431)


للشافعية ينفسخ، واستدل به على جواز التفرق في السلم قبل القبض لكونه لم يذكر في الحديث، وهو قول مالك إن كان بغير شرط. وقال الشافعي والكوفيون: يفسد بالافتراق قبل القبض لأنه يصير من باب بيع الدين بالدين. وفي حديث ابن أبي أوفى جواز مبايعة أهل الذمة والسلم إليهم، ورجوع المختلفين عند التنازع إلى السنة، والاحتجاج بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم، وأن السنة إذا وردت بتقرير حكم كان أصلا برأسه لا يضره مخالفة أصل آخر. ثم أورد المصنف في الباب حديث ابن عباس الآتي في الباب الذي يليه، وزعم ابن بطال أنه غلط من الناسخ وأنه لا مدخل له في هذا الباب إذ لا ذكر للسلم فيه، وغفل عما وقع في السياق من قوله الراوي إنه سأل ابن عباس عن السلم في النخل، وأجاب ابن المنير أن الحكم مأخوذ بطريق المفهوم وذلك أن ابن عباس لما سئل عن السلم مع من له نخل في ذلك النخل رأى أن ذلك من قبيل بيع الثمار قبل بدو الصلاح فإذا كان السلم في النخل المعين لا يجوز تعين جوازه في غير المعين للأمن فيه من غائلة الاعتماد على ذلك النخل بعينه لئلا يدخل في باب بيع الثمار قبل بدو الصلاح، ويحتمل أن يريد بالسلم معناه اللغوي أي السلف لما كانت الثمرة قبل بدو صلاحها فكأنها موصوفة في الذمة. قوله: "أخبرنا عمرو" في رواية مسلم: "عمرو بن مرة" وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طرق عن شعبة. قوله: "فقال رجل ما يوزن" لم أقف على اسمه، وزعم الكرماني أنه أبو البختري نفسه لقوله في بعض طرقه: "فقال له الرجل" بالتعريف. قوله: "فقال له رجل إلى جانبه" لم أقف على اسمه، و قوله: "حتى يحرز" بتقديم الراء على الزاي أي يحفظ ويصان. وفي رواية الكشميهني بتقديم الزاي على الراء أي يوزن أو يخرص، وفائدة ذلك معرفة كمية حقوق الفقراء قبل أن يتصرف فيه المالك، وصوب عياض الأول ولكن الثاني أليق بذكر الوزن، ورأيته في رواية النسفي "حتى يحرر" براءين الأولى ثقيلة ولكنه رواه بالشك. قوله: "وقال معاذ حدثنا شعبة" وصله الإسماعيلي عن يحيى بن محمد عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه به.

(4/432)


4 - باب السَّلَمِ فِي النَّخْلِ
2247- 2248- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ فَقَالَ نُهِيَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ وَعَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ نَسَاءً بِنَاجِزٍ وَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ فَقَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ مِنْهُ أَوْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَحَتَّى يُوزَنَ"
2249-2250- حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن عمرو عن أبي البختري ثم سألت بن عمر رضي الله عنهما عن السلم في النخل فقال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يصلح ونهى عن الورق بالذهب نساء بناجز وسألت بن عباس فقال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل أو يؤكل وحتى يوزن قلت وما يوزن قال رجل عنده حتى يحرز"
قوله: "باب السلم في النخل" أي في ثمر النخل. قوله: "فقال" أي ابن عمر "نهي عن بيع النخل حتى يصلح"،

(4/432)


أي نهي عن بيع ثمر النخل، واتفقت الروايات في هذا الموضع على أنه "نهي" على البناء للمجهول، واختلف في الرواية الثانية وهي رواية غندر: فعند أبي ذر وأبي الوقت "فقال نهى عمر عن بيع الثمر الحديث:" وفي رواية غيرهما: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم:" واقتصر مسلم على حديث ابن عباس. قوله: "وعن بيع الورق" أي بالذهب كما في الرواية الثانية. قوله: "نساء" بفتح النون والمهملة والمد أي تأخيرا، تقول نسأت الدين أي أخرته نساء أي تأخيرا، وسيأتي البحث في اشتراط الأجل في السلم في الباب الذي يليه، وحديث ابن عمر إن صح فمحمول على السلم الحال عند من يقول به أو ما قرب أجله، واستدل به على جواز السلم في النخل المعين من البستان المعين لكن بعد بدو صلاحه وهو قول المالكية، وقد روى أبو داود وابن ماجة من طريق النجراني عن ابن عمر قال: "لا يسلم في نخل قبل أن يطلع، فإن رجلا أسلم في حديقة نخل قبل أن تطلع فلم تطلع ذلك العام شيئا، فقال المشتري هو لي حتى تطلع. وقال البائع إنما بعتك هذه السنة، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: اردد عليه ما أخذت منه ولا تسلموا في نخل حتى يبدو صلاحه" وهذا الحديث فيه ضعف، ونقل ابن المنذر اتفاق الأكثر على منع السلم في بستان معين لأنه غرر، وقد حمل الأكثر الحديث المذكور على السلم الحال، وقد روى ابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث عبد الله بن سلام في قصة إسلام زيد بن سعنة بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة بعدها نون أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لك أن تبيعني تمرا معلوما إلى أجل معلوم من حائط بني فلان. قال: لا أبيعك من حائط مسمى، بل أبيعك أوسقا مسماة إلى أجل مسمى".

(4/433)


5 - باب الْكَفِيلِ فِي السَّلَمِ
2251- حدثنا محمد بن سلام حدثنا يعلى حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما من زفر بنسيئة ورهنه درعا له من حديد"

(4/433)


6 - بَاب الرَّهْنِ فِي السَّلَمِ
2252- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَفِ فَقَالَ حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَارْتَهَنَ مِنْهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ"
قوله: "باب الكفيل في السلم" أورد فيه حديث عائشة "اشترى النبي صلى الله عليه وسلم طعاما من يهودي نسيئة ورهنه درعا من حديد "ثم ترجم له "باب الرهن في السلم" وهو ظاهر فيه، وأما الكفيل فقال الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث ما ترجم به، ولعله أراد إلحاق الكفيل بالرهن لأنه حق ثبت الرهن به فيجوز أخذ الكفيل فيه. قلت: هذا الاستنباط بعينه سبق إليه إبراهيم النخعي راوي الحديث، وإلى ذلك أشار البخاري في الترجمة، فسيأتي في الرهن "عن مسدد عن عبد الواحد عن الأعمش قال: تذاكرنا عند إبراهيم الرهن والكفيل في السلف، فذكر إبراهيم هذا الحديث:" فوضح أنه هو المستنبط لذلك، وأن البخاري أشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث على عادته. وفي الحديث الرد على من قال إن الرهن في السلم لا يجوز، وقد أخرج الإسماعيلي من طريق ابن نمير عن

(4/433)


7 - باب السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ وَالأَسْوَدُ وَالْحَسَنُ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لاَ بَأْسَ فِي الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ
مَا لَمْ يَكُ ذَلِكَ فِي زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ
2253- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ فَقَالَ أَسْلِفُوا فِي الثِّمَارِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَقَالَ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ"
2254-2255- حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا سفيان عن سليمان الشيباني عن محمد بن أبي مجالد قال أرسلني أبو بردة وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى فسألتهما عن السلف فقالا ثم كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب إلى أجل مسمى قال قلت أكان لهم زرع أو لم يكن لهم زرع قالا ما كنا نسألهم عن ذلك"
قوله: "باب السلم إلى أجل معلوم" يشير إلى الرد على من أجاز السلم الحال وهو قول الشافعية، وذهب الأكثر إلى المنع، وحمل من أجاز الأمر في قوله: "إلى أجل معلوم" على العلم بالأجل فقط، فالتقدير عندهم من أسلم إلى أجل فليسلم إلى أجل معلوم لا مجهول، وأما السلم لا إلى أجل فجوازه بطريق الأولى لأنه إذا جاز مع الأجل وفيه الغرر فمع الحال أولى لكونه أبعد عن الغرر. وتعقب بالكتابة، وأجيب بالفرق: لأن الأجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد غالبا. قوله: "وبه قال ابن عباس" أي باختصاص السلم بالأجل، وقوله: "وأبو سعيد" هو الخدري، "والحسن" أي البصري، "والأسود" أي ابن يزيد النخعي. فأما قول ابن عباس فوصله الشافعي من

(4/434)


طريق أبي حسان الأعرج عن ابن عباس قال: "أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه: "ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} وأخرجه الحاكم من هذا الوجه وصححه، وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس قال لا يسلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد واضرب أجلا. ومن طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس بلفظ آخر سيأتي. وأما قول أبي سعيد فوصله عبد الرزاق من طريق نبيح بنون وموحدة ومهملة مصغر وهو العنزي بفتح المهملة والنون ثم الزاي الكوفي عن أبي سعيد الخدري قال: "السلم بما يقوم به السعر ربا، ولكن أسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم". وأما قول الحسن فوصله سعيد بن منصور من طريق يونس بن عبيد عنه "أنه كان لا يرى بأسا بالسلف في الحيوان إذا كان شيئا معلوما إلى أجل معلوم". وأما قول الأسود فوصله ابن أبي شيبة من طريق الثوري عن أبي إسحاق عنه قال: "سألته عن السلم في الطعام فقال: لا بأس به، كيل معلوم إلى أجل معلوم" ومن طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس قال: "إذا سميت في السلم قفيزا وأجلا فلا بأس" وعن شريك عن أبي إسحاق عن الأسود مثله. واستدل بقول ابن عباس الماضي "لا تسلف إلى العطاء" لاشتراط تعيين وقت الأجل بشيء لا يختلف، فإن زمن الحصاد يختلف ولو بيوم وكذلك خروج العطاء ومثله قدوم الحاج، وأجاز ذلك مالك ووافقه أبو ثور، واختار ابن خزيمة من الشافعية تأقيته إلى الميسرة، واحتج بحديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي ابعث لي ثوبين إلى الميسرة" وأخرجه النسائي، وطعن ابن المنذر في صحته بما وهم فيه، والحق أنه لا دلالة فيه على المطلوب لأنه ليس في الحديث إلا مجرد الاستدعاء فلا يمتنع أنه إذا وقع العقد قيد بشروطه ولذلك لم يصف الثوبين. قوله: "وقال ابن عمر: لا بأس في الطعام الموصوف بسعر معلوم إلى أجل معلوم ما لم يكن ذلك في زرع لم يبد صلاحه" وصله مالك في "الموطأ" عن نافع عنه قال: "لا بأس أن يسلف الرجل في الطعام الموصوف" فذكر مثله وزاد: "أو ثمرة لم يبد صلاحها" وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع نحوه، وقد مضى حديث ابن عمر في ذلك مرفوعا في الباب الذي قبله، ثم أورد المصنف حديث ابن عباس المذكور في أول أبواب السلم. قوله: "وقال عبد الله بن الوليد حدثنا سفيان حدثنا ابن أبي نجيح" هو موصول في "جامع سفيان" من طريق عبد الله بن الوليد المذكور وهو العدني عنه، وأراد المصنف بهذا التعليق بيان التحديث لأن الذي قبله مذكور بالعنعنة. ثم أورد حديث ابن أبي أوفى وابن أبزى وقد تقدم الكلام عليه مستوفى عن قريب.

(4/435)


باب السلم الى ال تنتج الناقة
...
8 - باب السَّلَمِ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ
2256- حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا جويرية عن نافع عن عبد الله رضي الله عنه قال ثم كانوا يتبايعون الجزور إلى حبل الحبلة فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فسره نافع أن تنتج الناقة ما في بطنها"
قوله: "باب السلم إلى أن تنتج الناقة" أورد فيه حديث ابن عمر في النهي عن بيع حبل الحبلة وقد تقدمت مباحثه في كتاب البيوع، ويؤخذ منه ترك جواز السلم إلى أجل غير معلوم ولو أسند إلى شيء يعرف بالعادة، خلافا لمالك ورواية عن أحمد. "خاتمة": اشتمل كتاب السلم على أحد وثلاثين حديثا، المعلق منها أربعة والبقية موصولة، الخالص منها خمسة أحاديث والبقية مكررة وافقه مسلم على تخريج حديثي ابن عباس خاصة. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين ستة آثار.

(4/435)


كتاب الشفعة
باب الشفعة مالم يقسم فاذا وقعت الحدود فلا شفعة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
36- كِتَاب الشُّفْعَةِ
1 - بَاب الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ
2257- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ"
قوله: "كتاب الشفعة. بسم الله الرحمن الرحيم. السلم في الشفعة" كذا للمستملي وسقط ما سوى البسملة للباقين، وثبت للجميع "باب الشفعة فيما لم يقسم". والشفعة بضم المعجمة وسكون الفاء وغلط من حركها، وهي مأخوذة لغة من الشفع وهو الزوج، وقيل من الزيادة، وقيل من الإعانة. وفي الشرع: انتقال حصة شريك إلى شريك كانت انتقلت إلى أجنبي بمثل العوض المسمى. ولم يختلف العلماء في مشروعيتها إلا ما نقل عن أبي بكر الأصم من إنكارها. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن زياد، وقد تقدمت الإشارة إلى روايته في "باب بيع الأرض" من كتاب البيوع والاختلاف في قوله: "كل ما لم يقسم" أو "كل مال لم يقسم" واللفظ الأول يشعر باختصاص الشفعة بما يكون قابلا للقسمة بخلاف الثاني. قوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" أي بينت مصارف الطرق وشوارعها، كأنه من التصرف أو من التصريف. وقال ابن مالك: معناه خلصت وبانت، وهو مشتق من الصرف بكسر المهملة الخالص من كل شيء. وهذا الحديث أصل في ثبوت الشفعة، وقد أخرجه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر بلفظ: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه: فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به" وقد تضمن هذا الحديث ثبوت الشفعة في المشاع، وصدره يشعر بثبوتها في المنقولات، وسياقه يشعر باختصاصها بالعقار وبما فيه العقار. وقد أخذ بعمومها في كل شيء مالك في رواية، وهو قول عطاء. وعن أحمد تثبت في الحيوانات دون غيرها من المنقولات وروى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا: "الشفعة في كل شيء" ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال. وأخرج الطحاوي له شاهدا من حديث جابر بإسناد لا بأس برواته. قال عياض: لو اقتصر في الحديث على القطعة الأولى لكانت فيه دلالة على سقوط شفعة الجوار، ولكن أضاف إليها صرف الطرق، والمترتب على أمرين لا يلزم منه ترتبه على أحدهما. واستدل به على عدم دخول الشفعة فيما لا يقبل القسمة، وعلى ثبوتها لكل شريك. وعن أحمد لا شفعة لذمي. وعن الشعبي: لا شفعة لمن لم يسكن المصر. "تنبيهان": الأول اختلف على الزهري في هذا الإسناد فقال مالك عنه عن أبي سلمة وابن المسيب مرسلا كذا رواه الشافعي وغيره ورواه أبو عاصم والماجشون عنه فوصله بذكر أبي هريرة أخرجه البيهقي، ورواه ابن جريج عن الزهري كذلك لكن قال عنهما أو عن أحدهما أخرجه أبو داود، والمحفوظ روايته عن أبي سلمة عن جابر موصولا وعن ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وما

(4/436)


سوى ذلك شذوذ ممن رواه. ويقوى طريقه عن أبي سلمة عن جابر متابعة يحيى بن أبي كثير له عن أبي سلمة عن جابر ثم ساقه كذلك. الثاني: حكى ابن أبي حاتم عن أبيه أن قوله: "فإذا وقعت الحدود الخ" مدرج من كلام جابر، وفيه نظر لأن الأصل أن كل ما ذكر في الحديث فهو منه حتى يثبت الإدراج بدليل، وقد نقل صالح بن أحمد عن أبيه أنه رجح رفعها.

(4/437)


2 - باب عَرْضِ الشُّفْعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ
وَقَالَ الْحَكَمُ إِذَا أَذِنَ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ وَهْوَ شَاهِدٌ لاَ يُغَيِّرُهَا فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ
2258- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ وَقَفْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَجَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى إِحْدَى مَنْكِبَيَّ إِذْ جَاءَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا سَعْدُ ابْتَعْ مِنِّي بَيْتَيَّ فِي دَارِكَ فَقَالَ سَعْدٌ وَاللَّهِ مَا أَبْتَاعُهُمَا فَقَالَ الْمِسْوَرُ وَاللَّهِ لَتَبْتَاعَنَّهُمَا فَقَالَ سَعْدٌ وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلاَفٍ مُنَجَّمَةً أَوْ مُقَطَّعَةً قَالَ أَبُو رَافِعٍ لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَ مِائَةِ دِينَارٍ وَلَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَ مِائَةِ دِينَارٍ فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ"
[الحديث 2258- أطرافه في: 6977، 6978، 6980، 6981]
قوله: "باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع" أي هل تبطل بذلك شفعته أم لا؟ وسيأتي في كتاب ترك الحيل مزيد بيان لذلك. قوله: "وقال الحكم: إذا أذن له قبل البيع فلا شفعة له. وقال الشعبي من بيعت شفعته وهو شاهد لا يغيرها فلا شفعة له" أما قول الحكم فوصله ابن أبي شيبة بلفظ: "إذا أذن المشتري في الشراء فلا شفعة له " وأما قول الشعبي فوصله ابن أبي شيبة أيضا بنحوه. قوله: "عن عمرو بن الشريد" في رواية سفيان الآتية في ترك الحيل عن إبراهيم بن ميسرة "سمعت عمرو بن الشريد" والشريد بفتح المعجمة وزن طويل صحابي شهير، وولده من أوساط التابعين، ووهم من ذكره في الصحابة، وما له في البخاري سوى هذا الحديث. وقد أخرج الترمذي معلقا والنسائي وابن ماجة هذا الحديث من وجه آخر عنه عن أبيه ولم يذكر القصة، فيحتمل أن يكون سمعه من أبيه ومن أبي رافع، قال الترمذي: سمعت محمدا يعني البخاري يقول: كلا الحديثين عندي صحيح. قوله: "وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي" أي رواية سفيان المذكورة مخالفة لهذا يأتي بيانها إن شاء الله تعالى. قوله: "ابتع مني بيتي في دارك" أي الكائنين في دارك. قوله: "فقال المسور: والله لتبتاعنهما" بين سفيان في روايته أن أبا رافع سأل المسور أن يساعده على ذلك. قوله: "أربعة آلاف" في رواية سفيان "أربعمائة" وفي رواية الثوري في ترك الحيل "أربعمائة مثقال:" وهو يدل على أن المثقال إذ ذاك كان بعشرة دراهم. قوله: "منجمة أو مقطعة" شك من الراوي والمراد مؤجلة على أقساط معلومة. قوله: "الجار أحق بسقبه"

(4/437)


بفتح المهملة والقاف بعدها موحدة، والسقب بالسين المهملة وبالصاد أيضا ويجوز فتح القاف وإسكانها: القرب والملاصقة. ووقع في حديث جابر عند الترمذي "الجار أحق بسقبه ينتظر به إذا كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا "قال ابن بطال: استدل به أبو حنيفة وأصحابه على إثبات الشفعة للجار، وأوله غيرهم على أن المراد به الشريك بناء على أن أبا رافع كان شريك سعد في البيتين ولذلك دعاه إلى الشراء منه، قال: وأما قولهم إنه ليس في اللغة ما يقتضي تسمية الشريك جارا فمردود، فإن كل شيء قارب شيئا قيل له جار، وقد قالوا لامرأة الرجل جارة لما بينهما من المخالطة، انتهى. وتعقبه ابن المنير بأن ظاهر الحديث أن أبا رافع كان يملك بيتين من جملة دار سعد لا شقصا شائعا من منزل سعد، وذكر عمر بن شبة أن سعدا كان اتخذ دارين بالبلاط متقابلتين بينهما عشرة أذرع وكانت التي عن يمين المسجد منهما لأبي رافع فاشتراها سعد منه. ثم ساق حديث الباب. فاقتضى كلامه أن سعدا كان جارا لأبي رافع قبل أن يشتري منه داره لا شريكا. وقال بعض الحنفية: يلزم الشافعية القائلين بحمل اللفظ على حقيقته ومجازه أن يقولوا بشفعة الجار لأن الجار حقيقة في المجاور مجاز في الشريك. وأجيب بأن محل ذلك عند التجرد، وقد قامت القرينة هنا على المجاز فاعتبر للجمع بين حديثي جابر وأبي رافع، فحديث جابر صريح في اختصاص الشفعة بالشريك، وحديث أبي رافع مصروف الظاهر اتفاقا لأنه يقتضي أن يكون الجار أحق من كل أحد حتى من الشريك، والذين قالوا بشفعة الجار قدموا الشريك مطلقا ثم المشارك في الطريق. ثم الجار على من ليس بمجاور، فعلى هذا فيتعين تأويل قوله: "أحق" بالحمل على الفضل أو التعهد ونحو ذلك، واحتج من لم يقل بشفعة الجوار أيضا بأن الشفعة ثبتت على خلاف الأصل لمعنى معدوم في الجار وهو أن الشريك ربما دخل عليه شريكه فتأذى به فدعت الحاجة إلى مقاسمته فيدخل عليه الضرر بنقص قيمة ملكه، وهذا لا يوجد في المقسوم. والله أعلم.

(4/438)


3 - باب أَيُّ الْجِوَارِ أَقْرَبُ
2259- حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح
و حَدَّثَنِا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ قَالَ سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي قَالَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا"
[الحديث 2259- طرفاه في : 2595، 6020]
قوله: "باب أي الجوار أقرب" كأنه أشار بهذه الترجمة إلى أن لفظ: "الجار" في الحديث الذي قبله ليس على مرتبة واحدة. قوله: "حدثنا حجاج" هو ابن منهال، وقد روى البخاري لحجاج بن محمد بواسطة، واشتركا في الرواية عن شعبة، لكنه سمع من ابن منهال دون ابن محمد. قوله: "وحدثنا علي" كذا للأكثر غير منسوب. وفي رواية ابن السكن وكريمة علي بن عبد الله، ولابن شبويه علي بن المديني. ورجح أبو علي الجياني أنه علي بن سلمة اللبقي بفتح اللام والموحدة بعدها قاف، وبه جزم الكلاباذي وابن طاهر، وهو الذي ثبت في رواية المستملي، وهذا يشعر بأن البخاري لم ينسبه وإنما نسبه من نسبه من الرواة بحسب ما ظهر له فإن كان كذلك فالأرجح أنه ابن المديني لأن العادة أن الإطلاق إنما ينصرف لمن يكون أشهر وابن المديني أشهر من اللبقي، ومن عادة البخاري إذا أطلق الرواية عن علي إنما يقصد به علي بن المديني. "تنبيه": ساق المتن هنا على لفظ علي المذكور، وقد أخرجه المصنف

(4/438)


في كتاب الأدب عن حجاج ابن منهال وحده وساقه هناك على لفظه. قوله: "حدثنا أبو عمران" هو الجوني. قوله: "سمعت طلحة بن عبد الله" جزم المزي بأنه ابن عثمان بن عبيد الله بن معمر التيمي. وقال بعضهم هو طلحة ابن عبد الله الخزاعي لأن عبد الرحمن بن مهدي روى عن الثوري عن سعد بن إبراهيم عن طلحة بن عبد الله عن عائشة حديثا غير هذا، ويترجح ما قال المزي بأن المصنف أخرج حديث الباب في الهبة من طريق غندر عن شعبة فقال: "طلحة بن عبد الله رجل من بني تيم بن مرة "وليس لطلحة بن عبد الله في البخاري سوى هذا الحديث، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى. والجوار بضم الجيم وبكسرها. وقوله: "قال إلى أقربهما" يروى "قال أقربهما" بحذف حرف الجر، وهو بالرفع ويجوز الجر على إبقاء عمل حرف الجر بعد حذفه أي أقرب الجارين، قال ابن بطال: لا حجة في هذا الحديث لمن أوجب الشفعة بالجوار لأن عائشة إنما سألت عمن تبدأ به من جيرانها بالهدية فأخبرها بأن الأقرب أولى، وأجيب بان وجه دخوله في الشفعة أن حديث أبي رافع يثبت شفعة الجوار فاستنبط من حديث عائشة تقديم الأقرب على الأبعد للعلة في مشروعية الشفعة لما يحصل من الضرر بمشاركة الغير الأجنبي بخلاف الشريك في نفس الدار واللصيق للدار.
"خاتمة": جميع ما في الشفعة ثلاثة أحاديث موصولة. الأول منها مكرر والآخران انفرد بهما المصنف عن مسلم. وفيه من الآثار اثنان غير قصة المسور وأبي رافع مع سعد وهي موصولة. والله أعلم.

(4/439)


كتاب الإجارة
باب إستأجار الرجل الصالح
...
بسم الله الرحمن الرحيم
37 - كِتَاب الإِجَارَةِ
قوله: "كتاب الإجارة. بسم الله الرحمن الرحيم. في الإجارات" كذا في رواية المستملي، وسقط للنسفي قوله: "في الإجارات" وسقط للباقين "كتاب الإجارة" والإجارة بكسر أوله على المشهور وحكي ضمها، وهي لغة الإثابة يقال آجرته بالمد وغير المد إذا أثبته، واصطلاحا تمليك منفعة رقبة بعوض.
1 - باب اسْتِئْجَارُ الرَّجُلِ الصَّالِحِوَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} وَالْخَازِنُ الأَمِينُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أَرَادَهُ
2260- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن أبي بردة قال أخبرني جدي أبو بردة عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة نفسه أحد المتصدقين"
2261- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعِي رَجُلاَنِ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ فَقُلْتُ مَا عَمِلْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ فَقَالَ لَنْ أَوْ لاَ نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ"
[الحديث 2261- أطرافه في: 3038، 4341، 4343، 4344، 6124، 6923، 7149، 7756، 7157، 7172]

(4/439)


قوله: "باب استئجار الرجل الصالح، وقول الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} في رواية أبي ذر "وقال الله" وأشار بذلك إلى قصة موسى عليه السلام مع ابنة شعيب، وقد روى ابن جرير من طريق شعيب الجبئي بفتح الجيم والموحدة بعدها همزة مقصورا أنه قال: اسم المرأة التي تزوجها موسى صفورة واسم أختها ليا، وكذا روي من طريق ابن إسحاق إلا أنه قال: اسم أختها شرقا وقيل ليا. وقال غيره إن اسمهما، صفورا وعبرا، وأنهما كانتا توأما، وذكر ابن جرير اختلافا في أن أباهما هل هو شعيب النبي أو ابن أخيه أو آخر اسمه يثرون أو يثرى أقوال لم يرجح منها شيئا. وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} قال: قوي فيما ولي أمين فيما استودع. وروي من طريق ابن عباس ومجاهد في آخرين أن أباها سألها عما رأت من قوته وأمانته فذكرت قوته في حال السقي وأمانته في غض طرفه عنها وقوله لها امشي خلفي ودليني على الطريق، وهذا أخرجه البيهقي بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب وزاد فيه: "فزوجه وأقام موسى معه يكفيه1 ويعمل له في رعاية غنمه". قوله: "والخازن الأمين ومن لم يستعمل من أراده" ثم أورد في الباب من طريق أبي موسى الأشعري حديث الخازن الأمين أحد المتصدقين، وحديثه الآخر في قصة الرجلين اللذين جاءا يطلبان من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعملهما، والأول قد مضى الكلام عليه في الزكاة، والثاني سيأتي شرحه مستوفى في كتاب الأحكام. قال الإسماعيلي: ليس في الحديثين جميعا معنى الإجارة. وقال الداودي: ليس حديث الخازن الأمين من هذا الباب لأنه لا ذكر للإجارة فيه. وقال ابن التين: وإنما أراد البخاري أن الخازن لا شيء له في المال وإنما هو أجير. وقال ابن بطال إنما أدخله في هذا الباب لأن من استؤجر على شيء فهو أمين فيه، وليس عليه في شيء منه ضمان إن فسد أو تلف إلا إن كان ذلك بتضييعه ا هـ. وقال الكرماني: دخول هذا الحديث في باب الإجارة للإشارة إلى أن خازن مال الغير كالأجير لصاحب المال، وأما دخول الحديث الثاني في الإجارة فظاهر من جهة أن الذي يطلب العمل إنما يطلبه غالبا لتحصيل الأجرة التي شرعت للعامل، والعمل المطلوب يشمل العمل على الصدقة في جمعها وتفرقتها في وجهها وله سهم منها كما قال الله تعالى: { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} فدخوله في الترجمة من جهة طلب الرجلين أن يستعملهما النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة أو غيرها ويكون لهما على ذلك أجرة معلومة. قوله: "ومعي رجلان من الأشعريين، قال فقلت ما علمت أنهما يطلبان العمل" كذا وقع مختصرا، وسيأتي في استتابة المرتدين بهذا الإسناد بعينه تاما وفيه: "ومعي رجلان من الأشعريين وكلاهما سأل أي للعمل، فقلت: والذي بعثك ما اطلعت على ما في أنفسهما ولا علمت أنهما يطلبان العمل" الحديث. قوله: "قال لن - أو لا - نستعمل على عملنا من أراده" هكذا ثبت في جميع الروايات التي وقفت عليها، وهو شك من الراوي هل قال لن أو قال لا، وحكى ابن التين أنه ضبط في بعض النسخ "أولى" بضم الهمزة وفتح الواو وتشديد اللام مع كسرها فعل مستقبل من الولاية، قال القطب الحلبي: فعلى هذه الرواية يكون لفظ: "نستعمل" زائدا ويكون تقدير الكلام لن أولى على عملنا. وقد وقع هذا الحديث في الأحكام من طريق بريد بن عبد الله عن أبي بردة بلفظ: "إنا لا نولي على عملنا" وهو يعضد هذا التقرير والله أعلم. قال المهلب: لما كان طلب العمالة دليلا على الحرص ابتغى أن يحترس من الحريص
ـــــــ
1 في نسخة "يكريه " نبه عليه في طبعة بولاق

(4/440)


فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لا نستعمل على عملنا من أراده" وظاهر الحديث منع تولية من يحرص على الولاية إما على سبيل التحريم أو الكراهة، وإلى التحريم جنح القرطبي، ولكن يستثنى من ذلك من تعين عليه.

