كتاب :42. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
== عنه قال: لا تشهد على وصية حتى تقرأ عليك، ولا تشهد على من لا تعرف، وأخرجه
سعيد بن منصور من طريق يونس بن عبيد عن الحسن نحوه. وأما أثر أبي قلابة فوصله ابن
أبي شيبة ويعقوب بن سفيان جميعا من طريق حماد بن زيد عن أيوب قال: قال أبو قلابة
في الرجل يقول اشهدوا على ما في هذه الصحيفة، قال: لا حتى يعلم ما فيها زاد يعقوب
وقال: لعل فيها جورا. وفي هذه الزيادة بيان السبب في المنع المذكور. وقد وافق
الداودي من المالكية هذا القول فقال: هذا هو الصواب أنه لا يشهد على وصية حتى يعرف
ما فيها. وتعقبه ابن التين بأنها إذا كان فيها جور لم يمنع التحمل، لأن الحاكم
قادر على رده إذا أوجب حكم الشرع رده، وما عداه يعمل به فليس خشية الجور فيها
مانعا من التحمل، وإنما المانع الجهل بما يشهد به. قال: ووجه الجور أن كثيرا من
الناس يرغب في إخفاء أمره لاحتمال أن لا يموت فيحتاط بالإشهاد ويكون حاله مستمرا
على الإخفاء. قوله: "وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر
إلخ" هذا طرف من حديث سهل بن أبي حثمة في قصة حويصة ومحيصة وقتل عبد الله بن
سهل بخيبر؛ وقد تقدم شرحه مستوفى في الديات في " باب القسامة " ويأتي
بهذا اللفظ في " باب كتابة الحاكم إلى عماله " بعد أحد وعشرين بابا.
قوله: "وقال الزهري في الشهادة على المرأة من الستر" أي من ورائه. قوله:
"إن عرفتها فاشهد" وصله أبو بكر بن أبي شيبة من طريق جعفر بن برقان عن
الزهري بنحوه، ومقتضاه أنه لا يشترط أن يراها حالة الإشهاد بل يكفي أن يعرفها بأي
طريق فرض، وفي ذلك خلاف أشير إليه في " كتاب الشهادات". قوله: "لما
أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم" كان ذلك في سنة ست كما
تقدم بيانه في شرح حديث أبي سفيان الطويل المذكور في بدء الوحي. قوله: "قالوا
إنهم لا يقرءون كتابا إلا مختوما" لم أعرف اسم القائل بعينه. قوله:
"فاتخذ خاتما إلخ" تقدم شرحه مستوفى في أواخر اللباس، وجملة ما تضمنته
هذه الترجمة بآثارها ثلاثة أحكام: الشهادة على الخط، " وكتاب القاضي إلى
القاضي " والشهادة على الإقرار بما في الكتاب. وظاهر صنيع البخاري جواز جميع
ذلك، فأما الحكم الأول فقال ابن بطال: اتفق العلماء على أن الشهادة لا تجوز للشاهد
إذا رأى خطه إلا إذا تذكر تلك الشهادة، فإن كان لا يحفظها فلا يشهد، فإنه من شاء انتقش
خاتما ومن شاء كتب كتابا، وقد فعل مثله في أيام عثمان في قصة مذكورة في سبب قتله،
وقد قال الله تعالى :{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وأجاز
مالك الشهادة على الخط، ونقل ابن شعبان عن ابن وهب أنه قال: لا آخذ بقول مالك في
ذلك. وقال الطحاوي: خالف مالكا جميع الفقهاء في ذلك وعدوا قوله في ذلك شذوذا، لأن
الخط قد يشبه الخط، وليست شهادة على قول منه ولا معاينة. وقال محمد بن الحارث:
الشهادة على الخط خطأ، فقد قال مالك في رجل قال: سمعت فلانا يقول رأيت فلانا قتل
فلانا أو طلق امرأته أو قذف: لا يشهد على شهادته إلا أن أشهده. قال: فالخط أبعد من
هذا وأضعف، قال: والشهادة على الخط في الحقيقة استشهاد الموتى.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: لا يقضي في دهرنا بالشهادة على الخط، لأن
الناس قد أحدثوا ضروبا من الفجور. وقد قال مالك: يحدث للناس أقضية على نحو ما أحدثوا
من الفجور. وقد كان الناس فيما مضى يجيزون الشهادة على خاتم القاضي ثم رأى مالك أن
ذلك لا يجوز فهذه أقوال الجماعة من أئمة المالكية توافق الجمهور. وقال أبو علي
الكرابيسي في " كتاب أدب القضاء " له أجاز الشهادة على الخط قوم لا نظر
لهم، فإن الكتاب يشبهون الخط بالخط حتى يشكل ذلك على أعلمهم انتهى، وإذا كان هذا
في ذلك العصر فكيف بمن جاء بعدهم وهم أكثر مسارعة إلى الشر ممن مضى وأدق نظرا فيه
(13/144)
وأكثر هجوما عليه، وأما الحكم الثاني فقال ابن بطال: اختلفوا في " كتب القضاة " فذهب الجمهور إلى الجواز، واستثنى الحنفية الحدود، وهو قول الشافعي، والذي احتج به البخاري على الحنفية قوي لأنه لم يصر مالا إلا بعد ثبوت القتل قال: وما ذكره عن القضاة من التابعين من إجازة ذلك حجتهم فيه ظاهرة من الحديث، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى الملوك ولم ينقل أنه أشهد أحدا على كتابه. قال: ثم أجمع فقهاء الأمصار على ما ذهب إليه سوار وابن أبي ليلى من اشتراط الشهود لما دخل الناس من الفساد فاحتيط للدماء والأموال. وقد روى عبد الله بن نافع عن مالك قال: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتيم حتى أن القاضي ليكتب للرجل الكتاب، فما يزيد على ختمه فيعمل به. حتى اتهموا فصار لا يقبل إلا بشاهدين. وأما الحكم الثالث فقال ابن بطال: اختلفوا إذا أشهد القاضي شاهدين على ما كتبه ولم يقرأه عليهما ولا عرفهما بما فيه، فقال مالك: يجوز ذلك. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز لقوله تعالى :{وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} قال: وحجة مالك أن الحاكم إذا أقر أنه كتابه فالغرض من الشهادة عليه أن يعلم القاضي المكتوب إليه أن هذا " كتاب القاضي " إليه، وقد يثبت عند القاضي من أمور الناس ما لا يجب أن يعلمه كل أحد كالوصية إذا ذكر الموصي ما فرط فيه مثلا. قال: وقد أجاز مالك أيضا أن يشهدا على الوصية المختومة وعلى الكتاب المطوي، ويقولان للحاكم نشهد على إقراره بما في هذا الكتاب، والحجة في ذلك كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عماله من غير أن يقرأها على من حملها؛ وهي مشتملة على الأحكام والسنن. وقال الطحاوي: يستفاد من حديث أنس أن الكتاب إذا لم يكن مختوما فالحجة بما فيه قائمة لكونه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إليهم، وإنما اتخذ الخاتم لقولهم إنهم لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان مختوما، فدل على أن " كتاب القاضي " حجة مختوما كان أو غير مختوم. واختلف في الحكم بالخط المجرد كأن يرى القاضي خطه بالحكم فيطلب منه المحكوم له العمل به، فالأكثر ليس له أن يحكم حتى يتذكر الواقعة كما في الشاهد وهو قول الشافعي؛ وقيل: إن كان المكتوب في حرز الحاكم أو الشاهد منذ حكم فيه أو تحمل إلى أن طلب منه الحكم أو الشهادة جاز ولو لم يتذكر وإلا فلا، وقيل: إذا تيقن أنه خطه ساغ له الحكم والشهادة وإن لم يتذكر، والأوسط أعدل المذاهب وهو قول أبي يوسف ومحمد ورواية عن أحمد رجحها كثير من أتباعه، والأول قول مالك ورواية عن أحمد. قال ابن المنير: لم يتعرض الشارح لمقصود الباب لأن البخاري استدل على الخط بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الروم ولقائل أن يقول: إن مضمون " الكتاب " دعاؤهم إلى الإسلام وذلك أمر قد اشتهر لثبوت المعجزة والقطع بصدقه فيما دعا إليه، فلم يلزمهم بمجرد الخط فإنه عند القائل به إنما يفيد ظنا والإسلام لا يكتفي فيه بالظن إجماعا فدل على أن العلم حصل بمضمون الخط مقرونا بالتواتر السابق على الكتاب، فكان الكتاب كالتذكرة والتوكيد في الإنذار، مع أن حامل الكتاب قد يحتمل أن يكون اطلع على ما فيه وأمر بتبليغه. والحق أن العمدة على أمره المعلوم مع قرائن الحال المصاحبة لحامل الكتاب، ومسألة الشهادة على الخط مفروضة في الاكتفاء بمجرد الخط، قال: والفرق بين الشهادة على الخط وبين " كتاب القاضي إلى القاضي " في أن القائل بالأول أقل من القائل بالثاني تطرق الاحتمال في الأول وندوره في الثاني لبعد احتمال التزوير على القاضي ولا سيما حيث تمكن المراجعة، ولذلك شاع العمل به فيما بين القضاة ونوابهم والله أعلم.
(13/145)
16 - باب مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ ؟
(13/145)
وَقَالَ
الْحَسَنُ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لاَ يَتَّبِعُوا الْهَوَى وَلاَ
يَخْشَوْا النَّاسَ وَلاَ يَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ثُمَّ قَرَأَ
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ,
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا
نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} . وَقَرَأَ {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا
هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ
هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ
تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا, وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} بِمَا اسْتُحْفِظُوا: اسْتُوْدِعُوا مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ وَقَرَأَ {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي
الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ
شَاهِدِينَ, فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}
فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ وَلَوْلاَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ
أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ هَلَكُوا فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى
هَذَا بِعِلْمِهِ وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ
قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِي
مِنْهُنَّ خَصْلَةً كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ: أَنْ يَكُونَ فَهِمًا, حَلِيمًا, عَفِيفًا,
صَلِيبًا, عَالِمًا, سَئُولًا عَنْ الْعِلْمِ
قوله: "باب متى يستوجب الرجل القضاء" ؟ أي متى يستحق أن يكون قاضيا. قال
أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي في " كتاب آداب القضاء " له: لا أعلم
بين العلماء ممن سلف خلافا أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه
وعلمه وورعه، قارئا لكتاب الله، عالما بأكثر أحكامه، عالما بسنن رسول الله حافظا
لأكثرها، وكذا أقوال الصحابة، عالما بالوفاق والخلاف وأقوال فقهاء التابعين يعرف
الصحيح من السقيم يتبع في النوازل الكتاب فإن لم يجد فالسنن فإن لم يجد عمل بما
اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثم بالسنة ثم بفتوى أكابر
الصحابة عمل به؛ ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم والمشاورة لهم مع فضل وورع،
ويكون حافظا للسانه وبطنه وفوجه، فهما بكلام الخصوم، ثم لا بد أن يكون عاقلا مائلا
عن الهوى ثم قال: وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات،
ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم. وقال المهلب: لا يكفي في استحباب
القضاء أن يرى نفسه أهلا لذلك بل أن يراه الناس أهلا لذلك. وقال ابن حبيب عن مالك
" لا بد أن يكون القاضي عالما عاقلا". قال ابن حبيب فإن لم يكن علم فعقل
وورع، لأنه بالورع يقف وبالعقل يسأل، وهو إذا طلب العلم وجده وإذا طلب العقل لم
يجده. قال ابن العربي: واتفقوا على أنه لا يشترط أن يكون غنيا، والأصل قوله تعالى
:{وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ}
الآية. قال: والقاضي لا يكون في حكم الشرع إلا غنيا لأن غناه في بيت المال فإذا
منع من بيت المال واحتاج كان تولية من يكون غنيا أولى من تولية من يكون فقيرا،
لأنه يصير في مظنة من يتعرض لتناول ما لا يجوز تناوله قلت: وهذا قاله بالنسبة إلى
الزمان الذي كان فيه ولم يدرك زمانه هذا الذي صار من يطلب القضاء فيه يصرح بأن سبب
طلبه الاحتياج إلى ما يقوم بأوده، مع العلم بأنه لا يحصل له شيء من بيت المال.
واتفقوا على اشتراط الذكورية في القاضي إلا عن
(13/146)
الحنفية، واستثنوا الحدود، وأطلق ابن جرير، وحجة الجمهور الحديث الصحيح " ما أفلح قوم ولوا أمورهم امرأة " وقد تقدم؛ ولأن القاضي يحتاج إلى كمال الرأي ورأي المرأة ناقص ولا سيما في محافل الرجال. قوله: "وقال الحسن" هو البصري. قوله: "أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ولا يخشوا الناس" ولا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ثم قرأ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ - إلى - يَوْمَ الْحِسَابِ} وقرأ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ - إلى قوله - وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قلت: فأراد من آية {يَا دَاوُدُ} قوله: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وأراد من آية المائدة بقية ما ذكر وأطلق على هذه المناهي أمرا إشارة إلى أن النهي عن الشيء أمر بضده، ففي النهي عن الهوى أمر بالحكم بالحق، وفي النهي عن خشية الناس أمر بخشية الله، ومن لازم خشية الله الحكم بالحق، وفي النهي عن بيع آياته الأمر باتباع ما دلت عليه، وإنما وصف الثمن بالقلة إشارة إلى أنه وصف لازم له بالنسبة للعوض فإنه أغلى من جميع ما حوته الدنيا. قوله: "بما استحفظوا: استودعوا من كتاب الله الآية" ثبت هذا للمستملي، وهو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى :{مَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} أي بما استودعوا، استحفظته كذا استودعته إياه. قوله: "وقرأ" أي الحسن البصري المذكور " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إلى آخرها " رويناه موصلا في " حلية الأولياء لأبي نعيم " من رواية محمد بن إبراهيم الحافظ المعروف بمربع بموحدة ومهملة وزن محمد، قال حدثنا سعيد هو ابن سليمان الواسطي حدثنا أبو العوام هو عمران القطان عن قتادة عن الحسن وهو ابن أبي الحسن البصري فذكره، ومعنى أخذ الله على الحكام عهد إليهم. قوله: "فحمد سليمان ولم يلم داود، ولولا ما ذكر الله من أمر هذين" يعني داود وسليمان، وقوله: "لرأيت " في رواية الكشميهني: "لرويت أن القضاة هلكوا " يعني لما تضمنته الآيتان الماضيتان أن من لم يحكم بما أنزل الله كافر، فدخل في عمومه العامد والمخطئ، وكذا قوله تعالى :{إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يشمل العامد والمخطئ، فاستدل بالآية الأخرى في قصة الحرث أن الوعيد خاص بالعامد، فأشار إلى ذلك بقوله: "فإنه أثنى على هذا بعلمه " أي بسب علمه أي معرفته وفهمه وجه الحكم والحكم به، وعذر بفتح الذال المعجمة هذا باجتهاده. وروينا بعضه في تفسير ابن أبي حاتم وفي المجالسة لأبي بكر الدينوري وفي أمالي الصولي جميعا يزيد بعضهم على بعض من طريق حماد بن سلمة عن حميد الطويل قال: دخلنا مع الحسن على إياس ابن معاوية حين استقضى قال فبكى إياس وقال: يا أبا سعيد - يعني الحسن البصري المذكور يقولون: القضاة ثلاثة: رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، ورجل مال مع الهوى فهو في النار؛ ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة فقال الحسن: إن فيما قص الله عليك من نبأ سليمان ما يرد على من قال هذا وقرأ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ - إلى قوله – شَاهِدِينَ} قال: فحمد سليمان لصوابه ولم يذم داود لخطئه. ثم قال: إن الله أخذ على الحكام عهدا بأن لا يشتروا به ثمنا ولا يتبعوا فيه الهوى ولا يخشوا فيه أحدا، ثم تلا: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} إلى آخر الآية. قلت: والحديث الذي أشار إليه إياس أخرجه أصحاب السنن من حديث بريدة، ولكن عندهم الثالث قضى بغير علم، وقد جمعت طرقه في جزء مفرد، وليس في شيء منها أنه اجتهد فأخطأ، وسيأتي حكم من اجتهد فأخطأ بعد أبواب، واستدل بهذه القصة على أن للنبي أن يجتهد في الأحكام ولا ينتظر نزول الوحي، لأن داود عليه السلام على ما ورد اجتهد في المسألة المذكورة قطعا، لأنه لو كان قضى فيها بالوحي ما خص الله سليمان بفهمها دونه. وقد اختلف من أجاز للنبي أن يجتهد هل يجوز عليه الخطأ في اجتهاده؟ فاستدل من أجاز
(13/147)
ذلك بهذه القصة. وقد اتفق الفريقان على أنه لو أخطأ في اجتهاده لم يقر على الخطأ " وأجاب من منع الاجتهاد أنه ليس في الآية دليل على أن داود اجتهد ولا أخطأ، وإنما ظاهرها أن الواقعة اتفقت فعرضت على داود وسليمان فقضى فيها سليمان لأن الله فهمه حكمها، ولم يقض فيها داود بشيء، ويرد على من تمسك بذلك بما ذكره أهل النقل في صورة هذه الواقعة. وقد تضمن أثر الحسن المذكور أنهما جميعا حكما. وقد تعقب ابن المنير قول الحسن البصري، ولم يذم داود بأن فيه نقصا لحق، داود، وذلك أن الله تعالى قد قال: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} فجمعهما في الحكم والعلم، وميز سليمان بالفهم، وهو علم خاص زاد على العام بفصل الخصومة. قال: والأصح في الواقعة أن داود أصاب الحكم وسليمان أرشد إلى الصلح، ولا يخلو قوله تعالى :{وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} أن يكون عاما أو في واقعة الحرث فقط " وعلى التقديرين يكون أثنى على داود فيها بالحكم والعلم فلا يكون من قبيل عذر المجتهد إذا أخطأ، لأن الخطأ ليس حكما ولا علما وإنما هو ظن غير مصيب " وإن كان في غير الواقعة فلا يكون تعالى أخبر في هذه الواقعة بخصوصها عن داود بإصابة ولا خطأ، وغايته أنه أخبر بتفهيم سليمان ومفهومه لقب والاحتجاج به ضعيف فلا يقال فهمها سليمان دون داود، وإنما خص سليمان بالتفهيم لصغر سنه فيستغرب ما يأتي به. قلت: ومن تأمل ما نقل في القصة ظهر له أن الاختلاف بين الحكمين كان في الأولوية لا في العمد والخطأ، ويكون معنى قول الحسن " حمد سليمان " أي لموافقته الطري الأرجح " ولم يذم داود " لاقتصاره على الطريق، الراجح وقد وقع لعمر رضي الله عنه قريب مما وقع لسليمان، وذلك أن بعض الصحابة مات وخلف مالا له نماء وديونا، فأراد أصحاب الديون بيع المال في وفاء الدين لهم فاسترضاهم عمر بأن يؤخروا التقاضي حتى يقبضوا ديونهم من النماء ويتوفر لأيتام المتوفي أصل المال؛ فاستحسن ذلك من نظره. ولو أن الخصوم امتنعوا لما منعهم من البيع. وعلى هذا التفصيل يمكن تنزيل قصة أصحاب الحرث والغنم والله أعلم. وتقدم في أحاديث الأنبياء شرح القصة التي وقعت لداود وسليمان في المرأتين اللتين أخذ الذئب ابن إحداهما واختلاف حكم داود وسليمان في ذلك، وتوجيه حكم داود بما يقرب مما ذكر هنا في هذه القصة ووقعت لهما قصة ثالثة في التفرقة بين الشهود في قصة المرأة التي اتهمت بأنها تحمل على نفسها فشهد عليها أربعة بذلك، فأمر داود برجمها، فعمد سليمان وهو غلام فصور مثل قصتها بين الغلمان ثم فرق بين الشهود وامتحنهم فتخالفوا فدرأ عنها، ووقعت لهما رابعة في قصة المرأة التي صب في دبرها ماء البيض وهي نائمة، وقيل إنها زنت فأمر داود برجمها، فقال سليمان: يشوي ذلك الماء فإن اجتمع فهو بيض، وإلا فهو مني، فشوى فاجتمع. وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن مسروق قال: كان حرثهم عنبا نفشت فيه الغنم أي رعت ليلا، فقضى داود بالغنم لهم، فمروا على سليمان فأخبروه الخبر فقال سليمان: لا، ولكن أقضي بينهم أن يأخذوا الغنم فيكون لهم لبنها وصوفها ومنفعتها ويقوم هؤلاء على حرثهم، حتى إذا عاد كان ردوا عليهم غنمهم. وأخرجه الطبري من وجه آخر لين فقال: فيه عن مسروق عن ابن مسعود وأخرجه ابن مردويه والبيهقي من وجه آخر عن ابن مسعود وسنده حسن، وعن معمر عن قتادة: قضى داود أن يأخذوا الغنم، ففهمها الله سليمان فقال: خذوا الغنم فلكم ما خرج من رسلها وأولادها وصوفها إلى الحول. وأخرج عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث، فحكم سليمان بجزة الغنم وألبانها لأهل الحرث وعليهم رعايتها ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون كهيئة يوم أكل، ثم يدفع لأهله ويأخذون غنمهم. وأخرج الطبري القصة من طريق علي بن
(13/148)
زيد عن خليفة عن ابن عباس نحوه، ومن طريق قتادة قال: ذكر لنا فذكر نحوه. ومن طريق العوفي عن عطية عن ابن عباس ولكن قال فيها: قال سليمان إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه كل عام، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وصوفها حتى يستوفي ثمن حرثه، فقال داود: قد أصبت وأخرج ابن مردويه من طريق الحسن عن الأحنف بن قيس نحو الأول. قال ابن التين: قيل علم سليمان أن قيمة ما أفسدت الغنم مثل ما يصير إليهم من لبنها وصوفها. وقال أيضا: ورد في قصة ناقة البراء التي أفسدت في حائط أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وإن الذي أفسدت المواشي بالليل ضمانه على أهلها أي ضمان قيمته، هذا خلاف شرع سليمان قال: فلو تراضيا بالدفع " عن قيمة ما أفسدت فالمشهور أنه لا يجوز حتى يعرفا القيمة " قلت: ورواية العوفي إن كانت محفوظة ترفع الإشكال، وإلا فالجواب ما نقل ابن التين أولا، ولا يكون بين الشرعين مخالفة. قوله: "وقال مزاحم" بضم الميم وتخفيف الزاي وبعد الألف حاء مهملة "ابن زفر" بزاي وفاء وزن عمر. هو الكوفي، ويقال مزاحم بن أبي مزاحم ثقة أخرج له مسلم. قوله: "قال لنا عمر بن عبد العزيز" أي الخليفة المشهور العادل. قوله: "خمس إذا أخطأ القاضي منهن خصلة" بضم الخاء المعجمة وتشديد الطاء، كذا لأبي ذر عن غير الكشميهني، وله عنه " خصلة " بفتح أوله وسكون الصاد المهملة، وكذا في رواية الباقين وهما بمعنى. قوله: "وصمة" بفتح الواو وسكون الصاد المهملة أي عيبا. قوله: "أن يكون" تفسير لحال القاضي المذكور. قوله: "فهما" بفتح الفاء وكسر الهاء وهو من صيغ المبالغة، ويجوز تسكين الهاء أيضا، ووقع في رواية المستملي: "فقيها " والأول أولى لأن خصلة الفقه داخلة في خصلة العلم وهي مذكورة بعد. قوله: "حليما" أي يغضي على من يؤذيه ولا يبادر إلى الانتقام ولا ينافي ذلك قوله بعد ذلك " صليبا " لأن الأول في حق نفسه والثاني في حق غيره. قوله: "عفيفا" أي يعف عن الحرام فإنه إذ كان عالما ولم يكن عفيفا كان ضرره أشد من ضرر الجاهل. قوله: "صليبا" بصاد مهملة وباء موحدة من الصلابة بوزن عظيم، أي قويا شديدا يقف عند الحق ولا يميل مع الهوى، ويستخلص حق المحق من المبطل ولا يجابيه. قوله: "عالما سئولا عن العلم" هي خصلة واحدة أي يكون مع ما يستحضره من العلم مذاكرا له غيره، لاحتمال أن يظهر له ما هو أقوى مما عنده. وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور في السنن عن عباد بن عباد ومحمد بن سعد في الطبقات عن عفان كلاهما قال: "حدثنا مزاحم بن زفر قال قدمنا على عمر بن عبد العزيز في خلافته وفد من أهل الكوفة، فسألنا عن بلادنا وقاضينا وأمره. وقال: خمس إذا أخطأ " ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمر بن عبد العزيز بلفظ آخر أخرجه أيضا محمد بن سعد في الطبقات عن محمد ابن عبد الله الأسدي هو أحمد الزبيري عن سفيان هو الثوري عن يحيى بن سعيد عن عمر بن عبد العزيز قال: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى يكون فيه خمس خصال: "عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الرأي، لا يبالي، بملامة الناس " وجاء في استحباب الاستشارة آثار جياد. وأخرج يعقوب بن سفيان بسند جيد عن الشعبي قال: من سره أن يأخذ بالوثيقة من القضاء فليأخذ بقضاء عمر، فإنه كان يستشير.
(13/149)
17 -
باب رِزْقِ الْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي
يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا
وَقَالَتْ عَائِشَةُ يَأْكُلُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ وَأَكَلَ أَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ
(13/149)
ق7163
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ نَمِرٍ "أَنَّ حُوَيْطِبَ
بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّعْدِيِّ
أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِي خِلاَفَتِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ
أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِيَ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالًا فَإِذَا
أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا فَقُلْتُ بَلَى فَقَالَ عُمَرُ فَمَا تُرِيدُ
إِلَى ذَلِكَ قُلْتُ إِنَّ لِي أَفْرَاسًا وَأَعْبُدًا وَأَنَا بِخَيْرٍ وَأُرِيدُ
أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالَ عُمَرُ لاَ تَفْعَلْ
فَإِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِي أَرَدْتَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ
إِلَيْهِ مِنِّي حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا فَقُلْتُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ
إِلَيْهِ مِنِّي, فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ
وَتَصَدَّقْ بِهِ فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ
وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ وَإِلاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ
7164 - وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ
أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا فَقُلْتُ
أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ
وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَالاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ
نَفْسَكَ
قوله: "باب رزق الحاكم والعاملين عليها" هو من إضافة المصدر إلى
المفعول، والرزق ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين وقال
المطرزي: الرزق ما يخرجه الإمام شهر للمرتزقة من بيت المال، والعطاء ما يخرجه عام
ويحتمل أن يكون قوله: "والعاملين عليها " عطفا على الحاكم أي ورزق
العاملين عليها أي على الحكومات، ويحتمل أن يكون أورد الجملة على الحكاية يريد
الاستدلال على جواز أخذ الرزق بآية الصدقات وهم من جملة المستحقين لها لعطفهم على
الفقراء والمساكين بعد قوله: {إنما الصدقات} قال الطبري: ذهب الجمهور إلى جواز أخذ
القاضي الأجرة على الحكم لكونه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه، غير أن طائفة من
السلف كرهت ذلك ولم يحرموه مع ذلك. وقال أبو علي الكرابيسي: لا بأس للقاضي أن يأخذ
الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبة من الصحابة ومن بعدهم، وهو قول فقهاء
الأمصار لا أعلم بينهما اختلافا، وقد كره ذلك قوم منهم مسروق ولا أعلم أحدا منهم
حرمه. وقال المهلب: وجه الكراهة أنه في الأصل محمول على الاحتساب لقوله تعالى
لنبيه {قل لا أسألكم عليه أجرا} فأرادوا أن يجري الأمر فيه على الأصل الذي وضعه
الله لنبيه، ولئلا يدخل فيه من لا يستحقه فيتحيل على أموال الناس. وقال غيره: أخذ
الرزق على القضاء إذا كانت جهة الأخذ من الحلال جائزا إجماعا، ومن تركه إنما تركه
تورعا، وأما إذا كانت هناك شبهة فالأولى الترك جزما، ويحرم إذا كان المال يؤخذ
لبيت المال من غير وجهه، واختلف إذا كان الغالب حراما: وأما من غير بيت المال ففي
جواز الأخذ من المتحاكمين خلاف، ومن أجازه شرط فيه شروطا لا بد منها، وقد جر القول
بالجواز إلى إلغاء الشروط، وفشا ذلك في هذه الأعصار بحيث تعذر إزالة ذلك والله
المستعان. قوله: "وكان شريح القاضي يأخذ على القضاء أجرا" هو شريح بن
الحارث بن قيس النخعي الكوفي قاضي الكوفة، ولاه عمر ثم قضى لمن بعده بالكوفة دهرا
طويلا،
(13/150)
وله مع علي أخبار في ذلك. وهو ثقة مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام ويقال إن له صحبة، مات قبل الثمانين وقد جاوز المائة. وهذا الأثر وصله عبد الرزاق وسعيد ابن منصور من طريق مجالد عن الشعبي بلفظ: "كان مسروق لا يأخذ على القضاء أجرا، وكان شريح يأخذ". قوله: "وقالت عائشة يأكل الوصي بقدر عمالته" قلت: وصله ابن أبي شيبة من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله تعالى:َ {مَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قالت أنزل الله ذلك في والي مال اليتيم يقوم عليه بما يصلحه إن كان محتاجا أن يأكل منه. قوله: "وأكل أبو بكر وعمر" أما أثر أبي بكر فوصله أبو بكر بن أبي شيبة من طريق ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: "لما استخلف أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين " الحديث وفيه قصة عمر وقد أسنده البخاري في البيوع من هذا الوجه، وبقيته " فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ويحترف للمسلمين فيه: "وفيه: "أن عمر لما ولى أكل هو وأهله من المال، واحترف في مال نفسه". وأما أثر عمر فوصله ابن أبي شيبة وابن سعد من طريق حارثة بن مضرب بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء بعدها موحدة قال: قال عمر " إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم، إن استغنيت عنه تركت وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف " وسنده صحيح. وأخرج الكرابيسي بسند صحيح عن الأحنف قال: "كنا بباب عمر - فذكر قصة وفيها - فقال عمر: أنا أخبركم بما أستحل: ما أحج عليه وأعتمر، وحلتي الشتاء والقيظ، وقوتي وقوت عيالي كرجل من قريش ليس بأعلاهم ولا أسفلهم " ورخص الشافعي وأكثر أهل العلم، وعن أحمد: لا يعجبني، وإن كان فبقدر عمله مثل ولي اليتيم، واتفقوا على أنه لا يجوز الاستئجار عليه. قوله: "ابن أخت نمر" بفتح النون وكسر الميم بعدها راء، هو الصحابي المشهور، تقدم ذكره مرارا من أقربها في الحدود، وأدرك من زمان النبي صلى الله عليه وسلم ست سنين وحفظ عنه، وهو من أواخر الصحابة موتا، وآخر من مات منهم بالمدينة، وقيل محمود بن الربيع، وقيل محمود بن لبيد. قوله: "إن حويطب بن عبد العزى" أي ابن أبي قيس بن عبد شمس القرشي العامري، كان من أعيان قريش. وأسلم في الفتح، وكان حميد الإسلام، وكانت وفاته بالمدينة سنة أربع وخمسين من الهجرة وهو ابن مائة وعشرين سنة؛ وهو ممن أطلق عليه أنه عاش ستين في الجاهلية وستين في الإسلام تجوزا، ولا يتم ذلك تحقيقا لأنه إن أريد بزمان الإسلام أول البعثة فيكون عاش فيها سبعا وستين، أو الهجرة فيكون عاش فيه أربعا وخمسين، أو زمن إسلامه هو فيكون ستا وأربعين، والأول أقرب إلى الإطلاق على طريقة جبر الكسر تارة وإلغائه أخرى. قوله: "أن عبد الله بن السعدي" هو عبد الله بن وقدان بن عبد شمس، ويقال اسم أبيه عمر ووقدان جده " ويقال قدامة بدل وقدان، وعبد شمس هو ابن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر " وهو أيضا من بني عامر بن لؤي من قريش، وإنما قيل له ابن السعدي لأن أباه كان مسترضعا في بني سعد " ومات عبد الله بالمدينة سنة سبع وخمسين بعد حويطب الراوي عنه بثلاث سنين، ويقال بل مات في خلافة عمر والأول أقوى " وليس له في البخاري إلا هذا الحديث الواحد ووقع عند مسلم في رواية الليث عن بكير بن الأشج عن بسر بن سعيد عن ابن الساعدي، وخالفه عمرو بن الحارث عن بكير فقال: "عن ابن السعدي " وهو المحفوظ. "تنبيه": أخرج مسلم أيضا هذا الحديث من طريق عمرو بن الحارث عن الزهري عن السائب بن يزيد عن عبد الله بن السعدي عن عمر، فلم يسق لفظه بل أحال على سياق رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وسقط من السند حويطب بن عبد
(13/151)
العزى بين السائب وابن السعدي، ووهم المزي في " الأطراف " تبعا لخلف فأثبت حويطب بن عبد العزى في السند في رواية مسلم، وزعم أنه وقع في روايته: "ابن الساعدي " بزيادة ألف " وليس ذلك في شيء من نسخ صحيح مسلم لا إثبات حويطب ولا الألف في الساعدي " وقد نبه على سقوط حويطب من سند مسلم أبو علي الجياني والمازري وعياض وغيرهم، ولكنه ثابت في رواية عمرو ابن الحارث في غير كتاب مسلم أخرجه أبو نعيم في المستخرج، ووقع عند ابن خزيمة من طريق سلامة عن عقيل عن ابن شهاب " حدثني السائب أن حويطبا أخبره أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخبره " فذكره، وهو وهم من سلامة قاله الرهاوي. قوله: "أنه قدم على عمر في خلافته فقال له عمر: ألم أحدث" بضم أوله وفتح المهملة وتشديد الدال. قوله: "أنك تلي من أعمال الناس" أي الولايات من إمرة أو قضاء، ووقع في رواية بسر بن سعيد عند مسلم: "استعملني عمر على الصدقة " فعين الولاية. قوله: "العمالة" بضم المهملة وتخفيف الميم أي أجرة العمل، وأما العمالة بفتح العين فهي نفس العمل. قوله: "ما تريد إلى ذلك" أي ما غاية قصدك بهذا الرد. وقد فسره بقوله: "وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين". قوله: "فقلت: أن لي أفراسا" بفاء ومهملة جمع فرس. قوله: "وأعبدا" للأكثر بضم الموحدة، وللكشميهني بمثناة بدل الموحدة جمع عتيد وهو المال المدخر، وقد تقدم تفسيره في " كتاب الزكاة". ووقع عند ابن حبان في صحيحه من طريق قبيصة بن ذؤيب أن عمر أعطى ابن السعدي ألف دينار، فذكر بقية الحديث نحو الذي هنا، ورويناه الجزء الثالث من " فوائد أبي بكر النيسابوري " الزيادات من طريق عطاء الخراساني عن عبد الله بن السعدي قال: "قدمت على عمر فأرسل إلي ألف دينار، فرددتها وقلت أنا عنها غني " فذكره أيضا بنحوه، واستفيد منه قدر العمالة المذكورة. قوله: "فإني كنت أردت الذي أردت" بالفتح على الخطاب. قوله: "يعطيني العطاء" أي المال الذي يقسمه الإمام في المصالح، ووقع في رواية بسر بن سعيد عند مسلم: "فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني بتشديد الميم أي أعطاني أجرة عملي فقلت مثل قولك". قوله: "فأقول أعطه أفقر إليه مني" في رواية سالم " فأقول يا رسول الله " والباقي سواء. قال الكرماني: جاز الفصل بين أفعل التفضيل وبين كلمة " من " لأن الفاصل ليس أجنبيا بل هو ألصق به من الصلة لأنه يحتاج إليه بحسب جوهر اللفظ، والصلة محتاج إليها بحسب الصيغة. قوله: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذه فتموله وتصدق به" في رواية سالم بن عبد الله " أو تصدق به " بلفظ: "أو " بدل الواو، وهو أمر إرشاد على الصحيح. قال ابن بطال: أشار صلى الله عليه وسلم على عمر بالأفضل، لأنه وإن كان مأجورا بإيثاره لعطائه عن نفسه من هو أفقر إليه منه فإن أخذه للعطاء ومباشرته للصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدل على عظيم فضل الصدقة بعد التمول لما في النفوس من الشح على المال. قوله: "غير مشرف" بضم أوله وسكون المعجمة وكسر الراء بعدها فاء أي متطلع إليه، يقال أشرف الشيء علاه، وقد تقدم بيانه في " كتاب الزكاة " في " باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة". قوله: "ولا سائل" أي طالب، قال النووي: فيه النهي عن السؤال، وقد اتفق العلماء على النهي عنه لغير الضرورة، واختلف في مسألة القادر على الكسب والأصح التحريم، وقيل يباح بثلاث شروط: أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسئول، فإن فقد شرط من هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق. قوله: "فخذه وإلا فلا تتبعه نفسك" أي إن لم يجيء إليك فلا تطلبه بل اتركه وليس المراد منعه من الإيثار، بل لأن أخذه ثم مباشرته الصدقة بنفسه أعظم لأجره كما تقدم. قال النووي: هذا الحديث منقبة
(13/152)
لعمر
وبيان فضله وزهده وإيثاره. قلت: وكذا لابن السعد فقد طابق فعله فعل عمر سواء، وفي
سند الزهري عن السائب أربعة من الصحابة في نسق السائب وحويطب وابن السعدي وعمر،
وقد أشرت إلى ذلك في الباب المذكور من " كتاب الزكاة " وذكرت أن مسلما
أخرجه من طريق عمرو بن الحارث عن الزهري، وأوهم كلام المزي في " الأطراف
" أن رواية شعيب وعمرو بن الحارث متفقتان، وليس كذلك فإن حويطب بن عبد العزى
سقط من رواية عمرو بن الحارث عند مسلم، وقد وقعت المقارضة لمسلم والبخاري في هذين
الحديثين الرباعيين، فأورد مسلم الرباعي الذي في سنده أربع نسوة بتمام الأربع،
وأورده البخاري بنقصان واحدة تقدم في أوائل " كتاب الفتن " وأورد
البخاري الرباعي الذي في سنده أربعة رجال بتمام الأربعة، وأورده مسلم بنقصان رجل،
وهذا من لطائف ما اتفق. وقد وافق شعيبا على زيادة حويطب في السند الزبيدي عند
النسائي وسفيان بن عيينة عنده ومعمر عند الحميدي في مسنده ثلاثتهم عن الزهري، وقد
جزم النسائي وأبو علي بن السكن بأن السائب لم يسمعه من ابن السعدي، قال النووي:
روينا عن الحافظ عبد القادر الرهاوي في كتابه الرباعيات أن الزبيدي وشعيب بن حمزة
وعقيل بن خالد ويونس بن يزيد وعمرو ابن الحارث رووه عن الزهري بذكر حويطب، ثم ذكر
طوقهم بأسانيد مطولة. قال: ورواه النعمان بن راشد عن الزهري فأسقط ذكر حويطب،
واختلف على معمر فرواه ابن المبارك عنه كالنعمان، ورواه سفيان بن عيينة وموسى بن
أعين عنه كالجماعة، ورواه عبد الرزاق عن معمر فأسقط اثنين جعله عن السائب عن عمر،
قال: والصحيح الأول. قلت: ومقتضاه أن يكون سقوط حويطب من رواية مسلم وهما منه أو
من شيخه، وإلا فذكره ثابت من رواية غيره كما تقدم والله أعلم. وقد نظم بعضهم السند
المذكور في بيتين فقال:
وفي العمالة إسناد بأربعة ... من الصحابة فيه عنهم ظهرا
السائب بن زيد عن حويطب ... عبد الله حدثه بذلك عن عمرا
قوله: "وعن الزهري قال حدثني سالم" هو موصول بالسند المذكور أولا إلى
الزهري، وقد أخرج النسائي عن عمرو بن منصور عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه
الحديثين المذكورين بالسندين المذكورين إلى عمر، وأما مسلم فإنه لما أخرجه من طريق
يونس عن ابن شهاب ساقه على رواية سالم عن أبيه ثم عقبه برواية ابن شهاب عن السائب
بن يزيد فقال مثل ذلك، وليس بين السياقين تفاوت إلا في قصة ابن السعدي عن عمر فلم
يسقها مسلم وإلا ما بينته، وزاد سالم " فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدا
شيئا ولا يرد شيئا أعطيه " قلت: وهذا بعمومه ظاهر في أنه كان لا يرد ما فيه
شبهة، وقد ثبت أنه كان يقبل هدايا المختار بن أبي عبيد الثقفي وهو أخو صفية زوج
ابن عمر بنت أبي عبيد، وكان المختار غلب على الكوفة وطرد عمال عبد الله ابن الزبير
وأقام أميرا عليها مدة في غير طاعة خليفة وتصرف فيما يتحصل منها من المال على ما
يراه، ومع ذلك فكان ابن عمر يقبل هداياه وكان مستنده أن له حقا في بيت المال فلا
يضره على أي كيفية وصل إليه، أو كان يرى أن التبعة في ذلك على الآخذ الأول، أو أن
للمعطى المذكور مالا آخر في الجملة وحقا ما في المال المذكور، فلما لم يتميز
وأعطاه له عن طيب نفس دخل في عموم قوله: "ما أتاك من هذا المال من غير سؤال
ولا استشراف فخذه " فرأى أنه لا يستثني من ذلك إلا ما علمه
(13/153)
حراما محضا قال الطبري: في حديث عمر الدليل الواضح على أن لمن شغل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك كالولاة والقضاة وجباة الفيء وعمال الصدقة وشبههم، لإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر العمالة على عمله، وذكر ابن المنذر أن زيد بن ثابت كان يأخذ الأجر على القضاء، واحتج أبو عبيد في جواز ذلك بما فرض الله للعاملين على الصدقة وجعل لهم منها حقا لقيامهم وسعيهم فيها، وحكى الطبري عن العلماء هل الأمر في قوله في هذا الحديث: "خذه وتموله " للوجوب أو للندب، ثالثها إن كانت العطية من السلطان فهي حرام أو مكروهة أو مباحة، وإن كانت من غيره فمستحبة. قال النووي: والصحيح أنه إن غلب الحرام حرمت، وكذا إن كان مع عدم الاستحقاق وإن لم يغلب الحرام وكان الآخذ مستحقا فيباح، وقيل يندب في عطية السلطان دون غيره والله أعلم. وقال ابن المنذر: وحديث ابن السعدي حجة في جواز أرزاق القضاة من وجوهها. وقال ابن بطال: في الحديث أن أخذ ما جاء من المال عن غير سؤال أفضل من تركه لأنه يقع في إضاعة المال، وقد ثبت النهي عن ذلك. وتعقبه ابن المنير بأنه ليس من الإضاعة في شيء لأن الإضاعة التبذير بغير وجه صحيح، وأما الترك توفيرا على المعطى تنزيها عن الدنيا وتحرجا أن لا يكون قائما بالوظيفة على وجهها فليس من الإضاعة. ثم قال: والوجه في تعليل الأفضلية أن الآخذ أعون في العمل وألزم للنصيحة من التارك، لأنه إن لم يأخذ كان عند نفسه متطوعا بالعمل فقد لا يجد جد من أخذ ركونا إلى أنه غير ملتزم بخلاف الذي يأخذ فإنه يكون مستشعرا بأن العمل واجب عليه فيجد جد فيها وقال ابن التين: وفي هذا الحديث كراهة أخذ الرزق على القضاء مع الاستغناء وأن المال طيبا، كذا قال: قال وفيه جواز الصدقة بما لم يقبض إذا كان للمتصدق واجبا، ولكن قوله: "خذه فتموله وتصدق به " يدل على أن التصدق به إنما يكون بعد القبض، لأن المال إذا ملكه الإنسان وتصدق به طيبة به نفسه كان أفضل من تصدقه به قبل قبضه، لأن الذي يحصل بيده هو أحرص عليه مما لم يدخل في يده، فإن استوت عند أحد الحالان فمرتبته أعلى، ولذلك أمره بأخذه وبين له جواز تموله إن أحب أو التصدق به، قال: وذهب بعض الصوفية إلى أن المال إذا جاء بغير سؤال فلم يقبله فإن الراد له يعاقب بحرمان العطاء. وقال القرطبي في " المفهم " فيه ذم التطلع إلى ما في أيدي الأغنياء والتشوف إلى فضوله وأخذه منهم، وهي حالة مذمومة تدل على شدة الرغبة في الدنيا والركون إلى التوسع فيها، فنهى الشارع عن الأخذ على هذه الصورة المذمومة قمعا للنفس ومخالفة لها في هواها انتهى. وتقدمت سائر مباحثه وفوائده في الباب المذكور من " كتاب الزكاة " ولله الحمد.
(13/154)
18 -
باب مَنْ قَضَى وَلاَعَنَ فِي الْمَسْجِدِ وَلاَعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَضَى شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ
وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَكَانَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ بْنُ
أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِي الرَّحَبَةِ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ
7165 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ
الزُّهْرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ شَهِدْتُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَأَنَا
ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا"
7166 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ
جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَهْلٍ أَخِي بَنِي سَاعِدَةَ
(13/154)
أَنَّ
رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا
أَيَقْتُلُهُ فَتَلاَعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ
قوله: "باب من قضى ولاعن في المسجد" الظرف يتعلق بالأمرين فهو من تنازع
الفعلين، ويحتمل أن يتعلق بقضى لدخول " لاعن " فيه فإنه من عطف الخاص
على العام، ومعنى قوله: "ولاعن " حكم بإيقاع التلاعن بين الزوجين فهو
مجاز، ولا يشترط أن يباشر تلقينهما ذلك بنفسه. قوله: "ولاعن عمر عند منبر
النبي صلى الله عليه وسلم" هذا أبلغ في التمسك به على جواز اللعان في المسجد،
وإنما خص عمر المنبر لأنه كان يرى التحليف عند المنبر أبلغ في التغليظ وورد في
التحليف عنده حديث جابر " لا يحلف عند منبري " الحديث، ويؤخذ منه
التغليظ في الأيمان بالمكان، وقاسوا عليه الزمان، وإنما كان كذلك مع أن المحلوف به
عظيم لأن للمعظم الذي يشاهده الحالف تأثيرا في التوقي عن الكذب. قوله: "وقضى
مروان على زيد بن ثابت باليمين عند المنبر" في رواية الكشميهني: "على
المنبر " وهذا طرف من أثر مضى في " كتاب الشهادات " وذكرت هناك من
وصله، وهو في الموطأ ولفظه: "على المنبر " كما في رواية الكشميهني.
قوله: "وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد" أما أثر شريح فوصله
ابن أبي شيبة ومحمد بن سعد من طريق إسماعيل بن أبي خالد قال: "رأيت شريحا
يقضي في المسجد وعليه برنس خز " وقال عبد الرزاق " أنبأنا معمر عن الحكم
بن عتيبة أنه رأى شريحا يقضي في المسجد". وأما أثر الشعبي فوصله سعيد بن عبد
الرحمن المخزومي في " جامع سفيان " من طريق عبد الله بن شبرمة "
رأيت الشعبي جلد يهوديا في قرية في المسجد " وكذا أخرجه عبد الرزاق عن سفيان.
وأما أثر يحيى بن يعمر فوصله ابن أبي شيبة من رواية عبد الرحمن بن قيس قال:
"رأيت يحيى بن يعمر يقضي في المسجد " وأخرج الكرابيسي في " أدب
القضاء " من طريق أبي الزناد قال: "كان سعد بن إبراهيم وأبو بكر بن محمد
بن عمرو بن حزم وابنه ومحمد بن صفوان ومحمد بن مصعب بن شرحبيل يقضون في مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "وذكر ذلك جماعة آخرون. قوله: "وكان الحسن
وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجا من المسجد" الرحبة بفتح الراء والحاء
المهملة بعدها موحدة هي بناء يكون أمام باب المسجد غير منفصل عنه، هذه رحبة
المسجد، ووقع فيها الاختلاف، والراجح أن لها حكم المسجد فيصح فيها الاعتكاف وكل ما
يشترط له المسجد، فإن كانت الرحبة منفصلة فليس لها حكم المسجد. وأما الرحبة بسكون
الحاء فهي مدينة مشهورة. والذي يظهر من مجموع هذه الآثار أن المراد بالرحبة هنا
الرحبة المنسوبة للمسجد، فقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق المثنى ابن سعيد قال:
"رأيت الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في المسجد " وأخرج الكرابيسي في
" أدب القضاء " من وجه آخر أن الحسن وزرارة وإياس بن معاوية كانوا إذا
دخلوا المسجد للقضاء صلوا ركعتين قبل أن يجلسوا. ثم ذكر حديث سهل بن سعد في قصة
المتلاعنين مختصرا من طريقين. رواية سفيان وهو ابن عيينة قال: قال الزهري "
عن سهل بن سعد " فذكره مختصرا ولفظه: "شهدت المتلاعنين وأنا ابن خمس
عشرة سنة فرق بينهما " وقد أخرجه في كتاب اللعان مطولا وتقدمت فوائده هناك:
رواية ابن جريج أخبرني ابن شهاب وهو الزهري فذكره مختصرا أيضا ولفظه: "أن
رجلا من الأنصار جاء " فذكره إلى قوله: "أيقتله فتلاعنا في المسجد
" وقد تقدم مطولا وشرحه هناك أيضا. قال ابن بطال: استحب القضاء في المسجد
طائفة. وقال مالك
(13/155)
هو الأمر القديم، لأنه يصل إلى القاضي فيه المرأة والضعيف، وإذا كان في منزله لم يصل إليه الناس لإمكان الاحتجاب قال: وبه قال أحمد وإسحاق: وكرهت ذلك طائفة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا تقضي في المسجد فإنه يأتيك الحائض والمشرك. وقال الشافعي: أحب إلي أن يقضى في غير المسجد لذلك. وقال الكرابيسي: كره بعضهم الحكم في المسجد من أجل أنه قد يكون الحكم بين مسلم ومشرك فيدخل المشرك المسجد، قال ودخول المشرك المسجد مكروه، ولكن الحكم بينهم لم يزل من صنيع السلف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره. ثم ساق في ذلك آثارا كثيرة. قال ابن بطال: وحديث سهل بن سعد حجة للجواز، وإن كان الأولى صيانة المسجد. وقد قال مالك: كان من مضى يجلسون في رحاب المسجد إما في موضع الجنائز وإما في رحبة دار مروان، قال: وإني لأستحب ذلك في الأمصار ليصل إليه اليهودي والنصراني والحائض والضعيف، وهو أقرب إلى التواضع وقال ابن المنير لرحبة المسجد حكم المسجد إلا إن كانت منفصلة عنه والذي يظهر أنها كانت منفصلة عنه، ويمكن أن يكون جلوس القاضي في الرحبة المتصلة وقيام الخصوم خارجا عنها أو في الرحبة المتصلة، وكأن التابعي المذكور يرى أن الرحبة لا تعطى حكم المسجد ولو اتصلت بالمسجد، وهو خلاف مشهور، فقد وقع للشافعية في حكم رحبة المسجد اختلاف في التعريف مع اتفاقهم على صحة صلاة من في الرحبة المتصلة بالمسجد بصلاة من في المسجد قال: والفرق بين الحريم والرحبة أن لكل مسجد حريما وليس لكل مسجد رحبة، فالمسجد الذي يكون أمامه قطعة من البقعة هي الرحبة وهي التي لها حكم المسجد. والحريم هو الذي يحيط بهذه الرحبة وبالمسجد، وإن كان سور المسجد محيطا بجميع البقعة فهو مسجد بلا رحبة ولكن له حريم كالدور انتهى ملخصا. وسكت عما إذا بنى صاحب المسجد قطعة منفصلة عن المسجد هل هي رحبة تعطى حكم المسجد؟ وعما إذا كان في الحائط القبلي من المسجد رحاب بحيث لا تصح صلاة من صلى فيها خلف إمام المسجد هل تعطى حكم المسجد، والذي يظهر أن كلا منهما يعطى حكم المسجد فتصح الصلاة في الأولى ويصح الاعتكاف في الثانية، وقد يفرق حكم الرحبة من المسجد في جواز اللغط ونحوه فيها بخلاف المسجد مع إعطائها حكم المسجد في الصلاة فيها، فقد أخرج مالك في الموطأ من طريق سالم بن عبد الله بن عمر قال: "بنى عمر إلى جانب المسجد رحبة فسماها البطحاء فكان يقول: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوتا فليخرج إلى هذه الرحبة".
