الجمعة، 6 مايو 2022

كتاب 26 و: 27-فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 26 و27..

   كتاب :26  فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 =بالباب قوله: "لمَسْتُم" وهي قراءة الكوفيين حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب، وخالفهم عاصم من الكوفيين فوافق أهل الحجاز فقرءوا {أَوْ لامَسْتُمُ} بالألف ووافقهم أبو عمرو بن العلاء من البصريين. ذكر المصنف حديث عائشة في سبب نزول الآية المذكورة من وجهين، وقد تقدم الكلام عليها مستوفي في كتاب. التيمم، واستدل به على أن قيام الليل لم يكن واجبا عليه صلى الله عليه وسلم، وتعقب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم صلى أول ما نزل ثم نام، وفيه نظر لأن التهجد القيام إلى الصلاة بعد هجعة، ثم يحتمل أنه هجع فلم ينتقض وضوءه لأن قلبه لا ينام، ثم قام فصلى ثم نام، والله أعلم.

باب {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}
...
4- باب {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ}
4609- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ شَهِدْتُ مِنْ الْمِقْدَادِ ح و حَدَّثَنِي حَمْدَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ الْمِقْدَادُ يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} وَلَكِنْ امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ فَكَأَنَّهُ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقٍ أَنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "باب قوله {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} كذا للمستملي، ولغيره: "باب فاذهب إلخ" وأغرب الداودي فقال: مرادهم بقولهم "وربك" أخوه هارون لأنه كان أكبر منه سنا، وتعقبه ابن التين بأنه خلاف قول أهل التفسير كلهم. قوله: "وحدثني حمدان بن عمر" هو أبو جعفر البغدادي واسمه أحمد وحمدان لقبه، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع، وهو من صغار شيوخه وعاش بعد البخاري سنتين، وقد تقدم الكلام على الحديث في غزوة بدر. قوله: "ورواه وكيع عن سفيان إلخ" يريد بذلك أن صورة سياقه أنه مرسل، بخلاف سياق الأشجعي، لكن استظهر المصنف لرواية الأشجعي الموصولة برواية إسرائيل التي ذكرها قبل. وطريق وكيع هذه وصلها أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه، وكذا أخرجها ابن أبي خيثمة من طريقه.
" تنبيه " : وقع قوله: "ورواه وكيع إلخ" مقدما في الباب على بقية ما فيه عند أبي ذر، مؤخرا عند الباقين، وهو أشبه بالصواب.

5- باب {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} إِلَى قَوْلِهِ {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الأَرْضِ} الْمُحَارَبَةُ لِلَّهِ الْكُفْرُ بِهِ
4610- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ أَبُو رَجَاءٍ مَوْلَى أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا خَلْفَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَذَكَرُوا وَذَكَرُوا فَقَالُوا وَقَالُوا قَدْ أَقَادَتْ بِهَا الْخُلَفَاءُ فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي قِلاَبَةَ وَهْوَ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَقَالَ مَا تَقُولُ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ أَوْ قَالَ مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلاَبَةَ قُلْتُ مَا عَلِمْتُ نَفْسًا حَلَّ قَتْلُهَا فِي الإِسْلاَمِ إِلاَّ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا

 6- باب {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
4611- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَسَرَتْ الرُّبَيِّعُ وَهْيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ لاَ وَاللَّهِ لاَ تُكْسَرُ سِنُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ" فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الأَرْشَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لاَبَرَّه"

(8/274)


قوله: "باب قوله {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} كذا للمستملي، ولغيره: "باب والجروح قصاص" وأورد فيه حديث أنس "أن الربيع" أي بالتشديد عمته "كسرت ثنية جارية" وسيأتي شرحه مستوفي في الديات.
" تنبيه " : الفزاري المذكور في هذا الإسناد هو مروان بن معاوية، ووهم من زعم أنه أبو إسحاق ".

(8/275)


باب {يا أيها الرسول بلغ ما أرسل إليك من ربك}
...
7 - باب {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية"
4612- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ وَاللَّهُ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية.
قوله باب {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ذكر فيه طرفا من حديث عائشة من "حدثك أن محمد كتم شيئا مما انزل الله عليه فقد كذب" وسيأتي بتمامه مع كمال شرحه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى

(8/275)


8- باب {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}
4613- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لاَ وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّه"
[الحديث 4613- طرفه في: 6663]
4614- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَبَاهَا كَانَ لاَ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لاَ أَرَى يَمِينًا أُرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ قَبِلْتُ رُخْصَةَ اللَّهِ وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْر"
[الحديث 4616- طرفه في: 6631]
قوله: "باب قوله {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} سقط "باب" قوله: "لغير أبي ذر، وفسرت عائشة لغو اليمين بما يجري على لسان المكلف من غير قصد، وقيل هو الحلف على غلبة الظن، وقيل في الغضب، وقيل في المعصية، وفيه خلاف آخر سيأتي بيانه في الأيمان، والنذور إن شاء الله تعالى. وقولها "لا والله وبلى والله" أي كل واحد منهما إذا قالها لغو، فلو أن رجلا قال الكلمتين معا فالأولى لغو والثانية منعقدة لأنها استدراك مقصودة، قاله الماوردي. قوله: "حدثنا علي بن عبد الله" كذا لأبي ذر عن الكشميهني والحموي، وله عن المستملي: "حدثنا علي بن سلمة" وهي رواية الباقين إلا النسفي فقال: "حدثنا علي" فلم ينسبه. وعلي بن سلمة هذا يقال له اللبقي بفتح اللام والموحدة الخفيفة بعدها قاف خفيفة وهو ثقة من صغار شيوخ البخاري، ولم يقع له عنده ذكر إلا في هذا الموضع وقد نبهت على موضع آخر في الشفعة، ويأتي آخر في الدعوات. قوله: "حدثنا مالك بن سعير" بمهملتين مصغر، ضعفه أبو داود. وقال أبو حاتم وأبو زرعة والدار قطني: صدوق وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الدعوات،

(8/275)


باب {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}
...
9- باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}
4615- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا أَلاَ نَخْتَصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ فَرَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ ثُمَّ قَرَأَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}
[الحديث 4615- طرفه في: 5071، 5075]
قوله: "باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} سقط "باب قوله: "لغير أبي ذر. قوله: "خالد" هو ابن عبد الله الطحان، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وعبد الله هو ابن مسعود. وسيأتي شرح الحديث في كتاب النكاح وفي الترمذي محسنا من حديث ابن عباس "أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت، وإني حرمت علي اللحم فنزلت" وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أنها نزلت في ناس قالوا "نترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض" الحديث. وسيأتي ما يتعلق به أيضا في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى.

(8/276)


10- باب {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الأَزْلاَمُ} الْقِدَاحُ يَقْتَسِمُونَ بِهَا فِي الأُمُورِ وَالنُّصُبُ أَنْصَابٌ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا وَقَالَ غَيْرُهُ الزَّلَمُ الْقِدْحُ لاَ رِيشَ لَهُ وَهُوَ وَاحِدُ الأَزْلاَمِ وَالاسْتِقْسَامُ أَنْ يُجِيلَ الْقِدَاحَ فَإِنْ نَهَتْهُ انْتَهَى وَإِنْ أَمَرَتْهُ فَعَلَ مَا تَأْمُرُهُ بِهِ يُجِيلُ يُدِيرُ وَقَدْ أَعْلَمُوا الْقِدَاحَ أَعْلاَمًا بِضُرُوبٍ يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا وَفَعَلْتُ مِنْهُ قَسَمْتُ وَالْقُسُومُ الْمَصْدَرُ
4616- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ فِي الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا

(8/276)


11- باب {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا -إِلَى قَوْلِهِ - وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
4620- حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه ثم أن الخمر التي أهريقت الفضيخ وزادني محمد عن أبي النعمان قال كنت ساقي القوم أبي طلحة فنزل تحريم الخمر فأمر مناديا فنادى فقال أبو طلحة أخرج فانظر ما هذا الصوت قال فخرجت فقلت هذا منادي ينادي ألا إن الخمر قد حرمت فقال لي اذهب فأهرقها قال فجرت في سكك المدينة قال وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ فقال بعض القوم قتل قوم وهي في بطونهم قال فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} "

(8/278)


قوله: "باب {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية" كذا لأبي ذر، ولغيره: "إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وذكر في حديث أنس" أن الخمر التي هريقت الفضيخ" وسيأتي شرحه الأشربة. وقوله: "وزادني محمد البيكندي عن أبي النعمان" كذا ثبت لأبي ذر وسقط لغيره البيكندي، ومراده أن البيكندي سمعه من شيخهما أبي النعمان بالإسناد المذكور فزاده فيه زيادة. والحاصل أن البخاري سمع الحديث من أبي النعمان مختصرا ومن محمد بن سلام البيكندي عن أبي النعمان مطولا، وتصرف الزركشي فيه غافلا عن زيادة أبي ذر فقال: القائل "وزادني" هو الفربري، ومحمد هو البخاري. وليس كما ظن رحمه الله وإنما هو كما قدمته. قوله: "فنزلت تحريم الخمر فأمر مناديا" الآمر بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمنادي لم أر التصريح باسمه، والوقت الذي وقع ذلك فيه زعم الواحدي أنه عقب قول حمزة "إنما أنتم عبيد لأبي" وحديث جابر يرد عليه. والذي يظهر أن تحريمها كان عام الفتح سنة ثمان، لما روى أحمد من طريق عبد الرحمن بن وعلة قال: "سألت ابن عباس عن بيع الخمر فقال: "كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو دوس فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه، فقال: يا فلان أما علمت أن الله حرمها؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال: بعها. فقال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها " . وأخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي وعلة نحوه، ولكن ليس فيه تعيين الوقت. وروى أحمد من طريق نافع بن كيسان الثقفي عن أبيه "أنه كان يتجر في الخمر، وأنه أقبل من الشام فقال: يا رسول الله إني جئتك بشراب جيد، فقال: يا كيسان إنها حرمت بعدك، قال: فأبيعها؟ قال، إنها حرمت وحرم ثمنها" وروى أحمد وأبو يعلى من حديث تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام رواية خمر، فلما كان عام حرمت جاء براوية فقال: أشعرت أنها قد حرمت بعدك؟ قال: أفلا أبيعها وأنتفع بثمنها؟ فنهاه. ويستفاد من حديث كيسان تسمية المبهم في حديث ابن عباس، ومن حديث تميم تأييد الوقت المذكور فإن إسلام تميم كان بعد الفتح، وقوله: "فقال بعض القوم قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله تعالى إلخ" لم أقف على اسم القائل.
" فائدة " : في رواية الإسماعيلي عن ابن ناجية عن أحمد بن عبيدة ومحمد بن موسى عن حماد في آخر هذا الحديث: "قال حماد فلا أدري هذا في الحديث - أي عن أنس - أو قاله ثابت" أي مرسلا يعني قوله: "فقال بعض القوم" إلى آخر الحديث. وكذا عند مسلم عن أبي الربيع الزهراني عن حماد نحو هذا. وتقدم للمصنف في المظالم عن أنس بطوله من طريق عفان عن حماد كما وقع عنده في هذا الباب فالله أعلم. وأخرجه ابن مردويه من طريق قتادة عن أنس بطوله وفيه الزيادة المذكورة. وروى النسائي والبيهقي من طريق ابن عباس قال: "نزل تحريم الخمر في ناس شربوا، فلما ثملوا وعبثوا، فلما صحوا جعل بعضهم يرى الأثر بوجه الآخر فنزلت، فقال ناس من المكلفين هي رجس وهي في بطن فلان وقد قتل بأحد، فنزلت {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} إلى آخرها. وروى البزار من حديث جابر أن الذين قالوا ذلك كانوا من اليهود، وروى أصحاب السنن من طريق أبي ميسرة عن عمر أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في البقرة {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في النساء {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في المائدة {فَاجْتَنِبُوهُ} - إلى قوله: {مُنْتَهُونَ} فقال عمر: انتهينا انتهينا" وصححه علي بن المديني والترمذي. وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة نحوه دون قصة عمر، لكن قال عند نزول آية البقرة" فقال الناس: ما حرم علينا، فكانوا

(8/279)


يشربون، حتى أم رجل أصحابه في المغرب فخلط في قراءته فنزلت الآية التي في النساء، فكانوا يشربون ولا يقرب الرجل الصلاة حتى يفيق، ثم نزلت آية المائدة فقالوا: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرشهم وكانوا يشربونها، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرم عليهم لتركوه كما تركتموه" وفي مسند الطيالسي من حديث ابن عمر نحوه. وقال: "في الآية الأولى قيل حرمت الخمر، فقالوا دعنا يا رسول الله ننتفع بها، وفي الثانية فقيل حرمت الخمر، فقالوا لا أنا لا نشربها قرب الصلاة. وقال في الثالثة فقالوا يا رسول الله حرمت الخمر" قال ابن التين وغيره: في حديث أنس وجوب قبول خبر الواحد والعمل به في النسخ وغيره، وفيه عدم مشروعية تخليل الخمر، لأنه لو جاز لما أراقوها، وسيأتي مزيد لذلك في الأشربة إن شاء الله تعالى. "تنبيه" : في رواية عبد العزيز بن صهيب "أن رجلا أخبرهم أن الخمر حرمت فقالوا: أرق يا أنس" وفي رواية ثابت عن أنس "أنهم سمعوا المنادي فقال أبو طلحة: أخرج يا أنس فانظر ما هذا الصوت" وظاهرهما التعارض لأن الأول يشعر بأن المنادي بذلك شافههم، والثاني يشعر بأن الذي نقل لهم ذلك غير أنس، فنقل ابن التين عن الداودي أنه قال لا اختلاف بين الروايتين، لأن الآتي أخبر أنسا وأنس أخبر القوم. وتعقبه ابن التين بأن نص الرواية الأولى أن الآتي أخبر القوم مشافهة بذلك. قلت: فيمكن الجمع بوجه آخر، وهو أن المنادي غير الذي أخبرهم، أو أن أنسا لما أخبرهم عن المنادي جاء المنادي أيضا في أثره فشافههم.

(8/280)


12- باب {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
4621- حَدَّثَنَا مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَارُودِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ قَالَ: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً" قَالَ فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ فَقَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِي قَالَ فُلاَنٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} رَوَاهُ النَّضْرُ وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ شُعْبَة"
4622- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً فَيَقُولُ الرَّجُلُ مَنْ أَبِي وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ أَيْنَ نَاقَتِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} حَتَّى فَرَغَ مِنْ الآيَةِ كُلِّهَا"
قوله: "باب قوله {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} سقط" باب قوله: "لغير أبي ذر، وقد تعلق بهذا النهي من كره السؤال عما لم يقع. وقد أسنده الدارمي في مقدمة كتابه عن جماعة من الصحابة والتابعين. وقال ابن العربي: اعتقد قوم من الغافلين منع أسئلة النوازل حتى تقع تعلقا بهذه الآية، وليس كذلك، لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المساءة في جوابه، ومسائل النوازل ليست كذلك. وهو كما قال، إلا أنه أساء في قوله الغافلين على

(8/280)


عادته كما نبه عليه القرطبي. وقد روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رفعه: "أعظم المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" وهذا يبين المراد من الآية، ليس مما أشار إليه ابن العربي في شيء. قوله: "حدثنا منذر بن الوليد بن عبد الرحمن" أي ابن حبيب بن علياء بن حبيب بن الجارود العبدي البصري الجارودي نسبة إلى جده الأعلى، وهو ثقة، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر في كفارات الأيمان، وأبوه ما له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، ولا رأيت عنه راويا إلا ولده، وحديثه هذا في المتابعات، فإن المصنف أورده في الاعتصام من رواية غيره كما سأبينه.
" تنبيه " : وقع في كلام أبي علي الغساني فيما حكاه الكرماني أن البخاري روى هذا الحديث عن محمد غير منسوب عن منذر هذا وأن محمدا المذكور هو ابن يحيى الذهلي، ولم أر ذلك في شيء من الروايات التي عندنا من البخاري، وأظنه وقع في بعض النسخ "حدثنا محمد" غير منسوب والمراد به البخاري المصنف والقائل ذلك الراوي عنه وظنوه شيخا للبخاري، وليس كذلك، والله أعلم. قوله: "عن أنس" في رواية روح بن عبادة عن شعبة في الاعتصام "أخبرني موسى قال سمعت أنس بن مالك يقول" . قوله: "خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال: لو تعلمون ما أعلم" وقع عند مسلم من طريق النضر بن شميل عن شعبة في أوله زيادة يظهر منها سبب الخطبة ولفظه: "بلغ صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء، فخطب فقال: عرضت على الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولن تعلمون ما أعلم" . قوله: "لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، قال فغطى" في رواية النضر بن شميل "قال فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كان أشد من ذلك، غطوا رءوسهم" . قوله: "لهم حنين" بالحاء المهملة للأكثر، وللكشهميني بالخاء المعجمة، والأول الصوت الذي يرتفع بالبكاء من الصدر، والثاني من الأنف. وقال الخطابي: الحنين بكاء دون الانتحاب، وقد يجعلون الحنين والخنين واحدا إلا أن الحنين من الصدر أي المهملة والحنين من الأنف بالمعجمة. وقال عياض 13 قوله: "فقال رجل من أبي؟ قال: أبوك فلان" تقدم في العلم أنه عبد الله بن حذافة. وفي رواية للعسكري "نزلت في قيس بن حذافة" وفي رواية للإسماعيلي يأتي التنبيه عليها في كتاب الفتن "خارجة بن حذافة" والأول أشهر، وكلهم له صحبة، وتقدم فيه أيضا زيادة من حديث أبي موسى وأحدث بشرحه على كتاب الاعتصام، وسيأتي إن شاء الله تعالى، فاقتصر هنا على بيان الاختلاف في سبب نزول الآية. قوله: "فنزلت هذه الآية" هكذا أطلق ولم يقع ذلك في سياق الزهري عن أنس مع أنه أشبع سياقا من رواية موسى بن أنس كما تقدم في أوائل المواقيت، ولذا لم يذكر ذلك هلال بن علي عن أنس كما سيأتي في كتاب الرقاق. ووقع في الفتن من طريق قتادة عن أنس في آخر هذا الحديث بعد أن ساقه مطولا قال: "فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن قتادة عن أنس قال: "سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فصعد المنبر فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به ، فجعلت ألتفت عن يمين وشمال فإذا كان رجل لاف ثوبه برأسه يبكي" الحديث، وفيه قصة عبد الله بن حذافة، وقول عمر روى الطبري من طريق أبي صالح عن أبي هريرة قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: "أين أنا قال: في النار. فقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: حذافة" . فقام عمر - فذكر كلامه وزاد فيه - وبالقرآن إماما، قال فسكن غضبه ونزلت هذه الآية" وهذا شاهد جيد لحديث موسى بن أنس
ـــــــ
1 بياض في الأصل.

(8/281)


المذكور. وأما ما روى الترمذي من حديث علي قال: "لما نزلت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} قالوا: يا رسول الله في كل عام؟ فسكت. ثم قالوا: يا رسول الله في كل عام؟ فقال: لا، ولو قلت نعم لوجبت. فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا} فهذا لا ينافي حديث أبي هريرة لاحتمال أن تكون نزلت في الأمرين، ولعل مراجعتهم له في ذلك هي سبب غضبه. وقد روى أحمد من حديث أبي هريرة والطبري من حديث أبي أمامة نحو حديث على هذا، وكذا أخرجه من وجه ضعيف ومن آخر منقطع عن ابن عباس، وجاء في سبب نزولها قول ثالث وهو ما يدل عليه حديث ابن عباس في الباب عقب هذا وهو أصح إسنادا، لكن لا مانع أن يكون الجميع سبب نزولها والله أعلم. وجاء في سبب نزولها قولان آخران، فأخرج الطبري وسعيد بن منصور من طريق خصيف عن مجاهد عن ابن عباس: أن المراد بالأشياء البحيرة والوصيلة والسائبة والحام. قال فكان عكرمة يقول: إنهم كانوا يسألون عن الآيات، فنهوا عن ذلك. قال: والمراد بالآيات نحو سؤال قريش أن يجعل الصفا لهم ذهبا، وسؤال اليهود أن ينزل عليهم كتابا من السماء ونحو ذلك. أخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الكريم عن عكرمة قال: "نزلت في الذي سأل عن أبيه. وعن سعيد بن جبير في الذين سألوا عن البحيرة وغيرها، وعن مقسم فيما سأل الأمم أنبياءها عن الآيات. قلت: وهذا الذي قاله محتمل، وكذا ما أخرج ابن أبي حاتم من طريق عطية قال: "نهوا أن يسألوا مثل ما سأل النصارى من المائدة فأصبحوا بها كافرين" وقد رجحه الماوردي، وكأنه من حيث المعنى، لوقوع قصة المائدة في السورة بعد ذلك، واستبعد نزولها في قصة من سأل عن أبيه أو عن الحج كل عام، وهو إغفال منه لما في الصحيح، ورجح ابن المنير نزولها في النهي عن كثرة المسائل عما كان وعما لم يكن، واستند إلى كثير مما أورده المصنف في "باب ما يكره من كثرة السؤال" في كتاب الاعتصام وهو متجه، لكن لا مانع أن تتعدد الأسباب، وما في الصحيح أصح. وفي الحديث إيثار الستر على المسلمين، وكراهة التشديد عليهم، وكراهة التنقيب عما لم يقع، وتكلف الأجوبة لمن يقصد بذلك التمرن على التفقه، فالله أعلم. وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. قوله: "رواه النضر" هو ابن شميل "وروح بن عبادة عن شعبة" أي بإسناده، ورواية النضر وصلها مسلم، ورواية روح بن عبادة وصلها المؤلف في كتاب الاعتصام. قوله: "حدثني الفضل بن سهل" هو البغدادي، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع وشيء تقدم الصلاة وأبو النضر هاشم بن القاسم، وأبو خيثمة هو زهير بن معاوية، وأبو الجويرية بالجيم مصغر اسمه حطان بكسر المهملة وتشديد الطاء ابن خفاف بضم المعجمة وفاءين الأولى خفيفة، ثقة ما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في الزكاة ويأتي في الأشربة له ثالث. قوله: "عن ابن عباس" في رواية ابن أبي حاتم من طريق أبي النضر عن أبي خيثمة حدثنا أبو الجويرية سمعت أعرابيا من بني سليم سأله يعني ابن عباس. قوله: "كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء" قد تقدم طريق الجمع بينه وبين الذي قبله، والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم تسأل عنه لكان على الإباحة، وفي أول رواية الطبري من طريق حفص بن نفيل عن أبي خيثمة عن أبي الجويرية" قال ابن عباس: قال أعرابي من بني سليم: هل تدري فيم أنزلت هذه الآية" فذكره ووقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن أبي خيثمة عن أبي الجويرية عن ابن عباس أنه سئل عن الضالة فقال ابن عباس: "من أكل الضالة فهو ضال" .

(8/282)


13- باب {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} يَقُولُ قَالَ اللَّهُ وَإِذْ هَا هُنَا صِلَةٌ الْمَائِدَةُ أَصْلُهَا مَفْعُولَةٌ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ وَالْمَعْنَى مِيدَ بِهَا صَاحِبُهَا مِنْ خَيْرٍ يُقَالُ مَادَنِي يَمِيدُنِي وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُتَوَفِّيكَ مُمِيتُكَ
4623- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلاَ يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لاَ يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ" وَالْوَصِيلَةُ النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الإِبِلِ ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ وَالْحَامِ فَحْلُ الإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَعُوهُ لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفَوْهُ مِنْ الْحَمْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَسَمَّوْهُ الْحَامِيَ و قَالَ لِي أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ سَعِيدًا قَالَ يُخْبِرُهُ بِهَذَا قَالَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ وَرَوَاهُ ابْنُ الْهَادِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
4624- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَرْمَانِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَرَأَيْتُ عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبَهُ وَهْوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِب"
قوله: "باب {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} أي ما حرم، ولم يرد حقيقة الجعل لأن الكل خلقه وتقديره، ولكن المراد بيان ابتداعهم ما صنعوه من ذلك. قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} يقول قال الله، وإذ هاهنا صلة" كذا ثبت هذا وما بعده هنا، وليس بخاص به وهو على ما قدمنا من ترتيب بعض الرواة، وهذا الكلام ذكره أبو عبيدة في قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} قال مجازه يقول الله، وإذ من حروف الزوائد، وكذلك قوله {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ} أي وعلمتك. قوله: "المائدة أصلها مفعولة كعيشة راضية وتطليقة بائنة، والمعنى ميد بها صاحبها من خير يقال مادني يميدني" قال ابن التين: هو قول أبي عبيدة. وقال غيره: هي من ماد يمتد إذا تحرك، وقيل من ماد يمتد إذا أطعم. قال ابن التين: وقوله تطليقة بائنة غير واضح إلا أن يريد أن الزوج أبان المرأة بها، وإلا فالظاهر أنها فرقت بين الزوجين فهي فاعل على بابها. قوله: "وقال ابن عباس: {مُتَوَفِّيكَ} مميتك" هكذا ثبت هذا هنا، وهذه اللفظة إنما هي في سورة آل عمران، فكأن بعض الرواة ظنها من سورة المائدة فكتبها فيها، أو ذكرها المصنف هنا لمناسبة قوله في هذه السورة { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ} ثم ذكر المصنف حديث ابن

(8/283)


شهاب عن سعيد بن المسيب في تفسير البحيرة والسائبة، والاختلاف في وقفه ورفعه. قوله: "البحيرة التي يمنع درها للطواغيت" وهي الأصنام، فلا يحلبها أحد من الناس، والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي التي بحرت أذنها أي حرمت. قال أبو عبيدة: جعلها قوم من الشاة خاصة إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها أي شقوها وتركت فلا يمسها أحد. وقال آخرون: بل البحيرة الناقة كذلك، وخلوا عنها فلم تركب ولم يضربها فحل، وأما قوله: "فلا يحلبها أحد من الناس" فهكذا أطلق نفي الحلب، وكلام أبي عبيدة يدل على أن المنفي إنما هو الشرب الخاص، قال أبو عبيدة: كانوا يحرمون وبرها ولحمها وظهرها ولبنها على النساء ويحلون ذلك للرجال، وما ولدت فهو بمنزلتها، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: البحيرة من الإبل كانت الناقة إذا نتجت خمس بطون فإن كان الخامس ذكرا كان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى بتكت أذنها ثم أرسلت فلم يجزوا لها وبرا ولم يشربوا لها لبنا ولم يركبوا لها ظهرا، وإن تكن ميتة فهم فيه شركاء الرجال والنساء. ونقل أهل اللغة في تفسير البحيرة هيأت أخرى تزيد بما ذكرت على العشر. وهي فعيلة بمعنى مفعولة، والبحر شق الأذن، كان ذلك علامة لها. قوله: "والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء" قال أبو عبيدة: كانت السائبة من جميع الأنعام، وتكون من النذور للأصنام فتسيب فلا تحبس عن مرعى ولا عن ماء ولا يركبها أحد، قال: وقيل السائبة لا تكون إلا من الإبل، كان الرجل ينذر إن برئ من مرضه أو قدم من سفره ليسيبن بعيرا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: السائبة كانوا يسيبون بعض إبلهم فلا تمنع حوضا أن تشرب فيه. قوله: "قال وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت عمر بن عامر الخزاعي إلخ" هكذا وقع في الرواية إيراد القدر المرفوع من الحديث في أثناء الموقوف، وسأبين ما فيه بعد. قوله: "والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى، ثم تثنى بعد بأنثى" هكذا أورده متصلا بالحديث المرفوع، وهو يوهم أنه من جملة المرفوع، وليس كذلك، بل هو بقية تفسير سعيد بن المسيب، والمرفوع من الحديث إنما هو ذكر عمرو بن عامر فقط، وتفسير البحيرة وسائر الأربعة المذكورة في الآية عن سعيد بن المسيب ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه بهذا الإسناد مثل رواية الباب، إلا أنه بعد إيراد المرفوع قال: "وقال ابن المسيب: والوصيلة الناقة إلخ" فأوضح أن التفسير جميعه موقوف، وهذا هو المعتمد، وهكذا أخرجه ابن مردويه من طريق يحيى بن سعيد وعبيد الله بن زياد عن ابن شهاب مفصلا. قوله: "أن وصلت" أي من أجل. وقال أبو عبيدة: كانت السائبة مهما ولدته فهو بمنزلة أمها إلى ستة أولاد، فإن ولدت السابع أنثيين تركتا فلم تذبحا، وإن ولدت ذكرا ذبح وأكله الرجال دون النساء، وكذا إذا ولدت ذكرين، وإن أتت بتوأم ذكر وأنثى سموا الذكر وصيلة فلا يذبح لأجل أخته، وهذا كله إن لم تلد ميتا، فإن ولدت بعد البطن السابع ميتا أكله النساء دون الرجال. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: الوصيلة الشاة كانت إذا ولدت سبعة فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكل وإن كان أنثى تركت وإن كان ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فترك ولم يذبح. قوله: "والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود إلخ" وكلام أبي عبيدة يدل على أن الحام إنما يكون من ولد السائبة. وقال أيضا: كانوا إذا ضرب فحل من ولد البحيرة فهو عندهم حام. وقال أيضا: الحام من فحول الإبل خاصة إذا نتجوا منه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره، فأحموا ظهره ووبره وكل شيء منه فلم يركب ولم يطرق. وعرف بهذا بيان العدد المبهم في رواية سعيد. وقيل الحام فحل الإبل إذا ركب ولد ولده، قال الشاعر:

(8/284)


حماها أبو قابوس في غير ملكه ... كما قد حمى أولاد أولاده الفحلا
وقال الفراء: اختلف في السائبة فقيل كان الرجل يسيب من ماله ما شاء يذهب به إلى السدنة وهم الذين يقومون على الأصنام. وقيل: السائبة الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يجز لها وبر ولم يشرب لها لبن. وإذا ولدت بنتها بحرت أي شقت أذنها، فالبحيرة ابنة السائبة وهي بمنزلة أمها. والوصيلة من الشاة إذا ولدت سبعة أبطن إذا ولدت في آخرها ذكرا وأنثى قيل وصلت أخاه فلا تشرب النساء لبن الأم وتشربه الرجال وجرت مجرى السائبة إلا في هذا. وأما الحام فهو فحل الإبل كان إذا لقح ولد ولده قيل حمى ظهره فلا يركب ولا يجز له وبر ولا يمنع من مرعى. قوله: "وقال لي أبو اليمان" عند غير أبي ذر "وقال أبو اليمان" بغير مجاورة. قوله: "سمعت سعيدا يخبره بهذا قال وقال أبو هريرة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نحوه" هكذا للأكثر يخبر بصيغة الفعل المضارع من الخبر متصل بهاء الضمير، ووقع لأبي ذر عن الحموي والمستملي بحيرة بفتح الموحدة وكسر المهملة، وكأنه أشار إلى تفسير البحيرة وغيرها كما في رواية إبراهيم بن سعد، وأن المرفوع منه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عمرو ابن عامر حسب، وهذا هو المعتمد، فإن المصنف أخرجه في مناقب قريش قال حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن الزهري سمعت سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها إلخ، لكنه أورده باختصار قال: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن عامر إلخ" . قوله: "ورواه ابن الهاد عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم" أما طريق ابن الهاد فأخرجها ابن مردويه من طريق خالد بن حميد المهري عن ابن الهاد - وهو يزيد بن عبد الله ابن أسامة بن الهاد الليثي - بهذا الإسناد، ولفظ المتن "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار" وكان أول من سيب السوائب، والسائبة التي كانت تسيب فلا يحمل عليها شيء إلى آخر التفسير المذكور، وقد أخرجه أبو عوانة وابن أبي عاصم في "الأوائل" والبيهقي والطبراني من طريق عن الليث عن ابن الهاد بالمرفوع فقط، وظهر أن في رواية خالد بن حميد إدراجا وأن التفسير من كلام سعيد بن المسيب والله أعلم. قوله في المرفوع "وهو أول من سيب السوائب" زاد في رواية أبي صالح عن أبي هريرة عند مسلم: "وبحر البحيرة وغير دين إسماعيل" وروى عبد الرزاق عن معمر عن يزيد بن أسلم مرسلا "أول من سيب السوائب عمرو بن لحي، وأول من بحر البحائر رجل من بني مدلج جدع أذن ناقته وحرم شرب ألبانها" والأول أصح، والله أعلم. ثم ذكر المصنف حديث عائشة "رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجر قصبه في النار، وهو أول من سيب السوائب " هكذا وقع هنا مختصرا، وتقدم في أبواب العمل في الصلاة من وجه آخر عن يونس عن زيد مطولا وأوله "خسفت الشمس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة طويلة" الحديث وفيه: " لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء" وفيه القدر المذكور هنا، وأورده في أبواب الكسوف من وجه آخر عن يونس بدون الزيادة، وكذا من طريق عقيل عن الزهيري، وقد تقدم بيان نسب عمرو الخزاعي في مناقب قريش، وكذا بيان كيفية تغييره لملة إبراهيم عليه السلام ونصبه الأصنام وغير ذلك

(8/285)


باب {ةكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ....}
...
14- باب {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}

(8/285)


4625- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ثُمَّ قَالَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ: "أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُم"
قوله: "باب {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ذكر فيه حديث ابن عباس "إنكم محشورون إلى الله حفاة" الحديث، وسيأتي شرحه في الرقاق، والغرض منه" فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} وقوله أصيحابي كذا للأكثر بالتصغير، وللكشميهني بغير تصغير، قال الخطابي: فيه إشارة إلى قلة عدد من وقع لهم ذلك، وإنما وقع لبعض جفاة العرب، ولم يقع من أحد الصحابة المشهورين.

(8/286)


15- باب {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قوله: "باب قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية" ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور قبل، أورده مختصرا.
4626- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ وَإِنَّ نَاسًا يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ {الْعَزِيزُ الْحَكِيم} "
قوله: "باب قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية" ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور قبل، أورده مختصرا.

(8/286)


6- سورة الأَنْعَامِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} مَعْذِرَتُهُمْ {مَعْرُوشَاتٍ} مَا يُعْرَشُ مِنْ الْكَرْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ {حَمُولَةً} مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا {وَلَلَبَسْنَا} لَشَبَّهْنَا { لأُنْذِرَكُمْ بِهِ} أَهْلَ مَكَّةَ {يَنْأَوْنَ} يَتَبَاعَدُونَ {تُبْسَلُ} تُفْضَحُ {أُبْسِلُوا} أُفْضِحُوا {بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} الْبَسْطُ الضَّرْبُ وَقَوْلُهُ {اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنْسِ} أَضْلَلْتُمْ كَثِيرًا {مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ} جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْ ثَمَرَاتِهِمْ وَمَالِهِمْ نَصِيبًا وَلِلشَّيْطَانِ وَالأَوْثَانِ نَصِيبًا {أَكِنَّةً} وَاحِدُهَا كِنَانٌ {أَمَّا اشْتَمَلَتْ} يَعْنِي هَلْ تَشْتَمِلُ إِلاَّ عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى فَلِمَ تُحَرِّمُونَ بَعْضًا وَتُحِلُّونَ بَعْضًا {مَسْفُوحًا} مُهْرَاقًا {صَدَفَ} أَعْرَضَ {أُبْلِسُوا} أُويِسُوا وَ أُبْسِلُوا أُسْلِمُوا {سَرْمَدًا} دَائِمًا {اسْتَهْوَتْهُ} أَضَلَّتْهُ {تَمْتَرُونَ} تَشُكُّونَ {وَقْرٌ} صَمَمٌ وَأَمَّا الْوِقْرُ فَإِنَّهُ الْحِمْلُ {أَسَاطِيرُ} وَاحِدُهَا أُسْطُورَةٌ وَإِسْطَارَةٌ وَهْيَ

(8/286)


1- باب {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}
4627- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنْزِلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} "
قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} المفاتح جمع مفتح بكسر الميم الآلة التي يفتح بها، مثل منجل ومناجل، وهي لغة قليلة في الآلة، والمشهور مفتاح بإثبات الألف وجمعه مفاتيح بإثبات الياء، وقد قرئ بها في الشواذ، قرأ ابن السميع {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} وقيل بل هو جمع مفتح بفتح الميم وهو المكان. ويؤيده تفسير السدي فيما رواه الطبري قال: مفاتح الغيب خزائن الغيب، وجوز الواحدي أنه جمع مفتح بفتح الميم على أنه مصدر بمعنى الفتح، أي وعنده فتوح الغيب أي يفتح الغيب على من يشاء من عباده، ولا يخفى بعد هذا التأويل للحديث المذكور في الباب، وأن مفاتح الغيب لا يعلمها أحد إلا الله سبحانه وتعالى. وروى الطبري من طريق ابن مسعود قال: أعطي نبيكم صلى الله عليه وسلم علم كل شيء إلا مفاتح الغيب، ويطلق المفتاح على ما كان محسوسا مما يحل غلقا كالقفل، وعلى ما كان معنويا كما جاء في الحديث: "إن من الناس مفاتيح للخير" الحديث صححه ابن حبان من حديث أنس ثم ذكر المصنف في الباب حديث ابن عمر "مفاتح الغيب خمس " أورده مختصرا، وساقه في تفسير سورة لقمان مطولا، وسيأتي شرحه هناك مستوفى إن شاء الله تعالى.

(8/291)


2- باب {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} الآيَةَ
يَلْبِسَكُمْ يَخْلِطَكُمْ مِنْ الالْتِبَاسِ يَلْبِسُوا يَخْلِطُوا شِيَعًا فِرَقًا
4628- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَعُوذُ بِوَجْهِكَ" قَالَ {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: "أَعُوذُ بِوَجْهِكَ" {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَر"
[الحديث 4628- طرفاه في: 7313، 7406]
قوله: "باب {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} الآية، يلبسكم يخلطكم من الالتباس يلبسوا يخلطوا" هو من كلام أبي عبيدة في الموضعين "وعند ابن أبي حاتم من طريق أسباط بن نصر عن السدي مثله. قوله: "شيعا فرقا" هو كلام أبي عبيدة أيضا وزاد: واحدتها شيعة، وللطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن

(8/291)


3- باب {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}
4629- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أَصْحَابُهُ وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ فَنَزَلَتْ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} "
قوله: "باب {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ذكر فيه حديث سليمان وهو الأعمش عن إبراهيم وهو النخعي عن علقمة وهو ابن قيس عن عبد الله وهو ابن مسعود قال: "لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال أصحابه" أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإيمان بما أغنى عن إعادته.

(8/294)


4- باب {وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}
4630- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى"
4631- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى"
قوله: "باب قوله {وَيُونُسَ وَلُوطًا} ذكر فيه حديثي ابن عباس وأبي هريرة " ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" وقد تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء. قوله: "باب قوله: {وَيُونُسَ وَلُوطًا} ذكر فيه حديثي ابن عباس وأبي هريرة "ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" وقد تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء.

(8/264)


باب {أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}
...
5- باب {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
4632- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَفِي "ص" سَجْدَةٌ فَقَالَ نَعَمْ ثُمَّ تَلاَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إِلَى قَوْلِهِ {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ثُمَّ قَالَ هُوَ مِنْهُمْ زَادَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ الْعَوَّامِ عَنْ مُجَاهِدٍ قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِم"
قوله: "باب قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ذكر فيه حديث ابن عباس في السجود في "ص" ، وسيأتي شرحه في تفسير "ص" . قوله: "زاد يزيد بن هارون ومحمد بن عبيد وسهل بن يوسف عن العوام" هو ابن حوشب "عن مجاهد قلت لابن عباس فقال: نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أمر أن يقتدي بهم" حاصله أن الزيادة لفظية، وإلا فالكلام

(8/294)


المذكور داخل في قوله في الرواية الأولى "هو منهم" أي داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به في قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وطريق يزيد بن هارون المذكورة وصلها الإسماعيلي، وطريق محمد بن عبيد وصلها المصنف في تفسير "ص" . وطريق سهل بن يوسف وصلها المصنف في أحاديث الأنبياء. وقد اختلف: هل كان عليه الصلاة والسلام متعبدا بشرع من قبله حتى نزل عليه ناسخه؟ فقيل: نعم، وحجتهم هذه الآية ونحوها. وقيل لا، وأجابوا عن الآية بأن المراد اتباعهم فيما أنزل عليه وفاقه ولو على طريق الإجمال فيتبعهم في التفصيل، وهذا هو الأصح عند كثير من الشافعية، واختاره إمام الحرمين ومن تبعه، واختار الأول ابن الحاجب، والله أعلم.

(8/295)


باب {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها}
...
6- باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} الآيَةَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ الْحَوَايَا الْمَبْعَرُ وَقَالَ غَيْرُهُ هَادُوا صَارُوا يَهُودًا وَأَمَّا قَوْلُهُ هُدْنَا تُبْنَا هَائِدٌ تَائِبٌ
4633- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ عَطَاءٌ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوهَا" وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ كَتَبَ إِلَيَّ عَطَاءٌ سَمِعْتُ جَابِرًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَه"
قوله: "باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} زاد أبو ذر في روايته:"إلى قوله: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} . قوله: "كل ذي ظفر البعير والنعامة" وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، وروي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله، وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كل ذي ظفر هو الذي ليس بمنفرج الأصابع، يعني ليس بمشقوق الأصابع، منها الإبل والنعام، وإسناده حسن. وأخرجه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير مثله مفرقا وليس فيها ابن عباس، ومن طريق قتادة قال: البعير والنعامة وأشباهه من الطير والحيوانات والحيتان. قوله: "الحوايا المبعر" في رواية أبي الوقت المباعر، وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: الحوايا هو المبعر، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. وقال سعيد بن جبير الحوايا المباعر أخرجه ابن جرير وقال: الحوايا جمع حوية وهي ما تحوى واجتمع واستدار من البطن وهي نبات اللبن وهي المباعر وفيها الأمعاء. قال: ومعنى الكلام إلا ما حملت ظهورهما وإلا ما حملت الحوايا، أي فهو حلال لهم.
" تنبيه " : المبعر بفتح الميم ويجوز كسرها. ثم ذكر المصنف حديث جابر "قاتل الله اليهود حرمت عليهم شحومها" الحديث، وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب البيوع، وقد تقدم أيضا بيان من وصل رواية أبي عاصم المذكور هنا، ونبه ابن التين على أنه وقع في الرواية هنا "لحومها" قال: والصواب شحومها. قوله: "هادوا تابوا، هدنا تبنا، هائد تائب" هو كلام أبي عبيدة وقد تقدم في أوائل الهجرة.

(8/295)


7- باب {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}
4634- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(8/295)


8- باب وَكِيلٌ حَفِيظٌ وَمُحِيطٌ بِهِ. قُبُلاً جَمْعُ قَبِيلٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ ضُرُوبٌ لِلْعَذَابِ كُلُّ ضَرْبٍ مِنْهَا قَبِيلٌ زُخْرُفَ الْقَوْلِ كُلُّ شَيْءٍ حَسَّنْتَهُ وَوَشَّيْتَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ فَهُوَ زُخْرُفٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ حَرَامٌ وَكُلُّ مَمْنُوعٍ فَهْوَ حِجْرٌ مَحْجُورٌ وَالْحِجْرُ كُلُّ بِنَاءٍ بَنَيْتَهُ وَيُقَالُ لِلأُنْثَى مِنْ الْخَيْلِ حِجْرٌ وَيُقَالُ لِلْعَقْلِ حِجْرٌ وَحِجًى وَأَمَّا الْحِجْرُ فَمَوْضِعُ ثَمُودَ وَمَا حَجَّرْتَ عَلَيْهِ مِنْ الأَرْضِ فَهُوَ حِجْرٌ وَمِنْهُ سُمِّيَ حَطِيمُ الْبَيْتِ حِجْرًا كَأَنَّه مُشْتَقٌّ مِنْ مَحْطُومٍ مِثْلُ قَتِيلٍ مِنْ مَقْتُولٍ وَأَمَّا حَجْرُ الْيَمَامَةِ فَهْوَ مَنْزِل"
قوله: "وكيل حفيظ محيط به" قال أبو عبيدة في قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي حفيظ محيط. قوله: "قبلا جمع قبيل، والمعنى أنه ضروب للعذاب كل ضرب منها قبيل" انتهى. هو من كلام أبي عبيدة أيضا لكن بمعناه، قال في قوله تعالى: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} قال فمعنى حشرنا جمعنا وقبلا جمع قبيل أي صنف. وروى ابن جرير عن مجاهد قال: قبلا أي أفواجا قال ابن جرير: أي حشرنا عليهم كل شيء قبيلة قبيلة صنفا صنفا وجماعة جماعة، فيكون القبل جمع قبيل الذي جمع قبيلة، فيكون القبل جمع الجمع. قال أبو عبيدة: ومن قرأها قبلا أي بكسر القاف فإنه يقول معناها عيانا انتهى. ويجوز أن يكون بمعنى ناحية يقول: لي قبل فلان كذا، أي من جهته، فهو نصب على الظرفية. وقال آخرون: قبلا أي مقابلا انتهى. وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} أي معاينة، فكأنه قرأها بكسر القاف وهي قراءة أهل المدينة وابن عامر، مع أنه يجوز أن يكون بالضم ومعناه المعاينة يقول: رأيته قبلا لا دبرا إذا أتيته من قبل وجهه وتستوي على هذا القراءتان. قال ابن جرير: ويحتمل أن يكون القبل جمع قبيل وهو الضمين والكفيل، أي وحشرنا عليهم كل شيء كفيلا يكفلون لهم أن الذي نعدهم حق، وهو بمعنى قوله في الآية الأخرى {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} انتهى، ولم أر من فسر بأصناف العذاب، فليحرر هذا.
" تنبيه " : ثبت هذا والذي بعده لأبي ذر عن المستملي والكشميهني حسب. قوله: "زخرف القول كل شيء حسنته، وزينته وهو باطل فهو زخرف" هو كلام أبي عبيدة، وزاد: يقال زخرف فلان كلامه وشهادته. وقيل أصل الزخرف في اللغة التزيين والتحسين، ولذلك سموا الذهب زخرفا. قوله: "وحرث حجر حرام إلخ" تقدم الكلام عليه في قصة ثمود من أحاديث الأنبياء مستوفى، وسقط هنا من رواية أبي ذر والنسفي وهو أولى.

(8/296)


9- باب {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ هَلُمَّ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ
4635- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا عمارة حدثنا أبو زرعة حدثنا أبو هريرة

(8/296)


10- باب {لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا}
4636- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ وَذَلِكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ثُمَّ قَرَأَ الآيَةَ"
قوله: "باب {لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} ذكر فيه حديث أبي هريرة في طلوع الشمس من المغرب، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. وإسحاق في الطريق الأخرى جزم خلف بأنه ابن نصر، وأبو مسعود بأنه ابن منصور، وقول خلف أقوى. والله أعلم.

(8/297)


7- سورة الأَعْرَافِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرِيَاشًا الْمَالُ {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فِي الدُّعَاءِ وَفِي غَيْرِهِ عَفَوْا كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ الْفَتَّاحُ الْقَاضِي {افْتَحْ بَيْنَنَا} اقْضِ بَيْنَنَا {نَتَقْنَا الْجَبَلَ} رَفَعْنَا {انْبَجَسَتْ} انْفَجَرَتْ {مُتَبَّرٌ} {خُسْرَانٌ} آسَى أَحْزَنُ تَأْسَ تَحْزَنْ وَقَالَ غَيْرُهُ {مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسْجُدَ} يَقُولُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ {يَخْصِفَانِ} أَخَذَا الْخِصَافَ {مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} يُؤَلِّفَانِ الْوَرَقَ يَخْصِفَانِ الْوَرَقَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ {سَوْآتِهِمَا} كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجَيْهِمَا {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} هُوَ هَا هُنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْحِينُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى مَالاَ يُحْصَى عَدَدُهُ الرِّيَاشُ وَالرِّيشُ وَاحِدٌ وَهْوَ مَا ظَهَرَ مِنْ اللِّبَاسِ {قَبِيلُهُ} جِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ {ادَّارَكُوا} اجْتَمَعُوا وَمَشَاقُّ الإِنْسَانِ وَالدَّابَّةِ كُلُّهَا يُسَمَّى سُمُومًا وَاحِدُهَا سَمٌّ وَهِيَ عَيْنَاهُ وَمَنْخِرَاهُ وَفَمُهُ وَأُذُنَاهُ وَدُبُرُهُ وَإِحْلِيلُهُ {غَوَاشٍ} مَا غُشُّوا بِهِ نُشُرًا مُتَفَرِّقَةً {نَكِدًا} قَلِيلاً {يَغْنَوْا} يَعِيشُوا {حَقِيقٌ} حَقٌّ {اسْتَرْهَبُوهُمْ} مِنْ الرَّهْبَةِ {تَلَقَّفُ} تَلْقَمُ {طَائِرُهُمْ} حَظُّهُمْ {طُوفَانٌ} مِنْ السَّيْلِ وَيُقَالُ لِلْمَوْتِ الْكَثِيرِ الطُّوفَانُ {الْقُمَّلُ} الْحُمْنَانُ يُشْبِهُ صِغَارَ الْحَلَمِ {عُرُوشٌ} وَعَرِيشٌ بِنَاءٌ سُقِطَ كُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ {الأَسْبَاطُ} قَبَائِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ {يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} يَتَعَدَّوْنَ لَهُ يُجَاوِزُونَ تَجَاوُزٌ بَعْدَ تَجَاوُزٍ تَعْدُ تُجَاوِزْ {شُرَّعًا} شَوَارِعَ {بَئِيسٍ} شَدِيدٍ {أَخْلَدَ} قَعَدَ

(8/297)


باب {إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن}
...
1- باب {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}
4637- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ وَرَفَعَهُ قَالَ: "لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ فَلِذَلِكَ حَرَّمَ

(8/301)


الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنْ اللَّهِ فَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَه"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ذكر فيه حديث ابن مسعود "لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش" وسيأتي شرحه في كتاب التوحيد، وقد حكى ابن جرير أن أهل التأويل اختلفوا في المراد بالفواحش، فمنهم من حملها على العموم وساق ذلك عن قتادة قال: المراد سر الفواحش وعلانيتها، ومنهم من حملها على نوع خاص وساق عن ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأسا في السر ويستقبحونه في العلانية، فحرم الله الزنا في السر والعلانية. ومن طريق سعيد بن جبير ومجاهد: ما ظهر نكاح الأمهات، وما بطن الزنا. ثم اختار ابن جرير القول الأول قال: وليس ما روي عن ابن عباس وغيره بمدفوع، ولكن الأولى الحمل على العموم، والله أعلم.

(8/302)


2- باب {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَرِنِي أَعْطِنِي
4638- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِكَ مِنْ الأَنْصَارِ لَطَمَ فِي وَجْهِي قَالَ ادْعُوهُ فَدَعَوْهُ قَالَ لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِالْيَهُودِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ فَقُلْتُ وَعَلَى مُحَمَّدٍ وَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ قَالَ لاَ تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ"
قوله: "باب {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} الآية. قال ابن عباس: أرني أعطني" . وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} قال أعطني. وأخرج من طريق السدي قال: لما كلم الله موسى أحب أن ينظر إليه قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} . "تكملة" : تعلق بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} نفاه رؤية الله تعالى مطلقا من المعتزلة فقالوا لن لتأكيد النفي الذي يدل عليه لا فيكون النفي على التأييد. وأجاب أهل السنة بأن التعميم في الوقت مختلف فيه، سلمنا لكن خص بحالة الدنيا التي وقع فيها الخطاب، وجاز في الآخرة لأن أبصار المؤمنين فيها باقية فلا استحالة أن يرى الباقي بالباقي. بخلاف حالة الدنيا فإن أبصارهم فيها فانية فلا يرى الباقي بالفاني، وتواترت الأخبار النبوية بوقوع هذه الرؤية للمؤمنين في الآخرة وبإكرامهم بها في الجنة، ولا استحالة فيها فوجب الإيمان بها، وبالله التوفيق. وسيأتي مزيد لهذا في كتاب التوحيد حيث ترجم المصنف {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . قوله: "جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه" الحديث تقدم شرحه مستوفى في أحاديث الأنبياء، وقوله فيه: "أم جزي" كذا للأكثر ولأبي ذر

(8/302)


عن الحموي والمستملي: "جوزي" وهو المشهور في غير هذا الموضع.
الْمَنَّ وَالسَّلْوَى 4639- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءُ الْعَيْن"
ذكر فيه حديث سعيد بن زيد في الكمأة، وسيأتي شرحه في الطب، وقوله: "شفاء من العين" أي وجع العين. وفي رواية الكشميهني: "شفاء للعين" تقدم شرح المن والسلوى في تفسير البقرة، وهو المشهور في غير هذه. وقوله في أول الإسناد "حدثنا مسلم:"وقع لأبي ذر غير منسوب، وعند غيره مسلم ابن إبراهيم

(8/303)


3- باب {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
4640- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالاَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلاَءِ بْنِ زَبْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ" قَالَ وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ غَامَرَ سَبَقَ بِالْخَيْر"
قوله: "باب {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ذكر فيه حديث أبي الدرداء فيما كان بين أبي بكر وعمر، وقد تقدم شرحه مستوفى في مناقب أبي بكر، وقوله في أول الإسناد" حدثني عبد الله "كذا وقع غير منسوب عند الأكثر، ووقع عند ابن السكن عن الفربري عن البخاري" حدثني عبد الله بن حماد "وبذلك جزم الكلاباذي وطائفة وعبد الله بن حماد هذا هو الآملي بالمد وضم الميم الخفيفة يكنى أبا عبد الرحمن قال الأصيلي: هو من تلامذة البخاري، وكان يورق بين يديه. قلت: وقد شاركه في كثير من شيوخه، وكان من الحفاظ، مات قبل السبعين، أو بعدها فقال غنجار في" تاريخ بخاري "مات ستة تسع وستين وقيل سنة ثلاث وسبعين. وسليمان بن عبد الرحمن هو الدمشقي من شيوخ البخاري، وأما موسى بن هارون فهو البني بضم الموحدة وتشديد النون. والبردي وهو بضم الموحدة وسكون الراء، كوفي قدم مصر ثم سكن الفيوم ومات بها سنة أربع وعشرين ومائتين، وما له في

(8/303)


البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "قال أبو عبد الله: غامر سبق بالخير" تقدم شرحه أيضا في مناقب أبي بكر.

(8/304)


4- بَاب {وَقُولُوا حِطَّةٌ}
4641- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعَرَة"
"حدثني إسحاق" هو ابن إبراهيم الحنظلي ابن راهويه. قوله: "قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة" قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} قال الحسن: أي احطط عنا خطايانا، وهذا يليق بقراءة من قرأ حطة بالنصب، وهي قراءة إبراهيم بن أبي عبلة، وقرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة، وقيل أمروا أن يقولوا على هذه الكيفية، فالرفع على الحكاية، وهي في محل نصب بالقول، وإنما منع النصب حركة الحكاية، وقيل رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله سلام، واختلف في معنى هذه الكلمة فقيل: هي اسم للهيئة من الحط كالجلسة، وقيل هي التوبة كما قال الشاعر:
فاز بالحطة التي صير اللـ ... ـه بها ذنب عبده مغفورا
وقيل لا يدري معناها، وإنما تعبدوا بها. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس وغيره قال: قيل لهم قولوا مغفرة. قوله: "فبدلوا" أي غيروا، وقوله سبحانه وتعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} التقدير فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولا غير الذي قيل لهم، ويحتمل أن يكون ضمن بدل معنى قال. قوله: "فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعرة" كذا للأكثر، وكذا في رواية الحسن المذكورة بفتحتين، وللكشميهني: "في شعيرة" يكسر المهملة وزيادة تحتانية بعدها. والحاصل أنهم خالفوا ما أمروا به من الفعل والقول فإنهم أمروا بالسجود عند انتهائهم شكرا لله تعالى وبقولهم حطة، فبدلوا السجود بالزحف وقالوا حنطة بدل حطة، أو قالوا حطة وزادوا فيها حبة في شعيرة. وروى الحاكم من طريق السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: "قالوا هطى سمقا" وهي بالعربية حنطة حمراء قوية فيها شعيرة سوداء، ويستنبط منه أن الأقوال المنصوصة إذا تعبد بلفظها لا يجوز تغييرها ولو وافق المعنى. وليست هذه مسألة الرواية بالمعنى بل هي متفرعة منها، وينبغي أن يكون ذلك قيدا في الجواز، أعني يزاد في الشرط أن لا يقع التعبد بلفظه ولا بد منه، ومن أطلق فكلامه محمول عليه.