(4/441)


2 - باب رَعْيِ الْغَنَمِ عَلَى قَرَارِيطَ
2262- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ فَقَالَ أَصْحَابُهُ وَأَنْتَ فَقَالَ نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ"
قوله: "باب رعي الغنم على قراريط" على بمعنى الباء وهي للسببية أو المعارضة، وقيل إنها هنا للظرفية كما سنبين. قوله: "عمرو بن يحيى عن جده" وهو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي. قوله: "إلا رعى الغنم" في رواية الكشميهني: "إلا راعى الغنم". قوله: "على قراريط لأهل مكة" في رواية ابن ماجة عن سويد بن سعيد عن عمرو بن يحيى "كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط" وكذا رواه الإسماعيلي عن المنيعي عن محمد بن حسان عن عمرو بن يحيى، قال سويد أحد رواته: يعني كل شاة بقيراط، يعني القيراط الذي هو جزء من الدينار أو الدرهم، قال إبراهيم الحربي "قراريط" اسم موضع بمكة ولم يرد القراريط من الفضة، وصوبه ابن الجوزي تبعا لابن ناصر وخطأ سويدا في تفسيره، لكن رجح الأول لأن أهل مكة لا يعرفون بها مكانا يقال له قراريط. وأما ما رواه النسائي من حديث نصر بن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها نون قال: "افتخر أهل الإبل وأهل الغنم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا أرعى غنم أهلي بجياد" فزعم بعضهم أن فيه ردا لتأويل سويد بن سعيد لأنه ما كان يرعى بالأجرة لأهله فيتعين أنه أراد المكان فعبر تارة بجياد وتارة بقراريط. وليس الرد يجيد إذ لا مانع من الجمع بين أن يرعى لأهله بغير أجرة ولغيرهم بأجرة، أو المراد بقوله: "أهلي" أهل مكة فيتحد الخبران ويكون في أحد الحديثين بين الأجرة وفي الآخر بين المكان فلا ينافي ذلك والله أعلم. وقال بعضهم: لم تكن العرب تعرف القيراط الذي هو من النقد، ولذلك جاء في الصحيح "يستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط" وليس الاستدلال لما ذكر من نفي المعرفة بواضح، قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادا من غيرها. وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.

(4/441)


3- باب اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِأَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الإِسْلاَمِ
وَعَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ خَيْبَرَ
2263- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَاسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا الْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلاَثٍ فَارْتَحَلاَ وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ فَأَخَذَ بِهِمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ وَهُوَ طَرِيقُ السَّاحِلِ"
قوله: "باب استئجار المشركين عند الضرورة، أو إذا لم يوجد أهل الإسلام. وعامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر" هذه الترجمة مشعرة بأن المصنف يرى بامتناع استئجار المشرك حربيا كان أو ذميا إلا عند الاحتياج إلى ذلك كتعذر وجود مسلم يكفي في ذلك. وقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب قال: "لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم عمال يعملون بها نخل خيبر وزرعها، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر فدفعها إليهم" الحديث. وفي استشهاده بقصة معاملة النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر على أن يزرعوها وباستئجاره الدليل المشرك لما هاجر على ذلك نظر، لأنه ليس فيهما تصريح بالمقصود من منع استئجارهم وكأنه أخذ ذلك من هذين الحديثين مضموما إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نستعين بمشرك" أخرجه مسلم وأصحاب السنن، فأراد الجمع بين الأخبار بما ترجم به. قال ابن بطال: عامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها لما في ذلك من المذلة لهم، وإنما الممتنع أن يؤاجر المسلم نفسه من المشرك لما فيه من إذلال المسلم ا هـ. وحديث معاملة أهل خيبر يأتي في أواخر كتاب الإجارة موصولا، وأشار في الترجمة بقوله: "إذا لم يوجد أهل الإسلام" إلى ما أخرجه أبو داود من طريق حماد بن سلمة عن عبيد الله ابن عمر - أحسبه عن نافع - عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر" فذكر الحديث وقال فيه: "وأراد أن يجليهم فقالوا: يا محمد دعنا نعمل في هذه الأرض ولنا الشطر ولكم الشطر" الحديث، وإنما أجابهم إلى ذلك لمعرفتهم بما يصلح أرضهم دون غيرهم، فنزل المصنف من لا يعرف منزلة من لم يوجد، وحديث الدليل يأتي الكلام عليه مستوفى في أول الهجرة إن شاء الله تعالى. وقوله في أول الحديث: "استأجر" وقع في رواية الأصيلي وأبي الوقت "واستأجر" بزيادة واو وهي ثابتة في الأصل في نفس الحديث الطويل، لأن القصة معطوفة على قصة قبلها، وقد ساقه المصنف في الترجمة بعدها بسنده الآتي مطولا، ووقع هنا "فاستأجر" بالفاء، ووهم من زعم أن المصنف زاد الواو للتنبيه على أنه اقتطع هذا القدر من الحديث. قوله: "هاديا" زاد الكشميهني في روايته: "خريتا" وهو بكسر المعجمة وتشديد الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة، وقوله: "الماهر بالهداية" كذا وقع في نفس الحديث، وهو مدرج من قول الزهري كما سنبينه هناك، ونحكي الخلاف في تسمية الهادي المذكور. وفي الحديث استئجار المسلم الكافر على هداية الطريق إذا أمن إليه، واستئجار الاثنين واحدا على عمل واحد.

(4/442)


باب إذا استأحر أجير اًليعمل له بعد ثلاثة أيام
...
4 - باب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ لَهُ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ بَعْدَ سَنَةٍجَازَ
وَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا الَّذِي اشْتَرَطَاهُ إِذَا جَاءَ الأَجَلُ
2264- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل قال بن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث"
قوله: "باب إذا استأجر أجيرا ليعمل له بعد ثلاثة أيام أو بعد شهر أو بعد سنة جاز، وهما على شرطهما الذي اشترطاه إذا جاء الأجل" أورد فيه طرفا من حديث عائشة المذكور، وفيه أنهما واعدا الدليل براحلتيهما بعد ثلاث، وتعقبه الإسماعيلي بأنه ليس في الخبر على أنهما استأجراه على أن لا يعمل إلا بعد ثلاث بل الذي في الخبر أنهما استأجراه وابتدأ في العمل من وقته بتسليمه راحلتيهما منهما يرعاهما ويحفظهما إلى أن يتهيأ لهما الخروج. قلت ليس في ترجمة البخاري ما ألزمه به، والذي ترجم به هو ظاهر القصة، ومن قال ببطلان الإجارة إذا لم يشرع في العمل من حين الإجارة هو المحتاج إلى دليل والله أعلم. وقد قال ابن المنير متعقبا على من اعترض على البخاري بذلك: إن الخدمة المقصودة بالإجارة المذكورة كانت على الدلالة على الطريق من غير زيادة على ذلك، ولا شك أنها تأخرت، قلت: ويؤيده أن الذي كان يرعى رواحلهما عامر بن فهيرة لا الدليل. وقال ابن المنير: ليس في هذا الحديث تصريح بهذا الحكم لا إثباتا ولا نفيا، وقد يحتمل في المدة القصيرة لندور الغرر فيها ما لا يحتمل في المدة الطويلة، وهذا مذهب مالك حيث حد الجواز في البيع بما لا تتغير السلعة في مثله. واستنبط من هذه القصة جواز إجارة الدار مدة معلومة قبل مجيء أول المدة، وهو مبني على صحة الأصل فيلحق به الفرع. والله أعلم.

(4/443)


5 - باب الأَجِيرِ فِي الْغَزْوِ
2265- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَكَانَ مِنْ أَوْثَقِ أَعْمَالِي فِي نَفْسِي فَكَانَ لِي أَجِيرٌ فَقَاتَلَ إِنْسَانًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا إِصْبَعَ صَاحِبِهِ فَانْتَزَعَ إِصْبَعَهُ فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَسَقَطَتْ فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ وَقَالَ أَفَيَدَعُ إِصْبَعَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ"
2266- قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ جَدِّهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّ رَجُلًا

(4/443)


عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَأَهْدَرَهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قوله: "باب الأجير في الغزو" قال ابن بطال: استئجار الأجير للخدمة وكفاية مؤنة العمل في الغزو وغيره سواء ا هـ، ويحتمل أن يكون أشار إلى أن الجهاد وإن كان القصد به تحصيل الأجر فلا ينافي ذلك الاستعانة بمن يخدم المجاهد، ويكفيه كثيرا من الأمور التي لا يتعاطاها بنفسه. قوله: "عن صفوان بن يعلى" في رواية همام الماضية في الحج" حدثني صفوان بن يعلى". قوله: "العسرة" بضم العين وسكون السين المهملتين هي غزوة تبوك، وسيأتي الكلام على الحديث في الديات، ورواية همام المذكورة مختصرة. قوله: "فأنذر" أي أسقط. قوله: "فأهدر" أي لم يجعل له دية ولا قصاصا. قوله: "تقضمها" بفتح الضاد المعجمة وماضية بكسرها والاسم القضم بفتح القاف وسكون الضاد المعجمة وهو الأكل بأطراف الأسنان، والفحل الذكر من الإبل ونحوه. قوله: "قال ابن جريج الخ" هو بالإسناد المذكور إليه، وهذه الزيادة التي عن أبي بكر الصديق وقعت هنا فقط. قوله: "عن جده" كذا للجميع، وكذلك أخرجه أبو داود من طريق يحيى بن سعيد عن ابن جريج. وقال أبو عاصم "عن ابن جريج عن أبيه عن جده عن أبي بكر" زاد فيه: "عن أبيه" أخرجه الحاكم أبو أحمد في الكنى وابن شاهين في الصحابة. وعبد الله بن أبي مليكة منسوب إلى جده وقيل إلى جد أبيه فإنه عبد الله ابن عبيد الله بن أبي مليكة واسمه زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي وله صحبة، ومنهم من زاد في نسبه "عبد الله بن عبيد الله بن زهير" وقال إن الذي يكنى أبا مليكة هو عبد الله بن زهير، فعلى الأول فالحديث من رواية زهير بن عبد الله عن أبي بكر، وعلى الثاني هو من رواية عبد الله بن زهير، ويتردد عود الضمير في قوله: "عن جده" على من يعود على الخلاف المذكور، وزعم مغلطاي أن الطريق التي أخرجها البخاري منقطعة في موضعين، وليس كما زعم. والله أعلم.

(4/444)


6 - باب مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الأَجَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْعَمَلَ
لِقَوْلِهِ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ - إلى قوله- وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}
يَأْجُرُ فُلاَنًا يُعْطِيهِ أَجْرًا وَمِنْهُ فِي التَّعْزِيَةِ أَجَرَكَ اللَّهُ
قوله: "باب إذا استأجر أجيرا" في رواية غير أبي ذر "من استأجر". قوله: "فبين له الأجل" في رواية الأصيلي: "الأجر" بسكون الجيم وبالراء، والأولى أوجه. قوله: "ولم يبين العمل" أي هل يصح ذلك أم لا؟ وقد مال البخاري إلى الجواز لأنه احتج لذلك فقال: لقوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} الآية، ولم يفصح مع ذلك بالجواز لأجل الاحتمال، ووجه الدلالة منه أنه لم يقع في سياق القصة المذكورة بيان العمل، وإنما فيه أن موسى أجر نفسه من والد المرأتين، ثم إنما تتم الدلالة بذلك إذا قلنا أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد شرعنا بتقريره، وقد احتج الشافعي بهذه الآية على مشروعية الإجارة فقال: ذكر الله سبحانه وتعالى أن نبيا من أنبيائه أجر نفسه حججا مسماة ملك بها بضع امرأة؛ وقيل استأجره على أن يرعى له. قال المهلب: ليس في الآية دليل على جهالة العمل في الإجارة لأن ذلك كان معلوما بينهم وإنما حذف ذكره للعلم به. وتعقبه ابن المنير بأن البخاري لم يرد جواز أن يكون العمل مجهولا وإنما أراد أن التنصيص على العمل باللفظ ليس مشروطا، وأن المتبع المقاصد لا الألفاظ ويحتمل أن يكون المصنف أشار إلى حديث عتبة بن الندر بضم النون وتشديد المهملة قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4/444)


فقال: إن موسى أجر نفسه ثمان سنين أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه" أخرجه ابن ماجة وفي إسناده ضعف، فإنه ليس فيه بيان العمل من قبل موسى، وقد أبعد من جوز أن يكون المهر شيئا آخر غير الرعي، وإنما أراد شعيب أن يكون يرعى غنمه هذه المدة ويزوجه ابنته فذكر له الأمرين، وعلق التزويج على الرعية على وجه المعاهدة لا على وجه المعاقدة، فاستأجره لرعي غنمه بشيء معلوم بينهما ثم أنكحه ابنته بمهر معلوم بينهما. قوله: "يأجر" بضم الجيم "فلانا" أي "يعطيه أجرا" هذا ذكره المصنف تفسيرا لقوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} وبذلك جزم أبو عبيدة في "المجاز"، وتعقبه الإسماعيلي بأن معنى الآية في قوله: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} أي تكون لي أجيرا، والتقدير على أن تأجرني نفسك. قوله: "ومنه في التعزية آجرك الله" هو من قول أبي عبيدة أيضا وزاد: "يأجرك أي يثيبك" وكأنه نظر إلى أصل المادة وإن كان المعنى في الأجر والأجرة مختلفا.

(4/445)


7 - باب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى أَنْ يُقِيمَ حَائِطًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ جَازَ
2267- حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام بن يوسف أن بن جريج أخبرهم قال أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير يزيد أحدهما على صاحبه وغيرهما قال قد سمعته يحدثه عن سعيد قال قال لي بن عباس رضي الله عنهما حدثني أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقا فوجدا جدارا يريد أن ينقض قال سعيد بيده هكذا ورفع يديه فاستقام قال يعلى حسبت أن سعيدا قال فمسحه بيده فاستقام قال {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} قال سعيد أجرا نأكله"
قوله: "باب إذا استأجر أجيرا على أن يقيم حائطا يريد أن ينقض جاز" أورد فيه طرفا من حديث أبي بن كعب في قصة موسى والخضر، وقد أورده مستوفى في التفسير بهذا الإسناد ويأتي الكلام عليه مبينا هناك إن شاء الله تعالى. وإنما يتم الاستدلال بهذه القصة إذا قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا لقول موسى {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي لو تشارطت على عمله بأجرة معينة لنفعنا ذلك. قال ابن المنير وقصد البخاري أن الإجارة تضبط بتعين العمل كما تضبط بتعين الأجل.

(4/445)


8 - باب الإِجَارَةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ
2268- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ فَأَنْتُمْ هُمْ فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقَلَّ عَطَاءً قَالَ هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ قَالُوا لاَ قَالَ فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ"

(4/445)


9 - باب الإِجَارَةِ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ
2269- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ

(4/446)


ثُمَّ عَمِلَتْ النَّصَارَى عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ثُمَّ أَنْتُمْ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغَارِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً قَالَ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا قَالُوا لاَ فَقَالَ فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ"
قوله: "باب الإجارة إلى صلاة العصر" ذكر فيه حديث ابن عمر من طريق مالك عن عبد الله بن دينار، وليس في سياقه التصريح بالعمل إلى صلاة العصر وإنما يؤخذ ذلك من قوله: "ثم أنتم الذين تعملون من صلاة العصر" فإن ابتداء عمل الطائفة عند انتهاء عمل الطائفة التي قبلها، نعم في رواية أيوب في الباب قبله التصريح بذلك حيث قال: "من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر". قوله في رواية عبد الله بن دينار "إنما مثلكم واليهود والنصارى" هو بخفض اليهود عطفا على الضمير المجرور بغير إعادة الجار قاله ابن التين، وإنما يأتي على رأي الكوفيين. وقال ابن مالك يجوز الرفع على تقدير ومثل اليهود والنصارى على حذف المضاف وإعطاء المضاف إليه إعرابه. قلت: ووجدته مضبوطا في أصل أبي ذر بالنصب وهو موجه على إرادة المعية، ويرجح توجيه ابن مالك ما سيأتي في أحاديث الأنبياء من طريق الليث عن نافع بلفظ: "وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى". قوله: "إلى مغارب الشمس" كذا ثبت في رواية لمالك بلفظ الجمع وكأنه باعتبار الأزمنة المتعددة باعتبار الطوائف، ووقع في رواية سفيان الآتية في فضائل القرآن "إلى مغرب الشمس" على الإفراد وهو الوجه، ومثله في رواية الليث عن نافع الآتية في أحاديث الأنبياء، ونحوه في رواية أيوب في الباب الذي بعده بلفظ: "إلى أن تغيب الشمس". قوله: "هل ظلمتكم" أي نقصتكم كما في رواية نافع في الباب الذي قبله، وسأذكر بقية فوائده بعد بابين.

(4/447)


10 - باب إِثْمِ مَنْ مَنَعَ أَجْرَ الأَجِيرِ
2270- حدثنا يوسف بن محمد قال حدثني يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره"
قوله: "باب إثم من منع أجر الأجير" أورد فيه حديث أبي هريرة وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في "باب إثم من باع حرا" في أواخر البيوع. "تنبيه": أخر ابن بطال هذا الباب عن الذي بعده، وكأنه صنع ذلك للمناسبة.

(4/447)


11 - باب الإِجَارَةِ مِنْ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ
2271- حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم فعملوا له إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل

(4/447)


باب من استأجر أجيراً فترك أجره فعمل فيه المستأجر إلخ
...
12 - باب مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَتَرَكَ الأَجِيرُ أَجْرَهُ فَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ فَزَادَ
أَوْ مَنْ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ فَاسْتَفْضَلَ
2272- حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري حدثني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا فنأى بي في طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد

(4/449)


ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزىء بي فقلت إني لا أستهزىء بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون"
قوله: "باب من استأجر أجيرا فترك أجره" في رواية الكشميهني: "فترك الأجير أجره". قوله: "فعمل فيه المستأجر" أي اتجر فيه أو زرع "فزاد" أي ربح. قوله: "ومن عمل في مال غيره فاستفضل" هو من عطف العام على الخاص، لأن العامل في مال غيره أعم من أن يكون مستأجرا أو غير مستأجر ولم يذكر المصنف الجواب إشارة إلى الاحتمال كعادته. ثم ذكر فيه حديث ابن عمر في قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، وقد تقدم من وجه آخر قريبا. وقد تعقب المهلب ترجمة البخاري بأنه ليس في القصة دليل لما ترجم له، وإنما اتجر الرجل في أجر أجيره ثم أعطاه له على سبيل التبرع، وإنما الذي كان يلزمه قدر العمل خاصة، وقد تقدم ذلك في أثناء كتاب البيوع وسيأتي شرحه مستوفى في أواخر أحاديث الأنبياء إن شاء الله تعالى. وقوله في هذه الرواية: "لا أغبق" هو من الغبوق بالغين المعجمة والموحدة وآخره قاف: شرب العشي، وضبطوه بفتح الهمزة أغبق من الثلاثي، إلا الأصيلي فبضمها من الرباعي وخطئوه. وقوله: "أهلا ولا مالا" المراد بالأهل ما له من زوح وولد وبالمال ما له من رقيق وخدم، وزعم الداودي أن المراد بالمال الدواب وتعقبوه وله وجه. وقوله: "فنأى" بفتح النون والهمزة مقصورا بوزن سعى أي بعد. وفي رواية كريمة والأصيلي: "فناء" بمد بعد النون بوزن جاء وهو بمعنى الأول. وقوله: "فلم أرح" بضم الهمزة وكسر الراء، وقوله: "برق الفجر" بفتح الراء أي أضاء، وقوله: "فافرج" بالوصل وضم الراء وبهمزة قطع وكسر الراء من الفرج أو من الإفراج، وقوله: "كل ما ترى من أجلك" كذا للكشميهني، ولأبي زيد المروزي وللباقين "من أجرك" ولكل وجه.

(4/450)


13 - باب مَنْ آجَرَ نَفْسَهُ لِيَحْمِلَ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ وَأُجْرَةِ الْحَمَّالِ
2273- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ فَيُحَامِلُ فَيُصِيبُ الْمُدَّ وَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ لَمِائَةَ أَلْفٍ قَالَ مَا تَرَاهُ إِلاَّ نَفْسَهُ"
قوله: "باب من آجر نفسه ليحمل على ظهره ثم تصدق به" في رواية الكشميهني: "ثم تصدق منه" وقوله: "وأجر الحمال" أي وباب أجر الحمال. قوله: "حدثنا أبي" هو الأموي صاحب المغازي. وقوله: "عن شقيق" هو أبو وائل، وقوله: "فيحامل" أي يطلب أي يحمل بالأجرة، وقوله: "بالمد" أي يحمل المتاع بالأجرة وهي مد من طعام، والمحاملة مفاعلة وهي تكون بين اثنين، والمراد هنا أن الحمل من أحدهما والأجرة من الآخر كالمساقاة والمزارعة، ووقع للنسائي من طريق منصور عن أبي وائل "ينطلق أحدنا إلى السوق فيحمل على ظهره". قوله:

(4/450)


"وأن بعضهم لمائة ألف" هذه اللام للتأكيد وهي ابتدائية لدخولها على اسم إن وتقدم الخبر وهي كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} ومراده أن ذلك في الوقت الذي حدث به، وقد تقدم في الزكاة بلفظ: "وإن لبعضهم اليوم مائة ألف" زاد النسائي: "وما كان له يومئذ درهم" أي في الوقت الذي كان يحمل فيه. قوله: "قال ما نراه إلا نفسه" بين ابن ماجة من طريق زائدة عن الأعمش أن قائل ذلك هو أبو وائل الراوي للحديث عن أبي مسعود، وقد تقدم شرح هذا الحديث في كتاب الزكاة.

(4/451)


باب أجرة السمسرة
...
14 - باب أَجْرِ السَّمْسَرَةِ
وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ بِأَجْرِ السِّمْسَارِ بَأْسًا
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ بَأْسَ أَنْ يَقُولَ بِعْ هَذَا الثَّوْبَ فَمَا زَادَ عَلَى كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لَكَ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ إِذَا قَالَ بِعْهُ بِكَذَا فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ لَكَ أَوْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ"
2274- حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد حدثنا معتمر عن ابن طاوء عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال" نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقى الركبان ولا بيع حاضر لباد قلت ياابن عباس : ماقوله لا يبيع حاضر لباد قال: لا يكون له سمسارا "
قوله: "باب أجر السمسرة" أي حكمه وهي بمهملتين. قوله: "ولم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأسا" أما قول ابن سيرين وإبراهيم فوصله ابن أبي شيبة عنهما بلفظ: "لا بأس بأجر السمسار إذا اشترى يدا بيد" وأما قول عطاء فوصله ابن أبي شيبة أيضا بلفظ: "سئل عطاء عن السمسرة فقال لا بأس بها" وكأن المصنف أشار إلى الرد على من كرهها، وقد نقله ابن المنذر عن الكوفيين. قوله: "وقال ابن عباس: لا باس أن يقول بع هذا الثوب، فما زاد على كذا وكذا فهو لك" وصله ابن أبي شيبة من طريق عطاء نحوه، وهذه أجر سمسرة أيضا لكنها مجهولة ولذلك لم يجزها الجمهور وقالوا: إن باع له على ذلك فله أجر مثله، وحمل بعضهم إجازة ابن عباس على أنه أجراه مجرى المقارض، وبذلك أجاب أحمد وإسحاق ونقل ابن التين أن بعضهم شرط في جوازه أن يعلم الناس ذلك الوقت أن ثمن السلعة يساوي أكثر مما سمى له، وتعقبه بأن الجهل بمقدار الأجرة باق. قوله: "وقال ابن سيرين: إذا قال بعه بكذا فما كان من ربح فلك أو بيني وبينك فلا بأس به" وصله ابن أبي شيبة أيضا من طريق يونس عنه، وهذا أشبه بصورة المقارض من السمسار. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: المسلمون عند شروطهم" هذا أحد الأحاديث التي لم يوصلها المصنف في مكان آخر، وقد جاء من حديث عمرو بن عوف المزني فأخرجه إسحاق في مسنده من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظه وزاد: "إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما" وكثير بن عبد الله ضعيف عند الأكثر لكن البخاري ومن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يقوون أمره، وأما حديث أبي هريرة فوصله أحمد وأبو داود والحاكم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح وهو بموحدة عن أبي هريرة بلفظه أيضا دون زيادة كثير فزاد بدلها "والصلح جائز بين المسلمين

(4/451)


" وهذه الزيادة أخرجها الدار قطني والحاكم من طريق أبي رافع عن أبي هريرة، ولابن أبي شيبة من طريق عطاء "بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المؤمنون عند شروطهم" ، وللدار قطني والحاكم من حديث عائشة مثله وزاد: "ما وافق الحق". "تنبيه": ظن ابن التين أن قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم" بقية كلام ابن سيرين فشرح على ذلك فوهم، وقد تعقبه القطب الحلبي ومن تبعه من علمائنا. ثم أورد المصنف حديث ابن عباس الماضي في البيوع، والمراد منه قوله في تفسير المنع لبيع الحاضر للبادي "أن لا يكون له سمسارا" فإن مفهومه أنه يجوز أن يكون سمسارا في بيع الحاضر للحاضر ولكن شرط الجمهور أن تكون الأجرة معلومة، وعن أبي حنيفة إن دفع له ألفا على أن يشتري بها بزا بأجرة عشرة فهو فاسد، فإن اشترى فله أجرة المثل ولا يجوز ما سمى من الأجرة. وعن أبي ثور إذا جعل له في كل ألف شيئا معلوما لم يجز لأن ذلك غير معلوم فإن عمل فله أجر مثله، وحجة من منع أنها إجارة في أمر لأمد غير معلوم، وحجة من أجازه أنه إذا عين له الأجرة كفى ويكون من باب الجعالة. والله أعلم.

(4/452)


15 - باب هَلْ يُؤَاجِرُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ مِنْ مُشْرِكٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ؟
2275- حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق حدثنا خباب قال ثم كنت رجلا قينا فعملت للعاص بن وائل فاجتمع لي عنده فأتيته أتقاضاه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت أما والله حتى تموت ثم تبعث فلا قال وإني لميت ثم مبعوث؟ قلت نعم قال فإنه سيكون لي ثم مال وولد فأقضيك فأنزل الله تعالى: {فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } قوله: "باب هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في أرض الحرب" أورد فيه حديث خباب - وهو إذ ذاك مسلم - في عمله للعاص بن وائل وهو مشرك، وكان ذلك بمكة وهي إذ ذاك دار حرب، واطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وأقره، ولم يجزم المصنف بالحكم لاحتمال أن يكون الجواز مقيدا بالضرورة، أو أن جواز ذلك كان قبل الإذن في قتال المشركين ومنابذتهم وقبل الأمر بعدم إذلال المؤمن نفسه. وقال المهلب: كره أهل العلم ذلك إلا لضرورة بشرطين: أحدهما أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله، والآخر أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين. وقال ابن المنير: استقرت المذاهب على أن الصناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل لأهل الذمة ولا يعد ذلك من الذلة، بخلاف أن يخدمه في منزله وبطريق التبعية له والله أعلم. وقد تقدم حديث خباب في البيوع، ويأتي بقية شرحه في تفسير سورة مريم.