(13/156)
19 -
باب مَنْ حَكَمَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حَدٍّ أَمَرَ أَنْ
يُخْرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيُقَامَ
وَقَالَ عُمَرُ أَخْرِجَاهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ
7167 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ
فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا قَالَ أَبِكَ جُنُونٌ
قَالَ لاَ قَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي
مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ
بِالْمُصَلَّى رَوَاهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الرَّجْمِ
(13/156)
قوله: "باب من حكم في المسجد حتى إذا أتى على حد أمر أن يخرج من المسجد فيقام" كأنه يشير بهذه الترجمة إلى من خص جواز الحكم في المسجد بما إذا لم يكن هناك شيء يتأذى به من في المسجد أو يقع به للمسجد نقص كالتلويث. قوله: "وقال عمر أخرجاه من المسجد وضربه، ويذكر عن على نحوه" أما أثر عمر فوصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق كلاهما من طريق طارق بن شهاب قال: "أتي عمر بن الخطاب برجل في حد فقال: أخرجاه من المسجد ثم اضرباه " وسنده على شرط الشيخين، وأما أثر علي فوصله ابن أبي شيبة من طريق ابن معقل - وهو بمهملة ساكنة وقاف مكسورة - أن رجلا جاء إلى عمر فساره فقال: يا قنبر أخرجه من المسجد فأقم عليه الحد، وفي سنده من فيه مقال. ثم ذكر حديث أبي هريرة في قصة الذي أقر " أنه زنى فأعرض عنه وفيه أبك جنون؟ قال: لا. قال: اذهبوا به فارجموه " وهذا القدر هو المراد في الترجمة ولكنه لا يسلم من خدش لأن الرجم يحتاج إلى قدر زائد من حفر وغيره مما لا يلائم المسجد فلا يلزم من تركه فيه ترك إقامة غيره من الحدود، وقد تقدم شرحه في " باب رجم المحصن " من " كتاب الحدود". قوله: "رواه يونس ومعمر وابن جريج عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر" يريد أنهم خالفوا عقيلا في الصحابي، فإنه جعل أصل الحديث من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وقول ابن شهاب " أخبرني من سمع جابر بن عبد الله: كنت فيمن رجمه بالمصلى " وهؤلاء جعلوا الحديث كله عن جابر، ورواية معمر وصلها المؤلف في الحدود، وكذلك رواية يونس، وأما رواية ابن جريج فوصلها وتقدمت الإشارة إليها هناك أيضا حيث قال عقب رواية معمر " لم يقل يونس وابن جريج فصلى عليه " وتقدم شرحه مستوفى هناك ولله الحمد. قال ابن بطال: ذهب إلى المنع من إقامة الحدود في المسجد الكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق، وأجازه الشعبي وابن أبي ليلى. وقال مالك: لا بأس بالضرب بالسياط اليسيرة، فإذا كثرت الحدود فليكن ذلك خارج المسجد. قال ابن بطال: وقول من نزه المسجد عن ذلك أولى. وفي الباب حديثان ضعيفان في النهي عن إقامة الحدود في المساجد انتهى. والمشهور فيه حديث مكحول عن أبي الدرداء وواثلة وأبي أمامة مرفوعا: "جنبوا مساجدكم صبيانكم " الحديث، وفيه: "وإقامة حدودكم " أخرجه البيهقي في الخلافيات، وأصله في ابن ماجه من حديث واثلة فقط وليس فيه ذكر الحدود وسنده ضعيف، ولابن ماجه من حديث ابن عمر رفعه: "خصال لا تنبغي في المسجد: لا يتخذ طريقا " الحديث وفيه: "ولا يضرب فيه حد " وسنده ضعيف أيضا. وقال ابن المنير: من كره إدخال الميت المسجد للصلاة عليه خشية أن يخرج منه شيء أولى بأن يقول لا يقام الحد في المسجد، إذ لا يؤمن خروج الدم من المجلود، وينبغي أن يكون في القتل أولى بالمنع.
(13/157)
20 -
باب مَوْعِظَةِ الإِمَامِ لِلْخُصُومِ
7169 - حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن
أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنما أنا بشر
وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي على نحو ما أسمع
فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار
(13/157)
قوله: "باب موعظة الإمام الخصوم" ذكر فيه حديث أم سلمة " ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " وسيأتي شرحه بعد سبعة أبواب، ومناسبته للترجمة ظاهرة وبالله التوفيق.
(13/158)
21 -
باب الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي وِلاَيَتِهِ الْقَضَاءَ أَوْ
قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ
وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ الشَّهَادَةَ فَقَالَ ائْتِ
الأَمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ لَكَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ
وَأَنْتَ أَمِيرٌ فَقَالَ شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ
صَدَقْتَ قَالَ عُمَرُ لَوْلاَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ
اللَّهِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِي وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَا أَرْبَعًا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ
وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْهَدَ
مَنْ حَضَرَهُ وَقَالَ حَمَّادٌ إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ الْحَاكِمِ رُجِمَ
وَقَالَ الْحَكَمُ أَرْبَعًا
7170 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ
عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا
قَتَادَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ حُنَيْنٍ مَنْ
لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ فَقُمْتُ لِأَلْتَمِسَ
بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي فَجَلَسْتُ ثُمَّ
بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ سِلاَحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي
يَذْكُرُ عِنْدِي قَالَ فَأَرْضِهِ مِنْهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَلاَ لاَ
يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ
يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا فَكَانَ
أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ عَنْ اللَّيْثِ فَقَامَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ وَقَالَ أَهْلُ
الْحِجَازِ الْحَاكِمُ لاَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ شَهِدَ بِذَلِكَ فِي وِلاَيَتِهِ
أَوْ قَبْلَهَا وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لِآخَرَ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِ
الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِي عَلَيْهِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ
بِشَاهِدَيْنِ فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَا
سَمِعَ أَوْ رَآهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَضَى بِهِ وَمَا كَانَ فِي غَيْرِهِ
لَمْ يَقْضِ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بَلْ يَقْضِي بِهِ
لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ وَإِنَّمَا يُرَادُ مِنْ الشَّهَادَةِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ
فَعِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي
الأَمْوَالِ وَلاَ يَقْضِي فِي غَيْرِهَا وَقَالَ الْقَاسِمُ لاَ يَنْبَغِي
لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْضِيَ قَضَاءً بِعِلْمِهِ دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّ
عِلْمَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ وَلَكِنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لِتُهَمَةِ
نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَإِيقَاعًا لَهُمْ فِي الظُّنُونِ وَقَدْ كَرِهَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظَّنَّ فَقَالَ إِنَّمَا هَذِهِ
صَفِيَّةُ
7171 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
حُسَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْهُ صَفِيَّةُ
بِنْتُ حُيَيٍّ فَلَمَّا رَجَعَتْ انْطَلَقَ مَعَهَا فَمَرَّ بِهِ رَجُلاَنِ مِنْ
الأَنْصَارِ فَدَعَاهُمَا
(13/158)
فَقَالَ إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ قَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ رَوَاهُ شُعَيْبٌ وَابْنُ مُسَافِرٍ وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ يَعْنِي ابْنَ حُسَيْنٍ عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: "باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء أو قبل ذلك للخصم" أي هل يقضي له على خصمه بعلمه ذلك أو يشهد له عند حاكم آخر؟ هكذا أورد الترجمة مستفهما بغير جزم لقوة الخلاف في المسألة " وإن كان آخر كلامه يقتضي اختيار أن لا يحكم بعلمه فيها". قوله: "وقال شريح القاضي" هو ابن الحارث الماضي ذكره قريبا. قوله: "وسأله إنسان الشهادة فقال: ائت الأمير حتى أشهد لك" وصله سفيان الثوري في جامعه عن عبد الله بن شبرمة عن الشعبي قال: "أشهد رجل شريحا جاء فخاصم إليه فقال: ائت الأمير وأنا أشهد لك " وأخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن شبرمة قال: قلت للشعبي: يا أبا عمرو أرأيت رجلين استشهدا على شهادة فمات أحدهما واستقضى الآخر، فقال: أتى شريح فيها وأنا جالس فقال: "ائت الأمير وأنا أشهد لك". قوله: "وقال عكرمة قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: لو رأيت رجلا على حد إلخ" وصله الثوري أيضا عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة به، ووقع في الأصل " لو رأيت - بالفتح - وأنت أمير " وفي الجواب فقال: "شهادتك " ووقع في الجامع بلفظ: "أرأيت - بالفتح - لو رأيت بالضم - رجلا سرق أو زنا، قال: أرى شهادتك " وقال: "أصبت " بدل قوله: "صدقت " وأخرجه ابن أبي شيبة عن شريك عن عبد الكريم بلفظ: أرأيت لو كنت القاضي أو الوالي وأبصرت إنسانا على حد أكنت تقيمه عليه؟ قال: لا، حتى يشهد معي غيري، قال أصبت لو قلت غير ذلك لم تجد وهو بضم المثناة وكسر الجيم وسكون الدال من الإجادة. قلت: وقد جاء عن أبي بكر الصديق نحو هذا وسأذكره بعد، وهذا السند منقطع بين عكرمة ومن ذكره عنه لأنه لم يدرك عبد الرحمن فضلا عن عمر، وهذا من المواضع التي ينبه عليها من يغتر بتعميم قولهم إن التعليق الجازم صحيح، فيجب تقييد ذلك بأن يزاد إلى من علق عنه ويبقى النظر فيما فوق ذلك. قوله: "وقال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في " كتاب الله " لكتبت آية الرجم بيدي" هذا طرف من حديث آخر أخرجه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر كما تقدم التنبيه عليه في " باب الاعتراف بالزنا " في شرح حديثه الطويل في قصة الرجم الذي هو طرف من قصة بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، قال المهلب: استشهد البخاري لقول عبد الرحمن بن عوف المذكور قبله بقول عمر هذا أنه كانت عنده شهادة في آية الرجم أنها من القرآن فلم يلحقها بنص المصحف بشهادته وحده، وأفصح في العلة في ذلك بقوله: لولا أن يقال زاد عمر في " كتاب الله " فأشار إلى أن ذلك من قطع الذرائع لئلا تجد حكام السوء سبيلا إلى أن يدعوا العلم لمن أحبوا له الحكم بشيء. قوله: "وأقر ماعز عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا أربعا فأمر برجمه، ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أشهد من حضره" هذا طرف من الحديث الذي ذكر قبل بباب، وقد تقدم موصولا من حديث أبي هريرة وحكاية الخلاف على أبي سلمة في اسم صحابيه. قوله: "وقال حماد" هو ابن أبي سليمان فقيه الكوفة. قوله: "إذا أقر مرة عند الحاكم رجم" وقال الحكم، هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر وهو فقيه الكوفة أيضا. قوله: "أربعا" أي لا يرجم حتى يصر أربع مرات كما في حديث ماعز، وقد وصله ابن أبي شيبة من طريق شعبة قال: "سألت حمادا
(13/159)
عن الرجل يقر بالزنا كم يرد؟ قال: مرة. قال: وسألت الحكم فقال: أربع مرات " وقد تقدم البحث في ذلك في شرح قصة ماعز في أبواب الرجم. ثم ذكر حديث أبي قتادة في قصة سلب القتيل الذي قتله في غزوة حنين، وقد تقدم شرحه مستوفى هناك وقوله هنا " قال فأرضه منه " هي رواية الأكثر، وعند الكشمهيني " مني " وقوله: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأداه إلي " في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني: "فعلم " بفتح المهملة وكسر اللام بدل " فقام " وكذا لأكثر رواة الفربري، وكذا أخرجه أبو نعيم من رواية الحسن بن سفيان عن قتيبة، وهو المحفوظ في رواية قتيبة هذه، ومن ثم عقبها البخاري بقوله: "وقال لي عبيد الله عن الليث: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأداه إلي " ووقع في رواية كريمة: "فأمر " بفتح الهمزة والميم بعدها راء، وعبد الله المذكور هو ابن صالح أبو صالح وهو كاتب الليث والبخاري يعتمده في الشواهد، ولو كانت رواية قتيبة بلفظ: "فقام " لم يكن لذكر رواية عبد الله بن صالح معنى. قال المهلب: قوله في رواية قتيبة " فعلم النبي صلى الله عليه وسلم: "يعني علم أن أبا قتادة هو قاتل القتيل المذكور، قال وهي وهم قال: والصحيح فيه رواية عبد الله بن صالح بلفظ: "فقام " قال وقد رد بعض الناس الحجة المذكورة فقال: ليس في إقرار ماعز عند النبي صلى الله عليه وسلم ولا حكمه بالرجم دون أن يشهد من حضره ولا في إعطائه السلب لأبي قتادة حجة للقضاء بالعلم لأن ماعزا إنما كان إقراره عند النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة، إذ معلوم أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يقعد وحده فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم أن يشهدهم على إقراره لسماعهم منه ذلك، وكذلك قصة أبي قتادة انتهى. وقال ابن المنير: لا حجة في قصة أبي قتادة، لأن معنى قوله: "فعلم النبي صلى الله عليه وسلم: "علم بإقرار الخصم فحكم عليه، فهي حجة للمذهب، يعني الصائر إلى جواز القضاء بالعلم فيما يقع في مجلس الحكم. وقال غيره: ظاهر أول القصة يخالف آخرها، لأنه شرط البينة بالقتل على استحقاق السلب ثم دفع السلب لأبي قتادة بغير بينة وأجاب الكرماني بأن الخصم اعترف، يعني فقام مقام البينة، وبأن المال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي منه من شاء ويمنع من شاء. قلت: والأول أولى، والبينة لا تنحصر في الشهادة، بل كل ما كشف الحق يسمى بينة. قوله: "وقال أهل الحجاز: الحاكم لا يقضي بعلمه، شهد بذلك في ولايته أو قبلها" هو قول مالك، قال أبو علي الكرابيسي: لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة، إذ لا يؤمن على التقى أن يتطرق إليه التهمة قال: وأظنه ذهب إلى ما رواه ابن شهاب عن زبيد بن الصلت " أن أبا بكر الصديق قال: لوجدت رجلا على حد ما أقمته عليه حتى يكون معي غيري " ثم ساقه بسند صحيح عن ابن شهاب قال: ولا أحسب مالكا ذهب عليه هذا الحديث، فإن كان كذلك فقد قلد أكثر هذه الأمة فضلا وعلما. قلت: ويحتمل أن يكون ذهب إلى الأثر المقدم ذكره عن عمر وعبد الرحمن بن عوف، قال: ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه مطلقا أنه لو عمد إلى رجل مستور لم يعهد منه فجور قط أن يرجمه ويدعي أنه رآه يزني، أو يفرق بينه وبين زوجته ويزعم أنه سمعه يطلقها، أو بينه وبين أمته ويزعم أنه سمعه يعتقها، فإن هذا الباب لو فتح لوجد كل قاض السبيل إلى قتل عدوه وتفسيقه والتفريق بينه وبين من يحب، ومن ثم قال الشافعي: لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه انتهى. وإذا كان هذا في الزمان الأول فما الظن بالمتأخر، فيتعين حسم مادة تجويز القضاء بالعلم في هذه الأزمان المتأخرة لكثرة من يتولى الحكم ممن لا يؤمن على ذلك، والله أعلم. قوله: "ولو أقر خصم عنده لآخر بحق في مجلس القضاء فإنه لا يقضي عليه في قول بعضهم حتى يدعو بشاهدين فيحضرهما إقراره" قال ابن التين: ما ذكر عن عمر وعبد الرحمن هو قول مالك وأكثر أصحابه. وقال بعض أصحابه: يحكم بما علمه فيما
(13/160)
أقر به أحد الخصمين عنده في مجلس الحكم. وقال ابن القاسم: وأشهب لا يقضي بما يقع عنده في مجلس الحكم إلا إذا شهد به عنده. وقال ابن المنير: مذهب مالك أن من حكم بعلمه يقضي على المشهور، إلا إن كان علمه حادثا بعد الشروع في المحاكمة فقولان، وأما ما أقر به عنده في مجلس الحكم فيحكم ما لم ينكر الخصم بعد إقراره وقبل الحكم عليه فإن ابن القاسم قال: لا يحكم عليه حينئذ ويكون شاهدا. وقال ابن الماجشون: يحكم بعلمه. وفي المذهب تفاريع طويلة في ذلك. ثم قال ابن المنير: وقول من قال لا بد أن يشهد عليه في المجلس شاهدان يؤول إلى الحكم بالإقرار لأنه لا يخلوا أن يؤديا أو لا؛ إن أديا فلا بد من الأعذار، فإن أعذر احتيج إلى الإثبات وتسلسلت القضية، وإن لم يحتج رجع إلى الحكم بالإقرار، وإن لم يؤديا كالعدم. وأجاب غيره أن فائدة ذلك ردع الخصم عن الإنكار، لأنه إذا عرف أن هناك من يشهد امتنع من الإنكار خشية التعزير، بخلاف ما إذا أمن ذلك. قوله: "وقال بعض أهل العراق: ما سمع أو رآه في مجلس القضاء قضى به وما كان في غيره لم يقض إلا بشاهدين يحضرهما إقراره" بضم أوله من الرباعي. قلت: وهذا قول أبي حنيفة ومن تبعه، ويوافقهم مطرف وابن الماجشون وأصبغ وسحنون من المالكية. قال ابن التين: وجرى به العمل، ويوافقه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن سيرين قال: "اعترف رجل عند شريح بأمر ثم أنكره فقضى عليه باعترافه، فقال: أتقضي علي بغير بينة " فقال شهد عليك ابن أخت خالتك، يعني نفسه. قوله: "وقال آخرون منهم: بل يقضي به لأنه مؤتمن" بفتح الميم اسم مفعول، وإنما يراد بالشهادة معرفة الحق، فعلمه أكبر من الشهادة وهو قول أبي يوسف ومن تبعه ووافقهم الشافعي. قال أبو علي الكرابيسي قال الشافعي بمصر فيما بلغني عنه: إن كان القاضي عدلا لا يحكم بعلمه في حد ولا قصاص إلا ما أقر به بين يديه ويحكم بعلمه في كل الحقوق مما علمه قبل أن يلي القضاء أو بعدما ولي، فقيد ذلك بكون القاضي عدلا إشارة إلى أنه ربما ولي القضاء من ليس بعدل بطريق التغلب. قوله: "وقال بعضهم" يعني أهل العراق "يقضي بعلمه في الأموال ولا يقضي غيرها" هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف فيما نقله الكرابيسي عنه إذا رأى الحاكم رجلا يزني مثلا لم يقض بعلمه حتى تكون بينة تشهد بذلك عنده، وهي رواية عن أحمد، قال أبو حنيفة: القياس أنه بحكم في ذلك كله بعلمه، ولكن أدع القياس وأستحسن أن لا يقضي في ذلك بعلمه. "تنبيه": اتفقوا على أنه يقضي في قبول الشاهد ورده بما يعلمه منه من تجريح أو تزكية. ومحصل الآراء في هذه المسألة سبعة، ثالثها في زمن قضائه خاصة، رابعها في مجلس حكمه، خامسها في الأموال دون غيرها، سادسها مثله وفي القذف أيضا وهو عن بعض المالكية، سابعها في كل شيء إلا في الحدود وهذا هو الراجح عند الشافعية. وقال ابن العربي: لا يقضي الحاكم بعلمه، والأصل فيه عندنا الإجماع على أنه لا يحكم بعلمه في الحدود، ثم أحدث بعض الشافعية قولا مخرجا أنه يجوز فيها أيضا حين رأوا أنها لازمة لهم، كذا قال فجرى على عادته في التهويل والإقدام على نقل الإجماع مع شهرة الاختلاف. قوله: "وقال القاسم: لا ينبغي للحاكم أن يقضي قضاء بعلمه" في رواية الكشمهيني يمضي. قوله: "دون علم غيره" أي إذا كان وحده عالما به لا غيره. قوله: "ولكن" بالتشديد وفي نسخة بالتخفيف وتعرض بالرفع. قوله: "وإيقاعا" عطف على تعرضا أو نصب على أنه مفعول معه والعامل فيه متعلق الظرف، والقاسم المذكور كنت أظنه أنه ابن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة لأنه إذا أطلق في الفروع الفقهية انصرف الذهن إليه، لكن رأيت في رواية عن أبي ذر أنه القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وهو الذي
(13/161)
تقدم ذكره قريبا في " باب الشهادة على الخط " فإن كان كذلك فقد خالف أصحابه الكوفيين ووافق أهل المدينة في هذا الحكم والله أعلم. قوله: " وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم الظن فقال: إنما هذه صفية" هو طرف من الحديث الذي وصله بعد، وقوله في الطريق الموصولة عن علي بن الحسين أي ابن علي بن أبي طالب وهو الملقب بزين العابدين. قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته صفية بنت حيي" هذا صورته مرسل، ومن ثم عقبه البخاري بقوله: "رواه شعيب وابن مسافر وابن أبي عتيق وإسحاق بن يحيى عن الزهري عن علي - أي ابن الحسين - عن صفية " يعني فوصلوه، فتحمل رواية إبراهيم بن سعد على أن علي بن حسين تلقاه عن صفية، وقد تقدم مثل ذلك في رواية سفيان عن الزهري مع شرح حديث صفية مستوفى في " كتاب الاعتكاف " فإنه ساقه هناك تاما وأورده هنا مختصرا. ورواية شعيب وهو ابن أبي حمزة وصلها المصنف في الاعتكاف أيضا وفي " كتاب الأدب " ورواية ابن مسافر وهو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي وصلها أيضا في الصوم وفي فرض الخمس، ورواية ابن أبي عتيق وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وصلها المصنف في الاعتكاف وأوردها في الأدب أيضا مقرونة برواية شعيب ورواية إسحاق بن يحيى وصلها الذهلي في " الزهريات " ورواه عن الزهري أيضا معمر فاختلف عليه في وصله وإرساله تقدم موصولا في صفة إبليس من رواية عبد الرزاق عنه ومرسلا في فرض الخمس من رواية هشام بن يوسف عن معمر وأوردها النسائي موصولة من رواية موسى بن أعين عن معمر ومرسلة من رواية ابن المبارك عنه ووصله أيضا عن الزهري عثمان ابن عمر بن موسى التيمي عند ابن ماجه وأبي عوانة في صحيحه، وعبد الرحمن بن إسحاق عند أبي عوانة أيضا، وهشيم عند سعيد بن منصور وآخرون. ووجه الاستدلال بحديث صفية لمن منع الحكم بالعلم أنه صلى الله عليه وسلم كره أن يقع في قلب الأنصاريين من وسوسة الشيطان شيء، فمراعاة نفي التهمة عنه مع عصمته تقتضي مراعاة نفي التهمة عمن هو دونه، وقد تقدم في " باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه " بيان حجة من أجاز ومن منع بما يعني عن إعادته هنا.
(13/162)
22 -
باب أَمْرِ الْوَالِي إِذَا وَجَّهَ أَمِيرَيْنِ إِلَى مَوْضِعٍ أَنْ يَتَطَاوَعَا
وَلاَ يَتَعَاصَيَا
7172 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ بَعَثَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِي وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى
الْيَمَنِ فَقَالَ يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا
وَتَطَاوَعَا فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى إِنَّهُ يُصْنَعُ بِأَرْضِنَا الْبِتْعُ
فَقَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَقَالَ النَّضْرُ وَأَبُو دَاوُدَ وَيَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ وَوَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب أمر الوالي إذا وجه أميرين إلى موضع أن يتطاوعا ولا يتعاصيا"
بمهملتين وياء تحتانية ولبعضهم بمعجمتين وموحدة. ذكر فيه حديث أبي بردة " بعث
النبي صلى الله عليه وسلم أبي يعني أبا موسى ومعاذ بن جبل " وقد تقدم الكلام
عليه في " كتاب الديات " وقبل ذلك في أواخر المغازي. قوله:
"بشرا" تقدم شرحه في المغازي. قوله: "وتطاوعا" أي توافقا في
الحكم ولا تختلفا لأن ذلك يؤدي إلى اختلاف أتباعكما، فيفضي إلى العداوة ثم
المحاربة، والمرجع في الاختلاف إلى ما جاء في " الكتاب والسنة " كما قال
تعالى :{فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله
(13/162)
والرسول} وسيأتي مزيد بيان لذلك في " كتاب الاعتصام " إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال النضر وأبو داود ويزيد بن هارون ووكيع عن شعبة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده" يعني موصولا، ورواية النضر وأبي داود ووكيع تقدم الكلام عليها في أواخر المغازي في " باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن " ورواية يزيد بن هارون وصلها أبو عوانة في صحيحه والبيهقي، قال ابن بطال وغيره: في الحديث الحض على الاتفاق لما فيه من ثبات المحبة والألفة والتعاون على الحق، وفيه جواز نصب قاضيين في بلد واحد فيقعد كل منهما في ناحية وقال ابن العربي: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشركهما فيما ولاهما، فكان ذلك أصلا في تولية اثنين قاضيين مشتركين في الولاية كذا جزم به؛ قال: وفيه نظر لأن محل ذلك فيما إذا نفذ حكم كل منهما فيه، لكن قال ابن المنير: يحتمل أن يكون ولاهما ليشتركا في الحكم في كل واقعة، ويحتمل أن يستقل كل منهما بما يحكم به، ويحتمل أن يكون لكل منهما عمل يخصه والله أعلم كيف كان. وقال ابن التين: الظاهر اشتراكهما، لكن جاء في غير هذه الرواية أنه أقر كلا منهما على مخلاف، والمخلاف الكورة، وكان اليمين مخلافين. قلت: وهذا هو المعتمد، والرواية التي أشار إليها تقدمت في غزوة حنين باللفظ المذكور، وتقدم في المغازي أن كلا منهما كان إذا سار في عمله زار رفيقه، وكان عمل معاذ النجود وما تعالى من بلاد اليمن، وعمل أبي موسى التهائم وما انخفض منها، فعلى هذا فأمره صلى الله عليه وسلم لهما بأن يتطاوعا ولا يتخالفا محمول على ما إذا اتفقت قضية يحتاج الأمر فيها إلى اجتماعهما، وإلى ذلك أشار في الترجمة، ولا يلزم من قوله: "تطاوعا ولا تختلفا " أن يكونا شريكين كما استدل به ابن العربي. وقال أيضا: فإذا اجتمعا فإن اتفقا في الحكم وإلا تباحثا حتى يتفقا على الصواب وإلا رفعا الأمر لمن فوقهما. وفي الحديث الأمر بالتيسير في الأمور والرفق بالرعية وتحبيب الإيمان إليهم وترك الشدة لئلا تنفر قلوبهم ولا سيما فيمن كان قريب العهد بالإسلام أو قارب حد التكليف من الأطفال ليتمكن الإيمان من قلبه ويتمرن عليه، وكذلك الإنسان في تدريب نفسه على العمل إذا صدقت إرادته لا يشدد عليها بل يأخذها بالتدريج والتيسير حتى إذا أنست بحالة داومت عليها نقلها لحال آخر وزاد عليها أكثر من الأولى حتى يصل إلى قدر احتمالها ولا يكلفها بما لعلها تعجز عنه. وفيه مشروعية الزيارة وإكرام الزائر وأفضلية معاذ في الفقه على أبي موسى، وقد جاء " أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " أخرجه الترمذي وغيره من حديث أنس.
(13/163)
23 -
باب إِجَابَةِ الْحَاكِمِ الدَّعْوَةَ وَقَدْ أَجَابَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ
عَبْدًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
7173 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ
حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فُكُّوا الْعَانِيَ وَأَجِيبُوا
الدَّاعِيَ
قوله: "باب إجابة الحاكم الدعوة" الأصل فيه عموم الخبر ورود الوعيد في
الترك من قوله ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله وقد تقدم شرحه في أواخر
النكاح. وقال العلماء لا يجيب الحاكم دعوة شخص بعينه دون غيره من الرعية لما في
ذلك من كسر قلب من لم يجبه، إلا أن كان له عذر في ترك الإجابة كرؤية المنكر الذي
لا يجاب إلى إزالته، فلو كثرت بحيث تشغله عن الحكم الذي تعين عليه ساغ له أن لا
يجيب. قوله: "وقد أجاب عثمان بن عفان عبدا للمغيرة بن شعبة" لم أقف على
اسم العبد المذكور، والأثر رويناه موصولا في " فوائد أبي محمد
(13/163)
ابن صاعد " وفي " زوائد البر والصلة لابن المبارك " بسند صحيح إلى أبي عثمان النهدي " إن عثمان بن عفان أجاب عبدا للمغيرة بن شعبة دعاه وهو صائم فقال: أردت أن أجيب الداعي وأدعو بالبركة" حديث أبي موسى "فكوا العاني" بمهملة ثم نون هو الأسير " وأجيبوا الداعي " وهو طرف من حديث تقدم في الوليمة وغيرها بأتم من هذا. قال ابن بطال: عن مالك، لا ينبغي للقاضي أن يجيب الدعوة إلا في الوليمة خاصة، ثم إن شاء أكل وإن شاء ترك، والترك أحب إلينا لأنه أنزه، إلا أن يكون لأخ في الله أو خالص قرابة أو مودة. وكره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم انتهى. وقد تقدم تفصيل أحكام إجابة الدعوة في الوليمة وغيرها بما يعني عن إعادته.
(13/164)
24 -
باب هَدَايَا الْعُمَّالِ
7174 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ
قَالَ اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ
بَنِي أَسْدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ فَلَمَّا قَدِمَ
قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا فَصَعِدَ
الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ
الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي فَهَلاَ جَلَسَ
فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ
عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ
أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ
إِبْطَيْهِ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاَثًا قَالَ سُفْيَانُ قَصَّهُ عَلَيْنَا
الزُّهْرِيُّ وَزَادَ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعَ
أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنِي وَسَلُوا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ
سَمِعَهُ مَعِي وَلَمْ يَقُلْ الزُّهْرِيُّ سَمِعَ أُذُنِي خُوَارٌ صَوْتٌ
وَالْجُؤَارُ مِنْ تَجْأَرُونَ كَصَوْتِ الْبَقَرَةِ
قوله: "باب هدايا العمال" هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أحمد وأبو عوانة
من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن عروة عن أبي حميد رفعه: "هدايا العمال غلول
" وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن يحيى وهو من رواية إسماعيل عن الحجازيين
وهي ضعيفة ويقال إنه اختصره من حديث الباب كما تقدم بيان ذلك في الهبة، وأورد فيه
قصة ابن اللتبية وقد تقدم بعض شرحها في الهبة وفي الزكاة وفي ترك الحيل وفي
الجمعة، وتقدم شيء مما يتعلق بالغلول في " كتاب الجهاد". قوله:
"سفيان" هو ابن عيينة. قوله: "عن الزهري" قد ذكر في آخره ما
يدل على أن سفيان سمعه من الزهري وهو قوله: "قال سفيان قصه علينا الزهري
" ووقع في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان " حدثنا الزهري "
وأخرجه أبو نعيم من طريقه، وعند الإسماعيلي من طريق محمد بن منصور عن سفيان قال
قصه علينا الزهري وحفظناه. قوله: "أنه سمع عروة" في رواية شعيب عن
الزهري في الأيمان والنذور: أخبرني عروة. قوله: "استعمل النبي صلى الله عليه
وسلم رجلا من بني أسد" بفتح الهمزة وسكون السين المهملة، كذا وقع هنا وهو
يوهم أنه بفتح السين نسبة إلى بني أسد بن خزيمة القبيلة المشهورة أو إلى بني أسد
بن عبد العزى بطن من قريش. وليس كذلك وإنما قلت إنه يوهمه لأن الأزدي تلازمه الألف
واللام في الاستعمال أسماء وأنسابا، بخلاف بني أسد فبعير ألف ولام في الاسم، ووقع
(13/164)
في
رواية الأصيلي هنا " من بني الأسد " بزيادة الألف واللام ولا إشكال فيها
مع سكون السين، وقد وقع في الهبة عن عبد الله بن محمد الجعفي عن سفيان "
استعمل رجلا من الأزد " وكذا قال أحمد والحميدي في مسنديهما عن سفيان ومثله
لمسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة وغيره عن سفيان، وفي نسخة بالسين المهملة بدل
الزاي، ثم وجدت ما يزيل الإشكال إن ثبت، وذلك أن أصحاب الأنساب ذكروا أن في الأزد
بطنا يقال لهم بنو أسد بالتحريك ينسبون إلى أسد ابن شريك بالمعجمة مصغرا ابن مالك
بن عمرو بن مالك بن فهم، وبنو فهم بطن شهير من الأزد فيحتمل أن ابن الأتبية كان
منهم فيصح أن يقال فيه الأزدي بسكون الزاي والأسدي بسكون السين وبفتحها من بني أسد
بفتح السين ومن بني الأزد أو الأسد بالسكون فيهما لا غير، وذكروا ممن ينسب كذلك
مسددا شيخ البخاري. قوله: "يقال له ابن الأتبية" كذا في رواية أبي ذر
بفتح الهمزة والمثناة وكسر الموحدة، وفي الهامش باللام بدل الهمزة، كذلك ووقع
كالأول لسائرهم وكذا تقدم في الهبة. وفي رواية مسلم باللام المفتوحة ثم المثناة
الساكنة وبعضهم يفتحها، وقد اختلف على هشام بن عروة عن أبيه أيضا أنه باللام أو
بالهمزة كما سيأتي قريبا في " باب محاسبة الإمام عماله " بالهمزة، ووقع
لمسلم باللام. وقال عياض: ضبطه الأصيلي بخطه في هذا الباب بضم اللام وسكون
المثناة، وكذا قيده ابن السكن، قال: وهو الصواب، وكذا قال ابن السمعاني ابن
اللتبية بضم اللام وفتح المثناة ويقال بالهمز بدل اللام، وقد تقدم أن اسمه عبد
الله واللتبية أمه لم نقف على تسميتها. قوله: "على صدقة" وقع في الهبة
" على الصدقة " وكذا لمسلم، وتقدم في الزكاة تعيين من استعمل عليهم.
قوله: "فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي" في رواية معمر عن الزهري
عند مسلم: "فجاء بالمال فدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مالكم
وهذه هدية أهديت لي " وفي رواية هشام الآتية قريبا " فلما جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم وحاسبه قال: هذا الذي لكم، وهذه هدية أهديت لي " وفي
رواية أبي الزناد عن عروة عند مسلم: "فجاء بسواد كثير " وهو بفتح
المهملة وتخفيف الواو " فجعل يقول هذا لكم وهذا أهدي لي " وأوله عند أبي
عوانة " بعث مصدقا إلى اليمن " فذكره. والمراد بالسواد الأشياء الكثيرة
والأشخاص البارزة من حيوان وغيره، ولفظ السواد يطلق على كل شخص ولأبي نعيم في
المستخرج من هذا الوجه " فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يتوفى منه
" وهذا يدل على أن قوله في الرواية المذكورة " فلما جاء حاسبه " أي
أمر من يحاسبه ويقبض منه. وفي رواية أبي نعيم أيضا: "فجعل يقول هذا لكم وهذا
لي " حتى ميزه " قال يقولون من أين هذا لك؟ قال: أهدي لي، فجاءوا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطاهم". قوله: "فقام النبي صلى الله عليه
وسلم على المنبر" زاد في رواية هشام قبل ذلك " فقال ألا جلست في بيت
أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا؟ ثم قام فخطب". قوله: "قال
سفيان: أيضا فصعد المنبر" يريد أن سفيان كان تارة يقول: "قام "
وتارة " صعد " ووقع في رواية شعيب " ثم قام النبي صلى الله عليه
وسلم عشية بعد الصلاة " وفي رواية معمر عند مسلم: "ثم قام النبي صلى
الله عليه وسلم خطيبا " وفي رواية أبي الزناد عند أبي نعيم " فصعد المنبر
وهو مغضب". قوله: "ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول" في رواية
الكشميهني: "يقول: "بحذف الفاء. وفي رواية شعيب " فما بال العامل
نستعمله فيأتينا فيقول: "ووقع في رواية هشام بن عروة " فإني أستعمل
الرجل منكم على أمور مما ولاني الله". قوله: "هذا لك وهذا لي" في
رواية عبد الله بن محمد " هذا لكم وهذا أهدي لي " وفي رواية هشام "
فيقول هذا الذي لكم وهذه هدية أهديت لي " وقد تقدم ما في رواية أبي الزناد من
الزيادة.
قوله: "فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدي له أم لا" ؟ في
(13/165)
رواية هشام " حتى تأتيه هديته إن كان صادقا". قوله: "والذي نفسي بيده" تقدم شرحه في أوائل " كتاب الأيمان والنذور". قوله: "لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة" يعني لا يأتي بشيء يحوزه لنفسه، ووقع في رواية عبد الله ابن محمد " لا يأخذ أحد منها شيئا " وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة: "لا ينال أحد منكم منها شيئا " وفي رواية أبي الزناد عند أبي عوانة " لا يغل منه شيئا إلا جاء به " وكذا وقع في رواية شعيب عند المصنف وفي رواية معمر عند الإسماعيلي كلاهما بلفظ: "لا يغل " بضم الغين المعجمة من الغلول وأصله الخيانة في الغنيمة، ثم استعمل في كل خيانة. قوله: "يحمله على رقبته" في رواية أبي بكر " على عنقه " وفي رواية هشام " لا يأخذ أحدكم منها شيئا " قال هشام " بغير حقه " ولم يقع قوله: "قال هشام " عند مسلم في رواية أبي أسامة المذكورة، وأورده من رواية ابن نمير عن هشام بدون قوله: "بغير حقه " وهذا مشعر بإدراجها. قوله: "إن كان" أي الذي غله "بعيرا له رغاء" بضم الراء وتخفيف المعجمة مع المد هو صوت البعير. قوله: "خوار" يأتي ضبطه. قوله: "أو شاة تيعر" بفتح المثناة الفوقانية وسكون التحتانية بعدها مهملة مفتوحة ويجوز كسرها، ووقع عند ابن التين " أو شاة لها يعار " ويقال: "يعار " قال وقال القزاز: هو يعار بغير شك يعني بفتح التحتانية وتخفيف المهملة وهو صوت الشاة الشديد " قال: واليعار ليس بشيء كذا فيه وكذا لم أره هنا في شيء من نسخ الصحيح. وقال غيره: اليعار بضم أوله صوت المعز، يعرت العنز تيعر بالكسر وبالفتح يعارا إذا صاحت. قوله: "ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه" وفي رواية عبد الله بن محمد " عفرة إبطه " بالإفراد، ولأن ذر " عفر " بفتح أوله ولبعضهم بفتح الفاء أيضا بلا هاء، وكالأول في رواية شعيب بلفظ: "حتى إنا لننظر إلى " والعفرة بضم المهملة وسكون الفاء تقدم شرحها في " كتاب الصلاة " وحاصله أن العفر بياض ليس بالناصع. قوله: "ألا" بالتخفيف "هل بلغت" بالتشديد "ثلاثا" أي أعادها ثلاث مرات. وفي رواية عبد الله بن محمد في الهبة " اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت ثلاثا " وفي رواية مسلم: "قال اللهم هل بلغت مرتين " ومثله لأبي داود ولم يقل " مرتين " وصرح في رواية الحميدي بالثالثة " اللهم بلغت " والمراد بلغت حكم الله إليكم امتثالا لقوله تعالى له "بلغ" وإشارة إلى ما يقع في القيامة من سؤال الأمم هل بلغهم أنبياؤهم ما أرسلوا به إليهم. قوله: "وزاد هشام" هو من مقول سفيان وليس تعليقا من البخاري، وقد وقع في رواية الحميدي عن سفيان " حدثنا الزهري وهشام بن عروة قالا حدثنا عروة بن الزبير " وساقه عنهما مساقا واحدا وقال في آخره: "قال سفيان: زاد فيه هشام". قوله: "سمع أذني" بفتح السين المهملة وكسر الميم وأذني بالإفراد بقرينة قوله: "وأبصرته عيني " قال عياض: بسكون الصاد المهملة والميم وفتح الراء والعين للأكثر وحكى عن سيبويه قال العرب تقول سمع أذني زيدا بضم العين، قال عياض والذي في ترك الحيل وجهه النصب على المصدر لأنه لم يذكر المفعول وقد تقدم القول في ذلك في ترك الحيل ووقع عند مسلم في رواية أبي أسامة " بصر وسمع " بالسكون فيهما والتثنية في أذني وعيني، وعنده في رواية ابن نمير بصر عيناي وسمع أذناي. وفي رواية ابن جريج عن هشام عند أبي عوانة " بصر عينا أبي حميد وسمع أذناه". قلت: وهذا يتعين أن يكون بضم الصاد وكسر الميم وفي رواية مسلم من طريق أبي الزناد عن عروة قلت لأبي حميد أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال من فيه إلى أذني، قال النووي: معناه إنني أعلمه علما يقينا لا أشك في علمي به. قوله: "وسلوا زيد بن ثابت فإنه سمعه معي" في رواية الحميدي " فإنه كان حاضرا معي " وفي رواية الإسماعيلي
(13/166)
من طريق معمر عن هشام " يشهد على ما أقول زيد بن ثابت يحك منكبه منكبي، رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي رأيت وشهد مثل الذي شهدت " وقد ذكرت في الأيمان والنذور أني لم أجده من حديث زيد بن ثابت. قوله: "ولم يقل الزهري سمع أذني" هو مقول سفيان أيضا. قوله: "خوار صوت، والجؤار من تجأرون كصوت البقرة" هكذا وقع هنا وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني والأول بضم الخاء المعجمة يفسر قوله في حديث أبي حميد " بقرة لها خوار " وهو في الرواية بالخاء المعجمة ولبعضهم بالجيم، وأشار إلى ما في سورة طه {عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} وهو صوت العجل، ويستعمل في غير البقر من الحيوان. وأما قوله: "والجؤار " فهو بضم الجيم وواو مهموزة ويجوز تسهيلها، وأشار بقوله: "يجأرون " إلى ما في سورة قد أفلح {بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} قال أبو عبيدة: أي يرفعون أصواتهم كما يجأر الثور. والحاصل أنه بالجيم وبالخاء المعجمة بمعنى، إلا أنه بالخاء للبقر وغيرها من الحيوان وبالجيم للبقر والناس قال الله تعالى {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} وفي قصة موسى " له جؤار إلى الله بالتلبية " أي صوت عال، وهو عند مسلم من طريق داود بن أبي هند عن أبي العالية عن ابن عباس، وقيل أصله في البقر واستعمل في الناس، ولعل المصنف أشار أيضا إلى قراءة الأعمش، عجلا جسدا له جؤار بالجيم، وفي الحديث من الفوائد أن الإمام يخطب في الأمور المهمة، واستعمال " أما بعد " في الخطبة كما تقدم في الجمعة، ومشروعية محاسبة المؤتمن، وقد تقدم البحث فيه في الزكاة، ومنع العمال من قبول الهدية ممن له عليه حكم وتقدم تفصيل ذلك في ترك الحيل، ومحل ذلك إذا لم يأذن له الإمام في ذلك، لما أخرجه الترمذي من رواية قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: لا تصيبن شيئا بغير إذني فإنه غلول " وقال المهلب: فيه أنها إذا أخذت تجعل في بيت المال ولا يختص العام منها إلا بما أذن له فيه الإمام، وهو مبني على أن ابن اللتبية أخذ منه ما ذكر أنه أهدى له وهو ظاهر السياق، ولا سيما في رواية معمر قبل، ولكن لم أر ذلك صريحا. ونحوه قول ابن قدامة في " المغني " لما ذكر الرشوة: وعليه ردها لصاحبها ويحتمل أن تجعل في بيت المال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية برد الهدية التي أهديت له لمن أهداها. وقال ابن بطال: يلحق بهدية العامل الهدية لمن له دين ممن عليه الدين، ولكن له أن يحاسب بذلك من دينه. وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ. وقال ابن المنير: يؤخذ من قوله: "هلا جلس في بيت أبيه وأمه " جواز قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل ذلك، كذا قال، ولا يخفى أن محل ذلك إذا لم يزد على العادة. وفيه أن من رأى متأولا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به أن يشهر القول للناس ويبين خطأه ليحذر من الاغترار به. وفيه جواز توبيخ المخطئ، واستعمال المفضول في الإمارة والإمامة والأمانة مع وجود من هو أفضل منه وفيه استشهاد الراوي والناقل بقول من يوافقه ليكون أوقع في نفس السامع وأبلغ في طمأنينته والله أعلم.
(13/167)
25 -
باب اسْتِقْضَاءِ الْمَوَالِي وَاسْتِعْمَالِهِمْ
7175 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قَالَ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ
يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو
سَلَمَةَ وَزَيْدٌ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ"
(13/167)
قوله: "باب استقضاء الموالي" أي توليتهم القضاء "واستعمالها" أي على إمرة البلاد حربا أو خراجا أو صلاة. قوله: "كان سالم مولى أبي حذيفة" تقدم التعريف به في الرضاع. قوله: "يؤم المهاجرين الأولين" أي الذين سبقوا بالهجرة إلى المدينة. قوله: "فيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة" أي ابن عبد الأسد المخزومي زوج أم سلمة أم المؤمنين قبل النبي صلى الله عليه وسلم وزيد أي ابن حارثة وعامر بن ربيعة أي العنزي بفتح المهملة والنون بعدها زاي وهو مولى عمر، وقد تقدم في " كتاب الصلاة " في أبواب الإمامة من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضع بقباء قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا، فأفاد سبب تقديمه للإمامة. وقد تقدم شرحه مستوفى هناك في " باب إمامة المولى " والجواب عن استشكال عد أبي بكر الصديق فيهم لأنه إنما هاجر صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع في حديث ابن عمر أن ذلك كان قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت جواب البيهقي بأنه يحتمل أن يكون سالم استمر يؤمهم بعد أن تحول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ونزل بدار أبي أيوب قبل بناء مسجده بها، فيحتمل أن يقال فكان أبو بكر يصلي خلفه إذا جاء إلى قباء. وقد تقدم في " باب الهجرة إلى المدينة " من حديث البراء بن عازب " أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس، ثم قدم بلال وسعد وعمار، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين " وذكرت هناك أن ابن إسحاق سمى منهم ثلاثة عشر نفسا وأن البقية يحتمل أن يكونوا من الذين ذكرهم ابن جريج، وذكرت هناك الاختلاف فيمن قدم مهاجرا من المسلمين وأن الراجح أنه أبو سلمة بن عبد الأسد، فعلى هذا لا يدخل أبو بكر ولا أبو سلمة في العشرين المذكورين، وقد تقدم أيضا في أول الهجرة أن ابن إسحاق ذكر أن عامر بن ربيعة أول من هاجر ولا ينافي ذلك حديث الباب لأنه كان يأتم بسالم بعد أن هاجر سالم. ومناسبة الحديث للترجمة من جهة تقديم سالم وهو مولى على من ذكر من الأحرار في إمامة الصلاة، ومن كان رضا في أمر الدين فهو رضا في أمور الدنيا، فيجوز أن يولي القضاء والإمرة على الحرب وعلى جباية الخراج، وأما الإمامة العظمى فمن شروط صحتها أن يكون الإمام قرشيا، وقد مضى البحث في ذلك في أول " كتاب الأحكام " ويدخل في هذا ما أخرجه مسلم من طريق أبي الطفيل أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر استعمله على مكة فقال: من استعملت عليهم؟ فقال: ابن أبزى يعني ابن عبد الرحمن، قال: استعملت عليهم مولى! قال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر: إن نبيكم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين".