(8/304)


5- باب {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} الْعُرْفُ الْمَعْرُوفُ
قوله باب {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} العرف: المعروف" وصله عبد الرزاق من طريق هشام بن عروة عن أبيه بهذا، وكذا أخرجه الطبري من طريق السدي وقتادة.
4642- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ

(8/304)


سورة الأنفال: باب {يسألونك عن الأنفال ...}
...
8- سورة الأَنْفَالِ
1- باب قَوْلُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الأَنْفَالُ الْمَغَانِمُ قَالَ قَتَادَةُ رِيحُكُمْ الْحَرْبُ يُقَالُ نَافِلَةٌ عَطِيَّةٌ
4645- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُورَةُ الأَنْفَالِ قَالَ نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ الشَّوْكَةُ الْحَدُّ مُرْدَفِينَ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ رَدِفَنِي وَأَرْدَفَنِي جَاءَ بَعْدِي ذُوقُوا بَاشِرُوا وَجَرِّبُوا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَوْقِ الْفَمِ فَيَرْكُمَهُ يَجْمَعَهُ شَرِّدْ فَرِّقْ وَإِنْ جَنَحُوا طَلَبُوا السِّلْمُ وَالسَّلْمُ وَالسَّلاَمُ وَاحِدٌ يُثْخِنَ يَغْلِبَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ مُكَاءً إِدْخَالُ أَصَابِعِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَتَصْدِيَةً الصَّفِيرُ لِيُثْبِتُوكَ لِيَحْبِسُوك"
قوله: "سورة الأنفال - بسم الله الرحمن الرحيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "قال ابن عباس الأنفال المغانم" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "الأنفال المغانم، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد فيها شيء" وروى أبو داود والنسائي وابن حبان من طريق دواد بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صنع كذا فله كذا ، الحديث فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ} قوله: "نافلة عطية" قال في رواية النسفي "يقال:"فذكره. وقد قال أبو عبيدة في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أي غنيمة. قوله: "وإن جنحوا طلبوا" قال أبو عبيدة في قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} أي رجعوا إلى المسالمة وطلبوا الصلح. قوله: "السلم والسلم والسلام واحد" ثبت هذا لأبي ذر وحده، وقد تقدم في تفسير سورة النساء. قوله: "يثخن" أي يغلب. قال أبو عبيدة في قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} يثخن أي يبالغ ويغلب. قوله: "وقال مجاهد: مكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم" وصله عبد ابن حميد والفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد. قوله: "وتصدية الصفير" وصله عبد بن حميد أيضا كذلك.
" تنبيه " : وقع هذا في رواية أبي ذر متراخيا عن الذي قبله، وعند غيره بعقبه وهو أولى، وقد قال الفريابي "حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً} قال: إدخالهم أصابعهم في أفواههم وتصدية الصفير، يخلطون على محمد صلاته" وقال أبو عبيدة: المكاء الصفير والتصدية صفق الأكف

(8/306)


ووصله ابن مردويه من حديث ابن عمر مثله من قوله. قوله: "وقال قتادة ريحكم الحرب" تقدم في الجهاد. قوله: "الشوكة الحد" ثبت لغير أبي ذر، قال أبو عبيدة في قوله: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} مجاز الشوكة الحد، يقال ما أشد شوكة بني فلان أي حدهم. قوله: "مردفين فوجا بعد فوج، يقال ردفني وأردفني جاء بعدي" وقال أبو عبيدة في قوله: {مُرْدِفِينَ} بكسر الدال فاعلين من أردفوا أي جاءوا بعد قوم قبلهم، وبعضهم يقول ردفني جاء بعدي وهما لغتان، ومن قرأ بفتح الدال فهو من أردفهم الله من بعد من قبلهم انتهى. وقراءة الجمهور بكسر الدال ونافع بفتحها. وقال الأخفش: بنو فلان يردفوننا أي يجيئون بعدنا. قوله: "فيركمه يجمعه" قال أبو عبيدة في قوله: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} أي فيجمعه بعضه فوق بعض. قوله: "شرد فرق" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "ليثبتوك يحبسوك" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عنه، وروى أحمد والطبراني من حديث ابن عباس قال: "تشاورت قريش فقال بعضهم: إذا أصبح محمد فأثبتوه بالوثاق" الحديث. قوله: "ذوقوا باشروا وجربوا، وليس هذا من ذوق الفم" هو قول أبي عبيدة أيضا، ونظيره قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} . قوله: "حدثني محمد بن عبد الرحيم" كذا ثبت هذا الحديث في آخر هذه التفاسير عند أبي ذر، وثبت عند غيره في أثنائها والخطب فيه سهل. والحديث المذكور سيأتي بأتم من هذا في تفسير سورة الحشر، ويأتي شرحه هناك، وقد تقدم طرف منه أيضا في المغازي.

(8/307)


باب {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}
4646- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا ورقاء عن بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} قال: هم نفر من بني عبد الدار"
قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ} ذكر فيه حديث مجاهد عن ابن عباس قال: هم نفر من بني عبد الدار. وفي رواية الإسماعيلي: "نزلت في نفر" زاد ابن جرير من طريق شبل بن عباد عن ابن أبي نجيح "لا يتبعون الحق" ثم أورد من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "لا يعقلون" : لا يتبعون الحق، قال مجاهد قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدار.

(8/307)


2- باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} اسْتَجِيبُوا: أَجِيبُوا لِمَا يُحْيِيكُمْ يُصْلِحُكُمْ
4647- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ثُمَّ قَالَ لاَعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ فَذَكَرْتُ لَهُ" وَقَالَ مُعَاذٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعَ حَفْصًا سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ

(8/307)


باب {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء...}
...
3- باب {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَطَرًا فِي الْقُرْآنِ إِلاَّ عَذَابًا وَتُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْغَيْثَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا}
4648- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ هُوَ ابْنُ كُرْدِيدٍ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فَنَزَلَتْ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآيَةَ
[الحديث 4648- طرفه في: 4649]
قوله: "باب قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية. قوله: "قال ابن عيينة إلخ" كذا في تفسير ابن عيينة رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه قال: ويقول ناس ما سمى الله المطر في القرآن إلا عذابا، ولكن تسميه العرب الغيث يريد قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} كذا وقع في تفسير حم عسق، وقد تعقب كلام ابن عيينة بورود المطر بمعنى الغيث في القرآن في قوله تعالى : {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} فالمراد به هنا الغيث قطعا، معنى التأذي به البلل الحاصل منه للثوب والرجل وغير ذلك. وقال أبو عبيدة: إن كان من العذاب فهو أمطرت، وإن كان من الرحمة فهو مطرت. وفيه مطرت. وفيه نظر أيضا. قوله: "حدثني أحمد" كذا في جميع الروايات غير منسوب، وجزم الحاكمان أبو أحمد وأبو عبد الله أنه ابن النضر بن عبد الوهاب النيسابوري، وقد روى البخاري الحديث المذكور بعينه عقب هذا عن محمد بن النضر أخي أحمد هذا، قال الحاكم: بلغني أن البخاري كان ينزل عليهما ويكثر الكمون عندهما إذا قدم نيسابور. قلت: وهما من طبقة مسلم وغيره من تلامذة البخاري وإن شاركوه في بعض شيوخه. وقد أخرج مسلم هذا الحديث بعينه عن شيخهما عبيد الله بن معاذ نفسه، وعبيد الله بن معاذ المذكور من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري، فنزل في هذا الإسناد درجتين لأن عنده الكثير عن أصحاب شعبة بواسطة واحدة بينه وبين شعبة، قال الحاكم: أحمد بن النضر يكنى أبا

(8/308)


الفضل وكان من أركان الحديث انتهى. وليس له في البخاري ولا لأخيه سوى هذا الموضع. وقد روى البخاري عن أحمد في التاريخ الصغير ونسبه. قوله: "عن عبد الحميد صاحب الزيادي" هو عبد الحميد بن دينار تابعي صغير، ويقال له ابن كرديد بضم الكاف وسكون الراء وكسر الدال المهملة ثم تحتانية ساكنة ثم دال أخرى، ووقع كذلك في بعض النسخ، والزيادي الذي نسب إليه من ولد زياد الذي يقال له ابن أبي سفيان. قوله: "قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا إلخ" ظاهر في أنه القائل ذلك، وإن كان هذا القول نسب إلى جماعة فعله بدأ به ورضي الباقون فنسب إليهم، وقد روى الطبراني من طريق ابن عباس أن القائل ذلك هو النضر بن الحارث قال: فأنزل الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} وكذا قال مجاهد وعطاء والسدي، ولا ينافي ذلك ما في الصحيح لاحتمال أن يكونا قالاه، ولكن نسبته إلى أبي جهل. وعن قتادة قال: قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها. وروى ابن جرير من طريق يزيد بن رومان أنهم قالوا ذلك ثم لما أمسوا ندموا فقالوا غفرانك اللهم، فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن معنى قوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي من سبق له من الله أنه سيؤمن، وقيل المراد من كان بين أظهرهم حينئذ من المؤمنين، قاله الضحاك وأبو مالك ويؤيده ما أخرجه الطبري من طريق ابن أبزى قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} ثم خرج إلى المدينة فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وكان من بقي من المسلمين بمكة يستغفرون، فلما خرجوا أنزل الله {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية، فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم الله تعالى. وروى الترمذي من حديث أبي موسى رفعه قال: "أنزل الله على أمتي أمانين" فذكر هذه الآية. قال: "فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار" ، وهو يقوي القول الأول والحمل عليه أولى، وأن العذاب حل بهم لما تركوا الندم على ما وقع منهم وبالغوا في معاندة المسلمين ومحاربتهم وصدهم عن المسجد الحرام، والله أعلم.

(8/309)


4- باب {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
4649- حدثنا محمد بن النضر حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن عبد الحميد صاحب الزيادي سمع أنس بن مالك قال قال أبو جهل: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فنزلت {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ومَا لَهُمْ أنْ لا يُعَذِبَهُمُ الله وهُم يَصُدّونَ عن المَسْجِدِ الحَرَامِ} الآية
قوله: "باب قوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} تقدم شرحه في الذي قبله.

(8/309)


باب {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}
...
5- باب {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}
4650- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا حَيْوَةُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً جَاءَهُ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلاَ تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ

(8/309)


6- باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ}
4652- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا نَزَلَتْ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فَكُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ فَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ لاَ يَفِرَّ عِشْرُونَ مِنْ مِائَتَيْنِ ثُمَّ نَزَلَتْ {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الآيَةَ فَكَتَبَ أَنْ لاَ يَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ وَزَادَ سُفْيَانُ مَرَّةً نَزَلَتْ {حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَأُرَى الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ مِثْلَ هَذَا"
[الحديث 4652- طرفه في: 4653]
قوله: "باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} الآية" ساق غير أبي ذر الآية إلى {يَفْقَهُونَ} وسقط عندهم "باب" . قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "فكتب عليهم أن لا يفر" أي فرض عليهم، والسياق وإن كان بلفظ الخبر لكن المراد منه الأمر لأمرين: أحدهما أنه لو كان خبرا محضا للزم وقوع خلاف المخبر به وهو محال فدل على أنه أمر، والثاني لقرينة التخفيف فإنه لا يقع إلا بعد تكليف، والمراد بالتخفيف هنا التكليف بالأخف لا رفع الحكم أصلا. قوله: "أن لا يفر واحد من عشرة، فقال سفيان غير مرة أن لا يفر عشرون من مائتين" أي أن سفيان كان يرويه بالمعنى، فتارة يقول باللفظ الذي وقع في القرآن محافظة على التلاوة وهو الأكثر، وتارة يرويه بالمعنى

(8/311)


وهو أن لا يفر واحد من العشرة، ويحتمل أن يكون سمعه باللفظين ويكون التأويل من غيره، ويؤيده الطريق التي بعد هذه فإن ذلك ظاهر في أنه من تصرف ابن عباس. وقد روى الطبري من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: "جعل على الرجل عشرة من الكفار، ثم خفف عنهم فجعل على الرجل رجلان" وروى أيضا الطبري من طريق علي بن أبي طلحة ومن طريق العوفي وغيرهما عن ابن عباس نحوه مطولا ومختصرا. قوله: "وزاد سفيان" كأنه حدث مرة بالزيادة ومرة بدونها. وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: "كان الرجل لا ينبغي له أن يفر من عشرة، ثم أنزل الله {الآنَ خَفْفَ اللهُ عَنْكُم} الآية فجعل الرجل منهم لا ينبغي له أن يفر من اثنين" وهذا يؤيد ما قلناه أنه من تصرف ابن عباس لا ابن عيينة، فكأنه سمعه من عمرو بن دينار باللفظين، وسأذكر ما فيه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. قوله: "قال سفيان وقال ابن شبرمة" هو عبد الله قاضي الكوفة وهو موصول، ووهم من زعم أنه معلق فإن في رواية ابن أبي عمر عن سفيان عند أبي نعيم في المستخرج" قال سفيان فذكرته لابن شبرمة فذكر مثله" . قوله: "وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا" أي أنه عنده في حكم الجهاد، لجامع ما بينهما من إعلاء كلمة الحق وإخماد كلمة الباطل

(8/312)


7- باب {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا} الآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
4653- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ أَخْبَرَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ خِرِّيتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ فَجَاءَ التَّخْفِيفُ فَقَالَ {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنْ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خُفِّفَ عَنْهُم"
قوله باب {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا} الآية "زاد غير أبي ذر" إلى قوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . قوله: "أخبرني الزبير بن الخريت" بكسر المعجمة وتشديد الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة فوقانية بصري ثقة من صغار التابعين، وقد تقدم ذكره في كتاب المظالم. ولجرير بن حازم راوي هذا الحديث عن الزبير بن الخريت شيخ آخر أخرجه ابن مردويه من طريق إسحاق بن إبراهيم بن راهويه في تفسيره عن وهب ابن جرير بن حازم عن أبيه عن محمد بن إسحاق" حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس" وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق زياد بن أيوب عن وهب بن جرير عن أبيه عن الزبير، وهو مما يؤيد أن لجرير فيه طريقين، ولفظ رواية عطاء "افترض الله عليهم أن يقاتل الواحد عشرة، فشق عليهم، فوضع الله عنهم إلى أن يقاتل الواحد الرجلين" ثم ذكر الآية وزاد بعدها "ثم قال لولا كتاب من الله سبق" فذكر تفسيرها ثم قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى} فذكر قول العباس في العشرين وفي قوله: "فأعطاني عشرين عبدا كلهم قد تاجر بمالي مع ما أرجوه من مغفرة الله تعالى". قلت: وفي سند طريق عطاء محمد بن إسحاق، وليست هذه القصة عنده مسندة بل معضلة، وصنيع ابن إسحاق - وتبعه الطبراني وابن مردويه - يقتضي أنها موصولة، والعلم عند الله تعالى.
قوله:

(8/312)


"شق ذلك على المسلمين" زاد الإسماعيلي من طريق سفيان بن أبي شيبة عن جرير "جهد الناس ذلك وشق عليهم" . قوله: "فجاء التخفيف" في رواية الإسماعيلي:"فنزلت الآية الأخرى - وزاد - ففرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين ولا قوم من مثلهم" واستدل بهذا الحديث على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار وتحريم الفرار عليه منهما، سواء طلبه أو طلبهما، سواء وقع ذلك وهو واقف في الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر، وهذا هو ظاهر تفسير ابن عباس ورجحه ابن الصباغ من الشافعية وهو المعتمد لوجود نص الشافعي عليه في الرسالة الجديدة رواية الربيع ولفظه ومن نسخة عليها خط الربيع نقلت قال بعد أن ذكر للآية آيات في كتابه أنه وضع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة وأثبت عليهم أن يقوم الواحد بقتال الاثنين، ثم ذكر حديث ابن عباس المذكور في الباب وساق الكلام عليه، لكن المنفرد لو طلباه وهو على غير أهبة جاز له التولي عنهما جزما، وإن طلبهما فهل يحرم؟ وجهان أصحهما عند المتأخرين لا، لكن ظاهر هذه الآثار المتضافرة عن ابن عباس يأباه وهو ترجمان القرآن وأعرف الناس بالمراد، لكن يحتمل أن يكون ما أطلقه إنما هو في صورة ما إذا قاوم الواحد المسلم من جملة الصف في عسكر المسلمين اثنين من الكفار، أما المنفرد وحده بغير العسكر فلا، لأن الجهاد إنما عهد بالجماعة دون الشخص المنفرد، وهذا فيه نظر، فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه سرية وحده. وقد استوعب الطبري وابن مردويه طرق هذا الحديث عن ابن عباس وفي غالبها التصريح بمنع تولي الواحد عن الاثنين، واستدل ابن عباس في بعضها بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} وبقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} . قوله: "فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر" كذا في رواية ابن المبارك. وفي رواية وهب بن جرير عن أبيه عند الإسماعيلي: "نقص من النصر" وهذا قاله ابن عباس توقيفا على ما يظهر، ويحتمل أن يكون قاله بطريق الاستقراء.

(8/313)


9- سورة بَرَاءَةَ
{وَلِيجَةً} كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ {الشُّقَّةُ} السَّفَرُ الْخَبَالُ الْفَسَادُ وَالْخَبَالُ الْمَوْتُ وَلاَ تَفْتِنِّي لاَ تُوَبِّخْنِي كَرْهًا وَ كُرْهًا وَاحِدٌ مُدَّخَلًا يُدْخَلُونَ فِيهِ يَجْمَحُونَ يُسْرِعُونَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ائْتَفَكَتْ انْقَلَبَتْ بِهَا الأَرْضُ أَهْوَى أَلْقَاهُ فِي هُوَّةٍ عَدْنٍ خُلْدٍ عَدَنْتُ بِأَرْضٍ أَيْ أَقَمْتُ وَمِنْهُ مَعْدِنٌ وَيُقَالُ فِي مَعْدِنِ صِدْقٍ فِي مَنْبَتِ صِدْقٍ الْخَوَالِفُ الْخَالِفُ الَّذِي خَلَفَنِي فَقَعَدَ بَعْدِي وَمِنْهُ يَخْلُفُهُ فِي الْغَابِرِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ مِنْ الْخَالِفَةِ وَإِنْ كَانَ جَمْعَ الذُّكُورِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عَلَى تَقْدِيرِ جَمْعِهِ إِلاَّ حَرْفَانِ فَارِسٌ وَفَوَارِسُ وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ الْخَيْرَاتُ وَاحِدُهَا خَيْرَةٌ وَهِيَ الْفَوَاضِلُ مُرْجَئُونَ مُؤَخَّرُونَ الشَّفَا شَفِيرٌ وَهُوَ حَدُّهُ وَالْجُرُفُ مَا تَجَرَّفَ مِنْ السُّيُولِ وَالأَوْدِيَةِ هَارٍ هَائِرٍ يُقَالُ تَهَوَّرَتْ الْبِئْرُ إِذَا انْهَدَمَتْ وَانْهَارَ مِثْلُهُ لاَوَّاهٌ شَفَقًا وَفَرَقًا وَقَالَ:
إِذَا ما قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ

(8/313)


قوله: "سورة براءة" هي سورة التوبة وهي أشهر أسمائها، ولها أسماء أخرى تزيد على العشرة، واختلف في ترك البسملة أولها فقيل لأنها نزلت بالسيف والبسملة أمان، وقيل لأنهم لما جمعوا القرآن شكوا هل هي والأنفال واحدة أو ثنتان ففصلوا بينهما بسطر لا كتابة فيه ولم يكتبوا فيه البسملة. وروى ذلك ابن عباس عن عثمان وهو المعتمد، وأخرجه أحمد والحاكم وبعض أصحاب السنن. قوله: "مرصد طريق" كذا في بعض النسخ، وسقط للأكثر وهو قول أبو عبيدة قال في قوله تعالى: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي كل طريق، والمراصد الطرق. قوله: "إلا: الإل القرابة والذمة والعهد" تقدم في الجزية. قوله: "وليجة: كل شيء أدخلته في شيء" تقدم في بدء الخلق وسقط هو والذي قبله لأبي ذر. قوله: "الشقة السفر" هو كلام أبي عبيدة وزاد: "البعيد" وقيل الشقة الأرض التي يشق سلوكها. قوله: "الخبال الفساد" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: { مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} : الخبال الفساد. قوله: "والخبال الموت" كذا لهم والصواب الموتة بضم الميم وزيادة هاء في آخره وهو ضرب من الجنون. قوله: "ولا تفتني لا توبخني" كذا للأكثر بالموحدة والخاء المعجمة من التوبيخ، وللمستملي والجرجاني "توهني" بالهاء وتشديد النون من الوهن وهو الضعف، ولابن السكن "تؤثمني" بمثلثة ثقيلة وميم ساكنة من الإثم، قال عياض وهو الصواب، وهي الثابتة في كلام أبي عبيدة الذي يكثر المصنف النقل عنه، وأخرجه الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: "ولا تفتني" قال: لا تؤثمني {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} ألا في الإثم سقطوا. قوله: "كرها وكرها واحد" أي بالضم والفتح وهو كلام أبي عبيدة أيضا، وسقط لأبي ذر، وبالضم قرأ الكوفيون حمزة والأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي والباقون بالفتح. قوله: "مدخلا يدخلون فيه" قال أبو عبيدة في قوله: "ملجأ يلجئون إليه أو مغارات أو مدخلا" يدخلون فيه ويتغيبون انتهى، وأصل مدخلا مدتخلا فأدغم وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر بتشديد الخاء أيضا، وعن ابن كثير في رواية مدخلا بفتحتين بينهما سكون "يجمحون" يسرعون هو قول أبي عبيدة وزاد: لا يرد وجوههم شيء، ومنه فرس جموح. قوله: "والمؤتفكات ائتفكت انقلبت بها الأرض" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} هم قوم لوط ائتفكت بهم الأرض أي انقلبت بهم. قوله: "أهوى ألقاه في هوة" هذه اللفظة لم تقع في سورة براءة وإنما هي في سورة النجم، ذكرها المصنف هنا استطرادا من قوله: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} . قوله: "عدن خلد إلخ" واقتصر أبو ذر على ما هنا، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي خلد يقال: عدن فلان بأرض كذا أي أقام، ومنه المعدن، عدنت بأرض أقمت، ويقال في معدن صدق. قوله: "الخوالف الخالف الذي خلفني فقعد بعدي، ومنه يخلفه في الغابرين" قال أبو عبيدة في قوله: {مَعَ الْخَالِفِينَ} الخالف الذي خلف بعد شاخص فقعد في رحله، وهو من تخلف عن القوم، ومنه اللهم اخلفني في ولدي. وأشار بقوله: "ومنه يخلفه في الغابرين" إلى حديث عوف بن مالك في الصلاة على الجنازة. قوله: "ويجوز أن يكون النساء من الخالفة، وإن كان جمع الذكور فإنه لم يوجد على تقدير جمعه إلا حرفان فارس وفوارس وهالك وهوالك" قال أبو عبيدة في قوله: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} يجوز أن يكون الخوالف هاهنا النساء، ولا يكادون يجمعون الرجال على فواعل، غير أنهم قد قالوا فارس وفوارس وهالك وهوالك انتهى. وقد استدرك عليه ابن مالك شاهق وشواهق وناكس ونواكس وداجن ودواجن، وهذه الثلاثة مع الاثنين جمع فاعل وهو شاذ، والمشهور في فواعل جمع فاعلة، فإن كان من صفة النساء فواضح وقد تحذف الهاء في صفة المفرد

(8/314)


من النساء وإن كان من صفة الرجال فالهاء للمبالغة يقال رجل خالفة لا خير فيه: والأصلي في جمعه بالنون. واستدرك بعض الشراح على الخمسة المتقدمة كأهل وكواهل وجائح وجوائح وغارب وغوارب وغاش وغواش، ولا يرد شيء منها لأن الأولين ليسا من صفات الآدميين، والآخران جمع غارب وغاشية والهاء للمبالغة إن وصف بها المذكر، وقد قال المبرد في الكامل في قول الفرزدق:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأذقان
احتاج الفرزدق لضرورة الشعر فأجرى نواكس على أصله، ولا يكون مثل هذا أبدا إلا في ضرورة، ولا تجمع النجاة ما كان من فاعل نعتا على فواعل لئلا يلتبس بالمؤنث، ولم يأت ذا إلا في حرفين فارس وفوارس، وهالك وهوالك، أما الأول فإنه لا يستعمل في الفرد فأمن فيه اللبس، وأما الثاني فلأنه جرى مجرى المثل يقولون هالك في الهوالك فأجروه على أصله لكثرة الاستعمال. قلت: فظهر أن الضابط في هذا أن يؤمن اللبس أو يكثر الاستعمال أو تكون الهاء للمبالغة أو يكون في ضرورة الشعر والله أعلم. وقال ابن قتيبة: الخوالف النساء ويقال خساس النساء ورذالتهم، ويقال فلان خالفه أهله إذا كان دينا فيهم. والمراد بالخوالف في الآية النساء والرجال العاجزون والصبيان فجمع جمع المؤنث تغليبا لكونهن أكثر في ذلك من غيرهن. وأما قوله: {مَعَ الْخَالِفِينَ} فجمع جمع الذكور تغليبا لأنه الأصل. قوله: "الخيرات واحدها خيرة وهي الفواضل" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} جمع خيرة ومعناها الفاضلة من كل شيء. قوله: "مرجون مؤخرون" سقط هذا لأبي ذر. قوله: "الشفا الشفير وهو حده" في رواية الكشميهني وهو حرفه. قوله: "والجرف ما تجرف من السيول والأودية" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {شَفَا جُرُفٍ} الشفا الشفير، والجرف ما لم بين من الركايا، قال: والآية على التمثيل لأن الذي يبني على الكفر فهو على شفا جرف وهو ما تجرف من السيول والأودية ولا يثبت البناء عليه. قوله: "هار هائر، تهورت البئر إذا انهدمت، وانهار مثله" قال أبو عبيدة في قوله تعالى :{هَارٍ} أي هائر: والعرب تنزع الياء التي في الفاعل، وقيل لا قلب فيه وإنما هو بمعنى ساقط، وقد تقدم شيء من هذا في آل عمران قوله: "لأواه شفقا وفرقا، قال الشاعر:
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} : هو فعاله من التأوه ومعناه متضرع شفقا وفرقا لطاعة ربه قال الشاعر فذكره. وقوله: "أرحلها" هو بفتح الهمزة والحاء المهملة، وقوله: "آهة" بالمد للأكثر وفي رواية الأصيلي بتشديد الهاء بلا مد. "تنبيه" هذا الشعر للمثقب العبدي واسمه جحاش بن عائذ، وقيل ابن نهار وهو من جملة قصيدة أولها:
أفاطم قبل بينك متعيني ... ومنعك ما سألت كأن تبيني
ولا تعدي مواعد كاذبات ... تمر بها رياح الصيف دوني
فإني لو تخالفني شمالي ... لما أتبعتها أبدا يميني
ويقول فيها:
فأما أن تكون أخي بحق ... فأعرف منك غثي من سميني

(8/315)


وإلا فاطرحني واتخذني ... عدوا أتقيك وتتقيني
وهي كثيرة الحكم والأمثال. وكان أبو محمد بن العلاء يقول: لو كان الشعر مثلها وجب على الناس أن يتعلموه.