(4/452)


باب ما يعطي في الرقية علي احياء العرب بفاتحة الكتاب
باب ضريبة العبد و تعاهد ضرائب الإماء
باب خراج الحجام
باب من كلم موالي العبد أن يخففوا عنه من خراجه
باب كسب البغى و الإماء
باب عسب الفحل
باب اذا استاجر أرضا فمات أحداهما
كتاب الحوالة
كتاب الكفالة
كتاب الوكالة
المجلد الخامس
كتاب الحرث والمزارعة
باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه
...
1 - المجلد الخامس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
41 - كتاب الحرث والمزارعة
3 – باب: فَضْلِ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ إِذَا أُكِلَ مِنْهُ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الواقعة:63-65]
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا}
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ ح
وحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ " وَقَالَ لَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا أَبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 2320-طرفه في:6012]
قوله: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - كتاب المزارعة - باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الآية]" كذا للنسفي والكشميهني، إلا أنهما أخرا البسملة، وزاد النسفي " باب ما جاء في الحرث والمزارعة وفضل الزرع الخ " وعليه شرح ابن بطال، ومثله للأصيلي وكريمة إلا أنهما حذفا لفظ: "كتاب المزارعة " وللمستملي: "كتاب الحرث " وقدم الحموي البسملة وقال: "في الحرث " بدل كتاب الحرث.ولا شك أن الآية تدل على إباحة الزرع من جهة الامتنان به، والحديث يدل على فضله بالقيد الذي ذكره المصنف.وقال ابن المنير: أشار البخاري إلى إباحة الزرع، وأن من نهى عنه كما ورد عن عمر فمحله ما إذا شغل الحرث عن الحرب ونحوه من الأمور المطلوبة، وعلى ذلك يحمل حديث أبي أمامة المذكور في الباب الذي بعده.والمزارعة مفاعلة من الزرع وسيأتي القول فيها بعد أبواب.قوله: "حدثنا قتيبة الخ" أخرج هذا الحديث عن شيخين حدثه به كل منهما عن أبي عوانة، ولم أر في سياقهما اختلافا، وكأنه قصد أنه سمعه من كل منهما وحده فلذلك لم يجمعهما.قوله: "ما من مسلم" أخرج الكافر لأنه رتب على ذلك كون ما أكل منه يكون له صدقة، والمراد بالصدقة الثواب في الآخرة وذلك يختص بالمسلم، نعم ما أكل من زرع الكافر يثاب عليه في الدنيا كما ثبت من حديث أنس عند مسلم، وأما من قال إنه يخفف عنه بذلك من عذاب الآخرة فيحتاج إلى دليل، ولا يبعد أن يقع ذلك لمن لم يرزق في الدنيا وفقد العافية.قوله: "أو يزرع" " أو " للتنويع لأن الزرع غير الغرس.قوله: "وقال مسلم" كذا للنسفي وجماعة، ولأبي ذر والأصيلي وكريمة: "وقال لنا مسلم: "وهو ابن إبراهيم، وأبان هو ابن يزيد العطار، والبخاري لا يخرج له إلا استشهادا، ولم أر له في كتابه شيئا موصولا إلا هذا، ونظيره عنده حماد بن سلمة فإنه لا يخرج له إلا استشهادا ووقع عنده في الرقاق " قال لنا أبو الوليد حدثنا حماد بن سلمة " وهذه الصيغة وهي: "قال لنا " يستعملها البخاري - على ما استقرئ من كتابه - في الاستشهادات غالبا، وربما استعملها في الموقوفات.ثم إنه ذكر هنا إسناد أبان ولم يسق متنه، لأن غرضه منه التصريح بالتحديث من قتادة عن أنس.وقد أخرجه مسلم عن عبد بن حميد عن مسلم بن إبراهيم المذكور بلفظ:

(5/3)


"أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى نخلا لأم مبشر امرأة من الأنصار فقال: من غرس هذا النخل، أمسلم أم كافر؟ فقالوا: مسلم، قال بنحو حديثهم " كذا عند مسلم.فأحال به على ما قاله، وقد بينه أبو نعيم في " المستخرج " من وجه آخر عن مسلم بن إبراهيم وباقيه " فقال لا يغرس مسلم غرسا فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة " وأخرج مسلم هذا الحديث عن جابر من طرق منها بلفظ: "سبع " بدل بهيمة، وفيها " إلا كان له صدقة فيها أجر " ومنها " أم مبشر أو أم معبد " على الشك، وفي أخرى " أم معبد " بغير شك، وفي أخرى " امرأة زيد بن حارثة ": وهي واحدة لها كنيتان وقيل اسمها خليدة، وفي أخرى " عن جابر عن أم مبشر " جعله من مسندها.وفي الحديث فضل الغرس والزرع والحض على عمارة الأرض، ويستنبط منه اتخاذ الضيعة والقيام عليها.وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة وحمل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين، فمنه حديث ابن مسعود مرفوعا: "لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا " الحديث، قال القرطبي: يجمع بينه وبين حديث الباب بحمله على الاستكثار والاشتغال به عن أمر الدين، وحمل حديث الباب على اتخاذها للكفاف أو لنفع المسلمين بها وتحصيل ثوابها.وفي رواية لمسلم: "إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة " ومقتضاه أن أجر ذلك يستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولا منه ولو مات زارعه أو غارسه ولو انتقل ملكه إلى غيره، وظاهر الحديث أن الأجر يحصل لمتعاطي الزرع أو الغرس ولو كان ملكه لغيره لأنه أضافه إلى أم مبشر ثم سألها عمن غرسه، قال الطيبي: نكر مسلما وأوقعه في سياق النفي وزاد من الاستغراقية وعم الحيوان ليدل على سبيل الكناية على أن أي مسلم كان حرا أو عبدا مطيعا أو عاصيا يعمل أي عمل من المباح ينتفع بما عمله أي حيوان كان يرجع نفعه إليه ويثاب عليه.وفيه جواز نسبة الزرع إلى الآدمي، وقد ورد في المنع منه حديث غير قوي أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة مرفوعا: لا يقل أحدكم زرعت، ولكن ليقل حرثت، ألم تسمع لقول الله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} " ورجاله ثقات، إلا أن مسلم بن أبي مسلم الجرمي قال فيه ابن حبان ربما أخطأ.وروي عبد بن حميد من طريق أبي عبد الرحمن السلمي بمثله من قوله غير مرفوع، واستنبط منه المهلب أن من زرع في أرض غيره كان الزرع للزارع وعليه لرب الأرض أجرة مثلها، وفي أخذ هذا الحكم من هذا الحديث بعد، وقد تقدم الكلام على أفضل المكاسب في كتاب البيوع.والله الموفق.

(5/4)


2 - باب: مَا يُحَذَّرُ مِنْ عَوَاقِبِ الِاشْتِغَالِ بِآلَةِ الزَّرْعِ أَوْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ
2321- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ الْحِمْصِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الأَلْهَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ فَقَالَ: - سَمِعْتُ رسول اللهَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الذُّلَّ" قَالَ محمد: وَاسْمُ أَبِي أُمَامَةَ صُدَيُّ بْنُ عَجْلاَنَ
قوله: "باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به" هكذا للأصيلي وكريمة، ولابن شبويه " أو تجاوز " وللنسفي وأبي ذر " جاوز " والمراد بالحد ما شرع، أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا.قوله: "حدثنا عبد الله بن سالم" هو الحمصي يكنى أبا يوسف وليس له ولا لشيخه في هذا الصحيح غير هذا الحديث،

(5/4)


والألهاني بفتح الهمزة، ورجال الإسناد كلهم شاميون وكلهم حمصيون إلا شيخ البخاري.قوله: "عن أبي أمامة" في رواية أبي نعيم في المستخرج " سمعت أبا أمامة".قوله: "سكة" بكسر المهملة هي الحديدة التي تحرث بها الأرض.قوله: "إلا أدخله الله الذل" أي رواية الكشميهني: "إلا دخله الذل " وفي رواية أبي نعيم المذكورة " إلا أدخلوا على أنفسهم ذلا لا يخرج عنهم إلى يوم القيامة " والمراد بذلك ما يلزمهم من حقوق الأرض التي تطالبهم بها الولاة، وكان العمل في الأراضي أول ما افتتحت على أهل الذمة فكان الصحابة يكرهون تعاطي ذلك.قال ابن التين: هذا من إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات، لأن المشاهد الآن أن أكثر الظلم إنما هو على أهل الحرث.وقد أشار البخاري بالترجمة إلى الجمع بين حديث أبي أمامة والحديث الماضي في فضل الزرع والغرس وذلك بأحد أمرين: إما أن يحمل ما ورد من الذم على عاقبة ذلك ومحله ما إذا اشتغل به فضيع بسببه ما أمر بحفظه، وإما أن يحمل على ما إذا لم يضيع إلا أنه جاوز الحد فيه.والذي يظهر أن كلام أبي أمامة محمول على من يتعاطى ذلك بنفسه، أما من له عمال يعملون له وأدخل داره الآلة المذكورة لتحفظ لهم فليس مرادا، ويمكن الحمل على عمومه فإن الذل شامل لكل من أدخل على نفسه ما يستلزم مطالبة آخر له، ولا سيما إذا كان المطالب من الولاة.وعن الداودي هذا لمن يقرب من العدو، فإنه إذا اشتغل بالحرث لا يشتغل بالفروسية فيتأسد عليه العدو، فحقهم أن يشتغلوا بالفروسية وعلى غيرهم إمدادهم بما يحتاجون إليه.قوله: "قال أبو عبد الله: اسم أبي أمامة صدي بن عجلان الخ" كذا وقع للمستملي وحده.قلت: وليس لأبي أمامة في البخاري سوى هذا الحديث، وحديث آخر في الأطعمة، وله حديث آخر في الجهاد من قوله يدخل في حكم المرفوع.والله أعلم.

(5/5)


3 - باب اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلْحَرْثِ
2322- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ إِلاَّ كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِلاَّ كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ صَيْدٍ" وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ"
[الحديث 2322- طرفه في: 3324]
2323- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ - رَجُلً مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لاَ يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلاَ ضَرْعًا نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِي وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ"
[ الحديث 2323- طرفه في:3325]
قوله: "باب اقتناء الكلب للحرث" الاقتناء بالقاف افتعال من القنية بالكسر وهي الاتخاذ" قال ابن المنير: أراد

(5/5)


البخاري إباحة الحرث بدليل إباحة اقتناء الكلاب المنهي عن اتخاذها لأجل الحرث، فإذا رخص من أجل الحرث في الممنوع من اتخاذه كان أقل درجاته أن يكون مباحا.قوله: "عن أبي سلمة عن أبي هريرة" في رواية مسلم من طريق الأوزاعي " حدثني يحيي بن أبي كثير حدثني أبو سلمة حدثني أبو هريرة".قوله: "من أمسك كلبا" في رواية سفيان بن أبي زهير ثاني حديثي الباب: "من اقتنى كلبا " وهو مطابق للترجمة، ومفسر للإمساك الذي هو في هذه الرواية، ورواه أحمد ومسلم من طريق الزهري عن أبي سلمة بلفظ: "من " اتخذ كلبا إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية " وأخرجه مسلم والنسائي من وجه آخر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بلفظ: "من اقتنى كلبا ليس كلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان " فأما زيادة الزرع فقد أنكرها ابن عمر، ففي مسلم من طريق عمرو بن دينار عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب غنم " فقيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: "أو كلب زرع " فقال ابن عمر: إن لأبي هريرة " زرعا " ويقال أن ابن عمر أراد بذلك الإشارة إلى تثبيت رواية أبي هريرة وأن سبب حفظه لهذه الزيادة دونه أنه كان صاحب زرع دونه، ومن كان مشتغلا بشيء احتاج إلى تعرف أحكامه، وقد روى مسلم أيضا من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه مرفوعا: "من اقتنى كلبا " الحديث، قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: "أو كلب حرث " وكان صاحب حرث، وأصله للبخاري في الصيد دون الزيادة، وقد وافق أبا هريرة على ذكر الزرع سفيان بن أبي زهير كما تراه في هذا الباب، وعبد الله بن مغفل وهو عند مسلم في حديث أوله " أمر بقتل الكلاب ورخص في كلب الغنم والصيد والزرع" .قوله: "أو ماشية" " أو " للتنويع لا للترديد.قوله: "وقال ابن سيرين وأبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إلا كلب غنم أو حرث أو صيد" ، أما رواية ابن سيرين فلم أقف عليها بعد التتبع الطويل، وأما رواية أبي صالح فوصلها أبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصبهاني في " كتاب الترغيب " له من طريق الأعمش عن أبي صالح ومن طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: "من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو حرث فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراطا " لم يقل سهيل " أو حرث".قوله: "وقال أبو حازم عن أبي هريرة: كلب ماشية أو صيد" وصلها أبو الشيخ أيضا من طريق زيد بن أبي أنيسة عن عدي بن ثابت عن أبي حازم بلفظ: "أيما أهل دار ربطوا كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية نقص من أجرهم كل يوم قيراطان " قال ابن عبد البر: في هذا الحديث إباحة اتخاذ الكلاب للصيد والماشية، وكذلك الزرع لأنها زيادة حافظ، وكراهة اتخاذها لغير ذلك، إلا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضار قياسا، فتمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة لما فيه من ترويع الناس وامتناع دخول الملائكة للبيت الذي هم فيه.
وفي قوله: "نقص من عمله " - أي من أجر عمله - ما يشير إلى أن اتخاذها ليس بمحرم، لأن ما كان اتخاذه محرما امتنع اتخاذه على كل حال سواء نقص الأجر أو لم ينقص، فدل ذلك على أن اتخاذها مكروه لا حرام.قال: ووجه الحديث عندي أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعا لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك.ويروى أن المنصور سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث فلم يعرفه فقال المنصور: لأنه ينبح الضيف، ويروع السائل ا هـ.وما ادعاه من عدم التحريم واستند له بما ذكره ليس بلازم، بل يحتمل أن تكون العقوبة تقع بعدم التوفيق للعمل بمقدار قيراط مما كان يعمله من الخير لو لم يتخذ الكلب، ويحتمل أن يكون الاتخاذ حراما، والمراد بالنقص أن الإثم

(5/6)


الحاصل باتخاذه يوازي قدر قيراط أو قيراطين من أجر فينقص من ثواب عمل المتخذ قدر ما يترتب عليه من الإثم باتخاذه وهو قيراط أو قيراطان، وقيل سبب النقصان امتناع الملائكة من دخول بيته أو ما يلحق المارين من الأذى، أو لأن بعضها شياطين، أو عقوبة لمخالفة النهي، أو لولوغها في الأواني عند غفلة صاحبها فربما يتنجس الطاهر منها، فإذا استعمل في العبادة لم يقع موقع الطاهر.وقال ابن التين: المراد أنه لو لم يتخذه لكان عمله كاملا، فإذا اقتناه نقصن من ذلك العمل، ولا يجوز أن ينقص من عمل مضى وإنما أراد أنه ليس عمله في الكمال عمل من لم يتخذه ا هـ.وما ادعاه من عدم الجواز منازع فيه، فقد حكى الروياني في "البحر" اختلافا في الأجر هل ينقص من العمل الماضي أو المستقبل، وفي محصل نقصان القيراطين فقيل من عمل النهار قيراط ومن عمل الليل آخر وقيل من الفرض قيراط ومن النفل آخر، وفي سبب النقصان يعني كما تقدم، واختلفوا في اختلاف الروايتين في القيراطين والقيراط فقيل: الحكم الزائد لكونه حفظ ما لم يحفظه الآخر أو أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أولا بنقص قيراط واحد فسمعه الراوي الأول ثم أخبر ثانيا بنقص قيراطين في التأكيد في التنفير من ذلك فسمعه الراوي الثاني.وقيل ينزل على حالين: فنقصان القيراطين باعتبار كثرة الأضرار باتخاذها، ونقص القيراط باعتبار قلته.وقيل يختص نقص القيراطين بمن اتخذها بالمدينة الشريفة خاصة والقيراط بما عداها، وقيل يلتحق بالمدينة في ذلك سائر المدن والقرى ويختص القيراط بأهل البوادي، وهو يلتفت إلى معنى كثرة التأذي وقلته.وكذا من قال يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب: ففيما لابسه آدمي قيراطان وفيما دونه قيراط.وجوز ابن عبد البر أن يكون القيراط الذي ينقص أجر إحسانه إليه لأنه من جملة ذوات الأكباد الرطبة أو الحرى، ولا يخفى بعده.واختلف في القيراطين المذكورين هنا هل هما كالقيراطين المذكورين في الصلاة على الجنازة واتباعها؟ فقيل بالتسوية، وقيل اللذان في الجنازة من باب الفضل واللذان هنا من باب العقوبة وباب الفضل أوسع من غيره، والأصح عن الشافعية إباحة اتخاذ الكلاب لحفظ الدرب إلحاقا للمنصوص بما في معناه كما أشار إليه ابن عبد البر، واتفقوا على أن المأذون في اتخاذه ما لم يحصل الاتفاق على قتله وهو الكلب العقور، وأما غير العقور فقد اختلف هل يجوز قتله مطلقا أم لا؟ واستدل به على جواز تربية الجرو الصغير لأجل المنفعة التي يؤول أمره إليها إذا كبر، ويكون القصد لذلك قائما مقام وجود المنفعة به كما يجوز بيع ما لم ينتفع به في الحال لكونه ينتفع به في المآل، واستدل به على طهارة الكلب الجائز اتخاذه لأن في ملابسته مع الاحتراز عنه مشقة شديدة، فالإذن في اتخاذه إذن في مكملات مقصوده، كما أن المنع من لوازمه مناسب للمنع منه، وهو استدلال قوي لا يعارضه إلا عموم الخبر الوارد في الأمر من غسل ما ولغ فيه الكلب من غير تفصيل، وتخصيص العموم غير مستنكر إذا سوغه الدليل.وفي الحديث الحث على تكثير الأعمال الصالحة، والتحذير من العمل بما ينقصها، والتنبيه على أسباب الزيادة فيها والنقص منها لتجتنب أو ترتكب، وبيان لطف الله تعالى بخلقه في إباحة ما لهم به نفع، وتبليغ نبيهم صلى الله عليه وسلم لهم أمور معاشهم ومعادهم، وفيه ترجيح المصلحة الراجحة على المفسدة لوقوع استثناء ما ينتفع به مما حرم اتخاذه.قوله: "عن يزيد بن خصيفة" بالمعجمة ثم المهملة ثم الفاء مصغر، و "السائب بن يزيد" صحابي صغير مشهور، ورجال الإسناد كلهم مدنيون بالأصالة إلا شيخ البخاري وقد أقام بالمدينة مدة، وفيه رواية صحابي عن صحابي.قوله: "من أزد شنوءة" بفتح المعجمة وضم النون بعدها واو ساكنة ثم همزة مفتوحة، وهي قبيلة مشهورة نسبوا إلى شنوءة واسمه الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن النضر بن

(5/7)


الأزد.قوله: "قلت أنت سمعت هذا" فيه التثبت في الحديث.وفي قوله: "أي ورب هذا المسجد" القسم للتوكيد وإن كان السامع مصدقا.

(5/8)


باب إستعمال البقرة للحراثة
...
4 - باب: اسْتِعْمَالِ الْبَقَرِ لِلْحِرَاثَةِ
2324- حَدَّثَنَى مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً فَتَبِعَهَا الرَّاعِي فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لاَ رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي ؟ قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِي الْقَوْمِ"
[الحديث 2324- أطرافه في: 3471 ،3663 ،3690]
قوله: "باب استعمال البقر للحراثة" أورد فيه حديث أبي هريرة في قول البقرة "لم أخلق لهذا إنما خلقت للحراثة " وسيأتي الكلام عليه في المناقب فإن سياقه هناك أتم من سياقه هنا، وفيه سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "آمنت بذلك" وهو حيث تعجب الناس من ذلك، ويأتي هناك أيضا الكلام على اختلافهم في قوله: "يوم السبع " وهل هي بضم الموحدة أو إسكاتها وما معناها؟ قال ابن بطال: في هذا الحديث حجة على من منع أكل الخيل مستدلا بقوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا} فإنه لو كان ذلك دالا على منع أكلها لدل هذا الخبر على منع أكل البقر، لقوله في هذا الحديث: "إنما خلقت للحرث" وقد اتفقوا على جواز أكلها فدل على أن المراد بالعموم المستفاد من جهة الامتنان في قوله: {لِتَرْكَبُوهَا} والمستفاد من صيغة إنما في قوله: "إنما خلقت للحرث" عموم مخصوص.

(5/8)


باب إذا قال اكفني مؤونة النخل وغيره وتشركني في التمر
...
5- باب: إِذَا قَالَ اكْفِنِي مَئُونَةَ النَّخْلِ وَغَيْرِهِ وَتُشْرِكُنِي فِي الثَّمَرِ
حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قَالَتْ الأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ قَالَ لاَ فَقَالُوا: تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا"
[الحديث 2325- طرفاه في: 2719 ، 3782]
قوله: "باب إذا قال اكفني مؤنة النخل وغيره" أي كالعنب "وتشركني في الثمر" أي تكون الثمرة بيننا، ويجوز في "تشركني" فتح أوله وثالثه وضم أوله وكسر ثالثه، بخلاف قوله: "ونشرككم" فإنه بفتح أوله وثالثه حسب.قوله: "قالت الأنصار" أي حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وسيأتي في الهبة من حديث أنس قال: "لما قدم المهاجرون المدينة قاسمهم الأنصار على أن يعطوهم ثمار أموالهم ويكفوهم المؤنة والعمل " الحديث.قوله: "النخيل " في رواية الكشميهني: "النخل" والنخيل جمع نخل كالعبيد جمع عبد وهو جمع نادر.قوله: "المؤنة" أي العمل في البساتين من سقيها والقيام عليها، قال المهلب: إنما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "لا" لأنه علم أن الفتوح ستفتح عليهم فكره .

(5/8)


باب قطع الشجر و النخل
...
6 - باب: قَطْعِ الشَّجَرِ وَالنَّخْلِ وَقَالَ أَنَسٌ: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ
2326- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ:
لهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
[الحديث 2326- أطرافه في: 3021 ، 4031 ،4032 ، 4884]
قوله: "باب قطع الشجر والنخل" أي للحاجة والمصلحة إذا تعينت طريقا في نكاية العدو ونحو ذلك.وخالف في ذلك بعض أهل العلم فقالوا لا يجوز قطع الشجر المثمر أصلا، وحملوا ما ورد من ذلك إما على غير المثمر وإما على أن الشجر الذي قطع في قصة بني النضير كان في الموضع الذي يقع فيه القتال، وهو قول الأوزاعي والليث وأبي ثور.قوله: "وقال أنس أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع" هو طرف من حديث بناء المسجد النبوي، وقد تقدم موصولا في المساجد، ويأتي الكلام عليه في أول الهجرة، وهو شاهد للجواز لأجل الحاجة، ثم ذكر المصنف حديث ابن عمر في تحريق نخل بني النضير، وهو شاهد للجواز لأجل نكاية العدو، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب المغازي بين بدر وأحد، وفي كتاب تفسير سورة الحشر. و "البويرة" بضم الموحدة مصغر موضع معروف، و "سراة" بفتح المهملة و "مستطير" أي منتشر. وأورد القابسي البيت المذكور مخروما بحذف الواو من أوله.

(5/9)


باب حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله
...
7 - باب 2327- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيِّ سَمِعَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَالَ: "كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرَعًا كُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمًّى لِسَيِّدِ الأَرْضِ قَالَ فَمِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الأَرْضُ وَمِمَّا يُصَابُ الأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ فَنُهِينَا وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ"
قوله: "باب" كذا للجميع بغير ترجمة، وهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله.وأورد فيه حديث رافع بن خديج "كنا نكري الأرض بالناحية منها، وسيأتي الكلام عليه مستوفى بعد أربعة أبواب، وقد استنكر ابن بطال دخوله في هذا الباب قال: وسألت المهلب عنه فقال: يمكن أن يؤخذ من جهة أنه من اكترى أرضا ليزرع فيها ويغرس فانقضت المدة فقال له صاحب الأرض اقلع شجرك عن أرضي كان له ذلك، فيدخل بهذه الطريق في

(5/9)


8 - باب: الْمُزَارَعَةِ بِالشَّطْرِ وَنَحْوِهِ
وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: "مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلاَّ يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَزَارَعَ عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ وَعُرْوَةُ وَآلُ أَبِي بَكْرٍ وَآلُ عُمَرَ وَآلُ عَلِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ: كُنْتُ أُشَارِكُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ فِي الزَّرْعِ وَعَامَلَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى إِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الأَرْضُ لِأَحَدِهِمَا فَيُنْفِقَانِ جَمِيعًا فَمَا خَرَجَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَرَأَى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُجْتَنَى الْقُطْنُ عَلَى النِّصْفِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَالْحَكَمُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الثَّوْبَ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ وَنَحْوِهِ: وَقَالَ مَعْمَرٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى"
2328- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ فَكَانَ يُعْطِي أَزْوَاجَهُ مِائَةَ وَسْقٍ ثَمَانُونَ وَسْقَ تَمْرٍ وَعِشْرُونَ وَسْقَ شَعِيرٍ فَقَسَمَ عُمَرُ خَيْبَرَ فَخَيَّرَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ مِنْ الْمَاءِ وَالأَرْضِ أَوْ يُمْضِيَ لَهُنَّ ؟ فَمِنْهُنَّ مَنْ اخْتَارَ الأَرْضَ وَمِنْهُنَّ مَنْ اخْتَارَ الْوَسْقَ وَكَانَتْ عَائِشَةُ اخْتَارَتْ الأَرْضَ" .

(5/10)


قوله: "باب المزارعة بالشطر ونحوه" راعي المصنف لفظ الشطر لوروده في الحديث، وألحق غيره لتساويهما في المعني، ولولا مراعاة لفظ الحديث لكان قوله المزارعة بالجزء أخصر وأبين.قوله: "وقال قيس بن مسلم" هو الكوفي "عن أبي جعفر" هو محمد بن علي بن الحسين الباقر.قوله: "ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع" الواو عاطفة على الفعل لا على المجرور، أي يزرعون على الثلث ويزرعون على الربع، أو الواو بمعني أو، وهذا الأثر وصله عبد الرزاق قال: "أخبرنا الثوري قال: أخبرنا قيس بن مسلم به " وحكى ابن التين أن القابسي أنكر هذا وقال: كيف يروي قيس بن مسلم هذا عن أبي جعفر وقيس كوفي وأبو جعفر مدني ولا يرويه عن أبي جعفر أحد من المدنيين؟ وهو تعجب من غير عجب، وكم من ثقة تفرد بما لم يشاركه فيه ثقة آخر، وإذا كان الثقة حافظا لم يضره الانفراد.والواقع أن قيسا لم ينفرد به فقد وافقه غيره في بعض معناه كما سيأتي قريبا.ثم حكى ابن التين عن القابسي أغرب من ذلك فقال: إنما ذكر البخاري هذه الآثار في هذا الباب ليعلم أنه لم يصح في المزارعة على الجزء حديث مسند، وكأنه غفل عن آخر حديث في الباب وهو حديث ابن عمر في ذلك وهو معتمد من قال بالجواز، والحق أن البخاري إنما أراد بسياق هذه الآثار الإشارة إلى أن الصحابة لم ينقل عنهم خلاف في الجواز خصوصا أهل المدينة، فيلزم من يقدم عملهم على الأخبار المرفوعة أن يقولوا بالجواز على قاعدتهم.قوله: "وزارع علي وابن مسعود وسعد بن مالك وعمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين"، أما أثر علي فوصله ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن صليع عنه " أنه لم ير بأسا بالمزارعة على النصف"، وأما أثر ابن مسعود وسعد بن مالك - وهو سعد بن أبي وقاص - فوصلهما ابن أبي شيبة أيضا من طريق موسى بن طلحة قال: "كان سعد بن مالك وابن مسعود يزارعان بالثلث والربع" ووصله سعيد بن منصور من هذا الوجه بلفظ: "أن عثمان بن عفان أقطع خمسة من الصحابة الزبير وسعدا وابن مسعود وخبابا وأسامة بن زيد، قال: فرأيت جاري ابن مسعود وسعدا يعطيان أرضيهما بالثلث".وأما أثر عمر بن عبد العزيز فوصله ابن أبي شيبة من طريق خالد الحذاء "أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطاة أن يزارع بالثلث والربع" وروينا في "الخراج ليحيى بن آدم" بإسناده إلى عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامله: انظر ما قبلكم من أرض فأعطوها بالمزارعة على النصف وإلا فعلى الثلث حتى تبلغ العشر.فإن لم يزرعها أحد فامنحها، وإلا فأنفق عليها من مال المسلمين، ولا تبيرن قبلك أرضا".وأما أثر القاسم بن محمد فوصله عبد الرزاق قال: "سمعت هشاما يحدث أن ابن سيرين أرسله إلى القاسم بن محمد ليسأله عن رجل قال لآخر: اعمل في حائطي هذا ولك الثلث والربع، قال: لا بأس، قال فرجعت إلى ابن سيرين فأخبرته فقال: هذا أحسن ما يصنع في الأرض".وروى النسائي من طريق ابن عون قال: "كان محمد يعني ابن سيرين يقول: الأرض عندي مثل المال المضاربة، فما صلح في المال المضاربة صلح في الأرض وما لم يصلح في المال المضاربة لم يصلح في الأرض.قال: وكان لا يرى بأسا أن يدفع أرضه إلى الأكار على أن يعمل فيها بنفسه وولده وأعوانه وبقره ولا ينفق شيئا وتكون النفقة كلها من رب الأرض".وأما أثر عروة وهو ابن الزبير فوصله ابن أبي شيبة أيضا.وأما أثر أبي بكر ومن ذكر معهم فروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريق أخرى إلى أبي جعفر الباقر أنه " سئل عن المزارعة بالثلث والربع فقال: إني إن نظرت في آل أبي بكر وآل عمر وآل علي وجدتهم يفعلون ذلك " وأما أثر ابن سيرين فتقدم مع القاسم بن محمد.وروى سعيد بن منصور

(5/11)


من وجه آخر عنه أنه "كان لا يرى بأسا أن يجعل الرجل للرجل طائفة من زرعه أو حرثه على أن يكفيه مؤنتها والقيام عليها".قوله: "وقال عبد الرحمن بن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع" وصله ابن أبي شيبة وزاد فيه: "وأحمله إلى علقمة، والأسود، فلو رأيا به بأسا لنهياني عنه" وروى النسائي من طريق أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود قال: "كان عماي يزارعان بالثلث والربع وأنا شريكهما، وعلقمة والأسود يعلمان فلا يغيران".قوله: "وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا" وصله ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن يحيي بن سعيد " أن عمر أجلى أهل نجران واليهود والنصارى واشترى بياض أرضهم وكرومهم، فعامل عمر الناس إن هم جاؤوا بالبقر والحديد من عندهم فلهم الثلثان ولعمر الثلث، وإن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وعاملهم في النخل على أن لهم الخمس وله الباقي، وعاملهم في الكرم على أن لهم الثلث وله الثلثان " وهذا مرسل، وأخرجه البيهقي من طريق إسماعيل بن أبي حكيم عن عمر بن عبد العزيز قال: "لما استخلف عمر أجلي أهل نجران وأهل فدك وتيماء وأهل خيبر، واشترى عقارهم وأموالهم، واستعمل يعلى بن منية فأعطى البياض - يعني بياض الأرض - على إن كان البذر والبقر والحديد من عمر فلهم الثلث ولعمر الثلثان، وإن كان منهم فلهم الشطر وله الشطر، وأعطى النخل والعنب على أن لعمر الثلثين ولهم الثلث " وهذا مرسل أيضا فيتقوى أحدهما بالأخر.وقد أخرجه الطحاوي من هذا الوجه بلفظ: "إن عمر بن الخطاب بعث يعلى بن منية إلى اليمن فأمره أن يعطيهم الأرض البيضاء" فذكر مثله سواء، وكأن المصنف أبهم المقدار بقوله: "فلهم كذا" لهذا الاختلاف، لأن غرضه منه أن عمر أجاز المعاملة بالجزء.وقد استشكل هذا الصنيع بأنه يقتضي جواز بيعتين في بيعة، لأن ظاهره وقوع العقد على إحدى الصورتين من غير تعيين، ويحتمل أن يراد بذلك التنويع والتخيير قبل العقد ثم يقع العقد على أحد الأمرين، أو أنه كان يرى ذلك جعالة فلا يضره.نعم في إيراد المصنف هذا الأثر وغيره في هذه الترجمة ما يقتضي أنه يرى أن المزارعة والمخابرة بمعنى واحد، وهو وجه للشافعية، والوجه الآخر أنهما مختلفا المعنى: فالمزارعة العمل في الأرض ببعض ما يخرج منها والبذر من المالك، والمخابرة مثلها لكن البذر من العامل.وقد أجازهما أحمد في رواية، ومن الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي.وقال ابن سريج بجواز المزارعة وسكت عن المخابرة، وعكسه الجوري من الشافعية، وهو المشهور عن أحمد.وقال الباقون لا يجوز واحد منهما، وحملوا الآثار الواردة في ذلك على المساقاة وسيأتي.قوله: "وقال الحسن لا بأس أن تكون الأرض لأحدهما فينتفعان جميعا، فما خرج فهو بينهما، ورأى ذلك الزهري.وقال الحسن: لا بأس أن يجتنى القطن على النصف".أما قول الحسن فوصله سعيد بن منصور بنحوه.وأما قول الزهري فوصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة بنحوه.قال ابن التين: قول الحسن في القطن يوافق قول مالك، وأجاز أيضا أن يقول ما جنيت فلك نصفه، ومنعه بعض أصحابه.ويمكن أن يكون الحسن أراد أنه جعالة.قوله: "وقال إبراهيم وابن سيرين وعطاء والحكم والزهري وقتادة: لا بأس أن يعطى الثوب بالثلث أو الربع ونحوه" أي لا بأس أن يعطى للنساج الغزل بنسجه ويكون ثلث المنسوج له والباقي لمالك الغزل، وأطلق الثوب عليه بطريق المجاز.وأما قول إبراهيم فوصله أبو بكر الأثرم من طريق الحكم أنه سأل إبراهيم عن الحواك يعطى الثوب على الثلث والربع فقال: لا بأس بذلك.وأما قول ابن سيرين فوصله ابن أبي شيبة من طريق ابن عون سألت محمدا هو ابن سيرين عن الرجل يدفع إلى النساج الثوب