(13/168)
26 -
باب الْعُرَفَاءِ لِلنَّاسِ
7176, 7177 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ ابْنُ
شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ
وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "حِينَ أَذِنَ لَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فِي عِتْقِ
سَبْيِ هَوَازِنَ إِنِّي لاَ أَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ
فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ فَرَجَعَ
النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ طَيَّبُوا
وَأَذِنُوا
(13/168)
قوله: "باب العرفاء للناس" بالمهملة والفاء جمع عريف بوزن عظيم، وهو القائم بأمر طائفة من الناس من عرفت بالضم وبالفتح على القوم أعرف بالضم فأنا عارف وعريف، أي وليت أمر سياستهم وحفظ أمورهم، وسمي بذلك لكونه يتعرف أمورهم حتى يعرف بها من فوقه عند الاحتياج. وقيل العريف دون المنكب وهو دون الأمير. قوله: "إسماعيل بن إبراهيم" هو ابن عقبة، والسند كله مدنيون. قوله: "قال ابن شهاب" في رواية محمد بن فليح عن موسى بن عقبة " قال لي ابن شهاب " أخرجها أبو نعيم. قوله: "حين أذن لهم المسلمون في عتق سبي هوازن" في رواية النسائي من طريق محمد بن فليح " حتى أذن له " بالأفراد وكذا للإسماعيلي وأبي نعيم، ووجه الأول أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه أو من أقامه في ذلك. وهذه القطعة مقتطعة من قصة السبي الذي غنمه المسلمون في وقعة حنين " ونسبوا إلى هوازن لأنهم كانوا رأس تلك الوقعة " وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك وتفصيل الأمر فيه في وقعة حنين، وأخرجها هناك مطولة من رواية عقيل عن ابن شهاب وفيه: "وإني رأيت أني أرد إليهم سبيهم فمن أحب أن يطيب بذلك فليفعل، وفيه فقال الناس قد طيبنا ذلك يا رسول الله فقال إنا لا ندري إلخ". قوله: "من أذن فيكم" في رواية الكشميهني: "منكم " وكذا للنسائي والإسماعيلي. قوله: "فأخبروه أن الناس فد طيبوا وأذنوا" تقدم في غزوة حنين ما يؤخذ منه أن نسبة الإذن وغيره إليهم حقيقة: ولكن سبب ذلك مختلف فالأغلب الأكثر طابت أنفسهم أن يردوا السبي لأهله بغير عوض، وبعضهم رده بشرط التعويض، ومعنى " طيبوا " وهو بالتشديد حملوا أنفسهم على ترك السبايا حتى طابت بذلك، يقال طيبت نفسي بكذا إذا حملتها على السماح به من غير إكراه فطابت بذلك، ويقال طيبت بنفس فلان إذا كلمته بكلام يوافقه، وقيل هو من قولهم طاب الشيء إذا صار حلالا، وإنما عداه بالتضعيف، ويؤيده قوله: "فمن أحب أن يطيب ذلك " أي يجعله حلالا، وقولهم " طيبنا " فيحمل عليه قول العرفاء أنهم طيبوا. قال ابن بطال: في الحديث مشروعية إقامة العرفاء لأن الإمام لا يمكنه أن يباشر جميع الأمور بنفسه فيحتاج إلى إقامة من يعاونه ليكفيه ما يقيمه فيه، قال: والأمر والنهي إذا توجه إلى الجميع يقع التوكل فيه من بعضهم فربما وقع التفريط، فإذا أقام على كل قوم عريفا لم يسع كل أحد إلا القيام بما أمر به. وقال ابن المنير في الحاشية يستفاد منه جواز الحكم بالإقرار بغير إشهاد، فإن العرفاء ما أشهدوا على كل فرد فرد شاهدين بالرضا، وإنما أقر الناس عندهم وهم نواب للإمام فاعتبر ذلك وفيه أن الحاكم يرفع حكمه إلى حاكم آخر مشافهة فينفذه إذا كان كل منهما في محل ولايته. قلت: وقع في سير الواقدي أن أبارهم الغفاري كان يطوف على القبائل حتى جمع العرفاء واجتمع الأمناء على قول واحد. وفيه أن الخبر الوارد في ذم العرفاء لا يمنح إقامة العرفاء لأنه محمول - إن ثبت - على أن الغالب على العرفاء الاستطالة ومجاوزة الحد وترك الإنصاف المفضي إلى الوقوع في المعصية، والحديث المذكور أخرجه أبو داود من طريق المقدام بن معد يكرب رفعه: "العرافة حق، ولا بد للناس من عريف، والعرفاء في النار " ولأحمد وصححه ابن خزيمة من طريق عباد بن أبي علي عن أبي حازم عن أبي هريرة رفعه: "ويل للأمراء، ويل للعرفاء " قال الطيبي: قوله: "والعرفاء في النار " ظاهر أقيم مقام الضمير يشعر بأن العرافة على خطر، ومن باشرها غير آمن من الوقوع في المحذور المفضي إلى العذاب، فهو كقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} فينبغي للعاقل أن يكون على حذر منها لئلا يتورط فيما يؤديه إلى النار. قلت: ويؤيد هذا التأويل الحديث الآخر حيث توعد الأمراء بما توعد به العرفاء،
(13/169)
فدل على أن المراد بذلك الإشارة إلى أن كل من يدخل في ذلك لا يسلم وأن الكل على خطر، والاستثناء مقدر في الجميع. وأما قوله: "العرافة حق " فالمراد به أصل نصبهم، فإن المصلحة تقتضيه لما يحتاج إليه الأمير من المعاونة على ما يتعاطاه بنفسه، ويكفي في الاستدلال لذلك وجودهم في العهد النبوي كما دل عليه حديث الباب.
(13/170)
27 -
باب مَا يُكْرَهُ مِنْ ثَنَاءِ السُّلْطَانِ وَإِذَا خَرَجَ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ
7178 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أُنَاسٌ لِابْنِ عُمَرَ
إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا فَنَقُولُ لَهُمْ خِلاَفَ مَا نَتَكَلَّمُ
إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ قَالَ كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقًا
7179 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو
الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ
قوله: "ما يكره من ثناء السلطان" الإضافة فيه للمفعول أي من الثناء على
السلطان بحضرته، بقرينة قوله: "وإذا خرج - أي من عنده - قال غير ذلك "
ووقع عند ابن بطال " من الثناء على السلطان " وكذا عند أبي نعيم عن أبي
أحمد الجرجاني عن الفربري، وقد تقدم معنى هذه الترجمة في أواخر " كتاب
الفتن". " إذا قال عند قوم شيئا، ثم خرج فقال بخلافه " وهذه أخص من
تلك. قوله: "قال أناس لابن عمر" قلت سمي منهم عروة بن الزبير ومجاهد
وأبو إسحاق الشيباني، ووقع عند الحسن بن سفيان من طريق معاذ عن عاصم عن أبيه
" دخل رجل على ابن عمر " أخرجه أبو نعيم من طريقه. قوله: "إنا ندخل
على سلطاننا" في رواية الطيالسي عن عاصم " سلاطيننا " بصيغة الجمع.
قوله: "فيقول لهم" أي نثني عليهم، في رواية الطيالسي فنتكلم بين أيديهم
بشيء ووقع عند ابن أبي شيبة من طريق أبي الشعثاء قال دخل قوم على ابن عمر فوقعوا
في يزيد بن معاوية فقال: "أتقولون هذا في وجوههم؟ قالوا بل نمدحهم ونثني
عليهم " وفي رواية عروة بن الزبير عند الحارث بن أبي أسامة والبيهقي قال:
"أتيت ابن عمر فقلت إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون في شيء نعلم أن الحق
غيره فنصدقهم، فقال: كنا نعد هذا نفاقا، فلا أدري كيف هو عندكم " لفظ البيهقي
في رواية الحارث " يا أبا عبد الرحمن إنا ندخل على الإمام يقضي بالقضاء نراه
جورا فنقول تقبل الله، فقال: إنا نحن معاشر محمد " فذكر نحوه. وفي "
كتاب الإيمان لعبد الرحمن بن عمر الأصبهاني بسنده عن عريب الهمداني " قلت
لابن عمر " فذكر نحوه وعريب بمهملة وموحدة وزن عظيم، وللخرائطي في "
المساوي " من طريق الشعبي " قلت لابن عمر: إنا ندخل على أمرائنا
فنمدحهم، فإذا خرجنا قلنا لهم خلاف ذلك فقال كنا نعد هذا على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم نفاقا " وفي مسند مسدد من رواية يزيد بن أبي زياد عن مجاهد
" أن رجلا قدم على ابن عمر فقال له: كيف أنتم وأبو أنيس الضحاك بن قيس قال:
إذا لقيناه قلنا له ما يحب، وإذا ولينا عنه قلنا له غير ذلك، قال: ذاك ما كنا نعده
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق " وفي الأوسط للطبراني من طريق
الشيباني يعني أبا إسحاق وسليمان بن فيروز الكوفي. قوله: "كنا نعدها"
بضم العين من العد هكذا اختصره أبو ذر، وله عن الكشميهني: "نعد هذا "
وعند غير أبي ذر مثله وزادوا " نفاقا " وعند ابن بطال " ذلك "
بدل " هذا ومثله للإسماعيلي من طريق يزيد بن هارون عن عاصم بن محمد "
وعنده " من النفاق " وزاد: قال عاصم: فسمعني
(13/170)
أخي - يعني عمر - أحدث بهذا الحديث: "فقال: قال أبي قال ابن عمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكذا أخرجه الطيالسي في مسنده عن عاصم بن محمد إلى قوله: "نفاقا " قال عاصم: فحدثني أخي عن أبي أن ابن عمر قال: "كنا نعده نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ووقع في " الأطراف للمزي " ما نصه " خ في الأحكام عن أبي نعيم عن عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه به " قال ورواه معاذ بن معاذ عن عاصم وقال في آخره: "فحدثت به أخي عمر فقال: إن أباك كان يزيد فيه: في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قوله: "وقال معاذ إلى آخره: لم يذكره أبو مسعود، فيحتمل أن يكون نقله من كتاب خلف، ولم أره في شيء من الروايات التي وقعت لنا عن الفربري ولا غيره عن البخاري وقد قال الإسماعيلي: عقب الزيادة المذكورة ليس في حديث البخاري " على عهد رسول الله". قوله: "عن يزيد بن أبي حبيب" هو المصري من صغار التابعين. قوله: "عن عراك" بكسر العين المهملة وتخفيف الراء وآخره كاف هو ابن مالك الغفاري المدني، فالسند دائر بين مصري ومدني. قوله: "إن شر الناس ذو الوجهين" تقدم في " باب ما قيل في ذي الوجهين " من " كتاب الأدب " من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ: "من شر الناس " وتقدم شرحه وسائر فوائده هناك. وتعرض ابن بطال هنا لذكر ما يعارض ظاهره من قوله صلى الله عليه وسلم للذي استأذن عليه " بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له القول " وتكلم على الجمع بينهما، وحاصله أنه حيث ذمه كان لقصد التعريف بحاله وحيث تلقاه بالبشر كان لتأليفه أو لاتقاء شره، فما قصد بالحالتين إلا نفع المسلمين. ويؤيده أنه لم يصفه في حال لقائه بأنه فاضل ولا صالح، وقد تقدم الكلام عليه أيضا في " باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا " من " كتاب الأدب " وتقدم فيه أيضا بيان ما يجوز من الاغتياب في " باب آخر بعد ذلك".
(13/171)
28 -
باب الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ
7180- حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن
هندا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان رجل شحيح فأحتاج أن آخذ من ماله
قال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "
قوله: "القضاء على الغائب" أي في حقوق الآدميين دون حقوق الله بالاتفاق،
حتى لو قامت البينة على غائب بسرقة مثلا، حكم بالمال دون القطع، قال ابن بطال:
أجاز مالك والليث والشافعي وأبو عبيد وجماعة الحكم على الغائب، واستثنى ابن القاسم
عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج كالأرض والعقار إلا إن طالت غيبته أو انقطع خبره،
وأنكر ابن الماجشون صحة ذلك عن مالك وقال: "العمل بالمدينة على الحكم على الغائب
مطلقا حتى لو غاب بعد أن توجه عليه الحكم قضي عليه " وقال ابن أبي ليلى وأبو
حنيفة: "لا يقضي على الغائب مطلقا. وأما من هرب أو استتر بعد إقامة البينة
فينادي القاضي عليه ثلاثا فإن جاء وإلا أنفذ الحكم عليه " وقال ابن قدامة:
أجازه أيضا ابن شبرمة والأوزاعي وإسحاق وهو أحد الروايتين عن أحمد، ومنعه أيضا
الشعبي والثوري وهي الرواية الأخرى عن أحمد قال: "واستثنى أبو حنيفة من له
وكيل مثلا، فيجوز الحكم عليه بعد الدعوى على وكيله " واحتج من منع بحديث على
رفعه: "لا تقضي لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر " وهو حديث حسن، أخرجه
أبو داود والترمذي وغيرهما، وبحديث: "الأمر بالمساواة بين الخصمين، وبأنه لو
حضر لم تسمع بينة المدعي حتى يسأل
(13/171)
المدعى عليه فإذا غاب فلا تسمع، وبأنه لو جاز الحكم مع غيبته لم يكن الحضور واجبا عليه " وأجاب من أجاز: بأن ذلك كله لا يمنع الحكم على الغائب لأن حجته إذا حضر قائمة فتسمع ويعمل بمقتضاها ولو أدى إلى نقض الحكم السابق، وحديث على محمول على الحاضرين. وقال ابن العربي: حديث علي، إنما هو مع إمكان السماع فأما مع تعذره بمغيب فلا يمنع الحكم، كما لو تعذر بإغماء أو جنون أو حجر أو صغر، وقد عمل الحنفية بذلك في الشفعة والحكم على من عنده للغائب مال أن يدفع منه " نفقة زوج الغائب". ثم ذكر المصنف حديث عائشة في قصة هند، وقد احتج بها الشافعي وجماعة لجواز القضاء على الغائب، وتعقب بأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد، وتقدم بيان ذلك مستوفى في " كتاب النفقات " مع شرح الحديث المذكور ولله الحمد. وذكر ابن التين فيه من الفوائد غير ما تقدم " خروج المرأة في حوائجها، وإن صوتها ليس بعورة". قلت: وفي كل منهما نظر، وأما الأول فلأنه جاء أن هندا كانت جاءت للبيعة فوقع ذكر النفقة تبعا. وأما الثاني فحال الضرورة مستثنى وإنما النزاع حيث لا ضرورة.
(13/172)
29 -
باب مَنْ قُضِيَ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذْهُ
فَإِنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ لاَ يُحِلُّ حَرَامًا وَلاَ يُحَرِّمُ حَلاَلًا
7181 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ
سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهَا عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً
بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ
يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ
فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ
مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ
لِيَتْرُكْهَا
7182 - حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج
النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت "كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد
بن أبي وقاص أن بن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال
بن أخي قد كان عهد إلي فيه فقام إليه عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على
فراشه فتساوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد يا رسول الله بن أخي كان
عهد إلي فيه وقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم هو لك يا عبد بن زمعة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
الولد للفراش وللعاهر الحجر ثم قال لسودة بنت زمعة احتجبي منه لما رأى من شبهه
بعتبة فما رآها حتى لقي الله تعالى قوله: "باب" بالتنوين " من قضى له
" بضم أوله " بحق أخيه " أي خصمه فهي أخوة بالمعنى الأعم وهو الجنس
لأن المسلم والذمي والمعاهد والمرتد في هذا الحكم سواء، فهو مطرد في الأخ من النسب
ومن الرضاع وفي الدين وغير ذلك، ويحتمل أن يكون تخصيص الأخوة بالذكر من باب
التهييج، وإنما عبر بقوله بحق أخيه مراعاة للفظ الخبر ولذلك قال: "فلا يأخذه
" لأنه بقية الخبر، وهذا اللفظ وقع في رواية هشام بن عروة عن أبيه، وقد تقدم
في ترك الحيل من طريق الثوري عنه"
قوله "باب" بالتنوين من قضي له بضم أوله بحق أخيه أي خصمه فهي أخوة
بالمعنى الأعم وهو
(13/172)
الجنس لأن المسلم والذمي والمعاهد والمرتد في هذا الحكم سواء فهو مطرد في الأخ من النسب ومن الرضاع وفي الدين وغير ذلك ويحتمل ان يكون تخصيص الأخوة بالذكر من باب التهييج وانما عبر بقوله بحق أخيه مراعاة للفظ الخبر ولذلك قال فلا يأخذه لأنه بقية الخبر وهذا اللفظ وقع في رواية هشام بن عروة عن أبيه وقد تقدم في ترك الحيل من طريق الثوري عنه قوله: "فإن قضاء الحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا" هذا الكلام أخذه من قول الشافعي فإنه لما ذكر هذا الحديث قال: "فيه دلالة على أن الأمة، إنما كلفوا القضاء على الظاهر " وفيه: "أن قضاء القاضي لا يحرم حلالا ولا يحل حراما". قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان وصرح به في رواية الإسماعيلي. قوله: "سمع خصومة" في رواية شعيب عن الزهري " سمع جلبة خصام " والجلبة بفتح الجيم واللام: اختلاط الأصوات، ووقع في رواية يونس عند مسلم: "جلبة خصم " بفتح الخاء وسكون الصاد، وهو اسم مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمثنى مذكرا ومؤنثا ويجوز جمعه وتثنيته كما في رواية الباب: "خصوم " وكما في قوله تعالى :{هذان خصمان} ولمسلم من طريق معمر عن هشام " لجبة " بتقديم اللام على الجيم، وهي لغة فيها فأما الخصوم فلم أقف على تعيينهم ووقع التصريح بأنهما كانا اثنين في رواية عبد الله بن رافع عن أم سلمة عند أبي داود ولفظه: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان " وأما الخصومة فبين في رواية عبد الله بن رافع أنها كانت " في مواريث لهما " وفي لفظ عنده " في مواريث وأشياء قد درست". قوله: "بباب حجرته" في رواية شعيب ويونس عند مسلم: "عند بابه " والحجرة المذكورة هي منزل أم سلمة ووقع عند مسلم في رواية معمر " بباب أم سلمة". قوله: "إنما أنا بشر" البشر الخلق يطلق على الجماعة والواحد، بمعنى أنه منهم والمراد أنه مشارك للبشر في أصل الخلقة، ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختص بها في ذاته وصفاته، والحصر هنا مجازي لأنه يختص بالعلم الباطن ويسمى " قصر قلب " لأن أتى به ردا على من زعم أن من كان رسولا فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم. قوله: "وأنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض" في رواية سفيان الثوري " في ترك الحيل، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " ومثله لمسلم من طريق أبي معاوية وتقدم البحث في المراد بقوله ألحن في ترك الحيل. قوله: "فأحسب أنه صادق" هذا يؤذن أن في الكلام حذفا تقديره " وهو في الباطن كاذب " وفي رواية معمر " فأظنه صادقا". قوله: "فأقضي له بذلك" في رواية أبي داود من طريق الثوري " فأقضى له عليه على نحو مما أسمع " ومثله في رواية أبي معاوية وفي رواية عبد الله بن رافع " إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه". قوله: "فمن قضيت له بحق مسلم" في رواية مالك ومعمر " فمن قضيت له بشيء من حق أخيه " وفي رواية الثوري " فمن قضيت له من أخيه شيئا " وكأنه ضمن قضيت معنى " أعطيت " ووقع عند أبي داود عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه: "فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه " وفي رواية عبد الله بن رافع عند الطحاوي والدار قطني " فمن قضيت له بقضية أراها يقطع بها قطعة ظلما فإنما يقطع له بها قطعة من نار إسطاما يأتي بها في عنقه يوم القيامة " والإسطام بكسر الهمزة وسكون المهملة والطاء المهملة " قطعة " فكأنها للتأكيد. قوله: "فإنما هي" الضمير للحالة أو القصة. قوله: "قطعة من النار" أي " الذي قضيت له به " بحسب الظاهر إذا كان في الباطن لا يستحقه فهو عليه حرام يئول به إلى النار، وقوله قطعة من النار، تمثيل يفهم منه شدة التعذيب على من يتعاطاه فهو من مجاز التشبيه كقوله تعالى {إنما يأكلون في بطونهم نارا} . قوله: "فيأخذها أو ليتركها" في رواية يونس " فليحملها
(13/173)
أو ليذرها " وفي رواية مالك عن هشام " فلا يأخذه " فإنما أقطع له " قطعة من النار " قال الدار قطني: هشام وإن كان ثقة لكن الزهري أحفظ منه، وحكاه الدار قطني عن شيخه أبي بكر النيسابوري. قلت: ورواية الزهري ترجع إلى رواية هشام فإن الأمر فيه للتهديد لا لحقيقة التخيير، بل هو كقوله. {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} قال ابن التين: هو خطاب للمقضي له، ومعناه: أنه أعلم من نفسه، هل هو محق أو مبطل؟ فإن كان محقا فليأخذ، وإن كان مبطلا فليترك، فإن الحكم لا ينقل الأصل عما كان عليه. "تنبيه": زاد عبد الله بن رافع في آخر الحديث: "فبكى الرجلان. وقال كل منهما حقي لك فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم أما إذا فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم تحاللا " وفي هذا الحديث من الفوائد إثم من خاصم في باطل حتى استحق به في الظاهر شيئا هو في الباطل حرام عليه وفيه: "أن من ادعى مالا ولم يكن له بينة، فحلف المدعى عليه وحكم الحاكم ببراءة الحالف، أنه لا يبرأ في الباطن، وأن المدعي لو أقام بينة بعد ذلك تنافي دعواه سمعت وبطل الحكم " وفيه: "أن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل حتى يصير حقا في الظاهر ويحكم له به أنه لا يحل له تناوله في الباطن ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم " وفيه: "أن المجتهد قد يخطئ فيرد به على من زعم أن كل مجتهد مصيب " وفيه: "أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يؤجر " كما سيأتي وفيه: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء وخالف في ذلك قوم " وهذا الحديث من أصرح ما يحتج به عليهم، وفيه: "أنه ربما أداه اجتهاده إلى أمر فيحكم به ويكون في الباطن بخلاف ذلك لكن مثل ذلك لو وقع لم يقر عليه صلى الله عليه وسلم لثبوت عصمته " واحتج من منع مطلقا بأنه لو جاز وقوع الخطأ في حكمه للزم أمر المكلفين بالخطأ لثبوت الأمر باتباعه في جميع أحكامه، حتى قال تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} الآية: وبأن الإجماع معصوم من الخطأ، فالرسول أولى بذلك لعلو رتبته والجواب عن الأول: "أن الأمر إذا استلزم إيقاع الخطأ لا محذور فيه، لأنه موجود في حق المقلدين فإنهم مأمورون باتباع المفتي والحاكم ولو جاز عليه الخطأ " والجواب عن الثاني: "أن الملازمة مردودة فإن الإجماع إذا فرض وجوده دل على أن مستندهم ما جاء عن الرسول، فرجع الاتباع إلى الرسول لا إلى نفس الإجماع " والحديث حجة لمن أثبت " أنه قد يحكم بالشيء في الظاهر، ويكون الأمر في الباطن بخلافه " ولا مانع من ذلك إذ لا يلزم منه محال عقلا ولا نقلا، وأجاب من منعه بأن الحديث يتعلق بالحكومات الواقعة في فصل الخصومات المبنية على الإقرار أو البينة، ولا مانع من وقوع ذلك فيها، ومع ذلك فلا يقر على الخطأ، وإنما الممتنعة أن يقع فيه الخطأ " أن يخبر عن أمر بأن الحكم الشرعي فيه كذا ويكون ذلك ناشئا عن اجتهاده " فإنه لا يكون إلا حقا، لقوله تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} الآية. وأجيب بأن ذلك يستلزم الحكم الشرعي فيعود الإشكال كما كان، ومن حجج من أجاز ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم " فيحكم بإسلام من تلفظ بالشهادتين - ولو كان في نفس الأمر يعتقد خلاف ذلك - والحكمة في ذلك مع أنه كان يمكن اطلاعه بالوحي على كل حكومة أنه لما كان مشرعا، كان يحكم بما شرع للمكلفين ويعتمده الحكام بعده، ومن ثم قال: "إنما أنا بشر " أي " في الحكم بمثل ما كلفوا به " وإلى هذه النكتة أشار المصنف بإيراده حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة حيث حكم صلى الله عليه وسلم بالولد لعبد بن زمعة وألحقه بزمعة، ثم لما رأى شبهة بعتبة أمر سودة أن
(13/174)
تحتجب منه احتياطا، ومثله قوله في قصة المتلاعنين لما وضعت التي لو عنت ولدا يشبه الذي رميت به " لولا الإيمان لكان لي ولها شأن " فأشار البخاري إلى أنه صلى الله عليه وسلم حكم في ابن وليدة زمعة بالظاهر، ولو كان في نفس الأمر ليس من زمعة ولا يسمى ذلك خطأ في الاجتهاد، ولا هو من موارد الاختلاف في ذلك، وسبقه إلى ذلك الشافعي فإنه لما تكلم على حديث الباب قال: "وفيه أن الحكم بين الناس يقع على ما يسمع من الخصمين بما لفظوا به وإن كان يمكن أن يكون في قلوبهم غير ذلك، وأنه لا يقضي على أحد بغير ما لفظ به " فمن فعل ذلك فقد خالف كتاب الله وسنة نبيه قال: "ومثل هذا قضاؤه لعبد بن زمعة بابن الوليدة، فلما رأى الشبه بينا بعتبة قال احتجبي منه يا سودة انتهى. ولعل السر في قوله {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} امتثال قول الله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي في إجراء الأحكام على الظاهر الذي يستوي فيه جميع المكلفين، فأمر أن يحكم بمثل ما أمروا أن يحكموا به، ليتم الاقتداء به وتطيب نفوس العباد للانقياد إلى الأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن، والحاصل أن هنا مقامين أحدهما " طريق الحكم " وهو الذي كلف المجتهد بالتبصر فيه، وبه يتعلق الخطأ والصواب. وفيه البحث، والآخر " ما يبطنه الخصم ولا يطلع عليه إلا الله ومن شاء من رسله " فلم يقع التكليف به. قال الطحاوي: ذهب قوم إلى أن الحكم بتمليك مال أو إزالة ملك أو إثبات نكاح أو فرقة أو نحو ذلك، إن كان في الباطن كما هو في الظاهر نفذ على ما حكم به، وإن كان في الباطن على خلاف ما استند إليه الحاكم من الشهادة أو غيرها لم يكن الحكم موجبا للتمليك ولا الإزالة ولا النكاح ولا الطلاق ولا غيرها، وهو قول الجمهور، ومعهم أبو يوسف، وذهب آخرون إلى أن الحكم إن كان في مال، وكان الأمر في الباطن بخلاف ما استند إليه الحاكم من الظاهر، لم يكن ذلك موجبا لحله للمحكوم له وإن كان في نكاح أو طلاق فإنه ينفذ باطنا وظاهرا، وحملوا حديث الباب على ما ورد فيه وهو المال واحتجوا لما عداه بقصة المتلاعنين فإنه صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين مع احتمال أن يكون الرجل قد صدق فيما رماها به، قال: فيؤخذ من هذا أن " كل قضاء ليس فيه تمليك مال أنه على الظاهر ولو كان الباطن بخلافه " وأن حكم الحاكم يحدث في ذلك التحريم والتحليل بخلاف الأموال، وتعقب بأن الفرقة في اللعان إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب، وهو أصل برأسه فلا يقاس عليه، وأجاب غيره من الحنفية بأن ظاهر الحديث يدل على أن ذلك مخصوص بما يتعلق بسماع كلام الخصم حيث لا بينة هناك ولا يمين، وليس النزاع فيه وإنما النزاع في الحكم المرتب على الشهادة وبأن " من " في قوله فمن قضيت له شرطية - وهي لا تستلزم الوقوع - فيكون من فرض ما لم يقع وهو جائز فيما تعلق به غرض وهو هنا محتمل لأن يكون للتهديد والزجر عن الإقدام على أخذ أموال الناس باللسن والإبلاغ في الخصومة، وهو وإن جاز أن يستلزم عدم نفوذ الحكم باطنا في العقود والفسوخ لكنه لم يسق لذلك فلا يكون فيه حجة لمن منع وبأن الاحتجاج به يستلزم أنه صلى الله عليه وسلم يقر على الخطأ لأنه لا يكون ما قضى به " قطعة من النار " إلا إذا استمر الخطأ، وإلا فمتى فرض أنه يطلع عليه فإنه يجب أن يبطل ذلك الحكم ويرد الحق لمستحقه، وظاهر الحديث يخالف ذلك، فإما أن يسقط الاحتجاج به ويؤول على ما تقدم، وإما أن يستلزم استمرار التقرير على الخطأ وهو باطل، والجواب عن الأول: أنه خلاف الظاهر، وكذا الثاني، والجواب عن الثالث: أن الخطأ الذي لا يقر عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاده فيما لم يوح إليه فيه، وليس النزاع فيه وإنما النزاع في الحكم الصادر منه بناء على شهادة زور أو يمين فاجرة فلا يسمى خطأ للاتفاق على وجوب العمل
(13/175)
بالشهادة وبالإيمان، وإلا لكان الكثير من الأحكام يسمى خطأ وليس كذلك، كما تقدمت الإشارة إليه في حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وحديث: "إني لم أؤمر بالتنقيب عن قلوب الناس " وعلى هذا فالحجة من الحديث ظاهرة في شمول الخبر: الأموال والعقود والفسوخ والله أعلم. ومن ثم قال الشافعي " إنه لا فرق في دعوى حل الزوجة لمن أقام بتزويجها بشاهدي زور وهو يعلم بكذبهما، وبين من ادعى على حر أنه في ملكه " وأقام بذلك شاهدي زور، وهو يعلم حريته، فإذا حكم له الحاكم بأنه ملكه لم يحل له أن يسترقه بالإجماع قال النووي: والقول بأن حكم الحاكم يحل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا الحديث الصحيح، وللإجماع السابق على قائلة ولقاعدة أجمع العلماء عليها ووافقهم القائل المذكور، وهو " أن الإبضاع أولى بالاحتياط من الأموال " وقال ابن العربي: إن كان حاكما نفذ على المحكوم له أو عليه " وإن كان مفتيا لم يحل، فإن كان المفتى له مجتهدا يرى بخلاف ما أفتاه به لم يجز، وإلا جاز " والله أعلم. قال: ويستفاد من قوله: "وتوخيا الحق جواز الإبراء من المجهول، لأن التوخي لا يكون في المعلوم " وقال القرطبي: شنعوا على من قال ذلك قديما وحديثا لمخالفة الحديث الصحيح؛ " ولأن فيه صيانة المال وابتذال الفروج، وهي أحق أن يحتاط لها وتصان " واحتج بعض الحنفية بما جاء عن علي " أن رجلا خطب امرأة فأبت فادعى أنه تزوجها وأقام شاهدين، فقالت المرأة أنهما شهدا بالزور، فزوجني أنت منه فقد رضيت، فقال: شهداك زوجاك، وأمضى عليها النكاح " وتعقب بأنه لم يثبت عن علي، واحتج المذكور من حيث النظر بأن الحاكم قضى بحجة شرعية فيما له ولاية الإنشاء فيه فجعل الإنشاء تحرزا عن الحرام، والحديث صريح في المال وليس النزاع فيه، فإن القاضي لا يملك دفع مال زيد إلى عمرو، ويملك إنشاء العقود والفسوخ، فإنه يملك بيع أمة زيد مثلا من عمرو حال خوف الهلاك للحفظ وحال الغيبة، ويملك إنشاء النكاح على الصغيرة، والفرقة على العينين، فيجعل الحكم إنشاء احترازا عن الحكم، ولأنه لو لم ينفذ باطنا فلو حكم بالطلاق لبقيت حلالا للزوج الأول باطنا وللثاني ظاهرا، فلو ابتلى الثاني مثل ما ابتلى الأول حلت للثالث، وهكذا فتحل لجمع متعدد في زمن واحد، ولا يخفى فحشة بخلاف ما إذا قلنا بنفاذه باطنا فإنها لا تحل إلا لواحد، انتهى وتعقب بأن الجمهور إنما قالوا في هذا: تحرم على الثاني مثلا إذا علم أن الحكم ترتب على شهادة الزور، فإذا اعتمد الحكم وتعمد الدخول بها فقد ارتكب محرما كما لو كان الحكم بالمال فأكله، ولو ابتلى الثاني كان حكم الثالث كذلك والفحش إنما لزم من الإقدام على تعاطي المحرم، فكان كما لو زنوا ظاهرا واحدا بعد واحد. وقال ابن السمعاني: شرط صحة الحكم وجود الحجة وإصابة المحل، وإذا كانت البينة في نفس الأمر شهود زور لم تحصل الحجة، لأن حجة الحكم هي البينة العادلة فإن حقيقة الشهادة إظهار الحق؛ وحقيقة الحكم إنفاذ ذلك، وإن كان الشهود كذبة لم تكن شهادتهم حقا، قال: "فإن احتجوا بأن القاضي حكم بحجة شرعية أمر الله بها وهي البينة العادلة في علمه ولم يكلف بالإطلاع على صدقهم في باطن الأمر، فإذا حكم بشهادتهم فقد امتثل ما آمر به فلو قلنا لا ينفذ في باطن الأمر للزم إبطال ما وجب بالشرع لأن صيانة الحكم عن الأبطال مطلوبة فهو بمنزلة القاضي في مسألة اجتهادية على مجتهد لا يعتقد ذلك فإنه يجيب عليه قبول ذلك وإن كان لا يعتقده صيانة للحكم " وأجاب ابن السمعاني. بأن هذه الحجة للنفوذ ولهذا لا يأثم القاضي وليس من ضرورة وجوب القضاء نفوذ القضاء حقيقة في باطن الأمر، وإنما يجب صيانة القضاء عن الإبطال إذا
(13/176)
صادف حجة صحيحة والله أعلم. فرع: لو كان المحكوم له يعتقد خلاف ما حكم له به الحاكم، هل يحل له أخذ ما حكم له به أو لا؟ كمن مات ابن ابنه وترك أخا شقيقا فرفعه لقاض يرى في الجد رأى أبي بكر الصديق، فحكم له بجميع الإرث دون الشقيق، وكان الجد المذكور يرى رأي الجمهور، نقل ابن المنذر عن الأكثر أنه " يجب على الجد أن يشارك الأخ الشقيق " عملا بمعتقده والخلاف في المسألة مشهور، واستدل بالحديث لمن قال: "إن الحاكم لا يحكم بعلمه " بدليل الحصر في قوله: "إنما أقضي له بما أسمع " وقد تقدم البحث فيه قبل، وفيه: إن التعمق في البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبها على تزيين الباطل في صورة الحق وعكسه مذموم، فإن المراد بقوله: "أبلغ " أي أكثر بلاغة " ولو كان ذلك في التوصل إلى الحق لم يذم وإنما يذم من ذلك ما يتوصل به إلى الباطل في صورة الحق، فالبلاغة إذن لا تذم لذاتها وإنما تذم بحسب التعلق الذي يمدح بسببه وهي في حد ذاتها ممدوحة، وهذا كما يذم صاحبها إذا طرأ عليه بسببها الإعجاب، وتحقير غيره ممن لم يصل إلى درجته ولا سيما إن كان الغير من أهل الصلاح فإن البلاغة إنما تذم من هذه الحيثية بحسب ما ينشأ عنها من الأمور الخارجية عنها، ولا فرق في ذلك بين البلاغة وغيرها بل كل فتنة توصل إلى المطلوب محمودة في حد ذاتها وقد تذم أو تمدح بحسب متعلقها، واختلف في تعريف البلاغة فقيل: أن يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، وقيل: إيصال المعنى إلى الغير بأحسن لفظ، وقيل: الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير إضمار، وقيل: قليل لا يبهم وكثير لا يسأم؛ وقيل: إجمال اللفظ واتساع المعنى، وقيل: تقليل اللفظ وتكثير المعنى، وقيل: حسن الإيجاز مع إصابة المعنى، وقيل: سهولة اللفظ مع البديهة، وقيل: لمحة دالة أو كلمة تكشف عن البغية، وقيل: الإيجاز من غير عجز والإطناب من غير خطأ، وقيل: النطق في موضعه والسكوت في موضعه، وقيل معرفة الفصل والوصل، وقيل: الكلام الدال أوله على آخره وعكسه. وهذا كله عن المتقدمين، وعرف أهل المعاني والبيان البلاغة: بأنها " مطابقة الكلام لمقتضى الحال والفصاحة " وهي خلوه عن التعقيد. وقالوا المراد بالمطابقة: ما يحتاج إليه المتكلم بحسب تفاوت المقامات، كالتأكيد وحذفه، والحذف وعدمه، أو الإيجاز والإسهاب ونحو ذلك، والله أعلم. وفيه الرد على من حكم بما يقع في خاطره من غير استناد إلى أمر خارجي من بينة ونحوها، واحتج بأن الشاهد المتصل به أقوى من المنفصل عنه ووجه الرد عليه كونه صلى الله عليه وسلم أعلى في ذلك من غيره مطلقا، ومع ذلك فقد دل حديثه هذا على أنه إنما يحكم بالظاهر في الأمور العامة فلو كان المدعي صحيحا لكان الرسول أحق بذلك، فإنه أعلم إنه تجري الأحكام على ظاهرها، ولو كان يمكن أن الله يطلعه على غيب كل قضية، وسبب ذلك أن تشريع الأحكام واقع على يده فكأنه أراد تعليم غيره من الحكام أن يعتمدوا ذلك. نعم: لو شهدت البينة مثلا بخلاف ما يعلمه علما حسيا بمشاهدة أو سماع، يقينيا أو ظنيا راجحا لم يجز له أن يحكم بما قامت به البينة، ونقل بعضهم الاتفاق وإن وقع الاختلاف في القضاء بالعلم، كما تقدم في " باب الشهادة " تكون عند الحاكم في ولايته القضاء، وفي الحديث أيضا: موعظة الإمام الخصوم ليعتمدوا الحق والعمل بالنظر الراجح وبناء الحكم عليه وهو أمر إجماعي للحام والمفتي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(13/177)
30 -
باب الْحُكْمِ فِي الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا
7183 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ وَالأَعْمَشِ عَنْ أَبِي
(13/177)
وَائِلٍ
قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحْلِفُ
عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ إِلاَّ لَقِيَ
اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الْآيَةَ فَجَاءَ
الأَشْعَثُ وَعَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُهُمْ فَقَالَ فِيَّ نَزَلَتْ وَفِي رَجُلٍ
خَاصَمْتُهُ فِي بِئْرٍ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ
قُلْتُ لاَ قَالَ فَلْيَحْلِفْ قُلْتُ إِذًا يَحْلِفُ فَنَزَلَتْ {إنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّه} الْآيَةَ"
قول "باب الحكم في البئر ونحوها" ذكر فيه حديث عبد الله - وهو ابن مسعود
- في نزول قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} وفيه قول الأشعث " في نزلت، وفي رجل
خاصمته في بئر، وقد تقدم شرحه مستوفى في " كتاب الأيمان والنذور" قال
ابن بطال: هذا الحديث حجة في أن حكم الحاكم في الظاهر لا يحل الحرام ولا يبيح
المحظور، لأنه صلى الله عليه وسلم حذر أمته عقوبة من اقتطع من حق أخيه شيئا بيمين
فاجرة، والآية المذكورة من أشد وعيد جاء في القرآن، فيؤخذ من ذلك أن من تحيل على
أخيه وتوصل إلى شيء من حقه بالباطل فإنه لا يحل له لشدة الإثم فيه، قال ابن
المنير: وجه دخول هذه الترجمة في القصة مع أنه لا فرق بين البئر والدار والعبد حتى
ترجم على البئر وحدها، أنه أراد الرد على من زعم أن الماء لا يملك، فحقق بالترجمة
أنه يملك لوقوع الحكم بين المتخاصمين فيها، انتهى. وفيه نظر من وجهين أحدهما: أنه
لم يقتصر في الترجمة على البئر بل قال ونحوها، والثاني: لو اقتصر لم يكن فيه حجة
على من منع بيع الماء لأنه يجوز بيع البئر ولا يدخل الماء، وليس في الخبر تصريح
بالماء فكيف يصح الرد.
(13/178)
31 -
باب الْقَضَاءُ فِي قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ الْقَضَاءُ فِي قَلِيلِ الْمَالِ
وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ
7185 - حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن زينب بنت
أبي سلمة أخبرته عن أمها أم سلمة قالت "سمع النبي صلى الله عليه وسلم جلبة
خصام ثم بابه فخرج عليهم فقال إنما أن بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضا أن يكون
أبلغ من بعض أقضي له بذلك وأحسب أنه صادق فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من
النار فليأخذها أو ليدعها"
قوله: "باب" بالتنوين "القضاء في قليل المال وكثيره سواء" قال
ابن المنير: كأنه خشي غائلة لتخصيص في الترجمة التي قبل هذه " فترجم بأن
القضاء عام في كل شيء: قل أو جل " ثم ذكر فيه حديث أم سلمة المذكور قبل بباب،
لقوله فيه فمن قضيت له بحق مسلم وهو يتناول القليل والكثير، وكأنه أشار بهذه
الترجمة إلى الرد على من قال: "إن للقاضي أن يستنيب بعض من يريد في بعض
الأمور دون بعض، بحسب قوة معرفته ونفاذ كلمته في ذلك " وهو منقول عن بعض
المالكية، أو على من قال: "لا يجب اليمين إلا في قدر معين من المال، ولا تجب
في الشيء
(13/178)
التافه أو على من كان من القضاة لا يتعاطى الحكم في الشيء التافه، بل إذا رفع إليه رده إلى نائبه مثلا " قاله ابن المنير، قال: وهو نوع من الكبر، والأول أليق بمراد البخاري. قوله: "وقال ابن عيينة" هو سفيان الهلالي "عن ابن شبرمة" هو عبد الله الضبي "القضاء في قليل المال وكثيره سواء" ولم يقع لي هذا الأثر موصولا.
(13/179)
32 -
باب بَيْعِ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَضِيَاعَهُمْ
وَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَبَّرًا مِنْ
نُعَيْمِ بْنِ النَّحَّامِ
7186 - حدثنا بن نمير حدثنا محمد بن بشر حدثنا إسماعيل حدثنا سلمة بن كهيل عن عطاء
عن جابر بن عبد الله قال بلغ النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلا من أصحابه
أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره فباعه بثمانمائة درهم ثم أرسل بثمنه
إليه"
قوله: "باب بيع الإمام على الناس أموالهم وضياعهم" قال ابن المنير:
"أضاف البيع إلى الإمام ليشير إلى أن ذلك يقع في مال السفيه أو في وفاء دين
الغائب أو من يمتنع أو غير ذلك " ليتحقق أن للإمام التصرف في عقود الأموال في
الجملة. قوله: "وقد باع النبي صلى الله عليه وسلم مدبرا من نعيم بن
النحام" قال ابن المنير: ذكر في الترجمة الضياع ولم يذكر إلا بيع العبد،
فكأنه أشار إلى قياس العقار على الحيوان ثم أسند حديث جابر قال: "بلغ النبي
صلى الله عليه وسلم أن رجلا من أصحابه أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره،
فباعه بثمانمائة درهم ثم أرسل بثمنه إليه " وقد مضى شرحه في " كتاب
العتق " ووقع هنا للكشميهني: "عن دين " بفتح الدال وسكون التحتانية
بعدها نون، بدل قوله: "عن دبر " بضم الدال والموحدة بعدها راء، والثاني
هو المعروف والمشهور في الروايات كلها والأول تصحيف، قال المهلب: إنما يبيع الإمام
على الناس أموالهم إذا رأى منهم سفها في أموالهم، وأما من ليس بسفيه فلا يباع عليه
شيء من ماله إلا في حق يكون عليه، يعني إذا امتنع من أداء الحق وهو كما قال: لكن
قصة بيع المدبر ترد على هذا الحصر وقد أجاب عنها " بأن صاحب المدبر لم يكن له
مال غيره، فلما رآه أنفق جميع ماله، وأنه تعرض بذلك للتهلكة نقض عليه فعله ولو كان
لم ينفق جميع ماله لم ينقض فعله " كما قال للذي كان يخدع في البيوع " قل
لا خلابة " لأنه لم يفوت على نفسه جميع ماله انتهى. فكأنه كان في حكم السفيه:
"فلذلك باع عليه ماله " والله أعلم.
(13/179)
33 -
باب مَنْ لَمْ يَكْتَرِثْ بِطَعْنِ مَنْ لاَ يَعْلَمُ فِي الأُمَرَاءِ حَدِيثًا
7187 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَطُعِنَ فِي
إِمَارَتِهِ وَقَالَ إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ
فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا
لِلْإِمْرَةِ وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ
أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ"
قوله: "باب من لم يكترث بطعن من لا يعلم في الأمراء حديثا" أي " لم
يلتفت " وزنه ومعناه وهو افتعال من
(13/179)
34 -
باب الأَلَدِّ الْخَصِمِ وَهُوَ الدَّائِمُ فِي الْخُصُومَةِ لُدًّا: عُوجًا. الد:
أعوج
7188 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن بن جريج سمعت بن أبي مليكة يحدث عن عائشة
رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبغض الرجال إلى الله
الألد الخصم"
قوله: "باب الألد الخصم" بفتح المعجمة وكسر الصاد المهملة، وقد تقدم
بيان المراد به في " كتاب المظالم " وفي تفسير سورة البقرة، وقوله:
"وهو الدائم في الخصومة " من تفسير المصنف، ويحتمل أن يكون المراد
" الشديد الخصومة " فإن الخصم من صيغ المبالغة فيحتمل الشدة ويحتمل
الكثرة، وقوله: "لدا " عوجا، وقع في رواية الكشميهني: "ألد "
أعوج وهو يرد على ابن المنير حيث صحف هذه اللفظة فقال: قوله: "إدا "
عوجا، لا أعلم لهذا في هذه الترجمة وجها إلا إن كان أراد أن " الألد "
مشتق من اللدد، وهو الاعوجاج والانحراف عن الحق، وأصله من " اللديد "
وهو جانب الوادي ويطلق على جانب الفم، ومنه " اللدود " وهو صب الدواء
منحرفا عن وسط الفم إلى جانبه، فأراد أن يبين أن العوج يستعمل في المعاني كما
يستعمل في الأعيان فمن استعماله في المعاني " اللدود والإد " وهو قوله
تعالى {لقد جئتم شيئا إدا " أي شيئا منحرفا عن الصواب ومعوجا عن سمة
الاعتدال. قلت: ولم أرها في شيء من نسخ البخاري هنا إلا باللام، وقد تقدم في تفسير
سورة مريم نقله عن ابن عباس أنه قال: "إدا
(13/180)
عظيما " وعن مجاهد أنه قال: "لدا عوجا " وذكرت هناك من وصلهما، ووجدت في تفسير عبد بن حميد من طريق معمر عن قتادة في قوله تعالى {قَوْماً لُدّاً} قال جدلا بالباطل، ومن طريق سليمان التيمي عن قتادة قال: "الجدل: الخصم " ومن طريق مجاهد قال: "لا يستقيمون " وهذا نحو قوله: "عوجا " وأسند ابن أبي حاتم من طريق إسماعيل ابن أبي خالد عن أبي صالح في قوله: "وتنذر به قوما لدا " قال: "عوجا عن الحق " وهو بضم العين وسكون الواو وفيه تقوية لما وقع في نسخ الصحيح " واللد " بضم اللام وتشديد الدال، جمع ألد وقد أسند ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال: "اللد: الخصم " وكأنه تفسير باللازم لأن من اعوج عن الحق كان كأنه لم يسمع وعن محمد بن كعب قال: "الألد: الكذاب " وكأنه أراد أن من يكثر المخاصمة يقع في الكذب كثيرا، وتفسير " الألد بالأعوج " على ما وقع عند الكشميهني يحمل على انحرافه عن الحق وتفسير " الألد بالشديد الخصومة " لأنه كلما أخذ عليه جانب من الحجة أخذ في آخر أو لأعماله لديديه، وهما جانبا فمه في المخاصمة. وقال أبو عبيدة في " كتاب المجاز " في قوله {قوما لدا} واحدهم ألد " وهو الذي يدعي الباطل ولا يقبل الحق " وذكر حديث عائشة في " الألد " وقد سبق شرحه وقوله: "أبغض الرجال " إلخ قال الكرماني " الأبغض هو الكافر " فمعنى الحديث: "أبغض الرجال الكفار " الكافر: المعاند أو بعض الرجال الخاصمين. قلت: والثاني هو المعتمد وهو أعم من أن يكون كافرا أو مسلما، فإن كان كافرا فأفعل التفضيل في حقه على حقيقتها في العموم، وإن كان مسلما فسبب البغض أن كثرة المخاصمة تفضي غالبا إلى ما يذم صاحبه أو يخص في حق المسلمين بمن خاصم في باطل ويشهد للأول حديث: "كفي بك إثما أن لا تزال مخاصما " أخرجه الطبراني عن أبي أمامة بسند ضعيف وورد الترغيب في ترك الخاصمة، فعند أبي داود من طريق سليمان بن حبيب عن أبي أمامة رفعه: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا " وله شاهد عند الطبراني من حديث معاذ بن جبل " والربض " بفتح البراء والموحدة بعدها ضاد معجمة " الأسفل".
(13/181)
35 -
باب إِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِجَوْرٍ أَوْ خِلاَفِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ رَدٌّ
7189 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدًا ح و حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَلَمْ
يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا فَقَالُوا صَبَأْنَا صَبَأْنَا فَجَعَلَ
خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ
فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ
أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ فَذَكَرْنَا
ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي
أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَرَّتَيْنِ
قوله: "باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد" أى مردود.
قوله: "حدثنا محمود" هو ابن غيلان، وقوله: "وحدثني أبو عبد الله
نعيم بن حماد " كذا لأبي ذر عن ابن عمر، ولغيره قال أبو عبد الله وهو المصنف
" حدثني نعيم " وساق غير أبي ذر أيضا السند إلى قوله عن ابن عمر بعث
النبي صلى الله عليه وسلم خالدا ووقع في رواية
(13/181)
عبد الرزاق بسنده إلى سالم - وهو ابن عبد الله بن عمر - عن أبيه، وقد تقدم شرح هذا الحديث في المغازي في " باب بعث خالد إلى بني جذيمة " والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " يعني من قتله الذين قالوا: صبأنا قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول، فإن فيه إشارة إلى تصويب فعل ابن عمر ومن تبعه في تركهم متابعة خالد على قتل من أمرهم بقتلهم من المذكورين به وقال الخطابي: الحكمة في تبرئه صلى الله عليه وسلم من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهدا أن يعرف أنه لم يأذن له في ذلك خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه، ولينزجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله ا هـ ملخصا. وقال ابن بطال: الإثم وإن كان ساقطا عن المجتهد في الحكم إذا تبين أنه بخلاف جماعة أهل العلم، لكن الضمان لازم للمخطئ عند الأكثر مع الاختلاف، هل يلزم ذلك عاقلة الحاكم أم بيت المال، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في " كتاب الديات " والذي يظهر: أن التبرأ من الفعل لا يستلزم إثم فاعله ولا إلزامه الغرامة، فإن إثم المخطئ مرفوع وإن كان فعله ليس بمحمود.
