مجلد 6 من فتح
الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
26 - باب إِذَا
لَمْ يُتِمَّ السُّجُودَ
398- أخبرنا الصلت بن محمد أخبرنا مهدي عن واصل عن أبي وائل عن حذيفة رأى رجلا لايتم
ركوعه ولاسجوده, فلما قضى صلاته قال له حذيفة: "ماصليت. قال:وأحسبه قال لو مت
مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم"
[الحديث 389- طرفاه في: 808,7914]
قوله: "باب إذا لم يتم للسجود" كذا وقع عند أكثر الرواة هذه الترجمة
وحديث حذيفة فيها والترجمة التي بعدها وحديث ابن بحينة فيها موصولا ومعلقا، ووقعتا
عند الأصيلي قبل " باب الصلاة في النعال " ولم يقع عند المستملي شيء من
ذلك وهو الصواب، لأن جميع ذلك سيأتي في مكانه اللائق به، وهو أبواب صفة الصلاة.
ولولا أنه ليس من عادة المصنف إعادة الترجمة وحديثها معا لكان يمكن أن يقال مناسبة
الترجمة الأولى لأبواب ستر العورة الإشارة إلى أن من ترك شرطا لا تصح صلاته كمن
ترك ركنا. ومناسبة الترجمة الثانية الإشارة إلى أن المجافاة في السجود لا تستلزم
عدم ستر العورة فلا تكون مبطلة للصلاة، وفي الجملة إعادة هاتين الترجمتين هنا وفي
أبواب السجود الحمل فيه عندي على النساخ بدليل سلامة رواية المستملي من ذلك وهو
أحفظهم.
(1/495)
27 - باب يُبْدِي
ضَبْعَيْهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُودِ
390- أخبرنا يحيى بن بكير حدثنا بكر بن مضر عن جعفر عن بن هرمز عن عبد الله بن
مالك بن حبينة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى فرج بين يديه حتى
يبدو بياض إبطيه"
وقال الليث: "حدثني خعفر بن ربيعة نحوه"
[الحديث 390- طرفاه في:3564,807]
قوله: "باب يبدي ضبعيه الخ" تقدم القول فيه قبل كما ترى.
"خاتمة" اشتملت أبواب ستر العورة وما قبلها من ذكر ابتداء فرض الصلاة من
الأحاديث المرفوعة على تسعة وثلاثين حديثا، فإن أضفت إليها حديثي الترجمتين
المذكورتين صارت أحدا وأربعين حديثا، المكرر منها فيها وفيما تقدم خمسة عشر حديثا،
وفيها من المعلقات أربعة عشر حديثا، وإن أضفت إليها المعلق في الترجمة الثانية
صارت خمسة عشر حديثا، عشرة منها أو أحد عشر مكررة، وأربعة لا توجد فيه إلا معلقة
وهي حديث سلمة بن الأكوع يزره ولو بشوكة، وأحاديث ابن عباس وجرهد وابن جحش في
الفخذ، وافقه مسلم على جميعها سوى هذه الأربعة وسوى حديث أنس في قرام لعائشة وحديث
عكرمة عن أبي هريرة في الأمر بمخالفة طرفي الثوب، وفيه من الآثار الموقوفة أحد عشر
أثرا كلها معلقة إلا أثر عمر " إذا وسع الله عليكم فوسعوا على أنفسكم "
فإنه موصول.
(1/496)
28 - باب فَضْلِ
اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ قَالَ أَبُو
حُمَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب فضل استقبال القبلة.
391- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمَهْدِيِّ قَالَ
حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا
وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي
لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي
ذِمَّتِهِ"
[الحديث 391- طرفاه في:393,392]
يستقبل بأطراف رجليه القبلة - قاله أبو حميد" يعني الساعدي عن النبي صلى الله
عليه وسلم يعني في صفة صلاته كما سيأتي بعد موصولا من حديثه، والمراد بأطراف رجليه
رءوس أصابعها، وأراد بذكره هنا بيان مشروعية الاستقبال بجميع ما يمكن من الأعضاء.
قوله: "حدثنا عمرو بن عباس" بالموحدة ثم المهملة، وميمون بن سياه بكسر المهملة
وتخفيف التحتانية ثم هاء منونة ويجوز ترك صرفه، وهو فارسي معرب معناه الأسود، وقيل
عربي. قوله: "ذمة الله" أي أمانته وعهده. قوله: "فلا تخفروا"
بالضم من الرباعي، أي لا تغدروا، يقال أخفرت إذا غدرت، وخفرت إذا حميت، ويقال إن
الهمزة في أخفرت للإزالة، أي تركت حمايته. قوله: "فلا تخفروا الله في
ذمته" أي ولا رسوله، وحذف لدلالة السياق عليه، أو لاستلزام المذكور المحذوف،
وقد أخذ بمفهومه من ذهب إلى قتل تارك الصلاة، وله موضع غير هذا. وفي الحديث تعظيم
شأن القبلة، وذكر الاستقبال بعد الصلاة للتنويه به، وإلا فهو داخل في الصلاة لكونه
من
(1/496)
شروطها. وفيه أن
أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم
يظهر منه خلاف ذلك.
392- حَدَّثَنَا نُعَيْمٌ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حُمَيْدٍ
الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا
وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ
إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" قوله: "حدثنا
نعيم" هو ابن حماد الخزاعي، ووقع في رواية حماد بن شاكر عن البخاري "
قال نعيم ابن حماد " وفي رواية كريمة والأصيلي: "قال ابن المبارك "
بغير ذكر نعيم، وبذلك جزم أبو نعيم في المستخرج، وقد وقع لنا من طريق نعيم موصولا
في سنن الدارقطني، وتابعه حماد بن موسى وسعيد بن يعقوب وغيرهما عن ابن المبارك.
قوله: "حتى يقولوا لا إله إلا الله" اقتصر عليها ولم يذكر الرسالة وهي
مرادة كما تقول قرأت الحمد وتريد السورة كلها، وقيل أول الحديث ورد في حق من جحد
التوحيد فإذا أقر به صار كالموحد من أهل الكتاب يحتاج إلى الإيمان بما جاء به
الرسول، فلهذا عطف الأفعال المذكورة عليها فقال: "وصلوا صلاتنا الخ "
والصلاة الشرعية متضمنة للشهادة بالرسالة، وحكمة الاقتصار على ما ذكر من الأفعال
أن من يقر بالتوحيد من أهل الكتاب وإن صلوا واستقبلوا وذبحوا لكنهم لا يصلون مثل
صلاتنا ولا يستقبلون قبلتنا، ومنهم من يذبح لغير الله، ومنهم من لا يأكل ذبيحتنا،
ولهذا قال في الرواية الأخرى " وأكل ذبيحتنا " والاطلاع على حال المرء
في صلاته وأكله يمكن بسرعة في أول يوم، بخلاف غير ذلك من أمور الدين. قوله:
"فقد حرمت" فتح أوله وضم الراء، ولم أره في شيء من الروايات بالتشديد،
وقد تقدمت سائر مباحثه في " باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة " من كتاب
الإيمان.
393- قَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا
حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ
حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ سَأَلَ مَيْمُونُ بْنُ سِيَاهٍ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ
قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ مَا يُحَرِّمُ دَمَ الْعَبْدِ وَمَالَهُ فَقَالَ
"مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا
وَصَلَّى صَلاَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ مَا
لِلْمُسْلِمِ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ"
قوله: "وقال علي بن عبد الله" و ابن المديني، وفائدة إيراد هذا الإسناد
تقوية رواية ميمون بن سياه لمتابعة حميد له. قوله: "وما يحرم" بالتشديد
هو معطوف على شيء محذوف، كأنه سأل عن شيء قبل هذا وعن هذا، والواو استئنافية وسقطت
من رواية الأصيلي وكريمة، ولما لم يكن في قول حميد " سأل ميمون أنسا "
التصريح بكونه حضر ذلك عقبه بطريق يحيى بن أيوب التي فيها تصريح حميد بأن أنسا
حدثهم لئلا يظن أنه دلسه، ولتصريحه أيضا بالرفع، وإن كان للأخرى حكمة. وقد روينا
طريق يحيى بن أيوب موصولة في الإيمان لمحمد بن نصر ولابن منده وغيرهما من طريق ابن
أبي مريم المذكور. وأعل الإسماعيلي طريق حميد المذكورة فقال: الحديث حديث ميمون،
وحميد إنما سمعه منه، واستدل على ذلك برواية معاذ بن معاذ عن حميد عن ميمون قال:
سألت أنسا، قال
(1/497)
وحديث يحيى بن أيوب لا يحتج به - يعني في التصريح بالتحديث - قال: لأن عادة المصريين والشاميين ذكر الخبر فيما يروونه. قلت هذا التعليل مردود، ولو فتح هذا الباب، لم يوثق برواية مدلس أصلا ولو صرح بالسماع، والعمل على خلافه. ورواية معاذ لا دليل فيها على أن حميدا لم يسمعه من أنس لأنه لا مانع أن يسمعه من أنس ثم يستثبت فيه من ميمون - لعلمه بأنه كان السائل عن ذلك - فكان حقيقا بضبطه فكان حميد تارة يحدث به عن أنس لأجل العلو، وتارة عن ميمون لكونه ثبته فيه، وقد جرت عادة حميد بهذا يقول: "حدثني أنس وثبتني فيه ثابت " وكذا وقع لغير حميد.
(1/498)
29 - باب قِبْلَةِ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّأْمِ وَالْمَشْرِقِ لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ
وَلاَ فِي الْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لاَ تَسْتَقْبِلُوا
الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا"
394- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ
حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي
أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ "إِذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ
تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا " قَالَ أَبُو أَيُّوبَ
فَقَدِمْنَا الشَّأْمَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ
فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءٍ
قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِثْلَهُ
قوله: "باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق" نقل عياض أن رواية
الأكثر ضم قاف المشرق فيكون معطوفا على باب، ويحتاج إلى تقدير محذوف، والذي في
روايتنا بالخفض، ووجه السهيلي رواية الضم بأن الحامل على ذلك كون حكم المشرق في
القبلة مخالفا لحكم المدينة، بخلاف الشام فإنه موافق. وأجاب ابن رشيد بأن المراد
بيان حكم القبلة من حيث هو سواء توافقت البلاد أم اختلفت. قوله: "ليس في
المشرق ولا في المغرب قبلة" هذه جملة مستأنفة من تفقه المصنف، وقد نوزع في
ذلك لأنه يحمل الأمر في قوله: "شرقوا أو غربوا " على عمومه، وإنما هو
مخصوص بالمخاطبين وهم أهل المدينة، ويلحق بهم من كان على مثل سمتهم ممن إذا استقبل
المشرق أو المغرب لم يستقبل القبلة ولم يستدبرها، أما من كان في المشرق فقبلته في
جهة المغرب وكذلك عكسه، وهذا معقول لا يخفى مثله على البخاري فيتعين تأويل كلامه
بأن يكون مراده: ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة، أي لأهل المدينة والشام، ولعل
هذا هو السر في تخصيصه المدينة والشام بالذكر. وقال ابن بطال: لم يذكر البخاري
مغرب الأرض اكتفاء بذكر المشرق، إذ العلة مشتركة، ولأن المشرق أكثر الأرض
المعمورة، ولأن بلاد الإسلام في جهة مغرب الشمس قليلة. انتهى. قوله: "وعن
الزهري" يعني بالإسناد المذكور، والمراد أن سفيان حدث به عليا مرتين: مرة صرح
بتحديث الزهري له وفيه عنعنة عطاء، ومرة أتى بالعنعنة عن الزهري وبتصريح عطاء
بالسماع. وادعى بعضهم أن الرواية الثانية معلقة، وليس كذلك على ما قررته. وقال
الكرماني: قال في الأول عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني سمعت
أبا أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الثاني أقوى لأن السماع أقوى من
العنعنة والعنعنة أقوى من " أن " لكن فيه ضعف من جهة التعليق حيث قال:
"وعن الزهري " انتهى، وفي دعواه ضعف " أن " بالنسبة إلي
" عن " نظر، فكأنه قلد في ذلك نقل ابن الصلاح عن أحمد ويعقوب بن شيبة،
وقد بين شيخنا في شرحه منظومته وهم
(1/498)
ابن الصلاح في ذلك وأن حكمهما واحد، إلا أنه يستثنى من التعبير بأن ما إذا أضاف إليها قصة ما أدركها الراوي، وأما جزمه بكون السند الثاني معلقا فهو بحسب الظاهر وإلا فحمله على ما قبله ممكن، وقد رويناها في مسند إسحاق بن راهويه قال: حدثنا سفيان. فذكر مثل سياقها سواء، فعلى هذا فلا ضعف فيه أصلا. والله أعلم. وقد تقدمت فوائد المتن في أوائل كتاب الطهارة.
(1/499)
30 - باب قَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [125 البقرة]
395- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ طَافَ
بِالْبَيْتِ الْعُمْرَةَ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيَأْتِي
امْرَأَتَهُ فَقَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ
بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَطَافَ بَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ
[الحديث495- أطرافه في: 1793,1647,1645,1627,1623]
396- وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لاَ يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى
يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
[الحدبث أطرافه في:1794,1646,1624]
قوله: "باب قوله تعالى :{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}
وقع في روايتنا " واتخذوا " بكسر الخاء على الأمر وهي إحدى القراءتين،
والأخرى بالفتح على الخبر، والأمر دال على الوجوب، لكن انعقد الإجماع على جواز
الصلاة إلى جميع جهات الكعبة فدل على عدم التخصيص، وهذا بناء على أن المراد بمقام
إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه وهو موجود إلى الآن. وقال مجاهد: المراد بمقام
إبراهيم الحرم كله، والأول أصح، وقد ثبت دليله عند مسلم من حديث جابر، وسيأتي عند
المصنف أيضا. قوله: "مصلى" أي قبلة قاله الحسن البصري وغيره، وبه يتم
الاستدلال. وقال مجاهد: أي مدعى يدعي عنده، ولا يصح حمله على مكان الصلاة لأنه لا
يصلي فيه بل عنده، ويترجح قول الحسن بأنه جار على المعنى الشرعي، واستدل المصنف
على عدم التخصيص أيضا بصلاته صلى الله عليه وسلم داخل الكعبة، فلو تعين استقبال
المقام لما صحت هناك لأنه كان حينئذ غير مستقبله، وهذا هو السر في إيراد حديث ابن
عمر عن بلال في هذا الباب، وقد روى الأزرقي في " أخبار مكة " بأسانيد
صحيحة أن المقام كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الموضع
الذي هو فيه الآن، حتى جاء سيل في خلافة عمر فاحتمله حتى وجد بأسفل مكة، فأتى به
فربط إلى أستار الكعبة حتى قدم عمر فاستثبت في أمره حتى تحقق موضعه الأول فأعاده
إليه وبنى حوله فاستقر ثم إلى الآن. قوله: "طاف بالبيت للعمرة" كذا
للأكثر، وللمستملي والحموي " طاف بالبيت لعمرة " بحذف اللام من قوله:
"للعمرة " ولا بد من تقديرها ليصح الكلام. قوله: "أيأتي
امرأته" أي هل حل من إحرامه حتى يجوز له الجماع وغيره من محرمات الإحرام؟ وخص
إتيان المرأة بالذكر لأنه أعظم المحرمات في الإحرام، وأجابهم ابن عمر بالإشارة إلى
وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما في أمر المناسك، لقوله صلى الله عليه
وسلم: "خذوا عني مناسككم " وأجابهم جابر بصريح النهي، وعليه أكثر
الفقهاء، وخالف فيه ابن عباس فأجاز للمعتمر التحلل بعد الطواف وقبل السعي، وسيأتي
بسط ذلك في موضعه من كتاب الحج إن شاء الله تعالى. والمناسب للترجمة من هذا الحديث
قوله: "وصلى خلف المقام ركعتين "
(1/499)
وقد يشعر بحمل
الأمر في قوله: "واتخذوا " على تخصيص ذلك بركعتي الطواف، وقد ذهب جماعة
إلى وجوب ذلك خلف المقام كما سيأتي في مكانه في الحج إن شاء الله تعالى.
397- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سَيْفٍ يَعْنِي ابْنَ
سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا قَالَ: "أُتِيَ ابْنُ عُمَرَ فَقِيلَ
لَهُ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فَأَقْبَلْتُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ وَأَجِدُ بِلاَلًا قَائِمًا بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَسَأَلْتُ
بِلاَلًا فَقُلْتُ أَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْكَعْبَةِ قَالَ "نَعَمْ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ
عَلَى يَسَارِهِ إِذَا دَخَلْتَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ
رَكْعَتَيْنِ"
[الحديث397- أطرافه في: 4400,4289,2988,1599,1598,1167,506,505,504,468]
قوله: "عن سيف" هو ابن سليمان أو ابن أبي سليمان المكي. قوله: "أتى
ابن عمر" لم أقف على اسم الذي أخبره بذلك. قوله: "وأجد" بعد قوله:
"فأقبلت" وكان المناسب للسياق أن يقول ووجدت، وكأنه عدل عن الماضي إلى
المضارع استحضارا لتلك الصورة حتى كأن المخاطب يشاهدها. قوله: "قائما بين
البابين" أي المصراعين وحمله الكرماني تجويزا على حقيقة التثنية وقال: أراد
بالباب الثاني الذي لم تفتحه قريش حين بنت الكعبة باعتبار ما كان، أو كان إخبار
الراوي بذلك بعد أن فتحه ابن الزبير، وهذا يلزم منه أن يكون ابن عمر وجد بلالا في
وسط الكعبة، وفيه بعد. وفي رواية الحموي " بين الناس " بنون وسين مهملة
وهي أوضح. قوله: "قال نعم ركعتين" أي صلى ركعتين، وقد استشكل الإسماعيلي
وغيره هذا مع أن المشهور عن ابن عمر من طريق نافع وغيره عنه أنه قال: "ونسيت
أن أسأله كم صلى " قال فدل على أنه أخبره بالكيفية وهي تعيين الموقف في
الكعبة، ولم يخبره بالكمية، ونسى هو أن يسأله عنها، والجواب عن ذلك أن يقال: يحتمل
أن ابن عمر اعتمد في قوله في هذه الرواية ركعتين على القدر المتحقق له، وذلك أن
بلالا أثبت له أنه صلى ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل في النهار بأقل
من ركعتين، فكانت الركعتان متحققا وقوعهما لما عرف بالاستقراء من عادته. فعلى هذا
فقوله: "ركعتين " من كلام ابن عمر لا من كلام بلال. وقد وجدت ما يؤيد
هذا ويستفاد منه جمعا آخر بين الحديثين، وهو ما أخرجه عمر بن شبة في " كتاب
مكة " من طريق عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر في هذا الحديث:
"فاستقبلني بلال فقلت: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم هاهنا؟ فأشار
بيده أي صلى ركعتين بالسبابة والوسطى؛ فعلى هذا فيحمل قوله: "نسيت أن أسأله
كم صلى " على أنه لم يسأله لفظا ولم يجبه لفظا، وإنما استفاد منه صلاة
الركعتين بإشارته لا بنطقه. وأما قوله في الرواية الأخرى " ونسيت أن أسأله كم
صلى " فيحمل على أن مراده أنه لم يتحقق هل زاد على ركعتين أو لا. وأما قول
بعض المتأخرين: يجمع بين الحديثين بأن ابن عمر نسى أن يسأل بلالا ثم لقيه مرة أخرى
فسأله، ففيه نظر من وجهين: أحدهما أن الذي يظهر أن القصة - وهي سؤال ابن عمر عن
صلاته في الكعبة - لم تتعدد، لأنه أتى في السؤال بالفاء المعقبة في الروايتين معا،
فقال في هذه فأقبلت ثم قال فسألت بلالا. وقال في الأخرى فبدرت فسألت بلالا، فدل
على أن السؤال عن ذلك كان واحدا في وقت واحد. ثانيهما أن راوي قول ابن عمر "
ونسيت " هو نافع مولاه ويبعد مع طول ملازمته له إلى وقت موته أن يستمر على
حكاية النسيان ولا يتعرض لحكاية الذكر أصلا. والله أعلم. وأما ما نقله عياض أن
قوله: "ركعتين " غلط من يحيى بن سعيد القطان لأن ابن عمر قد قال:
"نسيت أن أسأله
(1/500)
كم صلى " قال:
وإنما دخل الوهم عليه من ذكر الركعتين بعد، فهو كلام مردود، والمغلط هو الغالط،
فإنه ذكر الركعتين قبل وبعد فلم يهم من موضع إلى موضع، ولم ينفرد يحيى بن سعيد
بذلك حتى يغلط، فقد تابعه أبو نعيم عند البخاري والنسائي، وأبو عاصم عند ابن
خزيمة، وعمر بن علي عند الإسماعيلي، وعبد الله بن نمير عند أحمد كلهم عن سيف، ولم
ينفرد به سيف أيضا فقد تابعه عليه خصيف عن مجاهد عند أحمد، ولم ينفرد به مجاهد عن
ابن عمر فقد تابعه عليه ابن أبي مليكة عند أحمد والنسائي، وعمرو بن دينار عند أحمد
أيضا باختصار، ومن حديث عثمان ابن أبي طلحة عند أحمد والطبراني بإسناد قوي، ومن
حديث أبي هريرة عند البزار، ومن حديث عبد الرحمن ابن صفوان قال: "فلما خرج
سألت من كان معه فقالوا: صلى ركعتين عند السارية الوسطى " أخرجه الطبراني
بإسناد صحيح، ومن حديث شيبة بن عثمان قال: "لقد صلى ركعتين عند العمودين
" أخرجه الطبراني بإسناد جيد، فالعجب من الإقدام على تغليط جبل من جبال الحفظ
بقول من خفي عليه وجه الجمع بين الحديثين فقال بغير علم، ولو سكت لسلم. والله
الموفق. قوله: "في وجه الكعبة" أي مواجه باب الكعبة. قال الكرماني: الظاهر
من الترجمة أنه مقام إبراهيم - أي أنه كان عند الباب - قلت: قدمنا أنه خلاف
المنقول عن أهل العلم بذلك، وقدمنا أيضا مناسبة الحديث للترجمة من غير هذه
الحيثية، وهي أن استقبال المقام غير واجب، ونقل عن ابن عباس كما رواه الطبراني
وغيره أنه قال: ما أحب أن أصلي في الكعبة، من صلى فيها فقد ترك شيئا منها خلفه،
وهذا هو السر أيضا في إيراد حديث ابن عباس في هذا الباب.
398- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ
"لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ
دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ فَلَمَّا
خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ هَذِهِ
الْقِبْلَةُ"
[الحديث398- اطرافه في:4288,3352,3351,1601]
قوله: "إسحاق بن نصر" كذا وقع منسوبا في جميع الروايات التي وقفت عليها،
وبذلك جزم الإسماعيلي وأبو نعيم وابن مسعود وغيرهم، وذكر أبو العباس الطرقي في
الأطراف له أن البخاري أخرجه عن إسحاق غير منسوب، وأخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في
مستخرجيهما من طريق إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق شيخ إسحاق بن نصر فيه بإسناده
هذا فجعله من رواية ابن عباس عن أسامة بن زيد، وكذلك رواه مسلم من طريق محمد بن
بكر عن ابن جريج وهو الأرجح، وسيأتي وجه التوفيق بين رواية بلال المثبتة لصلاته
صلى الله عليه وسلم في الكعبة وبين هذه الرواية النافية في كتاب الحج إن شاء الله
تعالى. قوله: "في قبل الكعبة" بضم القاف والموحدة وقد تسكن أي مقابلها
أو ما استقبلك منها وهو وجهها، وهذا موافق لرواية ابن عمر السالفة. قوله:
"هذه القبلة" الإشارة إلى الكعبة، قيل المراد بذلك تقرير حكم الانتقال
عن بيت المقدس، وقيل المراد أن حكم من شاهد البيت وجوب مواجهة عينه جزما بخلاف
الغائب، وقيل المراد أن الذي أمرتم باستقباله ليس هو الحرم كله ولا مكة ولا المسجد
الذي حول الكعبة بل الكعبة نفسها، أو الإشارة إلى وجه الكعبة أي هذا موقف الإمام،
ويؤيده ما رواه البزار من حديث عبد الله بن حبشي الخثعمي قال: "رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى باب الكعبة وهو يقول: أيها الناس، إن الباب قبلة
(1/501)
البيت "(1) وهو محمول على الندب لقيام الإجماع على جواز استقبال البيت من جميع جهاته.والله أعلم.
(1/502)
- باب التَّوَجُّهِ
نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسْتَقْبِلْ
الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ".
قوله: "باب التوجه نحو القبلة حيث كان" أي حيث وجد الشخص في سفر أو حضر،
والمراد بذلك في صلاة الفريضة كما يتبين ذلك في الحديث الثاني في الباب وهو حديث
جابر. قوله: "وقال أبو هريرة" هذا طرف من حديثه في قصة المسيء صلاته،
وقد ساقه المصنف بهذا اللفظ في كتاب الاستئذان.
399- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى نَحْوَ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى
الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}
فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ وَهُمْ
الْيَهُودُ {مَا وَلاَهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ
لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ} فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ
ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الأَنْصَارِ فِي
صَلاَةِ الْعَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ
صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ
تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ
الْكَعْبَةِ"
قوله: "عن البراء" تقدم في " باب الصلاة من الإيمان " من كتاب
الإيمان بيان من رواه عن أبي إسحاق مصرحا بتحديث البراء له. قوله: "وكان يحب
أن يوجه إلى الكعبة" جاء بيان ذلك فيما أخرجه الطبري وغيره من طريق علي ابن
أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة -
واليهود أكثر أهلها - يستقبلون بيت المقدس أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت
اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن
يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فنزلت. ومن طريق مجاهد قال:
إنما كان يحب أن يتحول إلى الكعبة لأن اليهود قالوا: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا،
فنزلت. وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى
المدينة، لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس " كان النبي صلى الله عليه
وسلم يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه " والجمع بينهما ممكن بأن
يكون أمر صلى الله عليه وسلم لما هاجر أن يستمر على الصلاة لبيت المقدس. وأخرج
الطبراني(2) من طريق ابن جريج قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى
الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر فصلى إليه بعد
قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله إلى الكعبة. فقوله في حديث ابن عباس
الأول " أمره الله " يرد قول من قال إنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد.
وقد أخرجه الطبري عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف، وعن أبي العالية أنه صلى
الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب، وهذا لا ينفي أن يكون
بتوقيف. قوله: "نحو بيت المقدس" أي بالمدينة قد تقدم في " باب
الصلاة
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: في نسخة "قبلة ابراهيم"
(2) في مخطوطة الرياض "الطبري"
(1/502)
من الإيمان "
في كتاب الإيمان تحرير المدة المذكورة وأنها ستة عشر شهرا وأيام. قوله:
"يوجه" بفتح الجيم أي يؤمر بالتوجه. قوله: "فصلى مع النبي صلى الله
عليه وسلم رجال" كذا في رواية المستملي والحموي. وفي رواية غيرهما: "رجل
" وهو المشهور، وقد تقدم في الإيمان أن اسمه عباد بن بشر، وتحتاج رواية
المستملي إلى تقدير محذوف في قوله: "ثم خرج " أي بعض أولئك الرجال.
قوله: "في صلاة العصر نحو بيت المقدس" وللكشميهني: "في صلاة العصر
يصلون نحو بيت المقدس " وفيه إفصاح بالمراد. ووقع في تفسير ابن أبي حاتم من
طريق ثويلة بنت أسلم " صليت الظهر - أو العصر - في مسجد بني حارثة فاستقبلنا
مسجد إيليا فصلينا سجدتين - أي ركعتين - ثم جاءنا من يخبرنا أن النبي صلى الله
عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام". واختلفت الرواية في الصلاة التي تحولت
القبلة عندها، وكذا في المسجد فظاهر حديث البراء هذا أنها الظهر، وذكر محمد بن سعد
في الطبقات قال: يقال إنه صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن
يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه ودار معه المسلمون. ويقال زار النبي صلى
الله عليه وسلم أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت له طعاما وحانت الطهر
فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستدار إلى الكعبة
واستقبل الميزاب فسمي " مسجد القبلتين"، قال ابن سعد قال الواقدي: هذا
أثبت عندنا. وأخرج ابن أبي داود بسند ضعيف عن عمارة بن روبية قال: "كنا مع
النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي حين صرفت القبلة، فدار ودرنا معه في
ركعتين". وأخرج البزار من حيث أنس " انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن بيت المقدس وهو يصلي الظهر بوجهه إلى الكعبة"، وللطبراني نحوه من وجه آخر
عن أنس، وفي كل منهما ضعف. قوله: "فقال" أي الرجل "هو يشهد"
يعني بذلك نفسه، وهو على سبيل التجريد، ويحتمل أن يكون الراوي نقل كلامه بالمعنى،
ويؤيده الرواية المتقدمة في الإيمان بلفظ: "أشهد " وقد تقدمت مباحثه هناك
400- حدثنا مسلم قال حدثنا هشام قال حدثنا يحيى بن كثير عن محمد بن عبد الحمن عن
جابر قال"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت . فإذا
أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة"
[الحديث400- أطرافه في: 4140,1099,1094
قوله "حدثنا مسلم" زاد الأصيلي بن إبراهيم "قال حدثنا هشام" زاد
الأصيلي بن أبي عبد الله وهو الدستوائي "عن محمد بن عبد الرحمن" أي بن
ثوبان العامري المدني وليس له في الصحيح عن هذا الحديث وفي طبقته محمد بن عبد
الرحمن بن نوفل ولم يخرج له البخاري عن جابر شيئا قوله "حيث توجهت" زاد
الكشميهني "به" والحديث دال على عدم ترك استقبال القبلة في الفريضة وهو
إجماع لكن رخص في شدة الخوف
401- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ صَلَّى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَ أَدْرِي زَادَ أَوْ
نَقَصَ فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ "أَحَدَثَ فِي
الصَّلاَةِ شَيْءٌ" قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالُوا صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا
فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ
سَلَّمَ فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ "إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ
فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي
(1/503)
وَإِذَا شَكَّ
أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ
لِيُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ"
[الحديث401- أطرافه في7249,6671,1226,404]
قوله: "عن منصور" هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو ابن يزيد النخعي، وأخطأ
من قال إنه غيره. وهذه الترجمة من أصح الأسانيد. قوله: "قال إبراهيم" أي
الراوي المذكور "لا أدري زاد أو نقص" أي النبي صلى الله عليه وسلم،
والمراد أن إبراهيم شك في سبب سجود السهو المذكور هل كان لأجل الزيادة أو النقصان،
لكن سيأتي في الباب الذي بعده من رواية الحكم عن إبراهيم بإسناده هذا أنه صلى
خمسا، وهو يقتضي الجزم بالزيادة، فلعله شك لما حدث منصورا وتيقن لما حدث الحكم.
وقد تابع الحكم على ذلك حماد بن أبي سليمان وطلحة ابن مصرف وغيرهما، وعين في رواية
الحكم أيضا وحماد أنها الظهر، ووقع للطبراني من رواية طلحة بن مصرف عن إبراهيم
أنها العصر، وما في الصحيح أصح. قوله: "أحدث" بفتحات ومعناه السؤال عن
حدوث شيء من الوحي يوجب تغيير حكم الصلاة عما عهدوه، ودل استفهامهم عن ذلك على
جواز النسخ عندهم وأنهم كانوا يتوقعونه. قوله: "قال وما ذاك" فيه إشعار
بأنه لم يكن عنده شعور مما وقع منه من الزيادة، وفيه دليل على جواز وقوع السهو من
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأفعال. قال ابن دقيق العيد: وهو قول عامة
العلماء والنظار، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز على النبي السهو، وهذا الحديث يرد
عليهم لقوله صلى الله عليه وسلم فيه: "أنسى كما تنسون " ولقوله:
"فإذا نسيت فذكروني " أي بالتسبيح ونحوه. وفي قوله: "لو حدث شيء في
الصلاة لنبأتكم به" دليل على عدم تأخير البيان عن وقت الحاجة. ومناسبة الحديث
للترجمة من قوله: "فثنى رجله" وللكشميهني والأصيلي: "رجليه "
بالتثنية، "واستقبل القبلة" فدل على عدم ترك الاستقبال في كل حال من
أحوال الصلاة، واستدل به على رجوع الإمام إلى قول المأمومين، لكن يحتمل أن يكون
تذكر عند ذلك أو علم بالوحي أو أن سؤالهم أحدث عنده شكا فسجد لوجود الشك الذي طرأ
لا لمجرد قولهم. قوله: "فليتحر الصواب" بالحاء المهملة والراء المشددة
أي فليقصد، والمراد البناء على اليقين كما سيأتي واضحا مع بقية مباحثه في أبواب السهو
إن شاء الله تعالى.
(1/504)
باب ماجاء في
القبلة
...
32 - باب مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ وَمَنْ لَمْ يَرَ الإِعَادَةَ عَلَى مَنْ
سَهَا فَصَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ
وَقَدْ سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْ
الظُّهْرِ وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ ثُمَّ أَتَمَّ مَا بَقِيَ
402- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُمَيْدٍ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ "وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاَثٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ
اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَآيَةُ الْحِجَابِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ
وَالْفَاجِرُ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ عَسَى
رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ "
[الحديث402- أطرافه في:4916,4790,4483]
(1/504)
حَدَّثَنَا ابْنُ
أَبِي مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي
حُمَيْدٌ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا بِهَذَا
قوله: "باب ما جاء في القبلة" أي غير ما تقدم "ومن لم ير الإعادة
على من سها فصلى إلى غير القبلة" وأصل هذه المسألة في المجتهد في القبلة إذا
تبين خطؤه، فروى ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب وعطاء والشعبي وغيرهم أنهم قالوا:
لا تجب الإعادة، وهو قول الكوفيين. وعن الزهري ومالك وغيرهما تجب في الوقت لا
بعده، وعن الشافعي يعيد إذا تيقن الخطأ مطلقا. وفي الترمذي من حديث عامر بن ربيعة
ما يوافق قول الأولين، لكن قال: ليس إسناده بذاك. قوله: "وقد سلم النبي صلى
الله عليه وسلم الخ" هو طرف من حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين وهو موصول في
الصحيحين من طرق، لكن قوله: "وأقبل على الناس " ليس هو في الصحيحين بهذا
اللفظ موصولا، لكنه في الموطأ من طريق أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة.
ووهم ابن التين تبعا لابن بطال حيث جزم بأنه طرف من حديث ابن مسعود الماضي، لأن
حديث ابن مسعود ليس في شيء من طرقه أنه سلم من ركعتين. ومناسبة هذا التعليق
للترجمة من جهة أن بناءه على الصلاة دال على أنه في حال استدباره القبلة كان في
حكم المصلى، ويؤخذ منه أن من ترك الاستقبال ساهيا لا تبطل صلاته. قوله: "عن
أنس قال: قال عمر" هو من رواية صحابي عن صحابي، لكنه صغير عن كبير. قوله:
"وافقت ربي في ثلاث" أي وقائع، والمعنى وافقني ربي فأنزل القرآن على وفق
ما رأيت، لكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه، أو أشار به إلى حدوث رأيه وقدم
الحكم، وليس في تخصيصه العدد بالثلاث ما ينفي الزيادة عليها، لأنه حصلت له
الموافقة في أشياء غير هذه من مشهورها قصة أسارى بدر وقصة الصلاة على المنافقين،
وهما في الصحيح، وصحح الترمذي من حديث ابن عمر أنه قال: "ما نزل بالناس أمر
قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر " وهذا
دال على كثرة موافقته، وأكثر ما وقفنا منها بالتعيين على خمسة عشر لكن ذلك بحسب
المنقول، وقد تقدم الكلام على مقام إبراهيم، وسيأتي الكلام على مسألة الحجاب في
تفسير سورة الأحزاب، وعلى مسألة التخيير في تفسير سورة التحريم، وقوله في هذه
الرواية: "واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن:
عسى ربه الخ " وذكر فيه من وجه آخر عن حميد في تفسير سورة البقرة زيادة يأتي
التنبيه عليها في باب عشرة النساء في أواخر النكاح. وقال بعضهم: كان اللائق إيراد
هذا الحديث في الباب الماضي وهو قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلّىً} والجواب أنه عدل عنه إلى حديث ابن عمر للتنصيص فيه على وقوع ذلك من فعل
النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف حديث عمر هذا فليس فيه التصريح بذلك، وأما مناسبته
للترجمة فأجاب الكرماني بأن المراد من الترجمة ما جاء في القبلة وما يتعلق بها،
فأما على قول من فسر مقام إبراهيم بالكعبة فظاهر، أو بالحرم كله فمن في قوله:
"من مقام إبراهيم" للتبعيض، ومصلى أي قبلة، أو بالحجر الذي وقف عليه إبراهيم
وهو الأظهر فيكون تعلقه بالمتعلق بالقبلة لا بنفس القبلة. وقال ابن رشيد: الذي
يظهر لي أن تعلق الحديث بالترجمة الإشارة إلى موضع الاجتهاد في القبلة، لأن عمر
اجتهد في أن اختار أن يكون المصلى إلى مقام إبراهيم الذي هو في وجه الكعبة فاختار
إحدى جهات القبلة بالاجتهاد، وحصلت موافقته على ذلك فدل على تصويب اجتهاد المجتهد
إذا بذل وسعه ولا يخفى ما فيه. قوله: "وقال ابن أبي مريم" في رواية
كريمة: "حدثنا ابن أبي مريم"، وفائدة إيراد هذا الإسناد ما فيه من
التصريح بسماع حميد من أنس فأمن من تدليسه، و قوله: "بهذا" أي إسنادا
ومتنا، فهو من رواية أنس
(1/505)
عن عمر لا من رواية
أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفائدة التعليق المذكور تصريح حميد بسماعه له من
أنس، وقد تعقبه بعضهم بأن يحيى بن أيوب لم يحتج به البخاري وإن خرج له في
المتابعات. وأقول: وهذا من جملة المتابعات، ولم ينفرد يحيى بن أيوب بالتصريح
المذكور فقد أخرجه الإسماعيلي من رواية يوسف القاضي عن أبي الربيع الزهراني عن
هشيم أخبرنا حميد حدثنا أنس. والله أعلم.
403- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ
أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ
"بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ
فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ
عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ
فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى
الْكَعْبَةِ"
[الحديث403- أطرافه في: 7251,4494,4491,4490,4488]
قوله: "بينا الناس بقباء" بالمد والصرف وهو الأشهر، ويجوز فيه القصر
وعدم الصرف وهو يذكر ويؤنث: موضع معروف ظاهر المدينة، والمراد هنا مسجد أهل قباء
ففيه مجاز الحذف، واللام في الناس للعهد الذهني والمراد أهل قباء ومن حضر معهم.
قوله: "في صلاة الصبح" ولمسلم: "في صلاة الغداة " وهو أحد
أسمائها، وقد نقل بعضهم كراهية تسميتها بذلك. وهذا فيه مغايرة لحديث البراء
المتقدم فإن فيه أنهم كانوا في صلاة العصر، والجواب أن لا منافاة بين الخبرين. لأن
الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة وذلك في حديث البراء،
والآتي إليهم بذلك عباد بن بشر أو ابن نهيك كما تقدم، ووصل الخبر وقت الصبح إلى من
هو خارج المدينة وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء وذلك في حديث ابن عمر، ولم يسم
الآتي بذلك إليهم، وإن كان ابن طاهر وغيره نقلوا أنه عباد بن بشر ففيه نظر، لأن
ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر، فإن كان ما نقلوا محفوظا فيحتمل أن
يكون عباد أتى بني حارثة أولا في وقت العصر ثم توجه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في
وقت الصبح. ومما يدل على تعددهما أن مسلما روى من حديث أنس " أن رجلا من بني
سلمة مر وهم ركوع في صلاة الفجر " فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين
الصلاة، وبنو سلمة غير بني حارثة. قوله: "قد أنزل عليه الليلة قرآن" فيه
إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي والليلة التي تليه مجازا، والتنكير في قوله:
"قرآن " لإرادة البعضية، والمراد قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ
فِي السَّمَاءِ} الآيات. قوله: "وقد أمر" فيه أن ما يؤمر به النبي صلى
الله عليه وسلم يلزم أمته، وأن أفعاله يتأسى بها كأقواله حتى يقوم دليل الخصوص.
قوله: "فاستقبلوها" بفتح الموحدة للأكثر أي فتحولوا إلى جهة الكعبة،
وفاعل " استقبلوها " المخاطبون بذلك وهم أهل قباء. وقوله: "وكانت
وجوههم الخ" تفسير من الراوي للتحول المذكور، ويحتمل أن يكون فاعل استقبلوها
النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وضمير " وجوههم " لهم أو لأهل قباء
على الاحتمالين. وفي رواية الأصيلي فاستقبلوها بكسر الموحدة بصيغة الأمر، ويأتي في
ضمير وجوههم الاحتمالان المذكوران، وعوده إلى أهل قباء أظهر، ويرجح رواية الكسر
أنه عند المصنف في التفسير من رواية سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار في هذا الحديث
بلفظ: "وقد أمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها " فدخول حرف الاستفتاح
يشعر بأن الذي بعده أمر لا أنه بقية الخبر الذي قبله، والله أعلم. ووقع بيان كيفية
التحول في حديث ثويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم وقد ذكرت بعضه قريبا وقالت فيه:
"فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء،
(1/506)
فصلينا السجدتين
الباقيتين إلى البيت الحرام". قلت: وتصويره أن الإمام تحول من مكانه في مقدم
المسجد إلى مؤخر المسجد، لأن من استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس، وهو لو دار كما
هو في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف، ولما تحول الإمام تحولت الرجال حتى
صاروا خلفه وتحولت النساء حتى صرن خلف الرجال، وهذا يستدعي عملا كثيرا في الصلاة
فيحتمل أن يكون ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير كما كان قبل تحريم الكلام، ويحتمل
أن يكون اغتفر العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة، أو لم تتوال الخطا عند التحويل
بل وقعت مفرقة. والله أعلم. وفي هذا الحديث أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف
حتى يبلغه، لأن أهل قباء لم يؤمروا بالإعادة مع كون الأمر باستقبال الكعبة وقع قبل
صلاتهم تلك بصلوات. واستنبط منه الطحاوي أن من لم تبلغه الدعوة ولم يمكنه استعلام
ذلك فالفرض غير لازم له. وفيه جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
لأنهم لما تمادوا في الصلاة ولم يقطعوها دل على أنه رجح عندهم التمادي والتحول على
القطع والاستئناف، ولا يكون ذلك إلا عن اجتهاد، كذا قيل، وفيه نظر لاحتمال أن يكون
عندهم في ذلك نص سابق. لأنه صلى الله عليه وسلم كان مترقبا التحول المذكور فلا
مانع أن يعلمهم ما صنعوا من التمادي والتحول. وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به
ونسخ ما تقرر بطريق العلم به، لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت عندهم بطريق القطع
لمشاهدتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهته، ووقع تحولهم عنها إلى جهة
الكعبة بخبر هذا الواحد، وأجيب بأن الخبر المذكور احتفت به قرائن ومقدمات أفادت
القطع عندهم بصدق ذلك المخبر فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم،
وقيل: كان النسخ بخبر الواحد جائزا في زمنه صلى الله عليه وسلم مطلقا وإنما منع
بعده، ويحتاج إلى دليل. وفيه جواز تعليم من ليس في الصلاة من هو فيها، وأن استماع
المصلي لكلام من ليس في الصلاة لا يفسد صلاته. وقد تقدم الكلام على تعيين الوقت
الذي حولت فيه القبلة في الكلام على حديث البراء في كتاب الإيمان، ووجه تعلق حديث
ابن عمر بترجمة الباب أن دلالته على الجزء الأول منها من قوله: "أمر أن
يستقبل الكعبة " وعلى الجزء الثاني من حيث أنهم صلوا في أول تلك الصلاة إلى
القبلة المنسوخة جاهلين بوجوب التحول عنها وأجزأت عنهم مع ذلك ولم يؤمروا بالإعادة
فيكون حكم الساهي كذلك، لكن يمكن أن يفرق بينهما بأن الجاهل مستصحب للحكم الأول
مغتفر في حقه ما لا يغتفر في حق الساهي لأنه إنما يكون عن حكم استقر عنده وعرفه.
404- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ
عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ "صَلَّى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ خَمْسًا فَقَالُوا
أَزِيدَ فِي الصَّلاَةِ قَالَ "وَمَا ذَاكَ" قَالُوا صَلَّيْتَ خَمْسًا
فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ"
قوله: "عن عبد الله" يعني ابن مسعود. "قال: صلى النبي صلى الله
عليه وسلم الظهر خمسا" تقدم الكلام عليه في الباب الذي قبله، وتعلقه بالترجمة
من قوله: "قال وما ذاك" أي ما سبب هذا السؤال؟ وكان في تلك الحالة غير
مستقبل القبلة سهوا كما يظهر في الرواية الماضية من قوله: "فثنى رجله واستقبل
القبلة".
(1/507)
33 - باب حَكِّ
الْبُزَاقِ بِالْيَدِ مِنْ الْمَسْجِدِ
405- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ
حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي
(1/507)
الْقِبْلَةِ
فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ
فَقَالَ "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي
رَبَّهُ أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَلاَ يَبْزُقَنَّ
أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ"
ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ
فَقَالَ "أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا"
قوله: "باب حك البزاق باليد من المسجد" أي سواء كان بآلة أم لا. ونازع
الإسماعيلي في ذلك فقال: قوله: "فحكه بيده " أي تولى ذلك بنفسه لا أنه
باشر بيده النخامة، ويؤيد ذلك الحديث الآخر أنه " حكها بعرجون " ا هـ.
والمصنف مشى على ما يحتمله اللفظ، مع أنه لا مانع في القصة من التعدد، وحديث
العرجون رواه أبو داود من حديث جابر. قوله: "عن حميد عن أنس" كذا في
جميع ما وقفت عليه من الطرق بالعنعنة، ولكن أخرجه عبد الرزاق فصرح بسماع حميد من
أنس فأمن تدليسه. قوله: "نخامة" قيل هي ما يخرج من الصدر، وقيل النخاعة
بالعين من الصدر، وبالميم من الرأس. قوله: "في القبلة" أي الحائط الذي
من جهة القبلة. قوله: "حتى رؤي" أي شوهد في وجهه أثر المشقة، وللنسائي:
"فغضب حتى أحمر وجهه " وللمصنف في الأدب من حديث ابن عمر " فتغيظ
على أهل المسجد". قوله: "إذا قام في صلاته" أي بعد شروعه فيها.
قوله: "أو أن ربه" كذا للأكثر بالشك كما سيأتي في الرواية الأخرى بعد
خمسة أبواب. وللمستملي والحموي " وأن ربه " بواو العطف، والمراد
بالمناجاة من قبل العبد حقيقة النجوى ومن قبل الرب لازم ذلك فيكون مجازا، والمعنى
إقباله عليه بالرحمة والرضوان، وأما قوله: "أو إن ربه بينه وبين القبلة"
وكذا في الحديث الذي بعده " فإن الله قبل وجهه " فقال الخطابي: معناه أن
توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه فصار في التقدير: فإن مقصوده بينه وبين
قبلته. وقيل هو على حذف مضاف أي عظمة الله أو ثواب الله. وقال ابن عبد البر: هو
كلام خرج على التعظيم لشأن القبلة. وقد نزع به بعض المعتزلة القائلين بأن الله في
كل مكان، وهو جهل واضح، لأن في الحديث أنه يبزق تحت قدمه، وفيه نقض ما أصلوه، وفيه
الرد على من زعم أنه على العرش بذاته(1) ومهما تؤول به هذا جاز أن يتأول به ذاك
والله أعلم. وهذا التعليل يدل على أن البزاق في القبلة حرام سواء كان في المسجد أم
لا ولا سيما من المصلى فلا يجري فيه الخلاف في أن كراهية البزاق في المسجد هل هي
للتنزيه أو للتحريم. وفي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان من حديث حذيفة مرفوعا:
"من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه " وفي رواية لابن
خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعا: "يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي
في وجهه " ولأبي داود وابن حبان من حديث السائب بن خلاد " أن رجلا أم
قوما فبصق في القبلة، فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلي
لكم " الحديث، وفيه أنه قال له " إنك آذيت الله ورسوله". قوله:
"قبل قبلته" بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة قبلته. قوله: "أو تحت
قدمه" أي اليسرى كما
ـــــــ
(1) ليس في الحديث المذكور رد على من أثبت استواء الرب سبحانه على العرش بذاته,لأن
النصوص من الآيات والأحاديث في إثبات استواء الرب سبحانه على العرش بذاته محكمة
قطعية واضحة لاتحتمل أدنى تأويل. وقد أجمع أهل السنة على الأخذ بها والإيمان بما
دلت عليه على الوجه الذى يليق بالله سبحانه من غير أن يشابه خلقه في شيء من
صفاته.وأما قوله في هذا الحديث"فإن الله قبل وجهه إذا صلى" وفي
لفظ"فإن ربه بينه وبين القبلة " فهذالفظ محتمل يجب أن يفسر بما يوافق
النصوص المحكمة كما قد أشار الإمام ابن عبد البر إلى ذلك ,ولايجوز حمل هذا اللفظ
وأشباهه على مايناقض نصوص الاستواء الذي أثبتته النصوص القطعية المحكمة الصريحة.