(8/316)


1- باب {بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} أَذَانٌ إِعْلاَمٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أُذُنٌ يُصَدِّقُ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَنَحْوُهَا كَثِيرٌ وَالزَّكَاةُ الطَّاعَةُ وَالإِخْلاَصُ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ لاَ يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يُضَاهُونَ يُشَبِّهُون"
قوله: "باب قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} - إلى – {الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . أذان إعلام" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال علم من الله، وهو مصدر من قولك أذنتهم أي أعلمتهم. قوله: "وقال ابن عباس: أذن يصدق" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "ويقولون هو أذن" يعني أنه يسمع من كل أحد، قال الله {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} يعني يصدق بالله، وظهر أن يصدق تفسير يؤمن لا تفسير أذن كما يفهمه صنيع المصنف حيث اختصره. قوله: "تطهرهم وتزكيهم بها ونحوها كثير" وفي بعض النسخ "ومثل هذا كثير" أي في القرآن، ويقال التزكية "والزكاة الطاعة والإخلاص" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} قال: الزكاة طاعة الله والإخلاص. قوله: "لا يؤتون الزكاة لا يشهدون أن لا إله إلا الله" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} قال: هم الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله. وهذه الآية من تفسير فصلت ذكرها هنا استطرادا. وفي تفسير ابن عباس الزكاة بالطاعة والتوحيد دفع لاحتجاج من احتج بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. قوله: "يضاهون يشبهون" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي يشبهون. وقال أبو عبيدة: المضاهاة التشبيه. ثم ذكر حديث البراء في آخر آية نزلت وآخر سورة نزلت، فأما الآية فتقدم حديث ابن عباس في سورة البقرة وأن آخر آية نزلت آية الربا، ويجمع بأنهما لم ينقلاه وإنما ذكراه عن استقراء بحسب ما اطلعا عليه، وأولى من ذلك أن كلا منهما أراد آخرية مخصوصة، وأما السورة فالمراد بعضها أو معظمها وإلا ففيها آيات كثيرة نزلت قبل سنة الوفاة النبوية، وأوضح من ذلك أن أول براءة نزل عقب فتح مكة في سنة تسع عام حج أبي بكر وقد نزل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وهي في المائدة في حجة الوداع سنة عشر، فالظاهر أن المراد. معظمها، ولا شك أن غالبها نزل في غزوة تبوك وهي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في تفسير {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} أنها آخر سورة نزلت وأذكر الجمع هناك إن شاء الله تعالى. وقد قيل في آخرية نزول براءة أن المراد بعضها، فقيل قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} الآية وقيل {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وأصح

(8/316)


الأقوال في آخرية الآية قوله تعالى: {واتْقُوا يَومَاً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللهِ} كما تقدم في البقرة، ونقل ابن عبد السلام "آخر آية نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما ثم نزلت آية البقرة" والله أعلم.

(8/317)


باب {فسيحوا في الأرض أربعة أشهرا...}
...
2- باب {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} سِيحُوا: سِيرُوا
4655- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ فِي أَهْلِ مِنًى بِبَرَاءَةَ وَأَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَان"
قوله: "باب {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ساق إلى "الكافرين" . "فسيحوا سيروا" هو كلام أبي عبيدة بزيادة قال في قوله تعالى:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} قال: سيروا وأقبلوا وأدبروا. قوله: "حدثني الليث عن عقيل" في الرواية التي بعدها "حدثني الليث حدثني عقيل" ولليث فيه شيخ آخر تقدم في كتاب الحج عن يحيى بن بكير عن الليث عن يونس. قوله: "عن ابن شهاب وأخبرني حميد" قال الكرماني: بواو العطف إشعارا بأنه أخبره أيضا بغير ذلك، وقيل فهو عطف على مقدر. قلت: لم أر في طرق حديث أبي هريرة عن أبي بكر الصديق زيادة إلا ما وقع في رواية شعيب عن الزهري، فإن فيه: "كان المشركون يوافون بالتجارة فينتفع بها المسلمون، فلما حرم الله على المشركين أن يقربوا المسجد الحرام وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عنهم من التجارة، فنزلت: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} الآية ثم أحل في الآية الأخرى الجزية" الحديث أخرجه الطبراني وابن مردويه مطولا من طريق شعيب، وهو عند المصنف في كتاب الجزية من هذا الوجه. قوله: "أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: بعثني" في رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب في الباب الذي يليه "أن أبا هريرة أخبره" .

(8/317)


3- باب {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} آذَنَهُمْ أَعْلَمَهُمْ
4656- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي الْمُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ قَالَ حُمَيْدٌ ثُمَّ أَرْدَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(8/317)


4- بَاب {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ}
4657- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ أَنْ لاَ يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ فَكَانَ حُمَيْدٌ يَقُولُ يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة"
قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن منصور كما جزم به المزي ويعقوب بن إبراهيم أي ابن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وصالح هو ابن كيسان، وقد تقدم في أوائل الصلاة من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن

(8/320)


ابن أخي ابن شهاب عن عمه، فله فيه طريقان، وسياقه عن ابن أخي ابن شهاب موافق لسياق عقيل، وأما رواية صالح فوقع في آخرها "فكان حميد يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة" وهذه الزيادة قد أدرجها شعيب عن الزهري كما تقدم في الجزية ولفظه عن أبي هريرة "بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم مشرك" انتهى وقوله: "ويوم الحج الأكبر يوم النحر" هو قول حميد بن عبد الرحمن استنبطه من قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} ومن مناداة أبي هريرة بذلك بأمر أبي بكر يوم النحر، فدل على أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم النحر، وسياق رواية شعيب يوهم أن ذلك مما نادى به أبو بكر، وليس كذلك فقد تضافرت الروايات عن أبي هريرة بأن الذي كان ينادي به هو ومن معه من قبل أبي بكر شيئان: منع حج المشركين، ومنع طواف العريان، وأن عليا أيضا كان ينادي بهما، وكان يزيد: من كان له عهد فعهده إلى مدته، وأن لا يدخل الجنة إلا مسلم. وكأن هذه الأخيرة كالتوطئة لأن لا يحج البيت مشرك، وأما التي قبلها فهي التي اختص علي بتبليغها، ولهذا قال العلماء: إن الحكمة في إرسال علي بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده أو من هو منه بسبيل من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم، ولهذا قال: "لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي" وروى أحمد والنسائي من طريق محرر بن أبي هريرة عن أبيه قال كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ببراءة، فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله أربعة أشهر فإذا مضت فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج بعد العام مشرك. فكنت أنادي حتى صحل صوتي "وقوله وإنما قيل الأكبر إلخ في حديث ابن عمر عند أبي داود وأصله في هذا الصحيح رفعه:"أي يوم هذا؟ قالوا: هذا يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر" واختلف في المراد بالحج الأصغر فالجمهور على أنه العمرة، وصل ذلك عبد الرزاق من طريق عبد الله بن شداد أحد كبار التابعين، ووصله الطبري عن جماعة منهم عطاء والشعبي، وعن مجاهد: الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد. وقيل يوم الحج الأصغر يوم عرفة ويوم الحج الأكبر يوم النحر لأن فيه تتكمل بقية المناسك. وعن الثوري: أيام الحج تسمى يوم الحج الأكبر كما يقال يوم الفتح. وأيده السهيلي بأن عليا أمر بذلك في الأيام كلها. وقيل لأن أهل الجاهلية كانوا يقفون بعرفة وكانت قريش تقف بالمزدلفة، فإذا كانت صبيحة النحر وقف الجميع بالمزدلفة فقيل له الأكبر لاجتماع الكل فيه، وعن الحسن: سمي بذلك لاتفاق حج جميع الملل فيه: وروى الطبري من طريق أبي جحيفة وغيره: أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة. ومن طريق سعيد بن جبير أنه النحر. واحتج بأن اليوم التاسع وهو يوم عرفة إذا انسلخ قبل الوقوف لم يفت الحج بخلاف العاشر فإن الليل إذا انسلخ قبل الوقوف فات. وفي رواية الترمذي من حديث علي مرفوعا وموقوفا "يوم الحج الأكبر يوم النحر" ورجح الموقوف، وقوله: "فنبذ أبو بكر إلخ" وهو أيضا مرسل من قول حميد بن عبد الرحمن، والمراد أن أبا بكر أفصح لهم بذلك، وقيل إنما لم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أبي بكر عنه ببراءة لأنها تضمنت مدح أبي بكر، فأراد أن يسمعوها من غير أبي بكر، وهذه غفلة من قائله حمله عليها ظنة أن المراد تبليغ براءة كلها، وليس الأمر كذلك

(8/321)


لما قدمناه، وإنما أمر بتبليغه منها أوائلها فقط، وقد قدمت حديث جابر وفيه: "أن عليا قرأها حتى ختمها" وطريق الجمع فيه، واستدل به علي أن حجة أبي بكر كانت في ذي الحجة على خلاف المنقول عن مجاهد وعكرمة بن خالد، وقد قدمت النقل عنهما بذلك في المغازي، ووجه الدلالة أن أبا هريرة قال: "بعثني أبو بكر في تلك الحجة يوم النحر" وهذا لا حجة فيه لأن قول مجاهد إن ثبت فالمراد بيوم النحر الذي هو صبيحة يوم الوقوف سواء كان الوقوف وقع في ذي القعدة أو في ذي الحجة. نعم روى ابن مردويه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "كانوا يجعلون عاما شهرا وعاما شهرين" يعنى يحجون في شهر واحد مرتين في سنتين ثم يحجون في الثالث في شهر آخر غيره، قال: فلا يقع الحج في أيام الحج إلا في كل خمسة وعشرين سنة، فلما كان حج أبي بكر وافق ذلك العام شهر الحج فسماه الله الحج الأكبر. "تنبيه" : اتفقت الروايات على أن حجة أبي بكر كانت سنة تسع، ووقع في حديث لعبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال: "لما كان زمن خيبر اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة. ثم أمر أبا بكر الصديق على تلك الحجة. قال الزهري: وكان أبو هريرة يحدث أن أبا بكر أمره أن يؤذن ببراءة، ثم أتبع النبي صلى الله عليه وسلم عليا، الحديث. قال الشيخ عماد الدين بن كثير: هذا فيه غرابة من جهة أن الأمير في سنة عمرة الجعرانة كان عتاب بن أسيد، وأما حجة أبي بكر فكانت سنة تسع. قلت: يمكن رفع الإشكال بأن المراد بقوله: "ثم أمر أبا بكر" يعني بعد أن رجع إلى المدينة وطوى ذلك من ولي الحج سنة ثمان. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من العمرة إلى الجعرانة فأصبح بها توجه هو ومن معه إلى المدينة، إلى أن جاء أوان الحج فأمر أبا بكر وذلك سنة تسع. وليس المراد أنه أمر أبا بكر أن يحج في السنة التي كانت فيها عمرة الجعرانة. وقوله: "على تلك الحجة" يريد الآتية بعد رجوعهم إلى المدينة.

(8/322)


5- باب {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ}
4658- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الآيَةِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ وَلاَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ إِنَّكُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُخْبِرُونَا فَلاَ نَدْرِي فَمَا بَالُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ بُيُوتَنَا وَيَسْرِقُونَ أَعْلاَقَنَا قَالَ أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ أَجَلْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَوْ شَرِبَ الْمَاءَ الْبَارِدَ لَمَا وَجَدَ بَرْدَه"

(8/322)


6- باب {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
4659- حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَع"
4660- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ مَرَرْتُ عَلَى أَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ فَقُلْتُ مَا أَنْزَلَكَ بِهَذِهِ الأَرْضِ قَالَ كُنَّا بِالشَّأْمِ فَقَرَأْتُ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ

(8/322)


7- باب {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}
4661- وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلأَمْوَالِ
قوله: "باب قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية" . قوله: "يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع" كذا أورده مختصرا، وهو عند أبي نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن أبي اليمان وزاد: "يفر منه صاحبه ويطلبه، أنا كنزك، فلا يزال به حتى يلقمه إصبعه" وكذا أخرجه النسائي من طريق علي بن عياش عن شعيب، وقد تقدم من وجه آخر عن أبي هريرة في كتاب الزكاة مع شرح حديث أبي ذر في قصته مع معاوية في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه} وقد تقدم في الزكاة أيضا مع شرحه. قوله باب قوله عز وجل: { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا} الآية" قوله: "وقال أحمد بن شبيب" كذا أورده مختصرا، وتقدم بأتم منه في كتاب الزكاة مع شرحه.

(8/324)


8- باب {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} هُوَ الْقَائِمُ
4662- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان"
قوله: "باب قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} أي إن الله سبحانه وتعالى لما ابتدأ خلق السموات والأرض جعل السنة اثني عشر شهرا. قوله: "منها أربعة حرم" قد ذكر تفسيرها في حديث الباب. قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} قال أبو عبيدة في قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} مجازة القائم أي المستقيم، فخرج مخرج سيد، من ساد يسود كقام يقوم. قوله: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي في الأربعة باستحلال القتال، وقيل بارتكاب المعاصي. قوله: "إن الزمان قد استدار كهيئته" تقدم الكلام عليه في أوائل بدء الخلق، وأن المراد بالزمان السنة. وقوله: "كهيئته" أي استدار استدارة مثل حالته. ولفظ: "الزمان" يطلق على قليل الوقت وكثيره، والمراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل والنهار. ووقع في حديث ابن عمر عند ابن مردويه "أن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" . قوله: "السنة اثنا عشر شهرا" أي السنة العربية الهلالية،

(8/324)


9- باب {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
أَيْ نَاصِرُنَا السَّكِينَةُ فَعِيلَةٌ مِنْ السُّكُونِ
4663- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا قَالَ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا"

(8/325)


4664- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ حِينَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ قُلْتُ أَبُوهُ الزُّبَيْرُ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ وَجَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ وَجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ فَقُلْتُ لِسُفْيَانَ إِسْنَادُهُ فَقَالَ حَدَّثَنَا فَشَغَلَهُ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَقُلْ ابْنُ جُرَيْج"
[الحديث 4664- طرفه في: 4665، 4666]
4665- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فَغَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ أَتُرِيدُ أَنْ تُقَاتِلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَتُحِلَّ حَرَمَ اللَّهِ فَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَبَنِي أُمَيَّةَ مُحِلِّينَ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُحِلُّهُ أَبَدًا قَالَ قَالَ النَّاسُ بَايِعْ لابْنِ الزُّبَيْرِ فَقُلْتُ وَأَيْنَ بِهَذَا الأَمْرِ عَنْهُ أَمَّا أَبُوهُ فَحَوَارِيُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الزُّبَيْرَ وَأَمَّا جَدُّهُ فَصَاحِبُ الْغَارِ يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ وَأُمُّهُ فَذَاتُ النِّطَاقِ يُرِيدُ أَسْمَاءَ وَأَمَّا خَالَتُهُ فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ عَائِشَةَ وَأَمَّا عَمَّتُهُ فَزَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ خَدِيجَةَ وَأَمَّا عَمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَدَّتُهُ يُرِيدُ صَفِيَّةَ ثُمَّ عَفِيفٌ فِي الإِسْلاَمِ قَارِئٌ لِلْقُرْآنِ وَاللَّهِ إِنْ وَصَلُونِي وَصَلُونِي مِنْ قَرِيبٍ وَإِنْ رَبُّونِي رَبُّونِي أَكْفَاءٌ كِرَامٌ فَآثَرَ التُّوَيْتَاتِ وَالأُسَامَاتِ وَالْحُمَيْدَاتِ يُرِيدُ أَبْطُنًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ بَنِي تُوَيْتٍ وَبَنِي أُسَامَةَ وَبَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ أَبِي الْعَاصِ بَرَزَ يَمْشِي الْقُدَمِيَّةَ يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَإِنَّهُ لَوَّى ذَنَبَهُ يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْر"
4666- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ أَلاَ تَعْجَبُونَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ قَامَ فِي أَمْرِهِ هَذَا فَقُلْتُ لاَحَاسِبَنَّ نَفْسِي لَهُ مَا حَاسَبْتُهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلاَ لِعُمَرَ وَلَهُمَا كَانَا أَوْلَى بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْهُ وَقُلْتُ ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ وَابْنُ أُخْتِ عَائِشَةَ فَإِذَا هُوَ يَتَعَلَّى عَنِّي وَلاَ يُرِيدُ ذَلِكَ فَقُلْتُ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أَعْرِضُ هَذَا مِنْ نَفْسِي فَيَدَعُهُ وَمَا أُرَاهُ يُرِيدُ خَيْرًا وَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ لاَنْ يَرُبَّنِي بَنُو عَمِّي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي غَيْرُهُم"
قوله: "باب قوله: {ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أي ناصرنا" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أي ناصرنا وحافظنا. قوله: "السكينة فعيلة من السكون" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي وهو المذكور في جميع أحاديث الباب إلا الطريق الأخير، وفي شيوخه عبد الله بن محمد جماعة منهم أبو بكر بن أبي شيبة، ولكن حيث يطلق ذلك فالمراد به الجعفي لاختصاصه به وإكثاره عنه. وحبان بفتح أوله ثم الموحدة الثقيلة هو ابن هلال، وقد تقدم الحديث مع شرحه في مناقب أبي بكر. قوله: "حين وقع بينه وبين ابن الزبير" أي بسبب البيعة، وذلك أن ابن الزبير حين مات معاوية امتنع من البيعة

(8/326)


ليزيد بن معاوية وأصر على ذلك حتى أغرى يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة بالمدينة فكانت وقعة الحرة، ثم توجه الجيش إلى مكة فمات أميرهم مسلم بن عقبة وقام بأمر الجيش الشامي حصين بن نمير فحصر ابن الزبير بمكة، ورموا الكعبة بالمنجنيق حتى احترقت. ففجأهم الخبر بموت يزيد بن معاوية فرجعوا إلى الشام، وقام ابن الزبير في بناء الكعبة، ثم دعا إلى نفسه فبويع بالخلافة وأطاعه أهل الحجاز ومصر والعراق وخراسان وكثير من أهل الشام، ثم غلب مروان على الشام وقتل الضحاك بن قيس الأمير من قبل ابن الزبير بمرج راهط، ومضى مروان إلى مصر وغلب عليها، وذلك كله في سنة أربع وستين، وكمل بناء الكعبة في سنة خمس، ثم مات مروان في سنة خمس وستين وقام عبد الملك ابنه مقامه، وغلب المختار بن أبي عبيد على الكوفة ففر منه من كان من قبل ابن الزبير، وكان محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية وعبد الله بن عباس مقيمين بمكة منذ قتل الحسين، فدعاهما ابن الزبير إلى البيعة له فامتنعا وقالا: لا نبايع حتى يجتمع الناس على خليفة، وتبعهما جماعة على ذلك، فشدد عليهم ابن الزبير وحصرهم، فبلغ المختار فجهز إليهم جيشا فأخرجوهما واستأذنوهما في قتال ابن الزبير فامتنعا، وخرجا إلى الطائف فأقاما بها حتى مات ابن عباس سنة ثمان وستين، ورحل ابن الحنفية بعده إلى جهة رضوى جبل بينبع فأقام هناك، ثم أراد دخول الشام فتوجه إلى نحو أيلة فمات في آخر سنة ثلاث أو أول سنة أربع وسبعين، وذلك عقب قتل ابن الزبير على الصحيح، وقيل عاش إلى سنة ثمانين أو بعد ذلك، وعند الواقدي أنه مات بالمدينة سنة إحدى وثمانين، وزعمت الكيسانية أنه حي لم يمت وأنه المهدي وأنه لا يموت حتى يملك الأرض، في خرافات لهم كثيرة ليس هذا موضعها. وإنما لخصت ما ذكرته من طبقات ابن سعد وتاريخ الطبري وغيره لبيان المراد بقول ابن أبي مليكة" حين وقع بينه وبين ابن الزبير" ، ولقوله في الطريق الأخرى" فغدوت على ابن عباس فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير؟ وقول ابن عباس: قال الناس بايع لابن الزبير، فقلت: وأين بهذا الأمر عنه" أي أنه مستحق لذلك لما له من المناقب المذكورة، ولكن امتنع ابن عباس من المبايعة له لما ذكرناه. وروى الفاكهي من طريق سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال:"كان ابن عباس وابن الحنفية بالمدينة ثم سكنا مكة، وطلب منهما ابن الزبير البيعة فأبيا حتى يجتمع الناس على رجل، فضيق عليهما فبعث رسولا إلى العراق فخرج إليهما جيش في أربعة آلاف فوجدوهما محصورين، وقد أحضر الحطب فجعل على الباب يخوفهما بذلك، فأخرجوهما إلى الطائف" وذكر ابن سعد أن هذه القصة وقعت بين ابن الزبير وابن عباس في سنة ست وستين. قوله:"وأمه أسماء" أي بنت أبي بكر الصديق، وقوله:"وجدته صفية" أي بنت عبد المطلب، وقوله في الرواية الثانية" وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم يريد خديجة أطلق عليها عمته تجوزا وإنما هي عمة أبيه لأنها خديجة بنت خويلد أي ابن أسد، والزبير هو ابن العوام بن خويلد بن أسد، وكذا تجوز في الرواية الثالثة حيث قال: "ابن أبي بكر" وإنما هو ابن بنته، وحيث قال: "ابن أخي خديجة" وإنما هو ابن ابن أخيها العوام. قوله: "فقلت لسفيان إسناده" بالنصب أي اذكر إسناده، أو بالرفع أي ما إسناده. فقال: "حدثنا فشغله إنسان ولم يقل ابن جريج" ظاهر هذا أنه صرح له بالتحديث لكن لما يقل ابن جريج احتمل أن يكون أراد أن يدخل بينهما واسطة، واحتمل عدم الواسطة، ولذلك استظهر البخاري بإخراج الحديث من وجه آخر عن ابن جريج، ثم من وجه آخر عن شيخه. قوله في الطريق الثانية "حجاج" هو ابن محمد المصيصي. قوله: "قال ابن أبي مليكة وكان بينهما شيء" كذا أعاد الضمير بالتثنية على غير مذكور اختصارا

(8/327)


ومراده ابن عباس وابن الزبير، وهو صريح في الرواية الأولى حيث قال قال ابن عباس حين وقع بينه وبين ابن الزبير. قوله: "فتحل ما حرم الله" أي من القتال في الحرم. قوله: "كتب" أي قدر. قوله: "محلين" أي أنهم كانوا يبيحون القتال في الحرم، وإنما نسب ابن الزبير إلى ذلك وإن كان بنو أمية هم الذين ابتدءوه بالقتال وحصروه وإنما بدأ منه أولا دفعهم عن نفسه لأنه بعد أن ردهم الله عنه حصر بني هاشم ليبايعوه، فشرع فيما يؤذن بإباحته القتال في الحرم، وكان بعض الناس يسمى ابن الزبير "المحل" لذلك، قال الشاعر يتغزل في أخته رملة:
ألا من لقلب معنى غزل ... بحب المحلة أخت المحل
وقوله لا أحله أبدا أي لا أبيح القتال فيه، وهذا مذهب ابن عباس أنه لا يقاتل في الحرم ولو قوتل فيه. قوله: "قال قال الناس" القائل هو ابن عباس وناقل ذلك عنه ابن أبي مليكة فهو متصل، والمراد بالناس من كان من جهة ابن الزبير وقوله: "بايع" بصيغة الأمر وقوله: "وأين بهذا الأمر" أي الخلافة أي ليست بعيدة عنه لما له من الشرف بأسلافه الذين ذكرهم ثم صفته التي أشار إليها بقوله عفيف في الإسلام قارئ للقرآن. وفي رواية ابن قتيبة من طريق محمد بن الحكم عن عوانة ومن طريق يحيى بن سعد عن الأعمش قال: "قال ابن عباس لما قيل له بايع لابن الزبير: أين المذهب عن ابن الزبير وسيأتي الكلام على قوله في الرواية الثانية ابن أبي بكر في تفسير الحجرات. قوله: "والله إن وصلوني وصلوني من قريب" أي بسبب القرابة. قوله: "وإن ربوني" بفتح الراء وضم الموحدة الثقيلة من التربية. قوله: "ربوني" في رواية الكشميهني ربني بالإفراد، وقوله: "أكفاء" أي أمثال واحدها كفء، وقوله: "كرام" أي في أحسابهم، وظاهر هذا أن مراد ابن عباس بالمذكورين بنو أسد رهط ابن الزبير وكلام أبي مخنف الإخباري يدل على أنه أراد بني أمية، فإنه ذكر من طريق أخرى أن ابن عباس لما حضرته الوفاة بالطائف جمع بنيه فقال: "يا بني إن ابن الزبير لما خرج بمكة شددت أزره ودعوت الناس إلى بيعته وتركت بني عمنا من بني أمية الذين إن قبلونا قبلونا أكفاء، وإن ربونا ربونا كراما. فلما أصاب ما أصاب جفاني" ويؤيد هذا ما في آخر الرواية الثالثة حيث قال: "وإن كان لا بد لأن يربني بنو عمي أحب إلي من أن يربني غيرهم" فإن بني عمه هم بنو أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف لأنهم من بني عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف فعبد المطلب جد عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم أمية جد مروان بن الحكم بن أبي العاص، وكان هاشم وعبد شمس شقيقين، قال الشاعر:
عبد شمس كان يتلو هاشما ... وهما بعد لأم ولأب
وأصرح من ذلك ما في خبر أبي مخنف فإن في آخره: "أن ابن عباس قال لبنيه: فإذا دفنتموني فالحقوا ببني عمكم بني أمية" ثم رأيت بيان ذلك واضحا فيما أخرجه ابن أبي خيثمة في تاريخه في الحديث المذكور فإنه قال بعد قوله ثم عفيف في الإسلام قارئ للقرآن "وتركت بني عمي إن وصلوني وصلوني عن قريب" أي أذعنت له وتركت بني عمي فآثر على غيري، وبهذا يستقيم الكلام، وأصرح من ذلك في رواية ابن قتيبة المذكورة أن ابن عباس قال لابنه علي "الحق بابن عمك، فإن أنفك منك وإن كان أجدع، فلحق علي بعبد الملك فكان آثر الناس عنده" . قوله: "فآثر علي" بصيغة الفعل الماضي من الأثرة، ووقع في رواية الكشميهني فأين بتحتانية ساكنة ثم نون وهو

(8/328)