(13/182)
36 -
باب الإِمَامِ يَأْتِي قَوْمًا فَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ
7190 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ
الْمَدَنِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ كَانَ قِتَالٌ بَيْنَ
بَنِي عَمْرٍو فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَتَاهُمْ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا حَضَرَتْ
صَلاَةُ الْعَصْرِ فَأَذَّنَ بِلاَلٌ وَأَقَامَ وَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ
وَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي
الصَّلاَةِ فَشَقَّ النَّاسَ حَتَّى قَامَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ فِي
الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ قَالَ وَصَفَّحَ الْقَوْمُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا
دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ لَمْ يَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْرُغَ فَلَمَّا رَأَى
التَّصْفِيحَ لاَ يُمْسَكُ عَلَيْهِ الْتَفَتَ فَرَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِيَدِهِ أَنْ امْضِهْ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَلَبِثَ أَبُو
بَكْرٍ هُنَيَّةً يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَشَى الْقَهْقَرَى فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ تَقَدَّمَ فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ
مَا مَنَعَكَ إِذْ أَوْمَأْتُ إِلَيْكَ أَنْ لاَ تَكُونَ مَضَيْتَ قَالَ لَمْ
يَكُنْ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَؤُمَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ لِلْقَوْمِ إِذَا رَابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحْ الرِّجَالُ
وَلْيُصَفِّحْ النِّسَاءُ قوله: "باب الإمام يأتي قوما فيصلح بينهم" في
رواية الكشمهيني " ليصلح " باللام بدل الفاء. قوله: "كان قتال بين
بني عمرو" في رواية مالك عن أبي حازم الماضية في أبواب الإمامة " أن
النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم " وقد تقدم
شرحه مستوفى هناك وذكره هناك بلفظ: "فليصفق والتصفيق " ووقع هنا بلفظ:
"فليصفح والتصفيح " وهما بمعنى وقوله في هذه الطريق " فلما حضرت
صلاة العصر فأذن وأقام " قال الكرماني جواب الفاء في قوله: "فلما "
محذوف سواء كانت لما شرطية أو ظرفية والتقدير " جاء المؤذن " قلت: إنما
اختصره البخاري وقد أخرجه أبو داود عن عمرو بن عوف عن حماد فقال فيه بعد قوله:
"ثم أتاهم ليصلح بينهم فقال لبلال إن حضرت صلاة العصر ولم آتك فمر أبا بكر
فليصل بالناس، فلما حضرت العصر أذن بلال ثم أقام " فذكره، وقوله: "أن
أمضه " فعل أمر بالمضي والهاء للسكت، وقوله: "هكذا " أي إشارة إليه
بالمكث في مكانه،
(13/182)
وقوله: "يحمد الله " في رواية الكشميهني: "فحمد الله " بالفاء بدل التحتانية وفي قوله: "لم يكن لابن أبي قحافة " هضم لنفسه وتواضع حيث لم يقل لي ولا لأبي بكر وعادة العرب إذا عظمت الرجل ذكرته باسمه وكنيته أو لقبه، وفي غير ذلك تنسبه إلى أبيه ولا تسميه، قال ابن المنير: فقه الترجمة التنبيه على جواز مباشرة الحاكم الصلح بين الخصوم ولا يعد ذلك تصحيفا في الحكم، وعلى جواز ذهاب الحاكم إلى موضع الخصوم للفصل بينهم إما عند عظم الخطب وإما ليكشف ما لا يحاط به إلا بالمعاينة، ولا يعد ذلك تخصيصا ولا تمييزا ولا وهنا. "تنبيه": وقع في نسخة الصغاني في آخر هذا الحديث قال أبو عبد الله لم يقل هذا الحرف " يا بلال فمر أبا بكر " غير حماد.
(13/183)
37 -
باب يُسْتَحَبُّ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَاقِلًا
7191 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أَبُو ثَابِتٍ حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ عَنْ
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ لِمَقْتَلِ أَهْلِ
الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي
فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ
الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ
فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ وَإِنِّي أَرَى أَنْ
تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ هُوَ وَاللَّهِ
خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ
صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى
عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَإِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ
نَتَّهِمُكَ قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ قَالَ زَيْدٌ فَوَاللَّهِ
لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ
مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ
يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ يَحُثُّ مُرَاجَعَتِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ
صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَرَأَيْتُ
فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَيَا فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ
وَالرِّقَاعِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ فَوَجَدْتُ فِي آخِرِ سُورَةِ
التَّوْبَةِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إِلَى آخِرِهَا مَعَ
خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ فَأَلْحَقْتُهَا فِي سُورَتِهَا وَكَانَتْ
الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ
بِنْتِ عُمَرَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ اللِّخَافُ يَعْنِي
الْخَزَفَ
قوله: "باب يستحب للكاتب أن يكون أمينا عاقلا" أي كاتب الحكم وغيره، ذكر
فيه حديث زيد ابن ثابت في قصته مع أبي بكر وعمر في جمع القرآن، وقد تقدم شرحه
مستوفى في فضائل القرآن. حديث زيد ابن ثابت في قصته مع أبي بكر وعمر في جمع
القرآن، وقد تقدم شرحه مستوفى في فضائل القرآن، والغرض منه قول أبي بكر لزيد
" إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك " وقوله في آخره قال: "محمد بن عبيد
الله " بالصغير وهو شيخ البخاري الذي روى عنه هذا الحديث فسر " اللخاف
" التي ذكرت في هذا الحديث، وهي بكسر اللام وتخفيف الخاء المعجمة بالخزف، وهي
بفتح الخاء المعجمة والزاي بعدها فاء، وقد تقدم بيان الاختلاف في تفسيرها هناك،
وحكى ابن بطال عن المهلب في هذا الحديث: "أن العقل أصل الخلال المحمودة
" لأنه لم يصف زيدا بأكثر من العقل وجعله سببا لائتمانه ورفع التهمة عنه.
قلت: وليس كما قال فإن أبا بكر ذكر عقب الوصف المذكور " وقد كنت تكتب الوحي
(13/183)
لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن ثم اكتفى بوصفه " بالعقل " لأنه لو لم تثبت أمانته وكفايته وعقله لما استكتبه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي وإنما وصفه " بالعقل وعدم الاتهام " دون ما عداهما إشارة إلى استمرار ذلك له، وإلا فمجرد قوله: "لا نتهمك " مع قوله: "عاقل"، لا يكفي في ثبوت الكفاية والأمانة فكم من بارع في العقل والمعرفة وجدت منه الخيانة قال وفيه: "اتخاذ الكاتب للسلطان والقاضي " وأن من سبق له علم بأمر يكون أولى به من غيره إذا وقع، وعند البيهقي بسند حسن عن عبد الله بن الزبير " أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب عبد الله بن الأرقم، فكان يكتب له إلى الملوك فبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب ويختم ولا يقرؤه، ثم استكتب زيد بن ثابت فكان يكتب الوحي ويكتب إلى الملوك، وكان إذا غابا كتب جعفر بن أبي طالب وكتب له أيضا أحيانا جماعة من الصحابة " ومن طريق عياض الأشعري عن أبي موسى " أنه استكتب نصرانيا فانتهره عمر " وقرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآية. فقال أبو موسى " والله ما توليته وإنما كان يكتب " فقال: "أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب لا تدنهم إذ أقصاهم الله، ولا تأتمنهم إذ خونهم الله، ولا تعزهم بعد أن ذلهم الله".
(13/184)
38 -
باب كِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عُمَّالِهِ وَالْقَاضِي إِلَى أُمَنَائِهِ
7191 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي
لَيْلَى ح حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي لَيْلَى بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي
حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ
أَصَابَهُمْ فَأُخْبِرَ مُحَيِّصَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي
فَقِيرٍ أَوْ عَيْنٍ فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ
قَالُوا مَا قَتَلْنَاهُ وَاللَّهِ ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ
فَذَكَرَ لَهُمْ وَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ
بِخَيْبَرَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِمُحَيِّصَةَ كَبِّرْ كَبِّرْ
يُرِيدُ السِّنَّ فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ
يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَيْهِمْ بِهِ فَكُتِبَ مَا قَتَلْنَاهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَتَحْلِفُونَ
وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ قَالُوا لاَ قَالَ أَفَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ
قَالُوا لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ الدَّارَ
قَالَ سَهْلٌ فَرَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ
قول "باب " كتاب الحاكم " إلى عماله" بضم العين وتشديد الميم
جمع عامل، وهو الوالي على بلد مثلا لجمع خراجها أو زكواتها أو الصلاة بأهلها أو
التأمير على جهاد عدوها". قوله: "والقاضي إلى أمنائه" أي الذين
يقيمهم في ضبط أمور الناس ذكر فيه حديث سهل بن أبي حثمة في قصة عبد الله بن سهل
وقتله بخيبر وقيام حويصة ومن معه في ذلك حديث سهل بن أبي حثمة في قصة عبد الله بن
سهل وقتله بخيبر وقيام حويصة ومن معه في ذلك، والغرض منه قوله فيه: "فكتب
رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم - أي إلى أهل خيبر - به " أي بالخبر الذي
نقل إليه، وقد تقدم بيانه مع شرح الحديث في " باب القسامة " وقوله هنا
" فكتب " ما قتلناه، في
(13/184)
رواية الكشميهني: "فكتبوا " بصيغة الجمع وهو أولى ووجه الكرماني الأول بأن المراد به " الحي المسمى باليهود " قال وفيه تكلف. قلت: وأقرب منه أن يراد " الكاتب عنهم " لأن الذي يباشر الكتابة إنما هو واحد فالتقدير " فكتب كاتبهم " قال ابن المنير: ليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى نائبه ولا إلى أمينه وإنما كتب إلى الخصوم أنفسهم لكن يؤخذ من مشروعية مكانته الخصوم والبناء على ذلك جواز مكاتبة النواب والكتاب في حق غيرهم بطريق الأولى.
(13/185)
39 -
باب هَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلًا وَحْدَهُ لِلنَّظَرِ فِي
الأُمُورِ؟
7193, 7194 - حدثنا آدم حدثنا بن أبي ذئب حدثنا الزهري عن عبيد الله بن عبد الله
عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا جاء أعرابي فقال "يا رسول الله اقض
بيننا بكتاب الله فقام خصمه فقال صدق فاقض بيننا بكتاب الله فقال الأعرابي إن ابني
كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فقالوا لي على ابنك الرجم ففديت ابني منه بمائة من
الغنم ووليدة ثم سألت أهل العلم فقالوا إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام فقال
النبي صلى الله عليه وسلم لأقضين بينكما بكتاب الله أما الوليدة والغنم فرد عليك
وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام وأما أنت يا أنيس لرجل فاغد على امرأة هذا فارجمها
فغدا عليها أنيس فرجمها باب ترجمة الحكام وهل يجوز ترجمان واحد وقال خارجة بن زيد
بن ثابت عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود
حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه وقال عمر
وعنده علي وعبد الرحمن وعثمان ماذا تقول هذه قال عبد الرحمن بن حاطب فقلت تخبرك
بصاحبها الذي صنع بها وقال أبو جمرة كنت أترجم بين بن عباس وبين الناس وقال بعض
الناس لا بد للحاكم من مترجمين "
قوله: "باب هل يجوز للحاكم أن يبعث رجلا وحده للنظر في الأمور" كذا
للأكثر وفي رواية المستملي والكشميهني: "ينظر " وكذا عند أبي نعيم ذكر
فيه حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في " قصة العسيف " وقد مضى شرحه مستوفي
والغرض منه قوله عليه الصلاة والسلام " واغد يا أنيس على امرأة هذا "
وقد تقدم الاختلاف في أن أنيسا كان حاكما أو مستخبرا، والحكمة في إيراده الترجمة
بصيغة الاستفهام الإشارة إلى خلاف محمد ابن الحسن فإنه قال: "لا يجوز للقاضي
أن يقول أقر عندي فلان بكذا لشيء يقضي به عليه من قتل أو مال أو عتق أو طلاق، حتى
يشهد معه على ذلك غيره: "وادعى أن مثل هذا الحكم الذي في حديث الباب خاص
بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال: "وينبغي أن يكون في مجلس القاضي أبدا عدلان
يسمعان من يقر ويشهدان على ذلك فينفذ الحكم بشهادتهما " نقله ابن بطال وقال
المهلب: فيه حجة لمالك في جواز إنفاذ الحاكم رجلا واحدا في الأعذار، وفي أن يتخذ
واحدا يثق به يكشف عن حال الشهود في السر، كما يجوز قبول الفرد فيما طريقه الخبر
لا الشهادة، قال: وقد استدل به قوم في جواز تنفيذ الحكم دون إعذار إلى المحكوم
عليه؛ قال: وهذا ليس بشيء، لأن الإعذار يشترط فيما كان الحكم فيه بالبينة، لا ما
كان بالإقرار كما في هذه القصة، لقوله: "فإن اعترفت " قلت: وقد تقدم شيء
من مسألة الإعذار عند شرح هذا الحديث.
(13/185)
40 -
باب تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ وَهَلْ يَجُوزُ تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ
7195 - وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ
كِتَابَ
(13/185)
41 -
باب مُحَاسَبَةِ الإِمَامِ عُمَّالَهُ
7197 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ
عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ ابْنَ الأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَاتِ
بَنِي سُلَيْمٍ فَلَمَّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَحَاسَبَهُ قَالَ هَذَا الَّذِي لَكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ
لِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَهَلاَ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ
أَبِيكَ وَبَيْتِ أُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا
ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ النَّاسَ
وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي
أَسْتَعْمِلُ رِجَالًا مِنْكُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلاَنِي اللَّهُ فَيَأْتِي
أَحَدُكُمْ فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي فَهَلاَ
جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَبَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ
صَادِقًا فَوَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ هِشَامٌ
بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ جَاءَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ
فَلاَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَعِيرٍ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بِبَقَرَةٍ
لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٍ تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ
إِبْطَيْهِ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟
قوله: "باب محاسبة الإمام عماله" ذكر فيه حديث أبي حميد في قصة ابن
اللتبية، وقد مضى شرحه مستوفى في " باب هدايا العمال " حديث أبي حميد في
قصة ابن اللتبية، وقد مضى شرحه وقوله حدثنا محمد حدثنا عبدة " محمد " هو
ابن سلام، " وعبدة " هو ابن سليمان، وقوله: "فهلا " في رواية
غير الكشميهني في الموضعين " ألا " بفتح الهمزة وهما بمعنى؛ والمقصود
هنا قوله: "فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحاسبه " أي على ما
قبض وصرف
(13/189)
42 -
باب بِطَانَةِ الإِمَامِ وَأَهْلِ مَشُورَتِهِ الْبِطَانَةُ الدُّخَلاَءُ
7198 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا بَعَثَ اللَّهُ
مِنْ نَبِيٍّ وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ
بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ
بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى
وَقَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ بِهَذَا وَعَنْ ابْنِ
أَبِي عَتِيقٍ وَمُوسَى عَنْ ابْنِ شِهَابٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ
(13/189)
43 -
باب كَيْفَ يُبَايِعُ الإِمَامُ النَّاسَ
7199 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عُبَادَةَ
بْنِ الصَّامِتِ قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ "
7200 – "وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ
بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ"
7201 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ
حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ وَالْمُهَاجِرُونَ
وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ
الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ فَأَجَابُوا:
(13/192)
نَحْنُ
الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
7202 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ
7203 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثنا عبد الله بن دينار قال "شهدت بن
عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك قال كتب إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد
الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت وإن بني قد أقروا بمثل
ذلك"
[الحديث 7203 – طرفاه في: 7205, 7272]
7204 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرنا سيار عن الشعبي عن جرير بن عبد
الله قال "بايعت النبي صلى الله عليه وسلم والطاعة فلقنني فيما استطعت والنصح
لكل مسلم"
7205 - حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثني عبد الله بن دينار قال
"لما بايع الناس عبد الملك كتب إليه عبد الله بن عمر إلى عبد الله عبد الملك
أمير المؤمنين إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة
الله وسنة رسوله فيما استطعت وإن بني قد أقروا بذلك"
7206 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ
يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ "قُلْتُ لِسَلَمَةَ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ
بَايَعْتُمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ
قَالَ عَلَى الْمَوْتِ"
7207 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا
جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ
الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلاَهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا فَقَالَ لَهُمْ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ
وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمْ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى
عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ فَمَالَ
النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنْ النَّاسِ
يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلاَ يَطَأُ عَقِبَهُ وَمَالَ النَّاسُ عَلَى
عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي حَتَّى إِذَا كَانَتْ
اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ قَالَ
الْمِسْوَرُ طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنْ اللَّيْلِ فَضَرَبَ
الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَقَالَ أَرَاكَ نَائِمًا فَوَاللَّهِ مَا
اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ
وَسَعْدًا فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ ادْعُ لِي
عَلِيًّا فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ
مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ
عَلِيٍّ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي عُثْمَانَ فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى
فَرَّقَ بَيْنَهُمَا
(13/193)
الْمُؤَذِّنُ
بِالصُّبْحِ فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ
عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ
وَالأَنْصَارِ وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ
الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ
قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ
أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ فَلاَ تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا
فَقَالَ أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ
بَعْدِهِ فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ الْمُهَاجِرُونَ
وَالأَنْصَارُ وَأُمَرَاءُ الأَجْنَادِ وَالْمُسْلِمُونَ
قوله: "باب كيف يبايع الإمام الناس" المراد بالكيفية: الصيغ القولية لا
الفعلية، بدليل ما ذكره فيه من الأحاديث الستة " وهي البيعة على السمع
والطاعة وعلى الهجرة وعلى الجهاد وعلى الصبر وعلى عدم الفرار ولو وقع الموت وعلى
بيعة النساء وعلى الإسلام " وكل ذلك وقع عند البيعة بينهم فيه بالقول. حديث
عبادة بن الصامت " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة
" الحديث وقد تقدم شرحه في أوائل " كتاب الفتن " مستوفى. حديث أنس
والمراد منه قوله: "نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا".
وقد تقدم بأتم مما هنا مشروحا في " غزوة الخندق " من " كتاب
المغازي". حديث ابن عمر في البيعة على السمع والطاعة وفيه يقول لنا "
فيما استطعتم " ووقع في رواية المستملي والسرخسي " فيما استطعت "
بالإفراد، والأول هو الذي في الموطأ وهو يقيد ما أطلق في الحديثين قبله وكذلك حديث
جرير وهو الرابع، وسيار في السند بفتح المهملة وتشديد التحتانية هو ابن وردان،
وأما حديث ابن عمر فذكر له طريقا قبل حديث جرير وآخر بعده وفيهما معا " أقر
بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت " وهو منتزع من حديثه
الأول، فالثلاثة في حكم حديث واحد، وقوله في رواية مسدد عن يحيى هو القطان، أن ابن
عمر قال: "إني أقر " إلخ بين في رواية عمرو بن علي أنه كتب بذلك إلى عبد
الملك ومن ثم قال في آخره: "وإن بنى قد أقروا بمثل ذلك " فهو إخبار من
ابن عمر عن بنيه بأنه سبق منهم الإقرار المذكور بحضرته؛ كتب به ابن عمر إلى عبد
الملك وقوله: "قد أقروا بمثل ذلك " زاد الإسماعيلي من طريق بندار عن
يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي كلاهما عن سفيان في آخره: "والسلام "
وقوله في الرواية الثانية كتب إليه عبد الله بن عمر إلى عبد الله عبد الملك أمير
المؤمنين " إني أقر بالسمع والطاعة " إلخ، ووقع في رواية الإسماعيلي من
وجه آخر عن سفيان بلفظ: "رأيت ابن عمر يكتب، وكان إذا كتب يكتب: بسم الله
الرحمن الرحيم. أما بعد؛ فإني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك " وقال
في آخره أيضا: "والسلام " قال الكرماني: قال أولا " إليه "
وثانيا " إلى عبد الملك " ثم بالعكس وليس تكرارا، والثاني هو المكتوب لا
المكتوب إليه أي كتب. هذا وهو إلى عبد الملك، وتقديره " من ابن عمر إلى عبد
الملك " وقوله: "حيث اجتمع الناس على عبد الملك " يريد ابن مروان
بن الحكم، والمراد بالاجتماع اجتماع الكلمة وكانت قبل ذلك مفرقة، وكان في الأرض
قبل ذلك اثنان كل منهما يدعى له بالخلافة، وهما عبد الملك بن مروان وعبد الله ابن
الزبير، فأما ابن الزبير فكان أقام بمكة وعاذ بالبيت بعد موت معاوية، وامتنع من المبايعة
ليزيد بن معاوية، فجهز إليه يزيد الجيوش مرة بعد أخرى فمات يزيد وجيوشه محاصرون
ابن الزبير، ولم يكن ابن الزبير ادعى الخلافة حتى
(13/194)
مات يزيد في ربيع الأول سنة أربع وستين، فبايعه الناس بالخلافة بالحجاز، وبايع أهل الآفاق لمعاوية بن يزيد بن معاوية فلم يعش إلا نحو أربعين يوما ومات، فبايع معظم الآفاق لعبد الله بن الزبير وانتظم له ملك الحجاز واليمن ومصر والعراق والمشرق كله وجميع بلاد الشام حتى دمشق، ولم يتخلف عن بيعته إلا جميع بني أمية ومن يهوى هواهم وكانوا بفلسطين، فاجتمعوا على مروان بن الحكم فبايعوه بالخلافة، وخرج بمن أطاعه إلى جهة دمشق والضحاك بن قيس قد بايع فيها لابن الزبير، فاقتتلوا " بمرج راهط " فقتل الضحاك وذلك في ذي الحجة منها وغلب مروان على الشام، ثم لما انتظم له ملك الشام كله توجه إلى مصر فحاصر بها عبد الرحمن بن جحدر عامل ابن الزبير حتى غلب عليها في ربيع الآخر سنة خمس وستين ثم مات في سنته، فكانت مدة ملكه ستة أشهر؛ وعهد إلى ابنه عبد الملك بن مروان فقام مقامه وكمل له ملك الشام ومصر والمغرب، ولابن الزبير ملك الحجاز والعراق والمشرق إلا أن المختار بن أبي عبيد غلب على الكوفة، وكان يدعو إلى المهدى من أهل البيت فأقام على ذلك نحو السنتين، ثم سار إليه مصعب بن الزبير أمير البصرة لأخيه فحاصره حتى قتل في شهر رمضان سنة سبع وستين، وانتظم أمر العراق كله لابن الزبير فدام ذلك إلى سنة إحدى وسبعين، فسار عبد الملك إلى مصعب فقاتله حتى قتله في جمادى الآخرة منها وملك العراق كله، ولم يبق مع ابن الزبير إلا الحجاز واليمن فقط، فجهز إليه عبد الملك الحجاج فحاصره في سنة اثنتين وسبعين إلى أن قتل عبد الله بن الزبير في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وكان عبد الله بن عمر في تلك المدة امتنع أن يبايع لابن الزبير أو لعبد الملك كما كان امتنع أن يبايع لعلي أو معاوية، ثم بايع لمعاوية لما اصطلح مع الحسن بن علي واجتمع عليه الناس، وبايع لابنه يزيد بعد موت معاوية لاجتماع الناس عليه، ثم امتنع من المبايعة لأحد حال الاختلاف إلى أن قتل ابن الزبير وانتظم الملك كله لعبد الملك فبايع له حينئذ، فهذا معنى قوله: "لما اجتمع الناس على عبد الملك " وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه من طريق سعيد بن حرب العبدي قال: "بعثوا إلى ابن عمر لما بويع ابن الزبير فمد يده وهي ترعد فقال: والله ما كنت لأعطي بيعتي في فرقة، ولا أمنعها من جماعة " ثم لم يلبث ابن عمر أن توفى في تلك السنة بمكة، وكان عبد الملك وصى الحجاج أن يقتدى به في مناسك الحج كما تقدم في " كتاب الحج " فدس الحجاج عليه الحربة المسمومة، كما تقدم بيان ذلك في " كتاب العيدين " فكان ذلك سبب موته رضي الله عنه. حديث سلمة " في المبايعة على الموت " ذكره مختصرا وقد تقدم بتمامه في " كتاب الجهاد " في باب البيعة على الحرب أن لا يفروا. قوله: "حدثنا جويرية" بالجيم مصغر جارية هو ابن أسماء الضبعي وهو عم عبد الله بن محمد بن أسماء الراوي عنه. قوله: "أن الرهط الذين ولاهم عمر" أي عينهم فجعل الخلافة شورى بينهم أي ولاهم التشاور فيمن يعقد له الخلافة منهم، وقد تقدم بيان ذلك مفصلا في " مناقب عثمان " في الحديث الطويل الذي أورده من طريق عمرو بن ميمون الأودي أحد كبار التابعين في ذكر قتل عمر، وقولهم لعمر - لما طعنه أبو لؤلؤة - استخلف فقال: "ما أحد أحق بهذا الأمر من هؤلاء الرهط فسمى: عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن " وفيه: "فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط " وأورده الدار قطني في " غرائب مالك " من طريق سعيد بن عامر عن جويرية مطولا وأوله عنده " لما طعن عمر قيل له: استخلف قال، وقد رأيت من حرصهم ما رأيت - إلى أن قال - هذا الأمر بين ستة رهط من قريش، فذكرهم وبدأ بعثمان ثم قال: وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص، وانتظروا أخاكم
(13/195)
طلحة ثلاثا، فإن قدم فيهم فهو شريكهم في الأمر. وقال: إن الناس لن يعدوكم أيها الثلاثة، فإن كنت يا عثمان في شيء من أمر الناس فاتق الله، ولا تحملن بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس، وإن كنت يا علي فاتق الله ولا تحملن بني هاشم على رقاب الناس، وإن كنت يا عبد الرحمن فاتق الله ولا تحملن أقاربك على رقاب الناس، قال: ويتبع الأقل الأكثر، ومن تأمر من غير أن يؤمر فاقتلوه " قال الدار قطني: أغرب سعيد بن عامر عن جويرية بهذه الألفاظ، وقد رواه عبد الله ابن محمد بن أسماء عن عمه فلم يذكرها، يشير إلى رواية البخاري، قال وتابع عبد الله بن محمد إبراهيم ابن طهمان وسعيد بن الزبير وحبيب ثلاثتهم عن مالك. قلت: وساق الثلاثة لكن رواية حبيب مختصرة والآخرين موافقتان لرواية عبد الله بن محمد بن أسماء، وقد أخرج ابن سعد بسند صحيح من طريق الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: دخل الرهط على عمر قبل أن ينزل به، فسمى الستة. فذكر قصة، إلى أن قال: "فإنما الأمر إلى ستة: إلى عبد الرحمن وعثمان وعلي والزبير وطلحة وسعد " وكان طلحة غائبا في أمواله بالسراة، وهو بفتح المهملة وراء خفيفة، بلاد معروفة بين الحجاز والشام، فبدأ في هذه بعبد الرحمن قبل الجميع وبعثمان قبل علي، فدل على أنه في السياق الأول لم يقصد الترتيب. قوله: "فقال لهم عبد الرحمن إلخ" تقدم بيان ذلك في " مناقب عثمان " بأتم من سياقه وفيه ما يدل على حضور طلحة، وأن سعدا جعل أمره إلى عبد الرحمن، والزبير إلى علي، وطلحة إلى عثمان وفيه قول عبد الرحمن أيكم يبرأ من هذا الأمر ويكون له الاختيار فيمن بقي، فاتفقوا عليه فتروى بعد ذلك في عثمان أو علي، وقوله: "أنافسكم " بالنون والفاء المهملة أي أنازعكم فيه، إذ ليس لي في الاستقلال في الخلافة رغبة، وقوله: "عن هذا الأمر " أي من جهته ولأجله. وفي رواية الكشميهني: "علي " بدل " عن " وهي أوجه. قوله: "فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم" يعني أمر الاختيار منهم. قوله: "فمال الناس" في رواية سعيد بن عامر فانثال الناس، وهي بنون ومثلثة أي قصدوه كلهم شيئا بعد شيء وأصل " النثل " الصب يقال: "نثل كنانته " أي صب ما فيها من السهام. قوله: "ولا يطأ عقبه" بفتح العين وكسر القاف بعدها موحدة أي " يمشي خلفه " وهي كناية عن الأعراض. قوله: "ومال الناس على عبد الرحمن" أعادها لبيان سبب الميل وهو قوله: "يشاورونه تلك الليالي " زاد الزبيدي في روايته عن الزهري " يشاورونه ويناجونه تلك الليالي، لا يخلو به رجل ذو رأي فيعدل بعثمان أحدا". قوله: "بعد هجع" بفتح الهاء وسكون الجيم بعدها عين مهملة أي " بعد طائفة من الليل " يقال: لقيته بعد هجع من الليل كما تقول بعد هجعة والهجع والهجعة والهجيع والهجوع بمعنى، وقد أخرجه البخاري في " التاريخ الصغير " من طريق يونس عن الزهري بلفظ: "بعد هجيع " بوزن عظيم. قوله: "فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث" كذا للأكثر وللمستملي: "الليلة " ويؤيد الأول قوله في رواية سعيد بن عامر " والله ما حملت فيها غمضا منذ ثلاث " وفي رواية إبراهيم بن طهمان عند الإسماعيلي: "في هذه الليالي " وقوله: "بكثير نوم " بالمثلثة وبالموحدة أيضا، وهو مشعر بأنه لم يستوعب الليل سهرا بل نام لكن يسيرا منه " والاكتحال " كناية عن دخول النوم جفن العين كما يدخلها الكحل ووقع في رواية يونس " ما ذاقت عيناي كثير النوم". قوله: "فادع الزبير وسعدا، فدعوتهما له فشاورهما" في رواية المستملي: "فسارهما " بمهملة وتشديد الراء، ولم أر في هذه الرواية لطلحة ذكرا فلعله كان شاوره قبلهما. قوله: "حتى إبهار الليل" بالموحدة ساكنة وتشديد الراء ومعناه " انتصف " وبهرة كل شيء وسطه، وقيل معظمه وقد تقدم القول فيه في " كتاب الصلاة " زاد سعيد بن عامر في روايته: "فجعل يناجيه ترتفع أصواتهما أحيانا فلا يخفى علي
(13/196)
شيء مما يقولان ويخفيان أحيانا". قوله: "ثم قام علي من عنده وهو على طمع" أي أن يوليه، وقوله: "وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئا " قال ابن هبيرة: أظنه أشار إلى الدعاية التي كانت في علي أو نحوها، ولا يجوز أن يحمل على أن عبد الرحمن خاف من علي على نفسه. قلت: والذي يظهر لي أنه خاف إن بايع لغيره أن لا يطاوعه، وإلى ذلك الإشارة بقوله فيما بعد " فلا تجعل على نفسك سبيلا " ووقع في رواية سعيد بن عامر " فأصبحنا وما أراه يبايع إلا لعلي " يعني مما ظهر له من قرائن تقديمه. قوله: "ثم قال ادع لي عثمان" ظاهر في أنه تكلم مع علي في تلك الليلة قبل عثمان، ووقع في رواية سعيد ابن عامر عكس ذلك، وأنه قال له أولا " اذهب فادع عثمان " وفيه: "فخلابه " وفيه: "لا أفهم من قولهما شيئا " فإما أن تكون إحدى الروايتين وهما، وإما أن يكون ذلك تكرر منه في تلك الليلة فمرة بدا بهذه ومرة بدأ بهذا. قوله: "وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر" أي قدموا إلى مكة فحجوا مع عمر ورافقوه إلى المدينة، وهم معاوية أمير الشام، وعمير بن سعيد أمير حمص، والمغيرة بن شعبة أمير الكوفة، وأبو موسى الأشعري أمير البصرة، وعمرو بن العاص أمير مصر. قوله: "فلما اجتمعوا تشهد عمد الرحمن" وفي رواية إبراهيم بن طهمان " جلس عبد الرحمن على المنبر " وفي رواية سعيد بن عامر " فلما صلى صهيب بالناس صلاة الصبح، جاء عبد الرحمن يتخطى حتى صعد المنبر، فجاءه رسول سعد يقول لعبد الرحمن: ارفع رأسك وانظر لأمة محمد وبايع لنفسك". قوله: "أما بعد" زاد سعيد بن عامر " فأعلن عبد الرحمن فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال أما بعد، يا علي إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان " أي لا يجعلون له مساويا بل يرجحونه. قوله: "فلا تجعلن على نفسك سبيلا" أي من الملامة إذا لم توافق الجماعة، وهذا ظاهر في أن عبد الرحمن لم يتردد عند البيعة في عثمان، لكن قد تقدم في رواية عمرو بن ميمون التصريح بأنه " بدأ بعلي فأخذ بيده فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، والله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه وبايع له علي " وطريق الجمع بينهما أن عمرو بن ميمون حفظ ما لم يحفظه الآخر ويحتمل أن يكون الآخر حفظه لكن طوى بعض الرواة ذكره ويحتمل أن يكون ذلك وقع في الليل لما تكلم معهما واحد بعد واحد، فأخذ على كل منهما العهد والميثاق، فلما أصبح عرض على علي فلم يوافقه على بعض الشروط، وعرض على عثمان فقبل، ويؤيده رواية عاصم بن بهدلة عن أبي وائل قال: قلت لعبد الرحمن ابن عوف كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا فقال: "ما ذنبي بدأت بعلي فقلت له أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر، فقال فيما استطعت. وعرضتها على عثمان فقبل " أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند عن سفيان بن وكيع عن أبي بكر بن عياش عنه، وسفيان بن وكيع ضعيف. وقد أخرج أحمد من طريق زائدة عن عاصم عن أبي وائل قال: قال الوليد بن عقبة لعبد الرحمن بن عوف: مالك جفوت أمير المؤمنين يعني عثمان فذكر قصة وفيها قول عثمان، وأما قوله: سيرة عمر فإني لا أطيقها ولا هو، وفي هذا إشارة إلى أنه بايعه على أن يسير سيرة عمر فعاتبه على تركها ويمكن أن يأخذ من هذا ضعف رواية سفيان ابن وكيع إذ لو كان استخلف بشرط أن يسير بسيرة عمر لم يكن ما أجاب به عذرا في الترك، قال ابن التين وإنما قال لعلي ذلك دون من سواه، لأن غيره لم يكن يطمع في الخلافة مع وجوده ووجود عثمان، وسكوت من حضر من أهل الشورى والمهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد دليل على تصديقهم عبد الرحمن فيما قال وعلى الرضا بعثمان. قلت: وقد أخرج بن أبي
(13/197)
شيبة من طريق حارثة بن مضرب قال: "حججت في خلافة عمر فلم أرهم يشكون أن الخيفة بعده عثمان " وأخرج يعقوب بن شبة في مسنده من طريق صحيح إلى حذيفة قال: قال لي عمر من ترى قومك يؤمرون بعدي. قال. قلت: قد نظر الناس إلى عثمان وشهروه لها. وأخرج البغوي في معجمه وخيثمة في " فضائل الصحابة " بسند صحيح عن حارثة بن مضرب، حججت مع عمر فكان الحادي يحدو أن الأمير بعده عثمان بن عفان. قوله: "فقال" أي " عبد الرحمن " مخاطبا لعثمان "أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده فبايعه عبد الرحمن" في الكلام حذف تقديره فقال: نعم، فبايعه عبد الرحمن. وأخرج الذهلي في " الزهريات " وابن عساكر في " ترجمة عثمان " من طريقه ثم من رواية عمران بن عبد العزيز عن محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري عن الزهري عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة عن أبيه قال: "كنت أعلم الناس بأمر الشورى لأني كنت رسول عبد الرحمن بن عوف " فذكر القصة وفي آخره. فقال: هل أنت يا علي مبايعي إن وليتك هذا الأمر على سنة الله وسنة رسوله وسنة الماضين قبل؟ قال: لا، ولكن على طاقتي، فأعادها ثلاثا. فقال عثمان: أنا يا أبا محمد أبايعك على ذلك، قالها ثلاثا فقام عبد الرحمن واعتم ولبس السيف فدخل المسجد ثم رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم أشار إلى عثمان فبايعه " فعرفت إن خالي أشكل عليه أمرهما فأعطاه أحدهما وثيقة ومنعه الآخر إياها، واستدل بهذه القصة الأخيرة على جواز تقليد المجتهد، وإن عثمان وعبد الرحمن كانا يريان ذلك بخلاف علي، وأجاب من منعه وهم الجمهور بأن المراد بالسيرة ما يتعلق بالعدل ونحوه لا التقليد في الأحكام الشرعية. وإذا فرعنا على جواز تجزئ الاجتهاد احتمل أن يراد بالاقتداء بهما فيما لم يظهر للتابع فيه الاجتهاد فيعمل بقولهما للضرورة، قال الطبري: لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم والمعرفة بالسياسة ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم، فإن قيل كان بعض هؤلاء الستة أفضل من بعض وكان رأى عمر أن الأحق بالخلافة أرضاهم دينا، وأنه لا تصح ولاية المفضول مع وجود الفاضل، فالجواب أنه لو صرح بالأفضل منهم لكان قد نص على استخلافه، وهو قصد أن لا يتقلد العهدة في ذلك؛ فجعلها في ستة متقاربين في الفضل، لأنه يتحقق أنهم لا يجتمعون على تولية المفضول، ولا يألون المسلمين نصحا في النظر والشورى، وأن المفضول منهم لا يتقدم على الفاضل، ولا يتكلم في منزلة وغيره أحق بها منه، وعلم رضا الأمة بمن رضى به الستة. ويؤخذ منه بطلان قول الرافضة وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الإمامة في أشخاص بأعيانهم، إذ لو كان كذلك لما أطاعوا عمر في جعلها شورى، ولقال قائل منهم ما وجه التشاور في أمر كفيناه ببيان الله لنا على لسان رسول، ففي رضا الجميع بما أمرهم به دليل على أن الذي كان عندهم من العهد في الإمامة أوصاف من وجدت فيه استحقها، وإدراكها يقع بالاجتهاد، وفيه أن الجماعة الموثوق بديانتهم إذا عقدوا عقد الخلافة لشخص بعد التشاور والاجتهاد لم يكن لغيرهم أن يحل ذلك العقد، إذ لو كان العقد لا يصح إلا باجتماع الجميع، لقال قائل لا معنى لتخصيص هؤلاء الستة، فلما لم يعترض منهم معترض بل رضوا وبايعوا، دل ذلك على صحة ما قلناه، انتهى ملخصا من كتاب ابن بطال، ويتحصل منه جواب من ظن أنه يلزم منه أن عمر كان يرى جواز ولاية المفضول مع وجود الفاضل، والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد، أنه كان لا يراعى الأفضل في الدين فقط بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها، فلأجل هذا استخلف معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل من كل منهم في أمر الدين والعلم،
(13/198)
كأبي الدرداء في الشام وابن مسعود في الكوفة، وفيه أن الشركاء في الشيء إذا وقع بينهم التنازع في أمر من الأمور يسندون أمرهم إلى واحد ليختار لهم بعد أن يخرج نفسه من ذلك الأمر، وفيه أن من أسند إليه ذلك يبذل وسعه في الاختيار، ويهجر أهله وليله اهتماما بما هو فيه حتى يكمله. وقال ابن المنير: في الحديث دليل على أن الوكيل المفوض له أن يوكل وإن لم ينص له على ذلك، لأن الخمسة أسندوا الأمر لعبد الرحمن وأفردوه به فاستقل مع أن عمر لم ينص لهم على الانفراد، قال: وفيه تقوية لقول الشافعي في المسألة الفلانية قولان، أي انحصر الحق عندي فيهما، وأنا في مهلة النظر في التعيين، وفيه أن إحداث قول زائد على ما أجمع عليه لا يجوز، وهو كإحداث سابع في أهل الشورى، قال وفي تأخير عبد الرحمن مؤامرة عثمان عن مؤامرة علي سياسة حسنة، منتزعة من تأخير يوسف تفتيش رجل أخيه في قصة الصاع، إبعادا للتهمة وتغطية للحدس، لأنه رأى أن لا ينكشف اختياره لعثمان قبل وقوع البيعة.
(13/199)
44 -
باب مَنْ بَايَعَ مَرَّتَيْنِ
7208 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ "عَنْ
سَلَمَةَ قَالَ بَايَعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ فَقَالَ لِي يَا سَلَمَةُ أَلاَ تُبَايِعُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَدْ بَايَعْتُ فِي الأَوَّلِ قَالَ وَفِي الثَّانِي"
قوله: "باب من بايع مرتين" أي في حالة واحدة. قوله: "عن سلمة"
تقدم في " باب البيعة " في الحرب من " كتاب الجهاد " من رواية
المكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بأتم من هذا السياق وفيه بايعت
النبي صلى الله عليه وسلم ثم عدلت إلى ظل شجرة فلما خف الناس قال: "يا ابن
الأكوع ألا تبايع". قوله: "قد بايعت في الأول قال وفي الثاني"
والمراد بذلك الوقت. وفي رواية الكشميهني: "في الأولى " بالتأنيث قال:
"وفي الثانية " والمراد الساعة أو الطائفة، ووقع في رواية مكي "
فقلت قد بايعت يا رسول الله، قال: وأيضا فبايعته الثانية وزاد فقلت له: يا أبا
مسلم على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ، قال: على الموت " وقد تقدم البحث في ذلك
هناك. وقال المهلب فيما ذكره ابن بطال أراد أن يؤكد بيعة سلمة لعلمه بشجاعته
وعنائه في الإسلام وشهرته بالثبات، فلذلك أمره بتكرير المبايعة ليكون له في ذلك
فضيلة. قلت: ويحتمل أن يكون سلمة لما بادر إلى المبايعة ثم قعد قريبا، واستمر
الناس يبايعون إلى أن خفوا، أراد صلى الله عليه وسلم منه أن يبايع للتوالي
المبايعة معه ولا يقع فيها تخلل، لأن العادة في مبدأ كل أمر أن يكثر من يباشره
فيتوالى، فإذا تناهى قد يقع بين من يجيء آخرا تخلل، ولا يلزم من ذلك اختصاص سلمة
بما ذكر والواقع أن الذي أشار إليه ابن بطال من حال سلمة في الشجاعة وغيرها لم يكن
ظهر بعد، لأنه إنما وقع منه بعد ذلك في " غزوة ذي قرد " حيث استعاد
السرح الذي كان المشركون أغاروا عليه فاستلب ثيابهم، وكان آخر أمره أن أسهم له
النبي صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل، فالأولى أن يقال تفرس فيه النبي صلى
الله عليه وسلم ذلك فبايعه مرتين، وأشار بذلك إلى أنه سيقوم في الحرب مقام رجلين
فكان كذلك. وقال ابن المنير: يستفاد من هذا الحديث أن إعادة لفظ العقد في النكاح
وغيره ليس فسخا للعقد الأول خلافا لمن زعم ذلك من الشافعية. قلت: الصحيح عندهم أنه
لا يكون فسخا كما قال الجمهور.
(13/199)
45 -
باب بَيْعَةِ الأَعْرَابِ
7209 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَصَابَهُ وَعْكٌ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى ثُمَّ
جَاءَهُ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى فَخَرَجَ
قوله: "باب بيعة الأعراب" أي مبايعتهم على الإسلام والجهاد. فَقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا
وَيَنْصَعُ طِيبُهَا" قوله: "أن أعرابيا" تقدم التنبيه على اسمه في
" فضل المدينة أواخر الحج". قوله: "على الإسلام" ظاهر في أن
طلبه الإقالة كان فيما يتعلق بنفس الإسلام، ويحتمل أن يكون في شيء من عوارضه
كالهجرة، وكانت في ذلك الوقت واجبة، ووقع الوعيد على من رجع أعرابيا بعد هجرته،
كما تقدم التنبيه عليه قريبا " والوعك " بفتح الواو وسكون المهملة وقد
تفتح بعدها كاف الحمى وقيل ألمها وقيل أرعادها. وقال الأصمعي: أصله شدة الحر،
فأطلق على حر الحمى وشدتها. قوله: "أقلني بيعتي فأبى" تقدم في "
فضل المدينة " من رواية الثوري عن ابن المنكدر أنه أعاد ذلك ثلاثا وكذا سيأتي
بعد باب. قوله: "فخرج" أي من المدينة راجعا إلى البدو. قوله:
"المدينة كالكير إلخ" ذكر عبد الغني بن سعيد في " كتاب الأسباب
" له عند ذكر حديث المدينة " تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الحديد
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في هذه القصة وفيه نظر، والأشبه أنه قاله
" في قصة الذين رجعوا عن القتال معه يوم أحد " كما تقدم بيان ذلك في
غزوة أحد من " كتاب المغازي". قوله: "تنفي" بفتح أوله
"خبثها" بمعجمة وموحدة مفتوحتين. قوله: "وتنصع" تقدم ضبطه في
فضل المدينة وبيان الاختلاف فيه، قال ابن التين: إنما امتنع النبي صلى الله عليه
وسلم من إقالته لأنه لا يعين على معصية، لأن البيعة في أول الأمر كانت على أن لا
يخرج من المدينة إلا بإذن فخروجه عصيان. قال: وكانت الهجرة إلى المدينة فرضا قبل
فتح مكة على كل من أسلم ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين موالاة، لقوله
تعالى :{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} فلما فتحت مكة قال صلى الله عليه وسلم: "لا
هجرة بعد الفتح " ففي هذا إشعار بأن مبايعة الأعرابي المذكور كانت قبل الفتح.
وقال ابن المنير: ظاهر الحديث ذم من خرج من المدينة وهو مشكل فقد خرج منها جمع
كثير من الصحابة وسكنوا غيرها من البلاد، وكذا من بعدهم من الفضلاء. والجواب أن
المذموم من خرج عنها كراهة فيها ورغبة عنها، كما فعل الأعرابي المذكور وأما المشار
إليهم فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة كنشر العلم وفتح بلاد الشرك والمرابطة في الثغور وجهاد
الأعداء وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة وفضل سكناها، وسيأتي شيء من هذا في
" كتاب الاعتصام " إن شاء الله تعالى.
(13/200)
46 -
باب بَيْعَةِ الصَّغِيرِ
7210 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو
عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ وَكَانَ
قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَتْ بِهِ
أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "هو صغير، فمسحَ رأسه ودعا له كان يضحي بالشاة الواحدة عن جميع
أهله".
(13/200)
قوله: "باب بيعة الصغير" أي هل تشرع أو لا؟ قال ابن المنير: الترجمة موهمة، والحديث يزيل إيهامها، فهو دال على عدم انعقاد بيعة الصغير ذكر فيه حديث عبد الله بن هشام التيمي، وهو طرف من حديث تقدم بكماله في " كتاب الشركة " من رواية عبد الله بن وهب عن سعيد بن أبي أيوب، وفيه فقالت يا رسول الله بايعه، فقال: "هو صغير فمسح رأسه ودعا له". فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هُوَ صَغِيرٌ فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ وَكَانَ يُضَحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ" قوله: "وكان يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله" هو عبد الله بن هشام المذكور، وهذا الأثر الموقوف صحيح بالسند المذكور إلى عبد الله، وقد تقدم الحكم المذكور في " باب الأضحية عن المسافر والنساء " والنقل عمن قال: "لا يجزئ أضحية الرجل عن نفسه وعن أهل بيته " وإنما ذكره البخاري مع أن من عادته أنه يحذف الموقوفات غالبا، لأن المتن قصير، وفيه إشارة إلى أن عبد الله بن هشام عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم زمانا ببركة دعائه له وقد تقدم ما يتعلق به من ذلك في " كتاب الدعوات".
(13/201)
47 -
باب مَنْ بَايَعَ ثُمَّ اسْتَقَالَ الْبَيْعَةَ
7211 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد
الله "أن أعرابيا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب
الأعرابي وعك بالمدينة فأتى الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا
رسول الله أقلني بيعتي فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاءه فقال أقلني
بيعتي فأبى ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى فخرج الأعرابي فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها"
قوله: "باب من بايع ثم استقال البيعة" ذكر فيه حديث جابر في قصة
الأعرابي، وقد تقدم شرحه قبل بباب
(13/201)
48 -
باب مَنْ بَايَعَ رَجُلًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِلدُّنْيَا
7212 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي
صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ
يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ
يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ
إِلاَّ لِدُنْيَاهُ إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِلاَ لَمْ يَفِ لَهُ
وَرَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ
أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَلَمْ يُعْطَ بِهَا
قوله: "باب من بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا" أي ولا يقصد طاعة الله
في مبايعة من يستحق الإمامة.
قوله: "عن أبي حمزة" بالمهملة والزاي هو محمد بن ميمون السكري. قوله:
"عن أبي صالح" في رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش " سمعت أبا
صالح يقول سمعت أبا هريرة كما تقدم في " كتاب الشرب". قوله: "ثلاثة
لا يكلمهم الله يوم القيامة" زاد جرير عن الأعمش " ولا ينظر إليهم
" وسقط من روايته: "يوم القيامة " وقد مر في الشهادات وفي رواية
عبد الواحد " لا ينظر الله إليهم يوم القيامة " وسقط من روايته ولا
يكلمهم وثبت الجميع لأبي معاوية عن الأعمش عند مسلم على وفق الآية التي في آل
عمران. وقال: في آخر الحديث. ثم قرأ هذه الآية " {إِنَّ الَّذِينَ
(13/201)
49 -
باب بَيْعَةِ النِّسَاءِ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7213 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح
وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو
إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ يَقُولُ
قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي
مَجْلِسٍ تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ
تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ وَلاَ تَأْتُوا
بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلاَ تَعْصُوا فِي
مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ
ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ
مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ
عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ
7214 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النِّسَاءَ
بِالْكَلاَمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ { لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا } قَالَتْ
وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ
امْرَأَةٍ إِلاَّ امْرَأَةً يَمْلِكُهَا
7215 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ
حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ بَايَعْنَا النَّبِيَّ
(13/203)
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْنَا { أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ
شَيْئًا} وَنَهَانَا عَنْ النِّيَاحَةِ فَقَبَضَتْ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا
فَقَالَتْ فُلاَنَةُ أَسْعَدَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا فَلَمْ
يَقُلْ شَيْئًا فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ فَمَا وَفَتْ امْرَأَةٌ إِلاَّ أُمُّ
سُلَيْمٍ وَأُمُّ الْعَلاَءِ وَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةُ مُعَاذٍ أَوْ
ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ
قوله: "باب بيعة النساء" ذكر فيه الله أربعة أحاديث، الأول: قوله:
"رواه ابن عباس" كأنه يريد ما تقدم في العيدين من طريق الحسن بن مسلم عن
طاوس عن ابن عباس شهدت الفطر فذكر الحديث وفيه خرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني
أنظر إليه حين يجلس بيده، ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء معه بلال فقال: {يا أيها
النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} الآية ثم قال حين فرغ منها " أنتن على ذلك
" وقد تقدم فوائده هناك في تفسير الممتحنة. حديث عبادة ابن الصامت في مبايعتهم
النبي صلى الله عليه وسلم على مثل ما في هذه الآية، وقد تقدم الكلام عليه في
" كتاب الأيمان " أوائل الكتاب ووقع في بعض، طرقه عن عبادة قال:
"أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء أن لا نشرك
بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني " الحديث أخرجه مسلم من طريق الأشعث الصنعاني
عن عبادة وإلى هذه الطريق أشار في هذه الترجمة قال ابن المنير أدخل حديث عبادة في
ترجمة بيعة النساء لأنها وردت في القرآن في حق النساء فعرفت بهن، ثم استعملت في
الرجال. حديث عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه
الآية {لا يشركن بالله شيئا} كذا أورده مختصرا وقد أخرجه البزار من طريق عبد
الرزاق بسند حديث الباب إلى عائشة قالت. " جاءت فاطمة بنت عتبة - أي ابن ربيع
بن عبد شمس أخت هند بنت عقبة - تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها أن
لا تزني، فوضعت يدها على رأسها حياء، فقالت لها عائشة: بايعي أيتها المرأة، فوالله
ما بايعناه إلا على هذا قالت: فنعم إذا " وقد تقدمت فوائد هذا الحديث في
تفسير سورة الممتحنة وفي أول هذا الحديث هناك زيادة غير الزيادة التي ذكرتها هنا
من عند البزار. قوله: "قالت وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد
امرأة إلا امرأة يملكها" هذا القدر أفرده النسائي فأخرجه عن محمد بن يحيى عن
عبد الرزاق بسند حديث الباب بلفظ لكن ما مس وقال: يد امرأة قط، وكذا أفرده مالك عن
الزهري بلفظ، ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط، إلا أن يأخذ
عليها فإذا أخذ عليها فأعطته قال: اذهبي فقد بايعتك أخرجه مسلم قال النووي: هذا
الاستثناء منقطع وتقدير الكلام ما مس يد امرأة قط ولكن يأخذ عليها البيعة. ثم يقول
لها اذهبي إلخ. قال: وهذا التقدير مصرح به في الرواية الأخرى فلا بد منه انتهى.