(5/12)


بالثلث أو الربع أو بما تراضيا عليه، فقال: لا أعلم به بأسا.وأما قول عطاء والحكم فوصلهما ابن أبي شيبة.وأما قول الزهري فوصله ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر عنه قال: لا بأس أن يدفعه إليه بالثلث.وأما قول قتادة فوصله ابن أبي شيبة بلفظ: أنه كان لا يرى بأسا أن يدفع الثوب إلى النساج بالثلث: قوله: "وقال معمر: لا بأس أن تكرى الماشية على الثلث أو الربع إلى أجل مسمى" وصله عبد الرزاق عنه بهذا.قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عمر العمري.قوله: "بشطر ما يخرج منها" هذا الحديث هو عمدة من أجاز المزارعة والمخابرة لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك واستمراره على عهد أبي بكر إلى أن أجلاهم عمر كما سيأتي بعد أبواب واستدل به على جواز المساقاة في النخل والكرم وجميع الشجر الذي من شأنه أن يثمر بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمرة، وبه قال الجمهور.وخصه الشافعي في الجديد بالنخل والكرم، وألحق المقل بالنخل لشبهه به.وخصه داود بالنخل.وقال أبو حنيفة وزفر: لا يجوز بحال لأنها إجارة بثمرة معدومة أو مجهولة، وأجاب من جوزه بأنه عقد على عمل في المال ببعض نمائه فهو كالمضاربة، لأن المضارب يعمل في المال بجزء من نمائه وهو معدوم ومجهول، وقد صح عقد الإجارة مع أن المنافع معدومة فكذلك هنا.وأيضا فالقياس في إبطال نص أو إجماع مردود.وأجاب بعضهم عن قصة خيبر بأنها فتحت صلحا، وأقروا على أن الأرض ملكهم بشرط أن يعطوا نصف الثمرة، فكان ذلك يؤخذ بحق الجزية فلا يدل على جواز المساقاة.وتعقب بأن معظم خيبر فتح عنوة كما سيأتي في المغازي، وبأن كثيرا منها قسم بين الغانمين كما سيأتي، وبأن عمر أجلاهم منها.فلو كانت الأرض ملكهم ما أجلاهم عنها.واستدل من أجازه في جميع الثمر بأن في بعض طرق حديث الباب: "بشطر ما يخرج منها من نخل وشجر" وفي رواية حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر في حديث الباب: "على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشجر" وهو عند البيهقي من هذا الوجه، واستدل بقوله على شطر ما يخرج منها لجواز المساقاة بجزء معلوم لا مجهول، واستدل به على جواز إخراج البذر من العامل أو المالك لعدم تقييده في الحديث بشيء من ذلك، واحتج من منع بأن العامل حينئذ كأنه باع البذر من صاحب الأرض بمجهول من الطعام نسيئة وهو لا يجوز، وأجاب من أجازه بأنه مستثنى من النهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة جمعا بين الحديثين وهو أولى من إلغاء أحدهما.قوله: "فكان يعطي أزواجه مائة وسق: ثمانون وسق تمر وعشرون وسق شعير" كذا للأكثر بالرفع على القطع والتقدير منها ثمانون ومنها عشرون، وللكشميهني: "ثمانين وعشرين" على البدل، وإنما كان عمر يعطيهن ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت بعد نفقة نسائي فهو صدقة" وسيأتي في بابه.قوله: "وقسم عمر" أي خيبر، صرح بذلك أحمد في روايته عن ابن نمير عن عبيد الله بن عمر، وسيأتي بعد أبواب من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر "أن عمر أجلي اليهود والنصارى من أرض الحجاز"وسيأتي ذكر السبب في ذلك في كتاب الشروط إن شاء الله تعالى.

(5/13)


9 - باب: إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ السِّنِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ
2329- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ"

(5/13)


قوله: "باب إذا لم يشرط السنين في المزارعة" ذكر فيه حديث ابن عمر المذكور في الباب قبله من طريق يحيي بن سعيد عن عبيد الله مختصرا، وقد سبق ما فيه.قال ابن التين: قوله: "إذا لم يشترط السنين" ليس بواضح من الخبر الذي ساقه.كذا قال، ووجه ما ترجم به الإشارة إلى أنه لم يقع في شيء من طرق هذا الحديث مقيدا بسنين معلومة.وقد ترجم له بعد أبواب "إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك الله ولم يذكر أجلا معلوما فهما على تراضيهما" وساق الحديث وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "نقركم ما شئنا" هو ظاهر فيما ترجم له، وفيه دليل على جواز دفع النخل مساقاة والأرض مزارعة من غير ذكر سنين معلومة فيكون للمالك أن يخرج العامل متي شاء، وقد أجاز ذلك من أجاز المخابرة والمزارعة.وقال أبو ثور: إذا أطلقا حمل على سنة واحدة، وعن مالك: إذا قال ساقيتك كل سنة بكذا جاز ولو لم يذكر أمدا وحمل قصة خيبر على ذلك، واتفقوا على أن الكري لا يجوز إلا بأجل معلوم وهو من العقود اللازمة.

(5/14)


باب حدثنا على بن عبد الله حدثنا سفيان
...
10- باب
2330- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو "قُلْتُ لِطَاوُسٍ :
لَوْ تَرَكْتَ الْمُخَابَرَةَ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ قَالَ أَيْ عَمْرُو إِنِّي أُعْطِيهِمْ وَأُغْنِيهِمْ وَإِنَّ أَعْلَمَهُمْ أَخْبَرَنِي يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ وَلَكِنْ قَالَ أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ خَرْجًا مَعْلُومًا"
[الحديث 2330- طرفاه في: 2342 ، 2634]
قوله: "باب" كذا للجميع بغير ترجمة وهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله، وقد أورد فيه حديث ابن عباس في جواز أخذ أجرة الأرض.ووجه دخوله في الباب الذي قبله أنه لما جازت المزارعة على أن للعامل جزءا معلوما فجواز أخذ الأجرة المعينة عليها من باب الأولى.قوله: "حدثنا سفيان قال عمرو" هو ابن دينار.وفي رواية الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وغيره عن سفيان حدثنا عمرو بن دينار.قوله: "لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه".أما المخابرة فتقدم تفسيرها قبل بباب، وإدخال البخاري هذا الحديث في هذا الباب مشعر بأنه ممن يرى أن المزارعة والمخابرة بمعنى، قد رواه الترمذي من وجه آخر عن عمرو بن دينار بلفظ: "لو تركت المزارعة" ويقوي ذلك قول ابن الأعرابي اللغوي: أن أصل المخابرة معاملة أهل خيبر، فاستعمل ذلك حتى صار إذا قيل خابرهم عرف أنه عاملهم نظير معاملة أهل خيبر.وأما قول عمرو بن دينار لطاوس "يزعمون" فكأنه أشار بذلك إلى حديث رافع بن خديج في ذلك، وقد روى مسلم والنسائي من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار قال: "كان طاوس يكره أن يؤجر أرضه بالذهب والفضة، ولا يرى بالثلث والربع بأسا، فقال له مجاهد: اذهب إلى ابن رافع بن خديج فاسمع حديثه عن أبيه، فقال: لو أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه لم أفعله، ولكن حدثني من هو أعلم منه ابن عباس" فذكره.وللنسائي أيضا من طريق عبد الكريم عن مجاهد قال: "أخذت بيد طاوس فأدخلته إلى ابن رافع بن خديج فحدثه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض، فأبي طاوس وقال: سمعت ابن عباس لا يرى بذلك بأسا" وأما قوله لو تركت المخابرة فجواب.لو محذوف، أو هي للتمني.قوله: "وأعينهم" كذا للأكثر بالعين. المهملة المكسورة من الإعانة، وللكشميهني: "وأغنيهم" بالغين المعجمة الساكنة من الغنى والأول

(5/14)


هو الصواب (1) وكذا ثبت في رواية ابن ماجة وغيره من هذا الوجه. قوله: "وإن أعلمهم أخبرني يعني ابن عباس"سيأتي بعد أبواب من طريق سفيان وهو الثوري عن عمرو بن دينار عن طاوس "قال: قال ابن عباس"وكذلك أخرجه أبو داود من هذا الوجه. قوله: "لم ينه عنه" أي عن إعطاء الأرض بجزء مما يخرج منها، ولم يرد ابن عباس بذلك نفي الرواية المثبتة للنهي مطلقا وإنما أراد أن النهي الوارد عنه ليس على حقيقته وإنما هو على الأولوية، وقيل المراد أنه لم ينه عن العقد الصحيح وإنما نهى عن الشرط الفاسد، لكن قد وقع في رواية الترمذي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة"وهي تقوي ما أولته. قوله: "إن يمنح"بفتح الهمزة والحاء على أنها تعليلية، وبكسر الهمزة وسكون الحاء على أنها شرطية والأول أشهر، وقوله: "خرجا"أي أجرة، زاد ابن ماجة والإسماعيلي من هذا الوجه عن طاوس "وأن معاذ بن جبل أقر الناس عليها عندنا "يعني باليمن، وكأن البخاري حذف هذه الجملة الأخيرة لما فيها من الانقطاع بين طاوس ومعاذ، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث بعد سبعة أبواب إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: قال بعد أن نقل تصويب الفتح هنا لرواية الأكثر " ولأبي ذر عن الكشميهنى كما في الفرع وأصله وأعينهم بضم الهمزة وسكون المين المهلة وكسر النون بعدها تحية ساكنة " فلينظر

(5/15)


11 - بَاب: الْمُزَارَعَةِ مَعَ الْيَهُودِ
2331- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى خَيْبَرَ الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا خَرَجَ مِنْهَا"
قوله "باب المزارعة مع اليهود" أورد فيه حديث ابن عمر المذكور قبل بباب، وعبد الله المذكور في الإسناد هو ابن المبارك، وعبيد الله بالتصغير هو ابن عمر العمري وقد تقدم ما فيه، وأراد بهذا الإشارة إلى أنه لا فرق في جواز هذه المعاملة ببن المسلمين وأهل الذمة.

(5/15)


باب مايكره من الشروط في المزارعة
...
12 - باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْمُزَارَعَةِ
2332- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ يَحْيَى سَمِعَ حَنْظَلَةَ الزُّرَقِيَّ عَنْ رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلًا وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ فَيَقُولُ هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِي وَهَذِهِ لَكَ فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب ما يكره من الشروط في المزارعة" أورد فيه حديث رافع بن خديج، وسيأتي البحث فيه بعد خمسة أبواب، وأشار بهذه الترجمة إلى حمل النهي في حديث رافع على ما إذا تضمن العقد شرطا فيه جهالة أو يؤدي إلى غرر، وقوله فيه: "حقلا" هو بفتح المهملة وسكون القاف، وأصل الحقل القراح الطيب، وقيل الزوع إذا تشعب ورقه من قبل أن يغلظ سوقه، ثم أطلق على الزرع، واشتق منه المحاقلة فأطلقت على المزارعة.وقوله: "ذه " بكسر المعجمة وسكون الهاء إشارة إلى القطعة.

(5/15)


13 – باب: إِذَا زَرَعَ بِمَالِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ وَكَانَ فِي ذَلِكَ صَلاَحٌ لَهُمْ
2333- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يُفَرِّجُهَا عَنْكُمْ قَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ بَنِيَّ وَإِنِّي اسْتَأْخَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا نَامَا فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فَرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ فَفَرَجَ اللَّهُ فَرَأَوْا السَّمَاءَ وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّهَا كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ فَطَلَبْتُ مِنْهَا فَأَبَتْ عَلَيَّ حَتَّى أَتَيْتُهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَبَغَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُهَا فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفْتَحْ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ فَقُمْتُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا فَرْجَةً فَفَرَجَ وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَغِبَ عَنْهُ فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ فَقُلْتُ اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَرِ وَرُعَاتِهَا فَخُذْ فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَسْتَهْزِئْ بِي فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ فَخُذْ فَأَخَذَهُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ مَا بَقِيَ فَفَرَجَ اللَّهُ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ "فَسَعَيْتُ"
قوله: "باب إذا زرع بمال قوم بغير إذنهم، وكان في ذلك صلاح لهم" أي لمن يكون الزرع؟ أورد فيه حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، وسيأتي القول في شرحه في أحاديث الأنبياء، والمقصود منه هنا قول أحد الثلاثة "فعرضت عليه - أي على الأجير - حقه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاتها" فإن الظاهر أنه عين له أجرته فلما تركها بعد أن تعينت له ثم تصرف فيها المستأجر بعينها صارت من ضمانه، قال ابن المنير: مطابقة الترجمة أنه قد عين له حقه ومكنه منه فبرئت ذمته بذلك فلما تركه وضع المستأجر يده عليه وضعا مستأنفا ثم تصرف فيه بطريق الإصلاح لا بطريق التضييع فاغتفر ذلك ولم يعد تعديا.ولذلك توسل به إلى الله عز وجل وجعله من أفضل أعماله، وأقر على ذلك ووقعت له الإجابة، ومع ذلك فلو هلك الفرق لكان ضامنا له إذ لم يؤذن له في التصرف فيه، فمقصود الترجمة إنما هو خلاص الزارع من المعصية بهذا القصد، ولا يلزم من ذلك رفع الضمان.ويحتمل أن يقال: إن توسله بذلك إنما كان لكونه أعطى الحق الذي عليه مضاعفا لا بتصرفه، كما أن الجلوس بين رجلي المرأة

(5/16)


باب أوقاف أصحاب النتي صلى الله عليه وسلم
...
14 - باب: أَوْقَافِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْضِ الْخَرَاجِ وَمُزَارَعَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِعُمَرَ تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لاَ يُبَاعُ وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ
2334- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْلاَ: آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلاَّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ"
[الحديث 2334- أطرافه في: 3125 ، 4235 ، 4236]
قوله: "باب أوقاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأرض الخراج ومزارعتهم ومعاملتهم" ذكر فيه طرفا من حديث عمر في وقف أرض خيبر، وذكر قول عمر: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها.وأخذ المصنف صدر الترجمة من الحديث الأول ظاهر، ويؤخذ أيضا من الحديث الثاني لأن بقية الكلام محذوف تقديره: لكن النظر لآخر المسلمين يقتضي أن لا أقسمها بل أجعلها وقفا على المسلمين. وقد صنع ذلك عمر في أرض السواد.وأما قوله: "وأرض الخراج الخ" فيؤخذ من الحديث الثاني، فإن عمر لما وقف السواد ضرب على من به من أهل الذمة الخراج فزارعهم وعاملهم، فبهذا يظهر مراده من هذه الترجمة ودخولها في أبواب المزارعة.وقال ابن بطال: معنى هذه الترجمة أن الصحابة كانوا يزارعون أوقاف النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على ما كان عامل عليه يهود خيبر.وقوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعمر الخ" قال ابن التين: ذكر الداودي أن هذا اللفظ غير محفوظ، وإنما أمره أن يتصدق بثمره ويوقف أصله.قلت: وهذا الذي رده هو معني ما ذكره البخاري، وقد وصل البخاري اللفظ الذي علقه هنا في كتاب الوصايا من طريق صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال: "تصدق عمر بمال له" فذكر الحديث وفيه: "تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق ثمره". قوله: "أخبرنا عبد الرحمن" و ابن مهدي.قوله: "عن مالك" وقع للإسماعيلي من طريق عن عبد الرحمن بن مهدي "حدثنا مالك".قوله: "قال عمر" في رواية عبد الله بن إدريس

(5/17)


عن مالك عن الإسماعيلي: "سمعت عمر يقول". قوله: "ما فتحت" بضم الفاء على البناء للمجهول و "قرية" بالرفع وبفتح الفاء ونصب قرية على المفعولية. قوله: "إلا قسمتها" زاد ابن إدريس في روايته: "ما افتتح المسلمون قرية من قرى الكفار إلا قسمتها سهمانا". قوله: "كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر" زاد ابن إدريس في روايته: "لكن أردت أن تكون جزية تجري عليهم" وسيأتي الكلام على هذه اللفظة في غزوة خيبر من كتاب المغازي. وروى البيهقي من وجه آخر عن ابن وهب عن مالك في هذه القصة سبب قول عمر هذا ولفظه: "لما فتح عمر الشام قام إليه بلال فقال: لتقسمنها أو لنضاربن عليها بالسيف، فقال عمر "فذكره. قال ابن التين: تأول عمر قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} فرأى أن للآخرين أسوة بالأولين فخشي لو قسم ما يفتح أن تكمل الفتوح فلا يبقى لمن يجيء بعد ذلك حظ في الخراج، فرأى أن توقف الأرض المفتوحة عنوة ويضرب عليها خراجا يدوم نفعه للمسلمين.وقد اختلف نظر العلماء في قسمة الأرض المفتوحة عنوة على قولين شهيرين، كذا قال. وفي المسألة أقوال أشهرها ثلاثة: فعن مالك تصير وقفا بنفس الفتح، وعن أبي حنيفة والثوري يتخير الإمام بين قسمتها ووقفيتها، وعن الشافعي يلزمه قسمتها إلا أن يرضى بوقفيتها من غنمها، وسيأتي بقية الكلام عليه في أواخر الجهاد إن شاء الله تعالى.

(5/18)


15 – باب: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا وَرَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ فِي أَرْضِ الْخَرَابِ بِالْكُوفَةِ مَوَاتٌ
وَقَالَ عُمَرُ: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
وَقَالَ فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ: "وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ وَيُرْوَى فِيهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
2335- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ" قَالَ عُرْوَةُ: قَضَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلاَفَتِهِ
قوله: "باب من أحيا أرضا مواتا" بفتح الميم والواو الخفيفة، قال القزاز: الموات الأرض التي لم تعمر، شبهت العمارة بالحياة وتعطيلها بفقد الحياة، وإحياء الموات أن يعمد الشخص لأرض لا يعلم تقدم مالك عليها لأحد فيحييها بالسقي أو الزرع أو الغرس أو البناء فتصير بذلك ملكه سواء كانت فيما قرب من العمران أم بعد، سواء أذن له الإمام في ذلك أم لم يأذن، وهذا قول الجمهور، وعن أبي حنيفة لا بد من إذن للإمام مطلقا، وعن مالك فيما قرب، وضابط القرب ما بأهل العمران إليه حاجة من رعي ونحوه، واحتج الطحاوي للجمهور مع حديث الباب بالقياس على ماء البحر والنهر وما يصاد من طير وحيوان، فإنهم اتفقوا على أن من أخذه أو صاده يملكه سواء قرب أم بعد، سواء أذن الإمام أو لم يأذن. قوله: "ورأى علي ذلك في أرض الخراب بالكوفة" كذا وقع للأكثر. وفي رواية النسفي "في أرض الكوفة مواتا". قوله: "وقال عمر من أحيا أرضا ميتة فهي له" وصله مالك في "الموطأ" عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه مثله، وروينا في "الخراج ليحيى بن آدم" سبب ذلك فقال: "حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: كان الناس يتحجرون - يعني الأرض - على عهد عمر، قال: من أحيا أرضا فهي له

(5/18)


قال يحيى: كأنه لم يجعلها له بمجرد التحجير حتى يحييها". قوله: "ويروى عن عمرو بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم" أي مثل حديث عمر هذا. قوله: "وقال فيه في غير حق مسلم، وليس لعرق ظالم حق" وصله إسحاق بن راهويه قال: "أخبرنا أبو عامر العقدي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف حدثني أبي أن أباه حدثه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من أحيا أرضا مواتا من غير أن يكون فيها حق مسلم فهي له، وليس لعرق ظالم حق" وهو عند الطبراني ثم البيهقي، وكثير هذا ضعيف، وليس لجده عمرو بن عوف في البخاري سوى هذا الحديث، وهو غير عمرو بن عوف الأنصاري البدري الآتي حديثه في الجزية وغيرها، وليس له أيضا عنده غيره. ووقع في بعض الروايات "وقال عمر وابن عوف" (1) على أن الواو عاطفة وعمر بضم العين وهو تصحيف؛ وشرحه الكرماني ثم قال: فعلى هذا يكون ذكر عمر مكررا، وأجاب بأن فيه فوائد كونه تعليقا بالجزم والآخر بالتمريض، وكونه بزيادة والآخر بدونها، وكونه مرفوعا والأول موقوف، ثم قال: والصحيح أنه عمرو بفتح العين. قلت: فضاع ما تكلفه من التوجيه. ولحديث عمرو بن عوف المعلق شاهد قوي أخرجه أبو داود من حديث سعيد بن زيد، وله من طريق ابن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه مثله مرسلا وزاد: "قال عروة: فلقد خبرني الذي حدثني بهذا الحديث أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها".وفي الباب عن عائشة أخرجه أبو داود الطيالسي، وعن سمرة عند أبي داود والبيهقي وعن عبادة وعبد الله بن عمرو عند الطبراني، وعن أبي أسيد عند يحيي بن آدم في "كتاب الخراج".وفي أسانيدها مقال، لكن يتقوى بعضها ببعض. قوله: "لعرق ظالم" في رواية الأكثر بتنوين عرق وظالم نعت له، وهو راجع إلى صاحب العرق أي ليس لذي عرق ظالم، أو إلى العرق أي ليس لعرق ذي ظلم، ويروى بالإضافة ويكون الظالم صاحب العرق فيكون المراد بالعرق الأرض، وبالأول جزم مالك والشافعي والأزهري وابن فارس وغيرهم، وبالغ الخطابي فغلط رواية الإضافة، قال ربيعة: العرق الظالم يكون ظاهرا ويكون باطنا فالباطن ما احتفره الرجل من الأبار أو استخرجه من المعادن والظاهر ما بناه أو غرسه. وقال غيره الظالم من غرس أو زرع أو بنى أو حفر في أرض غيره بغير حق ولا شبهة. قوله: "ويروى فيه" أي في الباب أو الحكم "عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم" وصله أحمد قال: "حدثنا عباد بن عباد حدثنا هشام عن عروة عن وهب بن كيسان عن جابر "فذكره ولفظه: "من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العوافي منها فهو له صدقة" وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن هشام بلفظ: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" وصححه. وقد اختلف فيه على هشام فرواه عنه عباد هكذا، ورواه يحيى القطان وأبو ضمرة وغيرهما عنه عن أبي رافع عن جابر، ورواه أيوب عن هشام عن أبيه عن سعيد بن زيد، ورواه عبد الله بن إدريس عن هشام عن أبيه مرسلا. واختلف فيه على عروة فرواه أيوب عن هشام موصولا، وخالفه أبو الأسود فقال عن عروة عن عائشة كما في هذا الباب، ورواه يحيي بن عروة عن أبيه مرسلا كما ذكرته من سنن أبي داود، ولعل هذا هو السر في ترك جزم البخاري به."تنبيه": استنبط ابن حبان من هذه الزيادة التي في حديث جابر وهي قوله: "فله فيها أجر" أن الذمي لا يملك الموات بالإحياء، واحتج بأن الكافر لا أجر له، وتعقبه المحب الطبري بأن الكافر إذا
ـــــــ
(1) لعل صواب العبارة " وقال عمرو بن عوف"

(5/19)


تصدق يثاب عليه في الدنيا كما ورد به الحديث، فيحمل الأجر في حقه على ثواب الدنيا وفي حق المسلم على ما هو أعم من ذلك، وما قاله محتمل إلا أن الذي قاله ابن حبان أسعد بظاهر الحديث، ولا يتبادر إلى الفهم من إطلاق الأجر إلا الأخروي.قوله: "عن عبيد الله بن أبي جعفر" هو المصري، ومحمد بن عبد الرحمن شيخه هو أبو الأسود يتيم عروة، ونصف الإسناد الأعلى مدنيون ونصفه الأخر مصريون. قوله: "من أعمر" بفتح الهمزة والميم من الرباعي قال عياض كذا وقع والصواب "عمر" ثلاثيا قال الله تعالى :{وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} إلا أن يريد أنه جعل فيها عمارا، قال ابن بطال: ويمكن أن يكون أصله من اعتمر أرضا أي اتخذها، وسقطت التاء من الأصل. وقال غيره: قد سمع فيه الرباعي، يقال أعمر الله بك منزلك فالمراد من أعمر أرضا بالإحياء فهو أحق به من غيره، وحذف متعلق أحق للعلم به. ووقع في رواية أبي ذر "من أعمر" بضم الهمزة أي أعمره غيره، وكأن المراد بالغبر الإمام. وذكره الحميدي في جمعه بلفظ: "من عمر" من الثلاثي، وكذا هو عند الإسماعيلي من ووجه آخر عن يحيي بن بكير شيخ البخاري فيه. قوله: "فهو أحق" زاد الإسماعيلي: "فهو أحق بها" أي من غيره. قوله: "قال عروة" هو موصول بالإسناد المذكور إلى عروة، ولكن عروة عن عمر مرسلا، لأنه ولد في آخر خلافة عمر قاله خليفة، وهو قضية قول ابن أبي خيثمة أنه كان يوم الجمل ابن ثلاث عشرة سنة لأن الجمل كان سنة ست وثلاثين وقتل عمر كان سنة ثلاث وعشرين.وروى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "رددت يوم الجمل، استصغرت". قوله: "قضى به عمر في خلافته" قد تقدم في أول الباب موصولا إلى عمر. وروينا في "كتاب الخراج ليحيى بن آدم" من طريق محمد بن عبيد الله الثقفي قال: كتب عمر بن الخطاب من أحيا مواتا من الأرض فهو أحق به. وروى من وجه آخر عن عمرو بن شعيب أو غيره أن عمر قال: "من عطل أرضا ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له". وكأن مراده بالتعطيل أن يتحجرها ولا يحوطها ببناء ولا غيره. وأخرج الطحاوي الطريق الأولى أتم منه بالسند إلى الثقفي المذكور قال: "خرج رجل من أهل البصرة يقال له أبو عبد الله إلى عمر فقال: إن بأرض البصرة أرضا لا تضر بأحد من المسلمين وليست بأرض خراج، فإن شئت أن تقطعنيها أتخذها قضبا وزيتونا، فكتب عمر إلى أبي موسى: إن كان كذلك فأقطعها إياه".

(5/20)


باب حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر
...
16 - باب:
2336- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ فِي بَطْنِ الْوَادِي فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ فَقَالَ مُوسَى: وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ بِالْمُنَاخِ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُنِيخُ بِهِ يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَسْفَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الْوَادِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ"
2337- حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعيِّ قال حدثني يحيى عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الليلة أتاني آت من ربي وهو بالعقيق أن صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة"
قوله: "باب" كذا فيه بغير ترجمة وهو كالفصل من الباب الذي قبله، وقد أورد فيه حديث ابن عمر "أن

(5/20)


النبي صلى الله عليه وسلم أري وهو في مغرسه بذي الحليفة: إنك ببطحاء مباركة" وحديث عمر مرفوعا: "أتاني آت من ربي أن صل في هذا الوادي المبارك" وقد تقدم الكلام على هذين الحديثين في الحج مستوفى، ولكن أشكل تعلقهما بالترجمة فقال المهلب: حاول البخاري جعل موضع معرس النبي صلى الله عليه وسلم موقوفا أو متملكا له لصلاته فيه ونزوله به، وذلك لا يقوم على ساق لأنه قد ينزل في غير ملكه ويصلي فيه فلا يصير بذلك ملكه كما صلى في دار عتبان بن مالك وغيره. وأجاب ابن بطال بأن البخاري أراد أن المعرس نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنزوله فيه ولم يرد أنه يصير بذلك ملكه، ونفى ابن المنير وغيره أن يكون البخاري أراد ما ادعاه المهلب، وإنما أراد التنبيه على أن البطحاء التي وقع فيها التعريس والأمر بالصلاة فيها لا تدخل في الموات الذي يحيا ويملك إذ لم يقع فيها تحويط ونحوه من وجوه الإحياء، أو أراد أنها تلحق بحكم الإحياء لما ثبت لها من خصوصية التصرف فيها بذلك فصارت كأنها أرصدت للمسلمين كمنى مثلا، فليس لأحد أن يبني فيها ويتحجرها لتعلق حق المسلمين بها عموما. قلت: وحاصله أن الوادي المذكور وإن كان من جنس الموات لكن مكان التعريس منه مستثنى لكونه من الحقوق العامة فلا يصح احتجاره لأحد ولو عمل فيه بشروط الإحياء، ولا يختص ذلك بالبقعة التي نزل بها النبي صلى الله عليه وسلم بل كل ما وجد من ذلك فهو في معناه. "تنبيه": المعرس بمهملات وفتح الراء موضع التعريس، وهو نزول آخر الليل للراحة.