والله أعلم
(1/508)
في حديث أبي هريرة
في الباب الذي بعده، وزاد أيضا من طريق همام عن أبي هريرة " فيدفنها "
كما سيأتي ذلك بعد أربعة أبواب. قوله: "ثم أخذ طرف ردائه الخ" فيه
البيان بالفعل ليكون أوقع في نفس السامع، وظاهر قوله: "أو يفعل هكذا" نه
مخير بين ما ذكر، لكن سيأتي بعد أربعة أبواب أن المصنف حمل هذا الأخير على ما إذا
بدره البزاق، فأو - على هذا - في الحديث للتنويع. والله أعلم.
406- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ فَحَكَّهُ
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي
فَلاَ يَبْصُقُ قِبَلَ وَجْهِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا
صَلَّى"
[الحديث406- أطرافه في:6111,1213,753]
قوله في حديث ابن عمر "رأى بصاقا في جدار القبلة" وفي رواية المستملي:
"في جدار المسجد " وللمصنف في أواخر الصلاة من طريق أيوب عن نافع "
في قبلة المسجد " وزاد فيه: "ثم نزل فحكها بيده " وهو مطابق للترجمة
وفيه إشعار بأنه كان في حال الخطبة. وصرح الإسماعيلي بذلك في روايته من طريق شيخ
البخاري فيه وزاد فيه أيضا: "قال وأحسبه دعا بزعفران فلطخه به " زاد عبد
الرزاق عن معمر عن أيوب " فلذلك صنع الزعفران في المساجد".
407- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي جِدَارِ
الْقِبْلَةِ مُخَاطًا أَوْ بُصَاقًا أَوْ نُخَامَةً فَحَكَّهُ"
قوله في حديث عائشة "رأى في جدار القبلة مخاطا أو بصاقا أو نخامة فحكه"
كذا هو في الموطأ بالشك، وللإسماعيلي من طريق معن عن مالك " أو نخاعا "
بدل مخاطا وهو أشبه، وقد تقدم الفرق بين النخاعة والنخامة.
(1/509)
3 - باب حَكِّ
الْمُخَاطِ بِالْحَصَى مِنْ الْمَسْجِدِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنْ وَطِئْتَ عَلَى قَذَرٍ رَطْبٍ فَاغْسِلْهُ وَإِنْ
كَانَ يَابِسًا فَلاَ
409,408- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَاهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ
فَتَنَاوَلَ حَصَاةً فَحَكَّهَا فَقَالَ "إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلاَ
يَتَنَخَّمَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ
أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى"
[الحديث408- طرفاه في: 416,410]
[الحديث409- طرفاه في:414,411]
قوله: "باب حك المخاط بالحصى من المسجد" وجه المغايرة بين هذه الترجمة
والتي قبلها من طريق الغالب، وذلك أن المخاط غالبا يكون له جرم لزج فيحتاج في نزعه
إلى معالجة، والبصاق لا يكون له ذلك فيمكن نزعه بغير آلة إلا إن خالطه بلغم فيلتحق
بالمخاط، هذا الذي يظهر من مراده. قوله: "وقال ابن عباس" هذا التعليق
وصله ابن
(1/509)
أبي شيبة بسند صحيح وقال في آخره: "وإن كان ناسيا لم يضره " ومطابقته للترجمة الإشارة إلى أن العلة العظمى في النهي احترام القبلة، لا مجرد التأذي بالبزاق ونحوه، فإنه وإن كان علة فيه أيضا لكن احترام القبلة فيه آكد، فلهذا لم يفرق فيه بين رطب ويابس، بخلاف ما علة النهي فيه مجرد الاستقذار فلا يضر وطئ اليابس منه. والله أعلم. قوله: "فتناول حصاة" هذا موضع الترجمة، ولا فرق في المعنى بين النخامة والمخاط، فلذلك استدل بأحدهما على الآخر. قول "فحكها" وللكشميهني: "فحتها " بمثناة من فوق، وهما بمعنى. قوله: "ولا عن يمينه" يأتي الكلام عليه قريبا.
(1/510)
35 - باب لاَ
يَبْصُقْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الصَّلاَةِ
411,410- حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب عن حميد بن عبد
الرحمن أن أبا هريرة وأبا سعيد أخبراه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى
نخامة المسجد فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حصاة فحتها ثم قال "إذا
تنخم أحدكم فلا يتنخم قبل وجهه ولا عن يمينة وليبصق عن يساره أو تحت قدمه
اليسرى"
412- حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة قال أخبرني قتادة قال سمعت أنسا قال:
"قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يتفلن أحدكم بين يديه ولا عن يمينه
ولكن عن يساره أو تحت رجله"
قوله: "باب لا يبصق عن يمينه في الصلاة" أورد فيه الحديث الذي قبله من
طريق أخرى عن ابن شهاب، ثم حديث أنس من طريق قتادة عنه مختصرا من روايته عن حفص بن
عمر، وليس فيهما تقييد ذلك بحالة الصلاة. نعم هو مقيد بذلك في رواية آدم الآتية في
الباب الذي يليه، وكذا في حديث أبي هريرة التقييد بذلك في رواية همام الآتية بعد،
فجرى المصنف في ذلك على عادته في التمسك بما ورد في بعض طرق الحديث الذي يستدل به
وإن لم يكن ذلك في سياق حديث الباب، وكأنه جنح إلى أن المطلق في الروايتين محمول
على المقيد فيهما، وهو ساكت عن حكم ذلك خارج الصلاة. وقد جزم النووي بالمنع في كل
حالة داخل الصلاة وخارجها سواء كان في المسجد أم غيره، وقد نقل عن مالك أنه قال:
لا بأس به، يعني خارج الصلاة. ويشهد للمنع ما رواه عبد الرزاق وغيره عن ابن مسعود
أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في صلاة. وعن معاذ بن جبل قال: ما بصقت عن يميني
منذ أسلمت. وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى ابنه عنه مطلقا. وكأن الذي خصه بحالة
الصلاة أخذه من علة النهي المذكورة في رواية همام عن أبي هريرة حيث قال: "فإن
عن يمينه ملكا " هذا إذا قلنا إن المراد بالملك غير الكاتب والحافظ، فيظهر
حينئذ اختصاصه بحالة الصلاة. وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى. وقال القاضي
عياض: النهي عن البصاق عن اليمين في الصلاة إنما هو مع إمكان غيره، فإن تعذر فله
ذلك، قلت: لا يظهر وجود التعذر مع وجود الثوب الذي هو لابسه، وقد أرشده الشارع إلى
التفل فيه كما تقدم. وقال الخطابي: إن كان عن يساره أحد فلا يبزق في واحد من
الجهتين، لكن تحت قدمة أو ثوبه. قلت: وفي حديث طارق المحاربي عند أبي داود ما يرشد
لذلك، فإنه قال فيه: أو تلقاء شمالك إن كان فارغا. وإلا فهكذا، وبزق تحت رجله
ودلك. ولعبد الرزاق من طريق عطاء عن أبي
(1/510)
هريرة نحوه، ولو كان تحت رجله مثلا شيء مبسوط أو نحوه تعين الثوب، ولو فقد الثوب مثلا فلعل بلعه أولى من ارتكاب المنهى عنه. والله أعلم. "تنبيه": أخذ المصنف كون حكم النخامة والبصاق واحدا من أنه صلى الله عليه وسلم رأى النخامة فقال: "لا يبزقن " فدل على تساويهما. والله أعلم.
(1/511)
باب ليبزق عن يساره
أوتحت أقدامه
...
36 - بَاب لِيَبْزُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى
413-حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ
سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ
الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ فَلاَ
يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ
تَحْتَ قَدَمِهِ".
414- حَدَّثَنَا عَلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ "أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصَرَ نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ
فَحَكَّهَا بِحَصَاةٍ ثُمَّ نَهَى أَنْ يَبْزُقَ الرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ
عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى وَعَنْ الزُّهْرِيِّ
سَمِعَ حُمَيْدًا عَنْ أَبِي سَعِيد... نَحْوَهُ
قوله: "باب ليبصق عن يساره .حدثنا علي" زاد الأصيلي: "ابن عبد الله
" وهو ابن المديني، والمتن هو الذي مضى من وجهين آخرين عن ابن شهاب وهو
الزهري، ولم يذكر سفيان - وهو ابن عيينة - فيه أبا هريرة، كذا في الروايات كلها،
لكن وقع في رواية ابن عساكر: "عن أبي هريرة " بدل أبي سعيد، وهو وهم،
وكأن الحامل له على ذلك أنه رأى في آخره: "وعن الزهري سمع حميدا عن أبي سعيد
" فظن أنه عنده عن أبي هريرة وأبي سعيد معا، لكنه فرقهما. وليس كذلك، وإنما
أراد المصنف أن يبين أن سفيان رواه مرة بالعنعنة ومرة صرح بسماع الزهري من حميد،
ووهم بعض الشراح في زعمه أن قوله: "وعن الزهري " معلق بل هو موصول وقد
تقدمت له نظائر. قوله: "ولكن عن يساره أو تحت قدمه" كذا للأكثر، وهو
المطابق للترجمة. وفي رواية أبي الوقت " وتحت قدمه " بالواو. ووقع عند
مسلم من طريق أبي رافع عن أبي هريرة " ولكن عن يساره تحت قدمه " بحذف
" أو"، وكذا للمصنف من حديث أنس في أواخر الصلاة، والرواية التي فيها
" أو " أعم لكونها تشمل ما تحت القدم وغير ذلك.
(1/511)
37 - باب
كَفَّارَةِ الْبُزَاقِ فِي الْمَسْجِدِ
415- حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا قتادة قال سمعت أنس بن مالك قال قال
النبي صلى الله عليه وسلم "البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها"
قوله: "باب كفارة البزاق في المسجد" أورد فيه حديث البزاق في المسجد
خطيئة وكفارتها دفنها من حديث أنس بإسناده الماضي في الباب قبله سواء، ولمسلم:
"التفل " بدل البزاق، والتفل بالمثناة من فوق أخف من البزاق، والنفث
بمثلثة آخره أخف منه، قال القاضي عياض: إنما يكون خطيئة إذا لم يدفنه، وأما من
أراد دفنه فلا. ورده النووي فقال: هو خلاف صريح الحديث. قلت: وحاصل النزاع أن هنا
عمومين تعارضا، وهما قوله: "البزاق في المسجد خطيئة " وقوله:
"وليبصق عن يساره أو تحت قدمه " فالنووي يجعل الأول عاما ويخص الثاني
بما إذا لم يكن في
(1/511)
38 - باب دَفْنِ
النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ
416- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَلاَ
يَبْصُقْ أَمَامَهُ فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللَّهَ مَا دَامَ فِي مُصَلاَهُ وَلاَ
عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ
تَحْتَ قَدَمِهِ فَيَدْفِنُهَا"
قوله: "باب دفن النخامة في المسجد" أي جواز ذلك، وأورد فيه حديث أبي
هريرة من طريق همام عنه بلفظ: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة " ثم قال في
آخره: "فيدفنها " فأشعر قوله في الترجمة في المسجد بأنه فهم من قوله:
"إلى الصلاة " أن ذلك يختص بالمسجد، لكن اللفظ أعم من ذلك. وقيل: إنما
ترجم الذي قبله بالكفارة وهذا بالدفن إشعارا بالتفرقة بين المتعمد بلا حاجة - وهو
الذي أثبت عليه الخطيئة - وبين من غلبته النخامة وهو الذي أذن له في الدفن أو ما
يقوم مقامه. قوله: "فإنما يناجي" للكشميهني: "فإنه". قوله:
"ما دام في مصلاه" يقتضى تخصيص المنع بما
(1/512)
إذا كان في الصلاة، لكن التعليل المتقدم بأذى المسلم يقتضي المنع في جدار المسجد مطلقا ولو لم يكن في صلاة، فيجمع بأن يقال: كونه في الصلاة أشد إثما مطلقا، وكونه في جدار القبلة أشد إثما من كونه في غيرها من جدر المسجد، فهي مراتب متفاوتة مع الاشتراك في المنع. قوله: "فإن عن يمينه ملكا" تقدم أن ظاهره اختصاصه بحالة الصلاة، فإن قلنا: المراد بالملك الكاتب فقد استشكل اختصاصه بالمنع مع أن عن يساره ملكا آخر، وأجيب باحتمال اختصاص ذلك بملك اليمين تشريفا له وتكريما، هكذا قاله جماعة من القدماء ولا يخفى ما فيه. وأجاب بعض المتأخرين بأن الصلاة أم الحسنات البدنية فلا دخل لكاتب السيئات فيها، ويشهد له ما رواه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة موقوفا في هذا الحديث قال: "ولا عن يمينه، فإن عن يمينه كاتب الحسنات". وفي الطبراني من حديث أبي أمامة في هذا الحديث: "فإنه يقوم بين يدي الله وملكه عن يمينه وقرينه عن يساره " ا هـ. فالتفل حينئذ إنما يقع على القرين وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذ يكون بحيث لا يصيبه شيء من ذلك، أو أنه يتحول في الصلاة إلى اليمين. والله أعلم. قوله: "فيدفنها" قال ابن أبي جمرة: لم يقل يغطيها لأن التغطية يستمر الضرر بها إذ لا يأمن أن يجلس غيره عليها فتؤذيه، بخلاف الدفن فإنه يفهم منه التعميق في باطن الأرض. وقال النووي في الرياض: المراد بدفنها ما إذا كان المسجد ترابيا أو رمليا، فأما إذا كان مبلطا مثلا فدلكها عليه بشيء مثلا فليس ذلك بدفن بل زيادة في التقذير. قلت: لكن إذا لم يبق لها أثر البتة فلا مانع، وعليه يحمل قوله في حديث عبد الله ابن الشخير المتقدم " ثم دلكه بنعله " وكذا قوله في حديث طارق عند أبي داود " وبزق تحت رجله ودلك". "فائدة": قال القفال في فتاويه: هذا الحديث محمول على ما يخرج من الفم أو ينزل من الرأس، أما ما يخرج من الصدر فهو نجس فلا يدفن في المسجد ا هـ. وهذا على اختياره، لكن يظهر التفصيل فيما إذا كان طرفا من قيء، وكذا إذا خالط البزاق دم. والله أعلم.
(1/513)
39 - باب إِذَا
بَدَرَهُ الْبُزَاقُ فَلْيَأْخُذْ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ
417- حدثنا مالك بن إسماعيل قال حدثنا زهير قال حدثنا حميد عن أنس "أن النبي
صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فحكها بيده ورؤي منه كراهية أو رؤي
كراهيته لذلك وشدته عليه وقال "إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه أو
ربه بينه وبين قبلته فلا يبزقن في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه" ثم أخذ
طرف ردائه فبزق فيه ورد بعضه على بعض قال "أو يفعل هكذا"
قوله: "باب إذا بدره البزاق" أنكر السروجي قوله: "بدره "
وقال: المعروف في اللغة بدرت إليه وبادرته، وأجيب بأنه يستعمل في المغالبة فيقال:
بادرت كذا فبدرني أي سبقني، واستشكل آخرون التقييد في الترجمة بالمبادرة، مع أنه
لا ذكر لها في الحديث الذي ساقه، وكأنه أشار إلى ما في بعض طرق الحديث المذكور وهو
ما رواه مسلم من حديث جابر بلفظ: "وليبصق عن يساره وتحت رجله اليسرى، فإن عجلت
به بادرة فليقل بثوبه هكذا ثم طوى بعضه على بعض " ولابن أبي شيبة وأبي داود
من حديث أبي سعيد نحوه وفسره في رواية أبي داود " بأن يتفل في ثوبه ثم يرد
بعضه على بعض " والحديثان صحيحان لكنهما ليسا على شرط البخاري، فأشار إليهما
بأن حمل الأحاديث التي لا تفصيل فيها على ما فصل فيهما. والله أعلم. وقد تقدم
الكلام على حديث أنس قبل خمسة أبواب،
(1/513)
وقوله هنا " ورؤي منه " بضم الراء بعدها واو مهموزة، أي من النبي صلى الله عليه وسلم و " كراهيته " بالرفع أي ذلك الفعل، وقوله: "أو رؤي " شك من الراوي وقوله: "وشدته " بالرفع عطفا على كراهيته ويجوز الجر عطفا على قوله: "لذلك". وفي الأحاديث المذكورة من الفوائد - غير ما تقدم - الندب إلى إزالة ما يستقذر أو يتنزه عنه من المسجد، وتفقد الإمام أحوال المساجد وتعظيمها وصيانتها، وأن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة ولا تفسد صلاته، وأن النفخ والتنحنح في الصلاة جائزان لأن النخامة لا بد أن يقع معها شيء من نفخ أو تنحنح، ومحله ما إذا لم يفحش ولم يقصد صاحبه العبث ولم يبن منه مسمى كلام وأقله حرفان أو حرف ممدود، واستدل به المصنف على جواز النفخ في الصلاة كما سيأتي في أواخر كتاب الصلاة، والجمهور على ذلك، لكن بالشرط المذكور قبل. وقال أبو حنيفة: إن كان النفخ يسمع فهو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة، واستدلوا له بحديث عن أم سلمة عند النسائي وبأثر عن ابن عباس عند ابن أبي شيبة. وفيها أن البصاق طاهر، وكذا النخامة والمخاط خلافا لمن يقول: كل ما تستقذره النفس حرام، ويستفاد منه أن التحسين والتقبيح إنما هو بالشرع، فإن جهة اليمين مفضلة على اليسار، وأن اليد مفضلة على القدم. وفيها الحث على الاستكثار من الحسنات وإن كان صاحبها مليا لكونه صلى الله عليه وسلم باشر الحك بنفسه، وهو دال على عظم تواضعه، زاده الله تشريفا وتعظيما صلى الله عليه وسلم.
(1/514)
40 - باب عِظَةِ
الإِمَامِ النَّاسَ فِي إِتْمَامِ الصَّلاَةِ وَذِكْرِ الْقِبْلَةِ
418- حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "هل ترون قبلتي ههنا فوالله ما
يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري"
[الحديث418- طرفه في:741]
قوله: "باب عظة الإمام الناس" بالنصب على المفعولية، وقوله: "في
إتمام الصلاة " أي بسبب ترك إتمام الصلاة.قوله: "وذكر القبلة"
بالجر عطفا على عظة، وأورده للإشعار بمناسبة هذا الباب لما قبله."هل ترون
قبلتي" هو استفهام إنكار لما يلزم منه، أي أنتم تظنون أني لا أرى فعلكم لكون
قبلتي في هذه الجهة لأن من استقبل شيئا استدبر ما وراءه، لكن بين النبي صلى الله
عليه وسلم أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة.وقد اختلف في معنى ذلك فقيل: المراد بها
العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما أن يلهم، وفيه نظر، لأن العلم لو كان
مرادا لم يقيده بقوله من وراء ظهري. وقيل المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره
ممن تدركه عينه مع التفات يسير في النادر، ويوصف من هو هناك بأنه وراء ظهره، وهذا
ظاهر التكلف، وفيه عدول عن الظاهر بلا موجب. والصواب المختار أنه محمول على ظاهره،
وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به صلى الله عليه وسلم انخرقت له فيه العادة،
وعلى هذا عمل المصنف فأخرج هذا الحديث في علامات النبوة، وكذا نقل عن الإمام أحمد
وغيره. ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عينه انخرقت له العادة فيه أيضا فكان
يرى بها من غير مقابلة، لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضو
مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلا،
ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافا لأهل البدع لوقوفهم مع
العادة. وقيل كانت له عين خلف ظهره
(1/514)
يرى بها من وراءه
دائما، وقيل كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا
غيره، وقيل: بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فيرى أمثلتهم
فيها فيشاهد أفعالهم. قوله: "ولا خشوعكم" أي في جميع الأركان، ويحتمل أن
يريد به السجود لأن فيه غاية الخشوع، وقد صرح بالسجود في رواية لمسلم. قوله:
"إني لأراكم" بفتح الهمزة.
419- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ
عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ "صَلَّى بِنَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةً ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ
فَقَالَ فِي الصَّلاَةِ وَفِي الرُّكُوعِ إِنِّي لاَرَاكُمْ مِنْ وَرَائِي كَمَا
أَرَاكُمْ"
[الحديث419- طرفاه في: 6644,742]
قوله في حديث أنس "صلى لنا" أي لأجلنا. و قوله: "صلاة"
بالتنكير للإبهام. و قوله: "ثم رقي" بكسر القاف. قوله: "فقال في
الصلاة" أي في شأن الصلاة، أو هو متعلق بقوله بعد "إني لأراكم" عند
من يجيز تقدم الظرف. و قوله: "وفي الركوع" فرده بالذكر وإن كان داخلا في
الصلاة اهتماما به إما لكون التقصير فيه كان أكثر، أو لأنه أعظم الأركان بدليل أن
المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع. قوله: "كما أراكم" يعني من
أمامي. وصرح به في رواية أخرى كما سيأتي. ولمسلم: "إني لأبصر من ورائي كما
أبصر من بين يدي " وفيه دليل على المختار أن المراد بالرؤية الإبصار، وظاهر
الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعا في جميع أحواله، وقد
نقل ذلك عن مجاهد. وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة
كما يبصر في الضوء. وفي الحديث الحث على الخشوع في الصلاة والمحافظة على إتمام
أركانها وأبعاضها، وأنه ينبغي للإمام أن ينبه الناس على ما يتعلق بأحوال الصلاة،
ولا سيما إن رأى منهم ما يخالف الأولى. وسأذكر حكم الخشوع في أبواب صفة الصلاة حيث
ترجم به المصنف مع بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
(1/515)
باب هل يقال مسجد
فلان؟
...
3 - باب هَلْ يُقَالُ مَسْجِدُ بَنِي فُلاَنٍ
420- حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر "أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية
الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وأن عبد الله بن
عمر كان فيمن سابق بها"
[الحديث420- أطرافه في: 7336,2870,2869,2868]
قوله: "باب هل يقال مسجد بني فلان" أورد فيه حديث ابن عمر في المسابقة،
وفيه قول ابن عمر " إلى مسجد بني زريق " وزريق بتقديم الزاي مصغرا،
ويستفاد منه جواز إضافة المساجد إلى بانيها أو المصلى فيها، ويلتحق به جواز إضافة
أعمال البر إلى أربابها، وإنما أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام لينبه على أن
فيه احتمالا إذ يحتمل أن يكون ذلك قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم بأن تكون هذه
الإضافة وقعت في زمنه، ويحتمل أن يكون ذلك مما حدث بعده، والأول أظهر والجمهور على
الجواز، والمخالف في ذلك إبراهيم النخعي فيما رواه ابن أبي شيبة عنه أنه كان يكره
أن يقول مسجد بني فلان ويقول مصلى بني فلان لقوله تعالى :{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ
لِلَّهِ}، وجوابه أن الإضافة في مثل هذا
(1/515)
إضافة تمييز لا ملك. وسيأتي الكلام على فوائد المتن في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. "تنبيه": الحفياء بفتح المهملة وسكون الفاء بعدها ياء أخيرة ممدودة، والأمد الغاية. واللام في قوله: "الثنية " للعهد من ثنية الوداع.
(1/516)
42 - باب
الْقِسْمَةِ وَتَعْلِيقِ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْقِنْوُ الْعِذْقُ وَالِاثْنَانِ قِنْوَانِ
وَالْجَمَاعَةُ أَيْضًا قِنْوَانٌ مِثْلَ صِنْوٍ وَصِنْوَانٍ
421- وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ يَعْنِي ابْنَ طَهْمَانَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "أُتِيَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ
"انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ" وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ
فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا
إِلاَّ أَعْطَاهُ إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي
فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "خُذْ" فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ
ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اؤْمُرْ
بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ قَالَ لاَ قَالَ فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ قَالَ
لاَ فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اؤْمُرْ
بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ قَالَ لاَ قَالَ فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ قَالَ
لاَ فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ احْتَمَلَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى كَاهِلِهِ ثُمَّ
انْطَلَقَ فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ فَمَا قَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَمَّ مِنْهَا
دِرْهَمٌ"
[الحديث421-طرفاه في:3165,3049]
قوله: "باب القسمة" أي جوازها، والقنو بكسر القاف وسكون النون فسره في
الأصل في روايتنا بالعذق، وهو بكسر العين المهملة وسكون الذال المعجمة، وهو
العرجون بما فيه. وقوله: "الاثنان قنوان" أي بكسر النون و قوله:
"مثل صنو وصنوان" أهمل الثالثة اكتفاء بظهورها. قوله: "وقال
إبراهيم يعني ابن طهمان" كذا في روايتنا وهو صواب، وأهمل في غيرها. وقال
الإسماعيلي: ذكره البخاري عن إبراهيم وهو ابن طهمان فيما أحسب بغير إسناد. يعني
تعليقا. قلت: وقد وصله أبو نعيم في مستخرجه والحاكم في مستدركه من طريق أحمد بن
حفص بن عبد الله النيسابوري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان، وقد أخرج البخاري بهذا
الإسناد إلى إبراهيم بن طهمان عدة أحاديث. قوله: "عن عبد العزيز بن
صهيب" كذا في روايتنا، وفي غيرها " عن عبد العزيز " غير منسوب،
فقال المزي في الأطراف: قيل إنه عبد العزيز بن رفيع، وليس بشيء، ولم يذكر البخاري
في الباب حديثا في تعليق القنو، فقال ابن بطال: أغفله. وقال ابن التين: أنسيه.
وليس كما قالا، بل أخذه من جواز وضع المال في المسجد بجامع أن كلا منهما وضع لأخذ
المحتاجين منه. وأشار بذلك إلى ما رواه النسائي من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال:
"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده عصا وقد علق رجل قنا حشف فجعل يطعن
في ذلك القنو ويقول: لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب من هذا " وليس هو على
شرطه وإن كان إسناده قويا، فكيف يقال إنه أغفله؟ وفي الباب أيضا حديث آخر أخرجه
ثابت في الدلائل بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل حائط بقنو
يعلق في المسجد " يعني للمساكين. وفي رواية له " وكان عليها معاذ بن جبل
" أي على حفظها أو على قسمتها. قوله: "بمال من البحرين"
(1/516)
روى ابن أبي شيبة من طريق حميد بن هلال مرسلا أنه كان مائة ألف، وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمي من خراج البحرين، قال: وهو أول خراج حمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وعند المصنف في المغازي من حديث عمرو بن عوف " أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي وبعث أبا عبيدة بن الجراح إليهم، فقدم أبو عبيدة بمال فسمعت الأنصار بقدومه " الحديث. فيستفاد منه تعيين الآتي بالمال، لكن في الردة للواقدي أن رسول العلاء بن الحضرمي بالمال هو العلاء بن حارثة الثقفي، فلعله كان رفيق أبي عبيدة. وأما حديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لو قد جاء مال البحرين أعطيتك " وفيه: "فلم يقدم مال البحرين حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم: "الحديث، فهو صحيح كما سيأتي عند المصنف، وليس معارضا لما تقدم بل المراد أنه لم يقدم في السنة التي مات فيها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان مال خراج أو جزية فكان يقدم من سنة إلى سنة. قوله: "فقال انثروه" أي صبوه. قوله: "وفاديت عقيلا" أي ابن أبي طالب وكان أسر مع عمه العباس في غزوة بدر، و قوله: "فحثا" بمهملة ثم مثلثة مفتوحة، والضمير في ثوبه يعود على العباس. قوله: "يقله" بضم أوله من الإقلال وهو الرفع والحمل. قوله: "مر بعضهم" بضم الميم وسكون الراء. وفي رواية: "اؤمر " بالهمزة، و قوله: "يرفعه" الجزم لأنه جواب الأمر، ويجوز الرفع أي فهو يرفعه. قوله: "على كاهله" أي بين كتفيه. و قوله: "يتبعه" بضم أوله من الاتباع، و "عجبا" بالفتح. و قوله: "وثم منها درهم" بفتح المثلثة أي هناك. وفي هذا الحديث بيان كرم النبي صلى الله عليه وسلم وعدم التفاته إلى المال قل أو كثر، وأن الإمام ينبغي له أن يفرق مال المصالح في مستحقيها ولا يؤخره، وسيأتي الكلام على فوائد هذا الحديث في كتاب الجهاد في باب فداء المشركين حيث ذكره المصنف فيه مختصرا إن شاء الله تعالى. وموضع الحاجة منه هنا جواز وضع ما يشترك المسلمون فيه من صدقة ونحوها في المسجد، ومحله ما إذا لم يمنع مما وضع له المسجد من الصلاة وغيرها مما بني المسجد لأجله، ونحو وضع هذا المال وضع مال زكاة الفطر، ويستفاد منه جواز وضع ما يعم نفعه في المسجد كالماء لشرب من يعطش، ويحتمل التفرقة بين ما يوضع للتفرقة وبين ما يوضع للخزن فيمنع الثاني دون الأول، وبالله التوفيق.
(1/517)
باب من دعا لطعام
في المسجد ، ومن أجاب عنه
...
3 - باب مَنْ دَعَا لِطَعَامٍ فِي الْمَسْجِدِ وَمَنْ أَجَابَ منه
422- حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله سمع أنسا قال
"وجدت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد معه ناس فقمت فقال لي أرسلك أبو
طلحة قلت نعم فقال لطعام قلت نعم فقال لمن معه قوموا فانطلق وانطلقت بين
أيديهم"
[الحديث 422- أطرافه في:6688,5450,5381,3578]
قوله: "باب من دعا لطعام في المسجد ومن أجاب منه" وفي رواية الكشميهني:
"ومن أجاب إليه". أورد فيه حديث أنس مختصرا، وأورد عليه أنه مناسب لأحد
شقي الترجمة وهو الثاني، ويجاب بأن قوله: "في المسجد " متعلق بقوله:
"دعا " لا بقوله: "طعام " فالمناسبة ظاهرة، والغرض منه أن مثل
ذلك من الأمور المباحة ليس من اللغو الذي يمنع في المساجد. و " من " في
قوله: "منه " ابتدائية والضمير يعود على المسجد، وعلى رواية الكشميهني يعود
على الطعام، وللكشميهني: "قال لمن معه " بدل لمن حوله. وفي الحديث جواز
الدعاء إلى الطعام وإن لم يكن وليمة، واستدعاء الكثير إلى الطعام القليل، وأن
المدعو إذا علم من الداعي أنه لا يكره أن يحضر معه غيره فلا بأس
(1/517)
بإحضاره معه. وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث إن شاء الله تعالى حيث أورده المصنف تاما في علامات النبوة.
(1/518)
44 - باب
الْقَضَاءِ وَاللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
423- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ
أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ
سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ "أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ
مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَلاَعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا
شَاهِدٌ"
[الحديث423- أطرافه في: 7304,7166,7165,6854,5308,5259,4746,4745]
قوله: "باب القضاء واللعان في المسجد" هو من عطف الخاص على العام. وسقط
قوله: "بين الرجال والنساء " من رواية المستملي. قوله: "حدثنا
يحيى" زاد الكشميهني: "ابن موسى " وكذا نسبه ابن السكن، وأخطأ من
قال هو ابن جعفر، وسيأتي الكلام على ما يتعلق بحديث سهل بن سعد المذكور وتسمية من
أبهم فيه في كتاب اللعان إن شاء الله تعالى. ويأتي ذكر الاختلاف في جواز القضاء في
المسجد في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.
(1/518)
45- باب إِذَا
دَخَلَ بَيْتًا يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ أَوْ حَيْثُ أُمِرَ وَلاَ يَتَجَسَّسُ
424- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عِتْبَانَ
بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ فِي
مَنْزِلِهِ فَقَالَ "أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ لَكَ مِنْ بَيْتِكَ"
قَالَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى مَكَانٍ فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ"
[الحديث424- أطرافه في:6938,6423,5401,4010,4009,1186,840,838,686,667,425]
قوله: "باب إذا دخل بيتا" أي لغيره "يصلي حيث شاء أو حيث
أمر؟" قيل مراده الاستفهام، لكن حذفت أداته، أي هل يتوقف على إذن صاحب المنزل
أو يكفيه الإذن العام في الدخول؟ فأو على هذا ليست للشك. و قوله: "ولا
يتجسس" بطناه بالجيم، وقيل إنه روي بالحاء المهملة، وهو متعلق بالشق الثاني
قال المهلب: دل حديث الباب على إلغاء حكم الشق الأول لاستئذانه صلى الله عليه وسلم
صاحب المنزل أين يصلي؟ وقال المازري: معنى قوله: "حيث شاء " أي من
الموضع الذي أذن له فيه. وقال ابن المنير: إنما أراد البخاري أن المسألة موضع نظر،
فهل يصلي من دعي حيث شاء لأن الإذن في الدخول عام في أجزاء المكان، فأينما جلس أو
صلى تناوله الإذن؟ أو يحتاج إلى أن يستأذن في تعيين مكان صلاته لأن النبي صلى الله
عليه وسلم فعل ذلك؟ الظاهر الأول. وإنما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه دعي
ليتبرك صاحب البيت بمكان صلاته فسأله ليصلي في البقعة التي يحب تخصيصها بذلك. وأما
من صلى لنفسه فهو على عموم الإذن. قلت: إلا أن يخص صاحب المنزل ذلك العموم فيختص.
والله أعلم. قوله: "عن ابن شهاب" صرح أبو داود الطيالسي في مسنده بسماع
إبراهيم بن سعد له من ابن شهاب قوله: "عن محمود بن الربيع" وللصنف في
" باب النوافل جماعة " كما سيأتي من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن
أبيه عن ابن شهاب قال: "أخبرني محمود". قوله: "عن عتبان" زاد
يعقوب المذكور في روايته قصة محمود في عقله المحبة كما تقدم من وجه آخر في كتاب
العلم،
(1/518)
46 - باب
الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ وَصَلَّى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِي مَسْجِدِهِ فِي
دَارِهِ جَمَاعَةً
425- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ
حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ
الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيُّ "أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ شَهِدَ
بَدْرًا مِنْ الأَنْصَارِ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَأَنَا أُصَلِّي
لِقَوْمِي فَإِذَا كَانَتْ الأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ بِهِمْ
وَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ تَأْتِينِي فَتُصَلِّيَ فِي بَيْتِي
فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ عِتْبَانُ فَغَدَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ
ارْتَفَعَ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ
أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ قَالَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى
نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ فَقُمْنَا فَصَفَّنَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ
قَالَ وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرَةٍ صَنَعْنَاهَا لَهُ قَالَ فَآبَ فِي الْبَيْتِ
رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ذَوُو عَدَدٍ فَاجْتَمَعُوا فَقَالَ قَائِلٌ
مِنْهُمْ أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخَيْشِنِ أَوِ ابْنُ الدُّخْشُنِ فَقَالَ
بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مُنَافِقٌ لاَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لاَ تَقُلْ ذَلِكَ أَلاَ تَرَاهُ قَدْ قَالَ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ
مَنْ قَالَ "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ" يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ
اللَّهِ". قَالَ ابْنُ شِهَابٍ ثُمَّ سَأَلْتُ الْحُصَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ
الأَنْصَارِيَّ وَهُوَ أَحَدُ بَنِي سَالِمٍ وَهُوَ مِنْ سَرَاتِهِمْ عَنْ حَدِيثِ
مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ فَصَدَّقَهُ بِذَلِكَ
قوله: "باب المساجد" أي اتخاذ المساجد "في البيوت". قوله:
"وصلى البراء بن عازب في مسجد في داره جماعة" وللكشميهني: "في
جماعة " وهذا الأثر أورد ابن أبي شيبة معناه في قصة. قوله: "أن عتبان بن
مالك" أي الخزرجي السالمي من بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، هو
بكسر العين ويجوز ضمها. قوله: "أنه أتى" في رواية ثابت عن أنس عن عتبان
عند مسلم أنه بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه ذلك، فيحتمل أن يكون نسب
إتيان رسوله إلى نفسه مجازا، ويحتمل أن يكون أتاه مرة وبعث إليه أخرى إما متقاضيا
وإما مذكرا. وفي الطبراني من طريق أبي أويس عن ابن شهاب بسنده أنه " قال
للنبي صلى الله عليه وسلم يوم جمعة: لو أتيتني يا رسول الله " وفيه أنه أتاه
يوم السبت، وظاهره أن مخاطبة عتبان بذلك كانت حقيقية لا مجازا. قوله: "قد
أنكرت بصري" كذا ذكره جمهور أصحاب ابن شهاب كما للمصنف من طريق إبراهيم ابن
سعد ومعمر، ولمسلم من طريق يونس، وللطبراني من طريق
(1/519)
الزبيدي والأوزاعي، وله من طريق أبي أويس " لما ساء بصري " وللإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن نمر " جعل بصري يكل " ولمسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت " أصابني في بصري بعض الشيء " وكل ذلك ظاهر في أنه لم يكن بلغ العمى إذ ذاك، لكن أخرجه المصنف في باب الرخصة في المطر من طريق مالك عن ابن شهاب فقال فيه: "إن عتبان كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها تكون الظلمة والسيل، وأنا رجل ضرير البصر " الحديث. وقد قيل: إن رواية مالك هذه معارضة لغيره، وليست عندي كذلك، بل قول محمود " إن عتبان كان يؤم قومه وهو أعمى " أي حين لقيه محمود وسمع منه الحديث، لا حين سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم. ويبينه قوله في رواية يعقوب " فجئت إلى عتبان وهو شيخ أعمى يؤم قومه". وأما قوله: "وأنا رجل ضرير البصر " أي أصابني فيه ضر كقوله: "أنكرت بصري". ويؤيد هذا الحمل قوله في رواية ابن ماجه من طريق إبراهيم بن سعد أيضا: "لما أنكرت من بصري " وقوله في رواية مسلم: "أصابني في بصري بعض الشيء " فإنه ظاهر في أنه لم يكمل عماه، لكن رواية مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت بلفظ: "أنه عمي فأرسل " وقد جمع ابن خزيمة بين رواية مالك وغيره من أصحاب ابن شهاب فقال: قوله. " أنكرت بصري " هذا اللفظ يطلق على من في بصره سوء وإن كان يبصر بصرا ما، وعلى من صار أعمى لا يبصر شيئا. انتهى. والأولى أن يقال: أطلق عليه عمى لقربه منه ومشاركته له في فوات بعض ما كان يعهده في حال الصحة، وبهذا تأتلف الروايات. والله أعلم. قوله: "أصلي لقومي" أي لأجلهم، والمراد أنه كان يؤمهم، وصرح بذلك أبو داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد. قوله: "سال الوادي" أي سال الماء في الوادي، فهو من إطلاق المحل على الحال، وللطبراني من طريق الزبيدي " وأن الأمطار حين تكون يمنعني سيل الوادي". قوله: "بيني وبينهم" وفي رواية الإسماعيلي: "يسيل الوادي الذي بين مسكني وبين مسجد قومي فيحول بيني وبين الصلاة معهم". قوله: "فأصلي بهم" بالنصب عطفا على " آتي". قوله: "وددت" بكسر الدال الأولى أي تمنيت. وحكى القزاز جواز فتح الدال في الماضي والواو في المصدر، والمشهور في المصدر الضم وحكي فيه أيضا الفتح فهو مثلث. قوله: "فتصلي" بسكون الياء ويجوز النصب لوقوع الفاء بعد التمني، وكذا قوله: "فأتخذه" بالرفع ويجوز النصب. قوله: "سأفعل إن شاء الله" هو هنا للتعليق لا لمحض التبرك، كذا قيل ويجوز أن يكون للتبرك لاحتمال اطلاعه صلى الله عليه وسلم بالوحي على الجزم بأن ذلك سيقع. قوله: "قال عتبان" ظاهر هذا السياق أن الحديث من أوله إلى هنا من رواية محمود بن الربيع بغير واسطة، ومن هنا إلى آخره من روايته عن عتبان صاحب القصة. وقد يقال: القدر الأول مرسل لأن محمودا يصغر عن حضور ذلك، لكن وقع التصريح في أوله بالتحديث بين عتبان ومحمود من رواية الأوزاعي عن ابن شهاب عند أبي عوانة، وكذا وقع تصريحه بالسماع عند المصنف من طريق معمر ومن طريق إبراهيم بن سعد كما ذكرناه في الباب الماضي، فيحمل قوله: "قال عتبان " على أن محمودا أعاد اسم شيخه اهتماما بذلك لطول الحديث. قوله: "فغدا على" زاد الإسماعيلي: "بالغد"، وللطبراني من طريق أبي أويس أن السؤال وقع يوم الجمعة، والتوجه إليه وقع يوم السبت كما تقدم. قوله: "وأبو بكر" لم يذكر جمهور الرواة عن ابن شهاب غيره، حتى أن في رواية الأوزاعي " فاستأذنا فأذنت لهما " لكن في رواية أبي أويس " ومعه أبو بكر وعمر " ولمسلم من طريق أنس عن عتبان " فأتاني ومن شاء الله من أصحابه " وللطبراني من وجه آخر عن أنس " في نفر من أصحابه " فيحتمل الجمع بأن أبا بكر صحبه وحده في ابتداء التوجه ثم عند الدخول
(1/520)
أو قبله اجتمع عمر وغيره من الصحابة فدخلوا معه. قوله: "فلم يجلس حين دخل"، وللكشميهني: "حتى دخل " قال عياض: "زعم بعضهم أنها غلط، وليس كذلك، بل المعنى فلم يجلس في الدار ولا غيرها حتى دخل البيت مبادرا إلى ما جاء بسببه". وفي رواية يعقوب عند المصنف وكذا عند الطيالسي " فلما دخل لم يجلس حتى قال أين تحب " وكذا للإسماعيلي من وجه آخر، وهي أبين في المراد، لأن جلوسه إنما وقع بعد صلاته بخلاف ما وقع منه في بيت مليكة حيث جلس فأكل ثم صلى، لأنه هناك دعي إلى الطعام فبدأ به، وهنا دعي إلى الصلاة فبدأ بها. قوله: "أن أصلي من بيتك" كذا للأكثر والجمهور من رواة الزهري، ووقع عند الكشميهني وحده " في بيتك". قوله: "وحبسناه" أي منعناه من الرجوع. قوله: "خزيرة" بخاء معجمة مفتوحة بعدها زاي مكسورة ثم ياء تحتانية ثم راء ثم هاء نوع من الأطعمة قال ابن قتيبة: تصنع من لحم يقطع صغارا ثم يصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق، وإن لم يكن فيه لحم فهو عصيدة. وكذا ذكر يعقوب نحوه وزاد: "من لحم بات ليلة " قال: وقيل هي حساء من دقيق فيه دسم، وحكي في الجمهرة نحوه، وحكى الأزهري عن أبي الهيثم أن الخزيرة من النخالة، وكذا حكاه المصنف في كتاب الأطعمة عن النضر بن شميل، قال عياض: المراد بالنخالة دقيق لم يغربل. قلت: ويؤيد هذا التفسير قوله في رواية الأوزاعي عند مسلم: "على جشيشة " بجيم ومعجمتين، قال أهل اللغة: هي أن تطحن الحنطة قليلا ثم يلقى فيها شحم أو غيره، وفي المطالع: أنها رويت في الصحيحين بحاء وراءين مهملات. وحكى المصنف في الأطعمة عن النضر أيضا أنها - أي التي بمهملات - تصنع من اللبن. قوله: "فثاب في البيت رجال" بمثلثة وبعد الألف موحدة، أي اجتمعوا بعد أن تفرقوا. قال الخليل: المثابة مجتمع الناس بعد افتراقهم، ومنه قيل للبيت مثابة. وقال صاحب المحكم: يقال ثاب إذا رجع وثاب إذا أقبل. قوله: "من أهل الدار" أي المحلة، كقوله: "خير دور الأنصار دار بني النجار " أي محلتهم، والمراد أهلها. قوله: "فقال قائل منهم" لم يسم هذا المبتدئ. قوله: "مالك بن الدخيشن" بضم الدال المهملة وفتح الخاء المعجمة وسكون الياء التحتانية بعدها شين معجمة مكسورة ثم نون قوله: "أو ابن الدخشن" بضم الدال والشين وسكون الخاء بينهما وحكي كسر أوله، والشك فيه من الراوي هل هو مصغر أو مكبر. وفي رواية المستملي هنا في الثانية بالميم بدل النون، وعند المصنف في المحاربين من رواية معمر " الدخشن " بالنون مكبرا من غير شك، وكذا لمسلم من طريق يونس، وله من طريق معمر بالشك، ونقل الطبراني عن أحمد بن صالح أن الصواب " الدخشم " بالميم وهي رواية الطيالسي، وكذا لمسلم من طريق ثابت عن أنس عن عتبان، والطبراني من طريق النضر بن أنس عن أبيه. قوله: "فقال بعضهم" قيل هو عتبان راوي الحديث، قال ابن عبد البر في التمهيد: الرجل الذي سار النبي صلى الله عليه وسلم في قتل رجل من المنافقين هو عتبان، والمنافق المشار إليه هو مالك بن الدخشم. ثم ساق حديث عتبان المذكور في هذا الباب، وليس فيه دليل على ما ادعاه من أن الذي ساره هو عتبان. وأغرب بعض المتأخرين فنقل عن ابن عبد البر أن الذي قال في هذا الحديث: "ذلك منافق " هو عتبان أخذا من كلامه هذا، وليس فيه تصريح بذلك. وقال ابن عبد البر: لم يختلف في شهود مالك بدرا وهو الذي أسر سهيل بن عمرو، ثم ساق بإسناد حسن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن تكلم فيه: "أليس قد شهد بدرا" . قلت: وفي المغازي لابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مالكا هذا ومعن ابن عدي فحرقا مسجد الضرار، فدل على أنه بريء مما اتهم به من النفاق، أو كان قد أقلع عن ذلك، أو النفاق الذي اتهم به ليس نفاق الكفر إنما أنكر الصحابة عليه تودده للمنافقين،
(1/521)
ولعل له عذرا في
ذلك كما وقع لحاطب. قوله: "ألا تراه قد قال لا إله إلا الله" وللطيالسي
" أما يقول: "ولمسلم: "أليس يشهد " وكأنهم فهموا من هذا
الاستفهام أن لا جزم بذلك. ولولا ذلك لم يقولوا في جوابه " إنه ليقول ذلك وما
هو في قلبه " كما وقع عند مسلم من طريق أنس عن عتبان. قوله: "فإنا نرى
وجهه" أي توجهه. قوله: "ونصيحته إلى المنافقين" قال الكرماني: يقال
نصحت له لا إليه ثم قال: قد ضمن معنى الانتهاء، كذا قال، والظاهر أن قوله:
"إلى المنافقين " متعلق بقوله: "وجهه " فهو الذي يتعدى بإلى،
وأما متعلق نصيحته فمحذوف للعلم به. قوله: "قال ابن شهاب" أي بالإسناد
الماضي، ووهم من قال إنه معلق. قوله: "ثم سألت" زاد الكشميهني:
"بعد ذلك " والحصين بمهملتين لجميعهم إلا للقابسي فضبطه بالضاد المعجمة
وغلطوه. قوله: "من سراتهم" بفتح المهملة أي خيارهم، وهو جمع سري، قال
أبو عبيد: هو المرتفع القدر من سرو الرجل يسرو إذا كان رفيع القدر، وأصله من
السراة وهو أرفع المواضع من ظهر الدابة، وقيل هو رأسها. قوله: "فصدقه
بذلك" يحتمل أن يكون الحصين سمعه أيضا من عتبان، ويحتمل أن يكون حمله عن
صحابي آخر، وليس للحصين ولا لعتبان في الصحيحين سوى هذا الحديث. وقد أخرجه البخاري
في أكثر من عشرة مواضع مطولا ومختصرا، وقد سمعه من عتبان أيضا أنس بن مالك كما
أخرجه مسلم، وسمعه أبو بكر بن أنس مع أبيه من عتبان أخرجه الطبراني، وسيأتي في
" باب النوافل جماعة " أن أبا أيوب الأنصاري سمع محمود بن الربيع يحدث
به عن عتبان فأنكره لما يقتضيه ظاهره من أن النار محرمة على جميع الموحدين، وأحاديث
الشفاعة دالة على أن بعضهم يعذب، لكن للعلماء أجوبه عن ذلك: منها ما رواه مسلم عن
ابن شهاب أنه قال عقب حديث الباب: "ثم نزلت بعد ذلك فرائض وأمور نرى أن الأمر
قد انتهى إليها، فمن استطاع أن لا يغتر فلا يغتر " وفي كلامه نظر لأن الصلوات
الخمس نزل فرضها قبل هذه الواقعة قطعا، وظاهره يقتضي أن تاركها لا يعذب إذا كان
موحدا. وقيل المراد أن من قالها مخلصا لا يترك الفرائض لأن الإخلاص يحمل على أداء
اللازم. وتعقب بمنع الملازمة. وقيل المراد تحريم التخليد أو تحريم دخول النار
المعدة للكافرين لا الطبقة المعدة للعصاة، وقيل المراد تحريم دخول النار بشرط حصول
قبول العمل الصالح والتجاوز عن السيئ والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفوائد:
إمامة الأعمى، وإخبار المرء عن نفسه بما فيه من عاهة ولا يكون من الشكوى، وأنه كان
في المدينة مساجد للجماعة سوى مسجده صلى الله عليه وسلم والتخلف عن الجماعة في
المطر والظلمة ونحو ذلك، واتخاذ موضع معين للصلاة. وأما النهي عن إيطان موضع معين
من المسجد ففيه حديث رواه أبو داود، وهو محمول على ما إذا استلزم رياء ونحوه. وفيه
تسوية الصفوف وأن عموم النهي عن إمامة الزائر من زاره مخصوص بما إذا كان الزائر هو
الإمام الأعظم فلا يكره، وكذا من أذن له صاحب المنزل. وفيه التبرك بالمواضع التي
صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم أو وطئها، ويستفاد منه أن من دعي من الصالحين
ليتبرك به أنه يجيب(1) إذا أمن الفتنة. ويحتمل أن يكون عتبان إنما طلب بذلك الوقوف
على جهة القبلة بالقطع، وفيه إجابة الفاضل دعوة المفضول، والتبرك بالمشيئة والوفاء
بالوعد، واستصحاب الزائر بعض أصحابه إذا علم أن المستدعي لا يكره ذلك، والاستئذان
على الداعي في بيته وإن تقدم منه طلب الحضور، وأن اتخاذ مكان في البيت للصلاة لا
يستلزم وقفيته ولو أطلق عليه اسم المسجد، وفيه اجتماع أهل
ـــــــ
(1) هذا فيه نظر,والصواب أن مثل هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لما جعل الله
فيه البركة, وغيره لايقاس عليه,لما بينهما من الفرق العظيم, ولأن فتح هذا الباب قد
يفضي إلى الغلو والشرك كما قد وقع من بعض الناس.نسأل الله العافية
(1/522)
المحلة على الإمام أو العالم إذا ورد منزل بعضهم ليستفيدوا منه ويتبركوا به(1) والتنبيه على من يظن به الفساد في الدين عند الإمام على جهة النصيحة ولا يعد ذلك غيبة، وأن على الإمام أن يتثبت في ذلك ويحمل الأمر فيه على الوجه الجميل، وفيه افتقاد من غاب عن الجماعة بلا عذر، وأنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد، وأنه لا يخلد في النار من مات على التوحيد وترجم عليه البخاري غير ترجمة الباب والذي قبله الرخصة في الصلاة في الرحال عند المطر وصلاة النوافل جماعة وسلام المأموم حين يسلم الإمام وأن رد السلام على الإمام لا يجب، وأن الإمام إذا زار قوما أمهم، وشهود عتبان بدرا وأكل الخزيرة، وأن العمل الذي يبتغى به وجه الله تعالى ينجي صاحبه إذا قبله الله تعالى، وأن من نسب من يظهر الإسلام إلى النفاق ونحوه بقرينة تقوم عنده لا يكفر بذلك ولا يفسق بل يعذر بالتأويل.