وقد ذكرت في تفسير الممتحنة من خالف ظاهر ما قالت عائشة، من اقتصاره في مبايعته
صلى الله عليه وسلم النساء على الكلام؛ وما ورد أنه بايعهن بحائل أن بواسطة بما
يغني عن إعادته، ويعكر على ما جزم به من التقدير، وقد يؤخذ من قول أم عطية في
الحديث الذي بعده فقبضت امرأة يدها، أن بيعة النساء كانت أيضا بالأيدي فتخالف ما
نقل عن عائشة من هذا الحصر، وأجيب بما ذكر من الحائل، ويحتمل أنهن كن يشرن بأيديهن
عند المبايعة بلا مماسة، وقد أخرج إسحاق بن راهويه بسند حسن عن أسماء بنت يزيد
مرفوعا إني لا أصافح النساء وفي الحديث أن كلام الأجنبية مباح سماعه وأن صوتها ليس
بعورة، ومنع لمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة لذلك. قوله: "عن أيوب" هو
السختياني و "حفصة" هي بنت سيرين أخت محمد والسند كله بصريون، وتقدم
(13/204)
شرح حديث أم عطية هذا في " كتاب الجنائز " مستوفى، وفيه تسمية النسوة المذكورات في هذا الحديث، وتقدم ما يتعلق بالكلام على قولها أسعدتني في تفسير سورة الممتحنة.
(13/205)
50 -
باب مَنْ نَكَثَ بَيْعَةً
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ
اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى
نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا
عَظِيمًا} قوله: "باب من نكث بيعة" في رواية الكشميهني: "بيعته
" بزيادة الضمير. قوله: "وقال الله تعالى" في رواية غير أبي ذر
" وقوله تعالى". قوله: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله}
الآية" ساق في رواية أبي ذر إلى قوله: "فإنما ينكث على نفسه " ثم
قال إلى قوله {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً عظيما} وساق في رواية كريمة الآية
كلها
7216 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ سَمِعْتُ جَابِرًا قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَايِعْنِي عَلَى الإِسْلاَمِ
فَبَايَعَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ ثُمَّ جَاءَ الْغَدَ مَحْمُومًا فَقَالَ أَقِلْنِي
فَأَبَى فَلَمَّا وَلَّى قَالَ الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا
وَيَنْصَعُ طِيبُهَا
حديث جابر في قصة الأعرابي وقد تقدمت الإشارة إليه قريبا في " باب بيعة
الأعرابي " وورد في الوعيد على نكث البيعة حديث ابن عمر " لا أعلم غدرا
أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله. ثم ينصب له القتال " وقد تقدم في
أواخر " كتاب الفتن " وجاء نحوه عنه مرفوعا بلفظ: "من أعطى بيعة ثم
نكثها لقي الله وليست معه يمينه " أخرجه الطبراني بسند جيد وفيه حديث أبي
هريرة رفعه: "الصلاة كفارة إلا من ثلاث: الشرك بالله ونكث الصفقة "
الحديث. وفيه تفسير نكث الصفقة " أن تعطي رجلا بيعتك ثم تقاتله " أخرجه
أحمد.
(13/205)
51 -
باب الِاسْتِخْلاَفِ
7217 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَارَأْسَاهْ فَقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ وَأَدْعُو لَكِ
فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَاثُكْلِيَاهْ وَاللَّهِ إِنِّي لاَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي
وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلَلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ
فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ لَقَدْ هَمَمْتُ
أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدَ أَنْ
يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ ثُمَّ قُلْتُ يَأْبَى
اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ
7218 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ قِيلَ لِعُمَرَ أَلاَ تَسْتَخْلِفُ قَالَ إِنْ أَسْتَخْلِفْ
فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو بَكْرٍ وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ
تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ رَاغِبٌ رَاهِبٌ وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ
مِنْهَا
(13/205)
52 -
باب إِخْرَاجِ الْخُصُومِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ مِنْ الْبُيُوتِ بَعْدَ
الْمَعْرِفَةِ
وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ
7224 - حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله
عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر
بحطب يحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال
فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين
حسنتين لشهد العشاء" قال محمد بن يوسف قال يونس قال محمد بن سليمان قال أبو
عبد الله. مرماة: بين ظلف الشاة من اللحم مثل منساة وميضاة, الميم مخفوضة
قوله: "باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت بعد المعرفة، وقد أخرج عمر أخت
أبي بكر حين ناحت" تقدمت هذه الترجمة والأثر المعلق فيها والحديث في "
كتاب الأشخاص " وقال فيه: "المعاصي " بدل " أهل الريب "
وساق الحديث من وجه آخر عن أبي هريرة وتقدم شرحه مستوفى في أوائل باب " صلاة
الجماعة " وقوله في
(13/215)
آخر
الباب قال محمد بن يوسف. قال يونس، قال محمد بن سليمان، قال أبو عبد الله "
مرماة ما بين ظلف الشاة من اللحم " مثل منساة وميضاة الميم مخفوضة وقد تقدم
شرح " المرماتين " هناك ومحمد بن يوسف هذا هو الفربري راوي "
الصحيح " عن البخاري، ويونس هو ابن(1)0 ومحمد بن سليمان هو أبو أحمد الفارسي
راوي " التاريخ الكبير " عن البخاري، وقد نزل الفربري في هذا التفسير
درجتين، فإنه أدخل بينه وبين شيخه البخاري رجلين، أحدهما عن الآخر وثبت هذا
التفسير في رواية أبي ذر عن المستملي وحده وقوله: "مثل منساة وميضاة "
أما منساة بالوزن الذي ذكره بغير همز فهي قراءة أبي عمرو ونافع في قوله تعالى:
{تأكل منسأته} . وقال الشاعر:
إذا دببت على المنساة من هرم ... فقد تباعد عنك اللهو والغز
أنشده أبو عبيدة ثم قال: وبعضهم يهمزها فيقول: منسأته. قلت: وهي قواءة الباقين
بهمزة مفتوحة إلا ابن ذكوان فسكن الهمزة، وفيها قراآت أخر في الشواذ، والمنساة:
العصا اسم آلة من أنسا الشيء إذا أخره، وقوله الميم مخفوضة أي في كل المنساة
والميضاة، وفي " الميضاة " اللغات المذكورة.
(13/216)
53 -
باب هَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُجْرِمِينَ وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ مِنْ
الْكَلاَمِ مَعَهُ وَالزِّيَارَةِ وَنَحْوِهِ
قوله: "باب هل للإمام أن يمنع المجرمين وأهل المعصية من الكلام معه والزيارة
ونحوه" في رواية أبي أحمد الجرجاني " المحبوس " بدل المجرمين، وكذا
ذكر ابن التين والإسماعيلي وهو أوجه لأن المحبوس قد لا يتحقق عصيانه والأول يكون
من عطف العام على الخاص، وهو المطابق لحديث الباب ظاهرا وذكر فيه طرفا من حديث كعب
بن مالك في قصة تخلفه عن تبوك وتوبته وقد تقدم شرحها مستوفى في أواخر " كتاب
المغازي " بحمد الله تعالى.
ـــــــ
(1)هكذا بياض بالأصل
(13/216)
كتاب
التمني
مَا جَاءَ فِي التَّمَنِّي وَمَنْ تَمَنَّى الشَّهَادَةَ
...
94- كِتَاب التَّمَنِّي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 - بَاب مَا جَاءَ فِي التَّمَنِّي وَمَنْ تَمَنَّى الشَّهَادَةَ
7226 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ
أَنَّ رِجَالًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا بَعْدِي وَلاَ أَجِدُ مَا
أَحْمِلُهُمْ مَا تَخَلَّفْتُ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ
أُقْتَلُ
7227 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَدِدْتُ
أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ
ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُهُنَّ ثَلاَثًا
أَشْهَدُ بِاللَّهِ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب التمني". كذا لأبي ذر عن
المستملي، وكذا لابن بطال لكن " بغير بسملة " وأثبتها ابن التين لكن حذف
لفظ: "باب " وللنسفي " بعد البسملة ما جاء في التمني "
وللقابسي " بحذف الواو والبسملة وكتاب " ومثله لأبي نعيم عن الجرجاني
ولكن أثبت " الواو " وزاد بعد قوله كتاب التمني " والأماني "
واقتصر الإسماعيلي على " باب ما جاء في تمني الشهادة " والتمني تفعل من
الأمنية والجمع أماني، والتمني إرادة تتعلق بالمستقبل فإن كانت في خير من غير أن
تتعلق بحسد فهي مطلوبة وإلا فهي مذمومة. وقد قيل أن بين التمني والترجي عموما
وخصوصا، فالترجي في الممكن، والتمني في أعم من ذلك، وقيل التمني يتعلق بما فات وعبر
عنه بعضهم بطلب ما لا يمكن حصوله وقال الراغب قد يتضمن التمني معنى الود، لأنه
يتمنى حصول ما يود، وقوله: "عبد الرحمن بن خالد " هو ابن مسافر الفهمي
المصري ونصف السند مصريون ونصفه الأعلى مدنيون، والمقصود منه هنا قوله:
"لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا " ووقع في الطريق الثانية "
وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل " وهي أبين، ووقع في رواية الكشميهني:
"لأقاتل " بزيادة لام التأكيد، و " وددت " من الودادة وهي
إرادة وقوع الشيء على وجه مخصوص يراد وقال الراغب " الود: محبة الشيء وتمني
حصوله " فمن الأول {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} الآية ومن
الثاني {ودت طائفة من أهل الكتاب} الآية وقد تقدم شرح حديث الباب وتوجيه تمني
الشهادة مع ما يشكل على ذلك في " باب تمني الشهادة من كتاب الجهاد "
والله أعلم.
(13/217)
2 -
باب تَمَنِّي الْخَيْرِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَوْ كَانَ لِي أُحُدٌ ذَهَبًا
دثنا إسحاق بن نصر حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام سمع أبا هريرة عن النبي
(13/217)
صلى
الله عليه وسلم قال " لو كان عندي أحد ذهبا لأحببت أن لا يأتي علي ثلاث وعندي
منه دينار ليس شيء أرصده في دين علي أجد من يقبله"
قوله: "باب تمني الخير" هذه الترجمة أعم من التي قبلها لأن " تمني
الشهادة في سبيل الله تعالى من جملة الخير " وأشار بذلك إلى أن التمني
المطلوب لا ينحصر في طلب الشهادة وقوله: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم لو
كان لي أحد ذهبا " أسنده في الباب بلفظ: "لو كان عندي " واللفظ
المعلق وصله في الرقاق بلفظ: "لو كان لي مثل أحد ذهبا " وقوله في
الموصول " وعندي منه دينار ليس شيء أرصده في دين علي أجد من يقبله " كذا
وقع، وذكر الصغاني أن الصواب " ليس شيئا " بالنصب. وقال عياض: في هذا
السياق نظر، والصواب تقديم " أجد من يقبله " وتأخير " ليس "
وما بعدها، وقد اعترض الإسماعيلي فقال هذا لا يشبه التمني، وغفل عن قوله في سياق
رواية همام عن أبي هريرة " لأحببت " فإنها بمعنى وددت، وقد جرت عادة
البخاري أن يترجم ببعض ما ورد من طرق بعض الحديث المذكور، وتقدم شرح الحديث مستوفى
في " كتاب الرقاق " وتقدم كلام ابن مالك في ذلك هناك.
(13/218)
3 -
باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ
أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ
7229 - حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب حدثني عروة أن عائشة
قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما
سقت الهدي ولحللت مع الناس حين حلوا"
7230 - حدثنا الحسن بن عمر حدثنا يزيد عن حبيب عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال
"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبينا بالحج وقدمنا مكة لأربع خلون من
ذي الحجة فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نطوف بالبيت وبالصفا والمروة وأن
نجعلها عمرة ولنحل إلا من كان معه هدي قال ولم يكن مع أحد منا النبي صلى الله عليه
وسلم وطلحة وجاء علي من اليمن معه الهدي فقال أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقالوا أننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لحللت قال
ولقيه سراقة وهو يرمي جمرة العقبة فقال يا رسول الله ألنا هذه خاصة قال لا بل لأبد
قال وكانت عائشة قدمت مكة وهي حائض فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنسك
المناسك أنها لا تطوف ولا تصلي حتى تطهر فلما نزلوا البطحاء قالت عائشة يا رسول
الله أتنطلقون بحجة وعمرة وأنطلق بحجة قال ثم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أن
ينطلق معها إلى التنعيم فاعتمرت عمرة في ذي الحجة بعد أيام الحج
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو استقبلت من أمري ما استدبرت"
ذكر فيه حديث عائشة بلفظه وبعده " ما سقت الهدي " وقد مضى من وجه آخر
أتم من هذا في " كتاب الحج " ثم ذكر بعده حديث جابر وفيه: "إني لو
استقبلت
(13/218)
4 -
باب قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْتَ كَذَا وَكَذَا
7231 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ
رَبِيعَةَ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ أَرِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي
اللَّيْلَةَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ السِّلاَحِ قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ سَعْدٌ يَا
رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أَحْرُسُكَ فَنَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ قَ الَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَتْ
عَائِشَةُ قَالَ بِلاَلٌ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ
وَجَلِيلُ فَأَخْبَرْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ليت كذا وكذا" ليت حرف من حروف
التمني يتعلق بالمستحيل غالبا وبالممكن قليلا، ومنه حديث الباب فإن كلا من الحراسة
والمبيت بالمكان الذي تمناه قد وجد. قوله: "أرق" بفتح أوله وكسر الراء
أي " سهر " وزنه ومعناه وقد تقدم بيانه في باب الحراسة في الغزو مع شرحه،
وقوله: "من هذا؟ قيل سعد " في رواية الكشميهني: "قال سعد "
وهو أولى فقد تقدم في الجهاد بلفظ: "فقال أنا سعد بن أبي وقاص " ويستفاد
منه تعيينه. تنبيه: ذكرت في " باب الحراسة " من " كتاب الجهاد
" ما أخرجه الترمذي من طريق عبد الله بن شقيق " عن عائشة قالت: كان
النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت: والله يعصمك من الناس " وهو يقتضي
أنه لم يحرس بعد ذلك بناء على سبق نزول الآية لكن ورد في عدة أخبار أنه حرس في بدر
وفي أحد وفي الخندق وفي رجوعه من خيبر وفي وادي القرى وفي عمرة القضية وفي حنين،
فكأن الآية نزلت متراخية عن وقعة حنين، ويؤيده ما أخرجه الطبراني في الصغير من
حديث أبي سعيد " كان العباس فيمن يحرس النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزلت
هذه الآية ترك " والعباس إنما لازمه بعد فتح مكة، فيحمل على أنها نزلت بعد
حنين، وحديث حراسته ليلة حنين أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم من حديث سهل بن
الحنظلية أن أنس بن أبي مرثد حرس النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة وتتبع بعضهم
أسماء من حرس النبي صلى الله عليه وسلم فجمع منهم سعد بن معاذ ومحمد ابن مسلمة
والزبير وأبو أيوب وذكوان بن عبد القيس والأدرع السلمي وابن الأدرع واسمه محجن
ويقال سلمة وعباد ابن بشر والعباس وأبو ريحانة وليس كل واحد من هؤلاء في الوقائع
التي تقدم ذكرها حرس النبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل ذكر في مطلق الحرس فأمكن
أن يكون خاصا به كأبي أيوب حين بنائه بصفية بعد الرجوع من خيبر وأمكن أن يكون حرس
أهل تلك الغزوة كأنس بن أبي مرثد، والعلم عند الله تعالى. قوله: "وقالت عائشة
قال بلال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة، إلخ" هذا حديث آخر تقدم موصولا بتمامه
في مقدم النبي صلى الله عليه وسلم من " كتاب الهجرة " وموضع الدلالة منه
قولها فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك اقتصر من الحديث عليها والذي في
الرواية الموصولة قالت عائشة: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته.
(13/219)
5 -
باب تَمَنِّي الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ
7232 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ
الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لاَ تَحَاسُدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ
اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَقُولُ لَوْ
أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ وَرَجُلٌ آتَاهُ
اللَّهُ مَالًا يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ فَيَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا
أُوتِيَ لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ
بِهَذَا
قوله: "باب تمني القرآن والعلم" ذكر فيه حديث أبي هريرة " لا تحاسد
إلا في اثنتين " وهو ظاهر في تمني القرآن وأضاف العلم إليه بطريق الإلحاق به
في الحكم، وقد تقدم في العلم من وجه آخر عن الأعمش وتقدم شرحه مستوفى في "
كتاب العلم " وقوله هنا " فهو يتلوه آناء الليل " وقع في رواية
الكشميهني: "من آناء الليل " بزيادة " من". قوله: "يقول
لو أوتيت" كذا فيه بحذف القائل وظاهره الذي أوتي القرآن وليس كذلك بل هو
السامع وأفصح به في الرواية التي في " فضائل القرآن " ولفظه؛ فسمعه جار
له فقال: ليتني أوتيت إلخ، ولفظ هذه الرواية أدخل في التمني لكنه جرى على عادته في
الإشارة.
(13/220)
6 -
باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّمَنِّي {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ
بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ
نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}
7233 - حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ
عَاصِمٍ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
لاَ تَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ لَتَمَنَّيْتُ
7234 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ
قَيْسٍ قَالَ أَتَيْنَا خَبَّابَ بْنَ الأَرَتِّ نَعُودُهُ وَقَدْ اكْتَوَى
سَبْعًا فَقَالَ لَوْلاَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ
7235 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ - اسْمُهُ سَعْدُ
بْنُ عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ
يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ وَإِمَّا
مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ
قوله: "باب ما يكره من التمني" قال ابن عطية: يجوز تمني ما لا يتعلق
بالغير أي مما يباح وعلى هذا فالنهي عن التمني بخصوص بما يكون داعية إلى الحسد
والتباغض وعلى هذا محصل قول الشافعي " لولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون
كذا " ولم يرد أن كل التمني يحصل به الإثم. قوله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا
فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} - إلى قوله:- {إِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة الآية كلها، ذكر فيه
ثلاثة أحاديث كلها في الزجر عن تمني الموت، وفي مناسبتها للآية غموض، إلا إن كان
أراد أن المكروه من التمني هو جنس ما دلت عليه الآية وما دل
(13/220)
عليه الحديث، وحاصل ما في الآية الزجر عن الحسد، وحاصل ما له في الحديث الحث على الصبر" لأن تمني الموت غالبا ينشأ عن وقوع أمر يختار الذي يقع به الموت على الحياة، فإذا نهى عن تمني الموت كأن أمر بالصبر على ما نزل به، ويجمع الحديث والآية الحث على الرضا بالقضاء والتسليم لأمر الله تعالى. ووقع في حديث أنس من طريق ثابت عنه في " باب تمني المريض الموت من كتاب المرضى " بعد النهي عن تمني الموت؛ فإن كان لا بد فاعلا فليقل " اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، الحديث ولا يرد على ذلك مشروعية الدعاء بالعافية مثلا، لأن الدعاء بتحصيل الأمور الأخروية يتضمن الإيمان بالغيب مع ما فيه من إظهار الافتقار إلى الله تعالى والتذلل له والاحتياج والمسكنة بين يديه، والدعاء بتحصيل الأمور الدنيوية لاحتياج الداعي إليها فقد تكون قدرت له إن دعا بها فكل من الأسباب والمسببات مقدر، وهذا كله بخلاف الدعاء بالموت فليست فيه مصلحة ظاهرة بل فيه مفسدة. وهي طلب إزالة نعمة الحياة وما يترتب عليها من الفوائد، لا سيما لمن يكون مؤمنا، فإن استمرار الإيمان من أفضل الأعمال، والله أعلم. وقوله: "عاصم " هو ابن سليمان المعروف بالأحول وقد سمع من أنس، وربما أدخل بينهما واسطة كهذا، ووقع عند مسلم في هذا الحديث من رواية عبد الواحد بن زياد عن عاصم عن النضر بن أنس قال قال أنس، وأنس يومئذ حي، فذكره. وقوله: "لا تمنوا " بفتح أوله وثانيه وثالثه مشددا وهي على حذف إحدى التاءين، وثبتت في رواية الكشميهني: "لا تتمنوا " وزاد في رواية ثابت المذكورة عن أنس " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به " الحديث. وقد مضى الكلام عليه في " كتاب المرضى " وأورد نحوه من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس في " كتاب الدعوات " و " محمد" " محمد " هو ابن سلام و " عبدة " هو ابن سليمان و " ابن أبي خالد " هو إسماعيل و " قيس " هو ابن أبي حازم، والسند كله كوفيون إلا شيخ البخاري وقد مضى الكلام عليه في " كتاب المرضى" وقوله: "عن الزهري " كذا لهشام بن يوسف عن معمر. وقال عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة أخرجه مسلم والطريقان محفوظان لمعمر، وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، وتابعه فيه عن الزهري، شعيب وابن أبي حفصة ويونس بن يزيد، وقوله: "عن أبي عبيد " هو سعد بن عبيد مولى ابن أزهر وقد أخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق إبراهيم ابن سعد عبد الزهري فقال: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة، لكن قال النسائي إن الأول هو الصواب. قوله: "لا يتمنى" كذا للأكثر بلفظ النفي، والمراد به النهي أو هو للنهي وأشبعت الفتحة، ووقع في رواية الكشميهني: "لا يتمنين " بزيادة نون التأكيد، ووقع في رواية همام المشار إليها لا يتمن أحدكم الموت، ولا يدع به قبل أن يأتيه " فجمع في النهي عن ذلك بين القصد والنطق. وفي قوله: "قبل أن يأتيه " إشارة إلى الزجر عن كراهيته إذا حضر لئلا يدخل فيمن كره لقاء الله تعالى، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم عند حضور أجله " اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى " وكلامه صلى الله عليه وسلم بعدما خير بين، البقاء في الدنيا والموت فاختار ما عند الله وقد خطب بذلك وفهمه عنه أبو بكر الصديق كما تقدم بيانه في المناقب، وحكمة النهي عن ذلك أن في طلب الموت قيل حلوله نوع اعتراض ومراغمة للقدر وإن كانت الآجال لا تزيد ولا تنقص، فإن تمنى الموت لا يؤثر في زيادتها ولا نقصها، ولكنه أمر قد غيب عنه، وقد تقدم في " كتاب الفتن " ما يدل عل ذم ذلك في حديث أبي هريرة " لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل يقول يا ليتني مكانه " وليس به الدين إلا البلاء، وقد تقدم شرح ذلك مستوفى في " باب
(13/221)
تمني المريض الموت من كتاب المرضى " قال النووي في الحديث التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من فاقة أو محنة بعدو ونحوه من مشاق الدنيا، فأما إذا خاف ضررا أو فتنة في دينه فلا كراهة فيه لمفهوم هذا الحديث، وقد فعله خلائق من السلف بذلك وفيه أن من خالف فلم يصبر على الضر وتمنى الموت لضر نزل به فليقل الدعاء المذكور. قلت: ظاهر الحديث المنع مطلقا والاقتصار على الدعاء مطلقا، لكن الذي قاله الشيخ لا بأس به لمن وقع منه التمني ليكون عونا على ترك التمني. قوله: "إما محسنا فلعله يزداد وإما مسيئا فلعله يستعتب" كذا لهم بالنصب فيهما وهو على تقدير عامل نصب نحو يكون، ووقع في رواية أحمد عن عبد الرزاق بالرفع فيهما، وكذا في رواية إبراهيم بن سعد المذكورة وهي واضحة، وقوله: "يستعتب " أي يسترضى الله بالإقلاع والاستغفار والاستعتاب طلب الإعتاب والهمزة للإزالة أي يطلب إزالة العتاب، عاتبه: لامه، وأعتبه: أزال عتابه: قال الكرماني وهو مما جاء على غير القياس إذ الاستفعال إنما ينبني من الثلاثي لا من المزيد فيه انتهى، وظاهر الحديث انحصار حال المكلف في هاتين الحالتين، وبقي قسم ثالث وهو أن يكون مخلطا فيستمر على ذلك أو يزيد إحسانا أو يزيد إساءة أو يكون محسنا فينقلب مسيئا أو يكون مسيئا فيزداد إساءة، والجواب أن ذلك خرج مخرج الغالب لأن غالب حال المؤمنين ذلك، ولا سيما والمخاطب بذلك شفاها الصحابة، وقد تقدم بيان ذلك مبسوطا مع شرحه هناك، وقد خطر لي في معنى الحديث أن فيه إشارة إلى تغبيط المحسن بإحسانه وتحذير المسيء من إساءته، فكأنه يقول: من كان محسنا فليترك تمني الموت وليستمر على إحسانه والازدياد منه، ومن كان مسيئا فليترك تمني الموت وليقلع عن الإساءة لئلا يموت على إساءته فيكون على خطر، وأما من عدا ذلك ممن تضمنه التقسيم فيؤخذ حكمه من هاتين الحالتين إذ لا انفكاك عن أحدهما والله أعلم. تنبيه: أورد البخاري في " كتاب الأدب " في هذه الترجمة حديث أبي هريرة رفعه: "إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يعطي وهو عنده " من رواية عمر بن أبي سلمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة وليس على شرطه فلم يعرج عليه في الصحيح.
(13/222)
7 -
باب قَوْلِ الرَّجُلِ "لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا"
7236 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ يَوْمَ الأَحْزَابِ وَلَقَدْ
رَأَيْتُهُ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ يَقُولُ لَوْلاَ أَنْتَ مَا
اهْتَدَيْنَا نَحْنُ وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً
عَلَيْنَا إِنَّ الأُلَى وَرُبَّمَا قَالَ الْمَلاَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا
أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا أَبَيْنَا يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ
قوله: "باب قول الرجل" كذا للأكثر وللمستملي والسرخسي " قول النبي
صلى الله عليه وسلم". قوله: "لولا أنت ما اهتدينا" إشارة إلى رواية
مختصرة أوردها في " باب حفر الخندق " في أوائل الجهاد من وجه آخر عن
شعبة بلفظ كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل ويقول: "لولا أنت ما اهتدينا
" وأورده في " غزوة الخندق " من وجه آخر عن شعبة أتم سياقا وقوله
هنا " لولا أنت ما اهتدينا " وفي بعضها " لو لا الله " هكذا
وقع بحذف بعض الجزء الأول ويسمى " الخرم " بالخاء المعجمة والراء
الساكنة، وتقدم في " غزوة الخندق " من وجه آخر عن شعبة بلفظ:
"والله لولا الله ما اهتدينا "
(13/222)
وهو موافق للفظ الترجمة؛ ومن وجه آخر عن أبي إسحاق " اللهم لولا أنت ما اهتدينا " وفي أول هذا الجزء زيادة سبب خفيف وهو " الخزم " بالزاي، وتقدمت الإشارة إلى هذا في " كتاب الأدب " والرواية الوسطى سالمة من الخرم والخزم معا. وقوله هنا " إن الألى " وربما قال: "إن الملأ قد بغوا علينا " تقدم في غزوة الخندق " إن الألى قد بغوا علينا " ولم يتردد و " الألى " بهمزة مضموما غير ممدودة واللام بعدها مفتوحة وهي بمعنى " الذين " وإنما يتزن بلفظ الذين فكأن أحد الرواة ذكرها بالمعنى، ومضى في الجهاد من وجه آخر عن أبي إسحاق بلفظ إن العدا " وهو غير موزون أيضا ولو كان الأعادي " لا تزن، وعند النسائي من وجه آخر عن سلمة بن الأكوع " والمشركون قد بغوا علينا " وهذا موزون، ذكره في رجز عامر بن الأكوع، وتقدم شرحه مستوفى في " غزوه خيبر". قوله: "قبل ذلك ولقد رأيته وأرى التراب" بسكون الألف وفتح الراء بلفظ الفعل الماضي من المواراة، أي " غطى " وزنه ومعناه كذا للجميع إلا الكشميهني فوقع في روايته: "وإن التراب لموار". قوله: "بياض بطنه" كذا للجميع إلا الكشميهني فقال: "بياض إبطيه " تثنية الإبط ووقع في الرواية التي في المغازي حتى " اغبر بطنه " وفي الرواية الأخرى " رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وأرى عني التراب جلدة بطنه " فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، يعني عبد الله الشاعر الأنصاري الصحابي المشهور، وقد تقدم في غزوة خيبر أنه من شعر عامر بن الأكوع، وذكرت وجه الجمع بينهما هناك وما في الأبيات المذكورة من زحاف وتوجيهه. وتقدم ما يتعلق بحكم الشعر إنشادا وإنشاء في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي حق من دونه في أواخر " كتاب الأدب " بحمد الله تعالى، قال ابن بطال " لولا " عند العرب يمتنع بها الشيء لوجود غيره تقول " لولا زيد ما صرت إليك " أي كان مصيري إليك من أجل زيد وكذلك " لولا الله ما اهتدينا " أي كانت هدايتنا من قبل الله تعالى وقال الراغب لوقوع غيره، ويلزم خبره الحذف ويستغنى بجوابه عن الخبر " قال: "وتجيء بمعنى " هلا " نحو " لولا أرسلت إلينا رسولا " ومثله " لوما " بالميم بدل اللام وقال ابن هشام " لولا " تجيء على ثلاثة أوجه أحدها: أن تدخل على جملة لتربط امتناع الثانية بوجود الأولى نحو " لولا زيد لأكرمتك " أي لولا وجوده، وأما حديث: "لو لا أن أشق " فالتقدير " لولا مخافة أن أشق " لأمرت أمر إيجاب وإلا لانعكس معناها، إذ الممتنع المشقة؛ والموجود الأمر. والوجه الثاني: أنها تجيء " للحض " وهو طلب بحث وإزعاج و " للعرض " وهو طلب بلين وأدب، فتختص بالمضارع نحو "لولا تستغفرون الله" والوجه الثالث: أنها تجيء " للتوبيخ والتندم " فتختص بالماضي نحو "لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء" أي " هلا " انتهى، وذكر أبو عبيد الهروي في الغريبين أنها تجيء بمعنى " لم لا " وجعل منه قوله تعالى :{فلولا كانت قوية آمنت} والجمهور أنها من القسم الثالث وموقع الحديث من الترجمة أن هذه الصيغة إذا علق بها القول الحق، لا يمنع بخلاف ما لو علق بها ما ليس بحق، كمن يفعل شيئا فيقع في محذور فيقول: لولا فعلت كذا ما كان كذا، فلو حقق لعلم أن الذي قدره الله لا بد من وقوعه، سواء فعل أم ترك فقولها واعتقاد معناها يفضي إلى التكذيب بالقدر.
(13/223)
8 -
باب كَرَاهِيَةِ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَرَوَاهُ الأَعْرَجُ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق عن موسى بن عقبة عن
سالم
(13/223)
أبي
النضر مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبا له قال كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى
فقرأته فإذا فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تتمنوا لقاء العدو
وسلوا الله العافية"
قوله: "باب كراهية تمني لقاء العدو" تقدم في أواخر الجهاد " باب لا
تتمنوا لقاء العدو " وتقدم هناك توجيهه مع جواز تمني الشهادة، وطريق الجمع
بينهما لأن ظاهرهما التعارض، لأن تمني الشهادة محبوب، فكيف ينهي عن تمني لقاء
العدو وهو يفضي إلى المحبوب؟ وحاصل الجواب أن حصول الشهادة أخص من اللقاء لإمكان
تحصيل الشهادة مع نصرة الإسلام ودوام عزه بكسرة الكفار، واللقاء قد يفضي إلى عكس
ذلك فنهى عن تمنيه ولا ينافي ذلك تمني الشهادة، أو لعل الكراهية مختصة بمن يثق بقوته
ويعجب بنفسه ونحو ذلك. قوله: "ورواه الأعرج عن أبي هريرة" علقه في
الجهاد لأبي عامر وهو العقدي عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج، وقد
ذكرت هناك من وصله ثم ذكرت حديث عبد الله بن أبي أوفى موصولا مختصرا، وتقدم هناك
موصولا تاما في " كتاب الجهاد"
(13/224)
9 -
باب مَا يَجُوزُ مِنْ اللَّوْ, وَقَوْلِهِ {تَعَالَى لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ
قُوَّةً}
7238 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا
أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ "ذَكَرَ ابْنُ
عَبَّاسٍ الْمُتَلاَعِنَيْنِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ أَهِيَ الَّتِي
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً مِنْ
غَيْرِ بَيِّنَةٍ قَالَ لاَ تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ"
7239 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو حَدَّثَنَا عَطَاءٌ
قَالَ أَعْتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِشَاءِ
فَخَرَجَ عُمَرُ فَقَالَ الصَّلاَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَقَدَ النِّسَاءُ
وَالصِّبْيَانُ فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ يَقُولُ لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى
أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ وَقَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا عَلَى أُمَّتِي
لاَمَرْتُهُمْ بِالصَّلاَةِ هَذِهِ السَّاعَةَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ
الصَّلاَةَ فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَقَدَ النِّسَاءُ
وَالْوِلْدَانُ فَخَرَجَ وَهُوَ يَمْسَحُ الْمَاءَ عَنْ شِقِّهِ يَقُولُ إِنَّهُ
لَلْوَقْتُ لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي وَقَالَ عَمْرٌو حَدَّثَنَا
عَطَاءٌ لَيْسَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا عَمْرٌو فَقَالَ رَأْسُهُ يَقْطُرُ
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَمْسَحُ الْمَاءَ عَنْ شِقِّهِ وَقَالَ عَمْرٌو لَوْلاَ
أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ إِنَّهُ لَلْوَقْتُ لَوْلاَ
أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا
مَعْنٌ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7240 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "
لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لاَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ
7241 - حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى
حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(13/224)
قَالَ
وَاصَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ الشَّهْرِ وَوَاصَلَ
أُنَاسٌ مِنْ النَّاسِ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ لَوْ مُدَّ بِيَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ
تَعَمُّقَهُمْ إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي
وَيَسْقِينِ تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُغِيرَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7242 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ قَالُوا
فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ أَيُّكُمْ مِثْلِي إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي
وَيَسْقِينِ فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ
يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلاَلَ فَقَالَ لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ
كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ
7243 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ
عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ قَالَ نَعَمْ
قُلْتُ فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ قَالَ إِنَّ قَوْمَكِ
قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ قُلْتُ فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا قَالَ
فَعَلَ ذَاكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا
وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ
تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أَلْصِقْ
بَابَهُ فِي الأَرْضِ
7244 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الأَنْصَارِ وَلَوْ
سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتْ الأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا
لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الأَنْصَارِ
7245 - حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ
عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً
مِنْ الأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ
وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا تَابَعَهُ أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ
قوله: "باب ما يجوز من اللو" قال القاضي عياض يريد " ما يجوز من
قول الراضي بقضاء الله لو كان كذا لكان كذا " فأدخل على " لو "
الألف واللام التي للعهد وذلك غير جائز عند أهل العربية، لأن لو حرف وهما لا
يدخلان على الحروف، وكذا وقع عند بعض رواة مسلم: "إياك واللو فإن اللو من
الشيطان " والمحفوظ " إياك ولو فإن لو " بغير ألف ولام فيهما، قال:
ووقع لبعض الشعراء تشديد واو " لو " وذلك لضرورة الشعر انتهى. وقال صاحب
المطالع: لما أقامها مقام الاسم صرفها فصارت عنده كالندم والتمني. وقال صاحب
النهاية: الأصل لو ساكنة الواو، وهي حرف من حروف المعاني، يمتنع بها الشيء لامتناع
غيره غالبا، فلما سمي بها زيد فيها فلما أراد إعرابها أتى فيها
(13/225)
بالتعريف
ليكون علامة لذلك، ومن ثم شدد الواو وقد سمع بالتشديد منونا قال الشاعر:
ألام على لو ولو كنت عالما ... بأدبار لو لم تفتني أوائله
وقال آخر:
ليت شعري وأين منى ليت ... إن ليتا وإن لوا عناء
وقال آخر:
حاولت لوا فقلت لها ... إن لوا ذاك أعيانا
وقال ابن مالك إذا نسب إلى حرف أو غيره حكم هو للفظه دون معناه، جاز أن يحكي وجاز
أن يعرب بما يقتضيه العامل، وإن كانت على حرفين ثانيهما حرف لين وجعلت اسما ضعف
ثانيهما، فمن ثم قيل في " لو لو " وفي " في في " وقال ابن
مالك: أيضا الأداة التي حكم لها بالاسمية في هذا الاستعمال إن أولت " بكلمة
" منع صرفها إلا إن كانت ثلاثية ساكنة الوسط فيجوز صرفها وإن أولت "
بلفظ: "صرفت قولا واحدا. قلت: ووقع في بعض النسخ المعتمدة من رواية أبي ذر عن
مشايخه ما يجوز من أن لو فجعل أصلها " أن لو " بهمزة مفتوحة بعدها نون ساكنة
ثم حرف لو فأدغمت النون في اللام وسهلت همزة أن فصارت تشبه أداة التعريف. وذكر
الكرماني أن في بعض النسخ ما يجوز من لو بغير ألف ولام ولا تشديد على الأصل،
والتقدير ما يجوز من قول " لو ثم رأيته " في شرح ابن التين، كذلك فلعله
من إصلاح بعض الرواة لكونه لم يعرف وجهه، وإلا فالنسخ المعتمدة من الصحيح وشروحه
متواردة على الأول. وقال السبكي الكبير " لو " إنما لا تدخلها الألف ولا
اللام إذا بقيت على الحرفية، أما إذا سمي بها فهي من جملة الحروف التي سمعت
التسمية بها من حروف الهجاء وحروف المعاني ومن شواهده قوله:
وقدما أهلكته لو كثيرا ... وقبل اليوم عالجها قدار
فأضاف إليها واوا أخرى وأدغمها وجعلها فاعلا، وحكى سيبويه أن بعض العرب يهمز لوا
أي سواء كانت باقية على حرفيتها أو سمي بها، وأما حديث: "إياك ولو فإن لو
تفتح عمل الشيطان " فلا يلزم من جعلها اسم " إن " أن تكون خرجت عن
الحرفية بل هو إخبار لفظي يقع في الاسم والفعل والحرف؛ كقولهم حرف عن ثنائي، وحرف
إلى ثلاثي هو إخبار عن اللفظ على سبيل الحكاية، وأما إذا أضيف إليها الألف واللام
فإنها تصير اسما أو تكون إخبارا عن المعنى المسمى بذلك اللفظ. قال ابن بطال "
لو " تدل عند العرب على امتناع الشيء لامتناع غيره تقول " لو جاءني زيد
لأكرمتك " معناه إني امتنعت من إكرامك لامتناع مجيء زيد، وعلى هذا جرى أكثر
المتقدمين. وقال سيبويه " لو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره: "أي يقتضي
فعلا ماضيا كان يتوقع ثبوته لثبوت غيره فلم يقع وإنما عبر بقوله: لما كان سيقع دون
قوله: لما لم يقع مع أنه أخصر، لأن " كان " للماضي و " لو "
للامتناع و " لما " للوجوب و " السين " للتوقع. وقال بعضهم:
هي لمجرد الربط في الماضي مثل " إن " في المستقبل وقد تجيء بمعنى إن
الشرطية نحو "ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" أي " وإن
أعجبتكم " وترد للتقليل، نحو " التمس ولو خاتما من حديد " قاله
صاحب المطالع وتبعه ابن هشام الخضراوي، ومثل " فاتقوا النار ولو بشق تمرة
" وتبعه ابن السمعاني في القواطع، ومثل بقوله: "ولو بظلف محرق "
وهو أبلغ في التقليل، وترد للعرض نحو " لو تنزل عندنا فتصيب خيرا "
وللحض نحو " لو فعلت كذا " بمعنى افعل، والأول طلب بأدب ولين، والثاني
طلب
(13/226)
بقوة وشدة، وذكر ابن التين عن الداودي أنها تأتي بمعنى " هلا " ومثل بقوله: "لو شئت لاتخذت عليه أجرا" وتعقب بأنه تفسير معنى لأن اللفظ لا يساعده، وتأتي بمعنى " التمني " نحو "فلو أن لنا كرة" أي فليت لنا، ولهذا نصب فتكون في جوابها كما انتصب فأفوز في جواب ليت، واختلفوا هل هي الامتناعية أشربت معنى التمني أو المصدرية أو قسم برأسه، رجح الأخير ابن مالك ولا يعكر عليه ورودها مع فعل التمني، لأن محل مجيئها للتمني أن لا يصحبها فعل التمني، قال القاضي شهاب الدين الخوبي لو الشرطية لتعليق الثاني بالأول في الماضي، فتدل على انتفاء الأول إذ لو كان ثابتا للزم ثبوت الثاني لأنها لثبوت الثاني على تقدير الأول، فمتى كان الأول لازما للثاني دل على امتناع الثاني لامتناع الأول ضرورة انتقاء الملزوم، وإن لم يكن الأول لازما للثاني لم يدل إلا على مجرد الشرط وقال التفتازاني قد تستعمل للدلالة على أن الجزاء لازم الوجود دائما في قصد المتكلم وذلك إذا كان الشرط مما يستبعد استلزامه لذلك الجزاء، ويكون نقيض ذلك الشرط المثبت أولى باستلزامه ذلك الجزاء، فيلزم وجود استمرار الجزاء على تقدير وجود الشرط وعدمه نحو " لو لم تكن تكرمني لأثني عليك " فإذا ادعى لزوم وجود الجزاء لهذا الشرط مع استبعاد لزومه له فوجوده عند عدم هذا الشرط بالطريق الأولى انتهى. ومن أمثلة ذلك الشعرية قول المعري. لو اختصرتم من الإحسان زرتكم " البيت فإن الإحسان يستدعي استدامة الزيارة لا تركها لكنه أراد المبالغة في وصف الممدوح بالكرم، ووصف نفسه بالعجز عن شكره. قوله: "وقوله تعالى { لو أن لي بكم قوة} قال ابن بطال: جواب " لو " محذوف كأنه قال: "لحلت بينكم وبين ما جئتم له من الفساد " قال: وحذفه أبلغ لأنه يحصر بالنفي ضروب المنع، وإنما أراد لوط عليه السلام العدة من الرجال، وإلا فهو يعلم أن له من الله ركنا شديدا؛ ولكنه جرى على الحكم الظاهر، قال وتضمنت الآية البيان عما يوجبه حال المؤمن إذا رأى منكرا لا يقدر على إزالته، أنه يتحسر على فقد المعين على دفعه، ويتمنى وجوده حرصا على طاعة ربه وجزعا من استمرار معصيته، ومن ثم وجب أن ينكر بلسانه ثم بقلبه إذا لم يطلق الدفع انتهى. والحديث الذي ذكره السبكي هو الذي رمز إليه البخاري بقوله ما يجوز من اللو فإن فيه إشارة إلى أنها في الأصل " لا يجوز إلا ما استثنى، وهو مخرج عند النسائي وابن ماجه والطحاوي من طريق محمد بن عجلان عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، ولا تعجز فإن غلبك أمر فقل قدر الله وما شاء الله، وإياك واللو فإن اللو تفتح عمل الشيطان " لفظ ابن ماجه ولفظ النسائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والباقي سواء إلا أنه قال: "وما شاء وإياك واللو " وأخرجه الطبري من هذا الوجه بلفظ: "احرص " إلخ ولم يذكر ما قبله. وقال: "فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا، لكن قدر الله وما شاء فعل، فإن لو مفتاح الشيطان " وأخرجه النسائي والطبري من طريق فضيل بن سليمان عن ابن عجلان فأدخل بينه وبين الأعرج أبا الزناد، ولفظه: "مؤمن قوي خير وأحب " وفيه: "فقل قدر الله وما شاء صنع " قال النسائي فضيل بن سليمان ليس بقوي، وأخرجه النسائي والطبري والطحاوي من طريق عبد الله بن المبارك عن ابن عجلان فأدخل بينه وبين الأعرج ربيعة بن عثمان ولفظ النسائي كالأول، لكن قال: "وأفضل " وقال: "وما شاء صنع " وأخرجه من وجه آخر عن ابن المبارك عن ربيعة قال: سمعته من ربيعة وحفظي له عن ابن عجلان عن ربيعة، وكذا أخرجه الطحاوي وقال: دلسه ابن عجلان عن الأعرج وإنما سمعه من ربيعة ثم رواه الثلاثة أيضا من طريق عبد
(13/227)
الله بن إدريس عن ربيعة بن عثمان، فقال: عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج بدل محمد بن عجلان ولفظ النسائي: "وفي كل خير " وفيه: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل " وهذه الطريق أصح طرق هذا الحديث، وقد أخرجها مسلم من طريق عبد الله ابن إدريس أيضا، واقتصر عليها ولم يخرج بقية الطرق من أجل الاختلاف على ابن عجلان في سنده، ويحتمل أن يكون ربيعة سمعه من ابن حبان ومن ابن عجلان، فإن ابن المبارك حافظ كابن إدريس، وليس في هذه الرواية لفظ: "اللو " بالتشديد. قال الطبري طريق الجمع بين هذا النهي وبين ما ورد من الأحاديث الدالة على الجواز، أن النهي مخصوص بالجزم بالفعل الذي لم يقع، فالمعنى: لا تقل لشيء لم يقع لو أني فعلت كذا لوقع قاضيا بتحتم ذلك غير مضمر في نفسك شرط مشيئة الله تعالى، وما ورد من قول " لو " محمول على ما إذا كان قائله موقنا بالشرط المذكور وهو أنه لا يقع شيء إلا بمشيئة الله وإرادته، وهو كقول أبي بكر في الغار " لو أن أحدكم رفع قدمه لأبصرنا " فجزم بذلك مع تيقنه أن الله قادر على أن يصرف أبصارهم عنهما بعمى أو غيره، لكن جرى على حكم العادة الظاهرة وهو موقن بأنهم لو رفعوا أقدامهم لم يبصروهما إلا بمشيئة الله تعالى، انتهى ملخصا. وقال عياض الذي يفهم من ترجمة البخاري ومما ذكره في الباب من الأحاديث أنه يجوز استعمال " لو ولولا " فيما يكون للاستقبال مما فعله لوجود غيره وهو من باب لو لكونه لم يدخل في الباب إلا ما هو للاستقبال، وما هو حق صحيح متيقن، بخلاف الماضي والمنقضي أو ما فيه اعتراض على الغيب والقدر السابق. قال: والنهي إنما هو حيث قاله معتقدا ذلك حتما وأنه لو فعل ذلك لم يصبه ما أصابه قطعا، فأما من رد ذلك إلى مشيئة الله تعالى، وأنه لولا أن الله أراد ذلك ما وقع فليس من هذا قال والذي عندي في معنى الحديث أن النهي على ظاهره وعمومه لكنه نهي تنزيه، ويدل عليه قوله: "فإن لو تفتح عمل الشيطان " أي يلقي في القلب معارضة القدر فيوسوس به الشيطان، وتعقبه النووي بأنه جاء من استعمال لو في الماضي مثل قوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت " فالظاهر أن النهي عنه إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، وأما من قاله تأسفا على ما فات من طاعة الله أو ما هو معتذر عليه منه ونحو هذا فلا بأس به، وعليه يحمل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث. وقال القرطبي في " المفهم " المراد من الحديث الذي أخرجه مسلم أن الذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله والرضى بما قدر والإعراض عن الالتفات لما فات، فإنه إذا ذكر فيما فاته من ذلك فقال لو أني فعلت كذا لكان كذا، جاءته وساوس الشيطان فلا تزال به حتى يفضي إلى الخسران، فيعارض بتوهم التدبير سابق المقادير، وهذا هو عمل الشيطان المنهي عن تعاطي أسبابه بقوله: "فلا تقل لو فإن لو تفتح عمل الشيطان " وليس المراد ترك النطق بلو مطلقا إذ قد نطق النبي صلى الله عليه وسلم بها في عدة أحاديث، ولكن محل النهي عن إطلاقها إنما هو فيما إذا أطلقت معارضة للقدر، مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور، لا ما إذا أخبر بالمانع على جهة أن يتعلق به فائدة في المستقبل فإن مثل هذا لا يختلف في جواز إطلاقه، وليس فيه فتح لعمل الشيطان ولا ما يفضي إلى تحريم. وذكر المصنف في هذا الباب تسعة أحاديث في بعضها النطق بلو وفي بعضها بلولا فمن الأول الحديث الأول والثاني والثالث والسادس والثامن والتاسع ومن الثاني: الرابع والخامس والسابع. حديث القاسم بن محمد قال: "ذكر ابن عباس المتلاعنين " الحديث وقد تقدم شرحه مستوفى في " كتاب اللعان " والمراد منه قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت
(13/228)
راجما أحدا بغير بينة " الحديث. قوله: "حدثنا علي" هو ابن عبد الله بن المديني " وسفيان " هو ابن عيينة و " عمرو " هو ابن دينار و " عطاء " هو ابن أبي رباح. قوله: "اعتم النبي صلى الله عليه وسلم" تقدم شرح المتن في " كتاب الصلاة " مستوفى وهو من رواية عمرو عن عطاء مرسل، ومن رواية ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مسند؛ كما بينه سفيان وهو القائل: قال ابن جريج عن عطاء إلخ، وهو موصول بالسند المذكور وليس بمعلق، وسياق الحميدي له في مسنده أوضح من سياق علي بن المديني، فإنه أخرجه عن سفيان قال: حدثنا عمرو عن عطاء، قال سفيان وحدثناه ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، فساق الحديث ثم قال الحميدي: كان سفيان ربما حدث بهذا الحديث عن عمرو وابن جريج فأدرجه عن ابن عباس، فإذا ذكر فيه الخبر فقال: حدثنا أو سمعت أخبر بهذا يعني عن عمرو عن عطاء مرسلا وعن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس موصولا. قلت: وقد رواه علي هنا بالعنعنة ومع ذلك فصله فلم يدرجه، وزاد فيه تفصيل سياق المتن عنهما أيضا حيث قال أما عمرو فقال: "رأسه يقطر " وقال ابن جريج " يمسح الماء عن شقه " إلخ، وقوله: وقال إبراهيم بن المنذر إلخ يريد أن محمد بن مسلم وهو الطائفي رواه عن عمرو، وهو ابن دينار عن عطاء موصولا بذكر ابن عباس فيه، وهو مخالف لتصريح سفيان بن عيينة عن عمرو بأن حديثه عن عطاء ليس فيه ابن عباس فهذا يعد من أوهام الطائفي، وهو موصوف بسوء الحفظ وقد وصل حديثه الإسماعيلي من وجهين عنه هكذا، وذكر أن من جملة من حدث به عن سفيان مدرجا كما قال الحميدي: عبد الأعلى بن حماد وأحمد بن عبدة الضبي وأبو خيثمة، وأن عبدة بن عبد الرحيم وعمار بن الحسن روياه عن سفيان فاقتصرا على طريق عمرو وذكرا فيه ابن عباس فوهما في ذلك أشد من وهم عبد الأعلى. وأن ابن أبي عمر رواه في موضعين عن ابن عيينة مفصلا على الصواب. قلت: وكذلك أخرجه النسائي عن محمد بن منصور عن سفيان مفصلا. حديث أبي هريرة " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك " هكذا ذكره مختصرا من رواية جعفر بن ربيعة وهو المصري، عن عبد الرحمن وهو الأعرج، ونسبه الإسماعيلي في رواية شعيب بن الليث عن أبيه ولم يزد على ما هناك؛ فدل على أن هذا القدر هو الذي وقع في هذه الطريق. وقد أورده المزي في " الأطراف " فزاد فيه: "عند كل صلاة " ولم أر هذه الزيادة في هذه الطريق عند أحد ممن أخرجها وإنما ثبتت عند البخاري في رواية مالك عن أبي الزناد عن الأعرج، أورده في " كتاب الجمعة " ونسبه المزي إلى الصلاة بغير قيد الجمعة وهو مما يتعقب عليه أيضا، وعنده فيه مع بدل " عند " وثبت عند مسلم بلفظ عند من رواية سفيان بن عيينة عن أبي الزناد، وقد تقدم الكلام على هذا المتن مستوفى هناك ولله الحمد. "تنبيه": وقع هنا في نسخة الصغاني: تابعه سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس وهو خطأ. والصواب ما وقع عند غيره ذكر هذا عقب حديث أنس المذكور عقبه. حديث أنس " في النهي عن الوصال " ذكر من طريق حميد وهو الطويل عن ثابت عن أنس، وقد تقدم شرحه مستوفى في " كتاب الصيام " وقوله: "تابعه سليمان بن المغيرة عن ثابت " إلخ. وصله مسلم من طريق أبي النضر عن سليمان بن المغيرة " ووقع لنا بعلو في مسند عبد بن حميد " ووقع هذا التعليق في رواية كريمة سابقا على حديث حميد عن أنس فصار كأنه طريق أخرى معلقة لحديث: "لولا أن أشق " وهو غلط فاحش، والصواب ثبوته هنا كما وقع في رواية الباقين. حديث أبي هريرة في المعنى وفيه: "فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم " الحديث. وقد تقدم شرحه مستوفى في " الصيام " أيضا.