(5/21)


17 – باب: إِذَا قَالَ رَبُّ الأَرْضِ أُقِرُّكَ مَا أَقَرَّكَ اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلًا مَعْلُومًا فَهُمَا عَلَى تَرَاضِيهِمَا
2338- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى أَخْبَرَنَا نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا وَكَانَتْ الأَرْضُ حِينَ ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَأَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا فَسَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُقِرَّهُمْ بِهَا أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَاءَ"
قوله: "باب إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك الله ولم يذكر أجلا معلوما فهما على تراضيهما". أورد فيه حديث ابن عمر في معاملة يهود خيبر، أورده موصولا من طريق الفضيل بن سليمان ومعلقا من طريق ابن جريج كلاهما عن موسى بن عقبة، وساقه على لفظ الرواية المعلقة، وقد وصل مسلم طريق ابن جريج، وأخرجها أحمد عن عبد الرزاق عنه بتمامها، وسيأتي لفظ فضيل بن سليمان في كتاب الخمس.قوله: "إن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز" سيأتي سبب ذلك موصولا في كتاب الشروط، قال الهروي: جلى القوم عن مواطنهم وأجلى بمعنى واحد والاسم الجلاء والإجلاء، وأرض الحجاز هي ما يفصل بين نجد وتهامة، قال الواقدي: ما بين وجرة وغمس الطائف نجد، وما كان من وراء وجرة إلى البحر تهامة.ووقع هنا للكرماني تفسير الحجاز بما فسروا به جزيرة العرب الآتي في "باب هل يستشفع بأهل الذمة "في كتاب الجهاد وهو خطأ. قوله: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ" هو

(5/21)


موصول لابن عمر. قوله: "وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين" في رواية فضيل بن سليمان الآتية "وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول وللمسلمين" قال المهلب: يجمع بين الروايتين بأن تحمل رواية ابن جريج على الحال التي آل إليها الأمر بعد الصلح ورواية فضيل على الحال التي كانت قبله، وذلك أن خيبر فتح بعضها صلحا وبعضها عنوة، فالذي فتح عنوة كان جميعه لله ولرسوله وللمسلمين، والذي فتح صلحا كان لليهود ثم صار للمسلمين بعقد الصلح، وسيأتي بيان ذلك في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى. وقوله في رواية ابن جريج "ليقرهم بها أن يكفوا عملها" وقع عند أحمد عن عبد الرزاق "أن يقرهم بها على أن يكفوا" وهو أوضح، ونحوه رواية ابن سليمان الآتية. وقوله فيها "فقروا" بفتح القاف أي سكنوا. وتيماء بفتح المثناة وسكون التحتانية والمد، وأريحاء بفتح الهمزة وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة وبالمد أيضا، هما موضعان مشهوران بقرب بلاد طيئ على البحر في أول طريق الشام من المدينة، وقد ذكر البلاذري في "الفتوح" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غلب على وادي القرى بلغ ذلك أهل تيماء فصالحوه على الجزية وأقرهم ببلدهم.

(5/22)


باب ما كان من أصحاب النبي صلىالله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمار
...
18 - باب: مَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَاسِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الزِّرَاعَةِ وَالثَّمَرَةِ
2339- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ أَبِي النَّجَاشِيِّ مَوْلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَمِّهِ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ ظُهَيْرٌ: "لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا قُلْتُ: مَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَهُوَ حَقٌّ قَالَ دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ قُلْتُ نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبُعِ وَعَلَى الأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ قَالَ لاَ تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا أَوْ أَزْرِعُوهَا أَوْ أَمْسِكُوهَا قَالَ رَافِعٌ قُلْتُ سَمْعًا وَطَاعَةً"
[الحديث 2339 - طرفه في: 2346 ، 4012]
2340- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَقال النبي: صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ"
[الحديث 2340- طرفه في: 2632]
2341- وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ أَبُو تَوْبَةَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ"
2342- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ: "ذَكَرْتُهُ لِطَاوُسٍ فَقَالَ يُزْرِعُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ وَلَكِنْ قَالَ: أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مَعْلُومًا"

(5/22)


2343- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ مُعَاوِيَةَ"
[الحديث 2343 - طرفه في: 2345]
2344- ثُمَّ حُدِّثَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى رَافِعٍ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا عَلَى الأَرْبِعَاءِ وَبِشَيْءٍ مِنْ التِّبْنِ"
2345- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كُنْتُ أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الأَرْضَ تُكْرَى ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ فَتَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ"
قوله: "باب ما كان من أصحاب النبي يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمر" المراد بالمواساة المشاركة في المال بغير مقابل. قوله: "أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك. قوله: "عن أبي النجاشي" فتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف معجمة ثم ياء ثقيلة: تابعي ثقة اسمه عطاء بن صهيب، وقد روى الأوزاعي أيضا في ثاني أحاديث الباب معنى الحديث عن عطاء عن جابر وهو عطاء بن أبي رباح، فكان الحديث عنده عن كل منهما بسنده. ووقع في رواية ابن ماجة من وجه آخر إلى الأوزاعي "حدثني أبو النجاشي"، وقوله: "سمعت رافع بن خديج"أخرجه البيهقي من وجه آخر عن الأوزاعي "حدثني أبو النجاشي قال: صحبت رافع بن خديج ست سنين" وروى عكرمة بن عمار هذا الحديث عن أبي النجاشي عن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل "عن عمه ظهير" ذكره مسلم، وسيأتي من رواية حنظلة بن قيس عن رافع "حدثني عماي" وهو مما يقوي رواية الأوزاعي. قوله: "عن عمه ظهير" بالظاء المعجمة مصغرا. قوله: "لقد نهانا" قد ذكر في آخر الحديث صيغة النهي وهي قوله: "لا تفعلوا" وبها يعرف المراد بالأمر الرافق، وقوله: "رافقا" أي ذا رفق. قوله: "بمحاقلكم" أي بمزارعكم، والحقل الزرع وقيل ما دام أخضر، والمحاقلة المزارعة بجزء مما يخرج، وقيل هو بيع الزرع بالحنطة، وقيل غير ذلك كما تقدم. قوله: "على الربيع" بفتح الراء وكسر الموحدة وهي موافقة للرواية الأخيرة وهي قوله على الأربعاء، فإن الأربعاء جمع ربيع وهو النهر الصغير ، وفي رواية المستملي: "الربيع" بالتصغير، ووقع للكشميهني: "على الربع" بضمتين وهي موافقة لحديث جابر المذكور بعد، لكن المشهور في حديث رافع الأول، والمعنى أنهم كانوا يكرون الأرض ويشترطون لأنفسهم ما ينبت على الأنهار. قوله: "وعلى الأوسق" الواو بمعني أو. قوله: "ازرعوها أو أزرعوها" الأول بكسر الألف وهي ألف وصل والراء مفتوحة، والثاني بألف قطع والراء مكسورة وأو للتخيير لا للشك، والمراد ازرعوها أنتم أو أعطوها لغيركم يزرعها بغير أجرة، وهو الموافق لقوله في حديث جابر "أو ليمنحها". "أو أمسكوها" أي اتركوها معطلة. وقوله: "سمعا وطاعة" بالنصب ويجوز الرفع، وقوله: "أو اتركوها" أي بغير زرع، وسيأتي البحث في ذلك في هذا الباب. "تنبيه": وقع للإسماعيلي عن جابر إيراد حديث ظهير بن رافع

(5/23)


في آخر الباب الذي قبله، ثم اعترض بأنه لا يدخل في هذا الباب، والذي وقع عند الجمهور إيراده في هذا الباب. قوله: "عن عطاء" في رواية ابن ماجة من وجه آخر عن الأوزاعي "حدثني عطاء سمعت جابرا". قوله: "كانوا" أي الصحابة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "بالثلث والربع والنصف" الواو في الموضعين بمعني أو، أشار إليه التيمي، وقد تقدم له توجيه آخر في "باب المزارعة بالشطر". قوله: "وليمنحها" أي يجعلها منيحة أي عطية، والنون في يمنحها مفتوحة ويجوز كسرها، وقد رواه مسلم من طريق مطر الوراق عن عطاء عن جابر بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض" ، ومن وجه آخر عن مطر بلفظ: "من كانت له أرض فليزرعها فإن عجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها" ورواية الأوزاعي التي اقتصر عليها المصنف مفسرة للمراد لذكرها للسبب الحامل على النهي.قوله: "فإن لم يفعل فليمسك أرضه" أي فلا يمنحها ولا يكريها، وقد استشكل بأن في إمساكها بغير زراعة تضييعا لمنفعتها فيكون من إضاعة المال، وقد ثبت النهي عنها، وأجيب بحمل النهي عن إضاعة عين المال أو منفعة لا تخلف، لأن الأرض إذا تركت بغير زرع لم تتعطل منفعتها فإنها قد تنبت من الكلأ والحطب والحشيش ما ينفع في الرعي وغيره، وعلى تقدير أن لا يحصل ذلك فقد يكون تأخير الزرع عن الأرض إصلاحا لها فتخلف في السنة التي تليها ما لعله فات في سنة الترك، وهذا كله إن حمل النهي عن الكراء على عمومه فأما لو حمل الكراء على ما كان مألوفا لهم من الكراء بجزء مما يخرج منها ولا سيما إذا كان غير معلوم فلا يستلزم ذلك تعطيل الانتفاع بها في الزراعة بل يكريها بالذهب أو الفضة كما تقرر ذلك. والله أعلم. قوله: "وقال الربيع بن نافع أبو توبة" بفتح المثناة وسكون الواو بعدها موحدة هو الحلبي، ثقة ليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الطلاق. وقد وصل مسلم حديث الباب عن الحسن بن علي الحلواني عن أبي توبة. وشيخه معاوية هو ابن سلام بتشديد اللام. ويحيى هو ابن أبي كثير، وقد اختلف عليه في إسناده وكذا على شيخه أبي سلمة، وقد أطنب النسائي في جمع طرقه.قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "ذكرته" أي حديث رافع بن خديج "لطاوس" أي كما تقدم، وقد مضى شرحه بعد أبواب. وقوله: "لم ينه عنه" أي لم يحرمه، وبها صرح الترمذي في روايته. وقوله: "إن يمنح" بكسر الهمزة من إن على أنها شرطية، ولغير أبي ذر بفتحها وهو المشهور ، وفي رواية الترمذي "ولكن أراد أن يرفق بعضهم ببعض". قوله: "إن ابن عمر كان يكرى" بضم أوله من الرباعي يقال أكري أرضه يكريها. قوله: "وصدرا من إمارة معاوية" أي خلافته، وإنما لم يذكر ابن عمر خلافة علي لأنه لم يبايعه لوقوع الاختلاف عليه كما هو مشهور في صحيح الأخبار، وكان رأي أنه لا يبايع لمن لم يجتمع عليه الناس، ولهذا لم يبايع أيضا لابن الزبير ولا لعبد الملك في حال اختلافهما، وبايع ليزيد بن معاوية ثم لعبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، ولعل في تلك المدة - أعني مدة خلافة علي - لم يؤاجر أرضه فلم يذكرها لذلك، وزاد مسلم في روايته: حتى إذا كان في آخر خلافة معاوية وكان آخر خلافة معاوية في سنة ستين من الهجرة. ووقع في رواية أحمد عن إسماعيل عن أيوب بهذا الإسناد نحو هذا السياق وزاد فيه: "فتركها ابن عمر وكان لا يكريها، فإذا سئل يقول: زعم رافع بن خديج" فذكره. وقوله: "ثم حدث عن رافع" بضم أوله على ما لم يسم فاعله للأكثر، وللكشميهني بفتح أوله وحذف "عن". ولابن ماجة عن نافع عن ابن عمر "أنه كان يكري أرضه فأتاه إنسان فأخبره عن رافع" فذكره وزاد. وقد استظهر البخاري لحديث رافع بحديث جابر وأبي هريرة رادا على من زعم أن حديث رافع فرد وأنه مضطرب، وأشار إلى صحة

(5/24)


الطريقين عنه حيث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى عن عمه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إلى أن روايته بغير واسطة مقتصرة على النهي عن كراء الأرض وروايته عن عمه مفسرة للمراد، وهو ما بينه ابن عباس في روايته من إرادة الرفق والتفضيل وأن النهي عن ذلك ليس للتحريم، وسأذكر مزيدا لذلك في الباب الذي بعده. قوله: "قد كنت أعلم أن الأرض تكرى ثم خشي عبد الله" هكذا أورده مختصرا، وقد أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق شعيب بن الليث عن أبيه مطولا وأوله " أن عبد الله كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج ينهى عن كراء الأرض فلقيه فقال: يا ابن خديج ما هذا ؟ قال: سمعت عمي وكانا قد شهدا بدرا يحدثان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض، فقال عبد الله: قد كنت أعلم" فذكره.

(5/25)


باب كراء الأراضي بالذهب والفضة
...
19 - باب: كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ أَنْ تَسْتَأْجِرُوا الأَرْضَ الْبَيْضَاءَ مِنْ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ
2346 ، 2347- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: "حَدَّثَنِي عَمَّايَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الأَرْضَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الأَرْبِعَاءِ أَوْ شَيْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صَاحِبُ الأَرْضِ فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقُلْتُ لِرَافِعٍ: فَكَيْفَ هِيَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ فَقَالَ رَافِعٌ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ" وَقَالَ اللَّيْثُ: وَكَانَ الَّذِي نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذَوُو الْفَهْمِ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ لَمْ يُجِيزُوهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ"
[الحديث 2347 – طرفه في: 4013]
قوله: "باب كراء الأرض بالذهب والفضة" كأنه أراد بهذه الترجمة الإشارة إلى أن النهي الوارد عن كراء الأرض محمول على ما إذا أكريت بشيء مجهول وهو قول الجمهور، أو بشيء مما يخرج منها ولو كان معلوما، وليس المراد النهي عن كرائها بالذهب أو الفضة. وبالغ ربيعة فقال: لا يجوز كراؤها إلا بالذهب أو الفضة، وخالف في ذلك طاوس وطائفة قليلة فقالوا: لا يجوز كراء الأرض مطلقا، وذهب إليه ابن حزم وقواه واحتج له بالأحاديث المطلقة في ذلك، وحديث الباب دال على ما ذهب إليه الجمهور، وقد أطلق ابن المنذر أن الصحابة أجمعوا على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة، ونقل ابن بطال اتفاق فقهاء الأمصار عليه، وقد روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال: "كان أصحاب المزارع يكرونها بما يكون على المساقي من الزرع، فاختصموا في ذلك، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك وقال: أكروا بالذهب والفضة" ورجاله ثقات، إلا أن محمد بن عكرمة المخزومي لم يرو عنه إلا إبراهيم بن سعد. وأما ما رواه الترمذي من طريق مجاهد عن رافع بن خديج في النهي عن كراء الأرض ببعض خراجها أو بدراهم فقد أعله النسائي بأن مجاهدا لم يسمعه من رافع. قلت: وراويه أبو بكر بن عياش في حفظه مقال، وقد رواه أبو عوانة وهو أحفظ منه عن شيخه فيه فلم يذكر الدراهم. وقد روى مسلم من طريق سليمان بن يسار عن رافع بن خديج في حديثه "ولم يكن يومئذ ذهب ولا فضة". قوله: "وقال ابن عباس الخ" وصله الثوري في جامعه قال: أخبرني عبد الكريم هو الجزري عن سعيد بن جبير عنه ولفظه: "إن أمثل ما أنتم صانعون

(5/25)


أن تستأجروا الأرض البيضاء ليس فيها شجر" يعني من السنة إلى السنة وإسناده صحيح، وأخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان به. قوله: "عن حنظلة" في رواية الأوزاعي عن مسلم عن ربيعة حدثني حنظلة لكن ليس عنده ذكر عمي رافع، وفي الإسناد تابعي عن مثله وصحابي عن مثله. قوله: "حدثني عماي" هما ظهير بن رافع وقد تقدم حديثه في الباب قبله والآخر قال الكلابا لم أقف على اسمه، وذكر غيره أن اسمه مظهر وهو بضم الميم وفتح الظاء وتشديد الهاء المكسورة وضبطه عبد الغني وابن مأكولا، هكذا زعم بعض من صنف في المبهمات، ورأيت في "الصحابة لأبي القاسم البغوي" ولأبي علي بن السكن من طريق سعيد بن أبي عروبة عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج "أن بعض عمومته" قال سعيد زعم قتادة أن اسمه مهير فذكر الحديث، فهذا أولى أن يعتمد وهو بوزن أخيه ظهير كلاهما بالتصغير. قوله: "يستثنيه" من الاستثناء كأنه يشير إلى استثناء الثلث أو الربع ليوافق الرواية الأخرى. قوله: "فقال رافع ليس بها بأس بالدينار والدرهم" يحتمل أن يكون ذلك قاله رافع باجتهاده، ويحتمل أن يكون علم ذلك بطريق التنصيص على جوازه، أو علم أن النهي عن كراء الأرض ليس على إطلاقه بل بما إذا كان بشيء مجهول ونحو ذلك، فاستنبط من ذلك جواز الكراء بالذهب والفضة، ويرجح كونه مرفوعا ما أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح من طريق سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض، ورجل منح أرضا، ورجل اكترى أرضا بذهب أو فضة" لكن بين النسائي من وجه آخر أن المرفوع منه النهي عن المحاقلة والمزابنة وأن بقيته مدرج من كلام سعيد بن المسيب، وقد رواه مالك في "الموطأ" والشافعي عنه عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب. قوله: "وقال الليث وكان الذي نهى عن ذلك" كذا للأكثر عن الليث وهو موصل بالإسناد الأول إلى الليث، ووقع عند أبي ذر هنا: قال أبو عبد الله يعني المصنف من هاهنا قال الليث أراه، وسقط هذا النقل عن الليث عند النسفي وابن شبويه، وكذا وقع في "مصابيح البغوي" فصار مدرجا عندهما في نفس الحديث والمعتمد في ذلك على رواية الأكثر، ولم يذكر النسفي ولا الإسماعيلي في روايتهما لهذا الحديث من طريق الليث هذه الزيادة، وقد قال التوربشتي شارح المصابيح: لم يظهر لي هل هذه الزيادة من قول بعض الرواة أو من قول البخاري. وقال البيضاوي: الظاهر أنها من كلام رافع ا هـ. وقد تبين برواية أكثر الطرق في البخاري أنها من كلام الليث، وقوله: "ذوو الفهم" في رواية النسفي وابن شبويه "ذو الفهم" بلفظ المفرد لإرادة الجنس. وقالا: "لم يجزه". وقوله: "المخاطرة" أي الإشراف على الهلاك، وكلام الليث هذا موافق لما عليه الجمهور من حمل النهي عن كراء الأرض على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة لا عن كرائها مطلقا حتى بالذهب والفضة. ثم اختلف الجمهور في جواز كرائها بجزء مما يخرج منها فمن قال بالجواز حمل أحاديث النهي على التنزيه وعليه يدل قول ابن عباس الماضي قي الباب الذي قبله، حيث قال: "ولكن أراد أن يرفق بعضهم ببعض" ومن لم يجز إجارتها بجزء مما يخرج منها قال: النهي عن كرائها محمول على ما إذا اشترط صاحب الأرض ناحية منها أو شرط ما ينبت على النهر لصاحب الأرض لما في كل ذلك من الغرر والجهالة. وقال مالك: النهي محمول على ما إذا وقع كراؤها بالطعام أو التمر لئلا يصير من بيع الطعام بالطعام، قال ابن المنذر: ينبغي أن يحمل ما قاله مالك على ما إذا كان المكري به من الطعام جزءا مما يخرج منها، فأما إذا اكتراها بطعام معلوم في ذمة المكتري أو بطعام حاضر يقبضه المالك فلا مانع من الجواز. والله أعلم.

(5/26)


باب حدثنا محمد بن سنان حدثنا فليح حدثنا هلال
...
20 - باب:
2348- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلٌ ح وحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ - وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ - أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ قَالَ فَبَذَرَ فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ. فَيَقُولُ اللَّهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَيْءٌ فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ لاَ تَجِدُهُ إِلاَّ قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث 2348 طرفه في: 7519]
قوله: "باب" كذا للجميع بغير ترجمة وهو كالفصل من الباب الذي قبله، ولم يذكر ابن بطال لفظ: "باب" وكان مناسبته له من قول الرجل "فإنهم أصحاب زرع"، قال ابن المنير: وجهه أنه نبه به على أن أحاديث النهي عن كراء الأرض إنما هي على التنزيه لا على الإيجاب، لأن العادة فيما يحرص عليه ابن آدم أنه يحب استمرار الانتفاع به، وبقاء حرص هذا الرجل على الزرع حتى في الجنة دليل على أنه مات على ذلك، ولو كان يعتقد تحريم كراء الأرض لفطم نفسه عن الحرص عليها حتى لا يثبت هذا القدر في ذهنه هذا الثبوت. قوله: "عن هلال بن علي" هو المعروف بابن أسامة، والإسناد العالي كلهم مدنيون إلا شيخ البخاري، وقد ساقه على لفظ الإسناد الثاني، وساقه في كتاب التوحيد على لفظ محمد بن سنان. قوله: "وعنده رجل من أهل البادية" لم أقف على اسمه. قوله: "استأذن ربه في الزرع" أي في أن يباشر الزراعة. قوله: "فقال له ألست فيما شئت" في رواية محمد بن سنان "أو لست" بزيادة واو. قوله: "فبذر" أي ألقى البذر فنبت في الحال، وفي السياق حذف تقديره: فأذن له فبذر "فبادر" في رواية محمد بن سنان " فأسرع فتبادر". قوله: "الطرف" بفتح الطاء وسكون الراء امتداد لحظ الإنسان إلى أقصى ما يراه، ويطلق أيضا على حركة جفن العين وكأنه المراد هنا. قوله: "واستحصاده" زاد في التوحيد "وتكويره" أي جمعه، وأصل الكور الجماعة الكثيرة من الإبل، والمراد أنه لما بذر لم يكن بين ذلك وبين استواء الزرع ونجاز أمره كله من القلع والحصد والتذرية والجمع والتكويم إلا قدر لمحة البصر. وقوله: "دونك" بالنصب على الإغراء أي خذه. قوله: "لا يشبعك شيء" في رواية محمد بن سنان "لا يسعك" بفتح أوله والمهملة وضم العين وهو متحد المعنى. قوله: "فقال الأعرابي" بفتح الهمزة أي ذلك الرجل الذي من أهل البادية، وفي هذا الحديث من الفوائد أن كل ما اشتهي في الجنة من أمور الدنيا ممكن فيها قاله المهلب. وفيه وصف الناس بغالب عاداتهم قاله ابن بطال. وفيه أن النفوس جبلت على الاستكثار من الدنيا. وفيه إشارة إلى فضل القناعة وذم الشر، وفيه الإخبار عن الأمر المحقق الآتي بلفظ الماضي.

(5/27)


21 – باب: مَا جَاءَ فِي الْغَرْسِ
2349- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ "إِنَّا كُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ سِلْقٍ لَنَا كُنَّا نَغْرِسُهُ فِي أَرْبِعَائِنَا فَتَجْعَلُهُ

(5/27)


فِي قِدْرٍ لَهَا فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ لاَ أَعْلَمُ إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِيهِ شَحْمٌ وَلاَ وَدَكٌ - فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ زُرْنَاهَا فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا فَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى وَلاَ نَقِيلُ إِلاَّ بَعْدَ الْجُمُعَةِ"
2350- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "يَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ وَيَقُولُونَ: مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لاَ يُحَدِّثُونَ مِثْلَ أَحَادِيثِهِ وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنْ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي فَأَحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ وَأَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَوْمًا لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ - حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ - ثُمَّ يَجْمَعَهُ إِلَى صَدْرِهِ فَيَنْسَى مِنْ مَقَالَتِي شَيْئًا أَبَدًا فَبَسَطْتُ نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْبٌ غَيْرُهَا حَتَّى قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ ثُمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي فَوَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَتِهِ تِلْكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا. وَاللَّهِ لَوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا أبدا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إلى قوله : {الرَّحِيمُ}
قوله: "باب ما جاء في الغرس" ذكر فيه حديث سهل بن سعد "إن كنا لنفرح بيوم الجمعة" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الجمعة، وغرضه منه هنا قوله: "كنا نغرسه في أربعائنا" وقد تقدم تفسير "الأربعاء". والسلق بكسر السين. وقوله: "لا أعلم إلا أنه قال ليس فيه شحم ولا ودك" الودك بفتحتين دسم اللحم وهو من قول يعقوب. "يقولون إن أبا هريرة يكثر" أي رواية الحديث. قوله: "والله الموعد" بفتح الميم وفيه حذف تقديره وعند الله الموعد، لأن الموعد إما مصدر وإما ظرف زمان أو ظرف مكان وكل ذلك لا يخبر به عن الله تعالى، ومراده أن الله تعالى يحاسبني إن تعمدت كذبا ويحاسب من ظن بي طن السوء، وقد تقدم الكلام على بقية الحديث مستوفى في كتاب العلم، ويأتي منه شيء في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. وغرضه منه هنا قوله: "وإن أخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم" فإن المراد بالعمل الشغل في الأراضي بالزراعة والغرس والله أعلم.
"خاتمة": اشتمل كتاب المزارعة وما أضيف إليه من إحياء الموات وغيره من الأحاديث المرفوعة على أربعين حديثا، المعلق منها تسعة والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى اثنان وعشرون حديثا، والخالص ثمانية عشر حديثا، وافقه مسلم على جميعها سوى حديث أبي أمامة في آلة الحرث، وحديث أبي هريرة في سؤال الأنصار القسمة، وحديث عمر "لولا آخر المسلمين". وحديث عمرو بن عوف وجابر وعائشة في إحياء الموات، وحديث أبي هريرة "أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع". وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين تسعة وثلاثون أثرا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(5/28)


كتاب المساقاة
باب في الشرب وقول الله تعالى (وجعلنا من الماء كل شيئ حي ..)
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
42 - كتاب المساقاة
باب: فِي الشُّرْبِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} إلى قوله: {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}
أجاجاً: منصباً المزنُ: السحابُ. الأجاجُ: المرُّ فراتا عذباً
قوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - في الشرب. وقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} "وقوله جل ذكره: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} - إلى قوله - {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} " كذا لأبي ذر، وزاد غيره في أوله "كتاب المساقاة" ولا وجه له فإن التراجم التي فيه غالبها تتعلق بإحياء الموات. ووقع في شرح ابن بطال "كتاب المياه" وأثبت النسفي "باب" خاصة، وساق عن أبي ذر الآيتين. والشرب بكسر المعجمة والمراد به الحكم في قسمة الماء قاله عياض، وقال: ضبطه الأصيلي بالضم والأول أولى ، وقال ابن المنير: من ضبطه بالضم أراد المصدر. وقال غيره المصدر مثلث وقرئ: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} مثلثا، والشرب في الأصل بالكسر النصيب والحظ من الماء تقول: كم شرب أرضكم؟ وفي المثل "آخرها شربا أقلها شربا" قال ابن بطال معنى قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أراد الحيوان الذي يعيش بالماء، وقيل أراد بالماء النطفة، ومن قرأ: {وجعلنا من الماء كل شيء حيا} دخل فيه الجماد أيضا لأن حياتها هو خضرتها وهي لا تكون إلا بالماء. قلت: وهذا المعنى أيضا يخرج هن القراءة المشهورة، ويخرج من تفسير قتادة حيث قال: "كل شيء حي فمن الماء خلق" أخرجه الطبري عنه. وروى ابن أبي حاتم عن أبي العالية أن المراد بالماء النطفة، وروى أحمد من طريق أبي ميمونة عن أبي هريرة "قلت يا رسول الله أخبرني عن كل شيء، قال: كل شيء خلق من الماء" إسناده صحيح. قوله: "أجاجا منصبا" هو في رواية المستملي وحده، وهو تفسير ابن عباس ومجاهد وقتادة أخرجه الطبري عنهم. قوله: "المزن السحاب" هو تفسير مجاهد وقتادة أخرجه الطبري عنهما. وقال غيرهما: المزن السحاب الأبيض واحد مزنة. قوله: "والأجاج المر" هو تفسير أبي عبيدة في "معاني القرآن" وأخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة مثله، وقيل هو الشديد الملوحة أو المرارة، وقيل المالح وقيل الحار حكاه ابن فارس. قوله: "فراتا عذبا" هو في رواية المستملي وحده، وهو منتزع من قوله تعالى في السورة الأخرى "هذا عذب فرات" وروى ابن أبي حاتم عن السدي قال: العذب الفرات الحلو.