(1/523)
47 - باب التَّيَمُّنِ
فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ
بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى
426- حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن الأشعث بن سليم عن أبيه عن مسروق عن
عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه
كله: في طهوره,وترجله وتنعله"
قوله: "باب التيمن" أي البداءة باليمين "في دخول المسجد
وغيره" بالخفض عطفا على الدخول، ويجوز أن يعطف على المسجد لكن الأول أفيد.
قوله: "وكان ابن عمر" أي في دخول المسجد، ولم أره موصولا عنه، لكن في
المستدرك للحاكم من طريق معاوية بن قرة عن أنس أنه كان يقول: "من السنة إذا
دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى " والصحيح
أن قول الصحابي " من السنة كذا " محمول على الرفع، لكن لما لم يكن حديث
أنس على شرط المصنف أشار إليه بأثر ابن عمر، وعموم حديث عائشة يدل على البداءة
باليمين في الخروج من المسجد أيضا، ويحتمل أن يقال: في قولها " ما استطاع
" احتراز عما لا يستطاع فيه التيمن شرعا كدخول الخلاء والخروج من المسجد،
وكذا تعاطي الأشياء المستقذرة باليمين كالاستنجاء والتمخط. وعلمت عائشة رضي الله
عنها حبه صلى الله عليه وسلم لما ذكرت إما بإخباره لها بذلك، وإما بالقرائن. وقد
تقدمت بقية مباحث حديثها هذا في " باب التيمن في الوضوء والغسل".
(1/523)
48 - باب هَلْ
تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُتَّخَذُ مَكَانُهَا مَسَاجِدَ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ
اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ الصَّلاَةِ فِي
الْقُبُورِ وَرَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ الْقَبْرَ الْقَبْرَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ
بِالإِعَادَةِ
427- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أُمَّ
حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ
ـــــــ
(1) هذا غلط. والصواب منع ذلك كما تقدم في غير النبي صلى الله عليه وسلم سدا
للذريعة المفضية إلى الشرك
(1/523)
49 - باب
الصَّلاَةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ
429- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي
التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ثُمَّ سَمِعْتُهُ
بَعْدُ يَقُولُ كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى
الْمَسْجِدُ"
قوله: "باب الصلاة في مرابض الغنم" أي أماكنها، وهو بالموحدة والضاد
المعجمة جمع مربض بكسر الميم.حديث أنس طرف من الحديث الذي قبله، لكن بين هناك أنه
كان يحب الصلاة حيث أدركته - أي حيث دخل وقتها - سواء كان في مرابض الغنم أو
غيرها، وبين هناك أن ذلك كان قبل أن يبنى المسجد، ثم بعد بناء المسجد صار لا يحب
الصلاة في غيره إلا لضرورة. قال ابن بطال: هذا الحديث حجة على الشافعي في قوله
بنجاسة أبوال الغنم وأبعارها، لأن مرابض الغنم لا تسلم من ذلك. وتعقب بأن الأصل
الطهارة وعدم السلامة منها غالب، وإذا تعارض الأصل والغالب قدم الأصل. وقد تقدم
مزيد بحث فيه في كتاب الطهارة في باب أبوال الإبل. "تنبيه": القائل
" ثم سمعته بعد يقول: "هو شعبة يعني أنه سمع شيخه يزيد فيه القيد
المذكور بعد أن سمعه منه بدونه، ومفهوم الزيادة أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل في
مرابض الغنم بعد بناء المسجد، لكن قد ثبت إذنه في ذلك كما تقدم في كتاب الطهارة.
(1/526)
50 - باب
الصَّلاَةِ فِي مَوَاضِعِ الإِبِلِ
430- حدثنا صدقة بن الفضل قال أخبرنا سليمان بن حيان قال حدثنا عبيد الله بن نافع
قال:"رأيت ابن عمر يصلي إلى بعيره وقال:رأيت النبي صلى الله عليه وسلم
يفعله"
[الحديث430- طرفه في: 507]
قوله: "باب الصلاة في مواضع الإبل" كأنه يشير إلى أن الأحاديث الواردة
في التفرقة بين الإبل والغنم ليست على شرطه، لكن لها طرق قوية: منها حديث جابر بن
سمرة عند مسلم، وحديث البراء بن عازب عند أبي داود، وحديث أبي هريرة عند الترمذي،
وحديث عبد الله بن مغفل عند النسائي، وحديث سبرة بن معبد عن ابن ماجه، وفي معظمها
التعبير " بمعاطن الإبل". ووقع في حديث جابر بن سمرة والبراء "
مبارك الإبل"، ومثله في حديث سليك عند الطبراني، وفي حديث سبرة وكذا في حديث
أبي هريرة عند الترمذي " أعطان الإبل " وفي حديث أسيد بن حضير عند
الطبراني " مناخ الإبل " وفي حديث عبد الله ابن عمرو عند أحمد "
مرابد الإبل"، فعبر المصنف بالمواضع لأنها أشمل، والمعاطن أخص من المواضع لأن
المعاطن مواضع إقامتها عند الماء خاصة. وقد ذهب بعضهم إلى أن النهي خاص بالمعاطن
دون غيرها من الأماكن التي تكون فيها الإبل، وقيل هو مأواها مطلقا نقله صاحب المغني
عن أحمد، وقد نازع الإسماعيلي المصنف في استدلاله بحديث ابن عمر المذكور بأنه لا
يلزم من الصلاة إلى البعير وجعله سترة عدم كراهية الصلاة في مبركه، وأجيب بأن
مراده الإشارة إلى ما ذكر من علة النهي عن ذلك وهي كونها من الشياطين كما في حديث
عبد الله بن مغفل فإنها خلقت من الشياطين، ونحوه في حديث البراء، كأنه يقول: لو
كان ذلك مانعا من صحة الصلاة لامتنع مثله في جعلها أمام المصلي، وكذلك صلاة
راكبها، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة وهو على بعيره كما سيأتي
في أبواب الوتر، وفرق بعضهم بين الواحد منها وبين كونها مجتمعة لما طبعت عليه من
النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي، بخلاف الصلاة على المركوب منها أو إلى جهة
واحد معقول، وسيأتي بقية الكلام على حديث ابن عمر في أبواب سترة المصلي إن شاء
الله تعالى. وقيل علة النهي في التفرقة بين الإبل والغنم بأن عادة أصحاب الإبل
التغوط بقربها فتنجس أعطانها وعادة أصحاب الغنم تركه، حكاه الطحاوي عن شريك
واستبعده، وغلط أيضا من قال إن ذلك بسبب ما يكون في معاطنها من أبوالها وأرواثها
لأن مرابض الغنم تشركها في ذلك. وقال: إن النظر يقتضي عدم التفرقة بين الإبل
والغنم في الصلاة وغيرها كما هو مذهب أصحابه. وتعقب بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة
المصرحة بالتفرقة فهو قياس فاسد الاعتبار، وإذا ثبت الخبر بطلت معارضته بالقياس
اتفاقا، لكن جمع بعض الأئمة بين عموم قوله: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا
" وبين أحاديث الباب بحملها على كراهة التنزيه وهذا أولى. والله أعلم.
"تكملة": وقع في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم ولا يصلي في مرابض الإبل والبقر، وسنده ضعيف،
فلو ثبت لأفاد أن حكم البقر حكم الإبل، بخلاف ما ذكره ابن المنذر أن البقر في ذلك
كالغنم.
(1/527)
باب من صلى وقدامه
تنور أو نار أوشيء مما يعبد فأراد به الله
...
3 - باب مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَوْ نَارٌ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا
يُعْبَدُ فَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأَنَا أُصَلِّي"
(1/527)
431- حدثنا عبد
الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس قال
"انخسفت الشمس,فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال "أريت النار
فلم أرمنظرا كاليوم قط أفظع"
قوله: "باب من صلى وقدامه تنور" النصب على الظرف، "التنور"
بفتح المثناة وتشديد النون المضمومة: ما توقد فيه النار للخبز وغيره، وهو في
الأكثر يكون حفيرة في الأرض، وربما كان على وجه الأرض، ووهم من خصه بالأول. قيل هو
معرب، وقيل هو عربي توافقت عليه الألسنة، وإنما خصه بالذكر مع كونه ذكر النار بعده
اهتماما به لأن عبدة النار من المجوس لا يعبدونها إلا إذا كانت متوقدة بالجمر
كالتي في التنور، وأشار به إلى ما ورد عن ابن سيرين أنه كره الصلاة إلى التنور
وقال: هو بيت نار، أخرجه ابن أبي شيبة. و قوله: "أو شيء" من العام بعد
الخاص، فتدخل فيه الشمس مثلا والأصنام والتماثيل، والمراد أن يكون ذلك بين المصلي
وبين القبلة. قوله: "وقال الزهري" هو طرف من حديث طويل يأتي موصولا في
" باب وقت الظهر " وقد تقدم طرف منه في كتاب العلم وسيأتي باللفظ الذي
ذكره هنا في كتاب التوحيد، وحديث ابن عباس يأتي الكلام عليه بتمامه في صلاة
الكسوف، فقد ذكره بتمامه هناك بهذا الإسناد، وتقدم أيضا طرف منه في كتاب الإيمان،
وقد نازعه الإسماعيلي في الترجمة فقال: ليس ما أرى الله نبيه من النار بمنزلة نار
معبودة لقوم يتوجه المصلي إليها. وقال ابن التين: لا حجة فيه على الترجمة لأنه لم
يفعل ذلك مختارا، وإنما عرض عليه ذلك للمعنى الذي أراده الله من تنبيه العباد.
وتعقب بأن الاختيار وعدمه في ذلك سواء منه، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على
باطل، فدل على أن مثله جائز. وتفرقة الإسماعيلي بين القصد وعدمه وإن كانت ظاهرة
لكن الجامع بين الترجمة والحديث وجود نار بين المصلي وبين قبلته في الجملة. وأحسن
من هذا عندي أن يقال: لم يفصح المصنف في الترجمة بكراهة ولا غيرها، فيحتمل أن يكون
مراده التفرقة بين من بقي ذلك بينه وبين قبلته وهو قادر على إزالته أو انحرافه
عنه، وبين من لا يقدر على ذلك فلا يكره في حق الثاني، وهو المطابق لحديثي الباب،
ويكره في حق الأول كما سيأتي التصريح بذلك عن ابن عباس في التماثيل، وكما روى ابن
أبي شيبة عن ابن سيرين أنه كره الصلاة إلى التنور أو إلى بيت نار، ونازعه أيضا من
المتأخرين القاضي السروجي في شرح الهداية فقال: لا دلالة في هذا الحديث على عدم
الكراهة لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "أريت النار " ولا يلزم أن تكون
أمامه متوجها إليها، بل يجوز أن تكون عن يمينه أو عن يساره أو غير ذلك. قال:
ويحتمل أن يكون ذلك وقع له قبل شروعه في الصلاة. انتهى. وكأن البخاري رحمه الله
كوشف بهذا الاعتراض فعجل بالجواب عنه حيث صدر الباب بالمعلق عن أنس، ففيه:
"عرضت على النار وأنا أصلي " وأما كونه رآها أمامه فسياق حديث ابن عباس
يقتضيه، ففيه أنهم قالوا له بعد أن انصرف " يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا
في مقامك ثم رأيناك تكعكعت " أي تأخرت إلى خلف، وفي جوابه أن ذلك بسبب كونه
أري النار. وفي حديث أنس المعلق هنا عنده في كتاب التوحيد موصولا " لقد عرضت
علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي " وهذا يدفع جواب من فرق
بين القريب من المصلي والبعيد.
(1/528)
52 - باب
كَرَاهِيَةِ الصَّلاَةِ فِي الْمَقَابِرِ
432- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(1/528)
"اجْعَلُوا
فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا"
[الحديث 432- طرفه في:1187]
قوله: "باب كراهية الصلاة في المقابر" استنبط من قوله في الحديث:
"ولا تتخذوها قبورا " أن القبور ليست بمحل للعبادة فتكون الصلاة فيها
مكروهة، وكأنه أشار إلى أن ما رواه أبو داود والترمذي في ذلك ليس على شرطه، وهو
حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"
رجاله ثقات، لكن اختلف في وصله وإرساله، وحكم مع ذلك بصحته الحاكم وابن حبان.
قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري. قوله:
"من صلاتكم" قال القرطبي " من " للتبعيض، والمراد النوافل
بدليل ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعا: "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده
فليجعل لبيته نصيبا من صلاته" ، قلت: وليس فيه ما ينفي الاحتمال. وقد حكى
عياض عن بعضهم أن معناه: اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى
المسجد من نسوة وغيرهن. وهذا وإن كان محتملا لكن الأول هو الراجح. وقد بالغ الشيخ
محيي الدين فقال: لا يجوز حمله على الفريضة، وقد نازع الإسماعيلي المصنف أيضا في
هذه الترجمة فقال: الحديث دال على كراهة الصلاة في القبر لا في المقابر. قلت: قد
ورد بلفظ: "المقابر " كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: "لا
تجعلوا بيوتكم مقابر " وقال ابن التين: تأوله البخاري على كراهة الصلاة في
المقابر، وتأوله جماعة على أنه إنما فيه الندب إلى الصلاة في البيوت إذ الموتى لا
يصلون، كأنه قال: "لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم، وهي
القبور". قال: فأما جواز الصلاة في المقابر أو المنع منه فليس في الحديث ما
يؤخذ منه ذلك. قلت: إن أراد أنه لا يؤخذ منه بطريق المنطوق فمسلم، وإن أراد نفي
ذلك مطلقا فلا، فقد قدمنا وجه استنباطه. وقال في النهاية تبعا للمطالع: إن تأويل
البخاري مرجوح، والأولى قول من قال: معناه إن الميت لا يصلى في قبره. وقد نقل ابن
المنذر عن أكثر أهل العلم أنهم استدلوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع
الصلاة، وكذا قال البغوي في شرح السنة والخطابي. وقال أيضا: يحتمل أن المراد لا
تجعلوا بيوتكم وطنا للنوم فقط لا تصلون فيها فإن النوم أخو الموت والميت لا يصلي.
وقال التوربشتي: حاصل ما يحتمله أربعة معان، فذكر الثلاثة الماضية ورابعها: يحتمل
أن يكون المراد أن من لم يصل في بيته جعل نفسه كالميت وبيته كالقبر. قلت: ويؤيده
ما رواه مسلم: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه
كمثل الحي والميت". قال الخطابي: وأما من تأوله على النهي عن دفن الموتى في
البيوت فليس بشيء، فقد دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته الذي كان يسكنه
أيام حياته، قلت: ما ادعى أنه تأويل هو ظاهر لفظ الحديث ولا سيما أن جعل النهي
حكما منفصلا عن الأمر. وما استدل به على رده تعقبه الكرماني فقال: لعل ذلك من
خصائصه. وقد روي أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون. قلت: هذا الحديث رواه ابن ماجه مع
حديث ابن عباس عن أبي بكر مرفوعا: "ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض " وفي
إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي وهو ضعيف، وله طريق أخرى مرسلة ذكرها البيهقي في
الدلائل، وروى الترمذي في الشمائل والنسائي في الكبرى من طريق سالم بن عبيد
الأشجعي الصحابي عن أبي بكر الصديق أنه قيل له " فأين يدفن رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ قال: في المكان الذي قبض الله فيه روحه، فإنه لم يقبض روحه إلا في
مكان طيب " إسناده صحيح لكنه موقوف. والذي قبله أصرح في المقصود. وإذا حمل
دفنه في بيته على الاختصاص لم يبعد نهي غيره عن ذلك، بل هو متجه، لأن استمرار
الدفن في
(1/529)
البيوت ربما صيرها مقابر فتصير الصلاة فيها مكروهة، ولفظ حديث أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث الباب وهو قوله: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر " فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقا. والله أعلم.
(1/530)
3 - باب الصَّلاَةِ
فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ
وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَرِهَ الصَّلاَةَ بِخَسْفِ
بَابِلَ
433- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا
بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لاَ
يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ"
[الحديث433- أطرافه في:4702,4420,4419,3381,3380]
قوله: "باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب" أي ما حكمها؟ وذكر العذاب
بعد الخسف من العام بعد الخاص لأن الخسف من جملة العذاب. قوله: "ويذكر أن
عليا" هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن أبي المحل وهو بضم
الميم وكسر المهملة وتشديد اللام قال: "كنا مع علي فمررنا على الخسف الذي
ببابل، فلم يصل حتى أجازه " أي تعداه. ومن طريق أخرى عن علي قال: "ما
كنت لأصلي في أرض خسف الله بها ثلاث مرار " والظاهر أن قوله: "ثلاث مرار
" ليس متعلقا بالخسف لأنه ليس فيها إلا خسف واحد، وإنما أراد أن عليا قال ذلك
ثلاثا، ورواه أبو داود مرفوعا من وجه آخر عن علي ولفظه: "نهاني حبيبي صلى
الله عليه وسلم أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة " في إسناده ضعف، واللائق بتعليق
المصنف ما تقدم، والمراد بالخسف هنا ما ذكر الله تعالى في قوله: {فَأَتَى اللَّهُ
بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}
الآية، ذكر أهل التفسير والأخبار أن المراد بذلك أن النمرود بن كنعان بنى ببابل
بنيانا عظيما يقال إن ارتفاعه كان خمسة آلاف ذراع، فخسف الله بهم، قال الخطابي: لا
أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل، فإن كان حديث علي ثابتا فلعله نهاه
أن يتخذها وطنا لأنه إذا أقام بها كانت صلاته فيها، يعني أطلق الملزوم وأراد
اللازم. قال: فيحتمل أن النهي خاص بعلي إنذارا له بما لقي من الفتنة بالعراق. قلت:
وسياق قصة علي الأولى يبعد هذا التأويل. والله أعلم. قوله: "حدثنا إسماعيل بن
عبد الله" هو ابن أبي أويس ابن أخت مالك. قوله: "لا تدخلوا" كان
هذا النهي لما مروا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر ديار ثمود في حال توجههم إلى
تبوك، وقد صرح المصنف في أحاديث الأنبياء من وجه آخر عن ابن عمر ببعض ذلك. قوله:
"هؤلاء المعذبين" بفتح الذال المعجمة. وله في أحاديث الأنبياء " لا
تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم". قوله: "إلا أن تكونوا باكين"
ليس المراد الاقتصار في ذلك على ابتداء الدخول، بل دائما عند كل جزء من الدخول،
وأما الاستقرار فالكيفية المذكورة مطلوبة فيه بالأولوية، وسيأتي أنه صلى الله عليه
وسلم لم ينزل فيه البتة. قال ابن بطال: هذا يدل على إباحة الصلاة هناك، لأن الصلاة
موضع بكاء وتضرع، كأنه يشير إلى عدم مطابقة الحديث لأثر علي. قلت: والحديث مطابق
له من جهة أن كلا منهما فيه ترك النزول كما وقع عند المصنف في المغازي في آخر
الحديث: "ثم قنع صلى الله عليه وسلم رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي "
فدل على أنه لم ينزل ولم يصل هناك كما صنع علي في خسف بابل. وروى
(1/530)
الحاكم في " الإكليل " عن أبي سعيد الخدري قال: "رأيت رجلا جاء بخاتم وجده بالحجر في بيوت المعذبين فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم واستتر بيده أن ينظر إليه وقال: "ألقه". فألقاه " لكن إسناده ضعيف، وسيأتي نهيه صلى الله عليه وسلم أن يستقى من مياههم في كتاب أحاديث الأنبياء إن شاء الله تعالى. قوله: "لا يصيبكم" بالرفع على أن " لا " نافية والمعنى لئلا يصيبكم. ويجوز الجزم على أنها ناهية وهو أوجه، وهو نهي بمعنى الخبر. وللمصنف في أحاديث الأنبياء " أن يصيبكم " أي خشية أن يصيبكم، ووجه هذه الخشية أن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك. والتفكر أيضا في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له، فمن مر عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتبارا بأحوالهم فقد شابههم في الإهمال، ودل على قساوة قلبه وعدم خشوعه، فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم، وبهذا يندفع اعتراض من قال: كيف يصيب عذاب الظالمين من ليس بظالم؟ لأنه بهذا التقرير لا يأمن أن يصير ظالما فيعذب بظلمه. وفي الحديث الحث على المراقبة، والزجر عن السكنى في ديار المعذبين، والإسراع عند المرور بها، وقد أشير إلى ذلك في قوله تعالى :{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}.
(1/531)
54 - باب
الصَّلاَةِ فِي الْبِيعَةِ
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّا لاَ نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ
أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي الْبِيعَةِ إِلاَّ بِيعَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ
434- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ
يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ فَقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمْ
الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا
وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ
اللَّهِ"
قوله: "باب الصلاة في البيعة" بكسر الموحدة بعدها مثناة تحتانية: معبد
للنصارى. قال صاحب المحكم، البيعة صومعة الراهب. وقيل كنيسة النصارى والثاني هو
المعتمد. ويدخل في حكم البيعة الكنيسة وبيت المدراس والصومعة وبيت الصنم وبيت
النار ونحو ذلك. قوله: "وقال عمر: إنا لا ندخل كنائسكم" وفي رواية
الأصيلي: "كنائسهم". قوله: "من أجل التماثيل" هو جمع تمثال
بمثناة ثم مثلثة بينهما ميم، وبينه وبين الصورة عموم وخصوص مطلق فالصورة أعم.
قوله: "التي فيها" الضمير يعود على الكنيسة، والصور بالجر على أنها بدل
من التماثيل أو بيان لها، أو بالنصب على الاختصاص، أو بالرفع أي أن التماثيل مصورة
والضمير على هذا للتماثيل. وفي رواية الأصيلي: "والصور " بزيادة الواو
العاطفة. وهذا الأثر وصله عبد الرزاق من طريق أسلم مولى عمر قال: لما قدم عمر
الشام صنع له رجل من النصارى طعاما وكان من عظمائهم وقال: أحب أن تجيئني وتكرمني.
فقال له عمر: إنا لا ندخل
(1/531)
كنائسكم من أجل الصور التي فيها، يعني التماثيل. وتبين بهذا أن روايتي النصب والجر أوجه من غيرهما، والرجل المذكور من عظمائهم اسمه قسطنطين سماه مسلمة بن عبد الله الجهني عن عمه أبي مسجعة بن ربعي عن عمر في قصة طويلة أخرجها. قوله: "وكان ابن عباس" وصله البغوي في " الجعديات " وزاد فيه: "فإن كان فيها تماثيل خرج فصلى في المطر " وقد تقدم في " باب من صلى وقدامه تنور " أن لا معارضة بين هذين البابين، وأن الكراهة في حال الاختيار. قوله: "حدثنا محمد" هو ابن سلام كما صرح به ابن السكن في روايته. وعبده هو ابن سليمان، وقد تقدم الكلام على المتن قبل خمسة أبواب، ومطابقته للترجمة من قوله: "بنوا على قبره مسجدا " فإن فيه إشارة إلى نهي المسلم عن أن يصلي في الكنيسة فيتخذها بصلاته مسجدا. والله أعلم.
(1/532)
55- باب
436,435- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ
الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ
أَنَّ عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالاَ لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ
فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ
"لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا
[الحديث435- اطرافه في:5815,4443,4441,3453,1390,1330]
[الحديث436- أطرافه في:5816,4444,3454]
437- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قاتل الله اليهود اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد"
قوله "باب" كذا في أكثر الروايات بغير ترجمة وسقط من بعض الروايات,وقد
قررنا أن ذلك كالفصل من الباب,فله تعلق بالباب الذي قبله, والجامع بينهما الزجر عن
اتخاذ القبور مساجد,وكأنه أراد أن يبين أن فعل ذلك مذموم سواء كان مع تصوير أم لا.
قوله: "لما نزل" كذا لأبي ذر بفتحتين والفاعل محذوف أي الموت، ولغيره
بضم النون وكسر الزاي، وطفق أي جعل. والخميصة كساء له أعلام كما تقدم. قوله:
"فقال وهو كذلك" أي في تلك الحال، ويحتمل أن يكون ذلك في الوقت الذي
ذكرت فيه أم سلمة وأم حبيبة أمر الكنيسة التي رأتاها بأرض الحبشة، وكأنه صلى الله
عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى فلعن
اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم، و قوله: "اتخذوا" جملة
مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن، كأنه قيل ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله:
"اتخذوا". وقوله: "يحذر ما صنعوا" جملة أخرى مستأنفة من كلام
الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت فأجيب بذلك. وقد استشكل ذكر
النصارى فيه لأن اليهود لهم أنبياء بخلاف النصارى فليس بين عيسى وبين نبينا صلى
الله عليه وسلم نبي غيره وليس له قبر، والجواب أنه كان فيهم أنبياء أيضا لكنهم غير
مرسلين كالحواريين ومريم في قول، أو الجمع في قوله: "أنبيائهم " بإزاء
المجموع من اليهود والنصارى، والمراد الأنبياء وكبار أتباعهم فاكتفي بذكر
الأنبياء، ويؤيده قوله في رواية مسلم من طريق جندب " كانوا يتخذون قبور
أنبيائهم وصالحيهم مساجد " ولهذا لما أفرد النصارى في الحديث الذي قبله قال:
"إذا مات فيهم الرجل الصالح "
(1/532)
ولما أفرد اليهود في الحديث الذي بعده قال: "قبور أنبيائهم"، أو المراد بالاتخاذ أعم من أن يكون ابتداعا أو اتباعا، فاليهود ابتدعت والنصارى اتبعت، ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود.
(1/533)
3 - بَاب قَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ
مَسْجِدًا وَطَهُورًا"
438- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ
حَدَّثَنَا سَيَّارٌ هُوَ أَبُو الْحَكَمِ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الْفَقِيرُ
قَالَ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأَنْبِيَاءِ
قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا
وَطَهُورًا وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ
وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ
خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ"
قوله "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض" تقدم الكلام على
حديث جابر في أوائل كتاب التيمم، وأخرجه هناك عن محمد بن سنان أيضا وسعيد بن النضر
لكنه ساقه هناك على لفظ سعيد وهنا على لفظ ابن سنان وليس بينهما تفاوت من حيث
المعنى لا في السند ولا في المتن، وإيراده له هنا يحتمل أن يكون أراد أن الكراهة
في الأبواب المتقدمة ليست للتحريم لعموم قوله: "جعلت لي الأرض مسجدا "
أي كل جزء منها يصلح أن يكون مكانا للسجود، أو يصلح أن يبنى فيه مكان للصلاة،
ويحتمل أن يكون أراد أن الكراهة فيها للتحريم، وعموم حديث جابر مخصوص بها، والأول أولى(1)
لأن الحديث سيق في مقام الامتنان فلا ينبغي تخصيصه، ولا يرد عليه أن الصلاة في
الأرض المتنجسة لا تصح، لأن التنجس وصف طارئ، والاعتبار بما قبل ذلك.
(1/533)
3 - باب نَوْمِ
الْمَرْأَةِ فِي الْمَسْجِدِ
439- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ وَلِيدَةً
كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ فَأَعْتَقُوهَا فَكَانَتْ مَعَهُمْ
قَالَتْ فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ
قَالَتْ فَوَضَعَتْهُ أَوْ وَقَعَ مِنْهَا فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاةٌ وَهُوَ
مُلْقًى فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا فَخَطِفَتْهُ قَالَتْ فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ
يَجِدُوهُ قَالَتْ فَاتَّهَمُونِي بِهِ قَالَتْ فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حَتَّى
فَتَّشُوا قُبُلَهَا قَالَتْ وَاللَّهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ إِذْ مَرَّتْ
الْحُدَيَّاةُ فَأَلْقَتْهُ قَالَتْ فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ قَالَتْ فَقُلْتُ هَذَا
الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ زَعَمْتُمْ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ وَهُوَ ذَا
هُوَ قَالَتْ فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَسْلَمَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ
حِفْشٌ قَالَتْ فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي قَالَتْ فَلاَ تَجْلِسُ
عِنْدِي مَجْلِسًا إِلاَّ قَالَتْ:
وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ تعَاجِيبِ رَبِّنَا ... أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ
الْكُفْرِ أَنْجَانِي
ـــــــ
(1) في كون الأول أولى نظر. والأصح الثاني. وعليه تكون المقبرة ونحوها مما صح
النهي عن الصلاة فيه مخصوصة من عموم حديث جابر المذكور. والله أعلم
(1/533)
3 - باب نَوْمِ
الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ
وَقَالَ أَبُو قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ "قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ
عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا فِي
الصُّفَّةِ" وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
"كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ الْفُقَرَاءَ"
440- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ
حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ "أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ
وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ لاَ أَهْلَ لَهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
[الحديث440- أطرافه في:7030,7028,7015,3740,3738,1156,1121]]
441- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ جَاءَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا
فِي الْبَيْتِ فَقَالَ "أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ" قَالَتْ كَانَ بَيْنِي
وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي فَقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لِإِنْسَانٍ " انْظُرْ أَيْنَ هُوَ" فَجَاءَ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ فَجَاءَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ
رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ وَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ "قُمْ أَبَا تُرَابٍ
قُمْ أَبَا تُرَابٍ".
[الحديث441- أطرافه في:6280,6204,3703]
قوله: "باب نوم الرجال في المسجد" أي جواز ذلك، وهو قول الجمهور، وروي
عن ابن عباس كراهيته إلا لمن يريد الصلاة، وعن ابن مسعود مطلقا، وعن مالك التفصيل
بين من له مسكن فيكره وبين من لا مسكن له فيباح. قوله: "وقال أبو قلابة عن
أنس" هذا طرف من قصة العرنيين، وقد تقدم حديثهم في الطهارة. وهذا اللفظ أورده
في المحاربين موصولا من طريق وهيب عن أيوب عن أبي قلابة. قوله: "وقال عبد
الرحمن بن أبي بكر" هو أيضا طرف من حديث طويل يأتي في علامات النبوة. والصفة
موضع مظلل في المسجد النبوي كانت تأوي إليه المساكين، وقد سبق البخاري إلى
الاستدلال بذلك سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار رواه ابن أبي شيبة عنهما. قوله:
"حدثنا يحيى" و القطان "عن عبيد الله" هو العمري، وحديث عبد
الله بن عمر هذا مختصر أيضا من حديث له طويل يأتي في باب فضل قيام الليل، وأورده
ابن ماجه مختصرا أيضا بلفظ: "كنا ننام". قوله: "أعزب" المهملة
والزاي أي غير متزوج. والمشهور فيه عزب بفتح العين وكسر الزاي، والأول لغة قليلة
مع أن القزاز
(1/535)
أنكرها. و قوله:
"لا أهل له" هو تفسير لقوله أعزب، ويحتمل أن يكون من العام بعد الخاص
فيدخل فيه الأقارب ونحوهم. و قوله: "في مسجد" متعلق بقوله ينام. قوله:
"عن أبي حازم" هو سلمة بن دينار والد عبد العزيز المذكور. قوله:
"أين ابن عمك" فيه إطلاق ابن العم على أقارب الأب لأنه ابن عم أبيها لا
ابن عمها، وفيه إرشادها إلى أن تخاطبه بذلك لما فيه من الاستعطاف بذكر القرابة،
وكأنه صلى الله عليه وسلم فهم ما وقع بينهما فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة
القريبة التي بينهما. قوله: "فلم يقل عندي" بفتح الياء التحتانية وكسر
القاف، من القيلولة وهو نوم نصف النهار. قوله: "فقال لإنسان" يظهر لي
أنه سهل راوي الحديث لأنه لم يذكر أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم غيره.
وللمصنف في الأدب " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لفاطمة أين ابن
عمك؟ قالت في المسجد " وليس بينه وبين الذي هنا مخالفة لاحتمال أن يكون
المراد من قوله: "انظر أين هو" المكان المخصوص من المسجد. وعند الطبراني
" فأمر إنسانا معه فوجده مضطجعا في فيء الجدار". قوله: "هو راقد في
المسجد" فيه مراد الترجمة، لأن حديث ابن عمر يدل على إباحته لمن لا مسكن له،
وكذا بقية أحاديث الباب، إلا قصة علي فإنها تقتضي التعميم، لكن يمكن أن يفرق بين
نوم الليل وبين قيلولة النهار. وفي حديث سهل هذا من الفوائد أيضا جواز القائلة في
المسجد، وممازحة المغضب بما لا يغضب منه بل يحصل به تأنيسه، وفيه التكنية بغير
الولد وتكنية من له كنية، والتلقيب بالكنية لمن لا يغضب، وسيأتي في الأدب أنه كان
يفرح إذا دعي بذلك. وفيه مدارة الصهر وتسكينه من غضبه، ودخول الوالد بيت ابنته
بغير إذن زوجها حيث يعلم رضاه، وأنه لا بأس بإبداء المنكبين في غير الصلاة. وسيأتي
بقية ما يتعلق به في فضائل علي إن شاء الله تعالى.
442- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "لَقَدْ رَأَيْتُ
سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ إِمَّا
إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ
نِصْفَ السَّاقَيْنِ وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ
كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ".
قوله: "حدثنا ابن فضيل" هو محمد بن فضيل بن غزوان، وأبو حازم هو سلمان
الأشجعي، وهو أكبر من أبي حازم الذي قبله في السن واللقاء، وإن كانا جميعا مدنيين
تابعيين ثقتين. قوله: "لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة" يشعر بأنهم كانوا
أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم النبي صلى
الله عليه وسلم في غزوة بئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضا لكنهم استشهدوا قبل
إسلام أبي هريرة، وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابي والسلمي والحاكم وأبو
نعيم، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وفي بعض ما ذكروه اعتراض ومناقشة، لكن لا
يسع هذا المختصر تفصيل ذلك. قوله: "رداء" هو ما يستر أعالي البدن فقط.
وقوله: "إما إزار" أي فقط "وإما كساء" أي على الهيئة المشروحة
في المتن. وقوله: "قد ربطوا" أي الأكسية فحذف المفعول للعلم به. وقوله:
"فمنها" أي من الأكسية.قوله: "فيجمعه بيده" أي الواحد منهم،
زاد الإسماعيلي أن ذلك في حال كونهم في الصلاة. ومحصل ذلك أنه لم يكن لأحد منهم
ثوبان. وقد تقدم نحو هذه الصفة في " باب إذا كان الثوب ضيقا".
(1/536)
59 - باب
الصَّلاَةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ"
443- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا
مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ "أَتَيْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ
مِسْعَرٌ أُرَاهُ قَالَ ضُحًى فَقَالَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ لِي عَلَيْهِ
دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي".
[الحديث 443- أطرافه في:6387,5367,5247,5246,5245,5244,5243,5080,5079,4052,
3090,3089,3087,2967,2861,2718,2604,2603,2470,240,2394,2385,2309,2097,1801]
قوله: "باب الصلاة إذا قدم من سفر" أي في المسجد.
قوله: "وقال كعب" هو طرف من حديثه الطويل في قصة تخلفه وتوبته، وسيأتي
في أواخر المغازي، وهو ظاهر فيما ترجم له، وذكر بعده حديث جابر ليجمع بين فعل
النبي صلى الله عليه وسلم وأمره فلا يظن أن ذلك من خصائصه. قوله: "قال مسعر
أراه" بالضم أي أظنه، والضمير لمحارب. قوله: "وكان لي عليه دين"
كذا للأكثر، وللحموي وكان " له " أي لجابر " عليه " أي على
النبي صلى الله عليه وسلم. وفي قوله بعد ذلك "فقضاني" التفات. وهذا
الدين هو ثمن جمل جابر. وسيأتي مطولا في كتاب الشروط، ونذكر هناك فوائده إن شاء
الله تعالى. وقد أخرجه المصنف أيضا في نحو من عشرين موضعا مطولا ومختصرا وموصولا
ومعلقا. ومطابقته للترجمة من جهة أن تقاضيه لثمن الجمل كان عند قدومه من السفر كما
سيأتي واضحا. وغفل مغلطاي حيث قال: ليس فيه ما بوب عليه. لأن لقائل أن يقول إن
جابرا لم يقدم من سفر لأنه ليس فيه ما يشعر بذلك، قال النووي: هذه الصلاة مقصودة
للقدوم من السفر ينوي بها صلاة القدوم، لا أنها تحية المسجد التي أمر الداخل بها
قبل أن يجلس، لكن تحصل التحية بها. وتمسك بعض من منع الصلاة في الأوقات المنهية
ولو كانت ذات سبب بقوله: "ضحى " ولا حجة فيه لأنها واقعة عين.
(1/537)
باب إذا دخل المسجد
فليركع ركعتين
...
3 - باب إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ
444- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ
الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ
فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ"
[الحديث444- طرفه في: 1163]
قوله: "باب إذا دخل المسجد" حذف الفاعل للعلم به، وذكر في رواية الأصيلي
وكريمة كلفظ المتن. قوله: "عن أبي قتادة" بفتحتين، هكذا اتفق عليه الرواة
عن مالك، ورواه سهيل بن أبي صالح عن عامر بن عبد الله بن الزبير فقال: "عن
جابر " بدل أبي قتادة، وخطأه الترمذي والدارقطني وغيرهما. قوله:
"السلمي" بفتحتين لأنه من الأنصار، والإسناد كله مدني كالذي بعده. قوله:
"فليركع" أي فليصل، من إطلاق الجزء وإرادة الكل. قوله:
"ركعتين" هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق، واختلف في أقله، والصحيح
اعتباره فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين. واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في
ذلك للندب، ونقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب، والذي صرح به
(1/537)
ابن حزم عدمه، ومن أدلة عدم الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يتخطى " اجلس فقد آذيت " ولم يأمره بصلاة، كذا استدل به الطحاوي وغيره وفيه نظر. وقال الطحاوي أيضا: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها.قلت: هما عمومان تعارضا، الأمر بالصلاة لكن داخل من غير تفصيل، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، فلا بد من تخصيص أحد العمومين، فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر - وهو الأصح عند الشافعية - وذهب جمع إلى عكسه وهو قول الحنفية والمالكية. قوله: "قبل أن يجلس" صرح جماعة بأنه إذا خالف وجلس لا يشرع له التدارك، وفيه نظر لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر أنه " دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين؟ قال لا، قال: قم فاركعهما " ترجم عليه ابن حبان أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس. قلت: ومثله قصة سليك كما سيأتي في الجمعة. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، أو يقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل. "فائدة": حديث أبي قتادة هذا ورد على سبب، وهو " أن أبا قتادة دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا بين أصحابه فجلس معهم، فقال له: ما منعك أن تركع؟ قال: رأيتك جالسا والناس جلوس. قال: "فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين " أخرجه مسلم. وعند ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي قتادة " أعطوا المساجد حقها، قيل له: وما حقها؟ قال ركعتين قبل أن تجلس".
(1/538)
61 - باب الْحَدَثِ
فِي الْمَسْجِدِ
445- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى
أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ
تَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ"
قوله: "باب الحدث في المسجد" قال المازري: أشار البخاري إلى الرد على من
منع المحدث أن يدخل المسجد أو يجلس فيه وجعله كالجنب، وهو مبني على أن الحدث هنا
الريح ونحوه، وبذلك فسره أبو هريرة كما تقدم في الطهارة. وقد قيل المراد بالحدث
هنا أعم من ذلك، أي ما لم يحدث سوءا.ويؤيده رواية مسلم: "ما لم يحدث فيه، ما
لم يؤذ فيه: " وفي أخرى للبخاري " ما لم يؤذ فيه بحدث فيه" ،
وسيأتي قريبا بناء على أن الثانية تفسير للأولى. قوله: "الملائكة تصلي"
للكشميهني: "إن الملائكة تصلي " بزيادة إن، والمراد بالملائكة الحفظة أو
السيارة أو أعم من ذلك. قوله: "تقول الخ" هو بيان لقوله تصلي. قوله:
"ما دام في مصلاه" مفهومه أنه إذا انصرف عنه انقضى ذلك، وسيأتي في
" باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة " بيان فضيلة من انتظر الصلاة
مطلقا سواء ثبت في مجلسه ذلك من المسجد أم تحول إلى غيره، ولفظه: "ولا يزال
في صلاة ما انتظر الصلاة " فأثبت للمنتظر حكم المصلي، فيمكن أن يحمل قوله:
"في مصلاه " على المكان المعد للصلاة، لا الموضع الخاص بالسجود، فلا يكون
بين الحديثين تخالف. و قوله: "ما لم يحدث" يدل على أن الحدث يبطل ذلك
ولو استمر جالسا. وفيه دليل على أن الحدث في المسجد أشد من
(1/538)
النخامة(1) لما تقدم من أن لها كفارة، ولم يذكر لهذا كفارة، بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة، ودعاء الملائكة مرجو الإجابة لقوله تعالى :{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وسيأتي بقية فوائد هذا الحديث في " باب من جلس ينتظر " إن شاء الله تعالى.
(1/539)
3 - باب بُنْيَانِ
الْمَسْجِدِ
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ "كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ
وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ المسْجِدِ وَقَالَ أَكِنَّ النَّاسَ مِنْ الْمَطَرِ
وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ"
وَقَالَ أَنَسٌ "يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لاَ يَعْمُرُونَهَا إِلاَّ
قَلِيلًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى".
قوله: "باب بنيان المسجد" أي النبوي. قوله: "وقال أبو سعيد"
هو الخدري، والقدر المذكور هنا طرف من حديثه في ذكر ليلة القدر، وقد وصله المؤلف
في الاعتكاف وغيره من طريق أبي سلمة عنه، وسيأتي قريبا في أبواب صلاة الجماعة.
قوله: "وأمر عمر" هو طرف من قصة في ذكر تجديد المسجد النبوي. قوله:
"وقال أكن الناس" وقع في روايتنا أكن بضم الهمزة وكسر الكاف وتشديد
النون المضمومة بلفظ الفعل المضارع من أكن الرباعي يقال: أكننت الشيء إكنانا أي
صنته وسترته، وحكى أبو زيد كننته من الثلاثي بمعنى أكننته، وفرق الكسائي بينهما
فقال كننته أي سترته وأكننته في نفسي أي أسررته، ووقع في رواية الأصيلي: "أكن
" بفتح الهمزة والنون فعل أمر من الإكنان أيضا ويرجحه قوله قبله " وأمر
عمر " وقوله بعده " وإياك " وتوجه الأولى بأنه خاطب القوم بما أراد
ثم التفت إلى الصانع فقال له " وإياك"، أو يحمل قوله وإياك على التجريد
كأنه خاطب نفسه بذلك، قال عياض: وفي رواية غير الأصيلي والقابسي - أي وأبي ذر -
" كن الناس " بحذف الهمزة وكسر الكاف وهو صحيح أيضا. وجوز ابن مالك ضم
الكاف على أنه من كن فهو مكنون. انتهى. وهو متجه، لكن الرواية لا تساعده. قوله:
"فتفتن الناس" بفتح المثناة من فتن، وضبطه ابن التين بالضم من أفتن،
وذكر أن الأصمعي أنكره وأن أبا عبيدة أجازه فقال فتن وأفتن بمعنى، قال ابن بطال:
كان عمر فهم ذلك من رد الشارع الخميصة إلى أبي جهم من أجل الأعلام التي فيها وقال:
"إنها ألهتني عن صلاتي". قلت: ويحتمل أن يكون عند عمر من ذلك علم خاص
بهذه المسألة فقد روى ابن ماجه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر مرفوعا: "ما ساء
عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم " رجاله ثقات إلا شيخه جبارة بن المغلس فقيه
مقال. قوله: "وقال أنس: يتباهون بها" بفتح الهاء أي يتفاخرون، وهذا التعليق
رويناه موصولا في مسند أبي يعلى وصحيح ابن خزيمة من طريق أبي قلابة أن أنسا قال:
"سمعته يقول: يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا
" وأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان مختصرا من طريق أخرى عن أبي قلابة عن
أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في
المساجد " والطريق الأولى أليق بمراد البخاري. وعند أبي نعيم في كتاب المساجد
من الوجه الذي عند ابن خزيمة: "يتباهون
ـــــــ
(1) هذا فيه تفصيل: فان قصد بالحدث المعصية أو البدعة فما قاله الشارح متوجه, وإن
أريد بالحدث الريح ونحوها مما ينقض الطهارة سوى البول ونحوه فليس ماقاله الشارح
واضحا, والصواب إباحة ذلك أو كراهته من غير تحريم, وإن فاتته به صلاة الملائكة
وبؤيد الثانى ما ذكره الشارح في شرح الحديث477فتنبه
(1/539)
بكثرة
المساجد". "تنبيه": قوله: "ثم لا يعمرونها " المراد به
عمارتها بالصلاة وذكر الله، وليس المراد به بنيانها، بخلاف ما يأتي في ترجمة الباب
الذي بعده. قوله: "وقال ابن عباس: لتزخرفنها" بفتح اللام وهي لام القسم
وضم المثناة وفتح الزاي وسكون الخاء المعجمة وكسر الراء وضم الفاء وتشديد النون
وهي نون التأكيد، والزخرفة الزينة، وأصل الزخرف الذهب ثم استعمل في كل ما يتزين
به. وهذا التعليق وصله أبو داود وابن حبان من طريق يزيد بن الأصم عن ابن عباس هكذا
موقوفا، وقبله حديث مرفوع ولفظه: "ما أمرت بتشييد المساجد " وظن الطيبي
في شرح المشكاة أنهما حديث واحد فشرحه على أن اللام في " لتزخرفنها "
مكسورة وهي لام التعليل للمنفي قبله، والمعنى: ما أمرت بالتشييد ليجعل ذريعة إلى
الزخرفة، قال: والنون فيه لمجرد التأكيد، وفيه نوع توبيخ وتأنيب، ثم قال: ويجوز
فتح اللام على أنها جواب القسم. قلت: وهذا هو المعتمد، والأول لم تثبت به الرواية
أصلا فلا يغتر به، وكلام ابن عباس فيه مفصول من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في
الكتب المشهورة وغيرها، وإنما لم يذكر البخاري المرفوع منه للاختلاف على يزيد بن
الأصم في وصله وإرساله، قال البغوي: التشييد رفع البناء وتطويله، وإنما زخرفت
اليهود والنصارى معابدها حين حرفوا كتبهم وبدلوها.
446- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ
قَالَ حَدَّثَنَا نَافِعٌ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ
أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ وَعُمُدُهُ خَشَبُ
النَّخْلِ فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ
وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا ثُمَّ غَيَّرَهُ
عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ
الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقَفَهُ
بِالسَّاجِ"
قوله: "حدثنا يعقوب بن إبراهيم" زاد الأصيلي ابن سعد. ورواية صالح بن
كيسان عن نافع من رواية الأقران لأنهما مدنيان ثقتان تابعيان من طبقة واحدة، وعبد
الله " هو ابن عمر". قوله: "باللبن" بفتح اللام وكسر الموحدة.
قوله: "وعمده" بفتح أوله وثانيه ويجوز ضمهما، وكذا قوله:
"خشب". قوله: "وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه" أي بجنس الآلات
المذكورة ولم يغير شيئا من هيئته إلا توسيعه. قوله: "ثم غيره عثمان"، أي
من الوجهين: التوسيع، وتغيير الآلات. قوله: "بالحجارة المنقوشة" أي بدل
اللبن، وللحموي والمستملي: "بحجارة منقوشة". قوله: "والقصة"
بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة وهي الجص بلغة أهل الحجاز. وقال الخطابي: تشبه
الجص وليست به. قوله: "وسقفه" بلفظ الماضي عطفا على جعل، وبإسكان القاف
على عمده، والساج نوع من الخشب معروف يؤتى به من الهند. وقال ابن بطال وغيره: هذا
يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك الغلو في تحسينه، فقد كان عمر مع
كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه، وإنما احتاج
إلى تجديده لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه، ثم كان عثمان والمال في زمانه
أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة، ومع ذلك فقد أنكر بعض الصحابة عليه كما سيأتي
بعد قليل. وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في أواخر عصر
الصحابة، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة، ورخص في
(1/540)
ذلك بعضهم - وهو قول أبي حنيفة - إذا وقع على سبيل التعظيم للمساجد، ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال. وقال ابن المنير: "لما شيد الناس بيوتهم وزخرفوها ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد صونا لها عن الاستهانة". وتعقب بأن المنع إن كان للحث على اتباع السلف في ترك الرفاهية فهو كما قال، وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزخرفة فلا لبقاء العلة. وفي حديث أنس علم من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع، فوقع كما قال.
(1/541)
63 - باب
التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ
خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ
فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ}[التوبة17-18]
447- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ
قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ
وَلِابْنِهِ عَلِيٍّ انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ
فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ
فَاحْتَبَى ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى أَتَى ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ
فَقَالَ كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ
فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْفُضُ التُّرَابَ
عَنْهُ وَيَقُولُ "وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ
يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ قَالَ يَقُولُ
عَمَّارٌ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ"
[الحديث447- طرفه في:2812]
قوله: "باب التعاون في بناء المسجد، ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد
الله" كذا في رواية أبي ذر. وزاد غيره قبل قوله ما كان " وقول الله عز
وجل " وفي آخره: إلى قوله:{الْمُهْتَدِينَ} وذكره لهذه الآية مصير منه إلى
ترجيح أحد الاحتمالين من أحد الاحتمالين في الآية، وذلك أن قوله تعالى :{مَسَاجِدَ
اللَّهِ} يحتمل أن يراد بها مواضع السجود، ويحتمل أن يراد بها الأماكن المتخذة
لإقامة الصلاة، وعلى الثاني يحتمل أن يراد بعمارتها بنيانها، ويحتمل أن يراد بها
الإقامة لذكر الله فيها. قوله: "حدثنا مسدد" هذا الإسناد كله بصري، لأن
ابن عباس أقام على البصرة أميرا مدة ومعه مولاه عكرمة. قوله: "انطلقا إلى أبي
سعيد" أي الخدري. قوله: "فإذا هو" زاد المصنف في الجهاد "
فأتيناه وهو وأخوه في حائط لهما". قوله: "يصلحه" قال في الجهاد
" يسقيانه " والحائط البستان، وهذا الأخ زعم بعض الشراح أنه قتادة بن
النعمان وهو أخو أبي سعيد لأمه، ولا يصح أن يكون هو، فإن علي بن عبد الله بن عباس
ولد في أواخر خلافة علي ومات قتادة بن النعمان قبل ذلك في أواخر خلافة عمر بن
الخطاب، وليس لأبي سعيد أخ شقيق ولا أخ من أبيه ولا من أمه إلا قتادة، فيحتمل أن
يكون المذكور أخاه من الرضاعة ولم أقف إلى الآن على اسمه. وفي الحديث إشارة إلى أن
العلم لا يحوى جميعه أحد، لأن ابن عباس مع سعة علمه أمر ابنه بالأخذ عن أبي سعيد،
فيحتمل أن يكون علم أن عنده ما ليس عنده، ويحتمل أن يكون إرساله إليه لطلب علو
الإسناد، لأن أبا سعيد أقدم صحبة وأكثر سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم من ابن
عباس، وفيه ما كان السلف عليه من التواضع وعدم التكبر
(1/541)
وتعاهد أحوال المعاش بأنفسهم والاعتراف لأهل الفضل بفضلهم وإكرام طلبة العلم وتقديم حوائجهم على حوائج أنفسهم. قوله: "فأخذ رداءه فاحتبى" فيه التأهب لإلقاء العلم وترك التحديث في حالة المهنة إعظاما للحديث. قوله: "حتى أتى على ذكر بناء المسجد" أي النبوي. وفي رواية كريمة: "حتى إذا أتى". قوله: "وعمار لبنتين" زاد معمر في جامعه " لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفيه جواز ارتكاب المشقة في عمل البر، وتوقير الرئيس والقيام عنه بما يتعاطاه من المصالح، وفضل بنيان المساجد. قوله: "فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فبنفض" فيه التعبير بصيغة المضارع في موضع الماضي مبالغة لاستحضار ذلك في نفس السامع كأنه يشاهد. وفي رواية الكشميهني: "فجعل ينفض". قوله: "التراب عنه" زاد في الجهاد " عن رأسه " وكذا لمسلم، وفيه إكرام العامل في سبيل الله والإحسان إليه بالفعل والقول. قوله: "ويقول" أي في تلك الحال "ويح عمار" هي كلمة رحمة، وهي بفتح الحاء إذا أضيفت، فإن لم تضف جاز الرفع والنصب مع التنوين فيهما. قوله: "يدعوهم" أعاد الضمير على غير مذكور والمراد قتلته كما ثبت من وجه آخر " تقتله الفئة الباغية يدعوهم الخ " وسيأتي التنبيه عليه. فإن قيل كان قتله بصفين وهو مع علي والذين قتلوه مع معاوية وكان معه جماعة من الصحابة فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار؟ فالجواب أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم. وقال ابن بطال تبعا للمهلب: إنما يصح هذا في الخوارج الذين بعث إليهم علي عمارا يدعوهم إلى الجماعة، ولا يصح في أحد من الصحابة. وتابعه على هذا الكلام جماعة من الشراح. وفيه نظر من أوجه: أحدها: أن الخوارج إنما خرجوا على علي بعد قتل عمار بلا خلاف بين أهل العلم لذلك، فإن ابتداء أمر الخوارج كان عقب التحكيم، وكان التحكيم عقب انتهاء القتال بصفين وكان قتل عمار قبل ذلك قطعا، فكيف يبعثه إليهم علي بعد موته. ثانيها: أن الذين بعث إليهم علي عمارا إنما هم أهل الكوفة بعثه يستنفرهم على قتال عائشة ومن معها قبل وقعة الجمل، وكان فيهم من الصحابة جماعة كمن كان مع معاوية وأفضل، وسيأتي التصريح بذلك عند المصنف في كتاب الفتن، فما فر منه المهلب وقع في مثله مع زيادة إطلاقه عليهم تسمية الخوارج وحاشاهم من ذلك. ثالثها: أنه شرح على ظاهر ما وقع في هذه الرواية الناقصة، ويمكن حمله على أن المراد بالذين يدعونه إلى النار كفار قريش كما صرح به بعض الشراح، لكن وقع في رواية ابن السكن وكريمة وغيرهما وكذا ثبت في نسخة الصغاني التي ذكر أنه قابلها على نسخة الفربري التي بخطه زيادة توضح المراد وتفصح بأن الضمير يعود على قتلته وهم أهل الشام ولفظه: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم " الحديث، واعلم أن هذه الزيادة لم يذكرها الحميدي في الجمع وقال: إن البخاري لم يذكرها أصلا، وكذا قال أبو مسعود. قال الحميدي: ولعلها لم تقع للبخاري، أو وقعت فحذفها عمدا. قال: وقد أخرجها الإسماعيلي والبرقاني في هذا الحديث. قلت: ويظهر لي أن البخاري حذفها عمدا وذلك لنكتة خفية، وهي أن أبا سعيد الخدري اعترف أنه لم يسمع هذه الزيادة من النبي صلى الله عليه وسلم فدل على أنها في هذه الرواية مدرجة، والرواية التي بينت ذلك ليست على شرط البخاري، وقد أخرجها البزار من طريق داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد فذكر الحديث في بناء المسجد وحملهم لبنة لبنة وفيه فقال أبو سعيد " فحدثني أصحابي ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية " ا هـ. وابن سمية هو عمار وسمية اسم أمه. وهذا الإسناد على شرط
(1/542)
مسلم، وقد عين أبو سعيد من حدثه بذلك، ففي مسلم والنسائي من طريق أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: "حدثني من هو خير مني أبو قتادة، فذكره " فاقتصر البخاري على القدر الذي سمعه أبو سعيد من النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهذا دال على دقة فهمه وتبحره في الاطلاع على علل الأحاديث. وفي هذا الحديث زيادة أيضا لم تقع في رواية البخاري، وهي عند الإسماعيلي وأبي نعيم في المستخرج من طريق خالد الواسطي عن خالد الحذاء وهي: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟ قال: إني أريد من الله الأجر " وقد تقدمت زيادة معمر فيه أيضا. "فائدة": روى حديث: "تقتل عمارا الفئة الباغية " جماعة من الصحابة: منهم قتادة بن النعمان كما تقدم، وأم سلمة عند مسلم، وأبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وعثمان ابن عفان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو اليسر وعمار نفسه، وكلها عند الطبراني وغيره، وغالب طرقها صحيحة أو حسنة، وفيه عن جماعة آخرين يطول عدهم، وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة وفضيلة ظاهرة لعلي ولعمار ورد على النواصب الزاعمين أن عليا لم يكن مصيبا في حروبه. قوله في آخر الحديث "يقول عمار أعوذ بالله من الفتن" فيه دليل على استحباب الاستعاذة من الفتن، ولو علم المرء أنه متمسك فيها بالحق، لأنها قد تفضي إلى وقوع من لا يرى وقوعه. قال ابن بطال وفيه رد للحديث الشائع: لا تستعيذوا بالله من الفتن فإن فيها حصاد المنافقين. قلت: وقد سئل ابن وهب قديما عنه فقال: إنه باطل، وسيأتي في كتاب الفتن ذكر كثير من أحكامها وما ينبغي من العمل عند وقوعها. أعاذنا الله تعالى مما ظهر منها وما بطن.
(1/543)
3 - باب
الِاسْتِعَانَةِ بِالنَّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ فِي أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ
وَالْمَسْجِدِ
448- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنِي أَبُو
حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى امْرَأَةٍ مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا
أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ"
قوله: "باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد" الصناع
بضم المهملة جمع صانع، وذكره بعد النجار من العام بعد الخاص، أو في الترجمة لف
ونشر فقوله في أعواد المنبر ليتعلق بالنجار وقوله والمسجد يتعلق بالصناع، أي
والاستعانة بالصناع في المسجد أي في بناء المسجد. وحديث الباب من رواية سهل وجابر
جميعا يتعلق بالنجار فقط، ومنه تؤخذ مشروعية الاستعانة بغيره من الصناع لعدم
الفرق، وكأنه أشار بذلك إلى حديث طلق بن علي قال: "بنيت المسجد مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم فكان يقول: "قربوا اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مسا
وأشدكم له سبكا " رواه أحمد. وفي لفظ له " فأخذت المسحاة فخلطت الطين
فكأنه أعجبه فقال: "دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين " ورواه ابن
حبان في صحيحه ولفظه: "فقلت يا رسول الله أأنقل كما ينقلون؟ فقال: "لا
ولكن اخلط لهم الطين فأنت أعلم به". قوله: "حدثنا عبد العزيز" هو
ابن أبي حازم. قوله: "إلى امرأة" تقدم ذكرها في باب الصلاة على المنبر
والسطوح، والتنبيه على غلط من سماها علاثة، وكذا التنبيه على اسم غلامها. وساق
المتن هنا مختصرا، وساقه بتمامه في البيوع بهذا الإسناد. وسنذكر فوائده في كتاب
الجمعة إن شاء الله تعالى.
449- حَدَّثَنَا خَلاَدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ "يَا رَسُولَ
(1/543)
اللَّهِ أَلاَ
أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ؟ فَإِنَّ لِي غُلاَمًا نَجَّارًا قَالَ
"إِنْ شِئْتِ" فَعَمِلَتْ الْمِنْبَرَ"
[الحديث449- أطرافه في: 3585,3584,2095,918]
قوله: "حدثنا خلاد" هو ابن يحيى، وأيمن بوزن أفعل وهو الحبشي مولى بني
مخزوم. قوله: "أن امرأة" هي التي ذكرت في حديث سهل، فإن قيل ظاهر سياق
حديث جابر مخالف لسياق حديث سهل لأن في هذا أنها ابتدأت بالعرض، وفي حديث سهل أنه
صلى الله عليه وسلم هو الذي أرسل إليها يطلب ذلك، أجاب ابن بطال باحتمال أن تكون
المراة ابتدأت بالسؤال متبرعة بذلك، فلما حصل لها القبول أمكن أن يبطئ الغلام
بعمله فأرسل يستنجزها إتمامه لعلمه بطيب نفسها بما بذلته. قال: ويمكن إرساله إليها
ليعرفها بصفة ما يصنعه الغلام من الأعواد وأن يكون ذلك منبرا. قلت: قد أخرجه
المصنف في علامات النبوة من هذا الوجه بلفظ: "ألا أجعل لك منيرا " فلعل
التعريف وقع بصفة للمنبر مخصوصة. أو يحتمل أنه لما فوض إليها الأمر بقوله لها
" إن شئت " كان ذلك سبب البطء، لا أن الغلام كان شرع وأبطأ، ولا أنه جهل
الصفة، وهذا أوجه الأوجه في نظري. قوله: "ألا أجعل لك" أضافت الجعل إلى
نفسها مجازا. قوله: "فإن لي غلاما نجارا" في رواية الكشميهني:
"فإني لي غلام نجار " وقد اختصر المؤلف هذا المتن أيضا، ويأتي بتمامه في
علامات النبوة. وفي الحديث قبول البذل إذا كان بغير سؤال، واستنجاز الوعد ممن يعلم
منه الإجابة، والتقرب إلى أهل الفضل بعمل الخير، وسيأتي بقية فوائده في علامات
النبوة إن شاء الله تعالى.
(1/544)
65 - باب مَنْ
بَنَى مَسْجِدًا
450- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي
عَمْرٌو أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ
حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ الْخَوْلاَنِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ
عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى
مَسْجِدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّكُمْ
أَكْثَرْتُمْ وَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ "مَنْ بَنَى مَسْجِدًا قَالَ بُكَيْرٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ
يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ"
قوله: "باب من بنى مسجدا" أي ما له من الفضل. قوله: "أخبرني
عمرو" هو ابن الحارث، وبكير بالتصغير هو ابن عبد الله بن الأشج، وعبيد الله
هو ابن الأسود. وفي هذا الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق: بكير وعاصم وعبيد الله،
وثلاثة من أوله مصريون، وثلاثة من آخره مدنيون، وفي وسطه مدني سكن مصر وهو بكير،
فانقسم الإسناد إلى مصري ومدني. قوله: "عند قول الناس فيه" وقع بيان ذلك
عند مسلم حيث أخرجه من طريق محمود بن لبيد الأنصاري - وهو من صغار الصحابة - قال:
"لما أراد عثمان بناء المسجد كره الناس ذلك وأحبوا أن يدعوه على هيئته "
أي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وظهر بهذا أن قوله في حديث الباب: "حين
بنى " أي حين أراد أن يبني. وقال البغوي في شرح السنة: لعل الذي كره الصحابة
من عثمان بناؤه بالحجارة المنقوشة لا مجرد توسيعه. انتهى. ولم يبن عثمان المسجد
إنشاء، وإنما وسعه وشيده كما تقدم في باب بنيان المسجد، فيؤخذ منه إطلاق البناء في
حق من جدد كما يطلق في حق من أنشأ. أو المراد بالمسجد هنا بعض المسجد من إطلاق
الكل على البعض. قوله: "مسجد الرسول" كذا للأكثر، وللحموي والكشميهني:
"مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوله: "إنكم أكثرتم"
حذف المفعول للعلم به، والمراد الكلام بالإنكار
(1/544)
ونحوه. "تنبيه": كان بناء عثمان للمسجد النبوي سنة ثلاثين على المشهور، وقيل في آخر سنة من خلافته. ففي كتاب السير عن الحارث بن مسكين عن ابن وهب أخبرني مالك أن كعب الأحبار كان يقول عند بنيان عثمان المسجد: لوددت أن هذا المسجد لا ينجز، فإنه إذا فرغ من بنيانه قتل عثمان. قال مالك: فكان كذلك. قلت: ويمكن الجمع بين القولين بأن الأول كان تاريخ ابتدائه والثاني تاريخ انتهائه. قوله: "من بنى مسجدا" التنكير فيه للشيوع فيدخل فيه الكبير والصغير، ووقع في رواية أنس عند الترمذي صغيرا أو كبيرا، وزاد ابن أبي شيبة في حديث الباب من وجه آخر عن عثمان " ولو كمفحص قطاة " وهذه الزيادة أيضا عند ابن حبان والبزار من حديث أبي ذر. وعند أبي مسلم الكجي من حديث ابن عباس، وعند الطبراني في الأوسط من حديث أنس وابن عمر، وعند أبي نعيم في الحلية من حديث أبي بكر الصديق، ورواه ابن خزيمة من حديث جابر بلفظ: "كمفحص قطاة أو أصغر" ، وحمل أكثر العلماء ذلك على المبالغة لأن المكان الذي تفحص القطاة عنه لتضع فيه بيضها وترقد عليه لا يكفي مقداره للصلاة فيه. ويؤيده رواية جابر هذه. وقيل بل هو على ظاهره، والمعنى أن يزيد في مسجد قدرا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر، وهذا كله بناء على أن المراد بالمسجد ما يتبادر إلى الذهن، وهو المكان الذي يتخذ للصلاة فيه، فإن كان المراد بالمسجد موضع السجود وهو ما يسع الجبهة فلا يحتاج إلى شيء مما ذكر، لكن قوله: "بنى " يشعر بوجود بناء على الحقيقة. ويؤيده قوله في رواية أم حبيبة " من بنى لله بيتا " أخرجه سمويه في فوائده بإسناد حسن، وقوله في رواية عمر " من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله " أخرجه ابن ماجه وابن حبان. وأخرج النسائي نحوه من حديث عمرو بن عبسة، فكل ذلك مشعر بأن المراد بالمسجد المكان المتخذ لا موضع السجود فقط، لكن لا يمتنع إرادة الآخر مجازا، إذ بناء كل شيء بحسبه، وقد شاهدنا كثيرا من المساجد في طرق المسافرين يحوطونها إلى جهة القبلة وهي في غاية الصغر، وبعضها لا تكون أكثر من قدر موضع السجود. وروى البيهقي في الشعب من حديث عائشة نحو حديث عثمان وزاد: قلت وهذه المساجد التي في الطرق؟ قال نعم. وللطبراني نحوه من حديث أبي قرصافة وإسنادهما حسن. قوله: "قال بكير حسبت أنه" أي شيخه عاصما بالإسناد المذكور. قوله: "يبتغي به وجه الله" أي يطلب به رضا الله، والمعنى بذلك الإخلاص. وهذه الجملة لم يجزم بها بكير في الحديث، ولم أرها إلا من طريقه هكذا، وكأنها ليست في الحديث بلفظها، فإن كل من روى حديث عثمان من جميع الطرق إليه لفظهم " من بنى لله مسجدا " فكأن بكيرا نسيها فذكرها بالمعنى مترددا في اللفظ الذي ظنه، فإن قوله: "لله " بمعنى قوله يبتغي به وجه الله، لاشتراكهما في المعنى المراد وهو الإخلاص. فائدة: قال ابن الجوزي من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدا من الإخلاص. انتهى. ومن بناه بالأجرة لا يحصل له هذا الوعد المخصوص لعدم الإخلاص وإن كان يؤجر في الجملة. وروى أصحاب السنن وابن خزيمة والحاكم من حديث عقبة بن عامر مرفوعا: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه المحتسب في صنعته، والرامي به، والممد به " فقوله: "المحتسب في صنعته " أي من يقصد بذلك إعانة المجاهد، وهو أعم من أن يكون متطوعا بذلك أو بأجرة، لكن الإخلاص لا يحصل إلا من المتطوع، وهل يحصل الثواب المذكور لمن جعل بقعة من الأرض مسجدا بأن يكتفي بتحويطها من غير بناء، وكذا من عمد إلى بناء كان يملكه فوقفه مسجدا؟ إن وقفنا مع ظاهر اللفظ فلا، وإن نظرنا إلى المعنى فنعم وهو المتجه، وكذا قوله: "بنى " حقيقة في المباشر بشرطها،
(1/545)
لكن المعنى يقتضي دخول الآمر بذلك أيضا، وهو المنطبق على استدلال عثمان رضي الله عنه، لأنه استدل بهذا الحديث على ما وقع منه، ومن المعلوم أنه لم يباشر ذلك بنفسه. قوله: "بنى الله" إسناد البناء إلى الله مجاز، وإبراز الفاعل فيه لتعظيم ذكره جل اسمه، أو لئلا تتنافر الضمائر، أو يتوهم عوده على باني المسجد. قوله: "مثله" صفة لمصدر محذوف أي بنى بناء مثله، ولفظ: "المثل " له استعمالان: أحدهما الإفراد مطلقا كقوله تعالى: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} والآخر المطابقة كقوله تعالى :{أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فعلى الأول لا يمتنع أن يكون الجزاء أبنية متعددة، فيحصل جواب من استشكل التقييد بقوله: "مثله " مع أن الحسنة بعشرة أمثالها، لاحتمال أن يكون المراد بنى الله له عشرة أبنية مثله، والأصل أن ثواب الحسنة الواحدة واحد بحكم العدل، والزيادة عليه بحكم الفضل. وأما من أجاب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل نزول قوله تعالى :{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ففيه بعد، وكذا من أجاب بأن التقييد بالواحد لا ينفي الزيادة عليه. ومن الأجوبة المرضية أيضا أن المثلية هنا بحسب الكمية، والزيادة حاصلة بحسب الكيفية، فكم من بيت خير من عشرة بل من مائة. أو أن المقصود من المثلية أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء لا من غيره مع قطع النظر عن غير ذلك، مع أن التفاوت حاصل قطعا بالنسبة إلى ضيق الدنيا وسعة الجنة، إذ موضع شبر فيها خير من الدنيا وما فيها كما ثبت في الصحيح، وقد روى أحمد من حديث واثلة بلفظ: "بنى الله له في الجنة أفضل منه " وللطبراني من حديث أبي أمامة بلفظ: "أوسع منه " وهذا يشعر بأن المثلية لم يقصد بها المساواة من كل وجه. وقال النووي: يحتمل أن يكون المراد أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا. قوله: "في الجنة" يتعلق ببنى، أو هو حال من قوله: "مثله"، وفيه إشارة إلى دخول فاعل ذلك الجنة، إذ المقصود بالبناء له أن يسكنه، وهو لا يسكنه إلا بعد الدخول. والله أعلم.
(1/546)
باب يأخذ بأصول
النبل إذا مر في المسجد
...
3 - باب يَأْخُذُ بِنُصُولِ النَّبْلِ إِذَا مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ
451- حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا سفيان قال: قلت لعمرو: أسمعت جابربن عبد الله
يقول"مر رجل في المسجد ومعه سهام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
:"أمسك بنصالها" ؟
[الحديث451- طرفاه في:7074,7072]
قوله: "باب يأخذ" أي الشخص "بنصول" جمع نصل، ويجمع أيضا على
نصال كما سيأتي في حديث الباب الذي بعده. "والنبل" بفتح النون وسكون
الموحدة وبعدها لام: السهام العربية، وهي مؤنثة ولا واحد لها من لفظها. وجواب
الشرط في قوله: "إذا مر" محذوف ويفسره قوله: "يأخذ"، أو
التقدير يستحب لمن معه نبل أنه يأخذ إلخ. وسفيان المذكور في الإسناد هو ابن عيينة،
وعمرو هو ابن دينار. ولم يذكر قتيبة في هذا السياق جواب عمرو عن استفهام سفيان،
كذا في أكثر الروايات، وحكي عن رواية الأصيلي أنه ذكره في آخره: "فقال نعم
" ولم أره فيها. وقد ذكره غير قتيبة أخرجه المصنف في الفتن عن علي بن عبد
الله عن سفيان مثله وقال في آخره: "فقال نعم " ورواه مسلم من وجه آخر عن
سفيان عن عمرو بغير سؤال ولا جواب، لكن سياق المصنف يفيد تحقق الاتصال فيه، وقد
أخرجه الشيخان من غير طريق سفيان أيضا أخرجاه من طريق حماد بن زيد عن عمرو ولفظه: "أن
رجلا مر في المسجد بأسهم قد أبدى نصولها، فأمر أن يأخذ بنصولها كي لا تخدش مسلما
" وليس في سياق المصنف
(1/546)
" كي". وأفادت رواية سفيان تعيين الآمر المبهم في رواية حماد، وأفادت رواية حماد بيان علة الأمر بذلك. ولمسلم أيضا من طريق أبي الزبير عن جابر أن المار المذكور كان يتصدق بالنبل في المسجد، ولم أقف على اسمه إلى الآن. "فائدة": قال ابن بطال: حديث جابر لا يظهر فيه الإسناد لأن سفيان لم يقل إن عمرا قال له نعم. قال: ولكن ذكره البخاري في غير كتاب الصلاة وزاد في آخره: "فقال نعم " فبان بقوله نعم إسناد الحديث. قلت: هذا مبني على المذهب المرجوح في اشتراط قول الشيخ " نعم " إذا قال له القارئ مثلا: أحدثك فلان؟ والمذهب الراجح الذي عليه أكثر المحققين - ومنهم البخاري - أن ذلك لا يشترط، بل يكتفى بسكوت الشيخ إذا كان متيقظا، وعلى هذا فالإسناد في حديث جابر ظاهر والله أعلم. وفي الحديث إشارة إلى تعظيم قليل الدم كثيرة، وتأكيد حرمة المسلم، وجواز إدخال السلاح المسجد. وفي الأوسط للطبراني من حديث أبي سعيد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقليب السلاح في المسجد " والمعنى فيه ما تقدم.
(1/547)
67 - باب
الْمُرُورِ فِي الْمَسْجِدِ
452- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا
بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا بِنَبْلٍ
فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِهَا لاَ يَعْقِرْ بِكَفِّهِ مُسْلِمًا"
[الحديث452- طرفه في:7075
قوله: "باب المرور في المسجد" أي جوازه، وهو مستنبط من حديث الباب من
جهة الأولوية، فإن قيل: ما وجه تخصيص حديث أبي موسى بترجمة المرور، وحديث جابر
بترجمة الأخذ بالنصال، مع أن كلا من الحديثين يدل على كل من الترجمتين؟ أجيب
باحتمال أن يكون ذلك بالنظر إلى لفظ المتن، فإن حديث جابر ليس فيه ذكر المرور من
لفظ الشارع، بخلاف حديث أبي موسى فإن فيه لفظ المرور مقصودا حيث جعل شرطا ورتب
عليه الحكم، وهذا بالنظر إلى اللفظ الذي وقع للمصنف على شرطه وإلا فقد رواه
النسائي من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "إذا مر أحدكم "
الحديث. وعبد الواحد المذكور في الإسناد هو ابن زياد، وأبو بردة بن عبد الله اسمه
بريد، وشيخه هو جده أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وقد أخرجه المصنف في الفتن من
طريق أبي أسامة عن بريد نحوه، وكذا أخرجه مسلم من طريقه. قوله: "أو
أسواقنا" هو تنويع من الشارع وليس شكا من الراوي، والباء في قوله: "بنبل
" للمصاحبة. قوله: "على نصالها" ضمن الأخذ معنى الاستعلاء
للمبالغة، أو " على " بمعنى الباء كما تقدم في طريق حماد عن عمرو،
وسيأتي من طريق ثابت عن أبي بردة. قوله: "لا يعقر" أي لا يجرح، وهو
مجزوم نظرا إلى أنه جواب الأمر، ويجوز الرفع. قوله: "بكفه" متعلق بقوله:
"فليأخذ " وكذا رواية الأصيلي: "لا يعقر مسلما بكفه " ليس قوله
بكفه متعلقا بيعقر، والتقدير: فليأخذ بكفه على نصالها لا يعقر مسلما. ويؤيده رواية
أبي أسامة " فليمسك على نصالها بكفه أن يصيب أحدا من المسلمين " لفظ
مسلم، وله من طريق ثابت عن أبي بردة " فليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها ثم
ليأخذ بنصالها".
(1/547)
68 - باب الشِّعْرِ
فِي الْمَسْجِدِ
453- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ "أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ
الأَنْصَارِيَّ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمِعْتَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَعَمْ"
[الحديث453- طرفاه في6152,3212]
قوله: "باب الشعر في المسجد" أي ما حكمه؟ قوله: "عن الزهري قال
أخبرني أبو سلمة" كذا رواه شعيب، وتابعه إسحاق بن راشد عن الزهري أخرجه
النسائي، ورواه سفيان بن عيينة عن الزهري فقال: "عن سعيد بن المسيب "
بدل أبي سلمة، أخرجه المؤلف في بدء الخلق، وتابعه معمر عند مسلم وإبراهيم بن سعد
وإسماعيل بن أمية عند النسائي، وهذا من الاختلاف الذي لا يضر، لأن الزهري من أصحاب
الحديث. فالراجح أنه عنده عنهما معا فكان يحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وهذا
من جنس الأحاديث التي يتعقبها الدارقطني على الشيخين لكنه لم يذكره فليستدرك عليه.
وفي الإسناد نظر من وجه آخر، وهو على شرط التتبع أيضا، وذلك أن لفظ رواية سعيد بن
المسيب " مر عمر في المسجد وحسان ينشد فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير
منك. ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله " الحديث. ورواية سعيد لهذه
القصة عندهم مرسلة، لأنه لم يدرك زمن المرور، ولكن يحمل على أن سعيدا سمع ذلك من
أبي هريرة بعد أو من حسان، أو وقع لحسان استشهاد أبي هريرة مرة أخرى فحضر ذلك
سعيد، ويقويه سياق حديث الباب فإن فيه أن أبا سلمة سمع حسان يستشهد أبا هريرة،
وأبو سلمة لم يدرك زمن مرور عمر أيضا فإنه أصغر من سعيد، فدل على تعدد الاستشهاد،
ويجوز أن يكون التفات حسان إلى أبي هريرة واستشهاده به إنما وقع متأخرا لأن "
ثم " لا تدل على الفورية، والأصل عدم التعدد، وغايته أن يكون سعيد أرسل قصة
المرور ثم سمع بعد ذلك استشهاد حسان لأبي هريرة وهو المقصود لأنه المرفوع، وهو
موصولا بلا تردد. والله أعلم. قوله: "يستشهد" أي يطلب الشهادة، والمراد
الإخبار بالحكم الشرعي وأطلق عليه الشهادة مبالغة في تقوية الخبر. قوله:
"أنشدك" بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة، أي سألتك الله، والنشد بفتح
النون وسكون المعجمة التذكر. قوله: "أجب عن رسول الله" في رواية سعيد
" أجب عني " فيحتمل أن يكون الذي هنا بالمعنى. قوله: "أيده"
أي قوه، وروح القدس المراد هنا جبريل، بدليل حديث البراء عند المصنف أيضا بلفظ:
"وجبريل معك " والمراد بالإجابة الرد على الكفار الذين هجوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفي الترمذي من طريق أبي الزناد عن عروة عن عائشة
قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصب لحسان منبرا في المسجد فيقوم
عليه يهجو الكفار، وذكر المزي في " الأطراف " أن البخاري أخرجه تعليقا
نحوه، وأتم منه، لكني لم أره فيه، قال ابن بطال: ليس في حديث الباب أن حسان أنشد
شعرا في المسجد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن رواية البخاري في بدء الخلق
من طريق سعيد تدل على أن قوله صلى الله عليه وسلم لحسان " أجب عني " كان
في المسجد، وأنه أنشد فيه ما أجاب به المشركين. وقال غيره: يحتمل أن البخاري أراد
أن الشعر المشتمل على الحق حق، بدليل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لحسان على
شعره، وإذا كان حقا جاز في المسجد كسائر الكلام الحق، ولا يمنع منه كما يمنع من
غيره من الكلام الخبيث
(1/548)
واللغو الساقط. قلت: والأول أليق بتصرف البخاري، وبذلك جزم المازري وقال: "إنما اختصر البخاري القصة لاشتهارها ولكونه ذكرها في موضع آخر". انتهى. وأما ما رواه ابن خزيمة في صحيحه والترمذي وحسنه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المساجد " وإسناده صحيح إلى عمرو - فمن يصحح نسخته يصححه - وفي المعنى عدة أحاديث لكن في أسانيدها مقال، فالجمع بينها وبين حديث الباب أن يحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين، والمأذون فيه ما سلم من ذلك. وقيل: المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالبا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه. وأبعد أبو عبد الملك البوني فأعمل أحاديث النهي وادعى النسخ في حديث الإذن ولم يوافق على ذلك حكاه ابن التين عنه، وذكر أيضا أنه طرد هذه الدعوى فيما سيأتي من دخول أصحاب الحراب المسجد وكذا دخول المشرك.
(1/549)
69 - باب أَصْحَابِ
الْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ
454- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ "لَقَدْ
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا عَلَى بَابِ
حُجْرَتِي وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ
"
[الحديث545- أطرافه في:5236,5190,3931,3529,2906,988,950,455]
455- زَادَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي
يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "رَأَيْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ
بِحِرَابِهِمْ"
قوله: "باب أصحاب الحراب في المسجد" الحراب بكسر المهملة جمع حربة،
والمراد جواز دخولهم فيه ونصال حرابهم مشهورة، وأظن المصنف أشار إلى تخصيص الحديث
السابق في النهي عن المرور في المسجد بالنصل غير مغمود، والفرق بينهما أن التحفظ
في هذه الصورة وهي صورة اللعب بالحراب سهل، بخلاف مجرد المرور فإنه قد يقع بغتة
فلا يتحفظ منه. قوله في الإسناد "عن صالح" هو ابن كيسان.
قوله: "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما في باب حجرتي والحبشة
يلعبون في المسجد" فيه جواز ذلك في المسجد، وحكى ابن التين عن أبي الحسن
اللخمي أن اللعب بالحراب في المسجد منسوخ بالقرآن والسنة: أما القرآن فقوله تعالى:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} وأما السنة فحديث: "جنبوا
مساجدكم صبيانكم ومجانينكم". وتعقب بأن الحديث ضعيف، وليس فيه ولا في الآية
تصريح بما ادعاه، ولا عرف التاريخ فيثبت النسخ. وحكى بعض المالكية عن مالك أن
لعبهم كان خارج المسجد وكانت عائشة في المسجد، وهذا لا يثبت عن مالك فإنه خلاف ما
صرح به في طرق هذا الحديث، وفي بعضها أن عمر أنكر عليهم لعبهم في المسجد فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم: "دعهم" . واللعب بالحراب ليس لعبا مجردا بل
فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو. وقال المهلب: المسجد موضوع
لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه. وفي
الحديث جواز النظر إلى اللهو المباح، وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مع أهله،
وكرم معاشرته، وفضل عائشة وعظيم محلها عنده. وسيأتي بقية الكلام على فوائده في
كتاب العيدين إن شاء الله تعالى.
(1/549)
قوله: "في باب حجرتي" عند الأصيلي وكريمة على باب حجرتي. قوله: "يسترني بردائه" يدل على أن ذلك كان بعد نزول الحجاب، ويدل على جواز نظر المرأة إلى الرجل. وأجاب بعض من منع بأن عائشة كانت إذ ذاك صغيرة، وفيه نظر لما ذكرنا. وادعى بعضهم النسخ بحديث: "أفعمياوان أنتما؟ " وهو حديث مختلف في صحته. وسيأتي للمسألة مزيد بسط في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: "وزاد إبراهيم المنذر" يريد أن إبراهيم رواه من رواية يونس - وهو ابن يزيد - عن ابن شهاب كرواية صالح، لكن عين أن لعبهم كان بحرابهم وهو المطابق للترجمة، وفي ذلك إشارة إلى أن البخاري يقصد بالترجمة أصل الحديث لا خصوص السياق الذي يورده، ولم أقف على طريق يونس من رواية إبراهيم بن المنذر موصولة، نعم وصلها مسلم عن أبي طاهر بن السرح عن ابن وهب، ووصلها الإسماعيلي أيضا من طريق عثمان بن عمر عن يونس وفيه الزيادة.
(1/550)
70 - باب ذِكْرِ
الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْمَسْجِدِ
456- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "أَتَتْهَا بَرِيرَةُ
تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَتْ إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ
وَيَكُونُ الْوَلاَءُ لِي وَقَالَ أَهْلُهَا إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتِهَا مَا بَقِيَ
وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً إِنْ شِئْتِ أَعْتَقْتِهَا وَيَكُونُ الْوَلاَءُ لَنَا
فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَّرَتْهُ
ذَلِكَ َقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّ
الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ" ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً فَصَعِدَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ "مَا
بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ
اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ
مِائَةَ مَرَّةٍ" قَالَ عَلِيٌّ قَالَ يَحْيَى وَعَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ يَحْيَى
عَنْ عَمْرَةَ نَحْوَهُ وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ عَنْ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ
عَمْرَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ
عَمْرَةَ أَنَّ بَرِيرَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ
[الحديث456- أطرافه في:
6760,6758,6754,6751,6717,5430,5284,5279,5097,2735,
2729,27262717,2578,2565,2564,2563,2561,2536,2155,1493]
قوله: "باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد" مطابقة هذه الترجمة
لحديث الباب من قوله: "ما بال أقوام يشترطون " فإن فيه إشارة إلى القصة
المذكورة، وقد اشتملت على بيع وشراء وعتق وولاء. ووهم بعض من تكلم على هذا الكتاب
فقال: ليس فيه أن البيع والشراء وقعا في المسجد، ظنا منه أن الترجمة معقودة لبيان
جواز ذلك، وليس كما ظن، للفرق بين جريان ذكر الشيء والإخبار عن حكمه فإن ذلك حق
وخير، وبين مباشرة العقد فإن ذلك يفضي إلى اللغط المنهي عنه، قال المازري:
واختلفوا في جواز ذلك في المسجد مع اتفاقهم على صحة العقد لو وقع. ووقع لابن
المنير في تراجمه وهم آخر، فإنه زعم أن حديث هذه الترجمة هو حديث أبي هريرة في قصة
ثمامة بن أثال، وشرع يتكلف لمطابقته لترجمة البيع والشراء في المسجد، وإنما الذي
في النسخ كلها في ترجمة البيع والشراء حديث عائشة، وأما حديث أبي هريرة المذكور
فسيأتي بعد أربعة أبواب بترجمة أخرى، وكأنه انتقل بصره من موضع لموضع، أو تصفح
ورقة فانقلبت ثنتان. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة "عن
يحيى" هو ابن سعيد. وللحميدي في مسنده " عن سفيان حدثنا يحيى".
قوله: "قالت أتتها" فيه التفات إن كان فاعل قالت عائشة، ويحتمل
(1/550)
أن يكون الفاعل
عمرة فلا التفات. قوله: "تسألها في كتابتها" ضمن " تسأل "
معنى تستعين، وثبت كذلك في رواية أخرى، والمراد بقولها " أهلك " مواليك،
وحذف مفعول " أعطيت " الثاني لدلالة الكلام عليه، والمراد بقية ما
عليها، وسيأتي تعيينه في كتاب العتق إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال سفيان
مرة" أي أن سفيان حدث به على وجهين، وهو موصول غير معلق. قوله: "ذكرته
ذلك" كذا وقع هنا بتشديد الكاف، فقيل: الصواب ما وقع في رواية مالك وغيره
بلفظ: "ذكرت له ذلك " لأن التذكير يستدعي سبق علم بذلك، ولا يتجه تخطئة
هذه الرواية لاحتمال السبق أولا على وجه الإجمال. قوله: "يشترطون شروطا ليس
في كتاب الله" كأنه ذكر باعتبار جنس الشرط ولفظ: "مائة " للمبالغة
فلا مفهوم له. قوله: "في كتاب الله" قال الخطابي: ليس المراد أن ما لم
ينص عليه في كتاب الله فهو باطل، فإن لفظ: "الولاء لمن أعتق " من قوله
صلى الله عليه وسلم، لكن الأمر بطاعته في كتاب الله فجاز إضافة ذلك إلى الكتاب.
وتعقب بأن ذلك لو جاز لجازت إضافة ما اقتضاه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إليه،
والجواب عنه أن تلك الإضافة إنما هي بطريق العموم لا بخصوص المسألة المعينة، وهذا
مصير من الخطابي إلى أن المراد بكتاب الله هنا القرآن، ونظير ما جنح إليه ما قاله
ابن مسعود لأم يعقوب في قصة الواشمة: مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهو في كتاب الله. ثم استدل على كونه في كتاب الله بقوله تعالى: {وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}. ويحتمل أن يكون المراد بقوله هنا " في كتاب
الله " أي في حكم الله، سواء ذكر في القرآن أم في السنة. أو المراد بالكتاب
المكتوب أي في اللوح المحفوظ. وحديث عائشة هذا في قصة بريرة قد أخرجه البخاري في
مواضع أخرى من البيوع والعتق وغيرهما، واعتنى به جماعة من الأئمة فأفردوه
بالتصنيف. وسنذكر فوائده ملخصة مجموعة في كتاب العتق إن شاء الله تعالى. قوله:
"ورواه مالك" وصله في باب المكاتب عن عبد الله بن يوسف عنه، وصورة سياقه
الإرسال، وسيأتي الكلام عليه هناك. قوله: "قال علي" يعني ابن عبد الله
المذكور أول الباب، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وعبد الوهاب هو ابن عبد المجيد
الثقفي. والحاصل أن علي بن عبد الله حدث البخاري عن أربعة أنفس حدثه كل منهم به عن
يحيى بن سعيد الأنصاري، وإنما أفرد رواية سفيان لمطابقتها الترجمة بذكر المنير
فيها، ويؤيد ذلك أن التعليق عن مالك متأخر في رواية كريمة عن طريق جعفر بن عون.
قوله: "عن عمرة نحوه" يعني نحو رواية مالك، وقد وصله الإسماعيلي من طريق
محمد بن بشار عن يحيى القطان وعبد الوهاب كلاهما عن يحيى بن سعيد قال:
"أخبرتني عمرة أن بريرة " فذكره، وليس فيه ذكر المنبر أيضا، وصورته أيضا
الإرسال، لكن قال في آخره: "فزعمت عائشة أنها ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم: "فذكر الحديث، فظهر بذلك اتصاله.
وأفادت رواية جعفر بن عون التصريح بسماع يحيى من عمرة وبسماع عمرة من عائشة فأمن
بذلك ما يخشى فيه من الإرسال المذكور وغيره. وقد وصله النسائي والإسماعيلي أيضا من
رواية جعفر بن عون وفيه عن عائشة قالت: "أتتني بريرة " فذكر الحديث وليس
فيه ذكر المنبر أيضا.
(1/551)
71 - باب
التَّقَاضِي وَالْمُلاَزَمَةِ فِي الْمَسْجِدِ
457- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ
عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا
كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا
(1/551)
رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا
حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى "يَا كَعْبُ" قَالَ لَبَّيْكَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا" وَأَوْمَأَ
إِلَيْهِ أَيْ الشَّطْرَ قَالَ لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ
"قُمْ فَاقْضِهِ"
[الحديث457- أطرافه في:2710,2706,2424,2418,471]
قوله: "باب التقاضي" أي مطالبة الغريم قضاء الدين.
"والملازمة" أي ملازمة الغريم، و "في المسجد" يتعلق بالأمرين.
فإن قيل: التقاضي ظاهر من حديث الباب دون الملازمة، أجاب بعض المتأخرين فقال: كأنه
أخذه من كون ابن أبي حدرد لزمه خصمه في وقت التقاضي، وكأنهما كانا ينتظران النبي
صلى الله عليه وسلم ليفصل بينهما. قال: فإذا جازت الملازمة في حال الخصومة فجوازها
بعد ثبوت الحق عند الحاكم أولى. انتهى. قلت: والذي يظهر لي من عادة تصرف البخاري
أنه أشار بالملازمة إلى ما ثبت في بعض طرقه، وهو ما أخرجه هو في باب الصلح وغيره
من طريق الأعرج عن عبد الله بن كعب عن أبيه أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد
الأسلمي مال، فلقيه فلزمه، فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما. ويستفاد من هذه الرواية
أيضا تسمية ابن أبي حدرد وذكر نسبته. "فائدة": قال الجوهري وغيره: لم
يأت من الأسماء على " فعلع " بتكرير العين غير حدرد، وهو بفتح المهملة
بعدها دال مهملة ساكنة ثم راء مفتوحة ثم دال مهملة أيضا. قوله: "عن كعب"
هو ابن مالك، أبوه. قوله: "دينا" وقع في رواية زمعة بن صالح عن الزهري
أنه كان أوقيتين أخرجه الطبراني. قوله: "في المسجد" متعلق بتقاضي. قوله:
"فخرج إليهما" في رواية الأعرج " فمر بهما النبي صلى الله عليه
وسلم: "فظاهر الروايتين التخالف، وجمع بعضهم بينهما باحتمال أن يكون مر بهما
أو لا ثم إن كعبا أشخص خصمه للمحاكمة فسمعهما النبي صلى الله عليه وسلم أيضا وهو
في بيته. قلت: وفيه بعد، لأن في الطريقين أنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى كعب
بالوضيعة وأمر غريمه بالقضاء، فلو كان أمره صلى الله عليه وسلم بذلك تقدم لهما لما
احتاج إلى الإعادة. والأولى فيما يظهر لي أن يحمل المرور على أمر معنوي لا حسي.
قوله: "سجف" بكسر المهملة وسكون الجيم وحكى فتح أوله وهو الستر، وقيل
أحد طرفي الستر المفرج. قوله: "أي الشطر" بالنصب أي ضع الشطر، لأنه
تفسير لقوله: "هذا " والمراد بالشطر النصف وصرح به في رواية الأعرج.
قوله: "لقد فعلت" مبالغة في امتثال الأمر. وقوله: "قم " خطاب
لابن أبي حدرد، وفيه إشارة إلى أنه لا يجتمع الوضيعة والتأجيل. وفي الحديث جواز
رفع الصوت في المسجد، وهو كذلك ما لم يتفاحش، وقد أفرد له المصنف بابا يأتي قريبا،
والمنقول عن مالك منعه في المسجد مطلقا، وعنه التفرقة بين رفع الصوت بالعلم والخير
وما لا بد منه فيجوز، وبين رفعه باللغط ونحوه فلا. قال المهلب: لو كان رفع الصوت
في المسجد لا يجوز لما تركهما النبي صلى الله عليه وسلم ولبين لهما ذلك. قلت: ولمن
منع أن يقول: لعله تقدم نهيه عن ذلك فاكتفى به، واقتصر على التوصل بالطريق المؤدية
إلى ترك ذلك بالصلح المقتضى لترك المخاصمة الموجبة لرفع الصوت. وفيه الاعتماد على
الإشارة إذا فهمت، والشفاعة إلى صاحب الحق، وإشارة الحاكم بالصلح وقبول الشفاعة،
وجواز إرخاء الستر على الباب.