(13/229)
وقوله في السند وقال الليث " حدثني عبد الرحمن بن خالد " يعني ابن مسافر الفهمي أمير مصر وطريقه المذكورة وصلها الدار قطني في بعض فوائده من طريق أبي صالح عنه. حديث عائشة في الجدر بفتح الجيم وسكون الدال والمراد الحجر بكسر المهملة وسكون الجيم وقد تقدم شرحه في " كتاب الحج " مستوفى. والمراد منه هنا " ولولا أن قومك حديث عهد بالجاهلية وأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت " كذا وقع محذوف الجواب وتقديره " لفعلت". حديث أبي هريرة " لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار " الحديث وفيه: "ولو سلك الناس واديا أو شعبا " وقد تقدم شرحه في غزوة حنين عند شرح حديث عبد الله بن زيد المذكور هنا بعده، وهو الحديث الثامن. حديث أنس في بعض ذلك أورده مختصرا معلقا قائلا تابعه أبو التياح عن أنس في الشعب؛ يعني في قوله: "لو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم " وقد تقدم موصولا في غزوة حنين أيضا بعد حديث عبد الله بن زيد المشار إليه مع الكلام عليه، وتقدم شيء من ذلك في مناقب الأنصار ولله الحمد. قال السبكي الكبير مقصود البخاري بالترجمة وأحاديثها أن النطق بلو لا يكره على الإطلاق، وإنما يكره في شيء مخصوص يؤخذ ذلك من قوله: "من اللو " فأشار إلى " التبعيض " وورودها في الأحاديث الصحيحة ولذا قال الطحاوي بعد ذكر حديث: "وإياك واللو " دل قول الله تعالى لنبيه أن يقول: "ولو كنت أعلم الغيب" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت " وقوله في الحديث الآخر " ورجل يقول لو أن الله آتاني مثل ما آتى فلانا لعملت مثل ما عمل " على أن " لو " ليست مكروهة في كل الأشياء ودل قوله تعالى عن المنافقين { لو كان لنا من الأمر شيء} ورده عليهم بقوله: {لو كنتم في بيوتكم} على ما يباح من ذلك قال: "ووجدنا العرب تذم اللو وتحذر منه " فتقول أحذر اللو وإياك ولو، يريدون قوله: "لو علمت أن هذا خير لعملته " وفي حديث سلمان " الإيمان بالقدر: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تقولن لشيء أصابك لو فعلت كذا " أي لكان كذا. قال السبكي: وقد تأملت اقتران قوله: "احرص على ما ينفعك " بقوله: "وإياك واللو " فوجدت الإشارة إلى محل لو المذمومة وهي نوعان: أحدهما في الحال ما دام فعل الخير ممكنا فلا يترك لأجل فقد شيء آخر، فلا تقول " لو أن كذا كان موجودا لفعلت كذا " مع قدرته على فعله ولو لم يوجد ذاك، بل يفعل الخير ويحرص على عدم فواته والثاني من فاته أمر من أمور الدنيا فلا يشغل نفسه بالتلهف عليه لما في ذلك من الاعتراض على المقادير وتعجيل تحسر لا يغني شيئا ويشتغل به عن استدراك ما لعله يجدي، فالذم راجع فيما يؤل في الحال إلى التفريط وفيما يؤل في الماضي إلى الاعتراض على القدر وهو أقبح من الأول، فإن انضم إليه الكذب فهو أقبح، مثل قول المنافقين {لو استطعنا لخرجنا معكم} وقولهم { لو نعلم قتالا لا تبعناكم} وكذا قولهم { لو أطاعونا ما قتلوا} ثم قال وكل ما في القرآن من لو التي من كلام الله تعالى كقوله تعالى :{قل لو كنتم في بيوتكم} ، {ولو كنتم في بروج مشيدة} ونحوهما فهو صحيح لأنه تعالى عالم به، وأما التي للربط فليس الكلام فيها ولا المصدرية إلا أن كان متعلقها مذموما كقوله تعالى:{ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا" لأن الذي ودوه وقع خلافه. انتهى ملخصا.
(13/230)
كتاب
أخبار الأحاد
مَا جَاءَ فِي إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الصَّدُوقِ فِي الأَذَانِ وَالصَّلاَةِ
وَالصَّوْمِ وَالْفَرَائِضِ وَالأَحْكَامِ
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
95 - كتاب الآحاد
1 - باب مَا جَاءَ فِي إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الصَّدُوقِ فِي الأَذَانِ
وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْفَرَائِضِ وَالأَحْكَامِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ
طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا
إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَيُسَمَّى الرَّجُلُ طَائِفَةً لِقَوْلِهِ
تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فَلَوْ اقْتَتَلَ
رَجُلاَنِ دَخَلَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وَكَيْفَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَرَاءَهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَإِنْ سَهَا أَحَدٌ
مِنْهُمْ رُدَّ إِلَى السُّنَّةِ
7246 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ
قَالَ أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ
مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفِيقًا فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدْ
اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدْ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا
بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ
وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لاَ أَحْفَظُهَا
وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ
فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ
7247 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ
يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلاَلٍ مِنْ سَحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ أَوْ
قَالَ يُنَادِي لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ وَلَيْسَ
الْفَجْرُ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَجَمَعَ يَحْيَى كَفَّيْهِ حَتَّى يَقُولَ
هَكَذَا وَمَدَّ يَحْيَى إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ
7248 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ بِلاَلًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ
7249 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ خَمْسًا فَقِيلَ أَزِيدَ فِي
الصَّلاَةِ قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالُوا صَلَّيْتَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ
بَعْدَ مَا سَلَّمَ
7250 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(13/231)
انْصَرَفَ
مِنْ اثْنَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتْ الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ فَقَالَ أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ النَّاسُ نَعَمْ
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ
أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ ثُمَّ سَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ
أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ ثُمَّ رَفَعَ
7251 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي
صَلاَةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ
أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ
إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ
7252 - حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ
أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} فَوُجِّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّى
مَعَهُ رَجُلٌ الْعَصْرَ ثُمَّ خَرَجَ فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الأَنْصَارِ
فَقَالَ هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ قَدْ وُجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَانْحَرَفُوا وَهُمْ رُكُوعٌ
فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ
7253 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ كُنْتُ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ وَأَبَا عُبَيْدَةَ
بْنَ الْجَرَّاحِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ وَهُوَ تَمْرٌ
فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ
يَا أَنَسُ قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا قَالَ أَنَسٌ فَقُمْتُ
إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى انْكَسَرَتْ
7254 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ عَنْ صِلَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ لاَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا
حَقَّ أَمِينٍ فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ
7255 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ
أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ
7256 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ إِذَا
غَابَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُهُ
أَتَيْتُهُ بِمَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِذَا غِبْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَشَهِدَهُ أَتَانِي بِمَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
(13/232)
7257
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ زُبَيْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا فَأَوْقَدَ نَارًا وَقَالَ
ادْخُلُوهَا فَأَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّمَا فَرَرْنَا
مِنْهَا فَذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا لَوْ دَخَلُوهَا لَمْ يَزَالُوا فِيهَا
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَالَ لِلْآخَرِينَ لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ
إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ
7259,7258 - حدثنا زهير بن حرب حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن صالح عن بن
شهاب أن عبيد الله بن عبد الله أخبره أن أبا هريرة وزيد بن خالد أخبراه "أن
رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم"
7260 - و حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَعْرَابِ فَقَالَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ صَدَقَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ لَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي فَقَالَ لَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ فَقَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ
عَسِيفًا عَلَى هَذَا وَالْعَسِيفُ الأَجِيرُ فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ
فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ
الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ
عَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ وَأَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ
عَامٍ فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ
أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرُدُّوهَا وَأَمَّا ابْنُكَ فَعَلَيْهِ جَلْدُ
مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ
فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَغَدَا عَلَيْهَا
أُنَيْسٌ فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا
قوله: "باب ما جاء في إجازة خبر الواحد" هكذا عند الجميع بلفظ:
"باب " إلا في نسخة الصغاني فوقع فيها " كتاب أخبار الآحاد "
ثم قال: "باب ما جاء " إلى آخرها فاقتضى أنه من جملة " كتاب
الأحكام " وهو واضح وبه يظهر أن الأولى في التمني أن يقال باب لا كتاب أو
يؤخر عن هذا الباب وقد سقطت البسملة لأبي ذر والقابسي والجرجاني، وثبتت هنا قبل
الباب في رواية كريمة والأصيلي، ويحتمل أن يكون هذا من جملة أبواب الاعتصام فإنه
من جملة متعلقاته فلعل بعض من بيض الكتاب قدمه عليه، ووقع في بعض النسخ قبل
البسملة " كتاب خبر الواحد " وليس بعمدة والمراد " بالإجازة "
جواز العمل به والقول بأنه حجة و " بالواحد " هنا حقيقة الوحدة وأما في
اصطلاح الأصوليين فالمراد به ما لم يتواتر، وقصد الترجمة الرد به على من يقول: إن
الخبر لا يحتج به إلا إذا رواه أكثر من شخص واحد حتى يصير كالشهادة، ويلزم منه
الرد على من شرط أربعة أو أكثر. فقد نقل الأستاذ أبو منصور البغدادي أن بعضهم
اشترط في قبول خبر الواحد أن يرويه ثلاثة عن ثلاثة إلى منتهاه، واشترط بعضهم أربعة
عن أربعة، وبعضهم خمسة عن خمسة، وبعضهم سبعة عن سبعة انتهى. وكأن كل قائل منهم يرى
أن العدد المذكور يفيد التواتر، أو يرى تقسيم الخبر إلى متواتر وآحاد ومتوسط
بينهم، وفات الأستاذ ذكر من اشترط اثنين عن اثنين كالشهادة على الشهادة وهو منقول
عن بعض المعتزلة. ونقله المازري وغيره عن أبي علي الجبائي
(13/233)
ونسب إلى الحاكم أبي عبد الله وأنه ادعى أنه شرط الشيخين، ولكنه غلط على الحاكم كما أوضحته في الكلام على علوم الحديث، وقوله الصدوق قيد لا بد منه وإلا فمقابله وهو الكذوب لا يحتج به اتفاقا، وأما من لم يعرف حاله فثالثها يجوز أن اعتضد وقوله: "والفرائض " بعد قوله: "في الأذان والصلاة والصوم " من عطف العام على الخاص، وأفرد الثلاثة بالذكر للاهتمام بها. قال الكرماني ليعلم إنما هو في العمليات لا في الاعتقاديات " والمراد بقبول خبره في الأذان " أنه إذا كان مؤتمنا فأذن تضمن دخول الوقت فجازت صلاة ذلك الوقت، وفي " الصلاة " الإعلام بجهة القبلة وفي " الصوم " الإعلام بطلوع الفجر أو غروب الشمس وقوله: "والأحكام " بعد قوله: "والفرائض " من عطف العام على عام أخص منه لأن الفرائض فرد من الأحكام. قوله: "وقول الله تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } الآية" وقع في رواية كريمة سياق الآية إلى قوله: " " وهو المراد بقوله في رواية غيرها الآية، وهذا مصير منه إلى أن لفظ: "طائفة " يتناول الواحد فما فوقه ولا يختص بعدد معين، وهو منقول عن ابن عباس وغيره كالنخعي ومجاهد نقله الثعلبي وغيره، وعن عطاء وعكرمة وابن زيد أربعة، وعن ابن عباس أيضا من أربعة إلى أربعين، وعن الزهري ثلاثة، وعن الحسن عشرة، وعن مالك أقل الطائفة أربعة كذا أطلق ابن التين ومالك إنما قاله فيمن يحضر رجم الزاني، وعن ربيعة خمسة وقال الراغب: لفظ طائفة يراد بها الجمع والواحد طائف، ويراد بها الواحد فيصح أن يكون كراوية وعلامة، ويصح أن يراد به الجمع وأطلق على الواحد. وقال عطاء الطائفة اثنان فصاعدا، وقواه أبو إسحاق لزجاج بأن لفظ طائفة يشعر بالجماعة وأقلها اثنان، وتعقب بأن الطائفة في اللغة القطعة من الشيء فلا يتعين فيه العدد، وقرر بعضهم الاستدلال بالآية الأولى على وجه آخر فقال لما قال: {فلولا نفر من كل فرقة} وكان أقل الفرقة ثلاثة. وقد علق النفر بطائفة منهم فأقل من ينفر واحد ويبقى اثنان وبالعكس. قوله: "ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ، فلو اقتتل رجلان" في رواية الكشميهني: "الرجلان". "دخلا في معنى الآية" وهذا الاستدلال سبقه إلى الحجة به الشافعي وقبله مجاهد ولا يمنع ذلك قوله: "وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" لكون سياقه يشعر بأن المراد أكثر من واحد لأنا لم نقل أن الطائفة لا تكون إلا واحدا. قوله: "وقوله إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" وجه الدلالة منها يؤخذ من مفهومي الشرط والصفة فإنهما يقتضيان قبول خبر الواحد، وهذا الدليل يورد للتقوى لا للاستقلال لأن المخالف قد لا يقول بالمفاهيم واحتج الأئمة أيضا بآيات أخرى وبالأحاديث المذكورة في الباب، واحتج من منع بأن ذلك لا يفيد إلا الظن وأجيب بأن مجموعها يفيد القطع كالتواتر المعنوي، وقد شاع فاشيا عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير فاقتضى الاتفاق منهم على القبول، ولا يقال لعلهم عملوا بغيرها أو عملوا بها لكنها أخبار مخصوصة بشيء مخصوص لأنا نقول العلم حاصل من سياقها بأنهم إنما عملوا بها لظهورها لا لخصوصها. قوله: "وكيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه واحدا بعد واحد فإن سها أحد منهم رد إلى السنة" سيأتي في أواخر الكلام على خبر الواحد " باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث من الأمراء والرسل واحدا بعد واحد " فزاد فيه: "بعث الرسل " والمراد بقوله: "واحدا بعد واحد " تعدد الجهات المبعوث إليها بتعدد المبعوثين، وحمله الكرماني على ظاهره فقال فائدة بعث الآخر بعد الأول ليرده إلى الحق عند سهوه، ولا يخرج بذلك عن كونه خبر واحد وهو استدلال قوي لثبوت خبر الواحد من فعله صلى الله عليه وسلم لأن خبر الواحد لو لم يكف قبوله ما كان في إرساله معنى، وقد نبه عليه
(13/234)
الشافعي أيضا كما سأذكره وأيده بحديث: "ليبلغ الشاهد الغائب " وهو في الصحيحين، وبحديث: "نضر الله امرأ سمع مني حديثا فأداه " وهو في السنن، واعترض بعض المخالفين بأن إرسالهم إنما كان لقبض الزكاة والفتيا ونحو ذلك وهي مكابرة، فإن العلم حاصل بإرسال الأمراء لأعم من قبض الزكاة وإبلاغ الأحكام وغير ذلك، ولو لم يشتهر من ذلك إلا تأمير معاذ بن جبل وأمره له وقوله له " إنك تقدم على قوم أهل كتاب فأعلمهم أن الله فرض عليهم " إلخ والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد منهم كانوا يتحاكمون إلى الذي أمر عليهم ويقبلون خبره ويعتمدون عليه من غير التفات إلى قرينة، وفي أحاديث هذا الباب كثير من ذلك واحتج بعض الأئمة بقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} مع أنه كان رسولا إلى الناس كافة ويجب عليه تبليغهم، فلو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورة لتعذر خطاب جميع الناس شفاها، وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم وهو مسلك جيد ينضم إلى ما احتج به الشافعي ثم البخاري، واحتج من رد خبر الواحد بتوقفه صلى الله عليه وسلم في قبول خبر ذي اليدين ولا حجة فيه لأنه عارض علمه " وكل خبر واحد إذا عارض العلم لم يقبل " وبتوقف أبي بكر وعمر في حديثي المغيرة " في الجدة وفي ميراث الجنين " حتى شهد بهما محمد بن مسلمة، وبتوقف عمر في خبر أبي موسى " في الاستئذان " حتى شهد أبو سعيد، وبتوقف عائشة في خبر ابن عمر " في تعذيب الميت ببكاء الحي " وأجيب بأن ذلك إنما وقع منهم إما عند الارتياب كما في قصة أبي موسى فإنه أورد الخبر عند إنكار عمر عليه رجوعه بعد الثلاث وتوعده فأراد عمر الاستثبات خشية أن يكون دفع بذلك عن نفسه، وقد أوضحت ذلك بدلائله في " كتاب الاستئذان " وأما عند معارضة الدليل القطعي كما في إنكار عائشة حيث استدلت بقوله تعالى:{ولا تزر وازرة وزر أخرى" وهذا كله إنما يصح أن يتمسك به من يقول لا بد من اثنين عن اثنين وإلا فمن يشترط أكثر من ذلك فجميع ما ذكر قبل عائشة حجة عليه لأنهم قبلوا الخبر من اثنين فقط، ولا يصل ذلك إلى التواتر والأصل عدم وجود القرينة إذ لو كانت موجودة ما احتيج إلى الثاني، وقد قبل أبو بكر خبر عائشة في أن " النبي صلى الله عليه وسلم مات يوم الاثنين " وقبل عمر خبر عمرو بن حزم في أن " دية الأصابع سواء " وقبل خبر الضحاك بن سفيان في " توريث المرأة من دية زوجها " وقبل خبر عبد الرحمن بن عوف في " أمر الطاعون، وفي أخذ الجزية من المجوس " وقبل خبر سعد بن أبي وقاص في " المسح على الخفين " وقبل عثمان خبر الفريعة بنت سنان أخت أبي سعيد في " إقامة المعتمد عن الوفاة في بيتها " إلى غير ذلك. ومن حيث النظر أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث لتبليغ الأحكام وصدق خبر الواحد ممكن فيجب العمل به احتياطا، وأن إصابة الظن بخبر الصدوق غالبة، ووقوع الخطأ فيه نادر فلا تترك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة، وأن مبنى الأحكام على العمل بالشهادة وهي لا تفيد القطع بمجردها وقد رد بعض من قبل خبر الواحد ما كان منه زائدا على القرآن، وتعقب بأنهم قبلوه " في وجوب غسل المرفق في الوضوء " وهو زائد وحصول عمومه بخبر الواحد " كنصاب السرقة " ورده بعضهم بما تعم به البلوى وفسروا ذلك بما يتكرر، وتعقب بأنهم عملوا به في مثل ذلك " كإيجاب الوضوء بالقهقهة في الصلاة وبالقيء والرعاف " وكل هذا مبسوط في أصول الفقه اكتفيت هنا بالإشارة إليه. وجملة ما ذكره المصنف هنا اثنان وعشرون حديثا. حديث مالك بن الحويرث بمهملة ومثلثة مصغر ابن حشيش بمهملة ومعجمتين وزن عظيم، ويقال ابن أشيم بمعجمة وزن أحمر من بني سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة حجازي سكن البصرة ومات بها
(13/235)
سنة أربعة وسبعين بتقديم السين على الصواب. قوله: "عبد الوهاب" هو ابن عبد المجيد الثقفي " وأيوب " هو السختياني والسند كله بصريون. قوله: "أتينا النبي صلى الله عليه وسلم" أي وافدين عليه سنة الوفود، وقد ذكر ابن سعد ما يدل على أن وفادة بني ليث رهط مالك بن الحويرث المذكور كانت قبل غزوة تبوك وكانت تبوك في شهر رجب سنة تسع قوله: "ونحن شببة" بمعجمة وموحدتين وفتحات جمع شاب وهو من كان دون الكهولة، وتقدم بيان أول الكهولة، في " كتاب الأحكام " وفي رواية وهيب في الصلاة " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي " والنفر عدد لا واحد له من لفظه وهو من ثلاثة إلى عشرة، ووقع في رواية في الصلاة " أنا وصاحب لي " وجمع القرطبي باحتمال تعدد الوفادة وهو ضعيف لأن مخرج الحديثين واحد والأصل عدم التعدد، والأولى في الجمع أنهم حين أذن لهم في السفر كانوا جميعا، فلعل مالكا ورفيقه عاد إلى توديعه فأعاد عليهما بعض ما أوصاهم به تأكيدا، وأفاد ذلك زيادة بيان أقل ما تنعقد به الجماعة. قوله: "متقاربون" أي في السن بل في أعم منه، فقد وقع عند أبي داود من طريق مسلمة بن محمد عن خالد الحذاء " وكنا يومئذ متقاربين في العلم " ولمسلم: "كنا متقاربين في القراءة " ومن هذه الزيادة يؤخذ الجواب عن كونه قدم الأسن، فليس المراد تقديمه على الأقرأ بل في حال الاستواء في القراءة ولم يستحضر الكرماني هذه الزيادة فقال يؤخذ استواؤهم في القراءة من القصة لأنهم أسلموا وهاجروا معا وصحبوا ولازموا عشرين ليلة فاستووا في الأخذ. وتعقب بأن ذلك لا يستلزم الاستواء في العلم للتفاوت في الفهم إذ لا تنصيص على الاستواء. قوله: "رقيقا" بقافين، وبفاء ثم قاف، ثبت ذلك عند رواة البخاري على الوجهين، وعند رواة مسلم بقافين فقط وهما متقاربان في المعنى المقصود هنا. قوله: "اشتهينا أهلنا" في رواية الكشميهني: "أهلينا " بكسر اللام وزيادة ياء وهو جمع أهل، ويجمع مكسرا على أهال بفتح الهمزة مخففا، ووقع في رواية في الصلاة " اشتقنا إلى أهلنا " بدل " اشتهينا أهلنا " وفي رواية وهيب " فلما رأى شوقنا إلى أهلنا " والمراد بأهل كل منهم زوجته أو أعم من ذلك. قوله: "سألنا" بفتح اللام أي النبي صلى الله عليه وسلم سأل المذكورين. قوله: "ارجعوا إلى أهليكم" إنما أذن لهم في الرجوع لأن الهجرة كانت قد انقطعت بفتح مكة فكانت الإقامة بالمدينة باختيار الوافد فكان منهم من يسكنها ومنهم من يرجع بعد أن يتعلم ما يحتاج إليه. قوله: "وعلموهم ومروهم" بصيغة الأمر ضد النهي، والمراد به أعم من ذلك لأن النهي عن الشيء أمر بفعل خلاف ما نهي عنه اتفاقا، وعطف الأمر على التعليم لكونه أخص منه أو هو استئناف كأن سائلا قال: ماذا نعلمهم؟ فقال مروهم بالطاعات وكذا وكذا. ووقع في رواية حماد بن زيد عن أيوب كما تقدم في أبواب الإمامة " مروهم فليصلوا صلاة كذا في حين كذا وصلاة كذا في حين كذا " فعرف بذلك المأمور المبهم في رواية الباب، ولم أر في شيء من الطرق بيان الأوقات في حديث مالك بن الحويرث فكأنه ترك ذلك لشهرتها عندهم. قوله: "وذكر أشياء أحفظها ولا أحفظها" قائل هذا هو أبو قلابة راوي الخبر، ووقع في رواية أخرى " أو لا أحفظها " وهو للتنويع لا للشك. قوله: "وصلوا كما رأيتموني أصلي" أي ومن جملة الأشياء التي يحفظها أبو قلابة عن مالك قوله صلى الله عليه وسلم هذا، وقد تقدم في رواية وهيب " وصلوا " فقط ونسبت إلى الاختصار وتمام الكلام هو الذي وقع هنا، وقد تقدم أيضا تاما في رواية إسماعيل بن علية في " كتاب الأدب " قال ابن دقيق العيد استدل كثير من الفقهاء في مواضع كثيرة على الوجوب بالفعل مع هذا القول، وهو " صلوا كما رأيتموني أصلي " قال وهذا إذا أخذ مفردا عن ذكر سببه وسياقه أشعر بأنه خطاب للأمة بأن يصلوا كما كان
(13/236)
يصلي، فيقوى الاستدلال به على كل فعل ثبت أنه فعله في الصلاة، لكن هذا الخطاب إنما وقع لمالك بن الحويرث وأصحابه بأن يوقعوا الصلاة على الوجه الذي رأوه صلى الله عليه وسلم يصليه، نعم يشاركهم في الحكم جميع الأمة بشرط أن يثبت استمراره صلى الله عليه وسلم على فعل ذلك الشيء المستدل به دائما حتى يدخل تحت الأمر ويكون واجبا، وبعض ذلك مقطوع باستمراره عليه وأما ما لم يدل دليل على وجوده في تلك الصلوات التي تعلق الأمر بإيقاع الصلاة على صفتها، فلا نحكم بتناول الأمر له، والله أعلم. قوله: "فإذا حضرت الصلاة" أي دخل وقتها. قوله: "فليؤذن لكم أحدكم" هو موضع الترجمة وقد تقدم سائر شرحه في " أبواب الأذان " وفي " أبواب الإمامة " بعون الله تعالى. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد القطان و " التيمي " هو سليمان بن طرخان و " أبو عثمان " هو النهدي والسند كله إلى ابن مسعود بصريون، وقوله: "وليس الفجر أن يقول هكذا وجمع يحيى كفيه: "يحيى هو القطان راويه، وقد تقدم في " باب الأذان " قبل الفجر من أبواب الأذان من طريق زهير بن معاوية على سليمان، وفيه: "وليس الفجر أن تقول هكذا وقال: بإصبعيه إلى فوق " وبينت هناك أن أصل الرواية بالإشارة المقرونة بالقول، وأن الرواة عن سليمان تصرفوا في حكاية الإشارة، واستوفيت هناك الكلام على شرحه بحمد الله تعالى. وقوله فيه: "من سحوره " وقع في بعض النسخ " من سجوده " بجيم ودال وهو تحريف.حديث ابن عمر في نداء بلال بليل، وقد تقدم شرحه مستوفى في الباب المذكور أيضا. حديث عبد الله وهو ابن مسعود في صلاته صلى الله عليه وسلم بهم خمسا والحكم في السند هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر، وإبراهيم هو النخعي، وعلقمة هو ابن قيس وقوله: "فقيل له أزيد في الصلاة " تقدم إن قائل ذلك جماعتهم، وإنه بعد أن سلم تسارروا فقال: "ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله هل زيد في الصلاة؟ " ولم أقف على تعيين المخاطب له بذلك، وقد تقدمت سائر مباحثه هناك بحمد الله تعالى. قال ابن التين: بوب لخبر الواحد وهذا الخبر ليس بظاهر فيما ترجم له لأن المخبرين له بذلك جماعة انتهى، وسيأتي جوابه في الكلام على الحديث الذي بعده. حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين في سجود السهو، ومحمد في السند هو ابن سيرين وفيه: "فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة " وفيه: "فقال أصدق ذو اليدين فقال الناس نعم " وقد تقدم شرحه في أبواب سجود السهو أيضا. ووجه إيراد هذا الحديث والذي قبله في إجازة خبر الواحد التنبيه على أنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يقنع في الأخبار بسهوه بخبر واحد لأنه عارض فعل نفسه. فلذلك استفهم في قصة ذي اليدين، فلما أخبره الجم الغفير بصدقه رجع إليهم، وفي القصة التي قبلها أخبروه كلهم وهذا على طريقة من يرى رجوع الإمام في السهو إلى أخبار من يفيد خبره العلم عنده وهو رأي البخاري، ولذلك أورد الخبرين هنا بخلاف من يحمل الأمر على أنه تذكر فلا يتجه إيراده في هذا المحل والعلم عند الله. وقال الكرماني لم يخرج عن كونه خبر الواحد وإن كان قد صار يفيد العلم بسبب ما حفه من القرائن.وقال غيره إنما استثبت النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ذي اليدين لأنه انفرد دون من صلى معه بما ذكر مع كثرتهم، فاستبعد حفظه دونهم وجوز عليه الخطأ ولا يلزم من ذلك رد خبر الواحد مطلقا. حديث ابن عمر في " تحويل القبلة " وقد تقدم شرحه في أبواب استقبال القبلة في أوائل " كتاب الصلاة " والحجة منه بالعمل بخبر الواحد ظاهرة لأن الصحابة الذين كانوا يصلون إلى جهة بيت المقدس تحولوا عنه بخبر الذي قال لهم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستقبل الكعبة فصدقوا خبره وعملوا به في تحولهم عن جهة بيت المقدس، وهي شامية إلى جهة الكعبة، وهي يمانية على العكس من التي قبلها، واعترض
(13/237)
بعضهم بأن خبر المذكور أفادهم العلم بصدقه لما عندهم من قرينة ارتقاب النبي صلى الله عليه وسلم وقوع ذلك لتكرر دعائه به والبحث إنما هو في خبر الواحد إذا تجرد عن القرينة، والجواب أنه إذا سلم أنهم اعتمدوا على خبر الواحد كفى في صحة الاحتجاج به والأصل عدم القرينة، وأيضا فليس العمل بالخبر المحفوف بالقرينة متفقا عليه فيصح الاحتجاج به على من اشترط العدد وأطلق، وكذا من اشترط القطع. وقال إن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن ما لم يتواتر. حديث البراء بن عازب في تحويل القبلة أيضا، وقد تقدم شرحه في " كتاب العلم " وفي أبواب استقبال القبلة أيضا وبينت هناك أن الراجح أن الذي أخبر في حديث البراء بالتحويل لم يعرف اسمه، " ويحيى " شيخ البخاري فيه هو ابن موسى البلخي، " وإسرائيل " هو ابن يونس، " وأبو إسحاق " هو السبيعي وهو جد إسرائيل المذكور. حديث أنس " كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح " الحديث، وفيه: "فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت " وقد تقدم شرحه مستوفى في " كتاب الأشربة " وأن الآتي المذكور لم يسم وأن من جملة ما ورد في بعض طرقه: "فوالله ما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل " وهو حجة قوية في قبول خبر الواحد لأنهم أثبتوا به نسخ الشيء الذي كان مباحا حتى أقدموا من أجله على تحريمه والعمل بمقتضى ذلك.حديث حذيفة وأبو إسحاق في السند هو السبيعي وشيخه صلة بكسر المهملة وتخفيف اللام هو ابن زفر يكنى أبا ا لعلاء كوفي عبسي بالموحدة من رهط حذيفة. قوله: "قال لأهل نجران" تقدم بيانه في أواخر المغازي مع شرحه، وقوله: "استشرف " بمعجمة بعد مهملة أي تطلعوا إليها ورغبوا فيها بسبب الوصف المذكور. حديث أنس " لكل أمة أمين " تقدم أيضا مع الذي قبله. حديث عمر " كان رجل من الأنصار " تقدم بيان اسمه في " كتاب العلم " والقدر المذكور هنا طرف من حديث ساقه بتمامه في تفسير سورة التحريم ويستفاد منه أن عمر كان يقبل خبر الشخص الواحد، وقوله: "وإذا غبت وشهد " في رواية الكشميهني والمستملي: "وشهده " أي حضر ما يكون عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نقل بعض العلماء لقبول خبر الواحد أن كل صاحب وتابع سئل عن نازله في الدين فأخبر السائل بما عنده فيها من الحكم، أنه لم يشترط عليه أحد منهم أن لا يعمل بما أخبره به من ذلك حتى يسأل غيره، فضلا عن أن يسأل الكواف، بل كان كل منهم يخبره بما عنده فيعمل بمقتضاه ولا ينكر عليه ذلك، فدل على اتفاقهم على وجوب العمل بخبر الواحد. قوله: "وأمر عليهم رجلا" هو عبد الله بن حذافة، وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر " المغازي " وتقدم القول في وجوب طاعة الأمير فيما فيه طاعة، لا فيما فيه معصية في أوائل " الأحكام". وقوله فيه: "لا طاعة في المعصية " في رواية الكشميهني: "في معصية " وخفيت مطابقة هذا الحديث للترجمة على ابن التين فقال ليس فيه ما بوب له لأنهم لم يطيعوه في دخول النار. قلت: لكنهم كانوا مطيعين له في غير ذلك وبه يتم المراد. حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في " قصة العسيف " أورده من رواية: "صالح " وهو ابن كيسان ومن رواية: "شعبة " وهو ابن أبي حمزة كلاهما عن الزهري " ويعقوب بن إبراهيم " في السند الأول هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وقد تقدم شرحه مستوفى في " كتاب المحاربين " وبينت فيه الذي قال: "والعسيف الأجير " وأنه مدرج في هذه الطريق قال ابن القيم في الرد على من رد خبر الواحد إذا كان زائدا على القرآن، ما ملخصه: السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه أحدها أن توافقه من كل وجه فيكون من توارد الأدلة، ثانيها أن
(13/238)
تكون بيانا لما أريد بالقرآن، ثالثها أن تكون دالة على حكم سكت عنه القرآن، وهذا ثالث يكون حكما مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم فتجب طاعته فيه ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يطاع إلا فيما وافق القرآن، لم تكن له طاعة خاصة، وقد قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} وقد تناقض من قال: إنه لا يقبل الحكم الزائد على القرآن إلا إن كان متواترا أو مشهورا. فقد قالوا بتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم ما يحرم من النسب بالرضاعة، وخيار الشرط والشفعة والرهن في الحضر، وميراث الجدة، وتخيير الأمة إذا عتقت، ومنع الحائض من الصوم والصلاة ووجوب الكفارة على من جامع وهو صائم في رمضان، ووجوب إحداد المعتدة عن الوفاة، وتجويز الوضوء بنبيذ التمر، وإيجاب الوتر وأن أقل الصداق عشرة دراهم، وتوريث بنت الابن السدس مع البنت، واستبراء المسببة بحيضة، وأن أعيان بني الأم يتوارثون، ولا يقاد الوالد بالولد، وأخذ الجزية من المجوس، وقطع رجل السارق في الثانية، وترك الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال، والنهي عن بيع الكالئ بالكالئ، وغيرهما مما يطول شرحه، وهذه الأحاديث كلها آحاد وبعضها ثابت وبعضها غير ثابت ولكنهم قسموها إلى ثلاثة أقسام ولهم في ذلك تفاصيل يطول شرحها، ومحل بسطها أصول الفقه، وبالله التوفيق.
(13/239)
2 -
باب بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ طَلِيعَةً
وَحْدَهُ
7561 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ
ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثَلاَثًا فَقَالَ لِكُلِّ نَبِيٍّ
حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ قَالَ سُفْيَانُ حَفِظْتُهُ مِنْ ابْنِ
الْمُنْكَدِرِ وَقَالَ لَهُ أَيُّوبُ يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْهُمْ عَنْ جَابِرٍ
فَإِنَّ الْقَوْمَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ تُحَدِّثَهُمْ عَنْ جَابِرٍ فَقَالَ فِي
ذَلِكَ الْمَجْلِسِ سَمِعْتُ جَابِرًا فَتَابَعَ بَيْنَ أَحَادِيثَ سَمِعْتُ
جَابِرًا قُلْتُ لِسُفْيَانَ فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ يَوْمَ قُرَيْظَةَ
فَقَالَ كَذَا حَفِظْتُهُ مِنْهُ كَمَا أَنَّكَ جَالِسٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَالَ
سُفْيَانُ هُوَ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَتَبَسَّمَ سُفْيَانُ
قوله: "باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم الزبير طليعة وحده" ذكر فيه
حديث جابر وهو الحديث الرابع عشر من إجازة خبر الواحد؛ وقد تقدم شرحه في "
كتاب الجهاد" حديث جابر وهو الحديث الرابع عشر من إجازة خبر الواحد؛ وقد تقدم
شرحه في " كتاب الجهاد " وقوله: "حفظته من ابن المنكدر " يعني
محمدا " وقال له أيوب " يعني السختياني " يا أبا بكر " هي
كنية محمد بن المنكدر ويكنى أيضا أبا عبد الله وله أخ آخر يقال له أبو بكر بن
المنكدر اسمه كنيته، وقوله: "ندب " أي دعا وطلب؛ وقوله: "انتدب
" أي أجاب فأسرع، وقوله: "فتتابع " كذا لهم بمثناتين، وللكشميهني:
"فتابع " بتاء واحدة، وقوله: "بين أحاديث " في رواية
الكشميهني: "أربعة أحاديث". قوله: "قلت لسفيان" يعني ابن
عيينة والقائل هو علي بن المديني شيخ البخاري فيه. قوله: "فإن الثوري يقول
يوم قريظة" قلت لم أره عند أحد ممن أخرجه من رواية سفيان الثوري عن محمد بن
المنكدر بلفظ: "يوم قريظة " إلا عند ابن ماجه فإنه أخرجه عن علي بن محمد
عن وكيع كذلك فلعل ابن المديني حمله عن وكيع فقال وقد أخرجه البخاري في "
الجهاد " عن أبي نعيم، وفي " المغازي " عن محمد بن كثير، وأخرجه
مسلم في " المناقب " وابن ماجه من طريق وكيع والترمذي من رواية أبي داود
الحفري، ومسلم أيضا والنسائي من رواية أبي أسامة كلهم عن سفيان
(13/239)
الثوري بهذه القصة، فأما مسلم فلم يسق لفظه بل أحال به على رواية سفيان بن عيينة، وأما البخاري فقال في كل منهما يوم الأحزاب وكذا الباقون، ووقع في رواية هشام بن عروة عن ابن المنكدر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق " من يأتيني بخبر بني قريظة " فلعل هذا سبب الوهم ثم وجدت الإسماعيلي نبه على ذلك فقال: إنما طلب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق خبر بني قريظة ثم ساق من طريق فليح بن سليمان عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: "ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق من يأتيه بخبر بني قريظة " قال فالحديث صحيح يعني تحمل رواية من قال يوم قريظة أي اليوم الذي أراد أن يعلم فيه خبرهم لا اليوم الذي غزاهم فيه وذلك مراد سفيان بقوله إنه " يوم واحد". قوله: "قال سفيان" هو ابن عيينة "هو يوم واحد" يعني " يوم الخندق ويوم قريظة " وهذا إنما يصح على إطلاق اليوم على الزمان الذي يقع فيه الأمر الكبير سواء قلت أيامه أو كثرت كما يقال: "يوم الفتح " ويراد به الأيام التي أقام فيها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لما فتحها وكذا وقعة الخندق دامت أياما آخرها لما انصرفت الأحزاب ورجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى منازلهم جاءه جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر فأمره بالخروج إلى بني قريظة فخرجوا وقال: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " ثم حاصرهم أياما حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وقد تقدم جميع ذلك مبينا في " كتاب المغازي".
(13/240)
3 -
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ
يُؤْذَنَ لَكُمْ} فَإِذَا أَذِنَ لَهُ وَاحِدٌ جَازَ
7262 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
أَيُّوبَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ حَائِطًا وَأَمَرَنِي بِحِفْظِ الْبَابِ فَجَاءَ رَجُلٌ
يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ
ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ثُمَّ جَاءَ
عُثْمَانُ فَقَالَ ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ
7263 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ
بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ
عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ وَغُلاَمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ فَقُلْتُ
قُلْ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَذِنَ لِي
قوله: باب قول الله {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} كذا للجميع. قوله:
"فإذا أذن له واحد جاز" وجه الاستدلال به أنه لم يقيده بعدد فصار الواحد
من جملة ما يصدق عليه وجود الإذن، وهو متفق على العمل به عند الجمهور حتى اكتفوا
فيه بخبر من لم تثبت عدالته لقيام القرينة فيه بالصدق، ثم ذكر فيه حديثي حديث أبي
موسى في استئذانه على النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في الحائط لأبي بكر، ثم
لعمر ثم لعثمان وفي كل منهما قال: "ائذن له " وهو الحديث الخامس عشر.
حديث عمر في قصة المشربة، وفيه فقلت أي للغلام الأسود " قل هذا عمر بن الخطاب
فأذن لي " وهو طرف من حديث طويل تقدم في تفسير سورة التحريم وهو السادس عشر،
وأراد البخاري أن صيغة يؤذن لكم على البناء للمجهول تصح للواحد فما فوقه، وأن
الحديث الصحيح بين الاكتفاء بالواحد على مقتضى ما تناوله لفظ الآية فيكون فيه حجة
لقبول خبر الواحد، وقد تقدم شرح حديث أبي موسى في
(13/240)
" المناقب " وتقدم شرح ما يتعلق بآية الاستئذان مستوعبا في تفسير سورة الأحزاب. وقال ابن التين قوله هنا في حديث أبي موسى " وأمرني بحفظ الباب: "مغاير لقوله في الرواية الماضية " ولم يأمرني بحفظه " فأحدهما وهم. قلت: بل هما جميعا محفوظان فالنفي كان في أول ما جاء " فدخل النبي صلى الله عليه وسلم الحائط فجلس أبو موسى في الباب. وقال لأكونن اليوم بواب النبي صلى الله عليه وسلم: "فقوله: "ولم يأمرني بحفظه " كان في تلك الحالة ثم لما جاء أبو بكر واستأذن له فأمره أن يأذن له أمره حينئذ بحفظ الباب، تقريرا له على ما فعله ورضا به، إما تصريحا فيكون الأمر له بذلك حقيقة، وإما لمجرد التقرير فيكون الأمر مجازا، وعلى الاحتمالين لا وهم، وقد تقدم له توجيه آخر في مناقب أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
(13/241)
4 -
باب مَا كَانَ يَبْعَثُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الأُمَرَاءِ
وَالرُّسُلِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَعَثَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ بِكِتَابِهِ إِلَى
عَظِيمِ بُصْرَى أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ
7264 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى فَأَمَرَهُ
أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ يَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ
إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى مَزَّقَهُ فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ
الْمُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ
7265 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ
حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ أَذِّنْ فِي قَوْمِكَ أَوْ
فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ
يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ
قوله: "باب ما كان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراء والرسل واحدا
بعد واحد" تقدم بيانه في أول هذه الأبواب مجملا وقد سبق إلى ذلك أيضا الشافعي
فقال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه وعلى كل سرية واحد، وبعث
رسله إلى الملوك إلى كل ملك واحد، ولم تزل كتبه تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي فلم
يكن أحد من ولاته يترك إنفاذ أمره، وكذا كان الخلفاء بعده " انتهى فإما أمراء
السرايا فقد استوعبهم محمد بن سعد في " الترجمة النبوية " وعقد لهم بابا
سماهم فيه على الترتيب. وأما " أمراء البلاد " التي فتحت فإنه صلى الله
عليه وسلم أمر على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى
البحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى عمان عمرو بن العاص، وعلى نجران أبا سفيان بن حرب
وأمر على صنعاء وسائر جبال اليمن بأذان ثم ابنه شهر وفيروز والمهاجر بن أبي أمية
وأبان بن سعيد بن العاص وأمر على السواحل أبا موسى، وعلى الجند وما معها معاذ بن
جبل وكان كل منهما يقضي في عمله ويسير فيه، وكانا ربما التقيا كما تقدم، وأمر أيضا
عمرو بن سعيد بن العاص على وادي القرى، ويزيد بن أبي سفيان على تيماء، وثمامة بن
أثال على اليمامة. فأما " أمراء السرايا والبعوث " فكانت إمرتهم تنتهي
بانتهاء تلك الغزوة. وأما " أمراء القرى " فإنهم استمروا فيها "
ومن أمرائه أبو بكر على الحج سنة تسع، وعلى لقسمة الغنيمة وأفراد الخمس باليمن
وقراءة سورة
(13/241)
براءة على المشركين في حجة أبي بكر، وأبو عبيدة لقبض الجزية من البحرين، وعبد الله بن رواحة لخرص خيبر إلى أن استشهد في غزوة مؤتة، ومنهم عماله لقبض الزكوات، كما تقدم قريبا في قصة ابن اللتيبة. وأما " رسوله إلى الملوك " فسمى منهم دحية وعبد الله ابن حذافة وهما في هذه الترجمة. وأخرج مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رسله إلى الملوك يعني الذين كانوا في عصره. قلت: قد استوعبهم محمد بن سعد أيضا وأفردهم بعض المتأخرين في جزء تتبعهم من " أسد الغابة " لابن الأثير ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث، الأول: قوله: "وقال ابن عباس بعث النبي صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي بكتابه إلى عظيم بصرى أن يدفعه إلى قيصر" هو طرف من الحديث الطويل المذكور " في بدء الوحي " وتقدم شرحه هناك وتسميته " عظيم بصرى " وكيفية إرساله الكتاب المذكور إلى هرقل وهذا التعليق ثبت في رواية الكشميهني وحده هنا. قوله: "يونس" هو ابن يزيد الأيلي. قوله: "بعث بكتابه إلى كسرى فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين" كذا هنا والضمير في قوله: "فأمره " للمبعوث الذي دل عليه قوله: "بعث " وقد تقدم في أواخر المغازي، وإن الرسول عبد الله بن حذافة السهمي الذي تقدمت قصته قريبا في السرية، وقوله: "فحسبت أن ابن المسيب " القائل هو ابن شهاب كما تقدم بيانه هناك. قوله: "أن يمزقوا كل ممزق" فيه تلميح بما أخبر الله تعالى أنه فعل بأهل سبأ وأجاب الله تعالى هذه الدعوة، فسلط شيرويه على والده كسرى أبرويز الذي مزق الكتاب فقتله. وملك بعده فلم يبق إلا يسيرا حتى مات والقصة مشهورة. تنبيه: وقع للزركشي هنا خبط، فإنه قال عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى كذا وقع في الأمهات ولم يذكر فيه: "دحية " بعد قوله: "بعث " والصواب إثباته وقد ذكره في رواية الكشميهني تعليقا فقال: قال ابن عباس " بعث النبي صلى الله عليه وسلم دحية بكتابه إلى عظيم بصرى وأن يدفعه إلى قيصر " وهو الصواب انتهى، وكأنه توهم أن القصتين واحدة وحمله على ذلك كونهما من رواية ابن عباس؛ والحق أن المبعوث لعظيم بصرى هو دحية، والمبعوث لعظيم البحرين وإن لم يسم في هذه الرواية فقد سمي في غيرها وهو عبد الله بن حذافة، ولو لم يكن في الدليل على المغايرة بينهما إلا بعدما بين بصرى والبحرين فإن بينهما نحو شهر، وبصرى كانت في مملكة هرقل ملك الروم، والبحرين كانت في مملكة كسرى ملك الفرس، وإنما نبهت على ذلك مع وضوحه خشية أن يغتر به من ليس له اطلاع على ذلك. حديث سلمة بن الأكوع في صيام يوم عاشوراء، وقد تقدم شرحه في " كتاب الصيام " و " يحيى " المذكور في السند هو ابن سعيد القطان، " والرجل من أسلم " هو هند بن أسماء بن حارثة كما تقدم، والله أعلم.