(5/29)


الباب من رأى صدقة الماء ووصيته جائزة
...
1- باب: من رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة، مقسوما كان أو غير مقسوم
وَقَالَ عُثْمَانُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ" فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
2351- حدّثنا سعيدُ بنُ أبي مريمَ حدثَنا أبو غَسانَ قال: أبو حازم عن سَهلِ بنِ سعد

(5/29)


رضي الله عنه قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه ، وعن يمينه غلام أصغر القوم والأشياخ عن يساره ، فقال ياغلام اتأذن لي أن أعطيه الأشياخ ؟ فقال: ما كنت لأورث بفضلي منك أحداً يارسول الله فأعطاه إياه"
[الحديث 2351 - أطرافه في: 2366 ، 2451 ، 2605 ، 5620]
2352- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: "حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا حُلِبَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ دَاجِنٌ - وَهِوَ فِي دَارِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - وَشِيبَ لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي فِي دَارِ أَنَسٍ فَأَعْطَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ مِنْهُ حَتَّى إِذَا نَزَعَ الْقَدَحَ عنْ فِيهِ وَعَن يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ عُمَرُ – وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ الأَعْرَابِيَّ – أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَكَ ، فَأَعْطَاهُ الأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ: الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ"
[الحديث 2352 - أطرافه في: 2571 ، 5612 ، 5619]
قوله: "باب من رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة مقسوماً كان أو غير مقسوم" كذا لأبي ذر، وللنسفي "ومن رأى الخ" جعله من الباب الذي قبله، ولغيرهما: "باب في الشرب ومن رأى" وأراد المصنف بالترجمة الرد على من قال إن الماء لا يملك. قوله: "وقال عثمان" أي ابن عفان "قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين" سقط هذا التعليق من رواية النسفي، وقد وصله الترمذي والنسائي وابن خزيمة من طريق ثمامة بن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي القشيري قال: "شهدت الدار حيث أشرف عليهم عثمان فقال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال: من يشتري بئر رومة يجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي؟ وقالوا: اللهم نعم" الحديث بطوله، وقد أخرجه المصنف في كتاب الوقف بغير هذا السياق وليس فيه ذكر الدلو، والذي ذكره هنا مطابق للترجمة، ويأتي الكلام على شرحه هناك إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: في حديث عثمان أنه يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه إذا شرط ذلك، قال: فلو حبس بئرا على من يشرب منها فله أن يشرب منها وإن لم يشترط ذلك لأنه داخل في جملة من يشرب. ثم فرق بفرق غير قوي. وسيأتي البحث في هذه المسألة في "باب هل ينتفع الواقف بوقفه" في كتاب الوقف إن شاء الله تعالى. ثم ذكر المصنف في الباب حديثي سهل وأنس في شرب النبي صلى الله عليه وسلم وتقديمه الأيمن فالأيمن، وسيأتي الكلام عليهما في كتاب الأشربة، ومناسبتهما لما ترجم له من جهة مشروعية قسمة الماء، لأن اختصاص الذي على اليمين بالبداءة دال على ذلك. وقال ابن المنير: مراده أن الماء يملك، ولهذا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الشركاء فيه، ورتب قسمته يمنة ويسرة، ولو كان باقيا على إباحته لم يدخله ملك، لكن حديث سهل ليس فيه بيان أن القدح كان فيه ماء، بل جاء مفسرا في كتاب الأشربة بأنه كان لبنا، والجواب أنه أورده ليبين أن الأمر جرى في قسمة الماء الذي شيب به اللبن كما جاء في حديث أنس مجرى اللبن الخالص الذي في حديث سهل، فدل على أنه لا فرق في ذلك بين اللبن والماء، فيحصل به الرد على من قال إن الماء لا يملك. وقوله في

(5/30)


حديث سهل "حدثنا أبو غسان" هو محمد بن مطرف المدني، والإسناد مصريون (1) إلا شيخه. وقوله: "وعن يمينه غلام" هو الفضل بن عباس حكاه ابن بطال، وقيل أخوه عبد الله حكاه ابن التين وهو الصواب كما سيأتي. وقوله في حديث أنس: "وعن يمينه أعرابي" قيل إن الأعرابي خالد بن الوليد حكاه ابن التين، وتعقب بأن مثله لا يقال له أعرابي، وكأن الحامل له على ذلك أنه رأى في حديث ابن عباس الذي أخرجه الترمذي قال: "دخلت أنا وخالد بن الوليد على ميمونة، فجاءتنا بإناء من لبن، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على يمينه وخالد على شماله، فقال لي الشربة لك فإن شئت آثرت بها خالدا، فقلت: ما كنت أوثر على سؤرك أحدا" فظن أن القصة واحدة، وليس كذلك فإن هذه القصة في بيت ميمونة وقصة أنس في دار أنس فافترقا. نعم يصلح أن يعد خالد من الأشياخ المذكورين في حديث سهل بن سعد والغلام هو ابن عباس، ويقويه قوله في حديث سهل أيضا: "ما كنت أوثر بفضلي منك أحدا" ولم يقع ذلك في حديث أنس، وليس في حديث ابن عباس ما يمنع أن يكون مع خالد بن الوليد في بيت ميمونة غيره، بل قد روى ابن أبي حازم عن أبيه في حديث سهل بن سعد ذكر أبي بكر الصديق فيمن كان على يساره صلى الله عليه وسلم ذكره ابن عبد البر وخطأه، قال ابن الجوزي: إنما استأذن الغلام ولم يستأذن الأعرابي لأن الأعرابي لم يكن له علم بالشريعة فاستألفه بترك استئذانه بخلاف الغلام. قوله في حديث أنس "فقال عمر أعط أبا بكر" كذا لجميع أصحاب الزهري، وشذ معمر فيما رواه وهيب عنه فقال: "عبد الرحمن بن عوف" بدل عمر أخرجه الإسماعيلي، والأول هو الصحيح، ومعمر لما حدث بالبصرة حدث من حفظه فوهم في أشياء فكان هذا منها، ويحتمل أن يكون محفوظا بأن يكون كل من عمر وعبد الرحمن قال ذلك لتوفير دواعي الصحابة على تعظيم أبي بكر. "تنبيه": ألحق بعضهم بتقديم الأيمن في المشروب تقديمه في المأكول، ونسب لمالك. وقال ابن عبد البر لا يصح عنه.

(5/31)


2- باب مَنْ قَالَ: "إِنَّ صَاحِبَ الْمَاءِ أَحَقُّ بِالْمَاءِ حَتَّى يَرْوَى ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ"
2353- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلاَ"
[الحديث 2353 - طرفاه في: 2354 ، 6962]
2354- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن ابن النسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ"
قوله: "باب من قال إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى" قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن صاحب الماء أحق بمائه حتى يروى، قلت وما نفاه من الخلاف هو على القول بأن الماء يملك، وكأن الذين ذهبوا إلى أنه يملك - وهم الجمهور - هم الذين لا خلاف عندهم في ذلك. قوله: "لا يمنع" ضم أوله على البناء للمجهول وبالرفع على أنه خبر والمراد به مع ذلك النهي. وذكر عياض أنه في رواية أبي ذر بالجزم بلفظ النهي.وكأن السر في إيراد
ـــــــ
(1) وجد بهامش احدى النسخ التي طبع عليها بمطبعة بولاق "والاسناد مدنيون ، إلا شيخه سعيد بن أبي مريم فإنه مصري كما يعلم من مراجعة كلامهم"

(5/31)


البخاري الطريق الثاني كونها وردت بصريح النهي وهو "لا تمنعوا" والمراد بالفضل ما زاد على الحاجة.ولأحمد من طريق عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة: "لا يمنع فضل ماء بعد أن يستغني عنه" وهو محمول عند الجمهور على ماء البئر المحفورة في الأرض المملوكة، وكذلك في الموات إذا كان بقصد التملك، والصحيح عند الشافعية ونص عليه في القديم وحرملة أن الحافر يملك ماءها، وأما البئر المحفورة في الموات لقصد الارتفاق لا التملك فإن الحافر لا يملك ماءها بل يكون أحق به إلى أن يرتحل، وفي الصورتين يجب عليه بذل ما يفضل عن حاجته، والمراد حاجة نفسه وعياله وزرعه وماشيته، هذا هو الصحيح عند الشافعية، وخص المالكية هذا الحكم بالموات. وقالوا في البئر التي في الملك: لا يجب عليه بذل فضلها، وأما الماء المحرز في الإناء فلا يجب بذل فضله لغير المضطر على الصحيح. قوله: "فضل الماء" فيه جواز بيع الماء لأن المنهي عنه منع الفضل لا منع الأصل، وفيه أن محل النهي ما إذا لم يجد المأمور بالبذل له ماء غيره، والمراد تمكين أصحاب الماشية من الماء ولم يقل أحد إنه يجب على صاحب الماء مباشرة سقي ماشية غيره مع قدرة المالك. قوله: "ليمنع به الكلأ" فتح الكاف واللام بعدها همزة مقصور هو النبات رطبه ويابسه والمعنى أن يكون حول البئر كلأ ليس عنده ماء غيره ولا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا إذا تمكنوا من سقي بهائمهم من تلك البئر لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعي فيستلزم منعهم من الماء منعهم من الرعي، وإلى هذا التفسير ذهب الجمهور، وعلى هذا يختص البذل بمن له ماشية، ويلتحق به الرعاة إذ احتاجوا إلى الشرب لأنهم إذا منعوا من الشرب امتنعوا من الرعي هناك. ويحتمل أن يقال: يمكنهم حمل الماء لأنفسهم لقلة ما يحتاجون إليه منه بخلاف البهائم والصحيح الأول، ويلتحق بذلك الزرع عند مالك، والصحيح عند الشافعية وبه قال الحنفية الاختصاص بالماشية، وفرق الشافعي - فيما حكاه المزني عنه - بين المواشي والزرع بأن الماشية ذات أرواح يخشى من عطشها موتها بخلاف الزرع، وبهذا أجاب النووي وغيره، واستدل لمالك بحديث جابر عند مسلم: "نهى عن بيع فضل الماء" لكنه مطلق فيحمل على المقيد في حديث أبي هريرة، وعلى هذا لو لم يكن هناك كلأ يرعى فلا مانع من المنع لانتفاء العلة، قال الخطابي: والنهي عند الجمهور للتنزيه فيحتاج إلى دليل يوجب صرفه عن ظاهره، وظاهر الحديث أيضا وجوب بذله مجانا وبه قال الجمهور، وقيل: لصاحبه طلب القيمة من المحتاج إليه كما في إطعام المضطر، وتعقب بأنه يلزم منه جواز المنع حالة امتناع المحتاج من بذل القيمة، ورد بمنع الملازمة فيجوز أن يقال يجب عليه البذل وتترتب له القيمة في ذمة المبذول له حتى يكون له أخذ القيمة منه متى أمكن ذلك، نعم في رواية لمسلم من طريق هلال بن أبي ميمونة عن أبي سلمة عن أبي هريرة "لا يباع فضل الماء" فلو وجب له العوض لجاز له البيع والله أعلم. واستدل ابن حبيب من المالكية على أن البئر إذا كانت بين مالكين فيها ماء فاستغنى أحدهما في نوبته كان للآخر أن يسقي منها لأنه ماء فضل عن حاجة صاحبه، وعموم الحديث يشهد له وإن خالفه الجمهور، واستدل به بعض المالكية للقول بسد الذرائع لأنه نهى عن منع الماء لئلا يتذرع به إلى منع الكلأ، لكن ورد التصريح في بعض طرق حديث الباب بالنهي عن منع الكلأ صححه ابن حبان من رواية أبي سعيد مولى بني غفار عن أبي هريرة بلفظ: "لا تمنعوا فضل الماء ولا تمنعوا الكلأ فيهزل المال وتجوع العيال" والمراد بالكلأ هنا النابت في الموات، فإن الناس فيه سواء. وروى ابن ماجة من طريق سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا: "ثلاثة لا يمنعن: الماء والكلأ والنار" وإسناده صحيح، قال الخطابي: معناه الكلأ ينبت في موات الأرض

(5/32)


والماء الذي يجري في المواضع التي لا تختص بأحد، قيل والمراد بالنار الحجارة التي توري النار ، وقال غيره المراد النار حقيقة والمعنى لا يمنع من يستصبح منها مصباحا أو يدني منها ما يشعله منها، وقيل المراد ما إذا أضرم نارا في حطب مباح بالصحراء فليس له منع من ينتفع بها، بخلاف ما إذا أضرم في حطب يملكه نارا فله المنع.

(5/33)


3 - باب: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ
2355- حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ"
قوله: "باب من حفر بئرا في ملكه لم يضمن" ذكر فيه حديث أبي هريرة "البئر جبار" بضم الجيم وتخفيف الموحدة أي هدر، قال ابن المنير: الحديث مطلق، والترجمة مقيدة بالملك وهي إحدى صور المطلق وأقعدها سقوط الضمان لأنه إذا لم يضمن إذا حفر في غير ملكه فالذي يحفر في ملكه أحرى بعدم الضمان ا هـ. وإلى التفرقة بين الحفر في ملكه وغيره ذهب الجمهور، وخالف الكوفيون، وسيأتي تفصيل ذلك مع بقية شرح الحديث في كتاب الديات إن شاء الله تعالى. محمود شيخه في هذا الحديث هو ابن غيلان، وعبيد الله شيخ محمود هو ابن موسى وهو من شيوخ البخاري وربما أخرج عنه بواسطة كهذا.

(5/33)


4 - باب الْخُصُومَةِ فِي الْبِئْرِ ، وَالْقَضَاءِ فِيهَا
2356 ، 2357- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً..} الآية فَجَاءَ الأَشْعَثُ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيَّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ ، لِي فَقَالَ لِي: شُهُودَكَ قُلْتُ مَا لِي شُهُودٌ. قَالَ: فَيَمِينُهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحَدِيثَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ"
[الحديث 2356 - أطرافه في: 2416 ، 2515 ، 2666 ، 2669 ، 2673 ، 2676 ، 4549 ، 6659 ، 6676 ، 7183 ، 7445]
[الحديث 2357 - أطرافه في: 2417 ، 2516 ، 2667 ، 2670 ، 2677 ، 4550 ، 6660 ، 6677 ، 7184]
قوله: "باب الخصومة في البئر والقضاء فيها" ذكر فيه حديث الأشعث "كانت لي بئر في أرض ابن عم لي" يعني فتخاصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أورده مختصرا، وسيأتي بتمامه في التفسير وفي الأيمان والنذور وغير موضع، اسم ابن عمه معدان بن الأسود بن معد يكرب الكندي ولقبه الجفشيش بوزن فعليل مفتوح الأول، واختلف في ضبط هذا الأول على ثلاثة أقوال: أشهرها بالجيم والشين معجمة في الموضعين، وقوله في الحديث: "كانت لي بئر في أرض" زعم الإسماعيلي أن أبا حمزة تفرد بذكر البئر عن الأعمش قال: ولا أعلم فيمن رواه عن الأعمش إلا قال: "في أرض"

(5/33)


باب من منع ابن السبيل من الماء
...
5 - باب: إِثْمِ مَنْ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ مِنْ الْمَاءِ
2358- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ. وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ. وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ أَعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}
[الحديث 2358 - أطرافه في: 2369 ، 2672 ، 7212 ، 7446]
قوله: "باب إثم من منع ابن السبيل من الماء" أي الفاضل عن حاجته، ويدل عليه قوله في حديث الباب: "رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل" قال ابن بطال: فيه دلالة على أن صاحب البئر أولى من ابن السبيل عند الحاجة، فإذا أخذ حاجته لم يجز له منع ابن السبيل ا هـ. وقد ترجم المصنف بذلك بعد أربعة أبواب "من رأى أن صاحب الحوض أحق بمائه" ويأتي الكلام على شرح هذا الحديث في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله في هذه الرواية: "ورجل بايع إمامه" في رواية الكشميهني: "إماما".

(5/34)


6 - باب: سَكْرِ الأَنْهَارِ
2359 ، 2360- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ فَأَبَى عَلَيْهِ فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِلزُّبَيْرِ أَسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
قال محمد بن العباس قال أبو عبد الله: ليس أحد يذكر عروة عن عبد الله إلا الليث فقط
[الحديث 2360 – أطرافه في: 2361 ، 2362 ، 2708 ، 4585]

(5/34)


7 - باب: شُرْبِ الأَعْلَى قَبْلَ الأَسْفَلِ
2361- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: "خَاصَمَ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا زُبَيْرُ اسْقِ ثُمَّ أَرْسِلْ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: إِنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَم: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ يَبْلُغُ الْمَاءُ الْجَدْرَ ثُمَّ أَمْسِكْ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ فَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
قوله: "باب شرب الأعلى قبل الأسفل" في رواية الحموي والكشميهني قبل السفلى، والأول أولى، وكأنه يشير إلى ما وقع في مرسل سعيد بن المسيب في هذه القصة "فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل. قال العلماء: الشرب من نهر أو مسيل غير مملوك يقدم الأعلى فالأعلى، ولا حق للأسفل حتى يستغني الأعلى، وحده أن يعطي الماء الأرض حتى لا تشريه ويرجع إلى الجدار ثم يطلقه. قوله: "ثم أرسل" كذا للأكثر، وللكشميهني: "ثم أرسل الماء". قوله: "اسق يا زبير حتى يبلغ" في رواية كريمة والأصيلي: "اسق يا زبير ثم يبلغ الماء الجدر"، وسقط من رواية أبي ذر ذكر الماء، زاد في التفسير من وجه آخر عن معمر "ثم أرسل الماء إلى جارك، واستوعى للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري" وفي رواية شعيب في الصلح "فاستوعى للزبير حينئذ حقه، وكان قبل ذلك أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري" فقوله استوعى أي استوفى، وهو من الوعي كأنه جمعه له في وعائه، وقوله: "أحفظه" بالمهملة والظاء المشالة أي أغضبه، قال الخطابي: هذه الزيادة يشبه أن تكون من كلام الزهري، وكانت عادته أن يصل بالحديث من كلامه ما يظهر له من معنى الشرح والبيان. قلت: لكن الأصل في الحديث أن يكون حكمه كله واحدا حتى يرد ما يبين ذلك، ولا يثبت الإدراج بالاحتمال. قال الخطابي

(5/38)


وغيره: وإنما حكم صلى الله عليه وسلم على الأنصاري في حال غضبه - مع نهيه أن يحكم الحاكم وهو غضبان - لأن النهي معلل بما يخاف على الحاكم من الخطأ والغلط، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمون لعصمته من ذلك حال السخط.

(5/39)


8 - باب: شِرْبِ الأَعْلَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ
2362- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَرَّانِيُّ: قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ "أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجٍ مِنْ الْحَرَّةِ يَسْقِي بِهَا النَّخْلَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ - فَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ - ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ يَرْجِعَ الْمَاءُ إِلَى الْجَدْرِ - وَاسْتَوْعَى لَهُ حَقَّهُ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فقَالَ لِي ابْنُ شِهَابٍ: فَقَدَّرَتْ الأَنْصَارُ وَالنَّاسُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ" وَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ"
قوله: "باب شرب الأعلى إلى الكعبين" يشير إلى ما حكاه الزهري من تقدير ذلك كما سيأتي في آخر الباب. قوله: "حدثنا محمد" زاد في رواية أبي الوقت "هو ابن سلام". قوله: "فأمره بالمعروف" كذا ضبطناه في جميع الروايات على أنه فعل ماض من الأمر، وهي جملة معترضة من كلام الراوي، وحكى الكرماني أنه بلفظ فعل الأمر من الإمرار وقد تقدم ما فيه، وقد قال الخطابي: معناه أمره بالعادة المعروفة التي جرت بينهم في مقدار الشرب ا هـ. ويحتمل أن يكون المراد أمره بالقصد والأمر الوسط مراعاة للجوار، ويدل عليه رواية شعيب المذكورة، ومثلها لمعمر في التفسير، وهو ظاهر في أنه أمره أولا أن يسامح ببعض حقه على سبيل الصلح، وبهذا ترجم البخاري في الصلح إذا أشار الإمام بالمصلحة، فلما لم يرض الأنصاري بذلك استقصى الحكم وحكم به. وحكى الخطابي أن فيه دليلا على جواز فسخ الحاكم حكمه، قال: لأنه كان له في الأصل أن يحكم بأي الأمرين شاء فقدم الأسهل إيثارا لحسن الجوار، فلما جهل الخصم موضع حقه رجع عن حكمه الأول وحكم بالثاني ليكون ذلك أبلغ في زجره، وتعقب بأنه لم يثبت الحكم أولا كما تقدم بيانه، قال: وقيل بل الحكم كان ما أمر به أولا، فلما لم يقبل الخصم ذلك عاقبه بما حكم عليه به ثانيا على ما بدر منه وكان ذلك لما كانت العقوبة بالأموال ا هـ. وقد وافق ابن الصباغ من الشافعية على هذا الأخير، وفيه نظر، وسياق طرق الحديث يأبى ذلك كما ترى، لا سيما قوله: "واستوعى للزبير حقه في تصريح الحكم" وهي رواية شعيب في الصلح ومعمر في التفسير، فمجموع الطرق دال على أنه أمر الزبير أولا أن يترك بعض حقه، وثانيا أن يستوفي جميع حقه. قوله: "فقال لي ابن شهاب" القائل هو ابن جريج راوي الحديث. قوله: "فقدرت الأنصار والناس" هو من عطف العام على الخاص. قوله: "وكان ذلك إلى الكعبين" يعني أنهم لما رأوا أن الجدر يختلف بالطول والقصر قاسوا ما وقعت فيه القصة فوجدوه يبلغ الكعبين فجعلوا ذلك معيارا لاستحقاق الأول فالأول، والمراد بالأول هنا من يكون مبدأ الماء من ناحيته. وقال بعض المتأخرين من الشافعية: المراد به

(5/39)


من لم يتقدمه أحد في الغراس بطريق الإحياء، والذي يليه من أحيا بعده، وهلم جرا. قال. وظاهر الخبر أن الأول من يكون أقرب إلى مجرى الماء وليس هو المراد. وقال ابن التين: الجمهور على أن الحكم أن يمسك إلى الكعبين، وخصه ابن كنانة بالنخل والشجر، قال: وأما الزروع فإلى الشراك. وقال الطبري: الأراضي مختلفة، فيمسك لكل أرض ما يكفيها، لأن الذي في قصة الزبير واقعة عين. واختلف أصحاب مالك: هل يرسل الأول بند استيفائه جميع الماء، أو يرسل منه ما زاد على الكعبين؟ والأول أظهر، ومحله إذا لم يبق له به حاجة والله أعلم. وقد وقع في مرسل عبد الله بن أبي بكر في "الموطأ" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مسيل مهزور ومذينب أن يمسك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل. ومهزور بفتح أوله وسكون الهاء وضم الزاي وسكون الواو بعدها راء، ومذينب بذال معجمة ونون بالتصغير: واديان معروفان بالمدينة وله إسناد موصول في "غرائب مالك للدار قطني" من حديث عائشة وصححه الحاكم، وأخرجه أبو داود وابن ماجة والطبري من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وإسناد كل منهما حسن. وأخرج عبد الرزاق هذا الحديث المرسل بإسناد آخر موصول، ثم روى عن معمر عن الزهري قال: نظرنا في قوله: "احبس الماء حتى يبلغ الجدر" فكان ذلك إلى الكعبين ا هـ. وقد روى البيهقي من رواية ابن المبارك عن معمر قال: سمعت غير الزهري يقول: نظروا في قوله: "حتى يرجع إلى الجدر" فكان ذلك إلى الكعبين. وكأن معمرا سمع ذلك من ابن جريج فأرسله في رواية عبد الرزاق، وقد بين ابن جريج أنه سمعه من الزهري. ووقع في رواية عبد الرحمن بن إسحاق "احبس الماء إلى الجدر أو إلى الكعبين" وهو شك منه، والصواب ما رواه ابن جريج. وذكر الشاشي من الشافعية أن معنى قوله: "إلى الجدر" أي إلى الكعبين، وكأنه أشار إلى هذا التقدير، وإلا فليس الجدر مرادفا للكعب. قوله: "الجدر هو الأصل" كذا هنا في رواية المستملي وحده. وفي هذا الحديث غير ما تقدم أن من سبق إلى شيء من مياه الأودية والسيول التي لا تملك فهو أحق به، لكن ليس له إذا استغنى أن يحبس الماء عن الذي يليه. وفيه أن للحاكم أن يشير بالصلح بين الخصمين ويأمر به ويرشد إليه، ولا يلزمه به إلا إذا رضي. وأن الحاكم يستوفي لصاحب الحق حقه إذا لم يتراضيا، وأن يحكم بالحق لمن توجه له ولو لم يسأله صاحب الحق. وفيه الاكتفاء من المخاصم بما يفهم عنه مقصوده من غير مبالغة في التنصيص على الدعوى ولا تحديد المدعي ولا حصره بجميع صفاته. وفيه توبيخ من جفى على الحاكم ومعاقبته، ويمكن أن يستدل به على أن للإمام أن يعفو عن التعزير المتعلق به، لكن محل ذلك ما لم يؤد إلى هتك حرمة الشرع. وإنما لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم صاحب القصة لما كان عليه من تأليف الناس، كما قال في حق كثير من المنافقين "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" قال القرطبي: فلو صدر مثل هذا من أحد في حق النبي صلى الله عليه وسلم أو في حق شريعته لقتل قتلة زنديق. ونقل النووي نحوه عن العلماء. والله أعلم.

(5/40)


9 - باب: فَضْلِ سَقْيِ الْمَاءِ
2363- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلاَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ

(5/40)


بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ". تَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَالرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ
2364- حدثنا ابن أبي مريم حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مُليكة عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف فقال: دنت مني النار حتى قلت أي رب وأنا معهم؟ فإذا امرأة - حسِبتُ أنه قال: - تَخدِشُها هِرة قال: ما شأن هذهِ؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعا"
2365- حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا ، فدخلت فيها النار ، قال فقالوا - والله أعلم - :لا أنتِ أطعمتها ولا سقيتها حين حبستيها، ولا أنت أرسلتها فأكلت من خشاش الأرض"
[الحديث 2365- طرفاه في: 3318 ، 3482]
قوله: "باب فضل سقي الماء" أي لكل من احتاج إلى ذلك. قوله: "عن سمي" بالمهملة مصغرا، زاد في المظالم "مولى أبي بكر" أي ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام". قوله: "عن أبي صالح" زاد في المظالم "السمان" والإسناد مدنيون إلا شيخ البخاري. قوله: "بينا رجل" لم أقف على اسمه. قوله: "يمشي" قال في المظالم "بينما رجل بطريق"، وللدار قطني في "الموطئات" من طريق روح عن مالك "يمشي بفلاة" وله من طريق ابن وهب عن مالك "يمشي بطريق مكة". قوله: "فاشتد عليه" وقعت الفاء هنا موضع "إذا" كما وقعت إذا موضعها في قوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} وسقطت هذه الفاء من رواية مسلم وكذا من الرواية الآتية في المظالم للأكثر: قوله: "فاشتد عليه العطش" كذا للأكثر، وكذا هو في "الموطأ" ووقع في رواية المستملي: "العطاش"، قال ابن التين: العطاش داء يصيب الغنم تشرب فلا تروى وهو غير مناسب هنا، قال: وقيل يصح على تقدير أن العطش يحدث منه هذا الداء كالزكام. قلت: وسياق الحديث يأباه، وظاهره أن الرجل سقى الكلب حتى روي ولذلك جوزي بالمغفرة. قوله: "يلهث" بفتح الهاء، اللهث بفتح الهاء هو ارتقاع النفس من الإعياء، قال ابن التين: لهث الكلب أخرج لسانه من العطش وكذلك الطائر، ولهث الرجل إذا أعيا، ويقال إذا بحث بيديه ورجليه. قوله: "يأكل الثرى" أي يكدم بفمه الأرض الندية، وهي إما صفة وإما حال، وليس بمفعول ثان لرأى. قوله: "بلغ هذا مثل" بالفتح أي بلغ مبلغا مثل الذي بلغ بي، وضبطه الدمياطي بخطه بضم مثل ولا يخفى توجيهه، وزاد ابن حبان من وجه آخر عن أبي صالح "فرحمه". قوله: "فملأ خفه" في رواية ابن حبان: "فنزع أحد خفيه". قوله: "ثم أمسكه" أي أحد خفيه الذي فيه الماء، وإنما احتاج إلى ذلك لأنه كان يعالج بيديه ليصعد من البئر، وهو يشعر بأن الصعود منها كان عسرا. قوله: "ثم رقي" بفتح الراء وكسر القاف كصعد وزنا ومعنى، وذكره ابن التين بفتح القاف بوزن مضى وأنكره، وقال عياض في "المشارق" هي لغة طيئ يفتحون العين فيما كان من الأفعال معتل اللام والأول أفصح وأشهر. قوله: "فسقى الكلب" زاد عبد الله بن دينار عن أبي صالح "حتى أرواه" أي جعله ريانا، وقد مضى في الطهارة. قوله: "فشكر الله له" أي أثنى عليه أو قبل عمله أو جازاه بفعله، وعلى الأخير فالفاء في قوله: "فغفر له" تفسيرية أو من

(5/41)


عطف الخاص على العام. وقال القرطبي: معنى قوله: "فشكر الله له" أي أظهر ما جازاه به عند ملائكته. ووقع في رواية عبد الله بن دينار بدل فغفر له "فأدخله الجنة" وكذا في رواية ابن حبان. قوله: "قالوا" سمي من هؤلاء السائلين سراقة بن مالك بن جعشم، رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان. قوله: "وإن لنا" هو معطوف على شيء محذوف تقديره الأمر كما ذكرت وإن لنا "في البهائم" أي في سقي البهائم أو الإحسان إلى البهائم "أجرا". قوله: "في كل كبد رطبة أجر" أي كل كبد حية، والمراد رطوبة الحياة، أو لأن الرطوبة لازمة للحياة فهو كناية، ومعنى الظرفية هنا أن يقدر محذوف، أي الأجر ثابت في إرواء كل كبد حية، والكبد يذكر ويؤنث، ويحتمل أن تكون "في" سببية كقولك في النفس الدية، قال الداودي: المعنى في كل كبد حي أجر وهو عام في جميع الحيوان. وقال أبو عبد الملك: هذا الحديث كان في بني إسرائيل، وأما الإسلام فقد أمر بقتل الكلاب. وأما قوله: "في كل كبد" فمخصوص ببعض البهائم مما لا ضرر فيه، لأن المأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يقوى ليزداد ضرره، وكذا قال النووي: إن عمومه مخصوص بالحيوان المحترم وهو ما لم يؤمر بقتله فيحصل الثواب بسقيه، ويلتحق به إطعامه وغير ذلك من وجوه الإحسان إليه. وقال ابن التين: لا يمتنع إجراؤه على عمومه، يعني فيسقى ثم يقتل لأنا أمرنا بأن نحسن القتلة ونهينا عن المثلة. واستدل به على طهارة سؤر الكلب وقد تقدم البحث في ذلك في كتاب الطهارة. ومما قيل في الرد على من استدل به: إنه فعل بعض الناس ولا يدري هل هو كان ممن يقتدى به أم لا، والجواب أنا لم نحتج بمجرد الفعل المذكور بل إذا فرغنا على أن شرع من قبلنا شرع لنا فإنا لا نأخذ بكل ما ورد عنهم، بل إذا ساقه إمام شرعنا مساق المدح إن علم ولم يقيده بقيد صح الاستدلال به. وفي الحديث جواز السفر منفردا وبغير زاد، ومحل ذلك في شرعنا ما إذا لم يخف على نفسه الهلاك. وفيه الحث على الإحسان إلى الناس، لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي الكلب فسقي المسلم أعظم أجرا. واستدل به على جواز صدقة التطوع للمشركين، وينبغي أن يكون محله ما إذا لم يوجد هناك مسلم فالمسلم أحق، وكذا إذا دار الأمر بين البهيمة والآدمي المحترم واستويا في الحاجة فالآدمي أحق، والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب حديثي أسماء بنت أبي بكر وابن عمر في قصة المرأة التي ربطت الهرة حتى ماتت فدخلت النار، وسيأتي الكلام عليه في بدء الخلق، وتقدم حديث أسماء بأتم من هذا في أوائل صفة الصلاة، وأما حديث ابن عمر فذكر الدار قطني أن معن بن عيسى تفرد بذكره في الموطأ، قال: ورواه في غير الموطأ ابن وهب والقعنبي وابن أبي أويس ومطرف، ثم ساقه من طرقهم. وأخرجه الإسماعيلي من طريق معن وابن وهب، وأخرجه أبو نعيم من طريق القعنبي. ومناسبة حديث الهرة للترجمة من جهة أن المرأة عوقبت على كونها لم تسقها، فمقتضاه أنها لو سقتها لم تعذب. قال ابن المنير: دل الحديث على تحريم قتل من لم يؤمر بقتله عطشا ولو كان هرة وليس فيه ثواب السقي ولكن كفى بالسلامة فضلا.