(1/552)
72 - باب كَنْسِ
الْمَسْجِدِ وَالْتِقَاطِ الْخِرَقِ وَالْقَذَى وَالْعِيدَانِ
458- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ
عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "أَنَّ رَجُلًا
أَسْوَدَ أَوْ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ فَسَأَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالُوا "مَاتَ"
قَالَ "أَفَلاَ كُنْتُمْ
(1/552)
آذَنْتُمُونِي بِهِ
دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ" أَوْ قَالَ قَبْرِهَا فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى
عَلَيْهَا"
[الحديث458- طرفاه في: 1337,460]
قوله: "باب كنس المسجد، والتقاط الخرق والقذى والعيدان" أي منه. قوله:
"عن أبي رافع" هو الصائغ تابعي كبير، ووهم بعض الشراح فقال: إنه أبو
رافع الصحابي. وقال: هو من رواية صحابي عن صحابي. وليس كما قال فإن ثابتا البناني
لم يدرك أبا رافع الصحابي. قوله: "أن رجلا أسود أو امرأة سوداء" الشك
فيه من ثابت لأنه رواه عنه جماعة هكذا، أو من أبي رافع. وسيأتي بعد باب من وجه آخر
عن حماد بهذا الإسناد قال: ولا أراه إلا امرأة ورواه ابن خزيمة من طريق العلاء بن
عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فقال امرأة سوداء ولم يشك. ورواه البيهقي بإسناد
حسن من حديث ابن بريدة عن أبيه فسماها " أم محجن " وأفاد أن الذي أجاب
النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤاله عنها أبو بكر الصديق. وذكر ابن منده في الصحابة
" خرقاء امرأة سوداء كانت تقم المسجد " ووقع ذكرها في حديث حماد بن زيد
عن ثابت عن أنس، وذكرها ابن حبان في الصحابة بذلك بدون ذكر السند، فإن كان محفوظا
فهذا اسمها وكنيتها " أم محجن". قوله: "كان يقم المسجد" بقاف
مضمومة أي يجمع القمامة وهي الكناسة. فإن قيل: دل الحديث على كنس المسجد فمن أين
يؤخذ التقاط الخرق وما معه؟ أجاب بعض المتأخرين بأنه يؤخذ بالقياس عليه، والجامع
التنظيف. قلت: والذي يظهر لي من تصرف البخاري أنه أشار بكل ذلك إلى ما ورد في بعض
طرقه صريحا، ففي طريق العلاء المتقدمة " كانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد
" وفي حديث بريدة المتقدم " كانت مولعة بلقط القذى من المسجد "
والقذى بالقاف والذال المعجمة مقصور: جمع قذاة، وجمع الجمع أقذية قال أهل اللغة
القذى في العين والشراب ما يسقط فيه، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا
كان يسيرا. وتكلف من لم يطلع على ذلك فزعم أن حكم الترجمة يؤخذ من إتيان النبي صلى
الله عليه وسلم القبر حتى صلى عليه، قال: فيؤخذ من ذلك الترغيب في تنظيف المسجد.
قوله: "عنه" أي عن حاله، ومفعوله محذوف أي الناس. قوله:
"آذنتموني" بالمد أي أعلمتموني، زاد المصنف في الجنائز " قال
فحقروا شأنه " وزاد ابن خزيمة في طريق العلاء " قالوا مات من الليل
فكرهنا أن نوقظك " وكذا في حديث بريدة، زاد مسلم عن أبي كامل الجحدري عن حماد
بهذا الإسناد في آخره ثم قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن
الله ينورها لهم بصلاتي عليهم " وإنما لم يخرج البخاري هذه الزيادة لأنها
مدرجة في هذا الإسناد، وهي من مراسيل ثابت، بين ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن
زيد، وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتاب " بيان المدرج"، قال البيهقي: يغلب
على الظن أن هذه الزيادة من مراسيل ثابت كما قال أحمد بن عبدة، أو من رواية ثابت
عن أنس يعني كما رواه ابن منده. ووقع في مسند أبي داود الطيالسي عن حماد بن زيد
وأبي عامر الخزاز كلاهما عن ثابت بهذه الزيادة، وزاد بعدها " فقال رجل من
الأنصار: إن أبي - أو أخي - مات أو دفن فصل عليه. قال فانطلق معه رسول الله صلى
الله عليه وسلم". وفي الحديث فضل تنظيف المسجد، والسؤال عن الخادم والصديق
إذا غاب. وفيه المكافأة بالدعاء، والترغيب في شهود جنائز أهل الخير، وندب الصلاة
على الميت الحاضر عند قبره لمن لم يصل عليه، والإعلام بالموت.
(1/553)
3 7- باب تَحْرِيمِ
تِجَارَةِ الْخَمْرِ فِي الْمَسْجِدِ
459- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ
عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "لَمَّا أُنْزِلَتْ
(1/553)
الْآيَاتُ مِنْ
سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ حَرَّمَ
تِجَارَةَ الْخَمْرِ"
[الحديث459- أطرافه في: 4543,4542,4541,4540,2226,2084]
قوله: "باب تحريم تجارة الخمر في المسجد" أي جواز ذكر ذلك وتبيين
أحكامه، وليس مراده ما يقتضيه مفهومه من أن تحريمها مختص بالمسجد، وإنما هو على
حذف مضاف، أي باب ذكر تحريم، كما تقدم نظيره في " باب ذكر البيع
والشراء". وموقع الترجمة أن المسجد منزه عن الفواحش فعلا وقولا، لكن يجوز
ذكرها فيه للتحذير مها ونحو ذلك لها دل عليه هذا الحديث. قوله: "عن أبي
حمزة" هو السكري، ومسلم هو ابن صبيح أبو الضحى. وسيأتي الكلام على حديث الباب
في تفسير سورة البقرة إن شاء الله تعالى. قال القاضي عياض: كان تحريم الخمر قبل
نزول آية الربا بمدة طويلة، فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بتحريمها مرة بعد
أخرى تأكيدا. قلت: ويحتمل أن يكون تحريم التجارة فيها تأخر عن وقت تحريم عينها.
والله أعلم.
(1/554)
74 - باب الْخَدَمِ
لِلْمَسْجِدِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}
لِلْمَسْجِدِ يَخْدُمُهَا
460- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ وَاقِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ
عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "أَنَّ امْرَأَةً
أَوْ رَجُلًا كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ امْرَأَةً
فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى
عَلَى قَبْرِهَ".
قوله: "باب الخدم للمسجد" في رواية كريمة: "الخدم في المسجد".
قوله: "وقال ابن عباس" هذا التعليق وصله ابن أبي حاتم بمعناه. قوله:
"محررا" أي معتقا، والظاهر أنه كان في شرعهم صحة النذر في أولادهم، وكأن
غرض البخاري الإشارة بإيراد هذا إلى أن تعظيم المسجد بالخدمة كان مشروعا عند الأمم
السالفة حتى أن بعضهم وقع منه نذر ولده لخدمته. ومناسبة ذلك لحديث الباب من جهة
صحة تبرع تلك المرأة بإقامة نفسها لخدمة المسجد لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم
لها على ذلك. قوله: "حدثنا أحمد بن واقد" واقد جده، واسم أبيه عبد
الملك، وشيخه حماد هو ابن زيد، ورجاله إلى أبي هريرة بصريون. قوله: "ولا
أراه" بضم الهمزة، أي أظنه. قوله: "فذكر حديث النبي صلى الله عليه
وسلم" أي الذي تقدم قبل بباب.
(1/554)
75 - باب الأَسِيرِ
أَوْ الْغَرِيمِ يُرْبَطُ فِي الْمَسْجِدِ
461- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ
وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ
عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا
لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَرَدْتُ أَنْ
أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا
وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ {رَبِّ
اغْفِرْ لِي وهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} " قَالَ
رَوْحٌ: فَرَدَّهُ خَاسِئًا
[الحديث461- أطرافه في: 4808,3423,3284,1210]
قوله: "باب الأسير أو الغريم" كذا للأكثر بأو، وهي للتنويع.وفي رواية
ابن السكن وغيره: "والغريم " بواو العطف. قوله: "حدثنا روح"
هو ابن عبادة. قوله: "تفلت" بالفاء وتشديد اللام أي تعرض لي فلتة، أي
(1/554)
باب الإغتسال إذا
أسلم ، وربط أيضا في المسجد
...
3 - باب الِاغْتِسَالِ إِذَا أَسْلَمَ وَرَبْطِ الأَسِيرِ أَيْضًا فِي الْمَسْجِدِ
وَكَانَ شُرَيْحٌ يَأْمُرُ الْغَرِيمَ أَنْ يُحْبَسَ إِلَى سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ
462- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ
بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ فَرَبَطُوهُ
بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ" فَانْطَلَقَ
إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ
فَقَالَ "أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللَّهِ"
[الحديث462- أطرافه في:4372,2423,2422,469]
قوله: "باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير أيضا في المسجد" هكذا في أكثر
الروايات، وسقط للأصيلي وكريمة قوله: "وربط الأسير الخ"، وعند بعضهم
" باب " بلا ترجمة، وكأنه فصل من الباب الذي قبله، ويحتمل أن يكون بيض
للترجمة فسد بعضهم البياض بما ظهر له، ويدل عليه أن الإسماعيلي ترجم عليه "
باب دخول المشرك المسجد " وأيضا فالبخاري لم تجر عادته بإعادة لفظ الترجمة
عقب الأخرى، والاغتسال إذا أسلم لا تعلق له بأحكام المساجد إلا على بعد، وهو أن
يقال: الكافر جنب غالبا والجنب ممنوع من المسجد إلا لضرورة، فلما أسلم لم تبق
ضرورة للبثه في المسجد جنبا فاغتسل لتسوغ له الإقامة في المسجد. وادعى ابن المنير
أن ترجمة هذا الباب ذكر البيع
(1/555)
والشراء في المسجد. قال: ومطابقتها لقصة ثمامة أن من تخيل منع ذلك أخذه من عموم قوله: "إنما بنيت المساجد لذكر الله " فأراد البخاري أن هذا العموم مخصوص بأشياء غير ذلك منها ربط الأسير في المسجد، فإذا جاز ذلك للمصلحة فكذلك يجوز البيع والشراء للمصلحة في المسجد. قلت: ولا يخفى ما فيه من التكلف، وليس ما ذكره من الترجمة مع ذلك في شيء من نسخ البخاري هنا، وإنما تقدمت قبل خمسه أبواب لحديث عائشة في قصة بريرة، ثم قال: فإن قيل إيراد قصة ثمامة في الترجمة التي قبل هذه وهي " باب الأسير يربط في المسجد " أليق فالجواب أنه يحتمل أن البخاري آثر الاستدلال بقصة العفريت على قصة ثمامة، لأن الذي هم بربط العفريت هو النبي صلى الله عليه وسلم، والذي تولى ربط ثمامة غيره، وحيث رآه مربوطا قال: "أطلقوا ثمامة " قال فهو بأن يكون إنكارا لربطه أولى من أن يكون تقريرا. انتهى. وكأنه لم ينظر سياق هذا الحديث تاما لا في البخاري ولا في غيره، فقد أخرجه البخاري في أواخر المغازي من هذا الوجه بعينه مطولا وفيه أنه صلى الله عليه وسلم مر على ثمامة ثلاث مرات وهو مربوط في المسجد، وإنما أمر بإطلاقه في اليوم الثالث، وكذا أخرجه مسلم غيره، وصرح ابن إسحاق في المغازي من هذا الوجه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بربطه، فبطل ما تخيله ابن المنير، وإني لأتعجب منه كيف جوز أن الصحابة يفعلون في المسجد أمرا لا يرضاه رسول صلى الله عليه وسلم؟ فهو كلام فاسد، مبني على فاسد، فالحمد لله على التوفيق. قوله: "وكان شريح يأمر الغريم أن يحبس" قال ابن مالك: فيه وجهان، أحدهما أن يكون الأصل يأمر بالغريم، وأن يحبس بدل اشتمال، ثم حذفت الباء. ثانيهما أن معنى قوله: "أن يحبس " أي ينحبس، فجعل المطاوع موضع المطاوع لاستلزامه إياه. انتهى. والتعليق المذكور في رواية الحموي دون رفقته، وقد وصله معمر عن أيوب عن ابن سيربن قال: "كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم بما عليه، فإن أعطى الحق وإلا أمر به إلى السجن. قوله: "خيلا" أي فرسانا، والأصل أنهم كانوا رجالا على خيل، وثمامة بمثلثة مضمومة وأثال بضم الهمزة بعدها مثلثة خفيفة. قوله: "إلى نخل" في أكثر الروايات بالخاء المعجمة، وفي النسخة المقروءة على أبي الوقت بالجيم، وصوبها بعضهم. وقال: والنجل الماء القليل النابع وقيل الجاري. قلت: ويؤيد الرواية الأولى أن لفظ ابن خزيمة في صحيحه في هذا الحديث: "فانطلق إلى حائط أبي طلحة " سيأتي الكلام على بقية فوائد هذا الحديث حيث أورده المصنف تاما إن شاء الله تعالى.
(1/556)
77- باب
الْخَيْمَةِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَرْضَى وَغَيْرِهِمْ
463- حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
نُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ
"أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي الأَكْحَلِ فَضَرَبَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ
قَرِيبٍ فَلَمْ يَرُعْهُمْ وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ إِلاَّ
الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي
يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا فَمَاتَ
فِيهَا"
[الحديث 463- أطرافه في: 4122,4117,3901,2813]
قوله: "باب الخيمة في المسجد" أي جواز ذلك قوله: "حدثنا زكريا بن
يحيى" هو البلخي اللؤلؤي وكان حافظا، وفي شيوخ البخاري زكريا بن يحيى أبو
السكين، وقد شارك البلخي في بعض شيوخه. قوله: "أصيب سعد"
(1/556)
أي ابن معاذ. قوله: "في الأكحل" هو عرق في اليد. قوله: "خيمة في المسجد" أي لسعد. قوله: "فلم يرعهم" أي يفزعهم، قال الخطابي: المعنى أنهم بينما هم في حال طمأنينة حتى أفزعتهم روية الدم فارتاعوا له. وقال غيره: المراد بهذا اللفظ السرعة لا نفس الفزع. قوله: "وفي المسجد خيمة" هذه الجملة معترضة بين الفعل والفاعل، والتقدير: فلم يرعهم إلا الدم، والمعنى فراعهم الدم. قوله: "من قبلكم" بكسر القاف، أي من جهتكم. قوله: "يغذو" غين وذال معجمتين، أي يسيل. قوله: "فمات فيها" أي في الخيمة، أو في تلك المرضة. وفي رواية المستملي والكشميهني: "فمات منها " أي الجراحة. وسيأتي الكلام على بقية فوائد هذا الحديث في كتاب المغازي حيث أورده المؤلف هناك بأتم من هذا السياق.
(1/557)
78 - باب إِدْخَالِ
الْبَعِيرِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْعِلَّةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى بَعِيرٍ"
464- حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن
عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة قالت شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أني أشتكي قال "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة" فطفت ورسول الله صلى
الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور"
[الحديث464- أطرافه في: 4853,1633,1636,1619]
قوله: "باب إدخال البعير في المسجد للعلة" أي للحاجة ، وفهم منه بعضهم
أن المراد بالعلة الضعف فقال هو ظاهر في حديث أم سلمة دون حديث ابن عباس، ويحتمل
أن يكون المصنف أشار بالتعليق المذكور إلى ما أخرجه أبو داود من حديثه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته، وأما اللفظ المعلق فهو
موصول عند المصنف كما سيأتي في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. ويأتي أيضا قول جابر
" أنه إنما طاف على بعيره ليراه الناس وليسألوه " ويأتي الكلام على حديث
أم سلمة أيضا في الحج، وهو ظاهر فيما ترجم له، ورجال إسناده مدنيون، وفيه تابعيان
محمد وعروة، وصحابيتان زينب وأمها أم سلمة. قال ابن بطال: في هذا الحديث جواز دخول
الدواب التي يؤكل لحمها المسجد إذا احتيج إلى ذلك لأن بولها لا ينجسه، بخلاف غيرها
من الدواب. وتعقب بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع [عدم] الحاجة، بل
ذلك دائر على التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلويث يمتنع الدخول. وقد قيل إن ناقته
صلى الله عليه وسلم كانت منوقة، أي مدربة معلمة فيؤمن منها ما يحذر من التلويث وهي
سائرة(1) فيحتمل أن يكون بعير أم سلمة كان كذلك. والله أعلم
(1/557)
79- باب
465- حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن قتادة قال
حدثنا أنس أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي صلى الله
عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصباحين
ـــــــ
(1) هذا الكلام ليس بشيء, والصواب طهارة أبوال الإبل ونحوها مما يؤكل لحمه,فلا يضر
المسجد وجود شيء من ذلك كما أشار إليه ابن بطال .فتنبه, وانظر حاشية ص 339
(1/557)
80 - باب
الْخَوْخَةِ وَالْمَمَرِّ فِي الْمَسْجِدِ
466- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ "إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا
وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ" فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا يُبْكِي هَذَا
الشَّيْخَ إِنْ يَكُنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا
عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هُوَ الْعَبْدَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا قَالَ يَا أَبَا
بَكْرٍ لاَ تَبْكِ إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو
بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا
بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ لاَ يَبْقَيَنَّ فِي
الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ بَابُ أَبِي بَكْرٍ"
[الحديث466- طرفاه في: 3904,3654]
467- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ يَعْلَى بْنَ حَكِيمٍ
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ
فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ
أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ النَّاسِ
خَلِيلًا لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلاَمِ
أَفْضَلُ سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ
أَبِي بَكْرٍ"
[الحديث467- طرفاه في:6738,3657,3656]
قوله "باب الخوخة والممر في المسجد" الخوخة باب صغير قد بكون بمصراع وقد
لايكون,وإنما أصلها فتح في حائط, قاله ابن قرقول قوله: "عن عبيد بن حنين عن
بسر بن سعيد" هكذا في أكثر الروايات، وسقط في رواية
(1/558)
الأصيلي عن أبي زيد ذكر بسر بن سعيد فصار عن عبيد بن حنين عن أبي سعيد، وهو صحيح في نفس الأمر لكن محمد بن سنان إنما حدث به كالذي وقع في بقية الروايات، فقد نقل ابن السكن عن الفربري عن البخاري أنه قال: هكذا حدث به محمد بن سنان، وهو خطأ، وإنما هو عن عبيد بن حنين وعن بسر بن سعيد يعني بواو العطف، فعلى هذا يكون أبو النضر سمعه من شيخين حدثه كل منهما به عن أبي سعيد، وقد رواه مسلم كذلك عن سعيد بن منصور عن فليح عن أبي النضر عن عبيد وبسر جميعا عن أبي سعيد وتابعه يونس ابن محمد عن فليح أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة عنه، ورواه أبو عامر العقدي عن فليح عن أبي النضر عن بسر وحده، أخرجه المصنف في مناقب أبي بكر، فكأن فليحا كان يجمعهما مرة ويقتصر مرة على أحدهما. وقد رواه مالك عن أبي النضر عن عبيد وحده عن أبي سعيد أخرجه المصنف أيضا في الهجرة، وهذا مما يقوى أن الحديث عند أبي النضر عن شيخين، ولم يبق إلا أن محمد بن سنان أخطأ في حذف الواو العاطفة مع احتمال أن يكون الخطأ من فليح حال تحديثه له به، ويؤيد هذا الاحتمال أن المعافي بن سليمان الحراني رواه عن فليح كرواية محمد بن سنان، وقد نبه المصنف على أن حذف الواو خطأ فلم يبق للاعتراض عليه سبيل، قال الدارقطني: رواية من رواه عن أبي النضر عن عبيد عن بسر غير محفوظة. قوله: "إن يكن الله خير عبدا" كذا للأكثر، وللكشميهني: "إن يكن لله عبد خير " والهمزة في " إن " مكسورة على أنها شرطية، وجوز ابن التين فتحها على أنها تعليلية وفيه نظر. قوله: "إن أمن الناس" قال النووي: قال العلماء معناه أكثرهم جودا لنا بنفسه وماله، وليس هو من المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة، لأن المنة لله ولرسوله في قبول ذلك. وقال القرطبي: هو من الامتنان، والمراد أن أبا بكر له من الحقوق ما لو كان لغيره نظيرها لامتن بها، يؤيده قوله في رواية ابن عباس " ليس أحد أمن على"، والله أعلم. قوله: "ولكن أخوة الإسلام" كذا للأكثر وللأصيلي: "ولكن خوة الإسلام " بحذف الألف كأنه نقل حركة الهمزة إلى النون وحذف الهمزة، فعلى هذا يجوز ضم نون لكن كما قاله ابن مالك، وخبر هذه الجملة محذوف، والتقدير أفضل كما وقع في حديث ابن عباس الذي بعده " ولكن فيه خلة الإسلام " ويأتي ما في ذلك من الإشكال وبيانه في كتاب المناقب إن شاء الله تعالى. وبين حديث ابن عباس أيضا أن ذلك كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم، وذلك لما أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فلذلك استثنى خوخته بخلاف غيره، وقد قيل: إن ذلك من جملة الإشارات إلى استخلافه كما سيأتي أيضا. قوله: "غير خوخة أبي بكر" كذا للأكثر، وللكشميهني: "إلا " بدل غير.
(1/559)
81 - باب
الأَبْوَابِ وَالْغَلَقِ لِلْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ "قَالَ لِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَا
عَبْدَ الْمَلِكِ لَوْ رَأَيْتَ مَسَاجِدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبْوَابَهَا"
468- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالاَ حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ "أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ فَدَعَا عُثْمَانَ
بْنَ طَلْحَةَ فَفَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَبِلاَلٌ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ثُمَّ
أَغْلَقَ الْبَابَ فَلَبِثَ فِيهِ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجُوا قَالَ ابْنُ عُمَرَ
فَبَدَرْتُ فَسَأَلْتُ بِلاَلًا فَقَالَ صَلَّى فِيهِ فَقُلْتُ فِي أَيٍّ قَالَ
(1/559)
بَيْنَ
الأُسْطُوَانَتَيْنِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَذَهَبَ عَلَيَّ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ
صَلَّى؟".
قوله: "باب الأبواب والغلق" بفتح المعجمة واللام، أي ما يغلق به الباب.
قوله: "قال لي عبد الله بن محمد" هو الجعفي، وسفيان هو ابن عيينة، وعبد
الملك هو اسم ابن جريج. و قوله: "لو رأيت" محذوف الجواب وتقديره: لرأيت
عجبا أو حسنا، لإتقانها أو نظافتها ونحو ذلك. وهذا السياق يدل على أنها في ذلك
الوقت كانت قد اندرست. قوله: "قالا حدثنا حماد بن زيد" لم يقل الأصيلي:
"ابن زيد"، وسيأتي الكلام على حديث ابن عمر هذا في كتاب الحج إن شاء الله
تعالى. قال ابن بطال: الحكمة في غلق الباب حينئذ لئلا يظن الناس أن الصلاة فيه سنة
فيلتزمون ذلك، كذا قال. ولا يخفى ما فيه. وقال غيره: يحتمل أن يكون ذلك لئلا
يزدحموا عليه، لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعاله ليأخذوها عنه، أو ليكون ذلك أسكن
لقلبه وأجمع لخشوعه. وإنما أدخل معه عثمان لئلا يظن أنه عزل عن ولاية الكعبة،
وبلالا وأسامة لملازمتهما خدمته. وقيل: فائدة ذلك التمكن من الصلاة في جميع
جهاتها، لأن الصلاة إلى جهة الباب وهو مفتوح لا تصح.
(1/560)
82 - باب دُخُولِ
الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ
469- حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة
يقول"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة
يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد"
قوله: "باب دخول المشرك المسجد" هذه الترجمة ترد على الإسماعيلي حيث
ترجم بها فيما مضى بدل ترجمة الاغتسال إذا أسلم، وقد يقال إن في هذه الترجمة
بالنسبة إلى ترجمة " الأسير يربط في المسجد " تكرارا، لأن ربطه فيه
يستلزم إدخاله. لكن يجاب عن ذلك بأن هذا أعم من ذاك، وقد اختصر المصنف الحديث
مقتصرا على المقصود منه، وسيأتي تاما في المغازي. وفي دخول المشرك المسجد مذاهب:
فعن الحنفية الجواز مطلقا، وعن المالكية والمزني المنع مطلقا، وعن الشافعية
التفصيل بين المسجد الحرام وغيره للآية. وقيل: يؤذن للكتابي خاصة، وحديث الباب يرد
عليه، فإن ثمامة ليس من أهل الكتاب.
(1/560)
3 - باب رَفْعِ
الصَّوْتِ فِي الْمَسَاجِدِ
470- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنِي
يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كُنْتُ قَائِمًا فِي
الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
فَقَالَ اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ فَجِئْتُهُ بِهِمَا قَالَ مَنْ أَنْتُمَا
أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا قَالاَ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ قَالَ لَوْ كُنْتُمَا
مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لاَوْجَعْتُكُمَا تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب رفع الصوت في المسجد" أشار بالترجمة إلى الخلاف في ذلك، فقد
كرهه مالك مطلقا سواء كان في العلم أم في غيره، وفرق غيره بين ما يتعلق بغرض ديني
أو نفع دنيوي وبين ما لا فائدة فيه، وساق البخاري في
(1/560)
3 - باب الْحِلَقِ
وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ
472- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَأَلَ
رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ
مَا تَرَى فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ قَالَ "مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ
الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً فَأَوْتَرَتْ
(1/561)
لَهُ مَا
صَلَّى" وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ وِتْرًا فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ
[الحديث 472- أطرافه في: 1137,995,993,990,473]
473- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ كَيْفَ صَلاَةُ
اللَّيْلِ فَقَالَ "مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ
بِوَاحِدَةٍ تُوتِرُ لَكَ مَا قَدْ صَلَّيْتَ" قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُمْ
أَنَّ رَجُلًا نَادَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي
الْمَسْجِدِ
474- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى
عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ
"بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا
فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ
فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلاَ
أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى
اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ
مِنْهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ".
قوله: "باب الحلق" بفتح المهملة ويجوز كسرها واللام مفتوحة على كل حال:
جمع حلقة بإسكان اللام على غير قياس وحكى فتحها أيضا. قوله: "عن عبيد
الله" هو ابن عمر العمري. قوله: "سأل رجل" لم أقف على اسمه. قوله:
"ما ترى" أي ما رأيك؟ من الرأي، ومن الرؤية بمعنى العلم، و "مثنى
مثنى" بغير تنوين أي اثنتين اثنتين، وكرر تأكيدا. قوله: "فأوترت"
بفتح الراء، أي تلك الواحدة. قوله: "وأنه كان يقول" بكسر الهمزة على
الاستئناف، وقائل ذلك هو نافع، والضمير لابن عمر. قوله: "بالليل" هي في
رواية الكشميهني والأصيلي فقط. قوله في طريق أيوب عن نافع "توتر" بالجزم
جوابا للأمر، وبالرفع على الاستئناف، وزاد الكشميهني والأصيلي: "لك".
قوله: "قال الوليد بن كثير" هذا التعليق وصله مسلم من طريق أبي أسامة عن
الوليد، وهو بمعنى حديث نافع عن ابن عمر، وسيأتي الكلام على ذلك مفصلا في كتاب
الوتر إن شاء الله تعالى. وأراد البخاري بهذا التعليق بيان أن ذلك كان في المسجد
ليتم له الاستدلال لما ترجم له. وقد اعترضه الإسماعيلي فقال: ليس فيما ذكر دلالة
على الحلق ولا على الجلوس في المسجد بحال. وأجيب بأن كونه كان في المسجد صريح من
هذا المعلق، وأما التحلق فقال المهلب: شبه البخاري جلوس الرجال في المسجد حول
النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بالتحلق حول العالم، لأن الظاهر أنه صلى الله
عليه وسلم لا يكون في المسجد وهو على المنبر إلا وعنده جمع جلوس محدقين به
كالمتحلقين، والله أعلم. وقال غيره: حديث ابن عمر يتعلق بأحد ركني الترجمة وهو
الجلوس، وحديث أبي واقد يتعلق بالركن الآخر وهو التحلق. وأما ما رواه مسلم من حديث
جابر بن سمرة قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حلق فقال:
" مالي أراكم عزين " فلا معارضة بينه وبين هذا، لأنه إنما كره تحلقهم
على ما لا فائدة فيه ولا منفعة(1) بخلاف تحلقهم حوله فإنه كان
ـــــــ
(1) هذا فيه نظر. والظاهر أنه أنكر عليهم تفرقهم, ودل بذلك على استحباب اجتماعهم
حال مذاكرة العلم, وأن يكونو حلقة واحدة لاحقا, لأن ذلك أجمع للقلوب وأكمل
للفائدة. والله أعلم
(1/562)
لسماع العلم والتعلم منه. قوله: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد" زاد في العلم " والناس معه " وهو أصرح فيما ترجم له. قوله: "فرأي فرجة" زاد في العلم " في الحلقة " وزادها الأصيلي والكشميهني أيضا في هذه الرواية، وقد تقدم الكلام على فوائده في كتاب العلم.
(1/563)
85 - باب
الِاسْتِلْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَمَدِّ الرِّجْلِ
475- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ "أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا
إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى"
وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ "كَانَ عُمَرُ
وَعُثْمَانُ يَفْعَلاَنِ ذَلِكَ"
[الحديث475- طرفاه في6287,5969]
قوله: "باب الاستلقاء في المسجد" زاد في نسخة الصغاني " ومد
الرجل". قوله: "حدثنا عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي. قوله:
"عن عمه" هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني. قوله: "واضعا إحدى
رجليه على الأخرى" قال الخطابي: فيه أن النهي الوارد عن ذلك منسوخ، أو يحمل
النهي حيث يخشى أن تبدو العورة، والجواز حيث يؤمن ذلك. قلت: الثاني أولى من ادعاء
النسخ لأنه لا يثبت بالاحتمال، وممن جزم به البيهقي والبغوي وغيرهما من المحدثين،
وجزم ابن بطال ومن تبعه بأنه منسوخ. وقال المازري: إنما بوب على ذلك لأنه وقع في
كتاب أبي داود وغيره، لا في الكتب الصحاح، النهي عن أن يضع إحدى رجليه على الأخرى،
لكنه عام لأنه قول يتناول الجميع، واستلقاؤه في المسجد فعل قد يدعي قصره عليه فلا
يؤخذ منه الجواز، لكن لما صح أن عمر وعثمان كانا يفعلان ذلك دل على أنه ليس خاصا
به صلى الله عليه وسلم، بل هو جائز مطلقا، فإذا تقرر هذا صار بين الحديثين تعارض،
فيجمع بينهما، فذكر نحو ما ذكره الخطابي. وفي قوله عن حديث النهي " ليس في
الكتب الصحاح " إغفال، فإن الحديث عند مسلم في اللباس من حديث جابر. وفي
قوله: "فلا يؤخذ منه الجواز " نظر لأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال،
والظاهر أن فعله صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز، وكان ذلك في وقت الاستراحة
لا عند مجتمع الناس لما عرف من عادته من الجلوس بينهم بالوقار التام صلى الله عليه
وسلم. قال الخطابي: وفيه جواز الاتكاء في المسجد والاضطجاع وأنواع الاستراحة. وقال
الداودي: فيه أن الأجر الوارد للابث في المسجد لا يختص بالجالس بل يحصل للمستلقي
أيضا. قوله: "وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب" هو معطوف على الإسناد
المذكور، وقد صرح بذلك أبو داود في روايته عن القعنبي، وهو كذلك في الموطأ، وقد
غفل عن ذلك من زعم أنه معلق.
(1/563)
86 - باب
الْمَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالنَّاسِ
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَيُّوبُ وَمَالِكٌ
476- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ
عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ
زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ
أَبَوَيَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ
إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ
(1/563)
87 - باب
الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ السُّوقِ
وَصَلَّى ابْنُ عَوْنٍ فِي مَسْجِدٍ فِي دَارٍ يُغْلَقُ عَلَيْهِمْ الْبَابُ
477- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ
عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلاَةُ الْجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي
بَيْتِهِ وَصَلاَتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً فَإِنَّ
أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ
لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ
خَطِيئَةً حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي
صَلاَةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ وَتُصَلِّي يَعْنِي عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ مَا
دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ
ارْحَمْهُ مَا لَمْ يؤذ يُحْدِثْ فِيهِ"
قوله: "باب الصلاة في مسجد السوق" ولغير أبي ذر " مساجد".
موقع الترجمة الإشارة إلى أن الحديث الوارد في أن الأسواق شر البقاع وأن المساجد
خير البقاع كما أخرجه البزار وغيره لا يصح إسناده، ولو صح لم يمنع وضع المسجد في
السوق لأن بقعة المسجد حينئذ تكون بقعة خير. وقيل: المراد بالمساجد في الترجمة
مواضع إيقاع الصلاة لا الأبنية الموضوعة لذلك، فكأنه قال: باب الصلاة في مواضع
الأسواق ولا يخفى بعده. قوله: "وصلى ابن
(1/564)
عون" كذا في جميع الأصول، وصحفه ابن المنير فقال: وجه مطابقة الترجمة لحديث ابن عمر - مع كونه لم يصل في سوق - أن المصنف أراد أن يبين جواز بناء المسجد داخل السوق لئلا يتخيل متخيل من كونه محجورا منع الصلاة فيه لأن صلاة ابن عمر كانت في دار تغلق عليهم فلم يمنع التحجير اتخاذ المسجد. وقال الكرماني: لعل غرض البخاري منه الرد على الحنفية حيث قالوا بامتناع اتخاذ المسجد في الدار المحجوبة عن الناس اهـ. والذي في كتب الحنفية الكراهة لا التحريم، وظهر بحديث أبي هريرة أن الصلاة في السوق مشروعة، وإذا جازت الصلاة فيه فرادى كان أولى أن يتخذ فيه مسجد للجماعة، أشار إليه ابن بطال. حديث أبي هريرة الذي ساقه المصنف هنا أخرجه بعد في " باب فضل صلاة الجماعة " ويأتي الكلام على فوائده هناك إن شاء الله تعالى. وزاد في هذه الرواية: "وتصلي الملائكة. إلخ " وقد تقدمت في " باب الحدث في المسجد " من وجه آخر عن أبي هريرة. قوله في هذه الرواية "صلاة الجميع" أي الجماعة، وتكلف من قال التقدير في الجميع، و قوله: "على صلاته" أي الشخص. قوله: "فإن أحدكم" كذا للأكثر بالفاء، وللكشميهني بالموحدة وهي سببية أو للمصاحبة. قوله: "فأحسن" أي أسبغ الوضوء. قوله: "ما لم يؤذ يحدث" كذا للأكثر بالفعل المجزوم على البدلية ويجوز بالرفع على الاستئناف، وللكشميهني: "ما لم يؤذ يحدث فيه: "بلفظ الجار والمجرور متعلقا بيؤذ، والمراد بالحدث الناقض للوضوء. ويحتمل أن يكون أعم من ذلك، لكن صرح في رواية أبي داود من طريق أبي رافع عن أبي هريرة بالأول.
(1/565)
3 - باب تَشْبِيكِ
الأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
479,478- حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ
حَدَّثَنَا وَاقِدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَوْ ابْنِ عَمْرٍو شَبَكَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ "
[الحديث479- طرفه في:480]
480- وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ
هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي فَلَمْ أَحْفَظْهُ فَقَوَّمَهُ لِي وَاقِدٌ عَنْ
أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي وَهُوَ يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَيْفَ بِكَ إِذَا
بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ النَّاسِ بِهَذَا"
481- حَدَّثَنَا خَلاَدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي
بُرْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي مُوسَى
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ
الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ
أَصَابِعَهُ"
[الحديث 481- طرفاه في: 6026,2446]
482- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَخْبَرَنَا
ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلاَتَيْ الْعَشِيِّ
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا قَالَ
فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ
فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّه غَضْبَانُ وَوَضَعَ يَدَهُ
الْيُمْنَى عَلَى
(1/565)
الْيُسْرَى
وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ
الْيُسْرَى وَخَرَجَتْ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا
قَصُرَتْ الصَّلاَةُ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ
يُكَلِّمَاهُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو
الْيَدَيْنِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ الصَّلاَةُ قَالَ
"لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ" فَقَالَ أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ
فَقَالُوا نَعَمْ فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ
وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثُمَّ
كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ
فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ ثُمَّ سَلَّمَ فَيَقُولُ نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ
حُصَيْنٍ قَالَ ثُمَّ سَلَّمَ
[الحديث482- اطرافه في:7250,6051,1229,1228,1227,715,714]
قوله: "باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره" أورد فيه حديث أبي موسى، وهو
دال على جواز التشبيك مطلقا، وحديث أبي هريرة وهو دال على جوازه في المسجد، وإذا
جاز في المسجد فهو في غيره أجوز. ووقع في بعض الروايات قبل هذين الحديثين حديث
آخر، وليس هو في أكثر الروايات ولا استخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم، بل ذكره أبو
مسعود في الأطراف عن رواية ابن رميح عن الفربري وحماد ابن شاكر جميعا عن البخاري
قال: "حدثنا حامد بن عمر حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عاصم بن محمد حدثنا واقد
يعني أخاه، عن أبيه يعني محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر أو ابن عمرو
قال: شبك النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه". قال البخاري " وقال عاصم بن
علي حدثنا عاصم بن محمد قال سمعت هذا الحديث من أبي فلم أحفظه فقومه لي واقد عن
أبيه قال: سمعت أبي وهو يقول قال عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا عبد الله بن عمرو كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس " وقد ساقه
الحميدي في الجمع بين الصحيحين نقلا عن أبي مسعود، وزاد هو " قد مرجت عهودهم
وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا وشبك بين أصابعه " الحديث. وحديث عاصم بن علي
الذي علقه البخاري وصله إبراهيم الحربي في غريب الحديث له قال: "حدثنا عاصم
بن علي حدثنا عاصم بن محمد عن واقد سمعت أبي يقول قال عبد الله قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "فذكره. قال ابن بطال: وجه إدخال هذه الترجمة في الفقه
معارضة ما ورد في النهي عن التشبيك في المسجد، وقد وردت فيه مراسيل مسندة من طرق
غير ثابتة اهـ. وكأنه يشير بالمسند إلى حديث كعب بن عجرة قال: "قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن يديه
فإنه في صلاة " أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وفي إسناده اختلاف
ضعفه بعضهم بسببه. وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر بلفظ: "إذا صلى أحدكم فلا
يشبكن بين أصابعه فإن التشبيك من الشيطان. وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في
المسجد حتى يخرج منه " وفي إسناده ضعيف ومجهول. وقال ابن المنير: التحقيق أنه
ليس بين هذه الأحاديث تعارض، إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث، والذي في الحديث
إنما هو لمقصود التمثيل، وتصوير المعنى في النفس بصورة الحس. قلت: هو في حديث أبي
موسى وابن عمر كما قال، بخلاف حديث أبي هريرة. وجمع الإسماعيلي بأن النهي مقيد بما
إذا كان في الصلاة أو قاصدا لها، إذ منتظر الصلاة في حكم المصلي، وأحاديث الباب
الدالة على الجواز خالية عن ذلك، أما الأولان فظاهران، وأما حديث أبي هريرة فلأن
تشبيكه إنما وقع بعد انقضاء الصلاة في ظنه، فهو في حكم المنصرف من الصلاة.
والرواية التي فيها النهي
(1/566)
عن ذلك ما دام في المسجد ضعيفة كما قدمنا، فهي غير معارضة لحديث أبي هريرة كما قال ابن بطال. واختلف في حكمة النهي عن التشبيك فقيل: لكونه من الشيطان كما تقدم في رواية ابن أبي شيبة. وقيل لأن التشبيك يجلب النوم وهو "من" مظان الحدث، وقيل لأن صورة التشبيك تشبه صورة الاختلاف كما نبه عليه في حديث ابن عمر فكره ذلك لمن هو في حكم الصلاة حتى لا يقع في المنهي عنه وهو قوله صلى الله عليه وسلم للمصلين " ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم " وسيأتي الكلام عليه في موضعه، ويأتي الكلام على حديث ابن عمر في كتاب الفتن، وعلى حديث أبي موسى في كتاب الأدب، وعلى حديث أبي هريرة في سجود السهو. وسفيان هو الثوري وأبو بردة هو ابن عبد الله. ووقع للكشميهني: "عن بريد " وهو اسمه و قوله: "يشد بعضه" في رواية المستملي: "شد " بلفظ الماضي. قوله: "حدثنا إسحاق" هو ابن منصور كما جزم به أبو نعيم. قوله: "إحدى صلاتي العشي" كذا للأكثر وللمستملي والحموي العشاء بالمد وهو وهم، فقد صح أنها الظهر أو العصر كما سيأتي، وابتداء العشي من أول الزوال. قوله: "ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى" عند الكشميهني: "خده الأيمن " بدل يده اليمنى وهو أشبه لئلا يلزم التكرار. قوله: "فربما سألوه: ثم سلم؟" أي ربما سألوا ابن سيرين هل في الحديث: "ثم سلم فيقول نبئت الخ " وهذا يدل على أنه لم يسمع ذلك من عمران. وقد بين أشعث في روايته عن ابن سيرين الواسطة بينه وبين عمران فقال: "قال ابن سيرين حدثني خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمه أبي المهلب عن عمران بن حصين " أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، ووقع لنا عاليا في جزء الذهلي، فظهر أن ابن سيرين أبهل ثلاثة. وروايته عن خالد من رواية الأكابر عن الأصاغر.
(1/567)
باب المساجد التي
على الطرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم
...
89 - باب الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي
صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب المساجد التي على طرق المدينة" أي في الطرق التي بين المدينة
النبوية ومكة، وقوله: "والمواضع" أي الأماكن التي تجعل مساجد.
483- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ
"رَأَيْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنْ الطَّرِيقِ
فَيُصَلِّي فِيهَا وَيُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا وَأَنَّهُ
رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي تِلْكَ
الأَمْكِنَةِ وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي
تِلْكَ الأَمْكِنَةِ وَسَأَلْتُ سَالِمًا فَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ وَافَقَ
نَافِعًا فِي الأَمْكِنَةِ كُلِّهَا إِلاَّ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي مَسْجِدٍ
بِشَرَفِ الرَّوْحَاءِ"
[الحديث483- أطرافه في: 7345,2336,1535]
484- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِلُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ يَعْتَمِرُ
وَفِي حَجَّتِهِ حِينَ حَجَّ تَحْتَ سَمُرَةٍ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الَّذِي
بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَكَانَ إِذَا رَجَعَ مِنْ غَزْوٍ كَانَ فِي تِلْكَ
الطَّرِيقِ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ هَبَطَ مِنْ بَطْنِ وَادٍ فَإِذَا ظَهَرَ
مِنْ بَطْنِ وَادٍ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي
الشَّرْقِيَّةِ فَعَرَّسَ ثَمَّ حَتَّى يُصْبِحَ لَيْسَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الَّذِي بِحِجَارَةٍ وَلاَ عَلَى الأَكَمَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمَسْجِدُ كَانَ
ثَمَّ خَلِيجٌ يُصَلِّي عَبْدُ اللَّهِ عِنْدَهُ فِي بَطْنِهِ كُثُبٌ كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَّ يُصَلِّي فَدَحَا
السَّيْلُ فِيهِ بِالْبَطْحَاءِ حَتَّى دَفَنَ ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ
عَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي فِيهِ".
[الحديث 484- أطرافه في:1532,1533,1799]
(1/567)
485- وَأَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى حَيْثُ الْمَسْجِدُ الصَّغِيرُ الَّذِي دُونَ
الْمَسْجِدِ الَّذِي بِشَرَفِ الرَّوْحَاءِ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْلَمُ
الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ ثَمَّ عَنْ يَمِينِكَ حِينَ تَقُومُ فِي الْمَسْجِدِ تُصَلِّي
وَذَلِكَ الْمَسْجِدُ عَلَى حَافَةِ الطَّرِيقِ الْيُمْنَى وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى
مَكَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الأَكْبَرِ رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ أَوْ نَحْوُ
ذَلِكَ"
486- وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ "كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْعِرْقِ الَّذِي عِنْدَ
مُنْصَرَفِ الرَّوْحَاءِ وَذَلِكَ الْعِرْقُ انْتِهَاءُ طَرَفِهِ عَلَى حَافَةِ
الطَّرِيقِ دُونَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنْصَرَفِ وَأَنْتَ
ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ وَقَدْ ابْتُنِيَ ثَمَّ مَسْجِدٌ فَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ كَانَ يَتْرُكُهُ عَنْ
يَسَارِهِ وَوَرَاءَهُ وَيُصَلِّي أَمَامَهُ إِلَى الْعِرْقِ نَفْسِهِ وَكَانَ
عَبْدُ اللَّهِ يَرُوحُ مِنْ الرَّوْحَاءِ فَلاَ يُصَلِّي الظُّهْرَ حَتَّى
يَأْتِيَ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ وَإِذَا أَقْبَلَ مِنْ
مَكَّةَ فَإِنْ مَرَّ بِهِ قَبْلَ الصُّبْحِ بِسَاعَةٍ أَوْ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ
عَرَّسَ حَتَّى يُصَلِّيَ بِهَا الصُّبْحَ"
487- وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِلُ تَحْتَ سَرْحَةٍ ضَخْمَةٍ دُونَ الرُّوَيْثَةِ
عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ وَوِجَاهَ الطَّرِيقِ فِي مَكَانٍ بَطْحٍ سَهْلٍ حَتَّى
يُفْضِيَ مِنْ أَكَمَةٍ دُوَيْنَ بَرِيدِ الرُّوَيْثَةِ بِمِيلَيْنِ وَقَدْ
انْكَسَرَ أَعْلاَهَا فَانْثَنَى فِي جَوْفِهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ
وَفِي سَاقِهَا كُثُبٌ كَثِيرَةٌ"
488- وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "صَلَّى فِي طَرَفِ تَلْعَةٍ مِنْ وَرَاءِ
الْعَرْجِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى هَضْبَةٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ قَبْرَانِ
أَوْ ثَلاَثَةٌ عَلَى الْقُبُورِ رَضَمٌ مِنْ حِجَارَةٍ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ
عِنْدَ سَلَمَاتِ الطَّرِيقِ بَيْنَ أُولَئِكَ السَّلَمَاتِ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ
يَرُوحُ مِنْ الْعَرْجِ بَعْدَ أَنْ تَمِيلَ الشَّمْسُ بِالْهَاجِرَةِ فَيُصَلِّي
الظُّهْرَ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ"
489- وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عِنْدَ سَرَحَاتٍ عَنْ يَسَارِ
الطَّرِيقِ فِي مَسِيلٍ دُونَ هَرْشَى ذَلِكَ الْمَسِيلُ لاَصِقٌ بِكُرَاعِ
هَرْشَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ قَرِيبٌ مِنْ غَلْوَةٍ وَكَانَ عَبْدُ
اللَّهِ يُصَلِّي إِلَى سَرْحَةٍ هِيَ أَقْرَبُ السَّرَحَاتِ إِلَى الطَّرِيقِ
وَهِيَ أَطْوَلُهُنَّ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِلُ فِي الْمَسِيلِ
الَّذِي فِي أَدْنَى مَرِّ الظَّهْرَانِ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ يَهْبِطُ مِنْ
الصَّفْرَاوَاتِ يَنْزِلُ فِي بَطْنِ ذَلِكَ الْمَسِيلِ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ
وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ لَيْسَ بَيْنَ مَنْزِلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ إِلاَّ رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ"
491- وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِلُ بِذِي طُوًى وَيَبِيتُ حَتَّى يُصْبِحَ
يُصَلِّي الصُّبْحَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ وَمُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَى أَكَمَةٍ غَلِيظَةٍ لَيْسَ فِي
الْمَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ ثَمَّ وَلَكِنْ أَسْفَلَ
(1/568)
مِنْ ذَلِكَ عَلَى
أَكَمَةٍ غَلِيظَةٍ".
[الحديث491- طرفاه في:1769,1767]
492- وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ فُرْضَتَيْ الْجَبَلِ الَّذِي بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجَبَلِ الطَّوِيلِ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَجَعَلَ الْمَسْجِدَ الَّذِي
بُنِيَ ثَمَّ يَسَارَ الْمَسْجِدِ بِطَرَفِ الأَكَمَةِ وَمُصَلَّى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْفَلَ مِنْهُ عَلَى الأَكَمَةِ السَّوْدَاءِ
تَدَعُ مِنْ الأَكَمَةِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا ثُمَّ تُصَلِّي
مُسْتَقْبِلَ الْفُرْضَتَيْنِ مِنْ الْجَبَلِ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ
الْكَعْبَةِ"
قوله: "وحدثني نافع" القائل ذلك هو موسى بن عقبة، ولم يسق البخاري لفظ
فضيل بن سليمان، بل ساق لفظ أنس بن عياض، وليس في روايته ذكر، بل ذكر نافع فقط،
وقد دلت رواية فضيل على أن رواية سالم ونافع متفقتان إلا في الموضع الواحد الذي
أشار إليه، وكأنه اعتمد رواية أنس بن عياض لكونه أتقن من فضيل. ومحصل ذلك أن ابن
عمر كأن يتبرك بتلك الأماكن، وتشدده في الاتباع مشهور، ولا يعارض ذلك ما ثبت عن
أبيه أنه رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان فسأل عن ذلك فقالوا: قد صلى فيه
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض، فإنما هلك أهل
الكتاب لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعا، لأن ذلك من عمر محمول
على أنه كره زيارتهم لمثل ذلك بغير صلاة أو خشي أن يشكل ذلك على من لا يعرف حقيقة
الأمر فيظنه واجبا، وكلا الأمرين مأمون من ابن عمر، وقد تقدم حديث عتبان وسؤاله
النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته ليتخذه مصلى وإجابة النبي صلى الله عليه
وسلم إلى ذلك، فهو حجة في التبرك بآثار الصالحين(1). قوله: "تحت سمرة"
أي شجرة ذات شوك، وهي التي تعرف بأم غيلان. قوله: "وكان في تلك الطريق"
أي طريق ذي الحليفة. قوله: "بطن واد" أي وادي العقيق. قوله: "فعرس"
بمهملات والراء مشددة، قال الخطابي: التعريس نزول استراحة لغير إقامة، وأكثر ما
يكون في آخر الليل، وخصه بذلك الأصمعي وأطلق أبو زيد. قوله: "على
الأكمة" هو الموضع المرتفع على ما حوله، وقيل هو تل من حجر واحد. قوله:
"كان ثم خليج" كرر لفظ: "ثم " في هذه القصة، وهو بفتح المثلثة
والمراد به الجهة، والخليج واد له عمق، والكثب بضم الكاف والمثلثة جمع كثيب وهو
رمل مجتمع. قوله: "فدحا" بالحاء المهملة أي دفع. وفي رواية الإسماعيلي:
"فدخل " بالخاء المعجمة واللام، ونقل بعض المتأخرين عن بعض الروايات "
قد جاء " بالقاف والجيم على أنهما كلمتان حرف التحقيق والفعل الماضي من
المجيء. قوله: "وأن عبد الله بن عمر حدثه" أي بالإسناد المذكور إليه.