(13/242)
5 -
باب وَصَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُفُودَ الْعَرَبِ أَنْ
يُبَلِّغُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ قَالَهُ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ
7266 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ و حَدَّثَنِي
إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ
كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُقْعِدُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ لِي إِنَّ وَفْدَ
عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: "مَنْ الْوَفْدُ قَالُوا رَبِيعَةُ قَالَ مَرْحَبًا
بِالْوَفْدِ أَوْ الْقَوْمِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى قَالُوا يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارَ مُضَرَ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَدْخُلُ
بِهِ الْجَنَّةَ وَنُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا فَسَأَلُوا عَنْ الأَشْرِبَةِ
فَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ وَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ
بِاللَّهِ قَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ ؟ قَالُوا: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ
(13/242)
إِلاَّ
اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ
الصَّلاَةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَأَظُنُّ فِيهِ صِيَامُ رَمَضَانَ وَتُؤْتُوا
مِنْ الْمَغَانِمِ الْخُمُسَ وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ
وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ قَالَ احْفَظُوهُنَّ
وَأَبْلِغُوهُنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ
قوله: "باب وصاة النبي صلى الله عليه وسلم وفود العرب أن يبلغوا من
وراءهم" الوصاة بالقصر بمعنى الوصية والواو مفتوحة ويجوز كسرها وقد تقدم بيان
ذلك في أوائل " كتاب الوصايا " وذكر فيه حديثين أحدهما: قوله: "قال
مالك بن الحويرث" يشير إلى حديثه المذكور قريبا أول هذه الأبواب. قوله:
"وحدثني إسحاق" هو ابن راهويه كذا ثبت في رواية أبي ذر فأغنى عن تردد
الكرماني هل هو إسحاق ابن منصور أو ابن إبراهيم، و " النضر " هو ابن
شميل " وأبو جمرة " بالجيم. قوله: "كان ابن عباس يقعدني على
سريره" قد تقدم السبب في ذلك في باب ترجمان الحاكم وإنه كان يترجم بينه وبين
الناس لما يستفتونه، ووقع في رواية إسحاق بن راهويه في مسنده أن النضر بن شميل
وعبد الله بن إدريس قالا " حدثنا شعبة " فذكره وفيه: "يجلسني معه
على السرير فأترجم بينه وبين الناس". قوله: "إن وفد عبد القيس" تقدم
شرح قصتهم في " كتاب الإيمان " ثم في " كتاب الأشربة " والغرض
منه قوله في آخره: "احفظوهن وأبلغوهن من وراءكم " فإن الأمر بذلك يتناول
كل فرد، فلولا أن الحجة تقوم بتبليغ الواحد ما حضهم عليه.
(13/243)
6 -
باب خَبَرِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ
7267 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيِّ قَالَ قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ
أَرَأَيْتَ حَدِيثَ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَاعَدْتُ ابْنَ عُمَرَ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةٍ وَنِصْفٍ فَلَمْ
أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ
هَذَا قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهِمْ سَعْدٌ فَذَهَبُوا يَأْكُلُونَ مِنْ لَحْمٍ فَنَادَتْهُمْ
امْرَأَةٌ مِنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ فَأَمْسَكُوا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كُلُوا أَوْ اطْعَمُوا فَإِنَّهُ حَلاَلٌ أَوْ قَالَ لاَ بَأْسَ بِهِ شَكَّ
فِيهِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي
قوله: "باب خبر المرأة الواحدة" ذكر فيه حديث ابن عمرو به وبما في
البابين قبله تكمل الأحاديث اثنين وعشرين حديثا. قوله: "عن توبة" بمثناة
مفتوحة وسكون الواو بعدها موحدة هو " ابن كيسان " يسمى أبا المورع
بتشديد الراء والإهمال و " العنبري " بفتح المهملة والموحدة بينهما نون
ساكنة نسبة إلى بني العنبر بطن شهير من بني تميم. قوله: "أرأيت حديث
الحسن" أي البصري، والرؤيا هنا بصرية، والاستفهام للإنكار، كان الشعبي ينكر
على من يرسل الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن الحامل لفاعل
ذلك طلب الإكثار من التحديث عنه وإلا لكان يكتفي بما سمعه موصولا. وقال الكرماني
مراد الشعبي أن الحسن مع كونه تابعيا كان يكثر الحديث عن النبي صلى الله عليه
وسلم، وابن عمر مع كونه صحابيا يحتاط ويقل من ذلك مهما أمكن. قلت: وكأن ابن عمر
اتبع رأي أبيه في ذلك. فإنه كان يحض على قلة التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
لوجهين أحدهما: خشية الاشتغال عن تعلم القرآن
(13/243)
وتفهم معانيه، والثاني: خشية أن يحدث عنه بما لم يقله، لأنهم لم يكونوا يكتبون فإذا طال العهد لم يؤمن النسيان وقد أخرج سعيد بن منصور بسند آخر صحيح عن الشعبي عن قرظة بن كعب عن عمر قال: "أقلوا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم " وتقدم شيء مما يتعلق بهذا في " كتاب العلم " وقوله: "وقاعدت ابن عمر " الجملة حالية والمراد أنه جلس معه المدة المذكورة، وقوله: "قريبا من سنتين أو سنة ونصف " ووقع عند ابن ماجه من طريق عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال: "جالست ابن عمر سنة " فيجمع بأن مدة مجالسته كانت سنة وكسرا فألغى الكسر تارة وجبره أخرى، وكان الشعبي جاور بالمدينة أو بمكة وإلا فهو كوفي، وابن عمر لم تكن له إقامة بالكوفة. قوله: "فلم أسمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا" أشار إلى الحديث الذي يريد أن يذكره وكأنه استحضره بذهنه إذ ذاك. قوله: "كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سعد فذهبوا يأكلون من لحم" هكذا أورد القصة مختصرة، وأوردها في الذبائح مبينة، وتقدم لفظه هناك، وعند الإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة " فأتوا بلحم ضب". قوله: "فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" هي ميمونة وقد تقدم بيانه في " كتاب الأطعمة". قوله: "فإنه حلال أو قال لا بأس به شك فيه" هو قول شعبة والذي شك في أي اللفظين قال: هو توبة الراوي عن ابن عمر بين ذلك محمد بن جعفر في روايته عن شعبة، أخرجه أحمد في مسنده عنه وقد تقدم الكلام على لحم الضب في " كتاب الصيد والذبائح " مستوفى في رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر في الضب لا أحله ولا أحرمه، وأنها لا تخالف قوله هنا فإنه حلال " ولكنه ليس من طعامي " أي ليس من المألوف له فلذلك ترك أكله لا لكونه حراما. خاتمة: اشتمل " كتاب الأحكام " وما بعده من التمني وإجازة خبر الواحد من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث وثلاثة وستين حديثا، المعلق منها وما في حكمه سبعة وثلاثون طريقا وسائرها موصول، المكرر منه فيه وفيما مضى مائة حديث وتسعة وأربعون حديثا؛ والخالص أربعة عشر حديثا شاركه مسلم في تخريجها سوى حديث أبي هريرة " إنكم ستحرصون " وحديث أبي أيوب في البطانة، وحديث أبي هريرة فيها وحديث ابن عمر في بيعة عبد الملك وحديث عمر في بيعة أبي بكر الثانية، وحديث أبي بكر في قصة وفد بزاخة. وفي التمني سبعة وعشرون حديثا كلها مكررة منها ستة طرق معلقة وفي خبر الواحد اثنان وعشرون حديثا كلها مكررة منها طريق واحد معلق وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ثمانية وخمسون أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(13/244)
كتاب
الإعتصام بالسنة
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ
الْكَلِمِ
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
96 - كِتَاب الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
7268 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مِسْعَرٍ وَغَيْرِهِ
عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ
الْيَهُودِ لِعُمَرَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا} لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ
عِيدًا فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي لاَعْلَمُ أَيَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ سَمِعَ سُفْيَانُ مِنْ مِسْعَرٍ
وَمِسْعَرٌ قَيْسًا وَقَيْسٌ طَارِقًا
7269 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ الْغَدَ
حِينَ بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ
أَمَّا بَعْدُ فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الَّذِي عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هَدَى
اللَّهُ بِهِ رَسُولَكُمْ فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا وَإِنَّمَا هَدَى اللَّهُ بِهِ
رَسُولَهُ
7270 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ
7271 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ
سَمِعْتُ عَوْفًا أَنَّ أَبَا الْمِنْهَالِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
بَرْزَةَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يُغْنِيكُمْ أَوْ نَعَشَكُمْ بِالإِسْلاَمِ
وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ
وَقَعَ هَاهُنَا يُغْنِيكُمْ وَإِنَّمَا هُوَ نَعَشَكُمْ يُنْظَرُ فِي أَصْلِ
كِتَابِ الِاعْتِصَامِ
7272 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
دِينَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ وَأُقِرُّ لَكَ بِذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى
سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة"، "
الاعتصام " افتعال من العصمة والمراد امتثال قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعاً} الآية. قال الكرماني هذه الترجمة منتزعة من قوله تعالى
:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} لأن المراد بالحبل: الكتاب والسنة على
سبيل الاستعارة، والجامع كونهما سببا للمقصود وهو الثواب والنجاة من العذاب، كما
أن الحبل سبب لحصول المقصود به من السقي وغيره. والمراد " بالكتاب "
القرآن المتعبد بتلاوته و " بالسنة " ما جاء عن النبي صلى الله عليه
وسلم من أقواله وأفعاله وتقريره وما هم بفعله. والسنة في أصل اللغة الطريقة وفي
اصطلاح الأصوليين والمحدثين ما تقدم، وفي اصطلاح بعض الفقهاء ما يرادف
(13/245)
المستحب، قال ابن بطال: لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو في سنة رسوله أو في إجماع العلماء على معنى في أحدهما، ثم تكلم على السنة باعتبار ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي بيانه بعد باب، ثم ذكر فيه خمسة أحاديث. قوله: "سفيان عن مسعر وغيره" أما " سفيان " فهو ابن عيينة و " مسعر " هو ابن كدام بكسر الكاف وتخفيف الدال، و " الغير " الذي أبهم معه لم أر من صرح به إلا أنه يحتمل أن يكون سفيان الثوري، فإن أحمد أخرجه من روايته عن " قيس بن مسلم: "وهو الجدلي بفتح الجيم والمهملة كوفي يكنى أبا عمرو، كان عابدا ثقة ثبتا وقد نسب إلى الأرجاء، وفي الرواة قيس بن مسلم آخر لكنه شامي غير مشهور، روى عن عبادة بن الصامت وحديثه عنه في " كتاب خلق الأفعال " للبخاري و " طارق بن شهاب " هو الأحمسي معدود في الصحابة لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو كبير لكن لم يثبت له منه سماع. قوله: "قال رجل من اليهود" تقدم الكلام عليه في " كتاب الإيمان " وفي تفسير سورة المائدة مع شرح سائر الحديث، وحاصل جواب عمر " أنا اتخذنا ذلك اليوم عيدا " على وفق ما ذكرت. قوله: "سمع سفيان مسعرا ومسعر قيسا وقيس طارقا" هو كلام البخاري يشير إلى أن العنعنة المذكورة في هذا السند محمولة عنده على السماع لاطلاعه على سماع كل منهم من شيخه، وقوله سبحانه "اليوم أكملت لكم دينكم" ظاهره يدل على أن أمور الدين كملت عند هذه المقالة وهي قبل موته صلى الله عليه وسلم بنحو ثمانين يوما فعلى هذا لم ينزل بعد ذلك من الأحكام شيء وفيه نظر، وقد ذهب جماعة إلى أن المراد بالإكمال ما يتعلق بأصول الأركان لا ما يتفرع عنها، ومن ثم لم يكن فيها متمسك لمنكري القياس، ويمكن دفع حجتهم على تقدير تسليم الأول بأن استعمال القياس في الحوادث متلقى من أمر الكتاب، ولو لم يكن إلا عموم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وقد ورد أمره بالقياس وتقريره عليه فاندرج في عموم ما وصف بالكمال، ونقل ابن التين عن الداودي أنه قال في قوله تعالى: {َأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} قال أنزل سبحانه وتعالى كثيرا من الأمور مجملا، ففسر نبيه ما احتيج إليه في وقته وما لم يقع في وقته وكل تفسيره إلى العلماء بقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} . قوله: "أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الغد حين بايع المسلمون أبا بكر رضي الله عنه" حين يتعلق بسمع، والذي يتعلق بالغد محذوف وتقديره من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه في باب الاستخلاف في أواخر " كتاب الأحكام " وسياقه هناك أتم، وزاد في هذه الرواية: "فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم " أي الذي عنده من الثواب والكرامة على الذي عندكم من النصب. حديث ابن عباس تقدم شرحه في " كتاب العلم " وبيان من رواه بلفظ التأويل ويأتي معنى التأويل في باب قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} من " كتاب التوحيد " إن شاء الله تعالى. حديث أبي برزة وهو مختصر من الحديث الطويل المذكور في أوائل " كتاب فتن " في باب " إذا قال عند قوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه " وقد تقدم شرحه مستوفى هناك، وقوله هنا " إن الله يغنيكم بالإسلام " كذا وقع بضم أوله ثم غين معجمة ساكنة ثم نون ونبه " أبو عبد الله " وهو المصنف على أن الصواب بنون ثم عين مهملة مفتوحتين ثم شين معجمة. قوله: "ينظر في أصل كتاب الاعتصام" فيه إشارة إلى أنه صنف " كتاب الاعتصام " مفردا وكتب منه هنا ما يليق بشرطه في هذا الكتاب كما صنع في " كتاب الأدب المفرد " فلما رأى هذه اللفظة مغايرة لما عنده أنه الصواب أحال على مراجعة ذلك الأصل وكأنه كان في هذه الحالة غائبا عنه فأمر بمراجعته وأن يصلح منه وقد وقع
(13/246)
له
نحو هذا في تفسير {أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} ونبهت عليه في تفسير سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ}
ونقل ابن التين عن الداودي أن ذكر حديث أبي برزة هذا هنا إنما يستفاد منه تثبيت
خبر الواحد وهو غفلة منه، فإن حكم تثبيت خبر الواحد انقضى وعقب بالاعتصام بالكتاب
والسنة ومناسبة حديث أبي برزة للاعتصام بالكتاب من قوله: "إن الله نعشكم
بالكتاب " ظاهرة جدا والله أعلم. حديث ابن عمر في مكاتبته لعبد الملك بالبيعة
له وقد تقدم بأتم من هذا السياق مع شرحه في باب كيف يبايع الإمام من أواخر "
كتاب الأحكام " ومن ثم يظهر المعطوف عليه بقوله هنا " وأقر لك "
وبينت هناك أن ذلك كان بعد قتل عبد الله بن الزبير والغرض منه هنا استعمال سنة
الله ورسوله في جميع الأمور
1 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثْتُ
بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ
7273 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: "بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ
وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ
فَوُضِعَتْ فِي يَدِي قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا أَوْ تَرْغَثُونَهَا أَوْ
كَلِمَةً تُشْبِهُهَا
7274 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ
عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ
مِنْ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ أَوْ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا
كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنِّي
أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت بجوامع الكلم" وذكر فيه
حديثين لأبي هريرة أحدهما بلفظ الترجمة وزاد: "ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم
رأيتني أتيت بمفاتيح خزائن الأرض " وتقدم تفسير جوامع الكلم في باب المفاتيح
في اليد من " كتاب التعبير " وفيه تفسيرها عن الزهري وحاصله أنه صلى
الله عليه وسلم كان يتكلم بالقول الموجز القليل اللفظ الكثير المعاني، وجزم غير
الزهري بأن المراد " بجوامع الكلم " القرآن بقرينة قوله:
"بعثت"، والقرآن هو الغاية في إيجاز اللفظ واتساع المعاني، وتقدم شرح "
نصرت بالرعب " في " كتاب التيمم". قوله: "فوضعت في يدي"
أي المفاتيح وتقدم تفسير المراد بها في باب النفخ في المنام من " كتاب
التعبير". قوله: "قال أبو هريرة" هو موصول بالسند المذكور أولا
وقوله: "فذهب " أي مات، وقوله: "وأنتم تلغثونها أو ترغثونها أو
كلمة تشبهها " فالأولى بلام ساكنة ثم غين معجمة مفتوحة ثم مثلثة والثانية
مثلها لكن بدل اللام راء وهي من الرغث كناية عن سعة العيش وأصله من رغث الجدي أمه
إذا ارتضع منها وأرغثته هي أرضعته ومن ثم قيل رغوث وأما باللام فقيل إنها لغة فيها
وقيل تصحيف وقيل مأخوذة من اللغيث بوزن عظيم وهو الطعام المخلوط بالشعير، ذكره
صاحب المحكم عن ثعلب والمراد يأكلونها كيفما اتفق وفيه بعد. وقال ابن بطال: وأما
اللغث باللام فلم أجده فيما تصفحت من اللغة انتهى، ووجدت في حاشية من كتابه هما
لغتان صحيحتان فصيحتان معناهما الأكل بالنهم وأفاد الشيخ مغلطاي عن كتاب "
المنتهى " لأبي المعالي اللغوي لغث طعامه ولغث بالغين والعين أي المعجمة
والمهملة إذا فرقه، قال وألغيت ما يبقى في الكيل من
(13/247)
الحب، فعلى هذا فالمعنى وأنتم تأخذون المال فتفرقونه بعد أن تحوزوه واستعار للمال ما للطعام لأن الطعام أهم ما يقتنى لأجله المال، وزعم أن في بعض نسخ الصحيح وأنتم تلعقونها بمهملة ثم قاف. قلت: وهو تصحيف ولو كان له بعض اتجاه، والثالثة جاءت من رواية عقيل في " كتاب الجهاد " بلفظ تنتثلونها بمثناة ثم نون ساكنة ثم مثناة ولبعضهم بحذف المثناة الثانية من النثل بفتح النون وسكون المثلثة وهو الاستخراج نثل كنانته استخرج ما فيها من السهام، وجرابه نفض ما فيه والبئر أخرج ترابها فمعنى تنتثلونها تستخرجون ما فيها وتتمتعون به، قال ابن التين عن الداودي هذا المحفوظ في هذا الحديث، قال النووي: يعني ما فتح على المسلمين من الدنيا وهو يشمل الغنائم والكنوز، وعلى الأول اقتصر الأكثر ووقع عند بعض رواة مسلم بالميم بدل النون الأولى وهو تحريف. قوله: "عن سعيد" هو ابن أبي سعيد المقبري واسم أبي سعيد كيسان. قوله: "ما مثله أومن أو آمن عليه البشر" أو شك من الراوي، فالأولى بضم الهمزة وسكون الواو وكسر الميم من الأمن، والثانية بالمد وفتح الميم من الإيمان، وحكى ابن قرقول أن في رواية القابسي بفتح الهمزة وكسر الميم بغير مد من الأمان وصوبها ابن التين فلم يصب، وقوله: "وإنما كان الذي أوتيته " في رواية المستملي: "أوتيت " بحذف الهاء، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في أوائل فضائل القرآن بحمد الله تعالى، ومعنى الحصر في قوله: "إنما كان الذي أوتيته " أن القرآن أعظم المعجزات وأفيدها وأدومها لاشتماله على الدعوة والحجة ودوام الانتفاع به إلى آخر الدهر، فلما كان لا شيء يقاربه فضلا عن أن يساويه كان ما عداه بالنسبة إليه كأن لم يقع، قيل يؤخذ من إيراد البخاري هذا الحديث عقب الذي قبله أن الراجح عنده أن المراد بجوامع الكلم القرآن وليس ذلك بلازم، فإن دخول القرآن في قوله: "بعثت بجوامع الكلم " لا شك فيه وإنما النزاع هل يدخل غيره من كلامه من غير القرآن؟ وقد ذكروا من أمثلة جوامع الكلام في القرآن قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} وقوله: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} إلى غير ذلك ومن أمثلة جوامع الكلم من الأحاديث النبوية حديث عائشة " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " وحديث: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل " متفق عليهما، وحديث أبي هريرة " وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " وسيأتي شرحه قريبا، وحديث المقدام " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه " الحديث أخرجه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم إلى غير ذلك مما يكثر بالتتبع، إنما يسلم ذلك فيما لم تتصرف الرواة في ألفاظه، والطريق إلى معرفة ذلك أن تقل مخارج الحديث وتتفق ألفاظه، وإلا فإن مخارج الحديث إذا كثرت قل أن تتفق ألفاظه لتوارد أكثر الرواة على الاقتصار على الرواية بالمعنى بحسب ما يظهر لأحدهم أنه واف به، والحامل لأكثرهم على ذلك أنهم كانوا لا يكتبون ويطول الزمان فيتعلق المعنى بالذهن فيرتسم قيه ولا يستحضر اللفظ فيحدث بالمعنى لمصلحة التبليغ، ثم يظهر من سياق ما هو أحفظ منه أنه لم يوف بالمعنى.
(13/248)
2 - باب الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قَالَ أَيِمَّةً نَقْتَدِي بِمَنْ قَبْلَنَا وَيَقْتَدِي بِنَا مَنْ بَعْدَنَا وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ ثَلاَثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِي وَلِإِخْوَانِي هَذِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَسْأَلُوا عَنْهَا وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا عَنْهُ وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ
(13/248)
7275
- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِي
هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ جَلَسَ إِلَيَّ عُمَرُ فِي مَجْلِسِكَ هَذَا فَقَالَ
لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلاَ بَيْضَاءَ إِلاَّ
قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قُلْتُ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ قَالَ لِمَ قُلْتُ
لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ قَالَ هُمَا الْمَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا
7276 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ
سَأَلْتُ الأَعْمَشَ فَقَالَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ
حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الأَمَانَةَ
نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ
فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ
7277 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا
عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ يَقُولُ قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَ
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لاَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ
7278, 7279 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ كُنَّا
عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لاَقْضِيَنَّ
بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ
7280 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلُ
بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ
مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى
7281 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا
سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ
حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ جَاءَتْ
مَلاَئِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ
فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ
وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فَاضْرِبُوا
لَهُ مَثَلًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ
الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ
بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا فَمَنْ أَجَابَ
الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنْ الْمَأْدُبَةِ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ
الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ الْمَأْدُبَةِ فَقَالُوا
أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا فَالدَّارُ
الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ
أَطَاعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ
وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ تَابَعَهُ
قُتَيْبَةُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ
(13/249)
جَابِرٍ
خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7282 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ
اسْتَقِيمُوا فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا
وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا
7283 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ
أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ
كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ
بِعَيْنَيَّ وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَاءَ فَأَطَاعَهُ
طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا
وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْشُ
فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا
جِئْتُ بِهِ وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنْ الْحَقِّ
7284, 7285 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ عُقَيْلٍ
عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ
كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ
وَقَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ
حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى
اللَّهِ فَقَالَ وَاللَّهِ لاَقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ
وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي
عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ فَقَالَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ
إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ
فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ عَنْ
اللَّيْثِ عَنَاقًا وَهُوَ أَصَحُّ
7286 - حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ
بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ
بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ
وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا
أَوْ شُبَّانًا فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ
وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَتَسْتَأْذِنَ لِي عَلَيْهِ قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ
لَكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ فَلَمَّا دَخَلَ
قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَمَا تَحْكُمُ
بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ فَقَالَ
الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ} فَوَاللَّهِ مَا
جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ
اللَّهِ
(13/250)
7287
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا قَالَتْ أَتَيْتُ عَائِشَةَ حِينَ خَسَفَتْ
الشَّمْسُ وَالنَّاسُ قِيَامٌ وَهِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا لِلنَّاسِ
فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَقُلْتُ
آيَةٌ قَالَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا
مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى
الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ
قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُسْلِمُ لاَ
أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ جَاءَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ فَأَجَبْنَاهُ وَآمَنَّا فَيُقَالُ نَمْ صَالِحًا عَلِمْنَا
أَنَّكَ مُوقِنٌ وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ لاَ أَدْرِي أَيَّ
ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ
شَيْئًا فَقُلْتُهُ
7288 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ
الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا
نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ
قوله: "باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي قبولها
والعمل بما دلت عليه فأما أقواله صلى الله عليه وسلم فتشتمل على أمر ونهي وإخبار،
وسيأتي حكم الأمر والنهي في باب مفرد، وأما أفعاله فتأتي أيضا في باب مفرد قريبا.
قوله: "وقول الله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} . قال أئمة
نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا" كذا للجميع بإبهام القائل، وقد ثبت ذلك
من قول مجاهد أخرجه الفريابي والطبري وغيرهما من طريقه بهذا اللفظ بسند صحيح،
وأخرجه ابن أبي حاتم من طريقه بسند صحيح أيضا، قال يقول: اجعلنا أئمة في التقوى
حتى نأتم بمن كان قبلنا ويأتم بنا من بعدنا، وللطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس أن المعنى " اجعلنا أئمة التقوى لأهله يقتدون بنا
" لفظ الطبري. وفي رواية ابن أبي حاتم " اجعلنا أئمة هدى ليهتدى بنا ولا
تجعلنا أئمة ضلالة " لأنه قال تعالى لأهل السعادة {وجعلناهم أئمة يهدون
بأمرنا} وقال لأهل الشقاوة {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} ورجح الطبري أنهم
سألوا أن يكونوا للمتقين أئمة ولم يسألوا أن يجعل المتقين لهم أئمة، ثم تكلم
الطبري على إفراد " إماما " مع أن المراد جماعة بما حاصله أن الإمام اسم
جنس فيتناول الواحد فما فوقه. وأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن قتادة في قوله:
{واجعلنا للمتقين إماما} أي قادة في الخير ودعاة هدى يؤتم بنا في الخير. وأخرج ابن
أبي حاتم من طريق السدي ليس المراد أن نؤم الناس وإنما أرادوا اجعلنا أئمة لهم في
الحلال والحرام يقتدون بنا فيه، ومن طريق جعفر بن محمد معناه اجعلني رضا فإذا قلت
صدقوني وقبلوا مني. "تنبيه" اقتصر شيخنا ابن الملقن في شرحه تبعا لمن
تقدمه على عزو التفسير المذكور أولا للحسن البصري ولم أر له عنه سندا، والثاني
للضحاك وقد صح عن ابن عباس ورواه ابن أبي حاتم عن عكرمة وسعيد بن جبير ونقله ابن
أبي حاتم أيضا عن أبي صالح وعبد الله بن شوذب. قوله: "وقال ابن عون" هو
عبد الله البصري من صغار التابعين "ثلاث احبهن لنفسي إلخ" وصله محمد بن
(13/251)
نصر المروزي في " كتاب السنة " والجوزقي من طريقه قال محمد بن نصر حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا سليم ابن أخضر سمعت ابن عون يقول: غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث " ثلاث أحبهن لنفسي " الحديث ووصله ابن القاسم اللالكائي في " كتاب السنة " من طريق القعنبي سمعت حماد بن زيد يقول قال ابن عون. قوله: "ولإخواني" في رواية حماد " ولأصحابي " قوله: "هذه السنة" أشار إلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم إشارة نوعية لا شخصية، وقوله: "أن يتعلموها ويسألوا عنها " في رواية يحيى بن يحيى هذا الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتبعه ويعمل بما فيه. قوله: "والقرآن أن يتفهموه ويسألوا الناس عنه" في رواية يحيى " فيتدبروه " بدل فيتفهموه وهو المراد. قوله: "ويدعوا الناس إلا من خير" كذا للأكثر بفتح الدال من يدعوا وهو من الودع بمعنى الترك، ووقع في رواية الكشميهني بسكون الدال من الدعاء، وكذا هو في نسخة الصغاني، ويؤيد الأول أن في رواية يحيى بن يحيى " ورجل أقبل على نفسه ولها عن الناس إلا من خير " لأن في ترك الشر خيرا كثيرا قال الكرماني قال: في القرآن يتفهموه وفي السنة يتعلموها لأن الغالب أن المسلم يتعلم القرآن في أول أمره فلا يحتاج إلى الوصية بتعلمه، فلهذا أوصى بتفهم معناه وإدراك منطوقه انتهى، ويحتمل أن يكون السبب أن القرآن قد جمع بين دفتي المصحف ولم تكن السنة يومئذ جمعت، فأراد بتعلمها جمعها ليتمكن من تفهمها، بخلاف القرآن فإنه مجموع فليبادر لتفهمه ثم ذكر فيه ثلاثة عشر حديثا: قوله: "عمرو بن عباس" بموحدة ثم مهملة هو الباهلي بصري يكنى أبا عثمان من طبقة علي ابن المديني، و " عبد الرحمن " هو ابن مهدي و " سفيان " هو الثوري و " واصل " هو ابن حبان وتقدم تصريح الثوري عنه بالتحديث في " كتاب الحج " و " أبو وائل " هو شقيق بن سلمة. قوله: "جلست إلى شيبة" هو ابن عثمان بن طلحة العبدري حاجب الكعبة وقد تقدم نسبه عند شرح حديثه في باب كسوة الكعبة من " كتاب الحج " وليس له في الصحيحين إلا هذا الحديث عند البخاري وحده، قوله: "أن لا أدع فيها" الضمير للكعبة وإن لم يجر لها ذكر لأن المراد بالمسجد في قول أبي وائل " جلست إلى شيبة في هذا المسجد " نفس الكعبة فكأنه أشار إليها فقد تقدم في رواية الحج في هذا الحديث: "على كرسي في الكعبة " أي عند بابها كما جرت به عادة الحجبة؛ قال ابن بطال: أراد عمر قسمة المال في مصالح المسلمين فلما ذكره شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بعده لم يتعرضا له لم يسعه خلافهما، ورأى أن الاقتداء بهما واجب. قلت: وتمامه أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم منزل منزلة حكمه باستمرار ما ترك تغييره فيجب الاقتداء به في ذلك لعموم قوله تعالى:{واتبعوه" وأما أبو بكر فدل عدم تعرضه على أنه لم يظهر له من قوله صلى الله عليه وسلم ولا من فعله ما يعارض التقرير المذكور، ولو ظهر له لفعله لا سيما مع احتياجه للمال لقلته في مدته فيكون عمر مع وجود كثرة المال في أيامه أولى بعدم التعرض. حديث حذيفة في الأمانة تقدم شرحه في " كتاب الفتن".قوله: "حدثنا عمرو بن مرة" هو الجملي بفتح الجيم وتخفيف الميم و " مرة " شيخه هو ابن شراحيل ويقال له مرة الطيب بالتشديد وهو الهمداني بسكون الميم، وليس هو والد عمرو الراوي عنه. قوله: "وأحسن الهدي هدي محمد" بفتح الهاء وسكون الدال للأكثر، وللكشميهني بضم الهاء مقصور ومعنى الأول الهيئة والطريقة والثاني ضد الضلال. قوله: "وشر الأمور محدثاتها إلخ" تقدم هذا الحديث بدون هذه الزيادة في " كتاب الأدب " وذكرت ما يدل على أن البخاري اختصره هناك ومما أنبه عليه هنا قبل شرح هذه الزيادة أن ظاهر سياق هذا الحديث أنه موقوف، لكن القدر الذي له حكم الرفع منه قوله: "وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم: "فإن فيه إخبارا عن صفة من صفاته صلى الله عليه وسلم وهو أحد
(13/252)
أقسام المرفوع وقل من نبه على ذلك، وهو كالمتفق عليه لتخريج المصنفين المقتصرين على الأحاديث المرفوعة الأحاديث الواردة في شمائله صلى الله عليه وسلم فإن أكثرها يتعلق بصفة خلقه وذاته كوجهه وشعره، وكذا بصفة خلقه كحلمه وصفحه، وهذا مندرج في ذلك مع أن الحديث المذكور جاء عن ابن مسعود مصرحا فيه بالرفع من وجه آخر، أخرجه أصحاب السنن لكن ليس هو على شرط البخاري، وأخرجه مسلم من حديث جابر مرفوعا أيضا بزيادة فيه، وليس هو على شرطه أيضا، وقد بينت ذلك في " كتاب الأدب " في باب الهدي الصالح، و " المحدثات " بفتح الدال جمع محدثة والمراد بها ما أحدث، وليس له أصل في الشرع ويسمى في عرف الشرع " بدعة " وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محمودا أو مذموما، وكذا القول في المحدثة وفي الأمر المحدث الذي ورد في حديث عائشة " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " كما تقدم شرحه ومضى بيان ذلك قريبا في " كتاب الأحكام " وقد وقع في حديث جابر المشار إليه " وكل بدعة ضلالة " وفي حديث العرباض بن سارية " وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " وهو حديث أوله " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة " فذكره وفيه هذا أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن ماجه وابن حبان والحاكم، وهذا الحديث في المعنى قريب من حديث عائشة المشار إليه وهو من جوامع الكلم قال الشافعي " البدعة بدعتان: محمودة ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم " أخرجه أبو نعيم بمعناه من طريق إبراهيم بن الجنيد عن الشافعي، وجاء عن الشافعي أيضا ما أخرجه البيهقي في مناقبه قال: "المحدثات ضربان ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلال، وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة " انتهى. وقسم بعض العلماء البدعة إلى الأحكام الخمسة وهو واضح، وثبت عن ابن مسعود أنه قال: قد أصبحتم على الفطرة وإنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول، فمما حدث تدوين الحديث ثم تفسير القرآن ثم تدوين المسائل الفقهية المولدة عن الرأي المحض ثم تدوين ما يتعلق بأعمال القلوب، فأما الأول فأنكره عمر وأبو موسى وطائفة ورخص فيه الأكثرون وأما الثاني فأنكره جماعة من التابعين كالشعبي، وأما الثالث فأنكره الإمام أحمد وطائفة يسيرة وكذا اشتد إنكار أحمد للذي بعده، ومما حدث أيضا تدوين القول في أصول الديانات فتصدى لها المثبتة والنفاة، فبالغ الأول حتى شبه وبالغ الثاني حتى عطل، واشتد إنكار السلف لذلك كأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وكلامهم في ذم أهل الكلام مشهور، وسببه أنهم تكلموا فيما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وثبت عن مالك أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر شيء من الأهواء - يعني بدع الخوارج والروافض والقدرية - وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلا يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بد فليكتف منه بقدر الحاجة، ويجعل الأول المقصود بالأصالة والله الموفق.وقد أخرج أحمد بسند جيد عن غضيف بن الحارث قال بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال: إنا قد جمعنا الناس على رفع الأيدي على المنبر يوم الجمعة،
(13/253)
وعلى القصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بدعكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة" . انتهى وإذا كان هذا جواب هذا الصحابي في أمر له أصل في السنة فما ظنك بما لا أصل له فيها، فكيف بما يشتمل على ما يخالفها. وقد مضى في " كتاب العلم " أن ابن مسعود كان يذكر الصحابة كل خميس لئلا يملوا ومضى في " كتاب الرقاق " أن ابن عباس قال: حدث الناس كل جمعة فإن أبيت فمرتين، ونحوه وصية عائشة لعبيد بن عمير، والمراد بالقصص التذكير والموعظة، وقد كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن لم يكن يجعله راتبا كخطبة الجمعة بل بحسب الحاجة، وأما قوله في حديث العرباض " فإن كل بدعة ضلالة " بعد قوله: "وإياكم ومحدثات الأمور " فإنه يدل على أن المحدث يسمى بدعة وقوله: "كل بدعة ضلالة " قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها فكأن يقال: "حكم كذا بدعة وكل بدعة ضلالة " فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدي، فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان، وأنتجتا المطلوب، والمراد بقوله: "كل بدعة ضلالة " ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام. وقوله في آخر حديث ابن مسعود "إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزتين" أراد ختم موعظته بشيء من القرآن يناسب الحال. وقال ابن عبد السلام: في أواخر " القواعد " البدعة خمسة أقسام " فالواجبة " كالاشتغال بالنحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله لأن حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى إلا بذلك فيكون من مقدمة الواجب، وكذا شرح الغريب وتدوين أصول الفقه والتوصل إلى تمييز الصحيح والسقيم " والمحرمة " ما رتبه من خالف السنة من القدرية والمرجئة والمشبهة " والمندوبة " كل إحسان لم يعهد عينه في العهد النبوي كالاجتماع عن التراويح وبناء المدارس والربط والكلام في التصوف المحمود وعقد مجالس المناظرة إن أريد بذلك وجه الله " والمباحة " كالمصافحة عقب صلاة الصبح والعصر، والتوسع في المستلذات من أكل وشرب وملبس ومسكن.وقد يكون بعض ذلك مكروها أو خلاف الأول والله أعلم. حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في قصة العسيف قالا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لأقضين بينكما بكتاب الله " وهذا يوهم أن الخطاب لهما وليس كذلك، وإنما هو لوالد العسيف والذي استأجره لما تحاكما بسبب زنا العسيف بامرأة الذي استأجره، والقدر المذكور هنا طرف من القصة المذكورة، واقتصر البخاري هنا عليه لدخوله في غرضه من أن السنة يطلق عليها " كتاب الله " لأنها بوحيه وتقديره، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وقد تقدم تقرير ذلك مع شرح الحديث في " كتاب المحاربين " المتعلق ببيان الحدود. قوله: "فليح" بالفاء والمهملة مصغر هو ابن سليمان المدني، وشيخه " هلال بن علي " هو الذي يقال له ابن أبي ميمونة. قوله: "كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى" بفتح الموحدة أي امتنع وظاهره أن العموم مستمر لأن كلا منهم لا يمتنع من دخول الجنة ولذلك قالوا " ومن يأبى " فبين لهم أن إسناد الامتناع إليهم عن الدخول مجاز عن الامتناع عن سنته وهو عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في أول الأحكام حديث أبي هريرة أيضا مرفوعا: "من أطاعني فقد أطاع الله " وتقدم شرحه مستوفى وأخرج أحمد والحاكم من طريق صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة رفعه: "لتدخلن الجنة إلا من أبى وشرد على الله شراد البعير " وسنده على شرط الشيخين، وله شاهد عن أبي أمامة عند الطبراني وسنده جيد، والموصوف بالإباء وهو الامتناع إن كان كافرا فهو لا يدخل الجنة أصلا وإن كان مسلما فالمراد منعه من دخولها مع أول داخل إلا من شاء
(13/254)
الله تعالى.الحديث السابع قوله: "محمد بن عبادة" بفتح المهملة وتخفيف الموحدة، واسم جده البختري بفتح الموحدة وسكون المعجمة وفتح المثناة من فوق، ثقة واسطي يكنى أبا جعفر ما له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر تقدم في " كتاب الأدب " وهو من الطبقة الرابعة من شيوخ البخاري، و " يزيد " شيخه هو ابن هارون، قوله: "حدثنا سليم بن حيان وأثنى عليه" أما سليم فبفتح المهملة وزن عظيم وأبوه بمهملة ثم تحتانية ثقيلة والقائل " وأثنى عليه " هو محمد وفاعل أثنى هو يزيد. قوله: "قال حدثنا أوسمعت" القائل ذلك سعيد بن ميناء والشاك هو سليم بن حيان، شك في أي الصيغتين قالها شيخه سعيد، ويجوز في جابر أن يقرأ بالنصب وبالرفع والنصب أولى. قوله: "جاءت ملائكة" لم أقف على أسمائهم ولا أسماء بعضهم، ولكن في رواية سعيد بن أبي هلال المعلقة عقب هذا عند الترمذي أن الذي حضر في هذه القصة جبريل وميكائيل، ولفظه: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي " فيحتمل أنه كان مع كل منهما غيره. واقتصر في هذه الرواية على من باشر الكلام منهم ابتداء وجوابا، ووقع في حديث ابن مسعود عند الترمذي وحسنه وصححه ابن خزيمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم توسد فخذه فرقد، وكان إذا نام نفخ؛ قال فبينا أنا قاعد إذ أنا برجال عليهم ثياب بيض، الله أعلم بما بهم من الجمال، فجلست طائفة منهم عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطائفة منهم عند رجليه. قوله: "إن لصاحبكم هذا مثلا قال فاضربوا له مثلا" كذا للأكثر وسقط لفظ: "قال: "من رواية أبي ذر. قوله: "فقال بعضهم إنه نائم إلى قوله يقظان" قال الرامهرمزي هذا تمثيل يراد به حياة القلب وصحة خواطره، يقال رجل يقظ إذا كان ذكي القلب؛ وفي حديث ابن مسعود فقالوا بينهم: ما رأينا عبدا قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبي، إن عينيه تنامان وقلبه يقظان، اضربوا له مثلا. وفي رواية سعيد بن أبي هلال،. فقال أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا، فقال: "اسمع سمع أذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك " ونحوه في حديث ربيعة الجرشي عند الطبراني زاد أحمد في حديث ابن مسعود فقالوا اضربوا له مثلا ونؤول أو نضرب وأولوا، وفيه ليعقل قلبك. قوله: "مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة" في حديث ابن مسعود " مثل سيد بنى قصرا " وفي رواية أحمد " بنيانا حصينا ثم جعل مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه ومن لم يجبه عاقبه - أو قال - عذبه " وفي رواية أحمد " عذب عذابا شديدا " والمأدبة بسكون الهمزة وضم الدال بعدها موحدة وحكى الفتح. وقال ابن التين: عن أبي عبد الملك الضم والفتح لغتان فصيحتان. وقال الرامهرمزي نحوه في حديث: "القرآن مأدبة الله " قال: وقال لي أبو موسى الحامض من قاله بالضم أراد الوليمة، ومن قاله بالفتح أراد أدب الله الذي أدب به عباده. قلت: فعلى هذا يتعين الضم. قوله: "وبعث داعيا" في رواية سعيد " ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه". قوله: "فقال بعضهم أولوها له يفقهها" قيل يؤخذ منه حجة لأهل التعبير أن التعبير إذا وقع في المنام اعتمد عليه " قال ابن بطال: قوله: "أولوها له " يدل على أن الرؤيا على ما عبرت في النوم " انتهى. وفيه نظر لاحتمال الاختصاص بهذه القصة لكون الرائي النبي صلى الله عليه وسلم والمرئي الملائكة، فلا يطرد ذلك في حق غيرهم. قوله: "فقال بعضهم إنه نائم" هكذا وقع ثالث مرة. قوله: "فقالوا الدار الجنة" أي الممثل بها زاد في رواية سعيد بن أبي هلال " فالله هو الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول الله " وفي حديث ابن مسعود عند أحمد " أما السيد فهو رب العالمين، وأما البنيان فهو الإسلام والطعام الجنة ومحمد الداعي " فمن
(13/255)
اتبعه كان في الجنة. قوله: "فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله" أي لأنه رسول صاحب المأدبة فمن أجابه ودخل في دعوته أكل من المأدبة، وهو كناية عن دخول الجنة ووقع بيان ذلك في رواية سعيد ولفظه: "وأنت يا محمد رسول الله فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها " قوله: "ومحمد فرق بين الناس" كذا لأبي ذر بتشديد الراء فعلا ماضيا، ولغيره بسكون الراء والتنوين وكلاهما متجه. قال الكرماني: ليس المقصود من هذا التمثيل تشبيه المفرد بالمفرد، بل تشبيه المركب بالمركب، مع قطع النظر عن مطابقة المفردات من الطرفين انتهى، وقد وقع في غير هذه الطريق ما يدل على المطابقة المذكورة، زاد في حديث ابن مسعود " فلما استيقظ قال: سمعت ما قال هؤلاء، هل تدرى من هم؟. قلت: الله ورسوله أعلم، قال هم الملائكة، والمثل الذي ضربوا الرحمن بنى الجنة ودعا إليها عباده " الحديث. "تنبيه" تقدم في " كتاب المناقب " من وجه آخر عن سليم بن حيان بهذا الإسناد " قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة " الحديث، وهو حديث آخر وتمثيل آخر، فالحديث الذي في المناقب يتعلق بالنبوة وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وهذا يتعلق بالدعاء إلى الإسلام وبأحوال من أجاب أو امتنع، وقد وهم من خلطهما كأبي نعيم في " المستخرج " فإنه لما ضاق عليه مخرج حديث الباب ولم يجده مرويا عنده أورد حديث اللبنة ظنا منه أنهما حديث واحد وليس كذلك لما بينته، وسلم الإسماعيلي من ذلك فإنه لما لم يجده في مروياته أورده من روايته عن الفربري بالإجازة عن البخاري بسنده، وقد روى يزيد بن هارون بهذا السند حديث اللبنة أخرجه أبو الشيخ في " كتاب الأمثال " من طريق أحمد ابن سنان الواسطي عنه، وساق بهذا السند حديث: "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا " الحديث، لكنه عن أبي هريرة لا عن جابر وقد ذكر الرامهرمزي، حديث الباب في " كتاب الأمثال " معلقا فقال: وروى يزيد ابن هارون فساق السند ولم يوصل سنده بيزيد وأورد معناه من مرسل الضحاك بن مزاحم. قوله: "تابعه قتيبة عن ليث" يعني ابن سعد "عن خالد" يعني ابن يزيد وهو أبو عبد الرحيم المصري أحد الثقات. قوله: "عن سعيد بن أبي هلال عن جابر قال خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم" هكذا اقتصر على هذا القدر من الحديث وظاهره أن بقية الحديث مثله، وقد بينت ما بينهما من الاختلاف، وقد وصله الترمذي عن قتيبة بهذا السند ووصله أيضا الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان، وأبو نعيم من طريق أبي العباس السراج، كلاهما عن قتيبة ونسب السراج في روايته الليث وشيخه كما ذكرته، قال الترمذي بعد تخريجه: هذا حديث مرسل، سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد الله. قلت: وفائدة إيراد البخاري له رفع التوهم عمن يظن أن طريق سعيد بن ميناء موقوفة، لأنه لم يصرح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بهذه الطريق لتصريحها؛ ثم قال الترمذي وجاء من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد أصح من هذا. قال وفي الباب عن ابن مسعود، ثم ساقه بسنده إلى ابن مسعود وصححه، وقد بينت ما فيه أيضا بحمد الله تعالى. ووصف الترمذي له بأنه مرسل: يريد أنه منقطع بين سعيد وجابر، وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشي عند الطبراني فإنه بنحو سياقه وسنده جيد، وسعيد بن أبي هلال غير سعيد بن ميناء الذي في السند الأول، وكل منهما مدني لكن ابن ميناء تابعي بخلاف ابن أبي هلال، والجمع بينهما إما بتعدد المرئي وهو واضح أو بأنه منام واحد حفظ فيه بعض الرواة ما لم يحفظ غيره، وتقدم طريق الجمع بين اقتصاره على جبريل وميكائيل في حديث وذكره الملائكة بصيغة الجمع في الجانبين الدال على الكثرة في آخر، وظاهر رواية سعيد بن
(13/256)
أبي هلال أن الرؤيا كانت في بيت النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "خرج علينا فقال إني رأيت في المنام " وفي حديث ابن مسعود أن ذلك كان بعد أن خرج إلى الجن فقرأ عليهم، ثم أغفى عند الصبح فجاءوا إليه حينئذ، ويجمع بأن الرؤيا كانت على ما وصف ابن مسعود، فلما رجع إلى منزله خرج على أصحابه فقصها، وما عدا ذلك فليس بينهما منافاة إذ وصف الملائكة برجال حسان، يشير إلى أنهم تشكلوا بصورة الرجال، وقد أخرج أحمد والبزار والطبراني من طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس نحو أول حديث سعيد بن أبي هلال لكن لم يسم الملكين، وساق المثل على غير سياق من تقدم قال: إن مثل هذا ومثل أمته، كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل فقال أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء، أتتبعوني؟ قالوا: نعم؛ فانطلق بهم فأوردهم، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم إن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه، وحياضا أروى من هذه فاتبعوني، فقالت طائفة صدق والله لنتبعنه. وقالت طائفة قد رضينا بهذا نقيم عليه " وهذا إن كان محفوظا قوي الحمل على التعدد إما للمنام وإما لضرب المثل، ولكن علي بن زيد ضعيف من قبل حفظه. قال ابن العربي في حديث ابن مسعود: إن المقصود " المأدبة " وهو ما يؤكل ويشرب ففيه رد على الصوفية الذين يقولون لا مطلوب في الجنة إلا الوصال، والحق أن لا وصال لنا إلا بانقضاء الشهوات الجثمانية والنفسانية والمحسوسة والمعقولة وجماع ذلك كله في الجنة انتهى، وليس ما ادعاه من الرد بواضح، قال وفيه من أجاب الدعوة أكرم ومن لم يجبها أهين، وهو خلاف قولهم من دعوناه فلم يجبنا فله الفضل علينا فإن أجابنا فلنا الفضل عليه. فإنه مقبول في النظر، وأما حكم العبد مع المولى فهو كما تضمنه هذا الحديث. قوله: "سفيان" هو الثوري " وإبراهيم " هو النخعي " وهمام " هو ابن الحارث، ورجال السند كلهم كوفيون. قوله: "يا معشر القراء" بضم القاف وتشديد الراء مهموز جمع قارئ، والمراد بهم العلماء بالقرآن والسنة العباد، وسيأتي إيضاحه في الحديث الحادي عشر. قوله: "استقيموا" أي اسلكوا طريق الاستقامة وهي كناية عن التمسك بأمر الله تعالى فعلا وتركا، وقوله فيه: "سبقتم " هو بفتح أوله كما جزم به ابن التين وحكى غيره ضمه، والأول المعتمد زاد محمد بن يحيى الذهلي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه: "فإن استقمتم فقد سبقتم " أخرجه أبو نعيم في المستخرج وقوله: "سبقا بعيدا " أي ظاهرا ووصفه بالبعد لأنه غاية شأو السابقين، والمراد أنه خاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام فإذا تمسك بالكتاب والسنة سبق إلى كل خير، لأن من جاء بعده إن عمل بعمله لم يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام، وإلا فهو أبعد منه حسا وحكما. قوله: "فإن أخذتم يمينا وشمالا" أي خالفتم الأمر المذكور، وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} والذي له حكم الرفع من حديث حذيفة هذا الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين مضوا على الاستقامة فاستشهدوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو عاشوا بعده على طريقته فاستشهدوا أو ماتوا على فرشهم. حديث أبي موسى في " النذير العريان " وقد تقدم شرحه مستوفى في باب الانتهاء عن المعاصي من " كتاب الرقاق " و " بريد " بموحدة وراء مصغر هو ابن عبد الله بن أبي بردة و " أبو بردة " شيخه هو جده وهو ابن أبي موسى الأشعري. حديث أبي هريرة في قصة أبي بكر في قتال أهل الردة وقد تقدمت الإشارة إليه قريبا. قوله: "في آخره قال ابن بكير" يعني يحيى بن عبد الله بن بكير
(13/257)
المصري
"وعبد الله" يعني كاتب الليث وهو أبو صالح إلخ، ومراده أن قتيبة حدثه عن
الليث بالسند المذكور فيه بلفظ: "لو منعوني كذا " ووقع هنا في رواية
الكشميهني: "كذا وكذا " وحدثه به يحيى وعبد الله عن الليث بالسند
المذكور بلفظ: "عناقا " وقوله: "وهو أصح " أي من رواية من روى
" عقالا " كما تقدمت الإشارة إليه في " كتاب الزكاة " أو
أبهمه كالذي وقع هنا. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس كما جزم به
المزي واسم " أبي أويس " عبد الله المدني الأصبحي، و " ابن وهب
" هو عبد الله المصري و " يونس " هو ابن يزيد الأيلي. قوله:
"قدم عيينة" بتحتانية ونون مصغرا "ابن حصن" بكسر الحاء وسكون
الصاد المهملتين ثم نون "ابن حذيفة بن بدر" يعني الفزاري معدود في
الصحابة، وكان في الجاهلية موصوفا بالشجاعة والجهل والجفاء، وله ذكر في "
المغازي " ثم أسلم في الفتح وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا فأعطاه
مع المؤلفة وإياه عنى العباس بن مرداس السلمي بقوله:
أتجعل نهبي ونهب العبـ ... ـيد بين عيينة والأقرع
وله ذكر مع الأقرع بن حابس سيأتي قريبا في " باب ما يكره من التعمق "
وله قصة مع أبي بكر وعمر حين سأل أبا بكر أن يعطيه أرضا يقطعه إياها فمنعه عمر،
وقد ذكره البخاري في " التاريخ الصغير " وسماه النبي صلى الله عليه
وسلم: "الأحمق المطاع " وكان عيينة ممن وافق طليحة الأسدي لما ادعى
النبوة، فلما غلبهم المسلمون في قتال أهل الردة فر طليحة وأسر عيينة، فأتى به أبو
بكر فاستتابه فتاب، وكان قدومه إلى المدينة على عمر بعد أن استقام أمره وشهد
الفتوح، وفيه من جفاء الأعراب شيء. قوله: "على ابن أخيه الحر" بلفظ ضد العبد،
و " قيس " والد الحر لم أر له ذكرا في الصحابة، وكأنه مات في الجاهلية،
والحر ذكره في الصحابة أبو علي بن السكن وابن شاهين، وفي العتبية عن مالك قدم
عيينة ابن حصن المدينة، فنزل على ابن أخ له أعمى فبات يصلي فلما أصبح غدا إلى
المسجد فقال عيينة كان ابن أخي عندي أربعين سنة لا يطيعني، فما أسرع ما أطاع
قريشا، وفي هذا إشعار بأن أباه مات في الجاهلية. قوله: "وكان من النفر الذين
يدنيهم عمر" بين بعد ذلك السبب ب قوله: "وكان القراء" أي العلماء
العباد "أصحاب مجلس عمر" فدل على أن الحر كان متصفا بذلك، وتقدم في آخر
سورة الأعراف ضبط قوله: "أو شبانا " وأنه بالوجهين، وقوله:
"ومشاورته " بالشين المعجمة وبفتح الواو ويجوز كسرها. قوله: "هل لك
وجه عند هذا الأمير" هذا من جملة جفاء عيينة إذ كان من حقه أن ينعته بأمير
المؤمنين ولكنه لا يعرف منازل الأكابر. قوله: "فتستأذن لي عليه" أي في
خلوة، وإلا فعمر كان لا يحتجب إلا وقت خلوته وراحته، ومن ثم قال له سأستأذن لك
عليه، أي حتى تجتمع به وحدك. قوله: "قال ابن عباس فاستأذن لعيينة" أي
الحر، وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: "فلما دخل قال يا ابن الخطاب"
في رواية شعيب عن الزهري الماضية في آخر تفسير الأعراف، فقال: هي بكسر ثم سكون وفي
بعضها " هيه " بكسر الهاءين بينهما تحتانية ساكنة، قال النووي بعد أن
ضبطها هكذا هي كلمة تقال في الاستزادة ويقال بالهمزة بدل الهاء الأولى، وسبق إلى
ذلك قاسم بن ثابت في " الدلائل " كما نقله صاحب المشارق فقال في قول ابن
الزبير أيها قوله: "إيه " بهمز مكسور مع التنوين كلمة استزادة من حديث
لا يعرف، وتقول " إيها عنا " بالنصب أي كف، قال وقال يعقوب يعني ابن
السكيت تقول لمن استزدته، من عمل أو حديث: "إيه " فإن وصلت نونت فقلت
" إيه حدثنا " وحكاه كذا في النهاية وزاد فإذا قلت " إيها "
بالنصب
(13/258)
فهو
أمر بالسكوت. وقال الليث قد تكون كلمة استزادة وقد تكون كلمة زجر كما قال: إيه عنا
أي كف. وقال الكرماني: هيه هنا بكسر الهاء الأولى، وفي بعض النسخ بهمزة بدلها وهو
من أسماء الأفعال، تقال لمن تستزيده، كذا قال ولم يضبط الهاء الثانية، ثم قال وفي
بعض النسخ هي بحذف الهاء الثانية والمعنى واحد، أو هو ضمير لمحذوف أي هي داهية أو
القصة هذه انتهى، واقتصر شيخنا ابن الملقن في شرحه على قوله: "هي يا ابن
الخطاب " بمعنى التهديد له ووقع في تنقيح الزركشي فقال: "هئ يا ابن
الخطاب " بكسر الهاء وآخره همزة مفتوحة، تقول للرجل إذا استزدته " هيه
وإيه " انتهى، وقوله وآخره همزة مفتوحة لا وجه له ولعله من الناسخ أو سقط من
كلامه شيء، والذي يقتضيه السياق أنه أراد بهذه الكلمة الزجر وطلب الكف لا
الازدياد، وقد تقدم شيء من الكلام على هذه الكلمة في مناقب عمر وقوله: "يا
ابن الخطاب " هذا أيضا من جفائه حيث خاطبه بهذه المخاطبة وقوله: "والله
ما تعطينا الجزل " بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها لام أي الكثير، وأصل الجزل
ما عظم من الحطب. قوله: "ولا تحكم" في رواية غير الكشميهني: "وما
" بالميم بدل اللام. قوله: "حتى هم بأن يقع به" أي يضربه. وفي
رواية شعيب عن الزهري في التفسير " حتى هم به " وفي رواية فيه:
"حتى هم أن يوقع به". قوله: "فقال الحر يا أمير المؤمنين" في
رواية شعيب المذكورة " فقال له الحر " وفي رواية الإسماعيلي من طريق بشر
بن شعيب عن أبيه عن الزهري " فقال الحر بن قيس. قلت: يا أمير المؤمنين "
وهذا يقتضي أن يكون من رواية ابن عباس عن الحر، وأنه ما حضر القصة بل حملها عن
صاحبها وهو الحر، وعلى هذا فينبغي أن يترجم للحر في رجال البخاري ولم أر من فعله.