تصحيف. وفي رواية ابن قتيبة المذكورة "فشددت على عضده فآثر علي فلم أرض بالهوان" . قوله: "التويتات والأسامات والحميدات يريد أبطنا من بني أسد" أما التويتات فنسبة إلى بني تويت بن أسد ويقال تويت بن الحارث بن عبد العزى بن قصي، وأما الأسامات فنسبة إلى بني أسامة بن أسد بن عبد العزي، وأما الحميدات فنسبة إلى بني حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، قال الفاكهي: حدثنا الزبير بن بكار عن محمد بن الضحاك في آخرين أن زهير بن الحارث دفن في الحجر. قال وحدثنا الزبير قال: كان حميد بن زهير أول من بنى بمكة بيتا مربعا، وكانت قريش تكره ذلك لمضاهاة الكعبة، فلما بنى حميد بيته قال قائلهم:
اليوم يبني لحميد بيته ... إما حياته وإما موته
فلما لم يصبه شيء تابعوه على ذلك. وتجتمع هذه الأبطن مع خويلد بن أسد جد ابن الزبير، قال الأزرقي: كان ابن الزبير إذا دعا الناس في الإذن بدأ ببني أسد على بني هاشم وبني عبد شمس وغيرهم، فهذا معنى قول ابن عباس "فآثر على التويتات إلخ" قال: فلما ولي عبد الملك بن مروان قدم بني عبد شمس ثم بني هاشم وبني المطلب وبني نوفل ثم أعطى بني الحارث بن فهر قبل بني أسد وقال: لأقدمن عليهم أبعد بطن من قريش، فكان يصنع ذلك مبالغة منه في مخالفة ابن الزبير. وجمع ابن عباس البطون المذكورة جمع القلة تحقيرا لهم. قوله: "يريد أبطنا من بني أسد بن تويت" كذا وقع وصوابه يريد أبطنا من بني تويت بن أسد إلخ نبه على ذلك عياض. قلت: وكذا وقع في مستخرج أبي نعيم على الصواب. وفي رواية أبي مخنف المذكورة أفخاذا صغارا من بني أسد بن عبد العزى، وهذا صواب. قوله: "أن ابن أبي العاص" يعني عبد المطلب بن مروان بن الحكم بن أبي العاص. قوله: "برز: أي ظهر. قوله: "يمشي القدمية" يضم القاف وفتح الدال وقد تضم أيضا وقد تسكن وكسر الميم وتشديد التحتانية، قال الخطابي وغيره: معناها التبختر، وهو مثل يريد أنه برز يطلب معالي الأمور. قال ابن الأثير: الذي في البخاري "القدمية" وهي التقدمة في الشرف والفضل، والذي في كتب الغريب "اليقدمية" بزيادة تحتانية في أوله ومعناها التقدمة في الشرف، وقيل التقدم بالهمة والفعل. قلت: وفي رواية أبي مخنف مثل ما وقع في الصحيح. قوله: "وإنه لوى ذنبه" يعني ابن الزبير، لوى بتشديد الواو وبتخفيفها أي ثناه، وكني بذلك عن تأخره وتخلفه عن معالي الأمور، وقيل كني به عن الجبن وإيثار الدعة كما تفعل السباع إذا أرادت النوم، والأول أولى، وفي مثله قال الشاعر:
مشى ابن الزبير القهقرى وتقدمت ... أمية حتى أحرزوا القصبات
وقال الداودي: المعنى أنه وقف فلم يتقدم ولم يتأخر، ولا وضع مواضعها فأدنى الناصح وأقصى الكاشح. وقال ابن التين، معنى "لوى ذنبه" لم يتم له ما أراده. وفي رواية أبي مخنف المذكورة "وإن ابن الزبير يمشي القهقرى" وهو المناسب لقوله في عبد الملك، يمشي القدمية، وكان الأمر كما قال ابن عباس، فإن عبد الملك لم يزل في تقدم من أمره إلى أن استنقذ العراق من ابن الزبير وقتل أخاه مصعبا، ثم جهز العساكر إلى ابن الزبير بمكة فكان من الأمر ما كان، ولم يزل أمر ابن الزبير في تأخر إلى أن قتل رحمه الله تعالى. قوله في الرواية الثالثة "عن عمر بن سعيد" أي ابن أبي حسين المكي، وقوله: "لأحاسبن نفسي" أي لأناقشنها في معونته ونصحه، قاله الخطابي. وقال الداودي: معناه لأذكرن من مناقبه ما لم أذكر من مناقبهما، وإنما صنع ابن عباس ذلك لاشتراك

(8/329)


الناس في معرفة مناقب أبي بكر وعمر، بخلاف ابن الزبير فما كانت مناقبه في الشهرة كمناقبهما فأظهر ذلك ابن عباس وبينه للناس إنصافا منه له، فلما لم ينصفه هو رجع عنه. قوله: "فإذا هو يتعلى عني" أي يترفع علي متنحيا عني. قوله: "ولا يريد ذلك" أي لا يريد أن أكون من خاصته. وقوله: "ما كنت أظن أني أغرض هذا من نفسي" أي أبدؤه بالخضوع له ولا يرضى مني بذلك، وقوله: "وما أراه يريد خيرا" أي لا يريد أن يصنع بي خيرا. وفي رواية الكشميهني: "وإنما أراه يريد خيرا" وهو تصحيف، ويوضحه ما تقدم. وقوله: "لأن يربني" أي يكون علي ربا أي أميرا، أو ربه بمعنى رباه وقام بأمره وملك تدبيره، قال التيمي: معناه لأن أكون في طاعة بني أمية أحب إلي من أن أكون في طاعة بني أسد، لأن بني أمية أقرب إلى بني هاشم من بني أسد كما تقدم، والله أعلم

(8/330)


10- باب {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} قَالَ مُجَاهِدٌ يَتَأَلَّفُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ
4667- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بُعِثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ وَقَالَ: "أَتَأَلَّفُهُمْ فَقَالَ رَجُلٌ مَا عَدَلْتَ فَقَالَ: "يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّين"
قوله باب قوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} قال مجاهد يتألفهم بالعطية" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وسقط قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} من غير رواية أبي ذر وهو أوجه، إذ لم يذكر ما يتعلق بالرقاب. حديث سعيد إلى "بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فقسمه بين أربعة وقال أتألفهم، فقال رجل ما عدلت" أورده مختصرا جدا وأبهم الباعث والمبعوث وتسمية الأربعة والرجل القائل، وقد تقدم بيان جميع ذلك في غزوة حنين من المغازي.

(8/330)


11- باب {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}
يَلْمِزُونَ يَعِيبُونَ وَ جُهْدَهُمْ وَجَهْدَهُمْ طَاقَتَهُمْ
4668- حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ لَمَّا أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ كُنَّا نَتَحَامَلُ فَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا وَمَا فَعَلَ هَذَا الآخَرُ إِلاَّ رِئَاءً فَنَزَلَتْ {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} الآيَة"
4669- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ أَحَدَّثَكُمْ زَائِدَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالصَّدَقَةِ فَيَحْتَالُ أَحَدُنَا حَتَّى يَجِيءَ بِالْمُدِّ وَإِنَّ لأَحَدِهِمْ الْيَوْمَ مِائَةَ أَلْفٍ كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِنَفْسِه"

(8/330)


باب {استغفر لهم أو لا تسغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}
...
12- باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}
4670- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ قَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}
4671- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ و قَالَ غَيْرُهُ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا قَالَ أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ" إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا" قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إِلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ فَاسِقُونَ} قَالَ فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ

(8/333)


وَرَسُولُهُ أَعْلَم"
قوله: "باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} كذا لأبي ذر ورواية غيره مختصرة. قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عمر. قوله: "لما توفي عبد الله بن أبي" ذكر الواقدي ثم الحاكم في "الإكليل" أنه مات بعد منصرفهم من تبوك وذلك في ذي القعدة سنة تسع، وكانت مدة مرضه عشرين يوما ابتداؤها من ليال بقيت من شوال، قالوا: وكان قد تخلف هو ومن تبعه من غزوة تبوك، وفيهم نزلت: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} وهذا يدفع قول ابن التين أن هذه القصة كانت في أول الإسلام قبل تقرير الأحكام. قوله: "جاء ابنه عبد الله بن عبد الله" وقع في رواية الطبري من طريق الشعبي: لما اختصر عبد الله جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه، قال: ما اسمك؟ قال: الحباب - يعني بضم المهملة وموحدتين مخففا - قال: بل أنت عبد الله الحباب اسم الشيطان . وكان عبد الله بن عبد الله بن أبي هذا من فضلاء الصحابة وشهد بدرا وما بعدها واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق، ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله، قال: " بل أحسن صحبته" ، أخرجه ابن منده من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وفي الطبراني من طريق عروة بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن أبي أنه استأذن نحوه، وهذا منقطع لأن عروة لم يدركه وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام فلذلك التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده ويصلي عليه، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة قال: "أرسل عبد الله ابن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه قال: أهلكك حب يهود ، فقال: يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتوبخني. ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه فأجابه" وهذا مرسل مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لما مرض عبد الله بن أبي جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه فقال: قد فهمت ما تقول، فامنن علي فكفني في قميصك وصل علي ففعل" وكأن عبد الله بن أبي أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته فأظهر الرغبة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك كما سيأتي، وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلق بهذه القصة. قوله: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم" في حديث ابن عباس عن عمر ثاني حديث الباب: "فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي حديث الترمذي من هذا الوجه "فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله: "يشير بذلك إلى مثل قوله: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} وإلى مثل قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} وسيأتي بيانه في تفسير المنافقين. قوله: "فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه" كذا في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، وقد استشكل جدا حتى أقدم بعضهم فقال: هذا وهم من بعض رواته، وعاكسه غيره فزعم أن عمر اطلع على نهي خاص في ذلك. وقال القرطبي: لعل ذلك وقع في خاطر عمر فيكون من قبيل الإلهام، ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} . قلت: الثاني يعني ما قاله القرطبي أقرب من الأول، لأنه لم يتقدم النهي عن الصلاة على المنافقين، بدليل أنه قال في آخر هذا الحديث:

(8/334)


"قال فأنزل الله {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} والذي يظهر أن في رواية الباب تجوزا بينته الرواية التي في الباب بعده من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ: "فقال تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر لهم" وروى عبد بن حميد والطبري من طريق الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال: "أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذت بثوبه فقلت: والله ما أمرك الله بهذا، لقد قال: { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} " ووقع عند ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس "فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ قال: أين؟ قال قال: {استغفر لهم} " الآية، وهذا مثل رواية الباب، فكأن عمر قد فهم من الآية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب من أن "أو" ليست للتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف المذكور أي أن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار سواء، وهو كقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} لكن الثانية أصرح، ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصة كما سأذكره، وفهم عمر أيضا من قوله: {سَبْعِينَ مَرَّةً} أنها للمبالغة وأن العدد المعين لا مفهوم له، بل المراد نفي المغفرة لهم ولو كثر الاستغفار، فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار فأطلقه، وفهم أيضا أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت طلب المغفرة للميت والشفاعة له فلذلك استلزم عنده النهي عن الاستغفار ترك الصلاة، فلذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أبي. هذا تقرير ما صدر عن عمر مع ما عرف من شدة صلابته في الدين وكثرة بغضه للكفار والمنافقين، وهو القائل في حق حاطب بن أبي بلتعة مع ما كان له من الفضل كشهوده بدرا وغير ذلك لكونه كاتب قريشا قبل الفتح "دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق" فلذلك أقدم على كلامه للنبي صلى الله عليه وسلم بما قال، ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره لما غلب عليه من الصلابة المذكورة. قال الزبير بن المنير: وإنما قال ذلك عمر حرصا على النبي صلى الله عليه وسلم ومشورة لا إلزاما، وله عوائد بذلك، ولا يبعد أن يكون النبي كان أذن له في مثل ذلك فلا يستلزم ما وقع من عمر أنه اجتهد مع وجود النص كما تمسك به قوم في جواز ذلك، وإنما أشار بالذي ظهر له فقط، ولهذا احتمل منه النبي صلى الله عليه وسلم أخذه بثوبه ومخاطبته له في مثل ذلك المقام، حتى التفت إليه متبسما كما في حديث ابن عباس بذلك في هذا الباب. قوله: "إنما خيرني الله فقال {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة}، وسأزيده على السبعين" في حديث ابن عباس عن عمر من الزيادة "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت" أي خيرت بين الاستغفار وعدمه، وقد بين ذلك حديث ابن عمر حيث ذكر الآية المذكورة. وقوله في حديث ابن عباس عن عمر "لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها" وحديث ابن عمر جازم بقصة الزيادة، وآكد منه ما روى عبد بن حميد من طريق قتادة قال: "لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد خيرني ربي، فوالله لأزيدن على السبعين" وأخرجه الطبري من طريق مجاهد مثله، والطبري أيضا وابن أبي حاتم من طريق هشام بن عروة عن أبيه مثله، وهذه طرق وإن كانت مراسيل فإن بعضها يعضد بعضا. وقد خفيت هذه اللفظة على من خرج أحاديث المختصر والبيضاوي واقتصروا على ما وقع في حديثي الباب، ودل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم أطال في حال الصلاة عليه من الاستغفار له، وقد ورد ما يدل على ذلك، فذكر الواقدي أن مجمع بن جارية قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازة قط ما أطال على جنازة عبد الله بن أبي من الوقوف" وروى الطبري من طريق مغيرة عن الشعبي قال:

(8/335)


"قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فأنا أستغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين" وقد تمسك بهذه القصة من جعل مفهوم العدد حجة، وكذا مفهوم الصفة من باب الأولى. ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم فهم أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين فقال: "سأزيد على السبعين" ، وأجاب من أنكر القول بالمفهوم بما وقع في بقية القصة، وليس ذلك بدافع للحجة، لأنه لو لم يقم الدليل على أن المقصود بالسبعين المبالغة لكان الاستدلال بالمفهوم باقيا. قوله: "قال إنه منافق فصلى عليه" أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله: وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وصلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره، واستصحابا لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح، ثم أمر بقتال المشركين فاستمر صفحه وعفوه عما يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه، ولذلك قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام وقل أهل الكفر وذلوا أمر بمجاهرة المنافقين وحملهم على حكم مر الحق، ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم، وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى. قال الخطابي: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة على ابنه وعارا على قومه، فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهى فانتهى. وتبعه ابن بطال وعبر بقوله: ورجا أن يكون معتقدا لبعض ما كان يظهر في الإسلام. وتعقبه وابن المنير بأن الإيمان لا يتبعض. وهو كما قال، لكن مراد ابن بطال أن إيمانه كان ضعيفا. قلت: وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد الله بن أبي لكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وذهل عن الوارد من الآيات والأحاديث المصرحة في حقه بما ينافي ذلك، ولم يقف على جواب شاف في ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة. وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال، وإطباقهم على ترك ذكره في كتب الصحابة مع شهرته وذكر من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة. وقد أخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة في هذه القصة قال: فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} قال: فذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: وما يغنى عنه قميصي من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه" . قوله: "فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} زاد عن مسدد في حديثه عن يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر في آخره: "فترك الصلاة عليهم" أخرجه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسدد وحماد بن زاذان عن يحيى، وقد أخرجه البخاري في الجنائز عن مسدد بدون هذه الزيادة، وفي حديث ابن عباس "فصلى عليه ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت" زاد ابن إسحاق في المغازي قال حدثني الزهري بسنده في ثاني حديثي الباب قال :"فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله" ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبي حاتم، وأخرجه الطبري من وجه آخر عن ابن إسحاق فزاد فيه: "ولا قام على قبره" وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: "لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدن على السبعين ، فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ

(8/336)


لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ورجاله ثقات مع إرساله، ويحتمل أن تكون الآيتان معا نزلتا في ذلك. قوله: "حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل. وقال غيره حدثني الليث حدثني عقيل" كذا وقع هنا، والغير المذكور هو أبو صالح كاتب الليث واسمه عبد الله بن صالح أخرجه الطبري عن المثنى بن معاذ عنه عن الليث قال حدثني عقيل. قوله: "لما مات عبد الله بن أبي بن سلول" بفتح المهملة وضم اللام وسكون الواو بعدها لام هو اسم امرأة، وهي والدة عبد الله المذكور وهي خزاعية، وأما هو فمن الخزرج أحد قبيلتي الأنصار، وابن سلول يقرأ بالرفع لأنه صفة عبد الله لا صفة أبيه. قوله: "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني" أي كلامك، واستشكل الداودي تبسمه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة مع ما ثبت أن ضحكه صلى الله عليه وسلم كان تبسما ولم يكن عند شهود الجنائز يستعمل ذلك، وجوابه أنه عبر عن طلاقة وجهه بذلك تأنيسا لعمر وتطبيقا لقلبه كالمعتذر عن ترك قبول كلامه ومشورته. قوله: "إن زدت على السبعين يغفر له" كذا للأكثر يغفر بسكون الراء جوابا للشرط. وفي رواية الكشميهني فغفر له بفاء وبلفظ الفعل الماضي وضم أوله والراء مفتوحة، والأول أوجه. قوله: "فعجبت بعد" بضم الدال "من جرأتي" بضم الجيم وسكون الراء بعدها همزة أي إقدامي عليه، وقد بينا توجيه ذلك. قوله: "والله ورسوله أعلم" ظاهره أنه قول عمر، ويحتمل أن يكون قول ابن عباس، وقد روى الطبري من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس في نحو هذه القصة" قال ابن عباس فالله أعلم أي صلاة كانت، وما خادع محمد أحدا قط" وقال بعض الشراح يحتمل أن يكون عمر ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم حين تقدم للصلاة على عبد الله بن أبي كان ناسيا لما صدر من عبد الله بن أبي وتعقب بما في السياق من تكرير المراجعة فهي دافعة لاحتمال النسيان، وقد صرح في حديث الباب بقوله: "فلما أكثرت عليه قال: "فدل على أنه كان ذاكرا.

(8/337)


13- باب {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}
4672- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِيهِ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي عَلَيْهِ فَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِثَوْبِهِ فَقَالَ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ مُنَافِقٌ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ قَالَ: إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَنِي اللَّهُ فَقَالَ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فَقَالَ: "سَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ" قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} "
قوله: "باب {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين. لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم، قال الواقدي "أنبأنا معمر عن الزهري قال: قال حذيفة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني مسر إليك سرا فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان رهط ذوي عدد من

(8/337)


المنافقين" ؛ قال فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة، فإن مشى معه وإلا لم يصل عليه" ومن طريق أخرى عن جبير بن مطعم أنهم اثنى عشر رجلا، وقد تقدم حديث حذيفة قريبا أنه لم يبق منهم غير رجل واحد. ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك أن الله علم أنهم يموتون على الكفر، بخلاف من سواهم فإنهم تابوا. ثم أورد المصنف حديث ابن عمر المذكور في الباب قبله من وجه آخر، وقوله فيه: " إنما خيرني الله أو أخبرني الله" كذا وقع بالشك، والأول بمعجمة مفتوحة وتحتانية ثقيلة من التخيير والثاني بموحدة من الإخبار، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن أبي ضمرة الذي أخرجه البخاري من طريقه بلفظ: "إنما خيرني الله" بغير شك، وكذا في أكثر الروايات بلفظ التخيير أي بين الاستغفار وعدمه كما تقدم، واستشكل فهم التخيير من الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلة الاطلاع على طرقه، قال ابن المنير: مفهوم الآية زلت فيه الأقدام، حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث وقال: لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصح أن الرسول قاله انتهى. ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاني في "التقريب" : هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها. وقال إمام الحرمين في "مختصره" : هذا الحديث غير مخرج في الصحيح. وقال في "البرهان" : لا يصححه أهل الحديث. وقال الغزالي في "المستصفى": الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح. وقال الداودي الشارح: هذا الحديث غير محفوظ. والسبب في إنكارهم صحته ما تقرر عندهم مما قدمناه، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه من حمل "أو" على التسوية لما يقتضيه سياق القصة، وحمل السبعين على المبالغة. قال ابن المنير: ليس عند أهل البيان تردد أن التخصيص بالعدد في هذا السياق غير مراد انتهى. وأيضا فشرط القول بمفهوم الصفة وكذا العدد عندهم مماثلة المنطوق للمسكوت وعدم فائدة أخرى وهنا للمبالغة فائدة واضحة، فأشكل قوله سأزيد على السبعين مع أن حكم ما زاد عليها حكمها. وقد أجاب بعض المتأخرين عن ذلك بأنه إنما قال: "سأزيد على السبعين" استمالة لقلوب عشيرته. لا أنه أراد إن زاد على السبعين يغفر له، ويؤيده تردده في ثاني حديثي الباب حيث قال: "لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت" لكن قدمنا أن الرواية ثبتت بقوله: "سأزيد" ووعده صادق، ولا سيما وقد ثبت قوله: "لأزيدن" بصيغة المبالغة في التأكيد. وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون فعل ذلك استصحابا للحال، لأن جواز المغفرة بالزيادة كان ثابتا قبل مجيء الآية فجاز أن يكون باقيا على أصله في الجواز، وهذا جواب حسن، وحاصله أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان، فكأنه جوز أن المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين لا أنه جازم بذلك، ولا يخفى ما فيه. وقيل إن الاستغفار يتنزل منزلة الدعاء، والعبد إذا سأل ربه حاجة فسؤاله إياه يتنزل منزلة الذكر لكنه من حيث طلب تعجيل حصول المطلوب ليس عبادة، فإذا كان كذلك والمغفرة في نفسها ممكنة، وتعلق العلم بعدم نفعها لا بغير ذلك، فيكون طلبها لا لغرض حصولها بل لتعظيم المدعو فإذا تعذرت المغفرة عوض الداعي عنها ما يليق به من الثواب أو دفع السوء كما ثبت في الخبر، وقد يحصل بذلك عن المدعو لهم تخفيف كما في قصة أبي طالب. هذا معنى ما قاله ابن المنير وفيه نطر لأنه يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل المغفرة له شرعا وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ووقع في أصل هذه القصة إشكال آخر وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أطلق أنه خير بين الاستغفار لهم وعدمه بقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا

(8/338)


تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وأخذ بمفهوم العدد من السبعين فقال: "سأزيد عليها" مع أنه قد سبق قبل ذلك بمدة طويلة نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} فإن هذه الآية كما سيأتي في تفسير هذه السورة قريبا نزلت في قصة أبي طالب حين قال صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فنزلت، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقا وقصة عبد الله بن أبي هذه في السنة التاسعة من الهجرة كما تقدم، فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع الجزم بكفرهم في نفس الآية؟ وقد وقفت على جواب لبعضهم عن هذا حاصله أن المنهي عنه استغفار ترجى إجابته حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم كما في قصة أبي طالب، بخلاف الاستغفار لمثل عبد الله بن أبي فإنه استغفار لقصد تطييب قلوب من بقي منهم، وهذا الجواب ليس بمرضي عندي. ونحوه قول الزمخشري فإنه قال: فإن قلت كيف خفي على أفصح الخلق وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار ولو كثر لا يجدي، ولا سيما وقد تلاه قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم؟ قلت: لم يخف عليه ذلك، ولكنه فعل ما فعل وقال ما قال إظهارا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، وهو كقول إبراهيم عليه السلام {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة المذكورة لطف بأمته، وباعث على رحمة بعضهم بعضا انتهى. وقد تعقبه ابن المنير وغيره وقالوا لا يجوز نسبة ما قاله إلى الرسول، لأن الله أخبر أنه لا يغفر للكفار، وإذا كان لا يغفر لهم فطلب المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركا لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرا للإسلام، لاحتمال أن يكون معتقده صحيحا. وهذا جواب جيد، وقد قدمت البحث في هذه الآية في كتاب الجنائز. والترجيح أن نزولها كان متراخيا عن قصة أبي طالب جدا، وأن الذي نزل في قصته {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وحررت دليل ذلك هناك، إلا أن في بقية هذه الآية من التصريح بأنهم كفروا بالله ورسوله ما يدل على أن نزول ذلك وقع متراخيا عن القصة، ولعل الذي نزل أولا وتمسك النبي صلى الله عليه وسلم به قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} إلى هنا خاصة، ولذلك اقتصر في جواب عمر على التخيير وعلى ذكر السبعين، فلما وقعت القصة المذكورة كشف الله عنهم الغطاء، وفضحهم على رءوس الملأ، ونادى عليهم بأنهم كفروا بالله ورسوله. ولعل هذا هو السر في اقتصار البخاري في الترجمة من هذه الآية على هذا القدر إلى قوله: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ولم يقع في شيء من نسخ كتابه تكميل الآية كما جرت به العادة من اختلاف الرواة عنه في ذلك. وإذا تأمل المتأمل المنصف وجد الحامل على من رد الحديث أو تعسف في التأويل ظنه بأن قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} نزل مع قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي نزلت الآية كاملة، لأنه لو فرض نزلها كاملة لاقترن بالنهي العلة وهي صريحة في أن قليل الاستغفار وكثيره لا يجدي، وإلا فإذا فرض ما حررته أن هذا القدر نزل متراخيا عن صدر الآية ارتفع الإشكال، وإذا كان الأمر كذلك فحجة المتمسك من القصة بمفهوم العدد صحيح، وكون ذلك وقع من النبي صلى الله عليه وسلم متمسكا بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك لا إشكال فيه، فلله الحمد على ما ألهم وعلم. وقد وقفت لأبي نعيم الحافظ صاحب "حلية الأولياء" على جزء جمع فيه طرق هذا الحديث وتكلم على معانيه فلخصته، فمن ذلك أنه قال: وقع في رواية أبي أسامة وغيره عن عبيد الله العمري في قول عمر "أتصلي عليه وقد نهاك الله عن

(8/339)


الصلاة على المنافقين" ولم يبين محل النهي، فوقع بيانه في رواية أبي ضمرة عن العمري، وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم ولفظه: "وقد نهاك الله أن تستغفر لهم" قال وفي قول ابن عمر "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا معه" أن عمر ترك رأي نفسه وتابع النبي صلى الله عليه وسلم، ونبه على أن ابن عمر حمل هذه القصة عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، بخلاف ابن عباس فإنه إنما حملها عن عمر إذ لم يشهدها. قال: وفيه جواز الشهادة على المرء بما كان عليه حيا وميتا، لقول عمر "إن عبد الله منافق" ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قوله. ويؤخذ أن المنهي عنه من سب الأموات ما قصد به الشتم لا التعريف، وأن المنافق تجرى عليه أحكام الإسلام الظاهرة، وأن الإعلام بوفاة الميت مجردا لا يدخل في النعي المنهي عنه. وفيه جواز سؤال الموسر من المال من ترجى بركته شيئا من ماله لضرورة دينية. وفيه رعاية الحي المطيع بالإحسان إلى الميت العاصي. وفيه التكفين بالمخيط، وجواز تأخير البيان عن وقت النزول إلى وقت الحاجة، والعمل بالظاهر إذا كان النص محتملا. وفيه جواز تنبيه المفضول للفاضل على ما يظن أنه سها عنه، وتنبيه الفاضل المفضول على ما يشكل عليه، وجواز استفسار السائل المسئول وعكسه عما يحتمل ما دار بينهما، وفيه جواز التبسم في حضور الجنازة عند وجود ما يقتضيه. وقد استحب أهل العلم عدم التبسم من أجل تمام الخشوع، فيستثنى منه ما تدعو إليه الحاجة، وبالله التوفيق

(8/340)


باب {سيحلفون بالله إذا أنقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ...}
...
14- باب {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
4673- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ وَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ بَعْدَ إِذْ هَدَانِي أَعْظَمَ مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أُنْزِلَ الْوَحْيُ {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ {الْفَاسِقِينَ}
قوله: "باب قوله: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} الآية" سقط {لَكُمْ} من رواية الأصيلي والصواب إثباتها. ثم ذكر فيه طرفا من حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته يتعلق بالترجمة، وقوله فيه: "ما أنعم الله علي من نعمة" كذا للأكثر وللمستملي وحده "على عبد نعمة" والأول هو الصواب، وقد سبق شرح الحديث بطوله في كتاب المغازي.

(8/340)


باب {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} إلى قوله {الْفَاسِقِينَ}
قوله باب قوله {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} إلى قوله {الْفَاسِقِينَ} كذا ثبت لأبي ذر وحده الترجمة بغير حديث وسقطت لللباقين وقد أخرج بن أبي حاتم من طريق بن أبي نجيح عن مجاهد أنها نزلت في المنافقين.

(8/340)


15- باب {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
4674- حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ هُوَ ابْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لَنَا: " أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فَابْتَعَثَانِي فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ قَالاَ لَهُمْ اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ قَالاَ لِي هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ قَالاَ أَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُم"
قوله: "باب قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} الآية كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى {رَحِيمٌ} وذكر فيه طرفا من حديث سمرة بن جندب في المنام الطويل، وسيأتي بتمامه مع شرحه في التعبير. قوله: "حدثنا مؤمل" زاد في رواية الأصيلي وغيره: "هو ابن هشام" وإسماعيل بن إبراهيم هو المعروف بابن علية. وقوله فيه: "كانوا شطر منهم حسن" قيل الصواب "حسنا" لأنه خبر كان، وخرجوه على أن كان تامة وشطر وحسن مبتدأ وخبره.