قوله: "بشرف الروحاء" هي قوية جامعة على ليلتين من المدينة، وهي آخر
السيالة للمتوجه إلى مكة، والمسجد الأوسط هو في الوادي المعروف الآن بوادي بني سالم.
وفي الآذان من صحيح مسلم أن بينهما ستة وثلاثين ميلا. قوله: "يعلم
المكان" بضم أوله من
(1) هذا خطأ, والصواب ما تقدم في حاشية ص522, وغير النبي صلى الله عليه وسلم
لايقاس عليه في مثل هذا. والحق أن عمر رضي الله عنه أراد بالنهي عن تتبع آثار
الأنبياء, سد الذريعة إلى الشرك, وهو أعلم بهذا الشأن من ابنه رضي الله عنهما. وقد
أخذ الجمهور بما رآه عمر وليس في قصة عتبان ما يخالف ذلك, لأنه في حديث عتبان قد
قصد أن يتأسى به صلى الله عليه وسلم في ذلك,بخلاف آثاره في الطرق ونحوها فإن
التأسي به فيها وتتبعها لذلك غير مشروع. كما دل عليه فعل عمر,وربما أفضى ذلك بمن
فعله إلى الغلو والشرك كما فعل أهل الكتاب. والله أعلم
(1/569)
أعلم يعلم من العلامة. قوله: "يقول ثم عن يمينك" قال القاضي عياض: هو تصحيف، والصواب " بعواسج عن يمينك". قلت: توجيه الأول ظاهر، وما ذكره إن ثبتت به رواية فهو أولى، وقد وقع التوقف في هذا الموضع قديما فأخرجه الإسماعيلي بلفظ: "يعلم المكان الذي صلى " قال فيه هنا لفظة لم أضبطها " عن يمينك " الحديث. قوله: "يصلي إلى العرق" أي عرق الظبية، وهو واد معروف قاله أبو عبيد البكري، "ومنصرف الروحاء" بفتح الراء، أي آخرها. قوله: "وقد ابتنى" بضم المثناة مبني للمفعول. قوله: "سرحة ضخمة" أي شجرة عظيمة و "الرويثة" بالراء والمثلثة مصغرا، قرية جامعة بينها وبين المدينة سبعة عشر فرسخا. "ووجاه الطريق" بكسر الواو، أي مقابلة. قوله: "بطح" بفتح الموحدة وسكون الطاء وبكسرها أيضا، أي واسع. قوله: "حتى يفضي" كذا للأكثر، وللمستملي والحموي " حين يفضي". قوله: "دوين بريد الرويثة بميلين" أي بينه وبين المكان الذي ينزل فيه البريد بالرويثة ميلان، قيل المراد بالبريد سكة الطريق. قوله: "فانثنى" بفتح المثلثة مبني للفاعل. قوله: "تلعة" بفتح المثناة وسكون اللام بعدها مهملة وهي مسيل الماء من فوق إلى أسفل، ويقال أيضا لما ارتفع من الأرض ولما انهبط، و "العرج" بفتح المهملة وسكون الراء بعدها جيم: قرية جامعة بينها وبين الرويثة ثلاثة عشر أو أربعة عشر ميلا و "الهضبة" بسكون الضاد المعجمة فوق الكثيب في الارتفاع ودون الجبل، وقيل الجبل المنبسط على الأرض، وقيل الأكمة الملساء و " الرضم " الحجارة الكبار واحدها رضمة بسكون الضاد المعجمة في الواحد والجمع، ووقع عند الأصيلي بالتحريك. قوله: "عند سلمات الطريق" أي ما يتفرع عن جوانبه، والسلمات بفتح المهملة وكسر اللام في رواية أبي ذر والأصيلي. وفي رواية الباقين بفتح اللام، وقيل: هي بالكسر الصخرات، وبالفتح الشجرات و " السرحات " بالتحريك جمع سرحة وهي الشجرة الضخمة كما تقدم. قوله: "في مسيل دون هرشي" المسيل المكان المنحدر، وهرشي بفتح أوله وسكون الراء بعدها شين معجمة مقصور، قال البكري هو جبل على ملتقى طريق المدينة والشام قريب من الجحفة، وكراع هرشي طرفها، و " الغلوة " بالمعجمة المفتوحة غاية بلوغ السهم، وقيل قدر ثلثي ميل. قوله: "مر الظهران" بفتح الميم وتشديد الراء وبفتح الظاء المعجمة وسكون الهاء هو الوادي الذي تسميه العامة بطن مرو بإسكان الراء بعدها واو. قال البكري: بينه وبين مكة ستة عشر ميلا. وقال أبو غسان سمي بذلك لأن في بطن الوادي كتابة بعرق من الأرض أبيض هجاء " م ر ا " الميم منفصلة عن الراء، وقيل سمي بذلك لمرارة مائه. قوله: "قبل المدينة" بكسر القاف وبفتح الموحدة، أي مقابلها. و "الصفراوات" بفتح المهملة وسكون الفاء جمع صفراء وهو مكان بعد مر الظهران. قوله: "ينزل بذي طوى" بضم الطاء للأكثر وبه جزم الجوهري. وفي رواية الحموي والمستملي: "بذي الطوى " بزيادة ألف ولام قيده الأصيلي بالكسر وحكى عياض وغيره الفتح أيضا. قوله: "استقبل فرضتي الجبل" الفرضة بضم الفاء وسكون الراء بعدها ضاد معجمة: مدخل الطريق إلى الجبل، وقيل الشق المرتفع كالشرافة، ويقال أيضا لمدخل النهر. "تنبيهات": الأول اشتمل هذا السياق على تسعة أحاديث أخرجها الحسن بن سفيان في مسنده مفرقة من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن أنس بن عياض يعيد الإسناد في كل حديث، إلا أنه لم يذكر الثالث. وأخرج مسلم منها الحديثين الأخيرين في كتاب الحج. الثاني: هذه المساجد لا يعرف اليوم منها غير مسجدي ذي الحليفة، والمساجد التي بالروحاء يعرفها أهل تلك الناحية. وقد وقع في رواية الزبير بن بكار في " أخبار المدينة " له من طريق أخرى عن نافع عن ابن عمر في هذا الحديث زيادة بسط في صفة تلك المساجد.
(1/570)
وفي الترمذي من حديث عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم في وادي الروحاء وقال: "لقد صلى في هذا المسجد سبعون نبيا". الثالث: عرف من صنيع ابن عمر استحباب تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك بها، وقد قال البغوي من الشافعية: إن المساجد - التي ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها - لو نذر أحد الصلاة في شيء منها تعين كما تتعين المساجد الثلاثة(1). الرابع: ذكر البخاري المساجد التي في طرق المدينة، ولم يذكر المساجد التي كانت بالمدينة لأنه لم يقع له إسناد في ذلك على شرطه. وقد ذكر عمر بن شبة في " أخبار المدينة " المساجد والأماكن التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة مستوعبا، وروى عن أبي غسان عن غير واحد من أهل العلم أن كل مسجد بالمدينة ونواحيها مبني بالحجارة المنقوشة المطابقة، فقد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن عمر بن عبد العزيز حين بنى مسجد المدينة سأل الناس - وهم يومئذ متوافرون - عن ذلك ثم بناها بالحجارة المنقوشة المطابقة اهـ. وقد عين عمر بن شبة منها شيئا كثيرا، لكن أكثره في هذا الوقت قد اندثر، وبقي من المشهورة الآن مسجد قباء، ومسجد الفضيخ وهو شرقي مسجد قباء، ومسجد بني قريظة، ومشربة أم إبراهيم وهي شمالي مسجد بني قريظة، ومسجد بني ظفر شرقي البقيع ويعرف بمسجد البغلة، ومسجد بني معاوية ويعرف بمسجد الإجابة، ومسجد الفتح قريب من جبل سلع، ومسجد القبلتين في بني سلمة، هكذا أثبته بعض شيوخنا، وفائدة معرفة ذلك ما تقدم عن البغوي، والله أعلم.
(1/571)
90 - باب سُتْرَةُ
الإِمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ
493- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ
أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلاَمَ وَرَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ
جِدَارٍ فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ
الأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ
أَحَدٌ"
قوله: "باب سترة الإمام سترة من خلفه" أورد فيه ثلاثة أحاديث، الثاني
والثالث منها مطابقان للترجمة لكونه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه أن يتخذوا
سترة غير سترته، وأما الأول وهو حديث ابن عباس ففي الاستدلال به نظر لأنه ليس فيه
أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى سترة، وقد بوب عليه البيهقي " باب من صلى إلى
غير سترة " وقد تقدم في كتاب العلم في الكلام على هذا الحديث في " باب
متى يصح سماع الصغير " قول الشافعي: إن المراد بقول ابن عباس " إلى غير
جدار " أي إلى غير سترة، وذكرنا تأييد ذلك من رواية البزار. وقال بعض
المتأخرين: قوله: "إلى غير جدار " لا ينفي غير الجدار، إلا أن إخبار ابن
عباس عن مروره بهم وعدم إنكارهم لذلك مشعر بحدوث أمر لم يعهدوه، فلو فرض هناك سترة
أخرى غير الجدار لم يكن لهذا الإخبار فائدة، إذ مروره حينئذ لا ينكره أحد أصلا.
وكأن البخاري حمل الأمر في ذلك على المألوف المعروف من عادته صلى الله عليه وسلم
أنه
ـــــــ
(1) هذا ضعيف, والصواب أنه لايتعين شيء من المساجد بالنذر سوى المساجد الثلاثة إذا
احتاج إلى شد رحل, فإن لم يحتج لذلك فهو موضع نظر واختلاف. وأما هذه المساجد التي
أشار اليها البغوي فالصواب أنه لايجوز قصدها للعبادة ولا ينبغي الوفاء لمن نذرها
سدا لذريعة الشرك, ويكفيه أن يصلي في غيرها من المساجد الشرعية. والله أعلم
(1/571)
كان لا يصلي في الفضاء إلا والعنزة أمامه، ثم أيد ذلك بحديثي ابن عمر وأبي جحيفة، وفي حديث ابن عمر ما يدل على المداومة وهو قوله بعد ذكر الحربة " وكان يفعل ذلك في السفر " وقد تبعه النووي فقال في شرح مسلم في كلامه على فوائد هذا الحديث: فيه أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، والله أعلم. قوله: "ناهزت الاحتلام" أي قاربته، وقد ذكرت الاختلاف في قدر عمره في " باب تعليم الصبيان " من كتاب فضيلة القرآن وفي " باب الاختتان بعد الكبر " من كتاب الاستئذان. وتوجيه الجمع بين المختلف من ذلك وبيان الراجح من الأقوال ولله الحمد. قوله: "يصلي بالناس بمنى" كذا قال مالك وأكثر أصحاب الزهري، ووقع عند مسلم من رواية ابن عيينة " بعرفة " قال النووي: يحمل ذلك على أنهما قضيتان، وتعقب بأن الأصل عدم التعدد ولا سيما مع اتحاد مخرج الحديث، فالحق أن قول ابن عيينة " بعرفة " شاذ. ووقع عند مسلم أيضا من رواية معمر عن الزهري " وذلك في حجة الوداع أو الفتح " وهذا الشك من معمر لا يعول عليه، والحق أن ذلك كان في حجة الوداع. قوله: "بعض الصف" زاد المصنف في الحج من رواية ابن أخي ابن شهاب عن عمه " حتى سرت بين يدي بعض الصف الأول". انتهى. وهو يعين أحد الاحتمالين اللذين ذكرناهما في كتاب العلم. قوله: "فلم ينكر ذلك على أحد" قال ابن دقيق العيد: استدل ابن عباس بترك الإنكار على الجواز، ولم يستدل بترك إعادتهم للصلاة لأن ترك الإنكار أكثر فائدة. قلت: وتوجيهه أن ترك الإعادة يدل على صحتها فقط لا على جواز المرور، وترك الإنكار يدل على جواز المرور وصحة الصلاة معا. ويستفاد منه أن ترك الإنكار حجة على الجواز بشرطه وهو انتفاء الموانع من الإنكار وثبوت العلم بالاطلاع على الفعل، ولا يقال لا يلزم مما ذكر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لاحتمال أن يكون الصف حائلا دون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم له لأنا نقول قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى في الصلاة من ورائه كما يرى من أمامه، وتقدم أن في رواية المصنف في الحج أنه مر بين يدي بعض الصف الأول، فلم يكن هناك حائل دون الرؤية، ولو لم يرد شيء من ذلك لكان توفر دواعيهم على سؤاله صلى الله عليه وسلم عما يحدث لهم كافيا في الدلالة على اطلاعه على ذلك والله أعلم. واستدل به على مرور الحمار لا يقطع الصلاة، فيكون ناسخا لحديث أبي ذر الذي رواه مسلم في كون مرور الحمار يقطع الصلاة، وكذا مرور المرأة والكلب الأسود. وتعقب بأن مرور الحمار متحقق في حال مرور ابن عباس وهو راكبه، وقد تقدم أن ذلك لا يضر لكون الإمام سترة لمن خلفه، وأما مروره بعد أن نزل عنه فيحتاج إلى نقل. وقال ابن عبد البر: حديث ابن عباس هذا يخص حديث أبي سعيد " إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه " فإن ذلك مخصوص بالإمام والمنفرد، فأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه لحديث ابن عباس هذا، قال: وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء. وكذا نقل عياض الاتفاق على أن المأمومين يصلون إلى سترة، لكن اختلفوا هل سترتهم سترة الإمام أم سترتهم الإمام نفسه اهـ. فيه نظر، لما رواه عبد الرزاق عن الحكم بن عمرو الغفاري الصحابي " أنه صلى بأصحابه في سفر وبين يديه سترة، فمرت حمير بين يدي أصحابه فأعاد بهم الصلاة". وفي رواية له أنه قال لهم " إنها لم تقطع صلاتي ولكن قطعت صلاتكم، فهذا يعكر على ما نقل من الاتفاق. ولفظ ترجمة الباب ورد في حديث مرفوع رواه الطبراني في الأوسط من طريق سويد بن عبد العزيز عن عاصم عن أنس مرفوعا: "سترة الإمام سترة لمن خلفه " وقال: تفرد به سويد عن عاصم ا ه. وسويد ضعيف عندهم. ووردت أيضا في حديث موقوف على ابن عمر أخرجه عبد الرزاق، ويظهر أثر الخلاف الذي نقله عياض فيما لو مر بين يدي الإمام أحد، فعلى قول
(1/572)
من يقول إن سترة
الإمام سترة من خلفه يضر صلاته وصلاتهم معا، وعلى قول من يقول إن الإمام نفسه سترة
من خلفه يضر صلاته ولا يضر صلاتهم، وقد تقدمت بقية مباحث حديث ابن عباس في كتاب
العلم.
494- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ "أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ
أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا وَالنَّاسُ
وَرَاءَهُ وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا
الأُمَرَاءُ"
[الحديث494- أطرافه في:973,972,498]
قوله: "حدثنا إسحاق" قال أبو علي الجياني: لم أجد إسحاق هذا منسوبا لأحد
من الرواة: قلت: وقد جزم أبو نعيم وخلف وغيرها بأنه إسحاق بن منصور. قوله:
"أمر بالحربة" أي أمر خادمه بحمل الحربة، وللمصنف في العيدين من طريق
الأوزاعي عن نافع " كان يغدو إلى المصلي والعنزة تحمل وتنصب بين يديه فيصلي
إليها " زاد ابن ماجه وابن خزيمة والإسماعيلي: "وذلك أن المصلي كان فضاء
ليس فيه شيء يستره". قوله: "والناس" بالرفع عطفا على فاعل فيصلي.
قوله: "وكان يفعل ذلك" أي نصب الحربة بين يديه حيث لا يكون جدار. قوله:
"فمن ثم" أي فمن تلك الجهة اتخذ الأمراء الحربة يخرج بها بين أيديهم في
العيد ونحوه، وهذه الجملة الأخيرة فصلها علي ابن مسهر من حديث ابن عمر فجعلها من
كلام نافع كما أخرجه ابن ماجه، وأوضحته في كتاب " المدرج". وفي الحديث
الاحتياط للصلاة وأخذ آلة دفع الأعداء لا سيما في السفر، وجواز الاستخدام وغير
ذلك. والضمير في " اتخذها " يحتمل عوده إلى الحربة نفسها أو إلى جنس
الحربة، وقد روى عمر بن شبة في " أخبار المدينة " من حديث سعد القرظ
" إن النجاشي أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حربة فأمسكها لنفسه، فهي
التي يمشي بها مع الإمام يوم العيد". ومن طريق الليث أنه بلغه أن العنزة التي
كانت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كانت لرجل من المشركين، فقتله الزبير بن
العوام يوم أحد فأخذها منه النبي صلى الله عليه وسلم فكان ينضبها بين يديه إذا
صلى. ويحتمل الجمع بأن عنزة الزبير كانت أولا قبل حربة النجاشي. "فائدة"
حديث أبي جحيفة أخرجه المصنف مطولا ومختصرا، وقد تقدم في الطهارة في " باب
استعمال فضل وضوء الناس " وفي حديث ستر العورة من الصلاة في " باب
الصلاة في الثوب الأحمر " وذكره أيضا هنا وبعد بابين أيضا وفي الأذان وفي صفة
النبي صلى الله عليه وسلم في موضعين وفي اللباس في موضعين، ومداره عنده على الحكم
بن عتيبة وعلى عون بن أبي جحيفة كلاهما عن أبي جحيفة وعند أحدهما ما ليس عند
الآخر، وقد سمعه شعبة منهما كما سيأتي واضحا.
495- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَوْنِ بْنِ
أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ بِالْبَطْحَاءِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ الظُّهْرَ
رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَرْأَةُ
وَالْحِمَارُ
قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى" بهم بالبطحاء يعني بطحاء مكة،
وهو موضع خارج مكة، وهو الذي يقال له الأبطح، وكذا ذكره من رواية أبي العميس عن
عون، وزاد من رواية آدم عن شعبة عن عون أن ذلك كان بالهاجرة، فيستفاد منه - كما
ذكره النووي - أنه صلى الله عليه وسلم جمع حينئذ بين الصلاتين في وقت الأولى
منهما، ويحتمل أن يكون قوله: "والعصر ركعتين " أي بعد دخول وقتها. قوله:
"وبين يديه عنزة" تقدم ضبطها وتفسيرها في الطهارة
(1/573)
في حديث أنس. وفي رواية أبي العميس " جاء بلال فآذنه بالصلاة، ثم خرج بالعنزة حتى ركزها بين يديه وأقام الصلاة " وأول رواية عمر بن أبي زائدة عن عون عن أبيه " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم، ورأيت بلالا أخذ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئا تمسح به، ومن لم يصب منه شيئا أخذ من بلل يد صاحبه " وفيها أيضا: "وخرج في حلة حمراء مشمرا " وفي رواية مالك بن مغول عن عون " كأني أنظر إلى وبيص ساقيه " وبين فيها أيضا أن الوضوء الذي ابتدره الناس كان فضل الماء الذي توضأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا هو في رواية شعبة عن الحكم. وفي رواية مسلم من طريق الثوري عن عون ما يشعر بأن ذلك كان بعد خروجه من مكة بقوله: "ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة". قوله: "يمر بين يديه" أي بين العنزة والقبلة لا بينه وبين العنزة، ففي رواية عمر بن أبي زائدة في باب الصلاة في الثوب الأحمر " ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة". وفي الحديث من الفوائد التماس البركة مما لامسه الصالحون(1)، ووضع السترة للمصلي حيث يخشى المرور بين يديه والاكتفاء فيها بمثل غلظ العنزة، وأن قصر الصلاة في السفر أفضل من الإتمام لما يشعر به الخبر من مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وأن ابتداء القصر من حين مفارقة البلد الذي يخرج منه، وفيه تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه استحباب تشمير الثياب لا سيما في السفر، وكذا استصحاب العنزة ونحوها، ومشروعية الأذان في السفر كما سيأتي في الأذان، وجواز النظر إلى الساق وهو إجماع في الرجل حيث لا فتنة، وجواز لبس الثوب الأحمر، وفيه خلاف يأتي ذكره في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى.
(1/574)
91 - باب قَدْرِ
كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ
496- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ "كَانَ بَيْنَ
مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْجِدَارِ
مَمَرُّ الشَّاةِ"
[الحديث 496- طرفه في: 7334]
497- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ "كَانَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ
الْمِنْبَرِ مَا كَادَتْ الشَّاةُ تَجُوزُهَا"
قوله: "باب قدركم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة" أي من ذراع ونحوه.
"والمصلي" بكسر اللام على أنه اسم فاعل، ويحتمل أن يكون بفتح اللام، أي
المكان الذي يصلي فيه. قوله: "عن أبيه" في رواية أبي داود والإسماعيلي:
"أخبرني أبي". قوله: "عن سهل" زاد الأصيلي: "ابن
سعد". قوله: "كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي مقامه
في صلاته، وكذا هو في رواية أبي داود. قوله: "وبين الجدار"، أي جدار
المسجد مما يلي القبلة، وصرح بذلك من طريق أبي غسان عن أبي حازم في الاعتصام.
قوله: "ممر الشاة" بالرفع، وكان تامة، أو ممر اسم كان بتقدير قدر أو
نحوه، والظرف الخبر. وأعربه الكرماني بالنصب على أن ممر خير كان واسمها نحو قدر
المسافة، قال: والسياق يدل عليه. قوله: "عن سلمة" يعني ابن الأكوع وهذا
ثاني ثلاثيات البخاري. قوله: "كان جدار المسجد"
ـــــــ
(1) انظر حاشية ص522 و ص 569
(1/574)
كذا وقع في رواية مكي، ورواه الإسماعيلي من طريق أبي عاصم عن يزيد بلفظ: "كان المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما تمر العنزة، فتبين بهذا السياق أن الحديث مرفوع. قوله: "تجوزها" ولبعضهم " أن تجوزها " أي المسافة، وهي ما بين المنبر والجدار. فإن قيل: من أين يطابق الترجمة؟ أجاب الكرماني فقال: من حيث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم بجنب المنبر، أي ولم يكن لمسجده محراب، فتكون مسافة ما بينه وبين الجدار نظير ما بين المنبر والجدار، فكأنه قال: والذي ينبغي أن يكون بين المصلي وسترته قدر ما كان بين منبره صلى الله عليه وسلم وجدار القبلة. وأوضح من ذلك ما ذكره ابن رشيد أن البخاري أشار بهذه الترجمة إلى حديث سهل بن سعد الذي تقدم في " باب الصلاة على المنبر والخشب " فإن فيه أنه صلى الله عليه وسلم قام على المنبر حين عمل فصلى عليه فاقتضى ذلك أن ذكر المنبر يؤخذ منه موضع قيام المصلي. فإن قيل: إن في ذلك الحديث أنه لم يسجد على المنبر، وإنما نزل فسجد في أصله، وبين أصل المنبر وبين الجدار أكثر من ممر الشاة، أجيب بأن أكثر أجزاء الصلاة قد حصل في أعلى المنبر، وإنما نزل عن المنبر لأن الدرجة لم تتسع لقدر سجوده فحصل به المقصود. وأيضا فإنه لما سجد في أصل المنبر صارت الدرجة التي فوقه سترة له وهو قدر ما تقدم. قال ابن بطال: هذا أقل ما يكون بين المصلي وسترته، يعني قدر ممر الشاة، وقيل أقل ذلك ثلاثة أذرع لحديث بلال " إن النبي صلى صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، كما سيأتي قريبا بعد خمسة أبواب. وجمع الداودي بأن أقله ممر الشاة. وأكثره ثلاثة أذرع. وجمع بعضهم بأن الأول في حال القيام والقعود، والثاني في حال الركوع والسجود. وقال ابن الصلاح: قدروا ممر الشاة بثلاثة أذرع. قلت: ولا يخفى ما فيه. وقال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف. وقد ورد الأمر بالدنو منها، وفيه بيان الحكمة في ذلك، وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث سهل ابن أبي حثمة مرفوعا: "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن مها لا يقطع الشيطان عليه صلاته".
(1/575)
باب الصلاة إلى
الحرابة
...
92 - باب الصَّلاَةِ إِلَى الْحَرْبَةِ
498- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ "أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرْكَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا"
قوله: "باب الصلاة إلى الحربة" ساق فيه حديث ابن عمر مختصرا، وقد تقدم
قبل بباب. قوله: "تركز" أي تغرز في الأرض.
(1/575)
93 - باب
الصَّلاَةِ إِلَى الْعَنَزَةِ
499- حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ
أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ "خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ
فَتَوَضَّأَ فَصَلَّى بِنَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ
وَالْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ يَمُرُّونَ مِنْ وَرَائِهَا"
500- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَاذَانُ
عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ قَالَ سَمِعْتُ
(1/575)
94 - باب
السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا
501- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
الْحَكَمِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ فَصَلَّى بِالْبَطْحَاءِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ
رَكْعَتَيْنِ وَنَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةً وَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَمَسَّحُونَ
بِوَضُوئِهِ
قوله: "باب السترة بمكة وغيرها" ساق فيه حديث أبي جحيفة عن سليمان بن
حرب عن شعبة عن الحكم، والمراد منه هنا قوله: "بالبطحاء " فقد قدمنا
أنها بطحاء مكة. وقال ابن المنير: إنما خص مكة بالذكر دفعا لتوهم من يتوهم أن
السترة قبلة، ولا ينبغي أن يكون لمكة قبلة إلا الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة.
انتهى. والذي أظنه أنه أراد أن ينكت على ما ترجم به عبد ا الرزاق حيث قال في
" باب لا يقطع الصلاة بمكة شيء " ثم أخرج عن ابن جريج عن كثير بن كثير
بن المطلب عن أبيه عن جده قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في
المسجد الحرام ليس بينه وبينهم - أي الناس - سترة " وأخرجه من هذا الوجه أيضا
أصحاب السنن، ورجاله موثقون إلا أنه معلول، فقد رواه أبو داود عن أحمد عن ابن
عيينة قال: كان ابن جريج أخبرنا به هكذا، فلقيت كثيرا فقال: ليس من أبي سمعته،
ولكن عن بعض أهلي عن جدي. فأراد البخاري التنبيه على ضعف هذا الحديث وأن لا فرق
بين مكة وغيرها في مشروعية السترة، واستدل على ذلك بحديث أبي جحيفة، وقد قدمنا وجه
الدلالة منه. وهذا هو المعروف عند الشافعية وأن لا فرق في منع المرور بين يدي
المصلي بين مكة وغيرها. واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطائفين دون غيرهم للضرورة، وعن
بعض الحنابلة جواز ذلك في جميع مكة. قوله: "باب السترة بمكة وغيرها" ساق
فيه حديث أبي جحيفة عن سليمان بن حرب عن شعبة عن الحكم، والمراد منه هنا قوله:
"بالبطحاء " فقد قدمنا أنها بطحاء مكة. وقال ابن المنير: إنما خص مكة
بالذكر دفعا لتوهم من يتوهم أن السترة قبلة، ولا ينبغي أن يكون لمكة قبلة إلا
الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة. انتهى. والذي أظنه أنه أراد أن ينكت على ما ترجم
به عبد ا الرزاق حيث قال في " باب لا يقطع الصلاة بمكة شيء " ثم أخرج عن
ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلب عن أبيه عن جده قال: "رأيت النبي صلى
الله عليه وسلم يصلي في المسجد الحرام ليس بينه وبينهم - أي الناس - سترة "
وأخرجه من هذا الوجه أيضا أصحاب السنن، ورجاله موثقون إلا أنه معلول، فقد رواه أبو
داود عن أحمد عن ابن عيينة قال: كان ابن جريج أخبرنا به هكذا، فلقيت كثيرا فقال:
ليس من أبي سمعته، ولكن عن بعض أهلي عن جدي. فأراد البخاري التنبيه على ضعف هذا
الحديث وأن لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة، واستدل على ذلك بحديث أبي
جحيفة، وقد قدمنا وجه الدلالة منه. وهذا هو المعروف عند الشافعية وأن لا فرق في
منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها. واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطائفين دون
غيرهم للضرورة، وعن بعض الحنابلة جواز ذلك في جميع مكة.
(1/576)
95- باب الصَّلاَةِ
إِلَى الأُسْطُوَانَةِ
وَقَالَ عُمَرُ: "الْمُصَلُّونَ أَحَقُّ بِالسَّوَارِي مِنْ
الْمُتَحَدِّثِينَ إِلَيْهَا"
وَرَأَى عُمَرُ رَجُلًا يُصَلِّي بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ فَأَدْنَاهُ إِلَى
سَارِيَةٍ فَقَالَ صَلِّ إِلَيْهَا
502- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ "كُنْتُ آتِي مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ فَيُصَلِّي
عِنْدَ الأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ فَقُلْتُ يَا أَبَا مُسْلِمٍ
أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلاَةَ عِنْدَ هَذِهِ الأُسْطُوَانَةِ قَالَ فَإِنِّي
رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى الصَّلاَةَ
عِنْدَهَا"
قوله: "باب الصلاة إلى الأسطوانة" أي السارية، وهي بضم الهمزة وسكون
السين المهملة وضم الطاء بوزن أفعوانة على المشهور، وقيل بوزن فعلوانة، والغالب
أنها تكون من بناء، بخلاف العمود فإنه من حجر واحد. قال ابن بطال: لما تقدم أنه
صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى الحربة، كانت الصلاة إلى الأسطوانة أولى لأنها
أشد سترة. قلت: لكن أفاد ذكر ذلك التنصيص على وقوعه، والنص أعلى من الفحوي. قوله:
"وقال عمر" هذا التعليق وصله ابن أبي شيبة والحميدي من طريق همدان - وهو
بفتح الهاء وسكون الميم وبالدال المهملة، وكان بريد عمر، أي رسوله إلى أهل اليمن -
عن عمر به. ووجه الأحقية أنهما مشتركان في الحاجة إلى السارية المتخذة إلى
الاستناد والمصلي لجعلها سترة، لكن المصلي في عبادة محققة فكان أحق. قوله:
"ورأي ابن عمر" كذا ثبت في رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما، وعند بعض
الرواة " ورأى عمر " بحذف ابن وهو أشبه بالصواب، فقد رواه ابن أبي شيبة
من طريق معاوية بن قرة بن إياس المزني عن أبيه وله صحبة قال: "رآني عمر وأنا
أصلي " فذكر مثله سواء لكن زاد: "فأخذ بقفاي". وعرف بذلك تسمية
المبهم المذكور في التعليق. وأراد عمر بذلك أن تكون صلاته إلى سترة، وأراد البخاري
بإيراد أثر عمر هذا أن المراد بقول سلمة " يتحرى الصلاة عندها " أي
إليها، وكذا قول أنس " يبتدرون السواري " أي يصلون إليها. قوله:
"حدثنا المكي" هو ابن إبراهيم كما ثبت عند الأصيلي وغيره، وهذا ثالث
ثلاثيات البخاري. وقد ساوى فيه البخاري شيخه أحمد بن حنبل، فإنه أخرجه في مسنده عن
مكي بن إبراهيم. قوله: "التي عند المصحف" هذا دال على أنه كان للمصحف
موضع خاص به، ووقع عند مسلم بلفظ: "يصلي وراء الصندوق " وكأنه كان
للمصحف صندوق يوضع فيه، والأسطوانة المذكورة حقق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسطة في
الروضة المكرمة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين. قال: وروى عن عائشة أنها كانت
تقول " لو عرفها الناس لاضطربوا عليها بالسهام " وأنها أسرتها إلى ابن
الزبير فكان يكثر الصلاة عندها. ثم وجدت ذلك في تاريخ المدينة لابن النجار وزاد:
"أن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها " وذكره قبله محمد بن الحسن
في أخبار المدينة. قوله: "يا أبا مسلم" هي كنية سلمة، و " يتحرى
" أي يقصد.
503- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ "لَقَدْ رَأَيْتُ كِبَارَ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ عِنْدَ
الْمَغْرِبِ وَزَادَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَنَسٍ حَتَّى يَخْرُجَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
[الحديث503- طرفه في: 625]
(1/577)
قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري، وعمرو بن عامر هو الكوفي الأنصاري، لا والد أسد فإنه يجلي، ولا عمرو بن عامر البصري فإنه سلمى. قوله: "لقد رأيت" في رواية المستملي والحموي "لقد أدركت". قوله: "عند المغرب" أي عند أذان المغرب، وصرح بذلك الإسماعيلي من طريق ابن مهدي عن سفيان، ولمسلم من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس نحوه. قوله: "وزاد شعبة عن عمرو" هو ابن عامر المذكور، قد وصله المصنف في كتاب الأذان من طريق غندر عن شعبة فقال: "عن عمرو بن عامر الأنصاري " وزاد فيه أيضا: "يصلون الركعتين قبل المغرب " وسيأتي الكلام عليه هناك مع بقية مباحثه وتعيين من وقفنا عليه من كبار الصحابة المشار إليهم فيه إن شاء الله تعالى.
(1/578)
96 - باب
الصَّلاَةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ
504- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ
نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ "دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْبَيْتَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَبِلاَلٌ
فَأَطَالَ ثُمَّ خَرَجَ وَكُنْتُ أَوَّلَ النَّاسِ دَخَلَ عَلَى أَثَرِهِ
فَسَأَلْتُ بِلاَلًا أَيْنَ صَلَّى قَالَ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ
الْمُقَدَّمَيْنِ".
505- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلاَلٌ
وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ وَمَكَثَ فِيهَا فَسَأَلْتُ
بِلاَلًا حِينَ خَرَجَ مَا صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَثَلاَثَةَ
أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ
ثُمَّ صَلَّى". وَقَالَ لَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ وَقَالَ:
عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ
قوله: "باب الصلاة بين السواري في غير جماعة" إنما قيدها بغير الجماعة
لأن ذلك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوب. وقال الرافعي في شرح
المسند: احتج البخاري بهذا الحديث - أي حديث ابن عمر عن بلال - على أنه لا بأس
بالصلاة بين الساريتين إذا لم يكن في جماعة، وأشار أن الأولى للمنفرد أن يصلي إلى
السارية، ومع هذه الأولوية فلا كراهة في الوقوف بينهما - أي للمنفرد - وأما في
الجماعة فالوقوف بين الساريتين كالصلاة إلى السارية. انتهى كلامه.وفيه نظر لورود
النهي الخاص عن الصلاة بين السواري كما رواه الحاكم من حديث أنس بإسناد صحيح، وهو
في السنن الثلاثة، وحسنه الترمذي. قال المحب الطبري: كره قوم الصف بين السواري
للنهي الوارد عن ذلك، ومحل الكراهة عند عدم الضيق، الحكمة فيه إما لانقطاع الصف أو
لأنه موضع النعال. انتهى. وقال القرطبي: روى في سبب كراهة ذلك أنه مصلى الجن
المؤمنين. قوله: "حدثنا جويرية" هو بالجيم بصيغة التصغير وهو ابن أسماء
الضبعي، واتفق أن اسمه واسم أبيه من الأعلام المشتركة بين الرجال والنساء. وقد سمع
جويرية المذكور من نافع، وروى أيضا عن مالك عنه. قوله: "كنت أول الناس"
كذا في رواية أبي ذر وكريمة. وفي رواية الأصيلي وابن عساكر: "وكنت "
بزيادة واو في أوله وهي أشبه، ورواه الإسماعيلي من هذا الوجه فقال بعد قوله ثم خرج
" ودخل عبد الله على أثره أول الناس". قوله: "بين العمودين
المقدمين" في رواية الكشميهني: "المتقدمين " كذا في هذه الرواية.
وفي رواية مالك التي تليها " جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة
أعمدة وراءه"، وليس بين الروايتين
(1/578)
مخالفة، لكن قوله في رواية مالك " وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة " مشكل لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين، ولهذا عقبه البخاري برواية إسماعيل التي قال فيها " عمودين عن يمينه"، ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك ويرشد إلى ذلك قوله: "وكان البيت يومئذ " لأن فيه إشعارا بأنه تغير عن هيئته الأولى. وقال الكرماني: لفظ العمود جنس يحتمل الواحد والاثنين، فهو مجمل بينته رواية: "وعمودين"، ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد بل اثنان على سمت والثالث على غير سمتهما، ولفظ: "المقدمين " في الحديث السابق مشعر به، والله أعلم. قلت: ويؤيده أيضا رواية مجاهد عن ابن عمر التي تقدمت في " باب: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " فإن فيها " بين الساريتين اللتين على يسار الداخل " وهو صريح في أنه كان هناك عمودان على اليسار وأنه صلى بينهما، فيحتمل أنه كان ثم عمود آخر عن اليمين لكنه بعيد أو على غير سمت العمودين فيصح قول من قال: "جعل عن يمينه عمودين " وقول من قال: "جعل عمودا عن يمينه". وجوز الكرماني احتمالا آخر وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفة فصلى إلى جنب الأوسط، فمن قال جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه ومن قال عمودين اعتبره. ثم وجدته مسبوقا بهذا الاحتمال، وأبعد منه قول من قال: انتقل في الركعتين من مكان إلى مكان، ولا تبطل الصلاة بذلك لقلته، والله أعلم. قوله: "وقال إسماعيل" أي ابن أبي أويس، كذا في رواية أبي ذر والأصيلي: "قال: "مجردة. وفي رواية كريمة: "قال لنا " فوضح وصله. وقد ذكر الدارقطني الاختلاف على مالك فيه، فوافق الجمهور عبد الله بن يوسف في قوله: "عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره " ووافق إسماعيل في قوله: "عمودين عن يمينه " ابن القاسم والقعنبي وأبو مصعب ومحمد بن الحسن وأبو حذافة وكذا الشافعي وابن مهدي في إحدى الروايتين عنهما. وقال يحيى بن يحيى النيسابوري فيما رواه عنه مسلم: "جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه " عكس رواية إسماعيل، وكذلك قال الشافعي وبشر بن عمر في إحدى الروايتين عنهما، وجمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث، وقد جزم البيهقي بترجيح رواية إسماعيل ومن وافقه، وفيه اختلاف رابع. قال عثمان بن عمر عن مالك " جعل عمودين عن يمينه وعمودين عن يساره " ويمكن توجيهه بأن يكون هناك أربعة أعمدة اثنان مجتمعان واثنان منفردان فوقف عند المجتمعين، لكن يعكر عليه قوله: "وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة " بعد قوله: "وثلاثة أعمدة وراءه " وقد قال الدارقطني، لم يتابع عثمان بن عمر على ذلك.
(1/579)
97- باب
506- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ
قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ حِينَ يَدْخُلُ
وَجَعَلَ الْبَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ فَمَشَى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلاَثَةِ أَذْرُعٍ صَلَّى
يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِهِ بِلاَلٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ قَالَ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِنَا بَأْسٌ
إِنْ صَلَّى فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ".
قوله"باب" كذا للأكثر بلا ترجمة,وهو كالفصل من الباب الذي قبله,وكأنه
فصله عنه لأنه ليس فيه تصريح بكون الصلاة وقعت بين السواري, لكن فيه بيان مقدار ما
كان بينه وبين الجدار من المسافة. وسقط لفظ
(1/579)
"باب "من رواية الأصيلي. قوله: "حتى يكون بينه وبين الجدار قريبا" كذا وقع بالنصب على أنه خبر كان واسمها محذوف. قوله: "من ثلاث أذرع" كذا لأبي ذر، ولغيره ثلاثة بالتأنيث والذراع يذكر ويؤنث. قوله: "يتوخى" المعجمة، أي يقصد. قوله: "قال" أي ابن عمر. قوله: "أن يصلي" كذا للكشميهني ولغيره أن صلى بلفظ الماضي، ومراد ابن عمر أنه لا يشترط في صحة الصلاة في البيت موافقة المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، بل موافقة ذلك أولى وإن كان يحصل الغرض بغيره.
(1/580)
3 - باب الصَّلاَةِ
إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالْبَعِيرِ وَالشَّجَرِ وَالرَّحْلِ
507- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا
مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ كَانَ يُعَرِّضُ
رَاحِلَتَهُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا قُلْتُ أَفَرَأَيْتَ إِذَا هَبَّتْ الرِّكَابُ
قَالَ كَانَ يَأْخُذُ هَذَا الرَّحْلَ فَيُعَدِّلُهُ فَيُصَلِّي إِلَى آخِرَتِهِ
أَوْ قَالَ مُؤَخَّرِهِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
يَفْعَلُهُ".
قوله: "باب الصلاة إلى الراحلة والبعير" قال الجوهري: الراحلة الناقة
التي تصلح لأن يوضع الرحل عليها.
وقال الأزهري: الراحلة المركوب النجيب ذكرا كان أو أنثى. والهاء فيها للمبالغة،
والبعير يقال لما دخل في الخامسة. قوله: "والشجر والرحل" المذكور في
حديث الباب الراحلة والرحل، فكأنه ألحق البعير بالراحلة بالمعنى الجامع بينهما،
ويحتمل أن يكون أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، فقد رواه أبو خالد الأحمر عن عبيد
الله بن عمر عن نافع بلفظ: "كان يصلي إلى بعيره". انتهى. فإن كان هذا
حديثا آخر حصل المقصود، وإن كان مختصرا من الأول - أن يكون المراد يصلي إلى مؤخرة
رحل بعيره - اتجه الاحتمال الأول. ويؤيد الاحتمال الثاني ما أخرجه عبد الرزاق أن
ابن عمر كان يكره أن يصلي إلى بعير إلا وعليه رحل، وسأذكره بعد. وألحق الشجر
بالرحل بطريق الأولوية، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى حديث على قال: "لقد
رأيتنا يوم بدر وما فينا إنسان إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه
كان يصلي إلى شجرة يدعو حتى أصبح " رواه النسائي بإسناد حسن. قوله:
"يعوض" بتشديد الراء، أي يجعلها عرضا. قوله: "قلت أفرأيت"
ظاهره أنه كلام نافع والمسئول ابن عمر، لكن بين الإسماعيلي من طريق عبيدة ابن حميد
عن عبيد الله بن عمر أنه كلام عبيد الله والمسئول نافع، فعلى هذا هو مرسل لأن فاعل
يأخذ هو النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدركه نافع. قوله: "هبت الركاب"
أي هاجت الإبل، يقال هب الفحل إذا هاج، وهب البعير في السير إذا نشط. والركاب
الإبل التي يسار عليها ولا واحد لها من لفظها، والمعنى أن الإبل إذا هاجت شوشت على
المصلي لعدم استقرارها، فيعدل عنها إلى الرحل فيجعله سترة. وقوله:
"فيعدله" بفتح أوله وسكون العين وكسر الدال، أي يقيمه تلقاء وجهه. ويجوز
التشديد. وقوله: "إلى أخرته" بفتحات بلا مد ويجوز المد،
"ومؤخرته" بضم أوله ثم همزة ساكنة، وأما الخاء فجزم أبو عبيد بكسرها
وجوز الفتح، وأنكر ابن قتيبة الفتح، وعكس ذلك ابن مكي فقال: لا يقال مقدم ومؤخر
بالكسر إلا في العين خاصة، وأما في غيرها فيقال بالفتح فقط. ورواه بعضهم بفتح
الهمزة وتشديد الخاء. والمراد بها العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه
الراكب. قال القرطبي: في هذا الحديث دليل على جواز التستر بما يستقر من الحيوان،
ولا يعارضه النهي في معاطن الإبل لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء، وكراهة
الصلاة حينئذ عندها إما لشدة نتنها وإما لأنهم كانوا يتخلون بينها مستترين بها.
(1/580)
انتهى. وقال غيره: علة النهي عن ذلك كون الإبل خلقت من الشياطين، وقد تقدم ذلك، فيحمل ما وقع منه في السفر من الصلاة إليها على حالة الضرورة ونظيره صلاته إلى السرير الذي عليه المرأة لكون البيت كان ضيقا. وعلى هذا فقول الشافعي في البويطي: لا يستتر بامرأة ولا دابة، أي في حال الاختيار. وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عبد الله بن دينار أن ابن عمر كان يكره أن يصلي إلى بعير إلا وعليه رحل، وكأن الحكمة في ذلك أنها في حال شد الرحل عليها أقرب إلى السكون من حال تجريدها. "تكملة" اعتبر الفقهاء مؤخرة الرحل في مقدار أقل السترة، واختلفوا في تقديرها بفعل ذلك. فقيل ذراع، وقيل ثلثا ذراع وهو أشهر، لكن في مصنف عبد الرزاق عن نافع أن مؤخرة رحل ابن عمر كانت قدر ذراع.
(1/581)
3 - باب الصَّلاَةِ
إِلَى السَّرِيرِ
508- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ
"أَعَدَلْتُمُونَا بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي مُضْطَجِعَةً
عَلَى السَّرِيرِ فَيَجِيءُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ فَيُصَلِّي فَأَكْرَهُ أَنْ أُسَنِّحَهُ فَأَنْسَلُّ
مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْ السَّرِيرِ حَتَّى أَنْسَلَّ مِنْ لِحَافِي"
قوله: "باب الصلاة إلى السرير" أورد فيه حديث الأسود عن عائشة في صلاة
النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسط السرير الذي هي مضطجعة عليه. واعترضه
الإسماعيلي بأنه دال على الصلاة على السرير لا إلى السرير. ثم أشار إلى أن رواية
مسروق عن عائشة دالة على المراد، لأن لفظه: "كان يصلي والسرير بينه وبين
القبلة " كما سيأتي، فكان ينبغي له ذكرها في هذا الباب. وأجاب الكرماني عن
أصل الاعتراض بأن حروف الجر تتناوب، فمعنى قوله في الترجمة " إلى السرير
" أي على السرير، وادعى قبل ذلك أنه وقع في بعض الروايات بلفظ على السرير. قلت:
ولا حاجة إلى الحمل المذكور، فإن قولها " فيتوسط السرير " يشمل ما إذا
كان فوقه أو أسفل منه، وقد بان من رواية مسروق عنها أن المراد الثاني. قوله:
"أعدلتمونا" هو استفهام إنكار من عائشة، قالته لمن قال بحضرتها "
يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة " كما سيأتي من رواية مسروق عنها بعد خمسة
أبواب، وهناك نذكر مباحث هذا المتن إن شاء الله تعالى. وقولها " رأيتني
" بضم المثناة وقولها " أن أسنحه " بفتح النون والحاء المهملة أي
أظهر له من قدامه. وقال الخطابي: هو من قولك سنح لي الشيء إذا عرض لي، تريد أنها
كانت تخشى أن تستقبله وهو يصلي ببدنها، أي منتصبة. وقولها " أنسل " بفتح
السين المهملة وتشديد اللام، أي أخرج بخفية أو برفق.
(1/581)
باب يرد المصلى من
مر به بين يديه
...
100 - باب يَرُدُّ الْمُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ
وَرَدَّ ابْنُ عُمَرَ فِي التَّشَهُّدِ وَفِي الْكَعْبَةِ وَقَالَ إِنْ أَبَى
إِلاَّ أَنْ تُقَاتِلَهُ فَقَاتِلْهُ
509- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ
حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّ أَبَا
سَعِيدٍ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ح و حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ
أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ المُغِيرَةِ قَالَ حَدَّثَنَا
حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ الْعَدَوِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ
قَالَ رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ يُصَلِّي إِلَى
شَيْءٍ
(1/581)
باب إثم المارين
بين يدي المصلي
...