قوله: "إن الله قال لنبيه" فذكر الآية ثم قال: وإن هذا من الجاهلين، أي
فأعرض عنه. قوله: "فوالله ما جاوزها" هو كلام ابن عباس فيما أظن وجزم
شيخنا ابن الملقن بأنه كلام الحر وهو محتمل ويؤيده رواية الإسماعيلي المشار إليها،
ومعنى " ما جاوزها " ما عمل بغير ما دلت عليه بل عمل بمقتضاها ولذلك
قال: "وكان وقافا عند كتاب الله " أي يعمل بما فيه ولا يتجاوزه، وفي هذا
تقوية لما ذهب إليه الأكثر أن هذه الآية محكمة، قال الطبري بعد أن أورد أقوال
السلف في ذلك وأن منهم من ذهب إلى أنها منسوخة بآية القتال، والأولى بالصواب أنها
غير منسوخة لأن الله أتبع ذلك تعليمه نبيه محاجة المشركين ولا دلالة على النسخ،
فكأنها نزلت لتعريف النبي صلى الله عليه وسلم عشرة من لم يؤمر بقتاله من المشركين
أو أريد به تعليم المسلمين، وأمرهم بأخذ العفو من أخلاقهم فيكون تعليما من الله
لخلقه صفة عشرة بعضهم بعضا فيما ليس بواجب، فأما الواجب فلا بد من عمله فعلا أو
تركا انتهى ملخصا. وقال الراغب " خذ العفو " معناه خذ ما سهل تناوله،
وقيل تعاط العفو مع الناس، والمعنى خذ ما عفي لك من أفعال الناس وأخلاقهم وسهل من
غير كلفة ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى ينفروا، وهو كحديث: "يسروا
ولا تعسروا " ومنه قول الشاعر:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سوأتي حين أغضب
وأخرج ابن مردويه من حديث جابر وأحمد من حديث عقبة بن عامر لما نزلت هذه الآية
" سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل فقال يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من
قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على
أشرف أخلاق الدنيا والآخرة؟ قالوا: وما ذاك، فذكره قال الطيبي: ما ملخصه أمر الله
نبيه في هذه الآية بمكارم الأخلاق فأمر أمته بنحو ما أمره الله به، ومحصلهما الأمر
بحسن المعاشرة مع الناس وبذل الجهد
(13/259)
في
الإحسان إليهم والمداراة معهم والإغضاء عنهم وبالله التوفيق. وقد تقدم الكلام على
معنى العرف المأمور به في الآية مستوفى في التفسير. قوله: "حين خسفت
الشمس" في رواية المستملي: "كسفت " وقوله: "فأجبناه " في
رواية الكشميهني: "فأجبنا وآمنا " أي فأجبنا محمدا وآمنا بما جاء به،
وقد تقدم شرح حديث أسماء بنت أبي بكر هذا مستوفى في صلاة الكسوف. قوله:
"حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس كما جزم به الحافظ أبو إسماعيل الهروي،
وذكر في كتابه ذم الكلام أنه تفرد به عن مالك، وتابعه على روايته عن مالك عبد الله
بن وهب كذا قال، وقد ذكر الدار قطني معهما إسحاق بن محمد الفروي وعبد العزيز
الأويسي وهما من شيوخ البخاري، وأخرجه في غرائب مالك التي ليست في الموطأ من طرق
هؤلاء الأربعة ومن طريق أبي قرة موسى بن طارق، ومن طريق الوليد ابن مسلم، ومن طريق
محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، ثلاثتهم عن مالك أيضا فكملوا سبعة، ولم
يخرج البخاري هذا الحديث إلا في هذا الموضع من رواية مالك عن أبي الزناد عن الأعرج
عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم من رواية المغيرة بن عبد الرحمن، وسفيان وأبو عوانة من
رواية ورقاء ثلاثتهم عن أبي الزناد ومسلم من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي
مسلمة بن عبد الرحمن، ومن رواية همام بن منبه، ومن رواية أبي صالح، ومن رواية محمد
بن زياد، وأخرجه الترمذي من رواية أبي صالح كلهم عن أبي هريرة وسأذكر ما في
روايتهم من فائدة زائدة. قوله: "دعوني" في رواية مسلم: "ذروني
" وهي بمعنى دعوني وذكر مسلم سبب هذا الحديث من رواية محمد ابن زياد فقال عن
أبي هريرة " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس قد فرض
الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا،
فقال رسول الله: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال ذروني ما تركتكم "
الحديث وأخرجه الدار قطني مختصرا وزاد فيه فنزلت: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وله شاهد عن ابن عباس
عند الطبري في التفسير، وفيه: "لو قلت نعم، لوجبت ولو وجبت لما استطعتم
فاتركوني ما تركتكم " الحديث وفيه فأنزل الله { أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} الآية وسيأتي بسط القول فيما
يتعلق بالسؤال في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. قوله: "ما تركتكم"
أي مدة تركي إياكم بغير أمر بشيء ولا نهي عن شيء، وإنما غاير بين اللفظين لأنهم
أماتوا الفعل الماضي واسم الفاعل منهما واسم مفعولهما وأثبتوا الفعل المضارع وهو
" يذر " وفعل الأمر وهو " ذر " ومثله دع ويدع ولكن سمع ودع
كما قرئ به في الشاذ في قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} قرأ بذلك
إبراهيم ابن أبي عبلة وطائفة. وقال الشاعر:
ونحن ودعنا آل عمرو بن عامر ... فرائس أطراف المثقفة السمر
ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على سبيل التفنن في العبارة، وإلا لقال اتركوني، والمراد
بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع خشية أن ينزل به وجوبه أو تحريمه، وعن كثرة
السؤال لما فيه غالبا من التعنت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يستثقل، فقد يؤدي لترك
الامتثال فتقع المخالفة، قال ابن فرج معنى قوله: "ذروني ما تركتكم " لا
تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظهر ولو كانت صالحة
لغيره، كما أن قوله: "حجوا " وإن كان صالحا للتكرار فينبغي أن يكتفى بما
يصدق عليه اللفظ وهو المرة فإن الأصل عدم الزيادة، ولا تكثروا التنقيب عن ذلك لأنه
قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل، إذ أمروا أن يذبحوا البقرة فلو ذبحوا أي
بقرة كانت لامتثلوا
(13/260)
ولكنهم شددوا فشدد عليهم، وبهذا تظهر مناسبة قوله: "فإنما هلك من كان قبلكم " إلى آخره بقوله: "ذروني ما تركتكم " وقد أخرج البزار وابن أبي حاتم في تفسيره من طريق أبي رافع عن أبي هريرة مرفوعا: "لو اعترض بنو إسرائيل أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم " وفي السند عباد ابن منصور وحديثه من قبيل الحسن وأورده الطبري عن ابن عباس موقوفا وعن أبي العالية مقطوعا، واستدل به على أن لا حكم قبل ورود الشرع وأن الأصل في الأشياء عدم الوجوب. قوله: "فإنما أهلك" بفتحات وقال بعد ذلك سؤالهم بالرفع على أنه فاعل أهلك. وفي رواية غير الكشميهني: "أهلك " بضم أوله وكسر اللام وقال بعد ذلك " بسؤالهم " أي بسبب سؤالهم، وقوله: "واختلافهم " بالرفع وبالجر على الوجهين، ووقع في رواية همام عند أحمد بلفظ: "فإنما هلك " وفيه بسؤالهم ويتعين الجر في " واختلافهم " وفي رواية الزهري " فإنما هلك " وفيه: "سؤالهم " ويتعين الرفع في " واختلافهم " وأما قول النووي في " أربعينه " واختلافهم برفع الفاء لا بكسرها فإنه باعتبار الرواية التي ذكرها وهي التي من طريق الزهري. قوله: "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" في رواية محمد بن زياد " فانتهوا عنه " هكذا رأيت هذا الأمر على تلك المقدمة والمناسبة فيه ظاهرة، ووقع في أول رواية الزهري المشار إليها " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه " فاقتصر عليها النووي في الأربعين، وعزا الحديث للبخاري ومسلم، فتشاغل بعض شراح الأربعين بمناسبة تقديم النهي على ما عداه ولم يعلم أن ذلك من تصرف الرواة، وأن اللفظ الذي أورده البخاري هنا أرجح من حيث الصناعة الحديثية لأنهما اتفقا على إخراج طريق أبي الزناد دون طريق الزهري وإن كان سند الزهري مما عد في أصح الأسانيد، فإن سند أبي الزناد أيضا مما عد فيها فاستويا، وزادت رواية أبي الزناد اتفاق الشيخين، وظن القاضي تاج الدين في شرح المختصر أن الشيخين اتفقا على هذا اللفظ، فقال: بعد قول ابن الحاجب الندب أي احتج من قال إن الأمر للندب بقوله: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " فقال الشارح: رواه البخاري ومسلم ولفظهما " وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم " وهذا إنما هو لفظ مسلم وحده ولكنه اغتر بما ساقه النووي في الأربعين، ثم إن هذا النهي عام في جميع المناهي، ويستثنى من ذلك ما يكره المكلف على فعله كشرب الخمر وهذا على رأي الجمهور، وخالف قوم فتمسكوا بالعموم فقالوا: الإكراه على ارتكاب المعصية لا يبيحها، والصحيح عدم المؤاخذة إذا وجدت صورة الإكراه المعتبرة، واستثنى بعض الشافعية من ذلك الزنا، فقال: لا يتصور الإكراه عليه وكأنه أراد التمادي فيه، وإلا فلا مانع أن يتعظ الرجل بغير سبب فيكره على الإيلاج حينئذ فيولج في الأجنبية، فإن مثل ذلك ليس بمحال، ولو فعله مختارا لكان زانيا فتصور الإكراه على الزنا، واستدل به من قال لا يجوز التداوي بشيء محرم كالخمر، ولا دفع العطش به، ولا إساغة لقمة من غص به؛ والصحيح عند الشافعية جواز الثالث حفظا للنفس فصار كأكل الميتة لمن اضطر، بخلاف التداوي فإنه ثبت النهي عنه نصا، ففي مسلم عن وائل رفعه أنه ليس بدواء ولكنه داء، ولأبي داود عن أبي الدرداء رفعه: "ولا تداووا بحرام " وله عنه أم سلمة مرفوعا إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها، وأما العطش فإنه لا ينقطع بشربها ولأنه في معنى التداوي والله أعلم، والتحقيق أن الأمر باجتناب المنهي على عمومه ما لم يعارضه إذن في ارتكاب منهي كأكل الميتة للمضطر. وقال الفاكهاني لا يتصور امتثال اجتناب المنهي حتى يترك جميعه، فلو اجتنب بعضه لم يعد ممتثلا بخلاف الأمر - يعني المطلق - فإن من أتى بأقل ما يصدق عليه الاسم كان ممتثلا انتهى ملخصا. وقد أجاب هنا
(13/261)
ابن فرج بأن النهي يقتضي الأمر فلا يكون ممتثلا لمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدا من آحاد ما يتناوله النهي بخلاف الأمر فإنه على عكسه ومن ثم نشأ الخلاف، هل الأمر بالشيء نهي عن ضده، وبأن النهي عن الشيء أمر بضده. قوله: "وإذا أمرتكم بشيء" في رواية مسلم: "بأمر"، "فأتوا منه ما استطعتم" أي افعلوا قدر استطاعتكم، ووقع في رواية الزهري " وما أمرتكم به " وفي رواية همام المشار إليها " وإذا أمرتكم بالأمر فائتمروا ما استطعتم " وفي رواية محمد بن زياد " فافعلوا " قال النووي هذا من جوامع الكلم وقواعد الإسلام، ويدخل فيه كثير من الأحكام كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط فيأتي بالمقدور، وكذا الوضوء، وستر العورة، وحفظ بعض الفاتحة، وإخراج بعض زكاة الفطر لمن لم يقدر على الكل، والإمساك في رمضان لمن أفطر بالعذر ثم قدر في أثناء النهار إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها. وقال غيره فيه أن من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبر عنه بعض الفقهاء بأن الميسور لا يسقط بالمعسور، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة بالعجز عن غيره، وتصح توبة الأعمى عن النظر المحرم، والمجبوب عن الزنا، لأن الأعمى والمجبوب قادران على الندم فلا يسقط عنهما بعجزهما عن العزم على عدم العود، إذ لا يتصور منهما العود عادة فلا معنى للعزم على عدمه، واستدل به على أن من أمر بشيء فعجز عن بعضه ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه، وبذلك استدل المزني على أن " ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه " ومن ثم كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد، واستدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات، لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد فإن قيل إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا إذ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين، كذا قيل والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدل على المدعي من الاعتناء به؛ بل هو من جهة الكف إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف بل كل مكلف قادر على الترك، بخلاف الفعل فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثم قيد في الأمر بحسب الاستطاعة دون النهي، وعبر الطوفي في هذا الموضع بأن ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود، وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم المنهي عنه قد تتخلف، واستدل له بجواز أكل المضطر الميتة، وأجيب بأن النهي في هذا عارضه الإذن بالتناول في تلك الحالة. وقال ابن فرج في " شرح الأربعين " قوله: "فاجتنبوه " هو على إطلاقه حتى يوجد ما يبيحه، كأكل الميتة عند الضرورة وشرب الخمر عند الإكراه، والأصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان كما نطق به القرآن انتهى. والتحقيق أن المكلف في ذلك كله ليس منهيا في تلك الحال، وأجاب الماوردي بأن الكف عن المعاصي ترك وهو سهل، وعمل الطاعة فعل وهو يشق، فلذلك لم يبح ارتكاب المعصية ولو مع العذر لأنه ترك، والترك لا يعجز المعذور عنه؛ وأباح ترك العمل بالعذر لأن العمل قد يعجز المعذور عنه، وادعى بعضهم أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي وقد قيد بالاستطاعة واستويا، فحينئذ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار، وزعم بعضهم أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} نسخ بقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} والصحيح أن
(13/262)
لا نسخ بل المراد بحق تقاته امتثال أمره واجتناب نهيه مع القدرة لا مع العجز، واستدل به على أن المكروه يجب اجتنابه لعموم الأمر باجتناب المنهي عنه فشمل الواجب والمندوب، وأجيب بأن قوله: "فاجتنبوه " يعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين، ويجيء مثل هذا السؤال وجوابه في الجانب الآخر وهو الأمر. وقال الفاكهاني النهي يكون تارة مع المانع من النقيض وهو المحرم، وتارة لا معه وهو المكروه، وظاهر الحديث يتناولهما واستدل به على أن المباح ليس مأمورا به، لأن التأكيد في الفعل إنما يناسب الواجب والمندوب، وكذا عكسه، وأجيب بأن من قال المباح مأمور به لم يرد الأمر بمعنى الطلب وإنما أراد بالمعنى الأعم وهو الإذن، واستدل به على أن الأمر لا يقتضي التكرار ولا عدمه، وقيل يقتضيه وقيل يتوقف فيما زاد على مرة؛ وحديث الباب قد يتمسك به لذلك لما في سببه أن السائل قال في الحج أكل عام؟ فلو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لم يحسن السؤال ولا العناية بالجواب، وقد يقال إنما سأل استظهارا واحتياطا. وقال المازري يحتمل أن يقال إن التكرار إنما احتمل من جهة أن الحج في اللغة قصد فيه تكرار فاحتمل عند السائل التكرار من جهة اللغة لا من صيغة الأمر، وقد تمسك به من قال بإيجاب العمرة لأن الأمر بالحج إذا كان معناه تكرار قصد البيت بحكم اللغة والاشتقاق، وقد ثبت في الإجماع أن الحج لا يجب إلا مرة فيكون العود إليه مرة أخرى دالا على وجوب العمرة، واستدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في الأحكام لقوله: "ولو قلت نعم لوجبت " وأجاب من منع باحتمال أن يكون أوحي إليه ذلك في الحال، واستدل به على أن جميع الأشياء على الإباحة حتى يثبت المنع من قبل الشارع، واستدل به على النهي عن كثرة المسائل والتعمق في ذلك، قال البغوي في " شرح السنة " المسائل على وجهين أحدهما: ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمر الدين فهو جائز بل مأمور به لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} الآية، وعلى ذلك تتنزل أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما، ثانيهما: ما كان على وجه التعنت والتكلف وهو المراد في هذا الحديث والله أعلم، ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن ذلك وذم السلف، فعند أحمد من حديث معاوية " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات " قال الأوزاعي هي شداد المسائل. وقال الأوزاعي أيضا: "إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علما " وقال ابن وهب سمعت مالكا يقول: "المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل " وقال ابن العربي " كان النهي عن السؤال في العهد النبوي خشية أن ينزل ما يشق عليهم، فأما بعد فقد أمن ذلك لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع " قال: "وإنه لمكروه إن لم يكن حراما إلا للعلماء فإنهم فرعوا ومهدوا فنفع الله من بعدهم بذلك، ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم " انتهى ملخصا. وينبغي أن يكون محل الكراهة للعالم إذا شغله ذلك عما هو أعم منه، وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجردا عما يندر، ولا سيما في المختصرات ليسهل تناوله والله المستعان. وفي الحديث إشارة إلى الاشتغال بالأهم المحتاج إليه عاجلا عما لا يحتاج إليه في الحال فكأنه قال: عليكم بفعل الأوامر واجتناب النواهي فاجعلوا اشتغالكم بها عوضا عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع. فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله ثم يجتهد في تفهم ذلك والوقوف على المراد به. ثم يتشاغل بالعمل به فإن كان من العلميات يتشاغل بتصديقه واعتقاد حقيته، وإن كان من العمليات بذل وسعه في القيام به فعلا وتركا، فإن وجد وقتا زائدا على ذلك فلا بأس بأن يصرفه في الاشتغال بتعرف حكم ما سيقع على قصد العمل به أن لو وقع، فأما إن كانت الهمة مصروفة عند سماع
(13/263)
الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع مع الإعراض عن القيام بمقتضى ما سمع فإن هذا مما يدخل في النهي، فالتفقه في الدين إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدال. وسيأتي بسط ذلك قريبا إن شاء الله تعالى.
(13/264)
3 -
باب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ مَا لاَ يَعْنِيهِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى { لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ}
7290 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ
حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ
فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ
7291 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ يُحَدِّثُ عَنْ بُسْرِ بْنِ
سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ فَصَلَّى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا لَيَالِيَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ
نَاسٌ ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ فَجَعَلَ
بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ مَا زَالَ بِكُمْ الَّذِي
رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ كُتِبَ
عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ
فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ
الْمَكْتُوبَةَ
7291 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ
بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ
كَرِهَهَا فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ وَقَالَ سَلُونِي
فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ
ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي فَقَالَ أَبُوكَ
سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَضَبِ قَالَ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
7292 - حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ
عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ
اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا
مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنَّهُ
كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ
وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ وَوَأْدِ الْبَنَاتِ وَمَنْعٍ وَهَاتِ
7293 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ:
(13/264)
نُهِينَا
عَنْ التَّكَلُّفِ
7294 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنِي
مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ
أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ
فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ وَذَكَرَ أَنَّ
بَيْنَ يَدَيْهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ
شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ فَوَاللَّهِ لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ
أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا قَالَ أَنَسٌ فَأَكْثَرَ
النَّاسُ الْبُكَاءَ وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي فَقَالَ أَنَسٌ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ
أَيْنَ مَدْخَلِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ النَّارُ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حُذَافَةَ فَقَالَ مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ قَالَ
ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي سَلُونِي فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى
رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا
وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ ثُمَّ قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ
عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ وَأَنَا
أُصَلِّي فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ
7295 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ
عُبَادَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْتُ
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ
أَبُوكَ فُلاَنٌ وَنَزَلَتْ {َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ
أَشْيَاءَ} الْآيَةَ
7296 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا
وَرْقَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ
يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يَقُولُوا هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَمَنْ
خَلَقَ اللَّه؟
7297 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ
يُونُسَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ فَمَرَّ
بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ لاَ تَسْأَلُوهُ لاَ يُسْمِعُكُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقَامُوا إِلَيْهِ
فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنْ الرُّوحِ فَقَامَ سَاعَةً
يَنْظُرُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَتَأَخَّرْتُ عَنْهُ حَتَّى صَعِدَ
الْوَحْيُ ثُمَّ قَالَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي}
قوله: "باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى { لا
تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} كأنه يريد أن يستدل بالآية على المدعي من
الكراهة وهو مصير منه إلى ترجيح بعض ما جاء في تفسيرها، وقد
(13/265)
ذكرت الاختلاف في سبب نزولها في تفسير سورة المائدة، وترجيح ابن المنير أنه في كثرة المسائل عما كان وعما لم يكن، وصنيع البخاري يقتضيه، والأحاديث التي ساقها في الباب تؤيده، وقد اشتد إنكار جماعة من الفقهاء ذلك، منهم القاضي أبو بكر بن العربي فقال: اعتقد قوم من الغافلين منع السؤال عن النوازل إلى أن تقع تعلقا بهذه الآية وليس كذلك لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المسألة في جوابه، ومسائل النوازل ليست كذلك، انتهى. وهو كما قال لأن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول الوحي؛ ويؤيده حديث سعد الذي صدر به المصنف الباب: "من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته، فإن مثل ذلك قد أمن وقوعه " ويدخل في معنى حديث سعد ما أخرجه البزار وقال: سنده صالح وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء رفعه: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئا " ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وأخرج الدار قطني من حديث أبي ثعلبة رفعه: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " وله شاهد من حديث سلمان أخرجه الترمذي، وآخر من حديث ابن عباس أخرجه أبو داود وقد أخرج مسلم وأصله في البخاري كما تقدم في " كتاب العلم " من طريق ثابت عن أنس قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل الغافل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع، فذكر الحديث ومضى في قصة اللعان من حديث ابن عمر " فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها " ولمسلم عن النواس بن سمعان قال: أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: "ومراده أنه قدم وافدا فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجرا فيمتنع عليه السؤال، وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفودا كانوا أو غيرهم. وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال: لما نزلت: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية، كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم فأتينا أعرابيا فرشوناه بردا وقلنا سل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأبي يعلى عن البراء إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب - أي قدومهم - ليسألوا فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب فيستفيدوها، وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة، كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك، لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عما لم يقع، أخذوه بطريق الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لما كانت سببا للتكليف بما يشق فحقها أن تجتنب، وقد عقد الإمام الدارمي في أوائل مسنده لذلك بابا، وأورد فيه عن الجماعة من الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذلك، منها عن ابن عمر " لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن " وعن عمر " أحرج عليكم أن تسألوا عما لم يكن فإن لنا فيما كان شغلا " وعن زيد ابن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا فإن قيل لا، قال: دعوه حتى يكون، وعن أبي ابن كعب وعن عمار نحو ذلك. وأخرج أبو داود في المراسيل من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة مرفوعا، ومن
(13/266)
طريق طاوس عن معاذ رفعه: "لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد أو وفق، وإن عجلتم تشتت بكم السبل " وهما مرسلان يقوي بعض بعضا، ومن وجه ثالث عن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعا: "لا يزال في أمتي من إذا سئل سدد وأرشد حتى يتساءلوا عما لم ينزل " الحديث نحوه قال بعض الأئمة والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين، أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها فهذا مطلوب لا مكروه بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين، ثانيهما: أن يدقق النظر في وجوه الفروق فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلا فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه: "هلك المتنطعون " أخرجه مسلم فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع وهي نادرة الوقوع جدا، فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى ولا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه، وأشد من ذلك في كثرة السؤال، البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس، كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة، إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف. والكثير منه لم يثبت فيه شيء فيجب الإيمان به من غير بحث، وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة، وسيأتي مثال ذلك في حديث أبي هريرة رفعه: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله " وهو ثامن أحاديث هذا الباب. وقال بعض الشراح: مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع، بعد أن يفتى بالإذن أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق، هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟ فيجيبه بالجواز فإن عاد فقال أخشى أن يكون من نهب أو غصب، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة فيحتاج أن يجيبه بالمنع، ويقيد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز، وإذا تقرر ذلك فمن يسد باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها فإنه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة، فإنه يذم فعله وهو عين الذي كرهه السلف ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك مقتصرا على ما يصلح للحجة منها فإنه الذي يحمد وينتفع به، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم حتى حدثت الطائفة الثانية فعارضتها الطائفة الأولى، فكثر بينهم المراء والجدال وتولدت البغضاء وتسموا خصوما وهم من أهل دين واحد، والواسط هو المعتدل من كل شيء، وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي " فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " فإن الاختلاف يجر إلى عدم الانقياد وهذا كله من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم، وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنة والتشاغل به فقد وقع الكلام في أيهما أولى، والإنصاف أن يقال كلما زاد على ما هو في حق المكلف فرض عين فالناس فيه على قسمين من وجد في نفسه قوة على الفهم والتحرير فتشاغله بذلك أولى من إعراضه عنه وتشاغله بالعبادة لما فيه من النفع
(13/267)
المتعدي، ومن وجد في نفسه قصورا فإقباله على العبادة أولى لعسر اجتماع الأمرين، فإن الأول لو ترك العلم لأوشك أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه، والثاني لو أقبل على العلم وترك العبادة فاته الأمران لعدم حصول الأول له وإعراضه به عن الثاني والله الموفق. ثم المذكور في الباب تسعة أحاديث: بعضها يتعلق بكثرة المسائل، وبعضها يتعلق بتكليف ما لا يعني السائل، وبعضها بسبب نزول الآية. قوله: "حدثنا سعيد" هو ابن أبي أيوب كذا وقع من وجهين آخرين عند الإسماعيلي، و " أبي نعيم " وهو الخزاعي المصري يكنى أبا يحيى، واسم أبي أيوب مقلاص بكسر الميم وسكون القاف وآخره مهملة كان سعيد ثقة ثبتا. وقال ابن يونس كان فقيها، ونقل عن ابن وهب أنه قال فيه كان فهما. قلت: وروايته عن عقيل وهو ابن خالد تدخل في رواية الأقران فإنه من طبقته، وقد أخرج مسلم هذا الحديث من رواية معمر ويونس وابن عيينة وإبراهيم بن سعد كلهم عن ابن شهاب، وساقه على لفظ إبراهيم بن سعد ثم ابن عيينة. قوله: "عن أبيه" في رواية يونس أنه سمع سعدا. قوله: "إن أعظم المسلمين جرما" زاد في رواية مسلم: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما " قال الطيبي فيه من المبالغة أنه جعله عظيما ثم فسره بقوله: "جرما " ليدل على أنه نفسه جرم، قال وقوله: "في المسلمين " أي في حقهم. قوله: "عن شيء" في رواية سفيان " أمر". قوله: "لم يحرم" زاد مسلم على الناس وله في رواية إبراهيم بن سعد، لم يحرم على المسلمين، وله في رواية معمر " رجل سأل عن شيء ونقر عنه " وهو بفتح النون وتشديد القاف بعدها راء أي بالغ في البحث عنه والاستقصاء. قوله: "فحرم" بضم أوله وتشديد الراء، وزاد مسلم: "عليهم " وله من رواية سفيان " على الناس " وأخرج البزار من وجه آخر عن سعد بن أبي وقاص، قال: كان الناس يتساءلون عن الشيء من الأمر فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم وهو حلال فلا يزالون يسألونه عنه حتى يحرم عليهم، قال ابن بطال: عن المهلب ظاهر الحديث يتمسك به القدرية في أن الله يفعل شيئا من أجل شيء وليس كذلك، بل هو على كل شيء قدير؛ فهو فاعل السبب والمسبب كل ذلك بتقديره، ولكن الحديث محمول على التحذير مما ذكر، فعظم جرم من فعل ذلك لكثرة الكارهين لفعله وقال غيره أهل السنة لا ينكرون إمكان التعليل وإنما ينكرون وجوبه، فلا يمتنع أن يكون المقدر الشيء الفلاني تتعلق به الحرمة إن سئل عنه فقد سبق القضاء بذلك لا أن السؤال علة للتحريم. وقال ابن التين: قيل الجرم اللاحق به إلحاق المسلمين المضرة لسؤاله وهي منعهم التصرف فيما كان حلالا قبل مسألته. وقال عياض المراد بالجرم هنا الحدث على المسلمين لا الذي هو بمعنى الإثم المعاقب عليه، لأن السؤال كان مباحا، ولهذا قال: سلوني، وتعقبه النووي فقال هذا الجواب ضعيف بل باطل، والصواب الذي قاله الخطابي والتيمي وغيرهما أن المراد بالجرم الإثم والذنب وحملوه على من سأل تكلفا وتعنتا فيما لا حاجة له به إليه، وسبب تخصيصه ثبوت الأمر بالسؤال عما يحتاج إليه لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} فمن سأل عن نازلة وقعت له لضرورته إليها فهو معذور فلا إثم عليه ولا عتب، فكل من الأمر بالسؤال والزجر عنه مخصوص بجهة غير الأخرى، قال: ويؤخذ منه أن من عمل شيئا أضر به غيره كان آثما، وسبك منه الكرماني سؤالا وجوابا، فقال: السؤال ليس بجريمة، ولئن كانت فليس بكبيرة، ولئن كانت فليس بأكبر الكبائر. وجوابه أن السؤال عن الشيء بحيث يصير سببا لتحريم شيء مباح هو أعظم الجرم، لأنه صار سببا لتضييق الأمر على جميع المكلفين، فالقتل مثلا كبيرة، ولكن مضرته راجعة إلى المقتول وحده، أو إلى من هو منه بسبيل، بخلاف صورة المسألة
(13/268)
فضررها عام للجميع، وتلقى هذا الأخير من الطيبي استدلالا وتمثيلا، وينبغي أن يضاف إليه أن السؤال المذكور إنما صار كذلك بعد ثبوت النهي عنه. فالإقدام عليه حرام فيترتب عليه الإثم ويتعدى ضرره بعظم الإثم والله أعلم. ويؤيد ما ذهب إليه الجماعة من تأويل الحديث المذكور ما أخرجه الطبري من طريق محمد بن زياد " عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن الحج أفي كل عام؟ لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ثم تركتم لضللتم " وله من طريق أبي عياض عن أبي هريرة " ولو تركتموه لكفرتم " وبسند حسن عن أبي أمامة مثله، وأصله في مسلم عن أبي هريرة بدون الزيادة، وإطلاق الكفر إما على من جحد الوجوب فهو على ظاهره، وإما على من ترك مع الإقرار فهو على سبيل الزجر والتغليظ، ويستفاد منه عظم الذنب بحيث يجوز وصف من كان السبب في وقوعه بأنه وقع في أعظم الذنوب، كما تقدم تقريره والله أعلم. وفي الحديث أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الشرع بخلاف ذلك. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن منصور لقوله حدثنا عفان؛ وإسحاق بن راهويه إنما يقول: "أنا " ولأن أبا نعيم أخرجه من طريق أبي خيثمة عن عفان، ولو كان في مسند إسحاق لما عدل عنه. قوله: "اتخذ حجرة" بالراء للأكثر وللمستملي بالزاي وهما بمعنى. قوله: "من صنيعكم" في رواية السرخسي " صنعكم " بضم أوله وسكون النون وهما بمعنى، وقد تقدم بعض من شرح هذا الحديث في الباب الذي قبل باب إيجاب التكبير، فذكر " أبواب صفة الصلاة " وساقه هناك عن عبد الأعلى عن وهيب، وتقدمت سائر فوائده في شرح حديث عائشة في معناه في " باب ترك قيام الليل " من أبواب التهجد ولله الحمد، والذي يتعلق بهذه الترجمة من هذا الحديث ما يفهم من إنكاره صلى الله عليه وسلم ما صنعوا من تكلف ما لم يأذن لهم فيه من التجميع في المسجد في صلاة الليل. حديث أبي موسى قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها فلما أكثروا عليه المسألة غضب " عرف من هذه الأسئلة ما تقدم في تفسير المائدة في بيان المسائل المرادة بقوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء} ومنها سؤال من سأل " أين ناقتي " وسؤال من سأل عن البحيرة والسائبة، وسؤال من سأل عن وقت الساعة وسؤال من سأل عن الحج أيجب كل عام وسؤال من سأل أن يحول الصفا ذهبا وقد وقع في حديث أنس من رواية هشام وغيره عن قتادة عنه في الدعوات وفي الفتن: سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، ومعنى أحفوه وهو بالمهملة والفاء: أكثروا عليه حتى جعلوه كالحافي، يقال أحفاه في السؤال إذا ألح عليه. قوله: "وقال سلوني" في حديث أنس المذكور فصعد المنبر فقال: "لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم " وفي رواية سعيد بن بشير عن قتادة عند أبي حاتم، فخرج ذات يوم حتى صعد المنبر " وبين في رواية الزهري المذكورة في هذا الباب وقت وقوع ذلك وأنه بعد أن صلى الظهر، ولفظه: "خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر فلما سلم قام على المنبر فذكر الساعة ثم قال من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه فذكر نحوه". قوله: "فقام رجل فقال: يا رسول الله من أبي" بين في حديث أنس من رواية الزهري اسمه. وفي رواية قتادة سبب سؤاله، قال: فقام رجل كان إذا لاحى - أي خاصم - دعي إلى غير أبيه، وذكرت اسم السائل الثاني، وأنه سعد وإني نقلته من ترجمة سهيل بن أبي صالح من تمهيد ابن عبد البر وزاد في رواية الزهري الآتية بعد حديثين، فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال النار، ولم أقف على اسم هذا الرجل في شيء من الطرق، كأنهم أبهموه عمدا للستر عليه وللطبراني من حديث أبي فراس الأسلمي نحوه وزاد: "وسأله رجل في الجنة أنا؟ قال في الجنة " ولم أقف على اسم هذا الآخر، ونقل ابن
(13/269)
عبد البر عن رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته، لا يسألني أحد عن شيء إلا أخبرته، ولو سألني عن أبيه، فقام عبد الله بن حذافة وذكر فيه عتاب أمه له وجوابه. وذكر فيه: "فقام رحل فسأل عن الحج " فذكره وفيه فقام سعد مولى شيبة فقال: من أنا يا رسول الله؟ قال أنت سعد بن سالم مولى شيبة، وفيه فقام رجل من بني أسد فقال: أين أنا؟ قال في النار. فذكر قصة عمر قال: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية " ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال وكثرة السؤال " وبهذه الزيادة يتضح أن هذه القصة سبب نزول {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فإن المساءة في حق هذا جاءت صريحة، بخلافها في حق عبد الله بن حذافة فإنها بطريق الجواز، أي لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه فبين أباه الحقيقي لافتضحت أمه، كما صرحت بذلك أمه حين عاتبته على هذا السؤال كما تقدم في " كتاب الفتن". قوله: "فلما رأى عمر ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغضب" بين في حديث أنس أن الصحابة كلهم فهموا ذلك، ففي رواية هشام " فإذا كل رجل لافا رأسه في ثوبه يبكي " وزاد في رواية سعيد ابن بشير " وظنوا أن ذلك بين يدي أمر قد حضر " وفي رواية موسى بن أنس عن أنس الماضية في تفسير المائدة " فغضوا رءوسهم لهم حنين " زاد مسلم من هذا الوجه " فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كان أشد منه". قوله: "فقال: إنا نتوب إلى الله عز وجل" زاد في رواية الزهري " فبرك عمر على ركبته فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا " وفي رواية قتادة من الزيادة " نعوذ بالله من شر الفتن " وفي مرسل السدي عند الطبري في نحو هذه القصة " فقام إليه عمر فقبل رجله وقال: رضينا بالله ربا". فذكر مثله وزاد: "وبالقرآن إماما، فاعف عفا الله عنك فلم يزل به حتى رضي " وفي هذا الحديث غير ما يتعلق بالترجمة، مراقبة الصحابة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وشدة إشفاقهم إذا غضب، خشية أن يكون لأمر يعم فيعمهم، وإدلال عمر عليه، وجواز تقبيل رجل الرجل، وجواز الغضب في الموعظة، وبروك الطالب بين يدي من يستفيد منه، وكذا التابع بين يدي المتبوع إذا سأله في حاجة، ومشروعية التعوذ من الفتن عند وجود شيء قد يظهر منه قرينة وقوعها، واستعمال المزاوجة في الدعاء في قوله: "اعف عفا الله عنك " وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم معفو عنه قبل ذلك. قال ابن عبد البر سئل مالك عن معنى النهي عن كثرة السؤال، فقال ما أدري أنهى عن الذي أنتم فيه من السؤال عن النوازل، أو عن مسألة الناس المال، قال ابن عبد البر: الظاهر الأول، وأما الثاني فلا معنى للتفرقة بين كثرته وقلته لا حيث يجوز ولا حيث لا يجوز قال: وقيل كانوا يسألون عن الشيء ويلحون فيه إلى أن يحرم، قال: وأكثر العلماء على أن المراد كثرة السؤال عن النوازل والأغلوطات والتوليدات كذا قال: وقد تقدم الإلمام بشيء من ذلك في " كتاب العلم". وله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل و " عبد الملك " هو ابن عمير. قوله: "وكتب إليه" هو معطوف على قوله: "فكتب إليه " وهو موصول بالسند المذكور، وقد أفرد كثير من الرواة أحد الحديثين عن الآخر، والغرض من إيراده هنا أنه كان ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال، وقد تقدم البحث في المراد بكثرة السؤال في " كتاب الرقاق " هل هو خاص بالمال أو بالأحكام أو لأعم من ذلك والأولى حمله على العموم لكن فيما ليس للسائل به احتياج كما تقدم ذكره، وتقدم شرح الحديث الأول في الدعوات، والثاني في الرقاق. قوله: "عن أنس كنا عند عمر فقال: نهينا عن التكلف" هكذا أورده مختصرا. وذكر الحميدي أنه جاء في رواية أخرى عن ثابت عن أنس أن عمر قرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فقال: ما الأب؟ ثم قال ما كلفنا أو قال ما أمرنا بهذا.
(13/270)
بهذا.قلت: هو عند الإسماعيلي من رواية هشام عن ثابت وأخرجه من طريق يونس ابن عبيد عن ثابت بلفظ: "أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله: {َفَاكِهَةً وَأَبّاً} ما الأب؟ فقال عمر: نهينا عن التعمق والتكلف " وهذا أولى أن يكمل به الحديث الذي أخرجه البخاري، وأولى منه ما أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق أبي مسلم الكجي عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه، ولفظه عن أنس: "كنا عند عمر وعليه قميص في ظهره أربع رقاع، فقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم قال: مه نهينا عن التكلف " وقد أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن سليمان بن حرب بهذا السند مثله سواء، وأخرجه أيضا عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة بدل حماد بن زيد. وقال بعد قوله فما الأب، ثم قال: يا ابن أم عمر إن هذا لهو التكلف وما عليك أن لا تدرى ما الأب. وسليمان بن حرب سمع من الحمادين لكنه اختص بحماد بن زيد فإذا أطلق قوله حدثنا حماد فهو ابن زيد وإذا روى عن حماد بن سلمة نسبه. وأخرج عبد بن حميد أيضا من طريق صالح بن كيسان عن الزهري عن أنس أنه أخبره أنه سمع عمر يقول: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً} الآية، إلى قوله وأبا قال كل هذا قد عرفناه فما الأب؟ ثم رمى عصا كانت في يده ثم قال: هذا لعمر الله التكلف " اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب " وأخرجه الطبري من وجهين آخرين عن الزهري وقال في آخره: "اتبعوا ما بين لكم في الكتاب " وفي لفظ: "ما بين لكم فعليكم به ومالا فدعوه " وأخرج عبد بن حميد أيضا من طريق إبراهيم النخعي عن عبد الرحمن بن زيد " أن رجلا سأل عمر عن فاكهة وأبا فلما رآهم عمر يقولون أقبل عليهم بالدرة " ومن وجه آخر عن إبراهيم النخعي قال: "قرأ أبو بكر الصديق وفاكهة وأبا فقيل ما الأب؟ فقيل كذا وكذا فقال أبو بكر إن هذا لهو التكلف، أي أرض تقلني أو أي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله بما لا أعلم " وهذا منقطع بين النخعي والصديق وأخرج أيضا من طريق إبراهيم التيمي " أن أبا بكر سئل عن الأب ما هو فقال: أي سماء تظلني " فذكر مثله، وهو منقطع أيضا لكن أحدهما يقوي الآخر وأخرج الحاكم في تفسير آل عمران من المستدرك من طريق حميد عن أنس قال: قرأ عمر " وفاكهة وأبا " فقال بعضهم كذا وقال بعضهم كذا فقال عمر: دعونا من هذا آمنا به كل من عند ربنا. وأخرج الطبري من طريق موسى ابن أنس نحوه ومن طريق معاوية بن قرة ومن طريق قتادة كلاهما عن أنس كذلك وقد جاء أن ابن عباس فسر " الأب " عند عمر فأخرج عبد بن حميد أيضا من طريق سعيد بن جبير قال: كان عمر يدنى ابن عباس فذكر نحو القصة الماضية في تفسير {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} وفي آخرها وقال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً} إلى قوله: {وَأَبّاً} قال: فالسبعة رزق لبني آدم " والأب ما تأكل الأنعام " ولم يذكر أن عمر أنكر عليه ذلك وأخرج الطبري بسند صحيح عن عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس قال: "الأب ما تنبته الأرض مما تأكله الدواب، ولا يأكله الناس " وأخرج عن عدة من التابعين نحو، ثم أخرج من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس بسند صحيح قال: "الأب الثمار الرطبة " وهذا أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ: {وفاكهة وأبا } قال: الثمار الرطبة، وكأنه سقط منه واليابسة، فقد أخرج أيضا من طريق عكرمة عن ابن عباس بسند حسن " الأب الحشيش للبهائم " وفيه قول آخر أخرجاه من طريق عطاء قال: كل شيء ينبت على وجه الأرض فهو أب، فعلى هذا فهو من العام بعد الخاص، ومن طريق الضحاك قال: الأب كل شيء أنبتت الأرض سوى الفاكهة، وهذا أعم من الأول، وذكر بعض أهل اللغة أن الأب مطلق المرعى، واستشهد بقول الشاعر:
(13/271)
له
دعوة ميمونة ريحها الصبا ... بها ينبت الله الحصيدة والأبا
وقيل الأب " يابس الفاكهة " وقيل إنه ليس بعربي، ويؤيده خفاؤه على مثل
أبي بكر وعمر. "تنبيه": في إخراج البخاري هذا الحديث في آخر الباب مصير
منه إلى أن قول الصحابي " أمرنا ونهينا " في حكم المرفوع ولو لم يضفه
إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم اقتصر على قوله: "نهينا عن التكلف
" وحذف القصة. حديث أنس وهو في معنى الحديث الرابع، وقد مضى شرحه أورده من
وجهين عن الزهري وساقه هنا على لفظ معمر، وفي باب وقت الظهر من " كتاب الصلاة
" بلفظ شعيب وهما متقاربان، ووقع هنا " فأكثر الأنصار البكاء " في
رواية الكشميهني. وفي رواية غيره: "فأكثر الناس " وهي الصواب، وكذا وقع
في رواية معمر وغيره ووقع هنا " فذكر الساعة وذكر أن بين يديها أمورا عظاما
" وفي رواية شعيب، وذكر أن فيها أمورا عظاما وزاد هنا " فقام رجل فقال:
أين مدخلي " إلخ، ووقع هنا " وبمحمد رسولا " وفي رواية شعيب "
ومحمد نبيا " ووقع هنا " فسكت حين قال ذلك عمر ثم قال النبي صلى الله
عليه وسلم: أولى " وسقط هذا كله من رواية شعيب قال المبرد: يقال للرجل إذا
أفلت من معضلة أولى لك، أي كدت تهلك. وقال غيره هي بمعنى التهديد والوعيد. حديث
أنس أيضا من رواية ابنه موسى عنه وأورده مختصرا وقد تقدم ما فيه. قوله:
"ورقاء" بقاف ممدود هو ابن عمر اليشكري وشيخه "