(8/341)


16- بَاب {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}
4675- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيْ عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ" فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ" فَنَزَلَتْ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
قوله بَاب {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ذكر فيه حديث سعيد بن المسيب عن أبيه في قصة وفاة أبي طالب، وقد سبق شرحه في كتاب الجنائز، ويأتي الإلمام بشيء منه في تفسير القصص إن شاء الله تعالى.

(8/341)


17- باب {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
4676- حدثنا أحمد بن صالح قال حدثني بن وهب قال أخبرني يونس قال أحمد وحدثنا

(8/341)


18- باب {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
4677- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ غَيْرَ غَزْوَتَيْنِ غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ وَغَزْوَةِ بَدْرٍ قَالَ فَأَجْمَعْتُ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى وَكَانَ قَلَّمَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ سَافَرَهُ إِلاَّ ضُحًى وَكَانَ يَبْدَأُ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلاَمِي وَكَلاَمِ صَاحِبَيَّ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ كَلاَمِ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَخَلِّفِينَ غَيْرِنَا فَاجْتَنَبَ النَّاسُ كَلاَمَنَا فَلَبِثْتُ كَذَلِكَ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ الأَمْرُ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فَلاَ يُصَلِّي عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَمُوتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكُونَ مِنْ النَّاسِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ فَلاَ يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلاَ يُصَلِّي وَلاَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الْآخِرُ مِنْ اللَّيْلِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً فِي شَأْنِي مَعْنِيَّةً فِي أَمْرِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أُمَّ

(8/342)


سَلَمَةَ تِيبَ عَلَى كَعْبٍ قَالَتْ أَفَلاَ أُرْسِلُ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرَهُ قَالَ إِذًا يَحْطِمَكُمْ النَّاسُ فَيَمْنَعُونَكُمْ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ" حَتَّى إِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ الْفَجْرِ آذَنَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَكَانَ إِذَا اسْتَبْشَرَ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ الْقَمَرِ وَكُنَّا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا عَنْ الأَمْرِ الَّذِي قُبِلَ مِنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ لَنَا التَّوْبَةَ فَلَمَّا ذُكِرَ الَّذِينَ كَذَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُتَخَلِّفِينَ وَاعْتَذَرُوا بِالْبَاطِلِ ذُكِرُوا بِشَرِّ مَا ذُكِرَ بِهِ أَحَدٌ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاَ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} الآيَةَ
قوله: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} الآية" كذا لأبي ذر، ساق غيره إلى "الرحيم" . قوله: "حدثني محمد حدثنا أحمد بن أبي شعيب" كذا للأكثر، وسقط محمد من رواية ابن السكن فصار للبخاري عن أحمد بن أبي شعيب بلا واسطة، وعلى قول الأكثر فاختلف في محمد فقال الحاكم هو محمد بن النضر النيسابوري، يعني الذي تقدم ذكره في تفسير الأنفال. وقال مرة هو محمد بن إبراهيم البوشنجي لأن هذا الحديث وقع له من طريقه. وقال أبو علي الغساني: هو الذهلي، وأيد ذلك أن الحديث في "علل حديث الزهري للذهلي" عن أحمد بن أبي شعيب، والبخاري يستمد منه كثيرا، وهو يهمل نسبه غالبا. وأما أحمد بن أبي شعيب فهو الحراني نسبه المؤلف إلى جده، واسم أبيه عبد الله بن مسلم وأبو شعيب كنية مسلم لا كنية عبد الله وكنية أحمد أبو الحسن، وهو ثقة باتفاق وليس له في البخاري سوى هذا الموضع. ثم ذكر المصنف قطعا من قصة توبة كعب بن مالك، وقد تقدم شرحه مستوفى في المغازي. وقوله: "فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي" في رواية الكشميهني: "ولا يسلم" وحكى عياض أنه وقع لبعض الرواة "فلا يكلمني أحد منهم ولا يسلمني" واستبعده لأن المعروف أن السلام إنما يتعدى بحرف جر، وقد يوجه بأن يكون اتباعا، أو يرجع إلى قول من فسر السلام بأن معناه أنت مسلم مني. وقوله: "وكانت أم سلمة معنية في أمري" كذا للأكثر بفتح الميم وسكون المهملة وكسر النون بعدها تحتانية ثقيلة من الاعتناء. وفي رواية الكشميهني: "معينة" بضم الميم وكسر العين وسكون التحتانية بعدها نون من العون. والأول أنسب. وقوله: "يحطمكم" في رواية أبي ذر عن الكشميهني والمستملي: "يخطفكم"

(8/343)


19- باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
4678- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَبْلاَهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِي مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} "

(8/343)


قوله: "باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ذكر فيه طرفا مختصرا من قصة توبة كعب أيضا.

(8/344)


20- باب {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} مِنْ الرَّأْفَةِ
46779- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ وَإِنِّي لاَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إِلَى آخِرِهِمَا وَكَانَتْ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ تَابَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَاللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ وَقَالَ مُوسَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ وَتَابَعَهُ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ أَبُو ثَابِتٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ مَعَ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِي خُزَيْمَة"
قوله: "باب قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . قوله: "من الرأفة" ثبت هذا لغير أبي ذر، وهو كلام أبي عبيد، قال في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} هو فعول من الرأفة، وهي أشد الرحمة قوله: "أخبرني ابن السباق" بمهملة وتشديد الموحدة، اسمه عبيد، وسيأتي شرح الحديث مستوفى في فضائل القرآن، وتقدم في أوائل الجهاد التنبيه على اختلاف عبيد بن السباق وخارجة بن زيد في تعيين الآية. قوله: "تابعه عثمان بن عمر والليث بن سعد عن

(8/344)


يونس عن ابن شهاب" أما متابعة عثمان بن عمر فوصلها أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه، وأما متابعة الليث عن يونس فوصلها المؤلف في فضائل القرآن وفي التوحيد. قوله: "وقال الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب وقال: مع أبي خزيمة" يريد أن الليث فيه شيخا آخر عن ابن شهاب، وأنه رواه عنه بإسناده المذكور لكن خالف في قوله: "مع خزيمة الأنصاري" فقال: "مع أبي خزيمة:"ورواية الليث هذه وصلها أبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة" من طريق أبي صالح كاتب الليث عنه به. قوله: "وقال موسى عن إبراهيم حدثنا ابن شهاب وقال مع أبي خزيمة، وتابعه يعقوب بن إبراهيم عن أبيه" أما موسى فهو ابن إسماعيل، وأما إبراهيم فهو ابن سعد، ويعقوب هو ولده، ومتابعة موسى وصلها المؤلف في فضائل القرآن. وقال في آية التوبة "مع أبي خزيمة:"وفي آية الأحزاب "مع خزيمة بن ثابت الأنصاري" ومما ننبه عليه أن آية التوبة وجدها زيد بن ثابت لما جمع القرآن في عهد أبي بكر، وآية الأحزاب وجدها لما نسخ المصاحف في عهد عثمان، وسيأتي بيان ذلك واضحا في فضائل القرآن. وأما رواية يعقوب بن إبراهيم فوصلها أبو بكر بن أبي داود في "كتاب المصاحف" من طريقه، وكذا أخرجها أبو يعلى من هذا الوجه لكن باختصار، ورواها الذهلي في "الزهريات" عنه لكن قال: "مع خزيمة:"وكذا أخرجه الجوزقي من طريقه. قوله: "وقال أبو ثابت حدثنا إبراهيم وقال: مع خزيمة أو أبي خزيمة" فأما أبو ثابت فهو محمد بن عبيد الله المدني، وأما إبراهيم فهو ابن سعد، ومراده أن أصحاب إبراهيم بن سعد اختلفوا فقال بعضهم "مع أبي خزيمة:"وقال بعضهم "مع خزيمة:"وشك بعضهم والتحقيق ما قدمناه عن موسى بن إسماعيل أن آية التوبة مع أبي خزيمة آية الأحزاب مع خزيمة وستكون لنا عودة إلى تحقيق هذا في تفسير سورة الأحزاب إن شاء الله تعالى. ورواية أبي ثابت المذكورة وصلها المؤلف في الأحكام بالشك كما قال.

(8/345)


10- سورة يُونُسَ
1- باب وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فَاخْتَلَطَ} بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَنَبَتَ بِالْمَاءِ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ خَيْرٌ يُقَالُ تِلْكَ آيَاتُ يَعْنِي هَذِهِ أَعْلاَمُ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} الْمَعْنَى بِكُمْ {دَعْوَاهُمْ} دُعَاؤُهُمْ {أُحِيطَ بِهِمْ} دَنَوْا مِنْ الْهَلَكَةِ {أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} فَاتَّبَعَهُمْ وَأَتْبَعَهُمْ وَاحِدٌ {عَدْوًا} مِنْ الْعُدْوَانِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} قَوْلُ الإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ اللَّهُمَّ لاَ تُبَارِكْ فِيهِ وَالْعَنْهُ {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} لاَهْلِكُ مَنْ دُعِيَ عَلَيْهِ وَلاَمَاتَهُ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} مِثْلُهَا حُسْنَى {وَزِيَادَةٌ} مَغْفِرَةٌ وَرِضْوَانٌ وَقَالَ غَيْرُهُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ {الْكِبْرِيَاءُ} الْمُلْكُ
قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سورة يونس" أخر أبو ذر البسملة. قوله: "وقال ابن عباس فاختلط فنبت بالماء من كل لون" وصله ابن جرير من طريق آخر عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} قال: اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس

(8/345)


كالحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض. قوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} كذا ثبت هذا لغير أبي ذر ترجمة خالية من الحديث، ولم أر في هذه الآية حديثا مسندا، ولعله أراد أن يخرج فيها طريقا للحديث الذي في التوحيد مما يتعلق بذم من زعم ذلك فبيض له. قوله: "وقال زيد بن أسلم {نَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد خير" أما قول زيد بن أسلم فوصله ابن جرير من طريق ابن عيينة عنه بهذا الحديث، وهو في تفسير ابن عيينة "أخبرت عن زيد بن أسلم" وأخرج الطبري من طريق الحسن وقتادة قال: "محمد صلى الله عليه وسلم شفيع لهم" وهذا وصله ابن مردويه من حديث علي ومن حديث أبي سعيد بإسنادين ضعيفين، وأما قول مجاهد فوصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} قال: خير. وروى ابن جرير من وجه عن مجاهد في قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ} قال: صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم، ولا تنافي بين القولين. ومن طريق الربيع بن أنس {قَدَمَ صِدْقٍ} أي ثواب صدق. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} قال سبقت لهم السعادة في الذكر الأول، ورجح ابن جرير قول مجاهد ومن تبعه العرب لفلان قدم صدق في كذا أي قدم فيه خير، أو قدم سوء في كذا أي قدم فيه شر. وجزم أبو عبيدة بأن المراد بالقدم السابقة. وروى الحاكم من طريق أنس عن أبي بن كعب في قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ} قال سلف صدق، وإسناده حسن. "تنبيه" : ذكر عياض أنه وقع في رواية أبي ذر "وقال مجاهد بن جبير" قال وهو خطأ. قلت لم أره في النسخة التي وقعت لنا من رواية أبي ذر إلا على الصواب كما قدمته، ذكر ابن التين أنها وقعت كذلك في رواية الشيخ أبي الحسن يعني القابسي، ومجاهد بن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة، لكن المراد هنا أنه فسر القدم بالخير ولو كان وقع بزيادة ابن مع التصحيف لكان عاريا عن ذكر القول المنسوب لمجاهد في تفسير القدم. قوله: "يقال تلك آيات يعني هذه أعلام القرآن ومثله {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} المعنى بكم" هذا وقع لغير أبي ذر، وسيأتي للجميع في التوحيد. وقائل ذلك هو أبو عبيدة بن المثنى، وفي تفسير السدي آيات الكتاب الأعلام، والجامع بينهما أن في كل منهما صرف الخطاب عن الغيبة إلى الحضور وعكسه. قوله: {دَعْوَاهُمْ} دعاؤهم "هو قول أبي عبيدة، قاله في معنى قوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} وروى الطبري من طريق الثوري قال في قوله: "دعواهم فيها قال: إذا أرادوا الشيء قالوا اللهم فيأتيهم ما دعوا به، ومن طريق ابن جريج قال: أخبرت، فذكر نحوه وسياقه أتم، وكل هذا يؤيد أن معنى {دَعْوَاهُمْ} دعاؤهم لأن اللهم معناها يا الله أو معنى الدعوى العبادة أي كلامهم في الجنة هذا اللفظ بعينه. قوله: "أحيط بهم دنوا من الهلكة، أحاطت به خطيئته" قال أبو عبيدة في قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي دنوا للهلكة، يقال قد أحيط به أي أنه لهالك انتهى. وكأنه من إحاطة العدو بالقوم، فإن ذلك يكون سببا للهلاك غالبا لجعل كناية عنه، ولها أردفه المصنف بقوله: {أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} إشارة إلى ذلك. قوله: "وقال مجاهد {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} قوله الإنسان لولده وماله إذا غضب: اللهم لا تبارك فيه والعنه" وقوله: {قُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي لأهلك من دعى عليه ولأماته" هكذا وصله الفريابي وعبد بن حميد وغيرهما من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير هذه الآية، ورواه الطبري بلفظ مختصر قال: فلو يعجل الله لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب في الخير لأهلكهم.
ومن طريق قتادة قال: هو دعاء الإنسان على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له، انتهى. وقد ورد في النهي عن

(8/346)


ذلك حديث مرفوع أخرجه مسلم في أثناء حديث طويل وأفرده أبو داود من طريق عبادة بن الوليد عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم" . قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} مثلها حسنى وزيادة مغفرة ورضوان" هو قول مجاهد، وصله الفريابي وعبد وغيرهما من طريق ابن أبي نجيح عنه. قوله: "وقال غيره النظر إلى وجهه" ثبت هذا لأبي ذر وأبي الوقت خاصة، والمراد بالغير هنا فيما أظن قتادة، فقد أخرج الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه قال: الحسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن، وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة. الحسنى الجنة، والزيادة فيما بلغنا النظر إلى وجه الله. ولسعيد ابن منصور من طريق عبد الرحمن بن سابط مثله موقوفا أيضا. ولعبد بن حميد عن الحسن مثله. وله عن عكرمة قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} قالوا لا إله إلا الله، الحسنى الجنة، وزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وقد ورد ذلك في حديث مرفوع أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا إن لكم عند الله وعدا فيقولون ألم يبيض وجوهنا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة؟ قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم منه" ثم قرأ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال الترمذي: إنما أسنده حماد ابن سلمة ورواه سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. قلت: وكذا قال معمر، أخرجه عبد الرزاق عنه، وحماد بن زيد عن ثابت أخرجه الطبري، وأخرجه أيضا من طريق أبي موسى الأشعري نحوه موقوفا عليه، ومن طريق كعب بن عجرة مرفوعا قال: الزيادة النظر إلى وجه الرب، ولكن في إسناده ضعف، ومن تحديث حذيفة موقوفا مثله، ومن طريق أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن أبي سعد عن أبي بكر الصديق مثله وصله قيس بن الربيع وإسرائيل عنه، ووقفه سفيان وشعبة وشريك على عامر بن سعد. وجاء في تفسير الزيادة أقوال أخر: منها قول علقمة والحسن إن الزيادة التضعيف، ومنها قول علي: إن الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب أخرج جميع ذلك الطبري. وأخرج عبد بن حميد رواية حذيفة ورواية أبي بكر من طريق إسرائيل أيضا، وأشار الطبري إلى أنه لا تعارض بين هذه الأقوال لأن الزيادة تحتمل كلا منها، والله أعلم. قوله: "الكبرياء الملك" هو قول مجاهد وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عنه. وقال الفراء "قوله {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} لأن النبي إذا صدق صارت مقاليد أمته وملكهم إليه. قوله: "فاتبعهم وأتبعهم واحد" يعني بهمزة القطع والتشديد، وبالثاني قرأ الحسن. وقال أبو عبيدة: فأتبعهم مثل تبعهم بمعنى واحد، وهو كردفته وأردفته بمعنى، وعن الأصمعي: المهموز بمعنى أدرك، وغير المهموز بمعنى مضى وراءه أدركه أو لم يدركه، وقيل اتبعه بالتشديد في الأمر اقتدى به وأتبعه بالهمز تلاه. قوله: "عدوا من العدوان" هو قول أبي عبيدة أيضا، وهو وما قبله نعتان منصوبان على أنهما مصدران أو على الحال أي باغين متعدين، ويجوز أن يكونا مفعولين أي لأجل البغي والعدوان، وقرأ الحسن بتشديد الواو وضم أوله.

(8/347)


2- باب {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ}

(8/347)


{نُنَجِّيكَ} نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنْ الأَرْضِ وَهُوَ النَّشَزُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ
4680- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأَصْحَابِهِ أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوا"
قوله: "باب {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} سقط للأكثر "باب" وساقوا الآية إلى {مِنْ الْمُسْلِمِينَ} . قوله: {نُنَجِّيكَ} نلقيك على نجوة من الأرض، وهو النشز، المكان المرتفع" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي نلقيك على نجوة أي ارتفاع ا هـ، والنجوة هي الربوة المرتفعة وجمعها نجا بكسر النون والقصر، وليس قوله ننجيك من النجاة بمعنى السلامة، وقد قيل هو بمعناها والمراد مما وقع فيه قومك من قعر البحر، وقيل هو 1 وقد قرأ ابن مسعود وابن السميفع وغيرهما {نُنَجِّيكَ} بالتشديد والحاء المهملة أي نلقيك بناحية، وورد سبب ذلك فيما أخرجه عبد الرزاق عن ابن التيمي عن أبيه عن أبي السليل عن قيس بن عباد أو غيره قال: قلا بنو إسرائيل لم يمت فرعون فأخرجه الله إليهم ينظرون إليه كالثور الأحمر، وهذا موقوف رجاله ثقات. وعن معمر عن قتادة قال: لما أغرق الله فرعون لم يصدق طائفة من الناس بذلك فأخرجه الله ليكون لهم عظة وآية. وروى ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: فلما خرج موسى وأصحابه قال من تخلف من قوم فرعون: ما غرق فرعون وقومه، ولكنهم في جزائر البحر يتصيدون. فأوحى الله إلى البحر أن لفظ فرعون عريانا، فلفظه عريانا أصلع أخنس قصيرا، فهو قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد {بِبَدَنِكَ} قال بجسدك. ومن طريق أبي صخر المدني قال: البدن الدرع الذي كان عليه. ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس في صيام عاشوراء وقد تقدم شرحه في الصيام، ومناسبته للترجمة قوله في بعض طرقه: ذاك يوم نجى فيه موسى وأغرق فرعون. ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس في صيام عاشوراء وقد تقدم شرحه في الصيام، ومناسبته للترجمة قوله في بعض طرقه: ذاك يوم نجى فيه موسى وأغرق فرعون.
ـــــــ
(1) بيااض بالأصل

(8/348)


11- سورة هُودٍ
وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ الأَوَّاهُ الرَّحِيمُ بِالْحَبَشِيَّةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {بَادِئَ الرَّأْيِ} مَا ظَهَرَ لَنَا وَقَالَ مُجَاهِدٌ {الْجُودِيُّ} جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ {إِنَّكَ لاَنْتَ الْحَلِيمُ} يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَقْلِعِي} أَمْسِكِي {عَصِيبٌ} شَدِيدٌ {لاَ جَرَمَ} بَلَى {وَفَارَ التَّنُّورُ} نَبَعَ الْمَاءُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَجْهُ الأَرْضِ
قوله سورة هود {بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قوله: "قال ابن عباس: عصيب شديد" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال في قوله: {قَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} قال: شديد. وأخرجه الطبري من طرق عن مجاهد وقتادة وغيرهما مثله. وقال: ومنه قول الراجز "يوم عصيب يعصب الأبطالا" ويقولون: عصب يومنا يعصب عصبا أي اشتد. قوله: "لا جرم بلى" وصله ابن أبي حاتم من طريق

(8/348)


علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ} قال أي بلى إن الله يعلم. وقال الطبري معنى جرم أي كسب الذنب ثم كثر استعماله في موضع لا بد كقولهم لا جرم أنك ذاهب، وفي موضع حقا كقولك لا جرم لتقومن. قوله: "وقال غيره وحاق نزل يحيق ينزل" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَحَاقَ بِهِمْ} أي نزل بهم وأصابهم. قوله: "يئوس فعول من يئست" هو قول أبي عبيدة أيضا، قال في قوله تعالى: {يَؤُوسٌ كَفُورٌ} هو فعول من يئست. قوله: "وقال مجاهد تبتئس تحزن" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا قال في قوله: {فَلا تَبْتَئِسْ} قال: لا تحزن، ومن طريق قتادة وغير واحد نحوه. قوله: "يثنون صدورهم شك وامتراء في الحق ليستخفوا منه من الله إن استطاعوا" وهو قول مجاهد أيضا قال في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} قال شك وامتراء في الحق ليستخفوا من الله إن استطاعوا، وصله الطبري من طرق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه، ومن طريق معمر عن قتادة قال: أخفى ما يكون الإنسان إذا أسر في نفسه شيئا بثوبه، والله مع ذلك يعلم ما يسرون وما يعلنون. ومن طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} الشك في الله وعمل السيئات يستغشي بثيابه ويستكن من الله، والله يراه ويعلم ما يسر وما يعلن. والثني يعبر به عن الشك في الحق والإعراض عنه. ومن طريق عبد الله بن شداد أنها نزلت في المنافقين، كان أحدهم إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وطأطأ رأسه وتغشى بثوبه لئلا يراه، أسنده الطبري من طرق عنه، وهو بعيد فإن الآية مكية، وسيأتي عن ابن عباس ما يخالف القول الأول، لكن الجمع بينهما ممكن.
" تنبيه " : قدمت هذه التفاسير من أول السورة إلى هنا في رواية أبي ذر، وهي عند الباقين مؤخرة عما سيأتي إلى قوله: "أقلعي أمسكي" . قوله: "وقال أبو ميسرة: الأواه الرحيم بالحبشية" تقدم في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، وسقط هنا من رواية أبي ذر. قوله: "وقال ابن عباس: بادئ الرأي ما ظهر لنا. وقال مجاهد: الجودي جبل بالجزيرة. وقال الحسن {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} يستهزئون به. وقال ابن عباس: أقلعي أمسكي، وفار التنور نبع الماء. وقال عكرمة وجه الأرض" تقدم جميع ذلك في أحاديث الأنبياء وسقط هنا لأبي ذر.

(8/349)


1- باب {أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وَقَالَ غَيْرُهُ وَحَاقَ نَزَلَ يَحِيقُ يَنْزِلُ يَئُوسٌ فَعُولٌ مِنْ يَئِسْتُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ تَبْتَئِسْ تَحْزَنْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ شَكٌّ وَامْتِرَاءٌ فِي الْحَقِّ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ مِنْ اللَّهِ إِنْ اسْتَطَاعُوا"
4681- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ (أَلاَ إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ أُنَاسٌ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ فَنَزَلَ ذَلِكَ فِيهِم"
[الحديث 4681- طرفاه في: 4682، 4683]
4682- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ (أَلاَ إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) قُلْتُ يَا أَبَا الْعَبَّاسِ مَا تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ قَالَ كَانَ الرَّجُلُ يُجَامِعُ

(8/349)


امْرَأَتَهُ فَيَسْتَحِي أَوْ يَتَخَلَّى فَيَسْتَحِي فَنَزَلَتْ {أَلاَ إِنَّهُمْ يثنون صُدُورُهُمْ} "
4683- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ { أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} و قَالَ غَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْتَغْشُونَ يُغَطُّونَ رُءُوسَهُمْ سِيءَ بِهِمْ سَاءَ ظَنُّهُ بِقَوْمِهِ وَضَاقَ بِهِمْ بِأَضْيَافِهِ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ بِسَوَادٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ إِلَيْهِ أُنِيبُ أَرْجِع"
قوله: "أخبرني محمد بن عباد بن جعفر" هكذا رواه هشام بن يوسف عن ابن جريج، وتابعه حجاج عند أحمد. وقال أبو أسامة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أخرجه الطبري. قوله: "أنه سمع ابن عباس يقرأ {أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ} يعني بفتح أوله بتحتانية وفي رواية بفوقانية وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو وكسر النون بعدها ياء على وزن تفعوعل، وهو بناء مبالغة كأعشوشب، لكن جعل الفعل للصدور، وأنشد الفراء لعنترة:
وقولك للشيء الذي لا تناله ... إذا ما هو احلولي ألا ليت ذا ليا
وحكى أهل القراآت عن ابن عباس في هذه الكلمة قراآت أخرى وهي يثنون بفتح أوله وسكون المثلثة وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون من الثني بالمثلثة والنون وهو ما هش وضعف من النبات، وقراءة ثالثة عنه أيضا بوزن يرعوي. وقال أبو حاتم السجستاني: في هذه القراءة غلط إذ لا يقال ثنوته فانثوى كرعوته فارعوى. قلت: وفي الشواذ قراآت أخرى ليس هذا موضع بسطها. قوله: "أناس كانوا يستخفون أن يتخلوا" أي أن يقضوا الحاجة في الخلاء وهم عراة، وحكى ابن التين أنه روى يتحلوا بالمهملة. وقال الشيخ أبو الحسن يعني القابسي أنه أحسن أي يرقد على حلاوة قفاه. قلت: والأول أولى. وفي رواية أبي أسامة: كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم كراهة أن يفضوا بفروجهم إلى السماء. قوله: "في رواية عمرو "هو ابن دينار" قال قرأ ابن عباس ألا إنهم يثنون صدورهم" ضبط أوله بالياء التحتانية وبنون آخره وصدورهم بالنصب على المفعولية وهي قراءة الجمهور، كذا للأكثر ولأبي ذر كالذي قبله، ولسعيد بن منصور عن ابن عيينة يثنوني أوله تحتانية وآخره تحتانية أيضا، وزاد وعن حميد الأعرج عن مجاهد أنه كان يقرؤها كذلك. قوله: "وقال غيره" أي عن ابن عباس "يستغشون يغطون رءوسهم" الضمير في غيره يعود على عمرو بن دينار، وقد وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وتفسير التغشي بالتغطية متفق عليه. وتخصيص ذلك بالرأس يحتاج إلى توقيف، وهذا مقبول من مثل ابن عباس، يقال منه استغشى بثوبه وتغشاه. وقال الشاعر "وتارة أتغشى فضل أطماري" . قوله: "سيء بهم ساء ظنه بقومه وضاق بهم بأضيافه" هو تفسير ابن عباس، وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه في هذه الآية {لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً} ساء ظنا بقومه وضاق زرعا بأضيافه، ويلزم منه اختلاف الضميرين، وأكثر المفسرين على اتحادهما. وصله ابن أبي حاتم من طريق الضحاك قال: ساءه مكانهم لما رأى بهم من الجمال. قوله: {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} بسواد" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة معناه ببعض من الليل. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بطائفة من الليل. قوله: "وقال مجاهد إليه أنيب أرجع"

(8/350)