3 - باب إِثْمِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي
510- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ
أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ مَاذَا
سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَارِّ
بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَقَالَ أَبُو جُهَيْمٍ قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ
لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ
قَالَ أَبُو النَّضْرِ لاَ أَدْرِي أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ
سَنَةً
قوله: "باب إثم المار بين يدي المصلي" أورد فيه حديث بسر بن سعيد أن زيد
بن خالد - أي الجهني الصحابي - أرسله إلى أبي جهيم، أي ابن الحارث الصمة الأنصاري
الصحابي الذي تقدم حديثة في " باب التيمم في الحضر " هكذا روى مالك هذا
الحديث في الموطأ لم يختلف عليه فيه أن المرسل هو زيد، وأن المرسل إليه هو أبو
جهيم، وتابعه سفيان الثوري عن أبي النضر عند مسلم وابن ماجه وغيرهما، وخالفهما ابن
عيينة عن أبي النضر فقال: "عن
(1/584)
بسر بن سعيد قال: أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله " فذكر هذا الحديث. قال ابن عبد البر. هكذا رواه ابن عيينة مقلوبا، أخرجه ابن أبي خثيمة عن أبيه عن ابن عيينة. ثم قال ابن أبي خيثمة: سئل عنه يحيى بن معين فقال: هو خطأ، إنما هو " أرسلني زيد إلى أبي جهيم " كما قال مالك. وتعقب ذلك ابن القطان فقال: ليس خطأ ابن عيينة فيه بمتعين، لاحتمال أن يكون أبو جهيم بعث بسرا إلى زيد، وبعثه زيد إلى أبي جهيم يستثبت كل واحد منهما ما عند الآخر. قلت: تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن، فإذا قالوا أخطأ فلان في كذا لم يتعين خطؤه في نفس الأمر، بل هو راجح الاحتمال فيعتمد. ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشاذ، وهو ما يخالف الثقة من هو أرجح منه في حد الصحيح قوله: "بين يدي المصلي" أي أمامه بالقرب منه، وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما، واختلف في تحديد ذلك فقيل: إذا مر بينه وبين مقدار سجوده، وقيل بينه وبين قدر ثلاثة أذرع، وقيل بينه وبين قدر رمية بحجر. قوله: "ماذا عليه" زاد الكشميهني: "من الإثم " وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات عند غيره، والحديث في الموطأ بدونها. وقال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في شيء منه، وكذا رواه باقي الستة وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها، ولم أرها في شيء من الروايات مطلقا. لكن في مصنف ابن أبي شيبة: "يعني من الإثم " فيحتمل أن تكون ذكرت في أصل البخاري حاشية فظنها الكشميهني أصلا لأنه لم يكن من أهل العلم ولا من الحفاظ بل كان راوية. وقد عزاها المحب الطبري في الأحكام للبخاري وأطلق، فعيب ذلك عليه وعلى صاحب العمدة في إبهامه أنها في الصحيحين، وأنكر ابن الصلاح في مشكل الوسيط على من أثبتها في الخير فقال: لفظ الإثم ليس في الحديث صريحا. ولما ذكره النووي في شرح المهذب دونها قال: وفي رواية رويناها في الأربعين لعبد القادر الهروي " ماذا عليه من الإثم". قوله: "لكان أن يقف أربعين" يعني أن المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم. وقال الكرماني: جواب " لو " ليس هو المذكور، بل التقدير: لو يعلم ما عليه لوقف أربعين ولو وقف أربعين لكان خيرا له. وليس ما قاله متعينا، قال: وأبهم المعدود تفخيما للأمر وتعظيما. قلت: ظاهر السياق أنه عين المعدود، ولكن شك الراوي فيه، ثم أبدى الكرماني لتخصيص الأربعين بالذكر حكمتين، إحداهما كون الأربعة أصل جميع الأعداد، فلما أريد التكثير ضربت في عشرة. ثانيتهما كون كمال أطوار الإنسان بأربعين كالنطفة والمضغة والعلقة، وكذا بلوغ الأشد. ويحتمل غير ذلك ا ه. وفي ابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة " لكان أن يقف مائة عام خيرا له من الخطوة التي خطاها". وهذا يشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لا لخصوص عدد معين. وجنح الطحاوي إلى أن التقييد بالمائة وقع بعد التقييد بالأربعين زيادة في تعظيم الأمر على المار، لأنهما لم يقعا معا إذ المائة أكثر من الأربعين والمقام مقام زجر وتخويف فلا يناسب أن يتقدم ذكر المائة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخر. ومميز الأربعين إن كان هو السنة ثبت المدعي، وأما دونها فمن باب الأولى، وقد وقع في مسند البزار من طريق ابن عيينة التي ذكرها ابن القطان " لكان أن يقف أربعين خريفا " أخرجه عن أحمد بن عبدة الضبي عن ابن عيينة. وقد جعل ابن القطان الجزم في طريق ابن عيينة والشك في طريق غيره دالا على التعدد، لكن رواه أحمد وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وغيرهم من الحفاظ عن ابن عيينة عن أبي النضر على الشك أيضا وزاد فيه: "أو ساعة " فيبعد أن يكون الجزم والشك وقعا معا من راو واحد في حالة واحدة، إلا أن يقال: لعله تذكر في الحال فجزم، وفيه ما فيه. قوله: "خيرا له" كذا
(1/585)
في روايتنا بالنصب على أنه خبر كان، ولبعضهم " خير " بالرفع وهي رواية الترمذي، وأعربها ابن العربي على أنها اسم كان، وأشار إلى تسويغ الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها. قوله: "قال أبو النضر" هو كلام مالك وليس من تعليق البخاري، لأنه ثابت في الموطأ من جميع الطرق. وكذا ثبت في رواية الثوري وابن عيينة كما ذكرنا. قال النووي: فيه دليل على تحريم المرور، فإن معنى الحديث النهي الأكيد والوعيد الشديد على ذلك. انتهى. ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر وفيه أخذ القرين عن قرينه ما فاته أو استثباته فيما سمع معه. وفيه الاعتماد على خبر الواحد لأن زيدا اقتصر على النزول مع القدرة على العلو اكتفاء برسوله المذكور. وفيه استعمال " لو " في باب الوعيد، ولا يدخل ذلك في النهي، لأن محل النهي أن يشعر بما يعاند المقدور كما سيأتي في كتاب القدر حيث أورده المصنف إن شاء الله تعالى. "تنبيهات": أحدها استنبط ابن بطال من قوله: "لو يعلم " أن الإثم يختص بمن يعلم بالنهي وارتكبه. انتهى. وأخذه من ذلك فيه بعد، لكن هو معروف من أدلة أخرى. ثانيها: ظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مر لا بمن وقف عامدا مثلا بين يدي المصلي أو قعد أو رقد، لكن إن كانت العلة فيه التشويش على المصلي فهو في معنى المار. ثالثها: ظاهره عموم النهي في كل مصل، وخصه بعض المالكية بالإمام والمنفرد لأن المأموم لا يضره من مر بين يديه لأن سترة إمامه سترة له أو إمامه سترة له اهـ. والتعليل المذكور لا يطابق المدعي، لأن السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي لا عن المار، فاستوى الإمام والمأموم والمنفرد في ذلك. رابعها: ذكر ابن دقيق العيد أن بعض الفقهاء أي المالكية قسم أحوال المار والمصلي في الإثم وعدمه إلى أربعة أقسام: يأثم المار دون المصلي، وعكسه، يأثمان جميعا، وعكسه. فالصورة الأولى أن يصلي إلى سترة في غير مشرع وللمار مندوحة فيأثم المار دون المصلي. الثانية أن يصلي في مشرع مسلوك بغير سترة أو متباعدا عن السترة ولا يجد المار مندوحة فيأثم المصلي دون المار. الثالثة مثل الثانية لكن يجد المار مندوحة فيأثمان جميعا. الرابعة مثل الأولى لكن لم يجد المار مندوحة فلا يأثمان جميعا. انتهى. وظاهر الحديث يدل على منع المرور مطلقا ولو لم يجد مسلكا بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته. ويؤيده قصة أبي سعيد السابقة فإن فيها " فنظر الشاب لم يجد مساغا " وقد تقدمت الإشارة إلى قول إمام الحرمين: إن الدفع لا يشرع للمصلي في هذه الصور، وتبعه الغزالي، ونازعه الرافعي، وتعقبه ابن الرفعة بما حاصله أن الشاب إنما استوجب من أبي سعيد الدفع لكونه قصر في التأخر عن الحضور إلى الصلاة حتى وقع الزحام. انتهى. وما قاله محتمل، لكن لا يدفع الاستدلال، لأن أبا سعيد لم يعتذر بذلك، ولأنه متوقف على أن ذلك وقع قبل صلاة الجمعة أو فيها مع احتمال أن يكون ذلك وقع بعدها فلا يتجه ما قاله من التقصير بعدم التبكير، بلى كثرة الزحام حينئذ أوجه، والله أعلم. خامسها وقع في رواية أبي العباس السراج من طريق الضحاك ابن عثمان عن أبي النضر " لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلى " فحمله بعضهم على ما إذا قصر المصلي في دفع المار أو بأن صلى في الشارع، ويحتمل أن يكون قوله: "والمصلى " بفتح اللام أي بين يدي المصلى من داخل سترته، وهذا أظهر، والله أعلم.
(1/586)
باب استقبال الرجل
صاحبه أوغيره في صلاته وهو يصلي
...
3 - باب اسْتِقْبَالِ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ أَوْ غَيْرَهُ فِي صَلاَتِهِ وَهُوَ
يُصَلِّي
وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُسْتَقْبَلَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُصَلِّي وَإِنَّمَا هَذَا
إِذَا اشْتَغَلَ بِهِ
(1/586)
فَأَمَّا إِذَا
لَمْ يَشْتَغِلْ فَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَا بَالَيْتُ إِنَّ الرَّجُلَ
لاَ يَقْطَعُ صَلاَةَ الرَّجُلِ
511- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ
الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ يَعْنِي ابْنَ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ
أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلاَةَ فَقَالُوا يَقْطَعُهَا
الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ قَالَتْ لَقَدْ جَعَلْتُمُونَا كِلاَبًا
لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَإِنِّي
لَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى السَّرِيرِ فَتَكُونُ
لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْتَقْبِلَهُ فَأَنْسَلُّ انْسِلاَلًا وَعَنْ
الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ
قوله: "باب استقبال الرجل الرجل وهو يصلي" في نسخة الصغاني "
استقبال الرجل صاحبه أو غيره في صلاته " أي هل يكره أو لا، أو يفرق بين ما
إذا ألهاه أو لا؟ وإلى هذا التفصيل جنح المصنف وجمع بين ما ظاهره الاختلاف من
الأثرين اللذين ذكرهما عن عثمان وزيد بن ثابت، ولم أره عن عثمان إلى الآن، وإنما
رأيته في مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهما من طريق هلال بن يساف عن عمر أنه
زجر عن ذلك، وفيهما أيضا عن عثمان ما يدل على عدم كراهية ذلك، فليتأمل لاحتمال أن
يكون فيما وقع في الأصل تصحيف من عمر إلى عثمان. وقول زيد بن ثابت " ما باليت
" يريد أنه لا حرج في ذلك. قوله: "فتكون لي الحاجة وأكره أن
استقبله"، كذا للأكثر بالواو، وهي حالية. وللكشميهني فأكره بالفاء. قوله:
"وعن الأعمش عن إبراهيم" هو معطوف على الإسناد الذي قبله، يعني أن علي
بن مسهر روى هذا الحديث عن الأعمش بإسنادين إلى عائشة عن مسلم - وهو أبو الضحى -
عن مسروق عنها باللفظ المذكور، وعن إبراهيم عن الأسود عنها بالمعنى، وقد تقدم لفظه
في " باب الصلاة على السرير " وأما ظن الكرماني أن مسلما هذا هو البطين
فلم يصب في ظنه ذلك، قال ابن المنير: الترجمة لا تطابق حديث عائشة، لكنه يدل على
المقصود بالأولى، لكن ليس فيه تصريح بأنها كانت مستقبلته، فلعلها كانت منحرفة أو
مستدبرة. وقال ابن رشيد قصد البخاري أن شغل المصلي بالمرأة إذا كانت في قبلته على
أي حالة كانت أشد من شغله بالرجل، ومع ذلك فلم تضر صلاته صلى الله عليه وسلم لأنه
غير مشتغل بها، فكذلك لا تضر صلاة من لم يشتغل بها، والرجل من باب الأولى. واقتنع
الكرماني بأن حكم الرجل والمرأة واحد في الأحكام الشرعية، ولا يخفى ما فيه.
(1/587)
103 - باب
الصَّلاَةِ خَلْفَ النَّائِمِ
512- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ
قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ
فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ
قوله: "باب الصلاة خلف النائم" أورد فيه حديث عائشة أيضا من وجه آخر
بلفظ آخر للإشارة إلى أنه قد يفرق مفرق بين كونها نائمة أو يقظى، وكأنه أشار أيضا
إلى تضعيف الحديث الوارد في النهي عن الصلاة إلى النائم، فقد أخرجه أبو داود وابن
ماجه من حديث ابن عباس. وقال أبو داود: طرقه كلها واهية، يعني حديث ابن عباس.
انتهى. وفي الباب عن ابن عمر أخرجه ابن عدي، وعن أبي هريرة أخرجه الطبراني في
الأوسط وهما واهيان أيضا. وكره مجاهد وطاوس ومالك الصلاة إلى النائم خشية أن يبدو
منه ما يلهي المصلي عن صلاته. وظاهر تصرف المصنف أن عدم الكراهية حيث يحصل الأمن
من ذلك. حديث عائشة ورد أيضا من وجه آخر بلفظ آخر للإشارة إلى أنه قد يفرق مفرق
بين كونها نائمة أو يقظى، وكأنه أشار أيضا إلى تضعيف الحديث الوارد في النهي عن
الصلاة إلى النائم، فقد أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس. وقال أبو
داود: طرقه كلها واهية، يعني حديث ابن عباس. انتهى. وفي الباب عن ابن عمر أخرجه
ابن عدي، وعن أبي هريرة أخرجه الطبراني في الأوسط وهما واهيان أيضا. وكره مجاهد
وطاوس ومالك الصلاة إلى النائم خشية أن يبدو منه ما يلهي المصلي عن صلاته. وظاهر
(1/587)
تصرف المصنف أن عدم الكراهية حيث يحصل الأمن من ذلك. "تنبيه": يحيى المذكور في الإسناد هو القطان، وهشام هو ابن عروة.
(1/588)
104 - باب
التَّطَوُّعِ خَلْفَ الْمَرْأَةِ
513- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ "كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ
غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا قَالَتْ وَالْبُيُوتُ
يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ"
قوله: "باب التطوع خلف المرأة" أورد فيه حديث عائشة أيضا بلفظ آخر، وقد
تقدم في " باب الصلاة على الفراش " من هذا الوجه. ودلالة الحديث على
التطوع من جهة أن صلاته هذه في بيته بالليل، وكانت صلاته الفرائض بالجماعة في
المسجد. وقال الكرماني: لفظ الترجمة يقتضي أن يكون ظهر المرأة إليه، ولفظ الحديث
لا تخصيص فيه بالظهر. ثم أجاب بأن السنة للنائم أن يتوجه إلى القبلة والغالب من
حال عائشة ذلك. انتهى. ولا يخفى تكلفه. وسنة ذلك للنائم في ابتداء النوم لا في
دوامه، لأنه ينقلب وهو لا يشعر. والذي يظهر أن معنى " خلف المرأة "
وراءها، فتكون هي نفسها أمام المصلي لا خصوص ظهرها، ولو أراده لقال: خلف ظهر
المرأة، والأصل عدم التقدير. وفي قولها " والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح
" إشارة إلى عدم الاشتغال بها. ولا يعكر على ذلك كونه يغمزها عند السجود
ليسجد مكان رجليها كما وقع صريحا في رواية لأبي داود، لأن الشغل بها مأمون في حقه
صلى الله عليه وسلم، فمن أمن ذلك لم يكره في حقه. "تنبيه": الظاهر أن
هذه الحالة غير الحالة التي تقدمت في صلاته صلى الله عليه وسلم إلى جهة السرير
الذي كانت عليه، لأنه في تلك الحالة غير محتاج لأن يسجد مكان رجليها، ويمكن أن
يوجه بين الحالتين بأن يقال: كانت صلاته فوق السرير لا أسفل منه كما جنح إليه
الإسماعيلي فيما سبق، لكن حمله على حالتين أولى، والله أعلم.
(1/588)
105 - باب مَنْ
قَالَ لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ شَيْءٌ
514- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ
عَائِشَةَ ح قَالَ الأَعْمَشُ وَحَدَّثَنِي مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ
عَائِشَةَ ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ
وَالْمَرْأَةُ فَقَالَتْ شَبَّهْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلاَبِ وَاللَّهِ
لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَإِنِّي
عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً فَتَبْدُو لِي
الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ فَأُوذِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ
قوله: "باب من قال لا يقطع الصلاة شيء" أي من فعل غير المصلي. والجملة
المترجم بها أوردها في الباب صريحا من قول الزهري، ورواها مالك في الموطأ عن
الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه من قوله، وأخرجها الدارقطني مرفوعة من
وجه آخر عن سالم لكن إسنادها ضعيف، ووردت أيضا مرفوعة من حديث أبي سعيد عند أبي
داود، ومن حديث أنس وأبي أمامة عند الدارقطني، ومن حديث جابر عند الطبراني في
الأوسط وفي إسناد كل منهما ضعف، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن علي وعثمان
وغيرهما نحو ذلك موقوفا.
(1/588)
106 - باب إِذَا
حَمَلَ جَارِيَةً صَغِيرَةً عَلَى عُنُقِهِ فِي الصَّلاَةِ
516- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ
الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ
بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا
وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا"
[الحديث516- طرفه في: 5996]
قوله: "باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه" قال ابن بطال: أراد البخاري
أن حمل المصلي الجارية إذا كان لا يضر الصلاة فمرورها بين يديه لا يضر لأن حملها
أشد من مرورها. وأشار إلى نحو هذا الاستنباط الشافعي، لكن
(1/590)
تقييد المصنف بكونها صغيرة قد يشعر بأن الكبيرة ليست كذلك. قوله: "عن أبي قتادة" في رواية عبد الرزاق عن مالك " سمعت أبا قتادة " وكذا في رواية أحمد من طريق ابن جريج عن عامر عن عمرو بن سليم أنه " سمع أبا قتادة". قوله: "وهو حامل أمامة" المشهور في الروايات بالتنوين ونصب أمامة، وروى بالإضافة كما قرئ في قوله تعالى :{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} بالوجهين، وتخصيص الحمل في الترجمة بكونه على العنق - مع أن السياق يشمل ما هو أعم من ذلك - مأخوذ من طريق أخرى مصرحة بذلك وهي لمسلم من طريق بكير بن الأشج عن عمرو بن سليم، ورواه عبد الرزاق عن مالك بإسناد حديث الباب فزاد فيه: "على عاتقه " وكذا لمسلم وغيره من طرق أخرى، ولأحمد من طريق ابن جريج " على رقبته". وأمامة بضم الهمزة تخفيف الميمين كانت صغيرة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجها علي بعد وفاة فاطمة بوصية منها ولم تعقب. قوله: "ولأبي العاص" قال الكرماني: الإضافة في قوله: "بنت زينب " بمعنى اللام، فأظهر في المعطوف وهو قوله: "ولأبي العاص " ما هو مقدر في المعطوف عليه. انتهى. وأشار ابن العطار إلى أن الحكمة في ذلك كون والد أمامة كان إذ ذاك مشركا فنسبت إلى أمها تنبيها على أن الولد ينسب إلى أشرف أبويه دينا ونسبا. ثم بين أنها من أبي العاص تبيينا لحقيقة نسبها. انتهى. وهذا السياق لمالك وحده، وقد رواه غيره عن عامر بن عبد الله فنسبوها إلى أبيها، ثم بينوا أنها بنت زينب كما هو عند مسلم وغيره، ولأحمد من طريق المقبري عن عمرو بن سليم " يحمل أمامة بنت أبي العاص - وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عاتقه". قوله: "ابن ربيعة بن عبد شمس" كذا رواه الجمهور عن مالك، ورواه يحيى بن بكير ومعن بن عيسى وأبو مصعب وغيرهم عن مالك فقالوا " ابن الربيع " وهو الصواب. وغفل الكرماني فقال خالف القوم البخاري فقال: ربيعة، وعندهم الربيع، والواقع أن من أخرجه من القوم من طريق مالك كالبخاري فالمخالفة فيه إنما هي من مالك، وادعى الأصيلي أنه ابن الربيع بن ربيعة فنسبه مالك مرة إلى جده، ورده عياض والقرطبي وغيرهما لإطباق النسابين على خلافه. نعم قد نسبه مالك إلى جده في قوله: "ابن عبد الشمس " وإنما هو ابن عبد العزى بن عبد شمس، أطبق على ذلك النسابون أيضا، واسم أبي العاص لقيط وقيل مقسم وقيل القاسم وقيل مهشم وقيل هشيم وقيل ياسر وهو مشهور بكنيته. أسلم قبل الفتح وهاجر، ورد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب وماتت معه وأثنى عليه في مصاهرته، وكانت وفاته في خلافة أبي بكر الصديق. قوله: "فإذا سجد وضعها" كذا لمالك أيضا، ورواه مسلم أيضا من طريق عثمان بن أبي سليمان ومحمد ابن عجلان، والنسائي من طريق الزبيدي، وأحمد من طريق ابن جريج، وابن حبان من طريق أبي العميس كلهم عن عامر بن عبد الله شيخ مالك فقالوا " إذا ركع وضعها " ولأبي داود من طريق المقبري عن عمرو ابن سليم " حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده قام وأخذها فردها في مكانها"، وهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع كان منه لا منها، بخلاف ما أوله الخطابي حيث قال: يشبه أن تكون الصبية كانت قد ألفته، فإذا سجد تعلقت بأطرافه والتزمته فينهض من سجوده فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع فيرسلها. قال: هذا وجهه عندي. وقال ابن دقيق العيد: من المعلوم أن لفظ حمل لا يساوي لفظ وضع في اقتضاء فعل الفاعل لأنا نقول: فلان حمل كذا ولو كان غيره حمله، بخلاف وضع، فعلى هذا فالفعل الصادر منه هو الوضع لا الرفع فيقل العمل. قال: وقد كنت أحسب هذا حسنا إلى أن رأيت في بعض طرقه الصحيحة " فإذا قام أعادها". قلت: وهي رواية لمسلم. ورواية أبي داود التي قدمناها أصرح في ذلك وهي " ثم
(1/591)
أخذها فردها في مكانها " ولأحمد من طريق ابن جريج " وإذا قام حملها فوضعها على رقبته". قال القرطبي: اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، والذي أحوجهم إلى ذلك أنه عمل كثير، فروى ابن القاسم عن مالك أنه كان في النافلة، وهو تأويل بعيد، فإن ظاهر الأحاديث أنه كان في فريضة. وسبقه إلى استبعاد ذلك المازري وعياض، لما ثبت في مسلم: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة على عاتقه". قال المازري: إمامته بالناس في النافلة ليست بمعهودة. ولأبي داود " بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر - أو العصر - وقد دعاه بلال إلى الصلاة إذ خرج علينا وأمامة على عاتقه فقام في مصلاه فقمنا خلفه فكبر فكبرنا وهي في مكانها"، وعند الزبير بن بكار وتبعه السهيلي الصبح، ووهم من عزاه للصحيحين. قال القرطبي: وروى أشهب وعبد الله بن نافع عن مالك أن ذلك للضرورة حيث لم يجد من يكفيه أمرها. انتهى. وقال بعض أصحابه: لأنه لو تركها لبكت وشغلت سره في صلاته أكثر من شغله بحملها. وفرق بعض أصحابه بين الفريضة والنافلة. وقال الباجي: إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد جاز فيهما. قال القرطبي: وروى عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك أن الحديث منسوخ. قلت: روى ذلك الإسماعيلي عقب روايته للحديث من طريقه، لكنه غير صريح، ولفظه: قال التنيسي قال مالك: من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ناسخ ومنسوخ، وليس العمل على هذا. وقال ابن عبد البر: لعله نسخ بتحريم العمل في الصلاة. وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وبأن هذه القصة كانت بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الصلاة لشغلا " لأن ذلك كان قبل الهجرة، وهذه القصة كانت بعد الهجرة قطعا بمدة مديدة. وذكر عياض عن بعضهم أن ذلك كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم لكونه كان معصوما من أن تبول وهو حاملها، ورد بأن الأصل عدم الاختصاص وبأنه لا يلزم من ثبوت الاختصاص في أمر ثبوته في غيره بغير دليل، ولا مدخل للقياس في مثل ذلك. وحمل أكثر أهل العلم هذا الحديث على أنه عمل غير متوال لوجد الطمأنينة في أركان صلاته. وقال النووي: ادعى بعض المالكية أن هذا الحديث منسوخ، وبعضهم أنه من الخصائص، وبعضهم أنه كان لضرورة، وكل ذلك دعاوى باطلة مردودة لا دليل عليها، وليس في الحديث ما يخالف قواعد الشرع لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه معفو عنه، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة حتى تتبين النجاسة، والأعمال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، ودلائل الشرع متظاهرة على ذلك، وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لبيان الجواز. وقال الفاكهاني: وكأن السر في حمله أمامة في الصلاة دفعا لما كانت العرب تألفه من كراهة البنات وحملهن، فخالفهم في ذلك حتى في الصلاة للمبالغة في ردعهم، والبيان بالفعل قد يكون أقوى من القول. واستدل به على ترجيح العمل بالأصل على الغالب كما أشار إليه الشافعي. ولابن دقيق العيد هنا بحث من جهة أن حكايات الأحوال لا عموم لها، وعلى جواز إدخال الصبيان في المساجد، وعلى أن لمس الصغار الصبايا غير مؤثر في الطهارة، ويحتمل أن يفرق بين ذوات المحارم وغيرهن، وعلى صحة صلاة من حمل آدميا، وكذا من حمل حيوانا طاهرا، وللشافعية تفصيل بين المستجمر وغيره، وقد يجاب عن هذه القصة بأنها واقعة حال فيحتمل أن تكون أمامة كانت حينئذ قد غسلت، كما يحتمل أنه كان صلى الله عليه وسلم يمسها بحائل. وفيه تواضعه صلى الله عليه وسلم، وشفقته على الأطفال، وإكرامه لهم جبرا لهم ولوالديهم.
(1/592)
107 - باب إِذَا
صَلَّى إِلَى فِرَاشٍ فِيهِ حَائِضٌ
517- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ
الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ أَخْبَرَتْنِي
خَالَتِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ قَالَتْ "كَانَ فِرَاشِي حِيَالَ
مُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُبَّمَا وَقَعَ
ثَوْبُهُ عَلَيَّ وَأَنَا عَلَى فِرَاشِي"
518- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ شَدَّادٍ قَالَ سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ تَقُولُ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ نَائِمَةٌ فَإِذَا
سَجَدَ أَصَابَنِي ثَوْبُهُ وَأَنَا حَائِضٌ وَزَادَ مُسَدَّدٌ عَنْ خَالِدٍ قَالَ
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ "وَأَنَا حَائِضٌ"
قوله: "باب إذا صلى إلى فراش فيه حائض" أي هل يكره أو لا؟ وحديث الباب
يدل على أن لا كراهة. وقال الكرماني: جواب إذا محذوف تقديره صحت صلاته، أو معناه
باب حكم المسألة الفلانية، وقد تقدم الكلام عليه في أبواب ستر العورة في "
باب إذا أصاب ثوب المصلي امرأته " وهذه الترجمة أخص من تلك، وتقدمت له طريق
أخرى في آخر كتاب الحيض. قوله: "حيال" بكسر المهملة بعدها ياء تحتانية
أي بجنبه كما ذكره في الطريق الثانية. قوله: "فإذا سجد أصابني ثوبه" كذا
للأكثر، وللمستملي والكشميهني: "ثيابه " وللأصيلي: "أصابتني
ثيابه". قال ابن بطال: هذا الحديث وشبهه من الأحاديث التي فيها اعتراض المرأة
بين المصلي وقبلته يدل على جواز القعود لا على جواز المرور. انتهى. وتعقب بأن
ترجمة الباب ليست معقودة للاعتراض بل مسألة الاعتراض تقدمت، والظاهر أن المصنف قصد
بيان صحة الصلاة ولو كانت الحائض بجنب المصلي ولو أصابتها ثيابه، لا كون الحائض
بين المصلي وبين القبلة. وتعبيره بقوله: "إلى " أعم من أن تكون بينه
وبين القبلة، فإن الانتهاء يصدق على ما إذا كانت أمامه أو عن يمينه أو عن شماله،
وقد صرح في الحديث بكونها كانت إلى جنبه. قوله: "وأنا حائض" كذا لأبي ذر
وسقطت هذه الجملة لغيره، لكن في رواية كريمة بعد قوله: "أصابني ثوبه "
زاد مسدد عن خالد عن الشيباني " وأنا حائض"، ورواية مسدد هذه ساقها
المصنف في " باب إذا أصاب ثوب المصلي " وفيها هذه الزيادة، وهي أصرح
بمراد الترجمة والله أعلم.
(1/593)
108 - باب هَلْ
يَغْمِزُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ عِنْدَ السُّجُودِ لِكَيْ يَسْجُدَ؟
519- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قَالَتْ "بِئْسَمَا عَدَلْتُمُونَا بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ لَقَدْ
رَأَيْتُنِي وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي
وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ
يَسْجُدَ غَمَزَ رِجْلَيَّ فَقَبَضْتُهُمَا"
قوله: "باب هل يغمز الرجل امرأته الخ" في الترجمة التي قبلها بيان صحة
الصلاة ولو أصابت المرأة بعض ثياب المصلي، وفي هذه الترجمة بيان صحتها ولو أصابها
بعض جسده. قوله: "حدثنا عمرو بن علي" هو الفلاس، ويحيى هو القطان، وعبيد
الله هو العمري، والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر. قوله: "بئسما
عدلتمونا" تخفيف الدال، و " ما "
(1/593)
نكرة مفسرة لفاعل بئس، والمخصوص بالذم محذوف تقديره عدلكم، أي تسويتكم إيانا بما ذكر. وقد تقدم الكلام على مباحث الحديث في " باب التطوع خلف المراة".
(1/594)
109 - باب
الْمَرْأَةِ تَطْرَحُ عَنْ الْمُصَلِّي شَيْئًا مِنْ الأَذَى
520- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ السُّورَمَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ "بَيْنَمَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ
وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ أَلاَ
تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلاَنٍ
فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلاَهَا فَيَجِيءُ بِهِ ثُمَّ يُمْهِلُهُ
حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ فَلَمَّا
سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ بَيْنَ
كَتِفَيْهِ وَثَبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدًا
فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنْ الضَّحِكِ فَانْطَلَقَ
مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَم وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ فَأَقْبَلَتْ
تَسْعَى وَثَبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدًا حَتَّى
أَلْقَتْهُ عَنْهُ وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاَةَ قَالَ " اللَّهُمَّ
عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ
بِقُرَيْشٍ" ثُمَّ سَمَّى اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ
وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ
وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَعُمَارَةَ بْنِ
الْوَلِيدِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ
بَدْرٍ ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ثُمَّ قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً"
قوله: "باب المرأة تطرح عن المصلي شيئا من الأذى" قال ابن بطال: هذه
الترجمة قريبة من التراجم التي قبلها، وذلك أن المرأة إذا تناولت ما على ظهر
المصلي فإنها تقصد إلى أخذه من أي جهة أمكنها تناوله، فإن لم يكن هذا المعنى أشد
من مرورها بين يديه فليس بدونه. قوله: "حدثنا أحمد بن إسحاق" هو من صغار
شيوخ البخاري، وقد شاركه في الرواية عن شيخه عبيد الله بن موسى المذكور، وعبيد
الله ومن فوقه كلهم كوفيون. قوله: "ألا تنظرون إلى هذا المرائي" مأخوذ
من الرياء وهو التعبد في الملأ دون الخلوة ليرى. قوله: "جزور آل فلان"
لم أقف على تعيينهم لكن يشبه أن يكونوا آل أبي معيط لمبادرة عقبة بن أبي معيط إلى
إحضار ما طلبوه منه، وهو المعنى بقوله أشقاهم. قوله: "فانطلق منطلق" لم
أقف على تسميته، ويحتمل أن يكون هو ابن مسعود الراوي، وقد تقدم الكلام على فوائد
هذا الحديث في الطهارة قبل الغسل بقليل. "خاتمة": اشتملت أبواب استقبال
القبلة - وما معها من أحكام المساجد وسترة المصلى - من الأحاديث المرفوعة على ستة
وثمانين حديثا، المكرر منها ستة وثلاثون حديثا عشرة تقدمت وستة وعشرون فيها الخالص
منها خمسون حديثا، وافقه مسلم على تخريج أصولها سوى حديث أنس " من استقبل
قبلتنا " وحديث ابن عباس في الصلاة في قبل الكعبة، لكن أوضحنا أن مسلما أخرجه
عن ابن عباس عن أسامة، وحديث جابر في الصلاة على الراحلة، وحديث عائشة في قصة
الوليدة صاحبة الوشاح، وحديث أبي هريرة " رأيت سبعين من أصحاب الصفة"،
وحديث
(1/594)
ابن عمر " كان المسجد مبنيا باللبن"، وحديث ابن عباس في قصة عمار في بناء المسجد، وحديثه في الخطبة في خوخة أبي بكر، وحديث عمر في رفع الصوت في المسجد، وحديث ابن عمر في المساجد التي على طرق المدينة وهو مشتمل على عشرة أحاديث، وحديث عائشة " لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين". وفيها من المعلقات ثمانية عشر حديثا كلها مكررة إلا حديث أنس في قصة العباس ومال البحرين وهو من أفراده أيضا عن مسلم، فجملة ما فيها من الأحاديث بالمكرر مائة وأربعة أحاديث، وفيها من الآثار ثلاثة وعشرون كلها معلقات، إلا أثر مساجد ابن عباس، وأثر عمر وعثمان أنهما كانا يستلقيان في المسجد، وأثرهما أنهما زادا في المسجد، فإن هذه موصولة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1/595)
المجلد الثاني
كتاب مواقيت الصلاة
باب مواقيت الصلاة وفضلها
...
1 - المجلد الثاني
2 - كتاب مواقيت الصلاة
3 - باب مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ وَفَضْلِهَا
وَقَوْلِهِ [النساء 103] إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَوْقُوتًا مُوَقَّتًا وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلاَةَ يَوْمًا
فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ
بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلاَةَ يَوْمًا وَهُوَ بِالْعِرَاقِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ
أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ أَلَيْسَ قَدْ
عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ فَصَلَّى
فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى
فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى
فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى
فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى
فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ بِهَذَا
أُمِرْتُ فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ أو أن جِبْرِيلَ هُوَ
أَقَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقْتَ الصَّلاَةِ
قَالَ عُرْوَةُ كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ
أَبِيهِ
[الحديث 521-طرفاه في: 3221، 4007]
"باب مواقيت الصلاة - بسم الله الرحمن الرحيم" كذا للمستملي وبعده
البسملة، ولرفيقيه البسملة مقدمة وبعدها " باب مواقيت الصلاة وفضلها "
وكذا في نسخة الصغاني، وكذا لكريمة لكن بلا بسملة، وكذا للأصيلي لكن بلا باب.و
" المواقيت " جمع ميقات وهو مفعال من الوقت وهو القدر المحدد للفعل من
الزمان أو المكان.قوله: "كتابا موقوتا موقتا وقته عليهم" كذا وقع في
أكثر الروايات، وسقط في بعضها لفظ: "موقتا فاستشكل ابن التبن تشديد القاف من
وقته.وقال: المعروف في اللغة التخفيف ا هـ.والظاهر أن المصنف أراد بقوله:
"موقتا " بيان أن قوله: "موقوتا " من التوقيت، فقد جاء عن
مجاهد في معنى قوله موقوتا قال: مفروضا، وعن غيره محدودا.وقال صاحب المنتهى: كل
شيء جعل له حين وغاية فهو موقت، يقال وقته ليوم كذا، أي أجله. قوله: "حدثنا
عبد الله بن مسلمة" هو القعنبي، وهذا الحديث أول شيء في الموطأ، ورجاله كلهم
مدنيون.قوله: "أخر الصلاة يوما" وللمصنف في بدء الخلق من طريق الليث عن
ابن شهاب بيان الصلاة المذكورة ولفظه: "أخر العصر شيئا " قال ابن عبد
البر: ظاهر سياقه أنه فعل ذلك يوما ما، لا أن ذلك كان عادة له وإن كان أهل بيته
معروفين بذلك ا هـ.
وسيأتي بيان ذلك قريبا في " باب تضييع الصلاة عن وقتها " وكذا في نسخة
الصغاني.وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب " أخر الصلاة مرة "
يعني العصر، وللطبراني من طريق أبي بكر بن حزم أن عروة حدث عمر بن عبد العزيز -
وهو يومئذ أمير المدينة في زمان الوليد بن عبد الملك - وكان ذلك زمان يؤخرون فيه
الصلاة، يعني بني أمية.قال ابن عبد البر: المراد أنه أخرها حتى خرج الوقت المستحب،
لا أنه أخرها حتى غربت الشمس ا هـ.ويؤيده سياق رواية الليث المتقدمة.وأما ما رواه
الطبراني من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أسامة بن زيد الليثي عن ابن شهاب في هذا
الحديث قال: "دعا المؤذن لصلاة العصر فأمسى عمر بن عبد العزيز قيل أن يصليها
" فمحمول على أنه
(2/3)
قارب المساء لا أنه دخل فيه.وقد رجع عمر بن عبد العزيز عن ذلك، فروى الأوزاعي عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز - يعني في خلافته - كان يصلي الظهر في الساعة الثامنة والعصر في الساعة العاشرة حين تدخل.قوله: "أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما" بين عبد الرزاق في روايته عن ابن جريج عن ابن شهاب أن الصلاة المذكورة العصر أيضا، ولفظه: "أمسى المغيرة بن شعبة بصلاة العصر".قوله: "وهو بالعراق" في الموطأ رواية القعنبي وغيره عن مالك " وهو بالكوفة"، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن القعنبي.والكوفة من جملة العراق، فالتعبير بها أخص من التعبير بالعراق، وكان المغيرة إذ ذاك أميرا عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان.قوله: "أبو مسعود" أي عقبة بن عمرو البدري.قوله: "ما هذا" أي التأخير.قوله: "أليس" كذا الرواية، وهو استعمال صحيح، لكن الأكثر في الاستعمال في مخاطبة الحاضر " ألست " وفي مخاطبة الغائب " أليس".قوله: "قد علمت" قال عياض يدل ظاهره على علم المغيرة بذلك، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل الظن من أبي مسعود لعلمه بصحبة المغيرة.قلت: ويؤيد الأول رواية شعيب عن ابن شهاب عند المصنف في غزوة بدر بلفظ: "فقال لقد علمت " بغير أداة استفهام، ونحوه لعبد الرزاق عن معمر وابن جريج جميعا.قوله: "أن جبريل نزل" بين ابن إسحاق في المغازي أن ذلك كان صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة وهي ليلة الإسراء، قال ابن إسحاق " حدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير " وقال عبد الرزاق " عن ابن جريج قال: قال نافع بن جبير وغيره: لما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسرى به لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سميت " الأولى " أي صلاة الظهر، فأمر فصيح بأصحابه: "الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلى به جبريل وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس " فذكر الحديث، وفيه رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النبي صلى الله عليه وسلم.قوله: "نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال عياض: ظاهره أن صلاته كانت بعد فراغ صلاة جبريل، لكن المنصوص في غيره أن جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم، فيحمل قوله: "صلى فصلى " على أن جبريل كان كلما فعل جزءا من الصلاة تابعه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله ا هـ.وبهذا جزم النووي.وقال غيره: الفاء بمعنى الواو، واعترض بأنه يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يتقدم في بعض الأركان على جبريل على ما يقتضيه مطلق الجمع.وأجيب بمراعاة الحيثية وهي التبيين، فكان لأجل ذلك يتراخى عنه.وقيل: الفاء للسببية كقوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} وفي رواية الليث عند المصنف وغيره: "نزل جبريل فأمنى فصليت معه".وفي رواية عبد الرزاق عن معمر " نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الناس معه " وهذا يؤيد رواية نافع بن جبير المتقدمة، وإنما دعاهم إلى الصلاة بقوله: "الصلاة جامعة " لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ، واستدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره، ويجاب عنه بما يجاب به عن قصة أبي بكر في صلاته خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلاة الناس خلفه، فإنه محمول على أنه كان مبلغا فقط كما سيأتي تقريره في أبواب الإمامة.واستدل به أيضا على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل من جهة أن الملائكة ليسوا مكلفين بمثل ما كلف به الإنس.قاله ابن العربي وغيره.وأجاب عياض باحتمال أن لا تكون تلك الصلاة كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ.وتعقبه بما تقدم من أنها كانت صبيحة ليلة فرض الصلاة، وأجاب باحتمال أن الوجوب عليه كان معلقا بالبيان، فلم يتحقق الوجوب إلا بعد تلك الصلاة.قال: وأيضا لا نسلم أن جبريل كان متنفلا بل كانت تلك الصلاة واجبة عليه لأنه مكلف بتبليغها، فهي صلاة مفترض
(2/4)
خلف مفترض ا
هـ.وقال ابن المنير: قد يتعلق به من يجوز صلاة مفترض بفرض خلف مفترض بفرض آخر، كذا
قال، وهو مسلم له في صورة المؤداة مثلا خلف المقضية لا في صورة الظهر خلف العصر
مثلا.
قوله: "بهذا أمرت" بفتح المثناة على المشهور، والمعنى هذا الذي أمرت به
أن تصليه كل يوم وليلة، وروى بالضم، أي هذا الذي أمرت بتبليغه لك.قوله:
"اعلم" بصيغة الأمر.قوله: "أو إن جبريل" بفتح الهمزة وهي
للاستفهام والواو هي العاطفة والعطف على شيء مقدر وبكسر همزة إن ويجوز الفتح.قوله:
"وقوت الصلاة" كذا للمستملي بصيغة الجمع، وللباقين " وقت الصلاة
" بالإفراد وهو للجنس.قوله: "كذلك كان بشير" هو بفتح الموحدة بعدها
معجمة بوزن فعيل.وهو تابعي جليل ذكر في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله
عليه وسلم ورآه.قال ابن عبد البر: هذا السياق منقطع عند جماعة من العلماء لأن ابن
شهاب لم يقل حضرت مراجعة عروة لعمر، وعروة لم يقل حدثني بشير، لكن الاعتبار عند
الجمهور بثبوت اللقاء والمجالسة لا بالصيغ ا هـ.وقال الكرماني: أعلم أن الحديث
بهذا الطريق ليس متصل الإسناد إذ لم يقل أبو مسعود: شاهدت رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.قلت: هذا لا يسمى منقطعا
اصطلاحا، وإنما هو مرسل صحابي لأنه لم يدرك القصة، فاحتمل أن يكون سمع ذلك من
النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه عنه بتبليغ من شاهده أو سمعه كصحابي آخر.على أن
رواية الليث عند المصنف تزيل الإشكال كله، ولفظه: "فقال عروة: سمعت بشير بن
أبي مسعود يقول: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"فذكر الحديث.
وكذا سياق ابن شهاب، وليس فيه التصريح بسماعه له من عروة، وابن شهاب قد جرب عليه
التدليس، لكن وقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب قال: "كنا مع عمر
بن عبد العزيز"؛ فذكره.
وفي رواية شعيب عن الزهري " سمعت عروة يحدث عمر بن عبد العزيز "
الحديث.قال القرطبي: قول عروة إن جبريل نزل ليس فيه حجة واضحة على عمر بن عبد
العزيز إذ لم يعين له الأوقات.قال: وغاية ما يتوهم عليه أنه نبهه وذكره بما كان
يعرفه من تفاصيل الأوقات.قال: وفيه بعد، لإنكار عمر على عروة حيث قال له "
اعلم ما تحدث يا عروة " قال: وظاهر هذا الإنكار أنه لم يكن عنده علم من إمامة
جبريل.قلت: لا يلزم من كونه لم يكن عنده علم منها أن لا يكون عنده علم بتفاصيل الأوقات
المذكورة من جهة العمل المستمر، لكن لم يكن يعرف أن أصله بتبيين جبريل بالفعل،
فلهذا استثبت فيه، وكأنه كان يرى أن لا مفاضلة بين أجزاء الوقت الواحد، وكذا يحمل
عمل المغيرة وغيره من الصحابة، ولم أقف في شيء من الروايات على جواب المغيرة لأبي
مسعود، والظاهر أنه رجع إليه والله أعلم.وأما ما زاده عبد الرزاق في مصنفه عن معمر
عن الزهري في هذه القصة قال: فلم يزل عمر يعلم الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا،
ورواه أبو الشيخ في " كتاب المواقيت " له من طريق الوليد عن الأوزاعي عن
الزهري قال: "ما زال عمر بن عبد العزيز يتعلم مواقيت الصلاة حتى
مات".ومن طريق إسماعيل بن حكيم " أن عمر بن عبد العزيز جعل ساعات ينقضين
مع غروب الشمس " زاد من طريق ابن إسحاق عن الزهري " فما أخرها حتى مات
" فكله يدل على أن عمر لم يكن يحتاط في الأوقات كثير احتياط إلا بعد أن حدثه
عروة بالحديث المذكور."تنبيه": ورد في هذه القصة من وجه آخر عن الزهري
بيان أبي مسعود للأوقات، وفي ذلك ما يرفع الإشكال، ويوضح توجيه احتجاج عروة به،
فروى أبو داود وغيره، وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق ابن وهب، والطبراني من طريق
يزيد بن أبي حبيب كلاهما عن أسامة بن زيد عن الزهري هذا الحديث بإسناده وزاد في
آخره: "قال أبو مسعود: فرأيت رسول
(2/5)
الله صلى الله عليه
وسلم يصلي الطهر حين تزول الشمس " فذكر الحديث.وذكر أبو داود أن أسامة بن زيد
تفرد بتفسير الأوقات فيه، وأن أصحاب الزهري لم يذكروا ذلك.قال: وكذا رواه هشام بن
عروة وحبيب بن أبي مرزوق عن عروة لم يذكرا تفسيرا ا هـ.ورواية هشام أخرجها سعيد بن
منصور في سننه، ورواية حبيب أخرجها الحارث بن أبي أسامة في مسنده. وقد وجدت ما
يعضد رواية أسامة ويزيد عليها أن البيان من فعل جبريل، وذلك فيما رواه الباغندي في
" مسند عمر بن عبد العزيز " والبيهقي في " السنن الكبرى " من
طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي بكر بن حزم أنه بلغه عن أبي مسعود، فذكره
منقطعا، لكن رواه الطبراني من وجه آخر عن أبي بكر عن عروة، فرجع الحديث إلى عروة،
ووضح أن له أصلا، وأن في رواية مالك ومن تابعه اختصارا، وبذلك جزم ابن عبد البر،
وليس في رواية مالك ومن تابعه ما ينفي الزيادة المذكورة فلا توصف والحالة هذه
بالشذوذ. وفي الحديث من الفوائد: دخول العلماء على الأمراء، وإنكارهم عليهم ما
يخالف السنة، واستثبات العالم فيما يستغربه السامع، والرجوع عند التنازع إلى
السنة. وفيه فضيلة عمر بن عبد العزيز. وفيه فضيلة المبادرة بالصلاة في الوقت
الفاضل. وقبول خبر الواحد الثبت. واستدل به ابن بطال وغيره على أن الحجة بالمتصل
دون المنقطع لأن عروة أجاب عن استفهام عمر له لما أن أرسل الحديث بذكر من حدثه به
فرجع إليه، فكأن عمر قال له: تأمل ما تقول، فلعله بلغك عن غير ثبت. فكأن عروة قال له:
بل قد سمعته ممن قد سمع صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصاحب قد سمعه من
النبي صلى الله عليه وسلم. واستدل به عياض على جواز الاحتجاج بمرسل الثقة كصنيع
عروة حين احتج على عمر قال: وإنما راجعه عمر لتثبته فيه لا لكونه لم يرض به مرسلا.
كذا قال، وظاهر السياق يشهد لما قال ابن بطال. وقال ابن بطال أيضا: في هذا الحديث
دليل على ضعف الحديث الوارد في أن جبريل أم بالنبي صلى الله عليه وسلم في يومين
لوقتين مختلفين لكل صلاة، قال: لأنه لو كان صحيحا لم ينكر عروة على عمر صلاته في
آخر الوقت محتجا بصلاة جبريل، مع أن جبريل قد صلى في اليوم الثاني في آخر الوقت
وقال: "الوقت ما بين هذين " وأجيب باحتمال أن تكون صلاة عمر كانت خرجت
عن وقت الاختيار وهو مصير ظل الشيء مثليه، لا عن وقت الجواز وهو مغيب الشمس، فيتجه
إنكار عروة، ولا يلزم منه ضعف الحديث. أو يكون عروة أنكر مخالفة ما واظب عليه
النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصلاة في أول الوقت ورأى أن الصلاة بعد ذلك إنما هي
لبيان الجواز، فلا يلزم منه ضعف الحديث أيضا. وقد روى سعيد بن منصور من طريق طلق
بن حبيب مرسلا قال: "إن الرجل ليصلي الصلاة وما فاتته، ولما فاته من وقتها
خير له من أهله وماله " ورواه أيضا عن ابن عمر من قوله، ويؤيد ذلك احتجاج
عروة بحديث عائشة في كونه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها،
وهي الصلاة التي وقع الإنكار بسببها، وبذلك تظهر مناسبة ذكره لحديث عائشة بعد حديث
أبي مسعود، لأن حديث عائشة يشعر بمواظبته على صلاة العصر في أول الوقت، وحديث أبي
مسعود يشعر بأن أصل بيان الأوقات كان بتعليم جبريل.