(5/42)


باب من رأى أن صحب الحوض والقربة أحق بمائه
...
10 - باب: مَنْ رَأَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ وَالْقِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِهِ
2366- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ فَشَرِبَ ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ هُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ ، قَالَ: يَا غُلاَمُ

(5/42)


أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ الأَشْيَاخَ فَقَالَ مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ"
2367- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَذُودَنَّ رِجَالًا عَنْ حَوْضِي كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنْ الإِبِلِ عَنْ الْحَوْضِ"
2368- حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ يَزِيدُ - أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ - لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا. وَأَقْبَلَ جُرْهُمُ فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ ، وَلاَ حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ. قَالُوا: نَعَمْ"
[الحديث 2368- أطرافه في: 3362 ، 3363 ، 3364 ، 3365]
2369- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ"
قَالَ عَلِيٌّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ - غَيْرَ مَرَّةٍ - عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ أَبَا صَالِحٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب من رأى أن صاحب الحوض أو القربة أحق بمائه" ذكر فيه أربعة أحاديث: أحدها حديث سهل بن سعد وقد تقدم الكلام عليه قبل ثمانية أبواب، ومناسبته للترجمة ظاهرة إلحاقا للحوض والقربة بالقدح، فكان صاحب القدح أحق بالتصرف فيه شربا وسقيا. وقد خفي هذا على المهلب فقال: ليس في الحديث إلا أن الأيمن أحق من غيره بالقدح، وأجاب ابن المنير بأن مراد البخاري أنه إذا استحق الأيمن ما في القدح بمجرد جلوسه واختص به فكيف لا يختص به صاحب اليد والمتسبب في تحصيله؟ ثانيها حديث أبي هريرة في ذكر حوض النبي صلى الله عليه وسلم سيأتي الكلام عليه في ذكر الحوض النبوي من كتاب الرقاق. وقوله: "لأذودن" بمعجمة ثم مهملة أي لأطردن، ومناسبته للترجمة من ذكر صلى الله عليه وسلم أن صاحب الحوض يطرد إبل غيره عن حوضه ولم ينكر ذلك فيدل على الجواز، وقد خفي على المهلب أيضا فقال: إن المناسبة من جهة إضافة الحوض إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان أحق به، وتعقبه ابن المنير بأن أحكام التكاليف لا تنزل على وقائع الآخرة، وإنما استدل بقوله: "كما تذاد الغريبة من الإبل" فما جاز لصاحب الحوض طرد إبل غيره عن حوضه إلا وهو أحق بحوضه. ثالثها حديث ابن عباس في قصة هاجر وزمزم، أورده مختصرا جدا، وسيأتي مطولا في أحاديث الأنبياء، ومناسبته للترجمة من جهة قولها للذين نزلوا عليها "ولا حق لكم في الماء، قالوا نعم" وقرر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. قال الخطابي: فيه أن من أنبط ماء في فلاة من الأرض ملكه ولا يشاركه فيه غيره إلا برضاه، إلا أنه لا يمنع فضله إذا استغنى عنه، وإنما شرطت هاجر عليهم أن لا يتملكوه.

(5/43)


رابعها حديث أبي هريرة وقد تقدم من وجه آخر قبل أربعة أبواب وفيه: "ورجل له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل" وقال في هذه الطريق "ورجل منع فضل مائه فيقول الله اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك" ومناسبته للترجمة من جهة أن المعاقبة وقعت على منعه الفضل فدل على أنه أحق بالأصل، ويؤخذ أيضا من قوله: "ما لم تعمل يداك" فإن مفهومه أنه لو عالجه لكان أحق به من غيره. وحكى ابن التين عن أبي عبد الملك أنه قال: هذا يخفى معناه، ولعله يريد أن البئر ليست من حفره وإنما هو في منعه غاصب ظالم، وهذا لا يرد فيما حازه وعمله. قال: ويحتمل أن يكون هو حفرها ومنعها من صاحب الشفة أي العطشان، ويكون معنى "ما لم تعمل يداك" أي لم تنبع الماء ولا أخرجته، قال: وهذا أي الأخير ليس من الباب في شيء والله أعلم. قوله: "قال علي حدثنا سفيان غير مرة الخ" يشير إلى أن سفيان كان يرسل هذا الحديث كثيرا، ولكنه صحح الموصول لكون الذي وصله من الحفاظ، وقد تابعه سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وعبد الرحمن بن يونس ومحمد بن أبي الوزير ومحمد بن يونس فوصلوه قاله الإسماعيلي، قال: وأرسله غيرهم. قلت: وقد وصله أيضا عمرو الناقد أخرجه مسلم عنه، وصفوان بن صالح أخرجه ابن حبان من طريقه، ويأتي الكلام على ما وقع من الاختلاف في سياق المتن في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.

(5/44)


باب لاحمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم
...
11 - باب: لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2370- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ يَحْيَى وَقَالَ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَى النَّقِيعَ وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى السَّرَفَ وَالرَّبَذَةَ"
[الحديث2370- طرفه في: 3013]
قوله: "باب لا حمى إلا لله ولرسوله" ترجم بلفظ الحديث من غير مزيد، قال الشافعي: يحتمل معنى الحديث شيئين: أحدهما ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلا ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر معناه إلا على مثل ما حماه عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى الأول ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي، وعلى الثاني يختص الحمى بمن قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخليفة خاصة. وأخذ أصحاب الشافعي من هذا أن له في المسألتين قولين، والراجح عندهم الثاني، والأول أقرب إلى ظاهر اللفظ لكن رجحوا الأول بما سيأتي أن عمر حمى النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بالحمى منع الرعي في أرض مخصوصة من المباحات فيجعلها الإمام مخصوصة برعي بهائم الصدقة مثلا. قوله: "عن يونس" هو ابن يزيد الأيلي، ورواية الليث عنه من الأقران لأنه قد سمع من شيخه ابن شهاب، وفي الإسناد تابعيان وصحابيان. قوله: "لا حمى" أصل الحمى عند العرب أن الرئيس منهم كان إذا نزل منزلا مخصبا استعوى كلبا على مكان عال فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب فلا يرعى فيه غيره ويرعى هو مع غيره فيما سواه، والحمى هو المكان المحمي وهو خلاف المباح، ومعناه أن يمنع من الإحياء من ذلك الموات ليتوفر فيه الكلأ فترعاه مواش مخصوصة ويمنع غيرها، والأرجح عند الشافعية أن الحمى يختص بالخليفة، ومنهم من ألحق به ولاة الأقاليم، ومحل الجواز مطلقا أن لا يضر بكافة المسلمين. واستدل به الطحاوي لمذهبه في اشتراط إذن الإمام في إحياء الموات، وتعقب بالفرق بينهما فإن الحمى أخص من

(5/44)


الإحياء والله أعلم. قال الجوري من الشافعية: ليس بين الحديثين معارضة، فالحمى المنهي ما يحمى من الموات الكثير العشب لنفسه خاصة كفعل الجاهلية، والإحياء المباح ما لا منفعة للمسلمين فيه شاملة فافترقا، وإنما تعد أرض الحمى مواتا لكونها لم يتقدم فيها ملك لأحد، لكنها تشبه العامر لما فيها من المنفعة العامة. قوله: "وقال بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع" كذا لجميع الرواة إلا لأبي ذر، والقائل هو ابن شهاب، وهو موصول بالإسناد المذكور إليه وهو مرسل أو معضل، وهكذا أخرجه أبو داود من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب فذكر الموصول والمرسل جميعا، ووقع عند أبي ذر "وقال أبو عبد الله: بلغنا الخ" فظن بعض الشراح أنه من كلام البخاري المصنف وليس كذلك فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق أحمد بن إبراهيم بن ملحان عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه فذكر الموصول والمرسل جميعا على الصواب كما أخرجه أبو داود، ووقع لأبي نعيم في مستخرجه تخبيط، فإنه أخرجه من الوجه الذي أخرجه منه الإسماعيلي فاقتصر في الإسناد الموصول على المتن المرسل وهو قوله: "حمى النقيع" وليس هذا من حديث ابن عباس عن الصعب، وإنما هو بلاغ للزهري كما تقدم. وقد أخرجه سعيد بن منصور من رواية عبد الرحمن بن الحارث عن الزهري جامعا بين الحديثين، وأخرجه البيهقي من طريق سعيد ونقل عن البخاري أنه وهم، قال البيهقي: لأن قوله حمى النقيع من قول الزهري يعني من بلاغه، ثم روى من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين ترعى فيه" وفي إسناده العمري وهو ضعيف، وكذا أخرجه أحمد من طريقه. قوله: "النقيع" بالنون المفتوحة، وحكى الخطابي أن بعضهم صحفه فقال بالموحدة، وهو على عشرين فرسخا من المدينة وقدره ميل في ثمانية أميال ذكر ذلك ابن وهب في موطئه، وأصل النقيع كل موضع يستنقع فيه الماء، وفي الحديث ذكر النقيع الخضمات وهو الموضع الذي جمع فيه أسعد بن زرارة بالمدينة، والمشهور أنه غير النقيع الذي فيه الحمى وحكى ابن الجوزي أن بعضهم قال إنهما واحد، قال والأول أصح. قوله: "وأن عمر حمى الشرف والربذة" هو معطوف على الأول، وهو من بلاغ الزهري أيضا، وقد ثبت وقوع الحمى من عمر كما سيأتي في أواخر الجهاد من طريق أسلم "أن عمر استعمل مولى له على الحمى" الحديث. والشرف بفتح المعجمة والراء بعدها فاء في المشهور، وذكر عياض أنه عند البخاري بفتح المهملة وكسر الراء، قال وفي موطأ ابن وهب بفتح المعجمة والراء قال: وكذا رواه بعض رواة البخاري أو أصلحه وهو الصواب، وأما سرف فهو موضع بقرب مكة ولا تدخله الألف واللام، والربذة بفتح الراء والموحدة بعدها ذال معجمة موضع معروف بين مكة والمدينة تقدم ضبطه، وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن نافع عن ابن عمر أن عمر حمى الربذة لنعم الصدقة.

(5/45)


باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار
...
12 - باب: شُرْبِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ مِنْ الأَنْهَارِ
2371- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ بِهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ وَلَوْ أَنَّهُ انْقَطَعَ طِيَلُهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ فَهِيَ لِذَلِكَ أَجْرٌ. وَرَجُلٌ

(5/45)


رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلاَ ظُهُورِهَا فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ فَقَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلاَّ هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
[الحديث 2371 - أطرافه في:2860 ، 3646 ، 4962 ، 4963 ، 7356]
2372- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَ فَشَأْنَكَ بِهَا قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا"
قوله: "باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار" أراد بهذه الترجمة أن الأنهار الكائنة في الطرق لا يختص بالشرب منها أحد دون أحد، ثم أورد فيه حديثين: أحدهما عن أبي هريرة في ذكر الخيل وسيأتي الكلام عليه مفصلا في الجهاد، والمقصود منه قوله فيه: "ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي" فإنه يشعر بأن من شأن البهائم طلب الماء ولم يرد ذلك صاحبها، فإذا أجر على ذلك من غير قصد فيؤجر بقصده من باب الأولى، فثبت المقصود من الإباحة المطلقة. ثانيها حديث زيد بن خالد في اللقطة وسيأتي فيها مشروحا، والمقصود منه قوله فيه: "معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر" .

(5/46)


13 - باب: بَيْعِ الْحَطَبِ وَالْكَلاَ
2373- حدثنا معلى بن أسد حدثنا وهيب عن هشام عن أبيه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يأخذ أحدكم أحبلا فيأخذ حزمة من حطب فيبيع فيكف الله به وجهه خير من أن يسأل الناس أعطي أم منع"
2374- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه"
2375- حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني ابن شهاب عن علي بن حسين بن علي عن أبيه حسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أنه قال "أصبت

(5/46)


شارفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغنم يوم بدر ، قال: وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفاً أخرى ، فأنختهما يوماً عند باب رجل من الأنصار وأنا أريد أن أحمل عليهما إذخراً لأبيعه ، ومعي صائغ من بني قينقاع فأستعين به على وليمة فاطمة ، وحمزة بن عبد المطلب يشرب في ذلك البيت معه قينة. فقالت: ألا يا حمزة للشرف النواء ، فثار إليهما حمزة بالسيف فجب أسنمتهما وبقر خواصرهما ، ثم أخذ من أكبادهما – قلت لابن شهاب. ومن السنام. قال: قد جب أسنمتهما فذهب بها - قال ابن شهاب قال علي رضي الله عنه: فنظرت إلى منظر أفظعني ، فأتيت نبي الله وعنده زيد بن حارثة فأخبرته الخبر ، فخرج ومعه زيد ، فانطلقت معه فدخل على حمزة فتغيظ عليه ، فرفع حمزة بصره وقال: هل أنتم إلا عبيد لآبائي! فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقهقر حتى خرج عنهم ، وذلك قبل تحريم الخمر"
قوله: "باب بيع الحطب والكلأ" بفتح الكاف واللام بعده همزة بغير مد وهو العشب رطبه ويابسه. وموقع هذه الترجمة من كتاب الشرب اشتراك الماء والحطب والمرعى في جواز انتفاع الناس بالمباحات منها من غير تخصيص، قال ابن بطال: إباحة الاحتطاب في المباحات والاختلاف من نبات الأرض متفق عليه حتى يقع ذلك في أرض مملوكة فترتفع الإباحة، ووجهه أنه إذا ملك بالاحتطاب والاحتشاش فلأن يملك بالإحياء له أولى. ثم أورد فيه المصنف ثلاثة أحاديث: أولها وثانيها حديث الزبير بن العوام وأبي هريرة بمعناه في الترغيب في الاكتساب بالاحتطاب، وقد تقدم الكلام عليهما في كتاب الزكاة. ثالثها حديث علي في قصة شارفيه مع حمزة بن عبد المطلب، والشاهد منه قوله: "وأنا أريد أن أحمل عليهما إذخرا لأبيعه" فإنه دال على ما ترجم به من جواز الاحتطاب والاحتشاش، وسيأتي الكلام على شرحه مستوفى في آخر كتاب الجهاد في فرض الخمس إن شاء الله تعالى.

(5/47)


14 - باب: الْقَطَائِعِ
2376- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطِعَ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَتْ الأَنْصَارُ: حَتَّى تُقْطِعَ لِإِخْوَانِنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَ الَّذِي تُقْطِعُ لَنَا قَالَ: سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي"
[الحديث 2376 - أطرافه في: 2377 ، 3163 ، 3794]
قوله: "باب القطائع" مع قطيعة تقول قطعته أرضا جعلتها له قطيعة، والمراد به ما يخص به الإمام بعض الرعية من الأرض الموات فيختص به ويصير أولى بإحيائه ممن لم يسبق إلى إحيائه. واختصاص الإقطاع بالموات متفق عليه في كلام الشافعية، وحكى عياض أن الإقطاع تسويغ الإمام من مال الله شيئا لمن يراه أهلا لذلك، قال: وأكثر ما يستعمل في الأرض، وهو أن يخرج منها لمن يراه ما يحوزه إما بأن يملكه إياه فيعمره، وإما بأن يجعل له غلته مدة انتهى. قال السبكي: والثاني هو الذي يسمى في زماننا هذا إقطاعا، ولم أر أحدا من أصحابنا ذكره.

(5/47)


وتخريجه على طريق فقهي مشكل. قال: والذي يظهر أنه يحصل للمقطع بذلك اختصاص كاختصاص المتحجر، لكنه لا يملك الرقبة بذلك انتهى. وبهذا جزم المحب الطبري. وادعى الأذرعي نفي الخلاف في جواز تخصيص الإمام بعض الجند بغلة أرض إذا كان مستحقا لذلك والله أعلم. قوله: "عن يحيي بن سعيد" هو الأنصاري، ووقع للبيهقي من وجه آخر عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه التصريح بالتحديث لحماد من يحيى. قوله: "أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع من البحرين" يعني للأنصار. وفي رواية البيهقي "دعا الأنصار ليقطع لهم البحرين" وللإسماعيلي: "ليقطع لهم البحرين أو طائفة منها" وكأن الشك فيه من حماد، فسيأتي للمصنف في الجزية من طريق زهير عن يحيى بلفظ: "دعا الأنصار ليكتب لهم البحرين" ولهم في مناقب الأنصار من رواية سفيان عن يحيى "إلى أن يقطع لهم البحرين" وظاهره أنه أراد أن يجعلها لهم إقطاعا. واختلف في المراد بذلك، فقال الخطابي: يحتمل أنه أراد الموات منها ليتملكوه بالإحياء، ويحتمل أن يكون أراد العامر منها لكن في حقه من الخمس؛ لأنه كان ترك أرضها فلم يقسمها. وتعقب بأنها فتحت صلحا كما سيأتي في كتاب الجزية، فيحتمل أن يكون المراد أنه أراد أن يخصهم بتناول جزيتها، وبه جزم إسماعيل القاضي وابن قرقول، ووجهه ابن بطال بأن أرض الصلح لا تقسم فلا تملك. وقال ابن التين: إنما يسمى إقطاعا إذا كان من أرض أو عقار، وإنما يقطع من الفيء ولا يقطع من حق مسلم ولا معاهد. قال: وقد يكون الإقطاع تمليكا وغير تمليك، وعلى الثاني يحمل إقطاعه صلى الله عليه وسلم الدور بالمدينة، كأنه يشير إلى ما أخرجه الشافعي مرسلا ووصله الطبراني "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أقطع الدور" يعني أنزل المهاجرين في دور الأنصار برضاهم انتهى. وسيأتي في أواخر الخمس حديث أسماء بنت أبي بكر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير أرضا من أموال بني النضير" يعني بعد أن أجلاهم. والظاهر أنه ملكه إياها وأطلق عليها إقطاعا على سبيل المجاز والله أعلم. والذي يظهر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يخص الأنصار بما يحصل من البحرين أما الناجز يوم عرض ذلك عليهم فهو الجزية لأنهم كانوا صالحوا عليها، وأما بعد ذلك إذا وقعت الفتوح فخراج الأرض أيضا، وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم ذلك في عدة أراض بعد فتحها وقبل فتحها، منها إقطاعه تميما الداري بيت إبراهيم، فلما فتحت في عهد عمر نجز ذلك لتميم، واستمر في أيدي ذريته من ابنته رقية، وبيدهم كتاب من النبي صلى الله عليه وسلم، بذلك، وقصته مشهورة ذكرها ابن سعد وأبو عبيد في "كتاب الأموال" وغيرهما. قوله: "مثل الذي تقطع لنا" زاد في رواية البيهقي "فلم يكن ذلك عنده" يعني سبب قلة الفتوح يومئذ كما في رواية الليث التي في الباب الذي يلي هذا، وأغرب ابن بطال فقال: معناه أنه لم يرد فعل ذلك لأنه كان أقطع المهاجرين أرض بني النضير. قوله: "سترون بعدي أثرة" بفتح الهمزة والمثلثة على المشهور، وأشار صلى الله عليه وسلم بذلك إلى ما وقع من استئثار الملوك من قريش عن الأنصار بالأموال والتفضيل في العطاء وغير ذلك فهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في مناقب الأنصار إن شاء الله تعالى.

(5/48)


باب القطائع
...
15 - باب: كِتَابَةِ الْقَطَائِعِ
2377- وَقَالَ: اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَنْصَارَ لِيُقْطِعَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتَ فَاكْتُبْ لِإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَ

(5/48)


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً ، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي"
قوله: "باب كتابة القطائع" أي لتكون توثقة بيد المقطع دفعا للنزاع عنه. قوله: "وقال الليث" م أره موصولا من طريقه. قال الإسماعيلي وغيره: أورده عن الليث غير موصول، زاد أبو نعيم: وكأنه أخذه عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه. واعترض على المصنف بأن رواية الليث لا ذكر للكتابة فيها، وأجيب بأنها مذكورة في الشق الثاني، وبأنه جرى على عادته في الإشارة إلى ما يرد في بعض الطرق، وقد تقدم أنه عنده في الجزية من رواية زهير، وهو عند أحمد عن أبي معاوية عن يحيى بن سعيد والله أعلم. وفي الحديث فضيلة ظاهرة للأنصار لتوقفهم عن الاستئثار بشيء من الدنيا دون المهاجرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم كانوا: {يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فحصلوا في الفضل على ثلاث مراتب: إيثارهم على أنفسهم، ومواساتهم لغيرهم، والاستئثار عليهم. وسيأتي الكلام على ما يتعلق بالبحرين في كتاب الجزية إن شاء الله تعالى.

(5/49)


16 - باب: حَلَبِ الإِبِلِ عَلَى الْمَاءِ
2378- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَال:َ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْ حَقِّ الإِبِلِ أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ"
قوله: "باب حلب الإبل على الماء" أي عند الماء، والحلب بفتح اللام الاسم والمصدر سواء قاله ابن فارس، تقول حلبتها أحلبها حلبا بفتح اللام. قوله: "أن تحلب" بضم أوله على البناء للمجهول، وهو بالحاء المهملة في جميع الروايات، وأشار الداودي إلى أنه روي بالجيم وقال: أراد أنها تساق إلى موضع سقيها، وتعقب بأنه لو كان كذلك لقال أن تحلب إلى الماء لا على الماء، وإنما المراد حلبها هناك لنفع من يحضر من المساكين، ولأن ذلك ينفع الإبل أيضا، وهو نحو النهي عن الجداد بالليل، أراد أن تجد نهارا لتحضر المساكين. قوله: "على الماء" زاد أبو نعيم في "المستخرج" والبرقاني في "المصافحة" من طريق المعافى بن سليمان عن فليح "يوم ورودها" وساق البرقاني بهذا الإسناد ثلاثة أحاديث أخر في نسق، وقد تقدم معنى حديث الباب في الزكاة من طريق الأعرج عن أبي هريرة مطولا وفيه: "ومن حقها أن تحلب على الماء" وتقدم شرحه هناك.

(5/49)


باب الجل يكون له ممر أم شرب في حائط أو في نخل
...
17 - باب: الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ مَمَرٌّ أَوْ شِرْبٌ فِي حَائِطٍ أَوْ فِي نَخْلٍ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ فَلِلْبَائِعِ الْمَمَرُّ وَالسَّقْيُ حَتَّى يَرْفَعَ وَكَذَلِكَ رَبُّ الْعَرِيَّةِ"
2379- أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ وَمَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ"

(5/49)


كتاب الاستقراض وأداء الديون زالحجر والتفليس
باب من اشبرى بالدين وليس عنده ثمنه ، أو ليس بحضرته
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
43 - كِتَاب فِي الِاسْتِقْرَاضِ وَأَدَاءِ الدُّيُونِ
وَالْحَجْرِ وَالتَّفْلِيسِ
قوله: "كتاب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس" كذا لأبي ذر، وزاد غيره في أوله البسملة. وللنسفي "باب" بدل كتاب، وعطف الترجمة التي تليه عليه بغير باب. وجمع المصنف بين هذه الأمور الثلاثة لقلة الأحاديث الواردة فيها ولتعلق بعضها ببعض.
1 - باب: مَنْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ أَوْ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ
2385- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ أَتَبِيعُنِيهِ قُلْتُ نَعَمْ فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالْبَعِيرِ فَأَعْطَانِي ثَمَنَه"ُ
2386- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ "تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ"
قوله: "باب من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه أو ليس بحضرته" أي فهو جائز، وكأنه يشير إلى ضعف ما جاء عن ابن عباس مرفوعا: "لا أشتري ما ليس عندي ثمنه" وهو حديث أخرجه أبو داود والحاكم من طريق سماك عن عكرمة عنه في أثناء حديث تفرد به شريك عن سماك واختلف في وصله وإرساله. ثم أورد فيه حديث جابر في شراء النبي صلى الله عليه وسلم منه جمله في السفر وقضائه ثمنه في المدينة، وهو مطابق للركن الثاني من الترجمة. وحديث عائشة في شرائه صلى الله عليه وسلم من اليهودي الطعام إلى أجل، وهو مطابق للركن الأول. قال ابن المنير: وجه الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم لو حضره الثمن ما أخره، وكذا ثمن الطعام لو حضره لم يرتب في ذمته دينا، لما عرف من عادته الشريفة من المبادرة إلى إخراج ما يلزمه إخراجه، قلت وحديث جابر يأتي الكلام عليه في الشروط، وحديث عائشة يأتي الكلام عليه في الرهن. قوله في أول حديث جابر: "حدثنا محمد بن يوسف" هو البيكندي كذا ثبت لأبي ذر، وأهمل عند الأكثر وجزم أبو علي الجياني بأنه ابن سلام وحكى ذلك عن رواية ابن السكن، ثم وجدته في رواية أبي علي بن شبويه عن الفربري كذلك. وجرير شيخه هو ابن عبد الحميد، ومغيرة هو ابن مقسم.

(5/53)


2 - باب: مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَوْ إِتْلاَفَهَا
2387- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي

(5/53)


الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ"
قوله: "باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها" حذف الجواب اغتناء بما وقع في الحديث. قال ابن المنير: هذه الترجمة تشعر بأن التي قبلها مقيدة بالعلم بالقدرة على الوفاء، قال: لأنه إذا علم من نفسه العجز فقد أخذ لا يريد الوفاء إلا بطريق التمني والتمني خلاف الإرادة. قلت: وفيه نظر لأنه إذا نوى الوفاء مما سيفتحه الله عليه فقد نطق الحديث بأن الله يؤدي عنه إما بأن يفتح عليه في الدنيا وإما بأن يتكفل عنه في الآخرة، فلم يتعين التقييد بالقدرة في الحديث، ولو سلم ما قال فهناك مرتبة ثالثة وهو أن لا يعلم هل يقدر أو يعجز. قوله: "عن ثور بن زيد" بفتح الزاي وهو الديلي، وللإسماعيلي من طريق ابن وهب عن سليمان "حدثني ثور". قوله: "عن أبي الغيث" بالمعجمة والمثلثة، زاد ابن ماجة "مولى ابن مطيع". قلت: واسمه سالم، والإسناد كله مدنيون. قوله: "أدى الله عنه" في رواية الكشميهني: "أداها الله عنه" ولابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث ميمونة "ما من مسلم يدان دينا يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا" وظاهره يحيل المسألة المشهورة فيمن مات قبل الوفاء بغير تقصير منه كأن يعسر مثلا أو يفجأه الموت وله مال مخبوء وكانت نيته وفاء دينه ولم يوف عنه في الدنيا. ويمكن حمل حديث ميمونة على الغالب، والظاهر أنه لا تبعة عليه والحالة هذه في الآخرة بحيث يؤخذ من حسناته لصاحب الدين، بل يتكفل الله عنه لصاحب الدين كما دل عليه حديث الباب وإن خالف في ذلك ابن عبد السلام والله أعلم. قوله: "أتلفه الله" ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا وذلك في معاشه أو في نفسه. وهو علم من أعلام النبوة لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئا من الأمرين، وقيل المراد بالإتلاف عذاب الآخرة، قال ابن بطال: فيه الحض على ترك استئكال أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة وأن الجزاء قد يكون من جنس العمل. وقال الداودي: فيه أن من عليه دين لا يعتق ولا يتصدق وإن فعل رد ا هـ. وفي أخذ هذا من هذا بعد كثير. وفيه الترغيب في تحسين النية والترهيب من ضد ذلك وأن مدار الأعمال عليها. وفيه الترغيب في الدين لمن ينوي الوفاء، وقد أخذ بذلك عبد الله بن جعفر فيما رواه ابن ماجة والحاكم من رواية محمد بن علي عنه أنه كان يستدين، فسئل فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله مع الدائن حتى يقضي دينه" إسناده حسن، لكن اختلف فيه على محمد بن علي فرواه الحاكم أيضا من طريق القاسم بن الفضل عن عائشة بلفظ: "ما من عبد كانت له نية في وفاء دينه إلا كان له من الله عون، قالت: فأنا ألتمس ذلك العون" وساق له شاهدا من وجه آخر عن القاسم عن عائشة. وفيه أن من اشترى شيئا بدين وتصرف فيه وأظهر أنه قادر على الوفاء ثم تبين الأمر بخلافه أن البيع لا يرد بل ينتظر به حلول الأجل لاقتصاره صلى الله عليه وسلم على الدعاء عليه ولم يلزمه برد البيع قاله ابن المنير.