كذا للأكثر، وسقط لأبي ذر نسبته إلى مجاهد فأوهم أنه عن ابن عباس كما قبله، وقد وصله عبد بن حميد من طريق ابن نجيح عن مجاهد بهذا، ووقع للأكثر قبيل قوله: "باب وكان عرشه على الماء" . قوله سجيل الشديد الكبير سجيل وسجين واحد بن واللام والنون أختان وقال تميم بن مقبل:
ورجلة يضربون البيض ضاحية ... ضربا تواصى به الأبطال سجينا
هو كلام أبي قال في قوله تعالى {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} هو الشديد من الحجارة الصلب ومن الضرب أيضا قال بن مقبل فذكره قال وقوله سجيلا أي شديدا وبعضهم يحول اللام نونا وقال في موضع آخر السجيل الشديد الكثير وقد تعقبه بن قتيبة بأنه لو كان معنى السجيل الشديد لما دخلت عليه من وكان يقول حجارة سجيلا لأنه لا يقال حجارة من شديد ويمكن أن يكون الموصوف حذف أبي عبيدة البيت المذكور فأبدل قوله ضاحية بقوله عن عرض وهو بضمتين وضاد معجمة وسيأتي قول بن عباس ومن تبعه إن الكلمة فارسية في تفسير سورة الفيل وقد قال الأزهري أن ثبت أنها فارسية فقد تكلمت بها العرب فصارت وقيل هو اسم لسماء الدنيا وقيل بحر معلق بين السماء والأرض نزلت منه الحجارة وقيل هي جبال في السماء تنبيه تميم بن مقبل هو بن خبيب بن عوف بن قتيبة بن العجلان بن كعب بن عامر بن صعصعة العامري ثم العجلاني شاعر مخضرم أدرك في الجاهلية والإسلام وكان أعرابيا جافيا وله قصة مع عمر ذكره المرزباني ورجله بفتح الراء ويجوز كسرها على تقدير ذوي رجلة والجيم ساكنة وحكى بن التين في هذه الحاء المهملة والبيض بفتح الموحدة جمع بيضة وهي الخوذة أو بكسرها جمع أبيض وهو السيف فعلى الأول المراد مواضع البيض وهي الرءوس وعلى الثاني المراد يضربون بالبيص على نزع الخافض والأول أوجه وضاحية أي ظاهرة أو المراد في وقت الضحوة وتواصى أصله تتواصى فحذفت إحدى التاءين وروى تواصت بمثناة بدل التحتانية في آخره وقوله سجينا بكسر المهملة وتشديد الجيم قال الحسن بن المظفر هو فعيل من السجن كأنه يثبت من وقع فيه فلا يبرح مكانه وعن بن الأعرابي أنه رواه بالخاء المعجمة بدل الجيم أي ضربا حارا قوله استعمركم جعلكم عمارا أعمرته الدار فهي عمري سقط هذا لغير أبي ذر وقد تقدم شرحه في كتاب الهبة قوله نكرهم وأنكرهم واستنكرهم واحد هو قول أبي عبيدة وأنشد وأنكرتني وما كان الذي نكرت قوله حميد مجيد كأنه فعيل من ماجد محمود من حمد كذا وقع هنا والذي في كلام أبي عبيدة حميد مجيد أي محمود وهذا هو الصواب والحميد فعيل من حمد فهو حامد أي يحمد من يطيعه أو هو حميد بمعنى محمود والمجيد فعيل من مجد بضم الجيم يمجد كشرف يشرف وأصله الرفعة قوله اجرامى مصدر أجرمت وبعضهم يقول جرمت هو كلام أبي عبيدة وأنشد:
طريد عشيرة ورهين ذنب ... بما جرمت يدي وجنى لساني
وجرمت بمعنى كسبت وقد تقدم قريبا قوله الفلك والفلك واحد والسفن كذا وقع لبعضهم بضم الفاء فيهما وسكون اللام في الأولى وفتحها في الثانية ولآخرين بفتحتين في الأولى وبضم ثم سكون في الثانية ورجحه بن التين وقال الأول واحد والثاني جمع مثل أسد وأسد قال عياض: ولبعضهم بضم ثم سكون فيهما

(8/351)


جميعا وهو الصواب والمراد أن الجمع والواحد بلفظ واحد وقد ورد ذلك في القرآن فقد قال في الواحد في الفلك المشحون وقال في الجمع {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} والذي في كلام أبي عبيدة الفلك واحد وجمع والسفن وهذا أوضح في المراد قوله مجراها مدفعها وهو مصدر أجريت وأرسيت حبست ويقرأ مجراها من جرت هي ومرسيها من رست ومجريها ومرسيها من فعل به قال أبو عبيدة في قوله تعالى بسم الله مجراها أي مسيرها وهي من جرت بهم ومن قرأها بالضم فهو من أجريتها أنا ومرساها أي وقفها وهو مصدر أي ارسيتها أنا انتهى ووقع في بعض الشروح مجراها موقفها بواو وقاف وفاء وهو تصحيف لم أره في شيء من النسخ ثم وجدت بن التين حكاها عن رواية الشيخ أبي الحسن يعني القابسي قال وليس بصحيح لأنه فاسد المعنى والصواب ما في الأصل بدال ثم فاء ثم عين تنبيه الذي قرأ بضم الميم في مجراها الجمهور وقرأ الكوفيون حمزة روينا وحفص عن عاصم بالفتح وأبو بكر عن عاصم كالجمهور وقرءوا كلهم في المشهور بالضم في مرساها وعن بن مسعود فتحها أيضا رواه سعيد بن منصور بإسناد حسن وفي قراءة يحيى بن وثاب مجريها ومرسيها بضم أولهما وكسر الراء والسين أي الله فاعل ذلك قوله {رَاسِيَاتٍ} ثابتات قال أبو عبيدة في قوله تعالى {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} أي ثقال ثابتات عظام وكأن المصنف ذكرها استطرادا لما ذكر مرساها قوله ثم وعنود وعاند واحد هو تأكيد التجبر هو قول أبي لكن قال وهو العادل عن الحق وقال بن قتيبة المعارض المخالف قوله ويقول الأشهاد واحدة شاهد مثل صاحب وأصحاب هو كلام أبي عبيدة أيضا واختلف في المراد بهم هنا فقيل الأنبياء وقيل الملائكة أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد وعن زيد بن أسلم الأنبياء والملائكة والمؤمنون وهذا أعم وعن قتادة فيما أخرجه عبد الرزاق الخلائق وهذا أعم من الجميع.

(8/352)


2- باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}
4684- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ وَقَالَ يَدُ اللَّهِ مَلأَى لاَ تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَقَالَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ" اعْتَرَاكَ افْتَعَلَكَ مِنْ عَرَوْتُهُ أَيْ أَصَبْتُهُ وَمِنْهُ يَعْرُوهُ وَاعْتَرَانِي آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أَيْ فِي مِلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ عَنِيدٌ وَعَنُودٌ وَعَانِدٌ وَاحِدٌ هُوَ تَأْكِيدُ التَّجَبُّرِ اسْتَعْمَرَكُمْ جَعَلَكُمْ عُمَّارًا أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهِيَ عُمْرَى جَعَلْتُهَا لَهُ نَكِرَهُمْ وَأَنْكَرَهُمْ وَاسْتَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ حَمِيدٌ مَجِيدٌ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ مَحْمُودٌ مِنْ حَمِدَ سِجِّيلٌ الشَّدِيدُ الْكَبِيرُ سِجِّيلٌ وَسِجِّينٌ وَاللاَمُ وَالنُّونُ أُخْتَانِ وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ مُقْبِلٍ:
وَرَجْلَةٍ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً ... ضَرْبًا تَوَاصَى بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّينَا
[الحديث 4684- أطرافه في: 5352، 7411، 7419، 7496]

(8/352)


قوله:"باب قوله {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} "ذكر فيه حديث أبي هريرة، وفيه قوله: "وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع" وسيأتي شرحه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى، وقوله: "لا يغيضها" بالغين المعجمة والضاد المعجمة الساقطة أي لا ينقصها، وسحاء بمهملتين مثقلا ممدود أي دائمة، ويروي سحا بالتنوين فكأنها لشدة امتلائها تغيض أبدا، والليل والنهار بالنصب على الظرفية، والميزان كناية عن العدل.

(8/353)


3- باب {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} أَيْ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ لأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ وَمِثْلُهُ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ وَاسْأَلْ الْعِيرَ يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَصْحَابَ الْعِيرِ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا يَقُولُ لَمْ تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَيُقَالُ إِذَا لَمْ يَقْضِ الرَّجُلُ حَاجَتَهُ ظَهَرْتَ بِحَاجَتِي وَجَعَلْتَنِي ظِهْرِيًّا وَالظِّهْرِيُّ هَا هُنَا أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً أَوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ أَرَاذِلُنَا سُقَّاطُنَا إِجْرَامِي هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ أَجْرَمْتُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ جَرَمْتُ الْفُلْكُ وَالْفَلَكُ وَاحِدٌ وَهْيَ السَّفِينَةُ وَالسُّفُنُ مُجْرَاهَا مَدْفَعُهَا وَهُوَ مَصْدَرُ أَجْرَيْتُ وَأَرْسَيْتُ حَبَسْتُ وَيُقْرَأُ مَرْسَاهَا مِنْ رَسَتْ هِيَ وَمَجْرَاهَا مِنْ جَرَتْ هِيَ وَمُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا مِنْ فُعِلَ بِهَا رَاسِيَاتٌ ثَابِتَات"

(8/353)


4- باب {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
واحد الأَشْهَادُ شَاهِدٌ مِثْلُ صَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ
4685- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ وَهِشَامٌ قَالاَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ بَيْنَا ابْنُ عُمَرَ يَطُوفُ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْ قَالَ يَا ابْنَ عُمَرَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْوَى فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُدْنَى الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ- وَقَالَ هِشَامٌ- يَدْنُو الْمُؤْمِنُ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا يَقُولُ أَعْرِفُ يَقُولُ رَبِّ أَعْرِفُ مَرَّتَيْنِ فَيَقُولُ سَتَرْتُهَا فِي الدُّنْيَا وَأَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْآخَرُونَ أَوْ الْكُفَّارُ فَيُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الأَشْهَادِ {هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} " وَقَالَ شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا صَفْوَان"
قوله: "باب قوله تعالى: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا} الآية" ذكر فيه حديث ابن عمر في النجوى يوم القيامة، وسيأتي شرحه في كتاب الأدب. حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع لمسدد فيه إسناد آخر يأتي في الأدب وفي التوحيد وهو أعلى من هذا رواه عنه مسدد عن أبي عوانة عن قتادة وقوله في الإسناد حدثنا سعيد وهشام أما سعيد فهو بن أبي عروبة وأما هشام فهو بن عبد الله الدستوائي وصفوان بن محرز بالحاء المهملة والراء ثم الزاي قوله وقال شيبان عن قتادة حدثنا صفوان وصله بن مردويه من طريق شيبان وسيأتي بيان ذلك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. قوله: "اعتراك افتعلك من عروته أي أصبته، ومنه يعروه واعتراني" هو كلام أبي عبيدة، وقد تقدم شرحه في فرض الخمس، وثبت هنا للكشميهني وحده، ووقع في بعض

(8/353)


5- باب {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} {الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} الْعَوْنُ الْمُعِينُ رَفَدْتُهُ أَعَنْتُهُ تَرْكَنُوا تَمِيلُوا فَلَوْلاَ كَانَ فَهَلاَ كَانَ أُتْرِفُوا أُهْلِكُوا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ شَدِيدٌ وَصَوْتٌ ضَعِيفٌ
4686- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
قوله باب قوله {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} الكاف في ذلك لتشبيه الأخذ المستقبل بالأخذ الماضي وأتى باللفظ الماضي موضع المضارعة على قراءة طلحة بن مصرف وأخذ بفتحتين في الأول كالثاني مبالغة في تحققه قوله الرفد المرفود العون المعين رفدته أعنته كذا وقع فيه وقال أبو عبيدة الرفد المرفود العون المعين يقال رفدته ثم الأمير أي أعنته قال الكرماني وقع في النسخة التي عندنا العون المعين والذي يدل عليه التفسير المعان فأما أن يكون الفاعل بمعنى المفعول أو المعنى ذو إعانة قوله تركنوا تميلوا قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} لا تعدلوا إليهم ولا تميلوا يقال ركنت إلى قولك أي أردته وقبلته وروى عبد بن حميد من طريق الربيع بن أنس لا تركنوا إلى الذين ظلموا لا ترضوا أعمالهم قوله: {فَلَوْلا كَانَ} فهلا كان سقط هذا والذي قبله من رواية أبي ذر وهو قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} مجازه فهلا كان من القرون وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: فلولا قال في حرف بن مسعود فهلا قوله أترفوا أهلكوا هو تفسير باللازم أي كان الترف سببا لاهلاكهم وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي ما تجبروا وتكبروا

(8/354)


عن أمر الله وصدوا عنه قوله: "زفير وشهيق إلخ" تقدم في بدء الخلق. قوله: "أنبأنا بريد بن أبي بردة عن أبيه" كذا وقع لأبي ذر ووقع لغيره: "عن أبي بردة" بدل عن أبيه وهو أصوب لأن بريد هو ابن عبد الله بن أبي بردة فأبو بردة جده لا أبوه، لكن يجوز إطلاق الأب عليه مجازا. قوله: "إن الله ليملي للظالم" أي بمهملة، ووقع في رواية الترمذي عن أبي كريب عن أبي معاوية "إن الله يملي" وربما قال: "يمهل" ورواه عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن يزيد قال: "يملي" ولم يشك. قلت: قد رواه مسلم وابن ماجه والنسائي من طرق عن أبي معاوية "يملي" ولم يشك. قوله: "حتى إذا أخذه لم يفلته" بضم أوله من الرباعي أي لم يخلصه، أي إذا أهلكه لم يرفع عنه الهلاك، وهذا على تفسير الظلم بالشرك على إطلاقه، وإن فسر بما هو أعم فيحمل كل على ما يليق به، وقيل معنى لم يفلته لم يؤخره، وفيه نظر لأنه يتبادر منه أن الظالم إذا صرف عن منصبه وأهين لا يعود إلى عزه، والمشاهد في بعضهم بخلاف ذلك، فالأولى حمله على ما قدمته. والله أعلم.

(8/355)


باب {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل...}
...
6- باب {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} وَزُلَفًا سَاعَاتٍ بَعْدَ سَاعَاتٍ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْمُزْدَلِفَةُ الزُّلَفُ مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ وَأَمَّا زُلْفَى فَمَصْدَرٌ مِنْ الْقُرْبَى ازْدَلَفُوا اجْتَمَعُوا أَزْلَفْنَا جَمَعْنَا
4687- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قَالَ الرَّجُلُ أَلِيَ هَذِهِ قَالَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي"
قوله: "باب {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية" كذا لأبي ذر، وأكمل غيره الآية. واختلف في المراد بطرفي النهار فقيل الصبح والمغرب، وقيل الصبح والعصر، وعن مالك وابن حبيب الصبح طرف والظهر والعصر طرف. قوله: "وزلفا ساعات بعد ساعات، ومنه سميت المزدلفة، الزلف منزلة بعد منزلة وأما زلفى فمصدر من القربى، ازدلفوا اجتمعوا، أزلفنا جمعنا" انتهى. قال أبو عبيدة في قوله: {وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ} : ساعات واحدتها زلفة أي ساعة ومنزلة وقربة، ومنها سميت المزدلفة، قال العجاج:
ناج طواه مما وجفا ... طي الليالي زلفا فزلفا
وقال في قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي قربت وأدنيت، وله عندي زلفى أي قربى. وفي قوله: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} أي جمعنا، ومنه ليلة المزدلفة، واختلف في المراد بالزلف فعن مالك المغرب والعشاء، واستنبط منه بعض الحنفية وجوب الوتر لأن زلفا جمع أقلة ثلاثة فيضاف إلى المغرب والعشاء الوتر، ولا يخفى ما فيه. وفي رواية معمر المقدم ذكرها قال قتادة: طرفي النهار الصبح والعصر، وزلفا من الليل المغرب والعشاء. قوله: "حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي" كذا وقع فيه، وأخرجه الطبراني عن معاذ بن المثنى

(8/355)


عن مسدد عن سلام بن أبي مطيع عن سليمان التيمي، وكان لمسدد فيه شيخان قوله: "عن أبي عثمان" هو النهدي، في رواية للإسماعيلي وأبي نعيم "حدثنا أبو عثمان" . قوله: "إن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له" في رواية معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عند مسلم والإسماعيلي فذكر أنه أصاب من امرأة قبلة أو مسا بيد أو شيئا، كأنه يسأل عن كفارة ذلك. وعند عبد الرزاق عن معمر عن سليمان التيمي بإسناده "ضرب رجل على كفل امرأة" الحديث. وفي رواية مسلم وأصحاب السنن من طريق سماك بن حرب عن إبراهيم النخعي عن علقمة والأسود عن ابن مسعود "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، فافعل بي ما شئت" الحديث. وللطبري من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: "جاء فلان بن معتب الأنصاري فقال: يا رسول الله دخلت على امرأة فنلت منها ما ينال الرجل من أهله إلا أني لم أجامعها" الحديث، وأخرجه ابن أبي خيثمة لكن قال: "إن رجلا من الأنصار يقال له معتب" وقد جاء أن اسمه كعب بن عمرو وهو أبو اليسر بفتح التحتانية والمهملة الأنصاري أخرجه الترمذي والنسائي والبزار من طريق موسى بن طلحة عن أبي اليسر بن عمرو أنه أتته امرأة وزوجها قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث، فقالت له: بعني تمرا بدرهم، قال فقلت لها وأعجبتني إن في البيت تمرا أطيب من هذا، فانطلق بها معه فغمزها وقبلها ثم فرغ، فخرج فلقي أبا بكر فأخبره، فقال تب ولا تعد. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، وفي روايته أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر فنزلت. وفي رواية ابن مردويه من طريق أبي بريدة عن أبيه "جاءت امرأة من الأنصار إلى رجل يبيع التمر بالمدينة وكانت حسناء جميلة فلما نظر إليها أعجبته" فذكر نحوه، ولم يسم الرجل ولا المرأة ولا زوجها، وذكر بعض الشراح في اسم هذا الرجل بيهان التمار، وقيل عمرو بن غزية وقيل أبو عمرو زيد بن عمرو بن غزية وقيل عامر بن قيس وقيل عباد. قلت: وقصة نبهان التمار ذكرها عبد الغني بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء في تفسيره عن ابن عباس، وأخرجه الثعلبي وغيره من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس "أن نبهانا التمار أتته امرأة حسناء جميلة تبتاع منه تمرا فضرب على عجيزتها ثم ندم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إياك أن تكون امرأة غاز في سبيل الله" ، فذهب يبكي ويصوم ويقوم، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} الآية فأخبره، فحمد الله وقال: يا رسول الله هذه توبتي قبلت، فكيف لي بأن يتقبل شكري؟ فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الآية" ، قلت: وهذا إن ثبت حمل على واقعة أخرى، لما بين السياقين من المغايرة. وأما قصة ابن غزية فأخرجها ابن منده من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} قال: نزلت في عمرو بن غزية وكان يبيع التمر، فأتته امرأة تبتاع تمرا فأعجبته. الحديث. والكلبي ضعيف. فإن ثبت حمل أيضا على التعدد. وظن الزمخشري أن عمرو بن غزية اسم أبي اليسر فجزم به فوهم. وأما ما أخرجه أحمد وعبد بن حميد وغيرهما من حديث أبي أمامة قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إني أصبت حدا فأقمه علي فسكت عنه ثلاثا فأقيمت الصلاة فدعا الرجل فقال: أرأيت حين خرجت من بيتك ألست قد توضأت فأحسنت الوضوء؟ قال: بلى، قال: ثم شهدت الصلاة معنا؟ قال: نعم. قال: فإن الله قد غفر لك" . وتلا هذه الآية. فهي قصة أخرى ظاهر سياقها أنها متأخرة عن نزول الآية، ولعل الرجل ظن أن كل خطيئة فيها حد، فأطلق على ما فعل حدا، والله أعلم. وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. وأما قصة عامر بن قيس

(8/356)


فذكرها مقاتل بن سليمان في تفسيره. وأما قصة عباد فحكاها القرطبي ولم يعزها، وعباد اسم جد أبي اليسر فلعله نسب ثم سقط شيء. وأقوى الجميع أنه أبو اليسر والله أعلم. قوله: "فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية عبد الرزاق أنه أتى أبا بكر وعمر أيضا. وقال فيها "فكل من سأله عن كفارة ذلك قال: أمعزبة هي؟ قال نعم. قال: لا أدري. حتى أنزل. فذكر بقية الحديث. وهذه الزيادة وقعت في حديث يوسف بن مهران عن ابن عباس عند أحمد بمعناه دون قوله لا أدري. قوله: "قال الرجل ألي هذه"؟ أي الآية يعني خاصة بي بأن صلاتي مذهبة لمعصيتي. وظاهر هذا أن صاحب القصة هو السائل عن ذلك. ولأحمد والطبراني من حديث ابن عباس "قال يا رسول الله ألي خاصة أم للناس عامة؟ فضرب عمر صدره وقال: لا ولا نعمة عين، بل للناس عامة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق عمر" وفي حديث أبي اليسر "فقال إنسان: يا رسول الله له خاصة" وفي رواية إبراهيم النخعي عند مسلم: "فقال معاذ يا رسول الله أله وحده أم للناس كافة" وللدار قطني مثله من حديث معاذ نفسه، ويحمل على تعدد السائلين عن ذلك. وقوله: "ألي" بفتح الهمزة استفهاما، وقوله: "هذا" مبتدأ تقدم خبره عليه، وفائدته التخصيص.
قوله: "قال: لمن عمل بها من أمتي" تقدم في الصلاة من هذا الوجه بلفظ: "قال: لجميع أمتي كلهم" وتمسك بظاهر قوله تعالى: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} المرجئة وقالوا: إن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة كانت أو صغيرة، وحمل الجمهور هذا المطلق على المقيد في الحديث الصحيح " إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر" فقال طائفة: إن اجتنبت الكبائر كانت الحسنات كفارة لما عدا الكبائر من الذنوب، وإن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئا. وقال آخرون: إن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئا منها وتحط الصغائر. وقيل: المراد أن الحسنات تكون سببا في ترك السيئات كقوله تعالى: { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} لا أنها تكفر شيئا حقيقة، وهذا قول بعض المعتزلة. وقال ابن عبد البر: ذهب بعض أهل العصر إلى أن الحسنات تكفر الذنوب، واستدل بهذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث الظاهرة في ذلك. قال: ويرد الحث على التوبة في أي كبيرة، فلو كانت الحسنات تكفر جميع السيئات لما احتاج إلى التوبة. واستدل بهذا الحديث على عدم وجوب الحد في القبلة واللمس ونحوهما، وعلى سقوط التعزيز عمن أتى شيئا منها وجاء تائبا نادما. واستنبط منه ابن المنذر أنه لا حد على من وجد مع امرأة أجنبية في ثوب واحد.

(8/357)


12- سورة يُوسُفَ
وَقَالَ فُضَيْلٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {مُتَّكَأً} الأُتْرُجُّ قَالَ فُضَيْلٌ الأُتْرُجُّ بِالْحَبَشِيَّةِ مُتْكًا وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مُتْكًا قَالَ كُلُّ شَيْءٍ قُطِعَ بِالسِّكِّينِ وَقَالَ قَتَادَةُ {لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} عَامِلٌ بِمَا عَلِمَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {صُوَاعَ الْمَلِكِ} مَكُّوكُ الْفَارِسِيِّ الَّذِي يَلْتَقِي طَرَفَاهُ كَانَتْ تَشْرَبُ بِهِ الأَعَاجِمُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {تُفَنِّدُونِ} تُجَهِّلُونِ وَقَالَ غَيْرُهُ {غَيَابَةٌ} كُلُّ شَيْءٍ غَيَّبَ عَنْكَ شَيْئًا فَهُوَ غَيَابَةٌ {وَالْجُبُّ} الرَّكِيَّةُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ {بِمُؤْمِنٍ لَنَا} بِمُصَدِّقٍ أَشُدَّهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي النُّقْصَانِ يُقَالُ {بَلَغَ أَشُدَّهُ} وَبَلَغُوا أَشُدَّهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَاحِدُهَا شَدٌّ وَالْمُتَّكَأُ مَا اتَّكَأْتَ عَلَيْهِ لِشَرَابٍ أَوْ لِحَدِيثٍ أَوْ لِطَعَامٍ وَأَبْطَلَ الَّذِي قَالَ الأُتْرُجُّ وَلَيْسَ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ

(8/357)


الأُتْرُجُّ فَلَمَّا احْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ الْمُتَّكَأُ مِنْ نَمَارِقَ فَرُّوا إِلَى شَرٍّ مِنْهُ فَقَالُوا إِنَّمَا هُوَ الْمُتْكُ سَاكِنَةَ التَّاءِ وَإِنَّمَا الْمُتْكُ طَرَفُ الْبَظْرِ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لَهَا مَتْكَاءُ وَابْنُ الْمَتْكَاءِ فَإِنْ كَانَ ثَمَّ أُتْرُجٌّ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْمُتَّكَإِ شَغَفَهَا يُقَالُ بَلَغَ شِغَافَهَا وَهُوَ غِلاَفُ قَلْبِهَا وَأَمَّا شَعَفَهَا فَمِنْ الْمَشْعُوفِ أَصْبُ أَمِيلُ صَبَا مَالَ {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} مَا لاَ تَأْوِيلَ لَهُ وَالضِّغْثُ مِلْءُ الْيَدِ مِنْ حَشِيشٍ وَمَا أَشْبَهَهُ وَمِنْهُ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} لاَ مِنْ قَوْلِهِ {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} وَاحِدُهَا ضِغْثٌ نَمِيرُ مِنْ الْمِيرَةِ {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} مَا يَحْمِلُ بَعِيرٌ أَوَى إِلَيْهِ ضَمَّ إِلَيْهِ السِّقَايَةُ مِكْيَالٌ {تَفْتَأُ} لاَ تَزَالُ. {اسْتَيْأَسُوا} يَئِسُوا {لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} مَعْنَاهُ الرَّجَاءُ {خَلَصُوا نَجِيًّا} اعْتَزَلُوا نَجِيًّا وَالْجَمِيعُ أَنْجِيَةٌ يَتَنَاجَوْنَ الْوَاحِدُ نَجِيٌّ وَالاثْنَانِ وَالْجَمِيعُ نَجِيٌّ وَأَنْجِيَةٌ {حَرَضًا} مُحْرَضًا يُذِيبُكَ الْهَمُّ {تَحَسَّسُوا} تَخَبَّرُوا {مُزْجَاةٍ} قَلِيلَةٍ {غَاشِيَةٌ} مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَامَّةٌ مُجَلِّلَةٌ.
قوله: "سورة يوسف {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال فضيل عن حصين عن مجاهد متكأ الأترج بالحبشية متكا" كذا لأبي ذر، ولغيره: متكا الأترج. قال فضيل: الأترج بالحبشية متكا. وهذا وصله ابن أبي حاتم من طريق يحيى بن يمان عن فضيل بن عياض. وأما روايته عن حصين فرويناه في مسند مسدد رواية معاذ بن المثنى عنه عن فضيل عن حصين عن مجاهد في قوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} قال: أترج. ورويناه في تفسير ابن مردويه من هذا الوجه فزاد فيه عن مجاهد عن ابن عباس، ومن طريقه أخرجه الحافظ الضياء في المختارة، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وأعتدت لهن متكا} قال: طعاما. قوله: "وقال ابن عيينة: عن رجل عن مجاهد متكا كل شيء قطع بالسكين" هكذا رويناه في "تفسير ابن عيينة" رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه بهذا. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد: المتكأ بالتثقيل الطعام وبالتخفيف الأترج، والرواية الأولى عنه أعم. قوله: "يقال بلغ أشده قبل أن يأخذ في النقصان. ويقال بلغوا أشدهم. وقال بعضهم واحدها شد. والمتكا ما اتكأت عليه لشراب أو لحديث أو لطعام وأبطل الذي قال الأترج، وليس في كلام العرب الأترج، فلما احتج عليهم بأن المتكا من نمارق فروا إلى شر منه وقالوا إنما هو المتك ساكنة التاء، وإنما المتك طرف البظر ومن ذلك قيل لها متكاء وابن المتكاء، فإن كان ثم أترج فإنه بعد المتكا" قلت: وقع هذا متراخيا عما قبله عند الأكثر، والصواب إيراده تلوه، فأما الكلام على الأشد فقال أبو عبيدة هو جمع لا واحد له من لفظه، وحكى الطبري أنه واحد لا نظير له في الآحاد. وقال سيبويه واحده شدة، وكذا قال الكسائي لكن بلا هاء. واختلف النقلة في قدر الأشد الذي بلغه يوسف فالأكثر أنه الحلم، وعن سعيد بن جبير ثمان عشرة وقيل سبع عشرة وقيل عشرون وقيل خمسة وعشرون وقيل ما بين ثمان عشرة إلى ثلاثين، وفي غيره قيل الأكثر أربعون وقيل ثلاثون وقيل ثلاثة وثلاثون وقيل خمسة وثلاثون وقيل ثمانية وأربعون وقيل ستون. وقال ابن التين: الأظهر أنه أربعون لقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً} وكان النبي لا ينبأ حتى يبلغ أربعين، وتعقب بأن عيسى عليه السلام نبئ لدون أربعين ويحيى كذلك لقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} وسليمان لقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} إلى غير ذلك. والحق أن المراد بالأشد بلوغ سن الحلم.