522- قال عروة: ولقدحدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر
والشمس في حجرتها قبل أن تظهر
[الحديث 522 – أطرافه في: 3103,546,545,544]
(2/6)
قوله: "قال عروة: ولقد حدثتني عائشة" قال الكرماني: هو إما مقول ابن شهاب أو تعليق من البخاري. قلت: الاحتمال الثاني - على بعده - مغاير للواقع كما سيظهر في " باب وقت العصر " قريبا. فقد ذكره مسندا عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، فهو مقوله وليس بتعليق، وسنذكر الكلام على فوائده هناك إن شاء الله تعالى.
(2/7)
باب (منيبين إليه
واتقوه وأقيموا الصلاة ... الآية)
...
2 - باب: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الروم 31]
523- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّادٌ هُوَ ابْنُ
عَبَّادٍ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ
الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا
إِنَّا مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ وَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي
الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَمُرْنَا بِشَيْءٍ نَأْخُذْهُ عَنْكَ وَنَدْعُو إِلَيْهِ
مَنْ وَرَاءَنَا فَقَالَ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ
الإِيمَانِ بِاللَّهِ ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ
وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَى عَنْ الدُّبَّاءِ
وَالْحَنْتَمِ وَالْمُقَيَّرِ وَالنَّقِيرِ "
[انظر الحديث 53 وأطرافه ]
قوله: "باب منيبين إليه" كذا عند أبي ذر بتنوين باب، ولغيره: "باب
قوله تعالى " بالإضافة.
والمنيب التائب، من الإنابة وهي الرجوع. وهذه الآية مما استدل به من يرى تكفير
تارك الصلاة لما يقتضيه مفهومها، وأجيب بأن المراد أن ترك الصلاة من أفعال
المشركين فورد النهي عن التشبه بهم، لا أن من وافقهم في الترك صار مشركا. وهي من
أعظم ما ورد في القرآن في فضل الصلاة. ومناسبتها لحديث وفد عبد القيس أن في الآية
اقتران نفي الشرك بإقامة الصلاة، وفي الحديث اقتران إثبات التوحيد بإقامتها، وقد
تقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الإيمان. وقوله في هذه الرواية: "حدثنا عباد
وهو ابن عباد " كذا لأبي ذر، وسقطت الواو لغيره، وهو ممن وافق اسمه اسم أبيه،
واسم جده حبيب بن المهلب بن أبي صفرة. وقوله: "إنا من هذا الحي " هو
بالنصب على الاختصاص، والله أعلم.
(2/7)
باب البيعة على
إقامة الصلاة
...
3 - باب الْبَيْعَةِ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ
524- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
إِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ
[انظر الحديث 57 وأطرافه]
قوله: "باب البيعة على إقام الصلاة" وفي رواية كريمة:
"إقامة"، والمراد بالبيعة المبايعة على الإسلام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يشترط بعد التوحيد إقامة الصلاة لأنها رأس
العبادات البدنية، ثم أداء الزكاة لأنها رأس العبادات المالية، ثم يعلم كل قوم ما
حاجتهم إليه أمس، فبايع جريرا على النصيحة لأنه كان سيد قومه فأرشده إلى تعليمهم
بأمره بالنصيحة لهم، وبايع وفد عبد القيس على أداء الخمس لكونهم كانوا أهل محاربة
من يليهم من كفار مضر، وقد تقدم الكلام على حديث جرير أيضا مستوفى في آخر كتاب
الإيمان. و " يحيى " في الإسناد أيضا هو القطان، وإسماعيل هو ابن أبي
خالد، وقيس هو ابن أبي حازم.
(2/7)
4 - باب الصَّلاَةُ
كَفَّارَةٌ
525- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ الأَعْمَشِ قَالَ
حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ قَالَ: " كُنَّا جُلُوسًا
عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ قُلْتُ أَنَا كَمَا
قَالَهُ قَالَ إِنَّكَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ قُلْتُ فِتْنَةُ
الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ
وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ قَالَ لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ
وَلَكِنْ الْفِتْنَةُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ قَالَ لَيْسَ عَلَيْكَ
مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا
مُغْلَقًا قَالَ أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ قَالَ يُكْسَرُ قَالَ إِذًا لاَ
يُغْلَقَ أَبَدًا قُلْنَا أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ قَالَ نَعَمْ كَمَا
أَنَّ دُونَ الْغَدِ اللَّيْلَةَ إِنِّي حَدَّثْتُهُ بِحَدِيثٍ لَيْسَ
بِالأَغَالِيطِ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا
فَسَأَلَهُ فَقَالَ الْبَابُ عُمَرُ"
[الحديث 525 – أطرافه في: 7096,3586,1895,1435]
قوله: "باب الصلاة كفارة" كذا للأكثر، وللمستملي: "باب تكفير الصلاة".
قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان، وشقيق هو ابن سلمة أبو وائل. قوله:
"في الفتنة" للمستملي: "حدثني حذيفة". قوله: "في
الفتنة" فيه دليل على جواز إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص. إذ تبين أنه لم
يسأل إلا عن فتنة مخصوصة. ومعنى الفتنة في الأصل الاختبار والامتحان، ثم استعملت
في كل أمر يكشفه الامتحان عن سوء. وتطلق على الكفر، والغلو في التأويل البعيد،
وعلى الفضيحة والبلية والعذاب والقتال والتحول من الحسن إلى القبيح والميل إلى
الشيء والإعجاب به، وتكون في الخير والشر كقوله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير
فتنة} . قوله: "أنا كما قاله" أي أنا أحفظ ما قاله، والكاف زائدة
للتأكيد، أو هي بمعنى على. ويحتمل أن يراد بها المثلية، أي أقول مثل ما قاله.
قوله: "عليه" أي على النبي صلى الله عليه وسلم "أو عليها" أي
على المقالة، والشك من أحد رواته. قوله: "الأمر والنهي" أي الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر كما صرح به في الزكاة. قوله: "قلنا" هو مقول
شقيق. و قوله: "إني حدثته" هو مقول حذيفة. و "الأغاليط" جمع
أغلوطة. و قوله: "فهبنا" أي خفنا، وهو مقول شقيق أيضا. و قوله:
"الباب عمر" لا يغاير قوله قبل ذلك "إن بينه وبين الفتنة
بابا" لأن المراد بقوله بينك وبينها، أي بين زمانك وبين زمان الفتنة وجود
حياتك، وسيأتي الكلام على بقية فوائد هذا الحديث في علامات النبوة إن شاء الله
تعالى.
526- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ
سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَقِمْ
الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِي هَذَا قَالَ لِجَمِيعِ
أُمَّتِي كُلِّهِمْ قوله: "أن رجلا" هو أبو اليسر بفتح التحتانية
والمهملة الأنصاري، رواه الترمذي وقيل غيره، ولم أقف على اسم المرأة المذكورة،
ولكن جاء في بعض الأحاديث أنها من الأنصار. قوله: "لجميع أمتي كلهم" فيه
مبالغة في التأكيد وسقط " كلهم " من رواية المستملي، وسيأتي الكلام على
بقية فوائد هذا الحديث في آخر تفسير سورة
(2/8)
هود إن شاء الله تعالى. واحتج المرجئة بظاهره وظاهر الذي قبله على أن أفعال الخير مكفرة للكبائر والصغائر، وحمله جمهور أهل السنة على الصغائر عملا بحمل المطلق على المقيد كما سيأتي بسطه هناك إن شاء الله تعالى.
(2/9)
5 - باب فَضْلِ
الصَّلاَةِ لِوَقْتِهَا
527- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْعَيْزَارِ أَخْبَرَنِي قَالَ سَمِعْتُ أَبَا
عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ يَقُولُ حَدَّثَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ وَأَشَارَ
إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الصَّلاَةُ عَلَى
وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ
قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوْ
اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي "
[الحديث 527- أطرافه في : 7534,5970,2782]
قوله: "باب فضل الصلاة لوقتها" كذا ترجم، وأورده بلفظ: "على وقتها
" وهي رواية شعبة وأكثر الرواة، نعم أخرجه في التوحيد من وجه آخر بلفظ
الترجمة، وكذا أخرجه مسلم باللفظين. قوله: "قال الوليد بن العيزار
أخبرني" هو على التقديم والتأخير. قوله: "حدثنا صاحب هذه الدار"
كذا رواه شعبة مبهما، ورواه مالك بن مغول عند المصنف في الجهاد وأبو إسحاق
الشيباني في التوحيد عن الوليد فصرحا باسم عبد الله، وكذا رواه النسائي من طريق
أبي معاوية النخعي عن أبي عمرو الشيباني وأحمد من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن
مسعود عن أبيه. قوله: "وأشار بيده" فيه الاكتفاء بالإشارة المفهمة عن
التصريح، وعبد الله هو ابن مسعود. قوله: "أي العمل أحب إلى الله" في
رواية مالك بن مغول " أي العمل أفضل " وكذا لأكثر الرواة، فإن كان هذا
اللفظ هو المسئول به فلفظ حديث الباب ملزوم عنه.
ومحصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل
الأعمال أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون
إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات
بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل
الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن من أدائها، وقد تضافرت النصوص على أن
الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل، أو أن
" أفضل " ليست على بابها بل المراد بها الفضل المطلق، أو المراد من أفضل
الأعمال فحذفت من وهي مرادة. وقال ابن دقيق العيد: الأعمال في هذا الحديث محمولة
على البدنية، وأراد بذلك الاحتراز عن الإيمان لأنه من أعمال القلوب، فلا تعارض
حينئذ بينه وبين حديث أبي هريرة " أفضل الأعمال إيمان بالله " الحديث.
وقال غيره: المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين، لأنه يتوقف على إذن الوالدين
فيكون برهما مقدما عليه. قوله: "الصلاة على وقتها" قال ابن بطال فيه أن
البدار إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضل من التراخي فيها لأنه إنما شرط فيها أن
تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب. قلت: وفي أخذ ذلك من اللفظ المذكور
نظر، قال ابن دقيق العيد: ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أولا ولا آخرا، وكأن المقصود
به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء. وتعقب بأن إخراجها عن وقتها محرم، ولفظ: "أحب
" يقتضي المشاركة في الاستحباب فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت.
وأجيب بأن المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الأعمال، فإن وقعت
الصلاة في وقتها كانت
(2/9)
أحب إلى الله من
غيرها من الأعمال؛ فوقع الاحتراز عما إذا وقعت خارج وقتها من معذور كالنائم
والناسي فإن إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف بالتحريم ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال
مع كونه محبوبا، لكن إيقاعها في الوقت أحب. "تنبيه": اتفق أصحاب شعبة
على اللفظ المذكور في الباب وهو قوله: "عن وقتها " وخالفهم علي ابن حفص
وهو شيخ صدوق من رجال مسلم فقال: "الصلاة في أول وقتها " أخرجه الحاكم
والدار قطني والبيهقي من طريقه. قال الدار قطني: ما أحسبه حفظه، لأنه كير وتغير
حفظه. قلت: ورواه الحسن بن علي المعمري في " اليوم والليلة " عن أبي
موسى محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة كذلك , قال الدار قطني: تفرد به المعمري، فقد
رواه أصحاب أبي موسى عنه بلفظ: "على وقتها " ثم أخرجه الدار قطني عن
المحاملي عن أبي موسى كرواية الجماعة، وهكذا رواه أصحاب غندر عنه، والظاهر أن
المعمري وهم فيه لأنه كان يحدث من حفظه، وقد أطلق النووي في " شرح المهذب
" أن رواية: "في أول وقتها " ضعيفة ا هـ، لكن لها طريق أخرى أخرجها
ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وغيرهما من طريق عثمان عن عمر عن مالك بن مغول عن
الوليد، وتفرد عثمان بذلك، والمعروف عن مالك بن مغول كرواية الجماعة، كذا أخرجه
المصنف وغيره، وكأن من رواها كذلك ظن أن المعنى واحد، ويمكن أن يكون أخذه من لفظة
" على " لأنها تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت فيتعين أوله، قال القرطبي
وغيره: قوله: "لوقتها " اللام للاستقبال مثل قوله تعالى:
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي مستقبلات عدتهن، وقيل للابتداء كقوله تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقيل بمعنى في، أي في وقتها. وقوله:
"على وقتها " قيل على بمعنى اللام ففيه ما تقدم، وقيل لإرادة الاستعلاء
على الوقت، وفائدته تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه. قوله: "ثم أي"
قيل: الصواب أنه غير منون لأنه غير موقوف عليه في الكلام، والسائل ينتظر الجواب،
والتنوين لا يوقف عليه فتنوينه ووصله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفة لطيفة ثم يؤتي
بما بعده قاله الفاكهاني. وحكى ابن الجوزي عن ابن الخشاب الجزم بتنوينه لأنه معرب
غير مضاف، وتعقب بأنه مضاف تقديرا والمضاف إليه محذوف لفظا، والتقدير: ثم أي العمل
أحب؟ فيوقف عليه بلا تنوين. وقد نص سيبوبه على أنها تعرب ولكنها تبنى إذا أضيفت،
واستشكله الزجاج. قوله: "قال بر الوالدين" كذا للأكثر، وللمستملي: "قال
ثم بر الوالدين " بزيادة ثم، قال بعضهم: هذا الحديث موافق لقوله تعالى: {أَنِ
اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} وكأنه أخذه من تفسير ابن عيينة حيث قال: من صلى
الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه عقبها فقد شكر لهما.
قوله: "حدثني بهن" هو مقول عبد الله بن مسعود، وفيه تقرير وتأكيد لما
تقدم من أنه باشر السؤال وسمع الجواب. قوله: "ولو استزدته" يحتمل أن
يريد من هذا النوع وهو مراتب أفضل الأعمال، ويحتمل أن يريد من مطلق المسائل
المحتاج إليها، وزاد الترمذي من طريق المسعودي عن الوليد " فسكت عني رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني " فكأنه استشعر منه مشقة، ويؤيده
ما في رواية لمسلم: "فما تركت أن أستزيده إلا إرعاء عليه " أي شفقة عليه
لئلا يسأم. وفي الحديث فضل تعظيم الوالدين، وأن أعمال البر يفضل بعضها على بعض.
وفيه السؤال عن مسائل شتى في وقت واحد، والرفق بالعالم، والتوقف عن الإكثار عليه
خشية ملاله، وما كان عليه الصحابة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والشفقة
عليه، وما كان هو عليه من إرشاد المسترشدين ولو شق عليه. وفيه أن الإشارة تتنزل
منزلة التصريح إذا كانت معينة للمشار إليه مميز له عن غيره. قال ابن بزيزة: الذي
يقتضيه النظر تقديم الجهاد على جميع أعمال البدن. لأن
(2/10)
فيه بذل النفس، إلا أن الصبر على المحافظة على الصلوات وأدائها في أوقاتها والمحافظة على بر الوالدين أمر لازم متكرر دائم لا يصبر على مراقبة أمر الله فيه إلا الصديقون، والله أعلم.
(2/11)
6 - باب
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَةٌ
528- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ
وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ يَعْنِي ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ
يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ
قَالُوا لاَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا قَالَ فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا"
قوله: "باب" بالتنوين "الصلوات الخمس كفارة" كذا ثبت في أكثر
الروايات، وهي أخص من الترجمة السابقة على التي قبلها. وسقطت الترجمة من بعض
الروايات، وعليه مشى ابن بطال ومن تبعه، وزاد الكشميهني بعد قوله: "كفارة
للخطايا إذا صلاهن لوقتهن في الجماعة وغيرها". قوله: "ابن أبي حازم
والدراوردي" كل منهما يسمى عبد العزيز، وهما مدنيان، وكذا بقية رجال الإسناد.
قوله: "عن يزيد بن عبد الله" أي ابن أبي أسامة بن الهاد الليثي، وهو
تابعي صغير، ولم أر هذا الحديث بهذا الإسناد إلا من طريقه. وأخرجه مسلم أيضا من
طريق الليث بن سعد وبكر بن مضر كلاهما عنه. نعم روى من طريق الأعمش عن أبي صالح عن
أبي هريرة، أخرجه البيهقي في الشعب من طريق محمد بن عبيد عنه، لكنه شاذ لأن أصحاب
الأعمش إنما رووه عنه عن أبي سفيان عن جابر، وهو عند مسلم أيضا من هذا الوجه.
قوله: "عن محمد بن إبراهيم" هو التيمي راوي حديث الأعمال، وهو من
التابعين أيضا، ففي الإسناد ثلاثة تابعيون على نسق، قوله: "أرأيتم" هو
استفهام تقرير متعلق بالاستخبار، أي أخبروني هل يبقى.
قوله: "لو أن نهرا" قال الطيبي: لفظ: "لو " يقتضي أن يدخل على
الفعل وأن يجاب، لكنه وضع الاستفهام موضعه تأكيدا وتقريرا، والتقدير لو ثبت نهر
صفته كذا لما بقي كذا، والنهر بفتح الهاء وسكونها ما بين جنبي الوادي، سمي بذلك
لسعته، وكذلك سمي النهار لسعة ضوئه. قوله: "ما تقول" كذا في النسخ
المعتمدة بإفراد المخاطب، والمعنى ما تقول يا أيها السامع؟ ولأبي نعيم في المستخرج
على مسلم وكذا للإسماعيلي والجوزقي " ما تقولون " بصيغة الجمع، والإشارة
في ذلك إلى الاغتسال، قال ابن مالك: فيه شاهد على إجراء فعل القول مجرى فعل الظن،
وشرطه أن يكون مضارعا مسندا إلى المخاطب متصلا باستفهام. قوله: "يبقى"
بضم أوله على الفاعلية. قوله: "من درنه" زاد مسلم: "شيئا "
والدرن الوسخ، وقد يطلق الدرن على الحب الصغار التي تحصل في بعض الأجساد، ويأتي
البحث في ذلك.
قوله: "قالوا لا يبقى" بضم أوله أيضا، و "شيئا" منصوب على
المفعولية. ولمسلم: "لا يبقى " بفتح أوله و " شيء " بالرفع،
والفاء في قوله: "فذلك " جواب شيء محذوف، أي إذا تقرر ذلك عندكم فهو مثل
الصلوات الخ. وفائدة التمثيل التأكيد، وجعل المعقول كالمحسوس. قال الطيبي: في هذا
الحديث مبالغة في نفي الذنوب لأنهم لم يقتصروا في الجواب على " لا "
أعادوا اللفظ تأكيدا. وقال ابن العربي: وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار
المحسوسة في بدنه وثيابه ويطهره الماء الكثير فكذلك الصلوات تطهر العبد عن أقذار
(2/11)
الذنوب حتى لا تبقى
له ذنبا إلا أسقطته، انتهى. وظاهره أن المراد بالخطايا في الحديث ما هو أعم من الصغيرة
والكبيرة، لكن قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث أن المراد الصغائر خاصة، لأنه شبه
الخطايا بالدرن والدرن صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه من القروح والخراجات،
انتهى. وهو مبني على أن المراد بالدرن في الحديث الحب، والظاهر أن المراد به
الوسخ، لأنه هو الذي يناسبه الاغتسال والتنظف. وقد جاء من حديث أبي سعيد الخدري
التصريح بذلك، وهو فيما أخرجه البرار والطبراني بإسناد لا بأس به من طريق عطاء بن
يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"أرأيت لو أن رجلا كان له معتمل، وبين منزله ومعتمله خمسة أنهار، فإذا انطلق
إلى معتمله عمل ما شاء الله فأصابه وسخ أو عرق، فكلما مر بنهر اغتسل منه "
الحديث. ولهذا قال القرطبي: ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع
الذنوب، وهو مشكل، لكن روى مسلم قبله حديث العلاء عن أبي هريرة مرفوعا: "الصلوات
الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر " فعلى هذا المقيد يحمل ما أطلق في
غيره. "فائدة": قال ابن بزيزة في " شرح الأحكام ": يتوجه على
حديث العلاء إشكال يصعب التخلص منه، وذلك أن الصغائر بنص القرآن مكفرة باجتناب
الكبائر، وإذا كان كذلك فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ انتهى. وقد أجاب عنه شيخنا
الإمام البلقيني بأن السؤال غير وارد، لأن مراد الله "أن تجتنبوا" أي في
جميع العمر، ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت،
والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها - أي في يومها - إذا اجتنبت الكبائر
في ذلك اليوم، فعلى هذا لا تعارض بين الآية والحديث، انتهى. وعلى تقدير ورود
السؤال فالتخلص منه بحمد الله سهل، وذلك أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل
الصلوات الخمس، فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبا للكبائر، لأن تركها من الكبائر فوقف
التكفير على فعلها، والله أعلم. وقد فصل شيخنا الإمام البلقيني أحوال الإنسان
بالنسبة إلى ما يصدر منه من صغيرة وكبيرة، فقال: تنحصر في خمسة، أحدها: أن لا يصدر
منه شيء البتة، فهذا يعاوض برفع الدرجات. ثانيها: يأتي بصغائر بلا إصرار، فهذا
تكفر عنه جزما.
ثالثها: مثله لكن مع الإصرار فلا تكفر إذا قلنا إن الإصرار على الصغائر كبيرة.
رابعها: أن يأتي بكبيرة واحدة وصغائر. خامسها: أن يأتي بكبائر وصغائر، وهذا فيه
نظر يحتمل إذا لم يجتنب الكبائر أن لا تكفر الكبائر بل تكفر الصغائر، ويحتمل أن لا
تكفر شيئا أصلا، والثاني أرجح لأن مفهوم المخالفة إذا لم تتعين جهته لا يعمل به،
فهنا لا تكفر شيئا إما لاختلاط الكبائر والصغائر أو لتمحض الكبائر أو تكفر الصغائر
فلم تتعين جهة مفهوم المخالفة لدورانه بين الفصلين فلا يعمل به، ويؤيده أن مقتضى
تجنب الكبائر أن هناك كبائر، ومقتضى " ما اجتنبت الكبائر " أن لا كبائر
فيصان الحديث عنه. "تنبيه": لم أر في شيء من طرقه عند أحد من الأئمة
الستة وأحمد بلفظ: "ما تقول " إلا عند البخاري وليس هو عند أبي داود
أصلا وهو عند ابن ماجه من حديث عثمان لا من حديث أبي هريرة، ولفظ مسلم:
"أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل كان يبقى من
درنه شيء " وعلى لفظه اقتصر عبد الحق في الجمع بين الصحيحين وكذا الحميدي،
ووقع في كلام بعض المتأخرين بعد أن ساقه بلفظ: "ما تقولون " أنه في
الصحيحين والسنن الأربعة، وكأنه أراد أصل الحديث، لكن يرد عليه أنه ليس عند أبي
داود أصلا ولا ابن ماجه من حديث أبي هريرة. ووقع في بعض النسخ المتأخرة من البخاري
بالياء التحتانية آخر الحروف " من يقول: "فزعم بعض أهل العصر أنه غلط
وأنه لا
(2/12)
يصح من حيث المعنى، واعتمد على ما ذكره ابن مالك مما قدمته وأخطأ في ذلك، بل له وجه وجيه، والتقدير ما يقول أحدكم في ذلك. والشرط الذي ذكره ابن مالك وغيره من النحاة إنما هو لإجراء فعل القول مجرى فعل الظن كما تقدم، وأما إذا ترك القول على حقيقته فلا، وهذا ظاهر، وإنما نبهت عليه لئلا يغتر به.
(2/13)
باب تصييع الصلاة
عن وقتها
...
7 - باب تَضْيِيعِ الصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا
529- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ عَنْ
غَيْلاَنَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ الصَّلاَةُ قَالَ أَلَيْسَ
صنعتم مَا صنعتم فِيهَا؟
530- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
وَاصِلٍ أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ أَخِي
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ
دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي فَقُلْتُ مَا
يُبْكِيكَ فَقَالَ لاَ أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلاَّ هَذِهِ
الصَّلاَةَ وَهَذِهِ الصَّلاَةُ قَدْ ضُيِّعَتْ
وَقَالَ بَكْرُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ أَخْبَرَنَا
عُثْمَانُ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ نَحْوَهُ
قوله: "باب في تضييع الصلاة عن وقتها" ثبتت هذه الترجمة في رواية الحموي
والكشميهني وسقطت للباقين.
قوله: "مهدي" هو ابن ميمون، وغيلان هو ابن جرير، والإسناد كله بصريون.
قوله: "قيل الصلاة" أي قيل له الصلاة هي شيء مما كان على عهده صلى الله
عليه وسلم وهي باقية فكيف يصح هذا السلب العام؟ فأجاب بأنهم غيروها أيضا بأن
أخرجوها عن الوقت، وهذا الذي قال لأنس ذلل يقال له أبو رافع، بينه أحمد بن حنبل في
روايته لهذا الحديث عن روح عن عثمان بن سعد عن أنس فذكر نحوه، " فقال أبو
رافع: يا أبا حمزة ولا الصلاة؟ فقال له أنس: قد علمتم ما صنع الحجاج في
الصلاة". قوله: "صنعتم" بالمهملتين والنون للأكثر، وللكشميهني
بالمعجمة وتشديد الياء، وهو أوضح في مطابقة الترجمة، ويؤيد الأول ما ذكرته آنفا من
رواية عثمان بن سعد وما رواه الترمذي من طريق أبي عمران الجوني عن أنس فذكر نحو
هذا الحديث وقال في آخره: "أو لم يصنعوا في الصلاة ما قد علمتم "؟ وروى
ابن سعد في الطبقات سبب قول أنس هذا القول، فأخرج في ترجمة أنس من طريق عبد الرحمن
بن العريان الحارثي سمعت ثابتا البناني قال: كنا مع أنس بن مالك، فأخر الحجاج
الصلاة، فقام أنس يريد أن يكلمه، فنهاه إخوانه شفقة عليه منه، فخرج فركب دابته
فقال في مسيره ذلك " والله ما أعرف شيئا مما كنا عليه على عهد النبي صلى الله
عليه وسلم إلا شهادة أن لا إله إلا الله " فقال رجل: فالصلاة يا أبا حمزة؟
قال: "قد جعلتم الظهر عند المغرب، أفتلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ " وأخرجه ابن أبي عمر في مسنده من طريق حماد عن ثابت مختصرا. قوله:
"عن عثمان بن أبي رواد" هو خراساني سكن البصرة واسم أبيه ميمون. قوله:
"أخو عبد العزيز" أي هو أخو عبد العزيز، وللكشميهني أخي عبد العزيز وهو
بدل من قوله عثمان. قوله: "بدمشق" كان قدوم أنس دمشق في إمارة الحجاج
على العراق، قدمها شاكيا من الحجاج للخليفة، وهو إذ ذاك الوليد بن عبد الملك.
قوله: "مما أدركت" أي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله:
"إلا هذه الصلاة" بالنصب، والمراد أنه لا يعرف شيئا موجودا من الطاعات
معمولا به
(2/13)
على وجهه غير
الصلاة. قوله: "وهذه الصلاة قد ضيعت" قال المهلب: والمراد بتضييعها
تأخيرها عن وقتها المستحب لا أنهم أخرجوها عن الوقت، كذا قال، وتبعه جماعة، وهو مع
عدم مطابقته للترجمة مخالف للواقع، فقد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا
يؤخرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة، منها ما رواه عبد الرزاق عن ابن
جريج عن عطاء قال: أخر الوليد الجمعة حتى أمسى " فجئت فصليت الظهر قبل أن
أجلس ثم صليت العصر وأنا جالس إيماء وهو يخطب. وإنما فعل ذلك عطاء خوفا على نفسه
من القتل. ومنها ما رواه أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة من طريق أبي بكر
عتبة قال: صليت إلى جنب أبي جحيفة فمسى الحجاج بالصلاة، فقام أبو جحيفة فصلى. ومن
طريق ابن عمر أنه كان يصلي مع الحجاج، فلما أخر الصلاة ترك أن يشهدها معه. ومن
طريق محمد بن أبي إسماعيل قال: كنت بمنى وصحف تقرأ للوليد فأخروا الصلاة، فنظرت
إلى سعيد بن جبير وعطاء يومئان إيماء وهما قاعدان. قوله: "وقال بكر بن
خلف" هو البصري نزيل مكة، وليس له في الجامع إلا هذا الموضع. وقد وصله
الإسماعيلي قال: أخبرنا محمود بن محمد الواسطي قال أخبرنا أبو بشر بكر بن خلف.
قوله: "نحوه" سياقه عند الإسماعيلي موافق للذي قبله، إلا أنه زاد فيه:
"وهو وحده " وقال فيه: "لا أعرف شيئا مما كنا عليه في عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "والباقي سواء.
"تنبيه": إطلاق أنس محمول على ما شاهده من أمراء الشام والبصرة خاصة،
وإلا فسيأتي في هذا الكتاب أنه قدم المدينة فقال: "ما أنكرت شيئا إلا أنكم لا
تقيمون الصفوف " والسبب فيه أنه قدم المدينة وعمر عبد العزيز أميرها حينئذ،
وكان على طريقة هل بيته حتى أخبره عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه بالنص على
الأوقات، فكان يحافظ بعد ذلك على عدم إخراج الصلاة عن وقتها كما تقدم بيانه في
أوائل الصلاة. ومع ذلك فكان يراعى الأمر معهم فيؤخر الظهر إلى آخر وقتها. وقد أنكر
ذلك أنس أيضا كما في حديث أبي أمامة بن سهل عنه.
(2/14)
8 - باب
الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
531- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ
أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى يُنَاجِي رَبَّهُ فَلاَ يَتْفِلَنَّ عَنْ يَمِينِهِ
وَلَكِنْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى
وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ لاَ يَتْفِلُ قُدَّامَهُ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ
وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ
وَقَالَ شُعْبَةُ لاَ يَبْزُقُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ
عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ
وَقَالَ حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لاَ يَبْزُقْ فِي الْقِبْلَةِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ
تَحْتَ قَدَمِهِ
قوله: "باب المصلي يناجي ربه" تقدم الكلام على حديث هذا الباب في أبواب
المساجد، ومناسبة هذه الترجمة لما قبلها من جهة أن الأحاديث السابقة دلت على مدح
من أوقع الصلاة في وقتها وذم من أخرجها عن وقتها، ومناجاة الرب جل جلاله أرفع
درجات العبد، فأشار المصنف بإيراد ذلك إلى الترغيب في المحافظة على الفرائض في
أوقاتها لتحصيل هذه المنزلة السنية التي يخشى فواتها على من قصر في ذلك. قوله:
"حدثنا هشام" هو ابن أبي عبد الله
(2/14)
9 - باب
الإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ
534,533- حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ حَدَّثَنَا
الأَعْرَجُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَنَافِعٌ
مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا
حَدَّثَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
[الحديث533- طرفه في:536] " إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ
الصَّلاَةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ"
قوله: "باب الإبراد بالظهر في شدة الحر" قدم المصنف باب الإبراد على باب
وقت الظهر لأن لفظ الإبراد يستلزم أن يكون بعد الزوال لا قبله، إذ وقت الإبراد هو
ما إذا انحطت قوة الوهج من حر الظهيرة، فكأنه أشار إلى أول وقت الظهر. أو أشار إلى
حديث جابر بن سمرة قال: "كان بلال يؤذن الظهر إذا دحضت الشمس " أي مالت.
قوله: "حدثنا أيوب" هو ابن سليمان بن بلال كما في رواية أبي ذر، وأبو
بكر هو ابن أبي أويس وهو من أقران أيوب، وسليمان هو ابن بلال والد أيوب، روى أيوب
عنه تارة بواسطة وتارة بلا واسطة. قوله: "حدثنا الأعرج عبد الرحمن
وغيره" هو أبو سلمة بن عبد الرحمن فيما أظن، وقد رواه أبو نعيم في المستخرج
من وجه
(2/15)
آخر عن أيوب بن سليمان فلم يقل فيه: "وغيره". والإسناد كله مدنيون. قوله: "ونافع" هو بالرفع عطفا على الأعرج، وهو من رواية صالح بن كيسان عن نافع، وقد روى ابن ماجه من طريق عبد الرحمن الثقفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بعضه " أبردوا بالظهر " وروى السراج من هذا الوجه بعضه " شدة الحر من فيح جهنم". قوله: "أنهما" أي أبا هريرة وابن عمر "حدثاه" أي حدثا من حدث صالح بن كيسان، ويحتمل أن يكون ضمير أنهما يعود على الأعرج ونافع، أي أن الأعرج ونافعا حدثاه أي صالح بن كيسان عن شيخيهما بذلك. ووقع في رواية الإسماعيلي: "أنهما حدثا " بغير ضمير فلا يحتاج إلى التقدير المذكور. قوله: "إذا اشتد" أصله اشتدد بوزن افتعل من الشدة ثم أدغمت إحدى الدالين في الأخرى، ومفهومه أن الحر إذا لم يشتد لم يشرع الإبراد، وكذا لا يشرع في البرد من باب الأولى. قوله: "فأبردوا" بقطع الهمزة وكسر الراء، أي أخروا إلى أن يبرد الوقت. يقال أبرد إذا دخل في البرد كأظهر إذا دخل في الظهيرة، ومثله في المكان أنجد إذا دخل نجدا، وأتهم إذا دخل تهامة. والأمر بالإبراد أمر استحباب، وقيل أمر إرشاد، وقيل بل هو للوجوب. حكاه عياض وغيره، وغفل الكرماني فنقل الإجماع على عدم الوجوب، نعم قال جمهور أهل العلم يستحب تأخير الظهر في شدة الحر إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج، وخصه بعضهم بالجماعة، فأما المنفرد فالتعجيل في حقه أفضل، وهذا قول أكثر المالكية، والشافعي أيضا لكن خصه بالبلد الحار، وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون مسجدا من بعد، فلو كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في كن فالأفضل في حقهم التعجيل، والمشهور عن أحمد التسوية من غير تخصيص ولا قيد، وهو قول إسحاق والكوفيين وابن المنذر، واستدل له الترمذي بحديث أبي ذر الآتي بعد هذا لأن في روايته أنهم كانوا في سفر، وهي رواية للمصنف أيضا ستأتي قريبا، قال: فلو كان على ما ذهب إليه الشافعي لم يأمر بالإبراد لاجتماعهم في السفر وكانوا لا يحتاجون إلى أن ينتابوا من البعد. قال الترمذي والأول أولى للاتباع. وتعقبه الكرماني بأن العادة في العسكر الكثير تفرقتهم في أطراف المنزل للتخفيف وطلب الرعي فلا نسلم اجتماعهم في تلك الحالة. انتهى. وأيضا فلم تجر عادتهم باتخاذ خباء كبير يجمعهم، بل كانوا يتفرقون في ظلال الشجر، وليس هناك كن يمشون فيه، فليس في سياق الحديث ما يخالف ما قاله الشافعي، وغايته أنه استنبط من النص العام - وهو الأمر بالإبراد - معنى يخصصه، وذلك جائز على الأصح في الأصول، لكنه مبني على أن العلة في. ذلك تأذيهم بالحر في طريقهم، وللمتمسك بعمومه أن يقول: العلة فيه تأذيهم بحر الرمضاء في جباههم حالة السجود، ويؤيده حديث أنس " كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر " رواه أبو عوانة في صحيحه بهذا اللفظ، وأصله في مسلم، وفي حديث أنس أيضا في الصحيحين نحوه وسيأتي قريبا. والجواب عن ذلك أن العلة الأولى أظهر، فإن الإبراد لا يزيل الحر عن الأرض، وذهب بعضهم إلى أن تعجيل الظهر أفضل مطلقا. وقالوا: معنى أبردوا صلوا في أول الوقت أخذا من برد النهار وهو أوله، وهو تأويل بعيد، ويرده قوله: "فإن شدة الحر من فيح جهنم " إذ التعليل بذلك يدل على أن المطلوب التأخير، وحديث أبي ذر الآتي صريح في ذلك حيث قال: "انتظر. انتظر " والحامل لهم على ذلك حديث خباب " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا " أي فلم يزل شكوانا، وهو حديث صحيح رواه مسلم. وتمسكوا أيضا بالأحاديث الدالة على فضيلة أول الوقت، وبأن الصلاة حينئذ أكثر مشقة فتكون أفضل، والجواب عن حديث خباب أنه محمول على أنهم طلبوا تأخيرا
(2/16)
زائدا عن وقت
الإبراد وهو زوال حر الرمضاء ، وذلك قد يستلزم خروج الوقت، فلذلك لم يجبهم، أو هو
منسوخ بأحاديث الإبراد فإنها متأخرة عنه، واستدل له الطحاوي بحديث المغيرة بن شعبة
قال: "كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالهاجرة، ثم قال لنا
أبردوا بالصلاة " الحديث، وهو حديث رجاله ثقات رواه أحمد وابن ماجه وصححه ابن
حبان. ونقل الخلال عن أحمد أنه قال: هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وجمع بعضهم بين الحديثين بأن الإبراد رخصة والتعجيل أفضل، وهو قول من قال
إنه أمر إرشاد، وعكسه بعضهم فقال: الإبراد أفضل. وحديث خباب يدل على الجواز وهو
الصارف للأمر عن الوجوب. كذا قيل وفيه نظر، لأن ظاهره المنع من التأخير. وقيل معنى
قول خباب " فلم يشكنا " أي فلم يحوجنا إلى شكوى بل أذن لنا في الإبراد،
حكي عن ثعلب، ويرده أن في الخبر زيادة رواها ابن المنذر بعد قوله: "فلم يشكنا
" وقال: "إذا زالت الشمس فصلوا " وأحسن الأجوبة كما قال المازري
الأول، والجواب عن أحاديث أول الوقت أنها عامة أو مطلقة، والأمر بالإبراد خاص فهو
مقدم، ولا التفات إلى من قال التعجيل أكثر مشقة فيكون أفضل، لأن الأفضلية لم تنحصر
في الأشق، بل قد يكون الأخف أفضل كما في قصر الصلاة في السفر. قوله:
"بالصلاة" كذا للأكثر، والباء للتعدية، وقيل زائدة. ومعنى أبردوا أخروا
على سبيل التضمين أي أخروا الصلاة. وفي رواية الكشميهني: "عن الصلاة "
فقيل زائدة أيضا أو عن بمعنى الباء، أو هي للمجاوزة أي تجاوزوا وقتها المعتاد إلى
أن تنكسر شدة الحر، والمراد بالصلاة الظهر لأنها الصلاة التي يشتد الحر غالبا في
أول وقتها، وقد جاء صريحا في حديث أبي سعيد كما سيأتي آخر الباب، فلهذا حمل المصنف
في الترجمة المطلق على المقيد والله أعلم.
وقد حمل بعضهم الصلاة على عمومها بناء على أن المفرد المعرف يعم، فقال به أشهب في
العصر. وقال به أحمد في رواية عنه في الشتاء حيث قال: تؤخر في الصيف دون الشتاء،
ولم يقل أحد به في المغرب ولا في الصبح لضيق وقتهما. قوله: "فإن شدة
الحر" تعليل لمشروعية التأخير المذكور، وهل الحكمة فيه دفع المشقة لكونها قد
تسلب الخشوع؟ وهذا أظهر، أو كونها الحالة التي ينتشر فيها العذاب؟ ويؤيده حديث
عمرو بن عبسة عند مسلم حيث قال له " أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس فإنها
ساعة تسجر فيها جهنم " وقد استشكل هذا بأن الصلاة سبب الرحمة ففعلها مظنة لطرد
العذاب. فكيف أمر بتركها؟ وأجاب عنه أبو الفتح اليعمري بأن التعليل إذا جاء من جهة
الشارع وجب قبوله وإن لم يفهم معناه، واستنبط له الزين بن المنير معنى يناسبه
فقال: وقت ظهور أثر الغضب لا ينجع فيه الطلب إلا ممن أذن له فيه، والصلاة لا تنفك
عن كونها طلبا ودعاء فناسب الاقتصار عنها حينئذ. واستدل بحديث الشفاعة حيث اعتذر
الأنبياء كلهم للأمم بأن الله تعالى غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده
مثله، سوى نبينا صلى الله عليه وسلم فلم يعتذر بل طلب لكونه أذن له في ذلك. ويمكن
أن يقال سجر جهنم سبب فيحها وفيحها سبب وجود شدة الحر وهو مظنة المشقة التي هي
مظنة سلب الخشوع فناسب أن لا يصلي فيها. لكن يرد عليه أن سجرها مستمر في جميع
السنة والإبراد مختص بشدة الحر فهما متغايران، فحكمة الإبراد دفع المشقة، وحكمة
الترك وقت سجرها لكونه وقت ظهور أثر الغضب والله أعلم.
قوله: "من فيح جهنم" أي من سعة انتشارها وتنفسها، ومنه مكان أفيح أي
متسع، وهذا كناية عن شدة استعارها، وظاهره أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم
حقيقة، وقيل هو من مجاز التشبيه، أي كأنه نار جهنم في الحر، والأول أولى. ويؤيده
الحديث الآتي: "اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين " وسيأتي البحث
فيه.
(2/17)
535- حَدَّثَنَا
بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
الْمُهَاجِرِ أَبِي الْحَسَنِ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ
أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ
فَقَالَ أَبْرِدْ أَبْرِدْ أَوْ قَالَ انْتَظِرْ انْتَظِرْ وَقَالَ شِدَّةُ
الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ
الصَّلاَةِ حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ
[الحديث535- أطرافه في 3258,629,539]"
قوله: "عن المهاجر أبي الحسن" المهاجر اسم وليس بوصف والألف واللام فيه
للمح الصفة كما في العباس، وسيأتي في الباب الذي بعده بغير ألف ولام. قوله:
"عن أبي ذر" في رواية المصنف في صفة النار من طريق أخرى عن شعبة بهذا
الإسناد " سمعت أبا ذر". قوله: "أذن مؤذن النبي صلى الله عليه
وسلم" هو بلال كما سيأتي قريبا. قوله: "الظهر" بالنصب، أي أذن وقت
الظهر، ورواه الإسماعيلي بلفظ: "أراد أن يؤذن بالظهر " وسيأتي بلفظ
للظهر وهما واضحان. قوله: "فقال أبرد" ظاهره أن الأمر بالإبراد وقع بعد
تقدم الأذان منه، وسيأتي في الباب الذي بعده بلفظ فأراد أن يؤذن للظهر، وظاهره أن
ذلك وقع قبل الأذان فيجمع بينهما على أنه شرع في الأذان فقيل له أبرد فترك، فمعنى
أذن: شرع في الأذان، ومعنى أراد أن يؤذن: أي يتم الأذان، والله أعلم. قوله:
"حتى رأينا فيء التلول" كذا وقع هنا مؤخرا عن قوله: "شدة الحر
الخ"، وفي غير هذه الرواية وقع ذلك عقب قوله: "أبردوا " وهو أوضح
في السياق لأن الغاية متعلقة بالإبراد، وسيأتي في الباب الذي بعده بقية مباحثه إن
شاء الله تعالى
536- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ فَإِنَّ شِدَّةَ
الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ"
537- "وَاشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ
بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي
الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ
مِنْ الزَّمْهَرِيرِ"
[الحديث537- طرفه في: 3260]
538- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا
الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ
فَيْحِ جَهَنَّمَ" تَابَعَهُ سُفْيَانُ وَيَحْيَى وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَعْمَشِ
[الحديث 538 – طرفه في 3259]
قوله: "حفظناه من الزهري" في رواية الإسماعيلي عن جعفر الفريابي عن علي
بن المديني شيخ المصنف فيه بلفظ: "حدثنا الزهري". قوله: "عن سعيد
بن المسيب" كذا رواه أكثر أصحاب سفيان عنه، ورواه أبو العباس السراج عن أبي
قدامة عن سفيان عن الزهري عن سعيد أو أبي سلمة أحدهما أو كلاهما، ورواه أيضا من
طريق شعيب ابن أبي حمزة عن الزهري عن سلمة وحده، والطريقان محفوظان، فقد رواه
الليث وعمرو بن الحارث عند مسلم، ومعمر وابن جريج عند أحمد، وابن أخي الزهري
وأسامة بن زيد عند السراج، ستتهم عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة كلاهما عن أبي
هريرة. قوله: "واشتكت النار" في رواية الإسماعيلي: "قال واشتكت
النار "
(2/18)
وفاعل قال هو النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالإسناد المذكور قبل، ووهم من جعله موقوفا أو معلقا. وقد أفرده أحمد في مسنده عن سفيان، وكذلك السراج من طريق سفيان وغيره، وقد اختلف في هذه الشكوى هل هي بلسان المقال أو بلسان الحال؟ واختار كلا طائفة. وقال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر، والأول أرجح. وقال عياض: إنه الأظهر. وقال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته. قال: وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله فحمله على حقيقته أولى. وقال النووي نحو ذلك ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب. وقال نحو ذلك التوربشتي، ورجح البيضاوي حمله على المجاز فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضا مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها. وقال الزين بن المنير: المختار حمله على الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك، ولأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت، لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن والقبول والتنفس وقصره على اثنين فقط بعيد من المجاز خارج عما ألف من استعماله. قوله: "بنفسين" بفتح الفاء، والنفس معروف وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء. قوله: "نفس في الشتاء ونفس في الصيف" بالجر فيهما على البدل أو البيان، ويجوز الرفع والنصب. قوله: "أشد" يجوز الكسر فيه على البدل، لكنه في روايتنا بالرفع. قال البيضاوي: هو خبر مبتدأ محذوف تقديره فذلك أشد. وقال الطيبي: جعل أشد مبتدأ محذوف الخبر أولى، والتقدير أشد ما تجدون من الحر من ذلك النفس. قلت: يؤيد الأول رواية الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ فهو أشد، ويؤيد الثاني رواية النسائي من وجه آخر بلفظ فأشد ما تجدون من الحر من حر جهنم، وفي سياق المصنف لف ونشر غير مرتب، وهو مرتب في رواية النسائي. والمراد بالزمهرير شدة البرد، واستشكل وجوده في النار، ولا إشكال لأن المراد بالنار محلها وفيها طبقة زمهريرية: وفي الحديث رد على من زعم من المعتزلة وغيرهم أن النار لا تخلق إلا يوم القيامة. "تنبيهان" الأول: قضية التعليل المذكور قد يتوهم منها مشروعية تأخير الصلاة في وقت شدة البرد، ولم يقل به أحد، لأنها تكون غالبا في وقت الصبح فلا تزول إلا بطلوع الشمس، فلو أخرت لخرج الوقت. الثاني: النفس المذكور ينشأ عنه أشد الحر في الصيف، وإنما لم يقتصر في الأمر بالإبراد على أشده لوجود المشقة عند شديده أيضا، فالأشدية تحصل عند التنفس، والشدة مستمرة بعد ذلك فيستمر الإبراد إلى أن تذهب الشدة، والله أعلم. قوله: "بالظهر" قد يحتج به على مشروعية الإبراد للجمعة. وقال به بعض الشافعية، وهو مقتضى صنيع المصنف كما سيأتي في بابه، لكن الجمهور على خلافه كما سيأتي توجيهه إن شاء الله تعالى. قوله: "تابعه سفيان" هو الثوري. قد وصله المؤلف في صفة النار من بدء الخلق ولفظه: "بالصلاة " ولم أره من طريق سفيان بلفظ: "بالظهر " وفي إسناده اختلاف على الثوري رواه عبد الرزاق عنه بهذا الإسناد فقال: "عن أبي هريرة " بدل أبي سعيد أخرجه أحمد عنه، والجوزقي من طريق عبد الرزاق أيضا، ثم روى عن الذهلي قال: هذا الحديث رواه أصحاب الأعمش عنه عن أبي صالح عن أبي سعيد، وهذه الطريق أشهر. ورواه زائدة وهو متقن عنه، فقال: عن أبي هريرة، قال: والطريقان عندي محفوظان، لأن الثوري رواه عن الأعمش بالوجهين. قوله: "ويحيى" هو ابن سعيد القطان. وقد وصله أحمد عنه بلفظ: "بالصلاة " ورواه الإسماعيلي عن أبي يعلى عن المقدمي عن يحيى بلفظ: "بالظهر" . قوله: "وأبو عوانة" لم أقف على من وصله عنه، وقد أخرجه السراج من طريق محمد بن عبيد، والبيهقي من طريق وكيع، كلاهما عن الأعمش أيضا بلفظ: "بالظهر" .
(2/19)
"فائدة": رتب المصنف أحاديث هذا الباب ترتيبا حسنا، فبدأ بالحديث المطلق، وثنى بالحديث الذي فيه الإرشاد إلى غاية الوقت التي ينتهي إليها الإبراد وهو ظهور فيء التلول، وثلث بالحديث الذي فيه بيان العلة في كون ذلك المطلق محمولا على المقيد، وربع بالحديث المفصح بالتقييد. وال