(5/54)


3 - باب: أَدَاءِ الدَّيْونِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}
2388- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ

(5/54)


اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَبْصَرَ - يَعْنِي أُحُدًا – قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّهُ تَحَوَّلَ لِي ذَهَبًا يَمْكُثُ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ دِينَارًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمْ الأَقَلُّونَ إِلاَّ مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا - وَأَشَارَ أَبُو شِهَابٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَقَالَ: مَكَانَكَ وَتَقَدَّمَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَسَمِعْتُ صَوْتًا فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ: مَكَانَكَ حَتَّى آتِيَكَ فَلَمَّا جَاءَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الَّذِي سَمِعْتُ - أَوْ قَالَ: الصَّوْتُ الَّذِي سَمِعْتُ – قَالَ: وَهَلْ سَمِعْتَ؟ قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَمِنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ نَعَمْ"
2389- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا يَسُرُّنِي أَنْ لاَ يَمُرَّ عَلَيَّ ثَلاَثٌ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ شَيْءٌ أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ" رَوَاهُ صَالِحٌ وَعُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
[الحديث 2389- طرفاه في: 6445 ، 7228]
قوله: "باب أداء الدين" في رواية أبي ذر "الديون" بالجمع "وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} الآية" كذا لأبي ذر، وساق الأصيلي وغيره الآية. قال ابن المنير: أدخل الدين في الأمانة لثبوت الأمر بأدائه، إذ المراد بالأمانة في الآية هو المراد بها في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وفسرت هناك بالأوامر والنواهي فيدخل فيها جميع ما يتعلق بالذمة وما لا يتعلق ا هـ. ويحتمل أن تكون الأمانة على ظاهرها، وإذا أمر الله بأدائها ومدح فاعله وهي لا تتعلق بالذمة فحال ما في الذمة أولى. وأكثر المفسرين على أن الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة حاجب الكعبة، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نزلت في الولاة، وعن ابن عباس هي عامة في جميع الأمانات. وروى ابن أبي شيبة من طريق طلق بن معاوية قال: "كان لي دين على رجل فخاصمته إلى شريح فقال له: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأمر بحبسه. ثم أورد المصنف فيه حديث أبي ذر "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصر أحدا قال: ما أحب أنه يحول لي ذهبا يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث، إلا دينارا أرصده لدين" الحديث وسيأتي الكلام علبه مستوفى في كتاب الرقاق. وغرضه هنا هذا القدر المذكور. قال ابن بطال: فيه إشارة إلى عدم الاستغراق في كثير الدين والاقتصار على اليسير منه أخذا من اقتصاره على ذكر الدينار الواحد، ولو كان عليه مائة دينار مثلا لم يرصد لأدائها دينارا واحدا ا هـ. ولا يخفى ما فيه. وفيه الاهتمام بأمر وفاء الدين، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا. قوله: "ما أحب أنه تحول لي ذهبا" كذا لأبي ذر "تحول" بفتح المثناة، ولغيره بضم التحتانية قال ابن مالك: فيه حول بمعنى صير وقد خفي على كثير من النحاة، وعاب بعضهم استعماله على الحريري. قال: وقد جاء هنا على ما لم يسم فاعله جاريا مجرى صار في رفع ما كان مبتدأ ونصب ما كان خبرا، وكذلك حكم ما صيغ من حول مثل تحول فإنه بزيادة المثناة تجدد له حذف ما كان فاعلا وجعل أول المفعولين فاعلا وثانيهما

(5/55)


خبرا منصوبا. قوله: "أرصده" ثبت في روايتنا بضم أوله من الرباعي وحكى ابن التين عن بعض الروايات بفتح الهمزة من رصد، والأول أوجه تقول أرصدته أي هيأته وأعددته ورصدته أي رقبته، وقوله: "الأكثرون" أي مالا و "الأقلون" أي ثوابا إلا من ذكر، وقوله: "وقليل ما هم" ما زائدة أو صفة، وقوله: "مكانك" بالنصب محذوف العامل أي الزم مكانك، وقوله: "قلت يا رسول الله الذي سمعت" خبره محذوف تقديره ما هو، وقوله: "ومن فعل كذا وكذا" فسر في الرواية الآتية في الرقاق "وإن زنى وإن سرق" ووقع في رواية المستملي هنا "وإن" بدل ومن. قوله: عقب حديث أبي هريرة في معنى حديث أبي ذر رواه صالح وعقيل عن الزهري"يعني عن عبيد الله عن أبي هريرة ، وطريقهما موصل في "الزهريات" لمحمد بن يحيى الذهلي. قوله: "لو كان لي مثل أحد ذهبا" قال ابن مالك: فيه وقوع التمييز بعد مثل وهو قليل، ونظيره قوله تعالى: {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} . قوله: "ما يسرني أن لا يمر" قال ابن مالك: فيه وقوع جواب لو مضارعا منفيا بما، والأصل أن يكون ماضيا مثبتا، وكأنه أوقع المضارع موقع الماضي، أو يكون الأصل ما كان يسرني فحذف كان وهو جواب لو، وفيه ضمير هو الاسم ويسرني الخبر، وحذف كان مع اسمها وبقاء خبرها كثير وهذا أولى ا هـ. ووقع في حديث أبي ذر "ما يسرني أن يمكث عندي" وفي حديث أبي هريرة "يسرني أن لا يمكث" ومفهوم كل منهما مطابق لمنطوق الآخر، ووقع للأصيلي وكريمة في رواية أبي هريرة "ما يسرني أن لا يمكث" وعلى هذا فلا زائدة. والله أعلم.

(5/56)


4 - باب: اسْتِقْرَاضِ الإِبِلِ
2390- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بِمِنًى يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ: دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ وَقَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلاَّ أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ قَالَ اشْتَرُوهُ: فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً"
قوله: "باب استقراض الإبل" أي جوازه ليرد المقترض نظيره أو خيرا منه. قوله: "أن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ابن المبارك عن شعبة الآتية في الهبة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ سنا فجاء صاحبه يتقاضاه" أي يطلب منه قضاء الدين، في أول حديث سفيان عن سلمة كما سيأتي بعد بابين "كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فجاءه يتقاضاه" ولأحمد عن عبد الرزاق عن سفيان "جاء أعرابي يتقاضى النبي صلى الله عليه وسلم بعيرا" ، وله عن يزيد بن هارون عن سفيان "استقرض النبي صلى الله عليه وسلم من رجل بعيرا" وللترمذي من طريق علي بن صالح عن سلمة "استقرض النبي صلى الله عليه وسلم سنا" . قوله: "فأغلظ له" يحتمل أن يكون الإغلاظ بالتشديد في المطالبة من غير قدر زائد، ويحتمل أن يكون بغير ذلك ويكون صاحب الدين كافرا فقد قيل إنه كان يهوديا، والأول أظهر لما تقدم من رواية عبد الرزاق أنه كان أعرابيا، وكأنه جرى على عادته من جفاء المخاطبة. ووقع في ترجمة بكر بن سهل في "معجم الطبراني الأوسط" عن العرباض بن سارية ما يفهم أنه هو، لكن روى النسائي والحاكم الحديث المذكور وفيه ما يقتضي أنه غيره وأن القصة وقعت لأعرابي، ووقع للعرباض نحوها. قوله: "فهم به أصحابه" أي أراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذوه بالقول أو الفعل، لكن لم يفعلوا أدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فإن لصاحب الحق مقالا"

(5/56)


أي صولة الطلب وقوة الحجة، لكن مع مراعاة الأدب المشروع. قوله: "واشتروا له بعيرا" في رواية عبد الرزاق التمسوا له مثل سن بعيره. قوله: "قالوا لا نجد" في رواية سفيان الآتية "فقال أعطوه، فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا فوقها" . وفي رواية عبد الرزاق "فالتمسوا له فلم يجدوا إلا فوق سن بعيره" والمخاطب بذلك هو أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه مسلم من حديثه قال: "استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل بكرا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة" ولابن خزيمة: "استلف من رجل بكرا فقال: إذا جاءت إبل الصدقة قضيناك، فلما جاءت إبل الصدقة أمر أبا رافع أن يقضني الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا، فقال: أعطه إياه" ويجمع بينه وبين الرواية التي في الباب حيث قال فيها "اشتروا له" بأنه أمر بالشراء أولا ثم قدمت إبل الصدقة فأعطاه منها، أو أنه أمر بالشراء من إبل الصدقة ممن استحق منها شيئا، ويؤيده رواية ابن خزيمة المذكورة "إذا جاءت الصدقة قضيناك" ا هـ. والبكر بفتح الموحدة وسكون الكاف الصغير من الإبل، والخيار الجيد يطلق على الواحد والجمع، والرباعي، بتخفيف الموحد من ألقى رباعيته. قوله: "فإن خيركم أحسنكم قضاء" في رواية عثمان بن جبلة عن شعبة الآتية في الهبة "فإن من خيركم أو خيركم" كذا على الشك. وفي رواية ابن المبارك "أفضلكم أحسنكم قضاء" وفي رواية سفيان الآتية "خياركم" فيحتمل أن يريد المفرد بمعنى المختار أو الجمع والمراد أنه خيرهم في المعاملة أو تكون "من" مقدرة ويدل عليها الرواية المذكورة. وقوله: "أحسنكم" لما أضيف أفعل والمقصود به الزيادة جاز فيه الإفراد، وقد وقع في رواية سفيان بعد باب "من خياركم" وفي الحديث جواز المطالبة بالدين إذا حل أجله. وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وعظم حلمه وتواضعه وإنصافه، وأن من عليه دين لا ينبغي له مجافاة صاحب الحق، وإن من أساء الأدب على الإمام كان عليه التعزير بما يقتضيه الحال إلا أن يعفو صاحب الحق. وفيه ما ترجم له وهو استقراض الإبل، ويلتحق بها جميع الحيوانات وهو قول أكثر أهل العلم، ومنع من ذلك الثوري والحنفية واحتجوا بحديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهو حديث قد روي عن ابن عباس مرفوعا أخرجه ابن حبان والدار قطني وغيرهما ورجال إسناده ثقات، إلا أن الحفاظ رجحوا إرساله. وأخرجه الترمذي من حديث الحسن عن سمرة، وفي سماع الحسن من سمرة اختلاف. وفي الجملة هو حديث صالح للحجة. وادعى الطحاوي أنه ناسخ لحديث الباب، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الحديثين ممكن، فقد جمع بينهما الشافعي وجماعة بحمل النهي على ما إذا كان نسيئة من الجانبين، ويتعين المصير إلى ذلك لأن الجمع بين الحديثين أولى من إلغاء أحدهما باتفاق، وإذا كان ذلك المراد من الحديث بقيت الدلالة على جواز استقراض الحيوان والسلم فيه. واعتل من منع بأن الحيوان يختلف اختلافا متباينا حتى لا يوقف على حقيقة المثلية فيه، وأجيب بأنه لا مانع من الإحاطة به بالوصف بما يدفع التغاير، وقد جوز الحنفية التزويج والكتابة على الرقيق الموصوف في الذمة، وفيه جواز وفاء ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد فيحرم حينئذ اتفاقا وبه قال الجمهور، وعن المالكية تفصيل في الزيادة إن كانت بالعدد منعت، وإن كانت بالوصف جازت. وفيه أن الاقتراض في البر والطاعة وكذا الأمور المباحة لا يعاب، وأن للإمام أن يقترض على بيت المال لحاجة بعض المحتاجين ليوفي ذلك من مال الصدقات، واستدل به الشافعي على جواز تعجيل الزكاة هكذا حكاه ابن عبد البر ولم يظهر لي توجيهه إلا أن يكون المراد ما قيل في سبب اقتراضه صلى الله عليه وسلم وأنه كان اقترضه لبعض المحتاجين من أهل

(5/57)


الصدقة فلما جاءت الصدقة أوفى صاحبه منها، ولا يعكر عليه أنه أوفاه أزيد من حقه من مال الصدقة لاحتمال أن يكون المقترض منه كان أيضا من أهل الصدقة إما من جهة الفقر أو التألف أو غير ذلك بجهتين جهة الوفاء في الأصل وجهة الاستحقاق في الزائد، وقيل كان اقترضه في ذمته فلما حل الأجل ولم يجد الوفاء صار غارما فجاز له الوفاء من الصدقة، وقيل كان اقتراضه لنفسه فلما حل الأجل اشترى من إبل الصدقة بعيرا ممن استحقه أو اقترضه من آخر أو من مال الصدقة ليوفيه بعد ذلك، والاحتمال الأول أقوى، ويؤيده سياق حديث أبي رافع، والله أعلم. "تنبيه": هذا الحديث من غرائب الصحيح، قال البزار لا يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد، ومداره على سلمة بن كهيل، وقد صرح في هذا الباب بأنه سمعه من أبي سلمة بن عبد الرحمن بمنى وذلك لما حج. والله أعلم.

(5/58)


5 - باب: حُسْنِ التَّقَاضِي
2391- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَاتَ رَجُلٌ فَقِيلَ لَهُ: ما كنت تقول؟ قَالَ: كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فَأَتَجَوَّزُ عَنْ الْمُوسِرِ وَأُخَفِّفُ عَنْ الْمُعْسِرِ فَغُفِرَ لَهُ" قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب حسن التقاضي" أي استحباب حسن المطالبة، أورد فيه حديث حذيفة في قصة الرجل الذي كان يتجوز عن الموسر ويخفف عن المعسر، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في "باب من أنظر معسرا" من كتاب البيوع. قوله في هذه الرواية: "فقيل له فقال: " فيه حذف تقديره: فقيل له ما كنت تصنع؟ ووقع هنا في رواية المستملي: "فقيل له ما كنت تقول" ؟ وشيخ البخاري فيه هو مسلم بن إبراهيم، وعبد الملك هو ابن عمير.

(5/58)


باب من يعطى أكبر من سنه
...
6 - باب: هَلْ يُعْطَى أَكْبَرَ مِنْ سِنِّهِ؟
2392- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ بَعِيرًا، َقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَعْطُوهُ فَقَالُوا مَا نَجِدُ إِلاَّ سِنًّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ فَقَالَ الرَّجُلُ أَوْفَيْتَنِي أَوْفَاكَ اللَّهُ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَعْطُوهُ، فَإِنَّ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَحْسَنَهُمْ قَضَاءً"
قوله: "باب هل يعطى أكبر من سنه" ؟ هو بضم أول يعطى على البناء للمجهول، وأورد فيه حديث أبي هريرة الماضي قبل بباب، وقد تقدم شرحه مستوفى فيه. ويحيى المذكور فيه هو القطان، وسفيان شيخه هو الثوري، وسيأتي بعد ستة أبواب من روايته عن شيخ له آخر وهو شعبة.

(5/58)


7 - باب: حُسْنِ الْقَضَاءِ
2393- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِنٌّ مِنْ الإِبِلِ فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطُوهُ: فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا إِلاّ

(5/58)


باب إذا قضى دون حقه أوحلله فهو جائز
...
8 - باب: إِذَا قَضَى دُونَ حَقِّهِ أَوْ حَلَّلَهُ فَهُوَ جَائِزٌ
2395- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: "حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي فَأَبَوْا فَلَمْ يُعْطِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطِي وَقَالَ: سَنَغْدُو عَلَيْكَ فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ فَطَافَ فِي النَّخْلِ وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ وَبَقِيَ لَنَا مِنْ تَمْرِهَا"
قوله: "باب إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز" قال ابن بطال: هكذا وقعت هذه الترجمة في النسخ كلها، والصواب "وحلله" بإسقاط الألف. قلت: رأيته في رواية أبي علي بن شبويه عن الفربري بالواو وكذا في رواية النسفي عن البخاري وفي مستخرج الإسماعيلي، لكن بقية الروايات بلفظ: "أو" قال ابن بطال لأنه يجوز أن يقضي دون الحق بغير محاللة، ولو حلله من جميع الدين جاز عند جميع العلماء، فكذلك إذا حلله من بعضه ا هـ. ووجهه ابن المنير بأن المراد إذا قضى دون حقه برضا صاحب الدين، أو حلله صاحب الدين من جميع حقه فهو جائز. ثم أورد فيه حديث جابر في دين أبيه، وفيه فسألتهم أن يقبلوا تمر حائطي ويحللوا أبي" وهذا القدر هو المراد في هذه الترجمة. فسيأتي في الباب الذي يليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل غريمه في ذلك، وسيأتي من هذه الطريق أتم مما هنا في كتاب الهبة، ويأتي الكلام عليه مستوفى في "علامات النبوة" إن شاء الله تعالى. وقوله في هذه الرواية: "عن ابن كعب بن مالك" ذكر أبو مسعود وخلف في "الأطراف" وتبعهما الحميدي أنه عبد الرحمن، وذكر المزي أنه عبد الله، واستدل بأن ابن وهب روى الحديث عن يونس بالسند الذي في هذا الباب فسماه عبد الله. قلت والرواية بذلك عند الإسماعيلي إلا أنه قال فيه: "إن جابرا قتل أبوه" وصورته مرسل، فإنه لم يقل إن جابرا أخبره ولا حدثه، ولكن هذا القدر كاف في كونه عبد الله لا عبد الرحمن، نعم روى الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن جابر قصة

(5/59)


شهداء أحد كما مضى في الجنائز، وذلك هو الحامل لهم على تفسيره هنا به، والله أعلم.

(5/60)


باب إذا قاص أو جازفه في الدين تمرا بتمر أوغيره
...
9 - باب: إِذَا قَاصَّ أَوْ جَازَفَهُ فِي الدَّيْنِ تَمْرًا بِتَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ
2396- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَهُ "أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلاَثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشْفَعَ لَهُ إِلَيْهِ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَّمَ الْيَهُودِيَّ لِيَأْخُذَ ثَمَرَ نَخْلِهِ بِالَّذِي لَهُ فَأَبَى فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخْلَ فَمَشَى فِيهَا ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ جُدَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ الَّذِي لَهُ فَجَدَّهُ بَعْدَمَا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْفَاهُ ثَلاَثِينَ وَسْقًا وَفَضَلَتْ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا فَجَاءَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَهُ بِالَّذِي كَانَ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُ بِالْفَضْلِ فَقَالَ أَخْبِرْ ذَلِكَ ابْنَ الْخَطَّابِ فَذَهَبَ جَابِرٌ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ عَلِمْتُ حِينَ مَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا"
قوله: "باب إذا قاص أو جازفه في الدين" أي عند الأداء فهو جائز "تمرا بتمر أو غيره" قال المهلب: لا يجوز عند أحد من العلماء أن يأخذ من له دين تمر من غريمه تمرا مجازفة بدينه لما فيه من الجهل والغرر، وإنما يجوز أن يأخذ مجازفة في حقه أقل من دينه إذا علم الآخذ ذلك ورضي ا هـ. وكأنه أراد بذلك الاعتراض على ترجمة البخاري ومراد البخاري ما أثبته المعترض لا ما نفاه، وغرضه بيان أنه يغتفر في القضاء من المعاوضة ما لا يغتفر ابتداء لأن بيع الرطب بالتمر لا يجوز في غير العرايا، ويجوز في المعاوضة عند الوفاء، وذلك بين في حديث الباب، فإنه صلى الله عليه وسلم سأل الغريم أن يأخذ تمر الحائط وهو مجهول القدر في الأوساق التي هي له وهي معلومة، وكان تمر الحائط دون الذي له كما وقع التصريح بذلك في كتاب الصلح من وجه آخر وفيه: "فأبوا ولم يروا أن فيه وفاء" وقد أخذ الدمياطي كلام المهلب فاعترض به فقال: هذا لا يصح. ثم اعتل بنحو ما ذكره المهلب، وتعقبه ابن المنير بنحو ما أجبت به فقال: بيع المعلوم بالمجهول مزابنة فإن كان تمرا نحوه فمزابنة وربا، لكن اغتفر ذلك في الوفاء لأن التفاوت متحقق في العرف فيخرج عن كونه مزابنة، وسيأتي الكلام على بقية فوائده في "علامات النبوة" إن شاء الله تعالى. قوله في هذا الإسناد "حدثنا أنس" هو ابن عياض أبو ضمرة، وهشام هو ابن عروة، ووهب هو ابن كيسان والإسناد كله مدنيون.

(5/60)


10 – بَاب: مَنْ اسْتَعَاذَ مِنْ الدَّيْنِ
2397- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ الْمَغْرَمِ؟ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ"

(5/60)


11 – باب: الصَّلاَةِ عَلَى مَنْ تَرَكَ دَيْنًا
2398- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا"
2399- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ"
قوله "باب الصلاة على من ترك دينا" قال ابن المنير: أراد بهذه الترجمة أن الدين لا يخل بالدين، وأن الاستعاذة منه ليست لذاته بل لما يخشى من غوائله، وأورد الحديث الذي فيه: "من ترك دينا فليأتني" وأشار به إلى بقيته وهو أنه كان لا يصلي على من عليه دين، فلما فتحت الفتوح صار يصلي عليه، وقد مضى بتمامه في الكفالة. ويأتي بقية شرحه في تفسير الأحزاب وفي الفرائض إن شاء الله تعالى. قوله: "كلا" بالفتح والتشديد أي عيالا، وقوله: "ضياعا" بفتح المعجمة أي عيالا أيضا، قال الخطابي: جعل اسما لكل ما هو بصدد أن يضيع من ولد أو خدم، وأنكر الخطابي كسر الضاد، وجوزه غيره على أنه جمع ضائع كجياع وجائع.

(5/61)


12 – باب: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ
2400- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ"
قوله: "باب مطل الغني ظلم" ترجم بلفظ الحديث، وهو طرف من حديث مضى تاما في الحوالة مع الكلام عليه. عبد الأعلى الذي في الإسناد هو ابن عبد الأعلى البصري.

(5/61)


13 - باب لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ.
وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ" قَالَ سُفْيَانُ عِرْضُهُ: يَقُولُ مَطَلْتَنِي وَعُقُوبَتُهُ: الْحَبْسُ
2401- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة عن سلمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يتقاضاه فأغلظ له ، فهم به أصحابه فقال: دعوه فأن لصاحب الحق مقالاً"
قوله: "باب لصاحب الحق مقال" كر فيه حديث أبي هريرة المقدم قريبا وهو نص في ذلك، وذكر الحديث المعلق لما فيه من تفسير المقال، وقد تقدم شرح حديث أبي هريرة قريبا. قوله: "ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" اللي بالفتح المطل، لوى يلوي. والواجد بالجيم الغني، من الوجد بالضم بمعنى القدرة. ويحل بضم أوله أي يجوز وصفه بكونه ظالما. والحديث المذكور وصله أحمد وإسحاق في مسنديهما وأبو داود والنسائي من حديث عمرو بن الشريد بن أوس الثقفي عن أبيه بلفظه وإسناده حسن، وذكر الطبراني أنه لا يروى إلا بهذا الإسناد. قوله: "قال سفيان: عرضه يقول مطلني وعقوبته الحبس" وصله البيهقي من طريق الفريابي وهو من شيوخ البخاري عن سفيان بلفظ: "عرضه أن يقول مطلني حقي وعقوبته أن يسجن" وقال إسحاق: فسر سفيان عرضه أذاه بلسانه، وقال أحمد: لما رواه وكيع بسنده قال وكيع "عرضه شكايته" وقال كل منهما: عقوبته حبسه. واستدل به على مشروعية حبس المدين إذا كان قادرا على الوفاء تأديبا له وتشديدا عليه كما سيأتي نقل الخلاف فيه، وبقوله: "الواجد" على أن المعسر لا يحبس. "تنبيه": وقع في الرافعي في المتن المرفوع "لي الواجد ظلم وعقوبته حبسه" وهو تغيير، وتفسير العقوبة بالحبس إنما هو من بعض الرواة كما ترى.

(5/62)


14 - باب: إِذَا وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ فِي الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالْوَدِيعَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَفْلَسَ وَتَبَيَّنَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ وَلاَ بَيْعُهُ وَلاَ شِرَاؤُهُ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَضَى عُثْمَانُ مَنْ اقْتَضَى مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفْلِسَ فَهُوَ لَهُ وَمَنْ عَرَفَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ
2402- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوْ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ"
قوله: "باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض والوديعة فهو أحق به" المفلس شرعا من تزيد ديونه على موجوده، سمي مفلسا لأنه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير إشارة إلى أنه صار لا يملك إلا أدنى الأموال وهي الفلوس، أو سمي بذلك لأنه يمنع التصرف إلا في الشيء التافه كالفلوس لأنهم ما كانوا يتعاملون بها إلا في الأشياء الحقيرة، أو لأنه صار إلى حالة لا يملك فيها فلسا، فعلى هذا فالهمزة في أفلس للسلب، وقوله: "في البيع"

(5/62)


إشارة إلى ما ورد في بعض طرقه نصا، وقوله: "والقرض" هو بالقياس عليه أو لدخوله في عموم الخبر وهو قول الشافعي في آخرين، والمشهور عن المالكية التفرقة بين القرض والبيع. وقوله: "والوديعة" هو بالإجماع، وقال ابن المنير: أدخل هذه الثلاثة إما لأن الحديث مطلق وإما لأنه وارد في البيع، والآخران أولى لأن ملك الوديعة لم ينتقل، والمحافظة على وفاء من اصطنع بالقرض معروفا مطلوب. قوله: "وقال الحسن: إذا أفلس وتبين لم يجز عتقه ولا بيعه ولا شراؤه" أما قوله: "وتبين" فإشارة إلى أنه لا يمنع التصرف قبل حكم الحاكم، وأما العتق فمحله ما إذا أحاط الدين بماله فلا ينفذ عتقه ولا هبته ولا سائر تبرعاته، وأما البيع والشراء فالصحيح من قول العلماء أنهما لا ينفذان أيضا إلا إذا وقع منه البيع لوفاء الدين. وقال بعضهم: يوقف وهو قول الشافعي، واختلف في إقراره فالجمهور على قبوله وكأن البخاري أشار بأثر الحسن إلى معارضة قول إبراهيم النخعي: بيع المحجور وابتياعه جائز. قوله: "وقال سعيد بن المسيب: قضى عثمان" أي ابن عفان الخ، وصله أبو عبيد في "كتاب الأموال" والبيهقي بإسناد صحيح إلى سعيد ولفظه: "أفلس مولى لأم حبيبة فاختصم فيه إلى عثمان فقضى " فذكره وقال فيه: "قبل أن يبين إفلاسه" بدل قوله قبل أن يفلس، والباقي سواء. قوله: "حدثنا زهير" هو ابن معاوية الجعفي، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، وفي هذا السند أربعة من التابعين هو أولهم وكلهم ولي القضاء وكلهم سوى أبي بكر بن عبد الرحمن من طبقة واحدة. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" هو شك من أحد رواته وأظنه من زهير، فإني لم أر في رواية أحد ممن رواه عن يحيى مع كثرتهم فيه التصريح بالسماع، وهذا مشعر بأنه كان لا يرى الرواية بالمعنى أصلا. قوله: "من أدرك ماله بعينه" استدل به على أن شرط استحقاق صاحب المال دون غيره أن يجد ماله بعينه لم يتغير ولم يتبدل، وإلا فإن تغيرت العين في ذاتها بالنقص مثلا أو في صفة من صفاتها فهي أسوة للغرماء، وأصرح منه رواية ابن أبي حسين عن أبي بكر بن محمد بسند حديث الباب عند مسلم بلفظ: "إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه" ووقع في رواية مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث مرسلا "أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقيض البائع من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به" فمفهومه أنه إذا قبض من ثمنه شيئا كان أسوة الغرماء وبه صرح ابن شهاب فيما رواه عبد الرزاق عن معمر عنه، وهذا وإن كان مرسلا فقد وصله عبد الرزاق في مصنفه عن مالك، لكن المشهور عن مالك إرساله، وكذا عن الزهري، وقد وصله الزبيدي عن الزهري أخرجه أبو داود وابن خزيمة وابن الجارود، ولابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز أحد رواة هذا الحديث قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أحق به من الغرماء إلا أن يكون اقتضى من ماله شيئا فهو أسوة الغرماء" وإليه يشير اختيار البخاري لاستشهاده بأثر عثمان المذكور، وكذلك رواه عبد الرزاق عن طاوس وعطاء صحيحا وبذلك قال جمهور من أخذ بعموم حديث الباب، إلا أن للشافعي قولا هو الراجح في مذهبه أن لا فرق بين تغير السلعة أو بقائها، ولا بين قبض بعض ثمنها أو عدم قبض شيء منه، على التفاصيل المشروحة في كتب الفروع. قوله: "عند رجل أو إنسان" شك من الراوي أيضا. قوله: "قد أفلس" أي تبين إفلاسه. قوله: "فهو أحق به من غيره" أي كائنا من كان وارثا وغريما وبهذا قال جمهور العلماء، وخالف الحنفية فتأولوه لكونه خبر واحد خالف الأصول، لأن السلعة صارت بالبيع ملكا للمشتري ومن ضمانه واستحقاق البائع أخذها منه نقض لملكه، وحملوا الحديث على صورة وهي ما إذا كان المتاع وديعة أو عارية أو لقطة، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقيد بالفلس ولا ==بعده

=

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............