(8/358)


ففي حق يوسف عليه السلام ظاهر ولهذا جاء بعده {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} وفي حق موسى عليه السلام لعله بعد ذلك كبلوغ الأربعين ولهذا جاء بعده {وَاسْتَوَى} ووقع في قوله: {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} في الموضعين فدل على أن الأربعين ليست حدا لذلك. وأما المتكأ فقال أبو عبيدة أعتدت أفعلت من العتاد ومعناه أعتدت لهن متكأ أي نمرقا يتكأ عليه، وزعم قوم أنه الترنج وهذا أبطل باطل في الأرض، ولكن عسى أن يكون مع المتكأ ترنج يأكلونه، ويقال ألقى له متكأ يجلس عليه انتهى. وقوله: "ليس في كلام العرب الأترج" يريد أنه ليس في كلام العرب تفسير المتكأ بالأترج، قال صاحب "المطالع" وفي الأترج ثلاث لغات ثانيها بالنون وثالثها مثلها بحذف الهمزة وفي المفرد كذلك، وعند بعض المفسرين أعتدت لهن البطيخ والموز، وقيل كان مع الأترج عسل، وقيل كان للطعام المذكور بزماورد، لكن ما نفاه المؤلف رحمه الله تبعا لأبي عبيدة قد أثبته غيره. قد روى عبد بن حميد من طريق عوف الأعرابي حديث ابن عباس أنه كان يقرأها متكا مخففة ويقال هو الأترج، وقد حكاها الفراء وتبعه الأخفش وأبو حنيفة الدينوري والقالي وابن فارس وغيرهم كصاحب "المحكم" و "الجامع" و "الصحاح" ، وفي الجامع أيضا: أهل عمان يسمون السوسن المتكأ، وقيل بضم أوله الأترج وبفتحه السوسن. وقال الجوهري: المتكأ ما تبقيه الخاتنة بعد الختان من المرأة، والمتكاء التي لم تختن، وعن الأخفش المتكأ الأترج.
" تنبيه " : متكا بضم أوله وسكون ثانيه وبالتنوين على المفعولية هو الذي فسره مجاهد وغيره بالأترج أو غيره وهي قراءة، وأما القراءة المشهورة فهو ما يتكأ عليه من وسادة وغيرها كما جرت به عادة الأكابر عند الضيافة. وبهذا التقرير لا يكون بين النقلين تعارض. وقد روى عبد بن حميد عن طريق منصور عن مجاهد قال: من قرأها مثقلة قال الطعام، ومن قرأها مخففة قال الأترج، ثم لا مانع أن يكون المتكأ مشتركا بين الأترج وطرف البظر، والبظر بفتح الموحدة وسكون الظاء المشالة موضع الختان من المرأة، وقيل البظراء التي لا تحبس بولها. قال الكرماني: أراد البخاري أن المتكأ في قوله: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} اسم مفعول من الاتكاء، وليس هو متكأ بمعنى الأترج ولا بمعنى طرف البظر، فجاء فيها بعبارات معجرفة. كذا قال فوقع في أشد مما أنكره فإنها إساءة على مثل هذا الإمام الذي لا يليق لمن يتصدى لشرح كلامه، وقد ذكر جماعة من أهل اللغة أن البظر في الأصل يطلق على ما له طرف من الجسد كالثدي. قوله: "وقال قتادة {لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} عامل بما علم" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن عيينة عن سعيد بن أبي عروبة عنه بهذا. قوله: "وقال سعيد بن جبير "صواع الملك" مكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه، كانت تشرب الأعاجم به" وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير مثله، ورواه ابن منده في "غرائب شعبة" وابن مردويه من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {صُوَاعَ الْمَلِكِ} قال كان كهيئة المكوك من فضة يشربون فيه، وقد كان للعباس مثله في الجاهلية. وكذا أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن محمد بن جعفر عن شعبة وإسناده صحيح. والمكوك بفتح الميم وكافين الأولى مضمومة ثقيلة بينهما واو ساكنة هو مكيال معروف لأهل العراق. "تنبيه" : قراءة الجمهور "صواع" ، وعن أبي هريرة أنه قرأ: {صاع الملك "عن أبي رجاء" وصوع الملك" بسكون الواو، وعن يحيى بن يعمر مثله لكن بغين معجمة حكاها الطبري. قوله: "وقال ابن عباس {تُفَنِّدُونِ} تجهلون" وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس في قوله: {لَوْلا أَنْ

(8/359)


تُفَنِّدُونِ} أي تسفهون، كذا قال أبو عبيدة وكذا أخرجه عبد الرزاق. وأخرج أيضا عن معمر عن قتادة مثله، وأخرجه ابن مردويه من طريق ابن أبي الهذيل أيضا أتم منه قال في قوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} قال لما خرجت العير هاجت ريح فأتت يعقوب بريح يوسف فقال: {نِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} قال لولا أن تسفهون، قال فوجد ريحه من مسيرة ثلاثة أيام، وقوله: {تُفَنِّدُونِ} مأخوذ من الفند محركا وهو الهرم. قوله: "غيابة الجب كل شيء غيب عنك فهو غيابة، والجب الركية التي لم تطو" كذا وقع لأبي ذر فأوهم أنه من كلام ابن عباس لعطفه عليه، وليس كذلك وإنما هو كلام أبي عبيدة كما هو سأذكره. ووقع في رواية غير أبي ذر "وقال غيره غيابة إلخ" وهذا هو الصواب. قوله: {بِمُؤْمِنٍ لَنَا} بمصدق قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} : أي بمصدق. قوله: {شَغَفَهَا حُبّاً} يقال بلغ شغفاها وهو غلاف قلبها، وأما شعفها يعني بالعين المهملة فمن الشعوف" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {شَغَفَهَا حُبّاً} أي وصل الحب إلى شغاف قلبها وهو غلافه، قال ويقرأه قوم "شعفها" أي بالعين المهملة وهو من الشعوف انتهى. والذي قرأها بالمهملة أبو رجاء والأعرج وعوف رواه الطبري، ورويت عن علي والجمهور بالمعجمة، يقال مشغوف بفلان إذا بلغ الحب أقصى المذاهب، وشعاف الجبال أعلاها، والشغاف بالمعجمة حبة القلب، وقيل علقة سوداء في صميمه. وروى عبد بن حميد من طريق قرة عن الحسن قال: الشغف - يعني بالمعجمة - أن يكون قذف في بطنها حبه، والشعف يعني بالمهملة أن يكون مشعوفا بها. وحكى الطبري عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن الشعف بالعين المهملة البغض وبالمعجمة الحب، وغلطه الطبري وقال: إن الشعف بالعين المهملة بمعنى عموم الحب أشهر من أن يجهله ذو علم بكلامهم. قوله: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أميل إليهن حبا قال أبو عبيدة في قوله تعالى: { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي أهواهن وأميل إليهن، قال الشاعر:
إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبى
أي يمال. قوله: " {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} ما لا تأويل له، الضغث ملء اليد من حشيش وما أشبهه، ومنه {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} لا من قوله أضغاث أحلام واحدها ضغث" كذا وقع لأبي ذر، وتوجيهه أنه أراد أن ضغثا في قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} بمعنى ملء الكف من الحشيش لا بمعنى ما لا تأويل له، ووقع عند أبي عبيدة في قوله تعالى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} : واحدها ضغث بالكسر وهي ما لا تأويل له من الرؤيا، وأراه جماعات تجمع من الرؤيا كما يجمع الحشيش فيقول ضغث أي ملء كف منه، وفي آية أخرى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ} وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "أضغاث أحلام" قال: أخلاط أحلام، ولأبي يعلى من حديث ابن عباس في قوله: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} قال: هي الأحلام الكاذبة. قوله: "نمير من الميرة، ونزداد كيل بعير ما يحمل بعير" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} : من مرت تمير ميرا وهي الميرة نأتيهم ونشتري لهم الطعام، و قوله: {كَيْلَ بَعِيرٍ} أي حمل بعير يكال له ما حمل بعيره. وروى الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله: {كَيْلَ بَعِيرٍ} أي كيل حمار. وقال ابن خالويه في كتاب "ليس" : هذا حرف نادر، ذكر مقاتل عن الزبور البعير كل ما يحمل بالعبرانية، ويؤيد ذلك أن إخوة يوسف كانوا من أرض كنعان وليس بها إبل. كذا

(8/360)


قال. قوله: {آوَى إِلَيْهِ} ضم" قال أبو عبيدة في قوله: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أي ضمه، آواه فهو يؤوى إليه إيواء. قوله: "السقاية مكيال" هي الإناء الذي كان يشرب به، قيل جعله يوسف عليه السلام مكيالا لئلا يكتالوا بغيره فيظلموا، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {جَعَلَ السِّقَايَةَ} قال إناء الملك الذي يشرب به. قوله: "تفتأ لا تزال" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي لا تزال تذكره، وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد {تَفْتَأُ} أي لا تفتر عن حبه. وقيل معنى {تَفْتَأُ} تزال فحذف حرف النفي. قوله: "تحسسوا تخبروا" قال أبو عبيدة في قوله تعالى:{اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} يقول تخيروا والتمسوا في المظان. قوله: "مزجاة قليلة" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أي يسيرة قليلة، قيل فاسدة. وروى عبد الرزاق عن قتادة {مُزْجَاةٍ} قال: يسيرة، ولسعيد بن منصور عن عكرمة في قوله: {مُزْجَاةٍ} قال: قليلة. واختلف في بضاعتهم فقيل: كانت من صوف ونحوه، وقيل دراهم رديئة، وروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن ابن عباس وسئل عن قوله: {بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} قال: رثة الحبل والغرارة والشن. قوله: "غاشية من عذاب الله عامة مجللة" بالجيم، وهو تأكيد لقوله عامة. وقال أبو عبيدة "غاشية من عذاب الله" مجللة، وهي الجيم وتشديد اللام أي تعمهم، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ} أي وقيعة تغشاهم. قوله: "حرضا محرضا يذيبك الهم" قال أبو عبيدة في قوله تعالى:{حَتَّى تَكُونَ}: الحرض الذي أذابه الحزن أو الحب، وهو موضع محرض، قال الشاعر "إني امرؤ لج بي حزن فأحرضني" أي أذابني. قوله: "استيأسوا يئسوا {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} معناه الرجاء" ثبت هذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، وسقط لغيرهما، وقد تقدم في ترجمة يوسف من أحاديث الأنبياء. قوله: {خَلَصُوا نَجِيّاً} أي اعتزلوا نجيا والجمع أنجية يتناجون الواحد نجي والاثنان والجمع نجي وأنجية" ثبت هذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، ووقع في رواية المستملي: "اعترفوا" بدل اعتزلوا والصواب الأول، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {خَلَصُوا نَجِيّاً}: أي اعتزلوا نجيا يتناجون، والنجي يقع لفظه على الواحد والجمع أيضا، وقد يجمع فيقال أنجية.

(8/361)


1- باب {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ}
4688- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيم"
قوله باب قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} الآية" ذكر فيه حديث ابن عمر "الكريم ابن الكريم" الحديث. وأخرج الحاكم مثله من حديث أبي هريرة، وهو دال على فضيلة خاصة وقعت ليوسف عليه السلام لم يشركه فيها أحد، ومعنى قوله أكرم الناس أي من جهة النسب، ولا يلزم من ذلك أن يكون أفضل من غيره مطلقا. وقوله في أول الإسناد "حدثنا عبد الله بن محمد" هو الجعفي شيخه المشهور، ووقع في "أطراف خلف" هنا: وقال عبد الله بن محمد، والأول أولى.

(8/361)


2- باب {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}
4689- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ قَالَ أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقِهُوا" تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّه"
قوله: "باب {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} ذكر ابن جرير وغيره أسماء إخوة يوسف وهم: روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وريالون ويشجر ودان ونيال وجاد واشر وبنيامين، وأكبرهم أولهم. ثم ذكر المصنف في حديث أبي هريرة "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم" الحديث، وقد تقدم شرحه مستوفى في أحاديث الأنبياء. ومحمد في أول الإسناد هو ابن سلام كما تقدم مصرحا به في أحاديث الأنبياء، وعبده هو ابن سليمان، وعبيد الله هو العمري. وفي الجمع بين قول يعقوب {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} وبين قوله: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} غموض، لأنه جزم بالاجتباء، وظاهره فيما يستقبل، فكيف يخاف عليه أن يهلك قبل ذلك؟ وأجيب بأجوبة: لا يلزم من جواز أكل الذئب له أكل جميعه بحيث يموت. ثانيها أراد بذلك دفع إخوته عن التوجه به فخاطبهم بما جرت عادتهم لا على ما هو في معتقده. ثالثها أن قوله: {يَجْتَبِيكَ} لفظه خبر ومعناه الدعاء كما يقال فلان يرحمه الله فلا ينافي وقوع هلاكه قبل ذلك. رابعها أن الاجتباء الذي ذكر يعقوب أنه سيحصل له كان حصل قبل أن يسأل إخوته أباهم أن يوجهه معهم، بدليل قوله بعد أن ألقوه في الجب {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ولا بعد في أن يؤتى النبوة في ذلك السن فقد قال في قصة يحيى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} ولا اختصاص لذلك بيحيى فقد قال عيسى وهو في المهد {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} وإذا حصل الاجتباء الموعود به لم يمتنع عليه الهلاك. خامسها أن يعقوب أخبر بالاجتباء مستندا إلى ما أوحى إليه به، والخبر يجوز أن يدخله النسخ عند قوم فيكون هذا من أمثلته، وإنما قال: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} تجويزا لا وقوعا، وقريب منه أنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأشياء من علامات الساعة كالدجال ونزول عيسى وطلوع الشمس من المغرب، ومع ذلك فإنه لما كسفت الشمس يجر رداءه فزعا يخشى أن تكون الساعة، وقوله: "تابعه أبو أسامة عن عبيد الله" وصله المؤلف في أحاديث الأنبياء.

(8/362)


باب {قل بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبرا جميل}
...
3- باب {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} سَوَّلَتْ زَيَّنَتْ
4690- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن بن شهاب قال وحدثنا الحجاج حدثنا عبد الله بن عمر النميري حدثنا يونس بن يزيد الأيلي قال سمعت الزهري سمعت عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال

(8/362)


لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله كل حدثني طائفة من الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه" قلت اني والله لا أجد مثلا إلا أبا يوسف {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} وأنزل الله {إن الذين جاءوا بالإفك} العشر الآيات"
4691- حدثنا موسى حدثنا أبو عوانة عن حصين عن أبي وائل قال حدثني مسروق بن الأجدع قال حدثتني أم رومان وهي أم عائشة قالت: بينا أنا وعائشة أخذتها الحمى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل في حديث تحدث" قالت نعم وقعدت عائشة قالت مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه {والله المستعان على ما تصفون} ".
قوله باب قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} سَوَّلَتْ زَيَّنَت" قال أبو عبيدة في قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} : أي زينت وحسنت. ثم ذكر المصنف طرفا من حديث الإفك، وسيأتي شرحه بتمامه في تفسير سورة النور. وذكر أيضا من طريق مسروق حدثتني أم رومان "وهي أم عائشة فذكر أيضا من حديث الإفك طرفا، وقد تقدم بأتم سياقا من هذا في ترجمة يوسف من أحاديث الأنبياء، وتقدم شرح ما قيل في الإسناد المذكور من الانقطاع والجواب عنه مستوفى، ويأتي التنبيه على ما فيه من فائدة في تفسير سورة النور إن شاء الله تعالى.

(8/363)


4- باب {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ هَيْتَ لَكَ} بِالْحَوْرَانِيَّةِ هَلُمَّ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ تَعَالَهْ
4692- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ هَيْتَ لَكَ قَالَ وَإِنَّمَا نَقْرَؤُهَا كَمَا عُلِّمْنَاهَا مَثْوَاهُ مُقَامُهُ وَأَلْفَيَا وَجَدَا أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ أَلْفَيْنَا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ}
4693- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَبْطَئُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالإِسْلاَمِ قَالَ: "اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ" فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِثْلَ الدُّخَانِ قَالَ اللَّهُ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} قَالَ اللَّهُ: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَْ} أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدْ مَضَى الدُّخَانُ وَمَضَتْ الْبَطْشَة"
قوله: "باب {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} اسم هذه المرأة في المشهور زليخا، وقيل راعيل، واسم سيدها العزيز قطفير بكسر أوله، وقيل بهمزة بدل القاف. قوله: {وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} . وقال عكرمة

(8/363)


{هَيْتَ} بالحورانية هلم. وقال ابن جبير: تعاله" أما قول عكرمة فوصله عبد بن حميد من طريقه. وأخرج من وجه آخر عن عكرمة قال: {هَيْتَ لَكَ} يعني بضم الهاء وتشديد التحتانية بعدها أخرى مهموزة. وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق عن عبد الله قال: "أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم هيت لك يعني هلم لك" وعند عبد الرزاق من وجه آخر عن عكرمة قال: معناها تهيأت لك. وعن قتادة قال: يقول بعضهم هلم لك. وأما قول سعيد بن جبير فوصله الطبري وأبو الشيخ من طريقه. وقال أبو عبيدة في قوله: "وقالت هيت لك" أي هلم، وأنشدني أبو عمرو بن العلاء:
إن العراق وأهله ... عنق إليك فهيت هيتا
قال ولفظ: "هيت" للواحد والاثنين والجمع من الذكر والأنثى سواء، إلا أن العدد فيما بعد، تقول هيت لك وهيت لكما. قال وشهدت أبا عمرو بن العلاء وسأله رجل عمن قرأ هئت لك أي بكسر الهاء وضم المثناة مهموزا. فقال: باطل، لا يعرف هذا أحد من العرب، انتهى. وقد أثبت ذلك الفراء، وساقه من طريق الشعبي عن ابن مسعود، وسيأتي تحرير النقل عن ابن مسعود في ذلك قريبا. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش. قوله: "عن عبد الله بن مسعود "قالت هيت لك" وقال إنما نقرؤها كما علمناها" هكذا أورده مختصرا، وأخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش بلفظ: إني سمعت الفراء فسمعهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم وإياكم والتنطع والاختلاف، فإنما هو كقول الرجل: هلم وتعال، ثم قرأ: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} فقلت: إن ناسا يقرءونها {هَيْتَ لَكَ} قال: لا، لأن أقرأها كما علمت أحب إلى وكذا أخرجه ابن مردويه من طريق شيبان وزائدة عن الأعمش نحوه، ومن طريق طلحة بن مصرف عن أبي وائل أن ابن مسعود قرأها "هيت لك بالفتح، ومن طريق سليمان التيمي عن الأعمش. بإسناده لكن قال بالضم، وروى عبد بن حميد من طريق أبي وائل قال: قرأها عبد الله بالفتح، قلت له إن الناس يقرءونها بالضم فذكره. وهذا أقوى. قلت: وقراءة ابن مسعود بكسر الهاء وبالضم وبالفتح بغير همز، وروى عبد بن حميد عن أبي وائل أنه كان يقرؤها كذلك، لكن بالهمز، وقد تقدم إنكار أبي عمرو ذلك، لكن ثبت ما أنكره في قراءة هشام في السبعة، وجاء عنه الضم والفتح أيضا، وقرأ ابن كثير بفتح الهاء وبالضم، وقرأ نافع وابن ذكوان بكسر أوله وفتح آخره، وقرأ الجمهور بفتحهما، وقرأ ابن محصين بفتح أوله وكسر آخره وهي عن ابن عباس أيضا والحسن، وقرأ ابن أبي إسحاق أحد مشايخ النحو بالبصرة بكسر أوله وضم آخره، وحكى النحاس أنه قرأ بكسرهما. وأما ما نقل عن عكرمة أنها بالحورانية فقد وافقه عليه الكسائي والفراء وغيرهما كما تقدم، وعن السدي أنها لغة قبطية معناها هلم لك، وعن الحسن أنها بالسريانية كذلك. وقال أبو زيد الأنصاري هي بالعبرانية وأصلها هيت لج أي تعاله فعربت. وقال الجمهور هي عربية معناها الحث على الإقبال، والله أعلم. قوله: "مثواه مقامه" ثبت هذا لأبي ذر وحده وكذا الذي بعده، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي مقامه الذي ثواه، ويقال لمن نزل عليه الشخص ضيفا: أبو مثواه. قوله: "وألفيا وجدا ألفوا آباءهم وألفى1" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} أي وجداه. وفي قوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ} أي
ـــــــ
(1) الذي في المتن "وألفينا"

(8/364)


وجدوا. وفي قوله: "ألفى" أي وجد. قوله: "وعن ابن مسعود بل عجبت ويسخرون" هكذا وقع في هذا الموضع معطوفا على الإسناد الذي قبله وصله الحاكم في "المستدرك" من طريق جرير عن الأعمش بهذا، وقد أشكلت مناسبة إيراد هذه الآية في هذا الموضع فإنها من سورة والصافات، وليس في هذه السورة من معناها شيء. لكن أورد البخاري في الباب حديث عبد الله وهو ابن مسعود "أن قريشا لما أبطئوا على النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أكفنيهم بسبع كسبع يوسف" الحديث ولا تظهر مناسبته أيضا للترجمة المذكورة وهي قوله: "باب قوله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه" وقد تكلف لها أبو الإصبع عيسى بن سهل في شرحه فيما نقلته من رحلة أبي عبد الله بن رشيد عنه ما ملخصه: ترجم البخاري "باب قوله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه" وأدخل حديث ابن مسعود "أن قريشا لما أبطئوا" الحديث وأورد قبل ذلك في الترجمة عن ابن مسعود {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} قال فانتهى إلى موضع الفائدة ولم يذكرها وهو قوله: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} قال: ويؤخذ من ذلك مناسبة التبويب المذكورة، ووجهه أنه شبه ما عرض ليوسف عليه السلام مع إخوته ومع امرأة العزيز بما عرض لمحمد صلى الله عليه وسلم مع قومه حين أخرجوه من وطنه كما أخرج يوسف إخوته وباعوه لمن استعبده فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم قومه لما فتح مكة كما لم يعنف يوسف إخوته حين قالوا له {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر لما سأله أبو سفيان أن يستسقى لهم كما دعا يوسف لإخوته لما جاءوه نادمين فقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} قال: فمعنى الآية بل عجبت من حلمي عنهم مع سخريتهم بك وتماديهم على غيهم، وعلى قراءة ابن مسعود بالضم بل عجبت من حلمك عن قومك إذ أتوك متوسلين بك فدعوت فكشف عنهم، وذلك كحلم يوسف عن إخوته إذ أتوه محتاجين، وكحلمه عن امرأة العزيز حيث أغرت به سيدها وكذبت عليه ثم سجنته ثم عفا عنها بعد ذلك ولم يؤاخذها. قال: فظهر تناسب هاتين الآيتين في المعنى مع بعد الظاهر بينهما. قال: ومثل هذا كثير في كتابه - مما عابه به من لم يفتح الله عليه - والله المستعان. ومن تمام ذلك أن يقال: تظهر المناسبة أيضا بين القصتين من قوله في الصافات: وإذا رأوا آية يستسخرون، فإن فيها إشارة إلى تماديهم على كفرهم وغيهم، ومن قوله في قصة يوسف "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين" . وقول البخاري "وعن ابن مسعود" هو موصول بالإسناد الذي قبله، وقد روى الطبري وابن أبي حاتم من طريق الأعمش عن أبي وائل عن شريح أنه أنكر قراءة "عجبت" بالضم ويقول إن الله لا يعجب وإنما يعجب من لا يعلم، قال فذكرته لإبراهيم النخعي فقال: إن شريحا كان معجبا برأيه، وإن ابن مسعود كان يقرؤها بالضم وهو أعلم منه. قال الكرماني: أورد البخاري هذه الكلمة وإن كانت في الصافات هنا إشارة إلى أن ابن مسعود كان يقرؤها بالضم كما يقرأ هيت بالضم انتهى. وهي مناسبة لا بأس بها إلا أن الذي تقدم عن ابن سهل أدق والله أعلم. وقرأ بالضم أيضا سعيد بن جبير وحمزة والكسائي، والباقون بالفتح، وهو ظاهر وهو ضمير الرسول، وبه صرح قتادة. ويحتمل أن يراد به كل من يصح منه، وأما الضم فحكاية شريح تدل على أنه حمله على الله، وليس لإنكاره معنى لأنه إذا ثبت حمل على ما يليق به سبحانه وتعالى. ويحتمل أن يكون مصروفا للسامع أي قل بل عجبت ويسخرون، والأول هو المعتمد، وقد أقره إبراهيم النخعي وجزم بذلك سعيد بن جبير فيما رواه ابن أبي حاتم قال في قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} الله عجب، ومن طريق أخرى عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه قرأ: {بَلْ عَجِبْتَ} بالرفع ويقول نظيرها {وَإِنْ

(8/365)


تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} ومن طريق الضحاك عن ابن عباس قال سبحان الله عجب. ونقل ابن أبي حاتم في "كتاب الرد على الجهمية" عن محمد بن عبد الرحمن المقري ولقبه مت قال وكان يفضل على الكسائي في القراءة أنه قال: يعجبني أن أقرأ: {بَلْ عَجِبْتَ} بالضم خلافا للجهمية. قوله: "حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن الأعمش عن مسلم" وهو ابن صبيح بالتصغير وهو أبو الضحى وهو بكنيته أشهر، ووقع في "مسند الحميدي" عن سفيان" أخبرني الأعمش - أو أخبرت عنه - عن مسلم: "كذا عنده بالشك، وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريقه، وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن سفيان قال: "سمعت من الأعمش أو أخبرته عنه عن مسلم بن صبيح" وهذا الشك لا يقدح في صحة الحديث فإنه قد تقدم في الاستسقاء من طريق أخرى عن الأعمش من غير رواية ابن عيينة، فتكون هذه معدودة في المتابعات، والله أعلم.

(8/366)


5- باب {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} وَحَاشَ وَحَاشَى تَنْزِيهٌ وَاسْتِثْنَاءٌ حَصْحَصَ وَضَحَ
4694- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لاَجَبْتُ الدَّاعِيَ وَنَحْنُ أَحَقُّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لَهُ {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
قوله: "باب قوله {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} - إلى قوله: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} كذا لأبي ذر، وكأن الترجمة انقضت عند قوله ربك، ثم فسر قوله حاش لله. وساق غيره من أول الآية إلى قوله: {عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} . قوله: "حاش وحاشا تنزيه واستثناء" قال أبو عبيدة في قوله: {حَاشَ لِلَّهِ} الشين مفتوحة بغير ياء، وبعضهم يدخلها في آخره كقول الشاعر "حاشى أبي ثوبان إن به" ومعناه التنزيه والاستثناء عن الشر، تقول حاشيته أي استثنيته، وقد قرأ الجمهور بحذف الألف بعد الشين وأبو عمرو بإثباتها في الوصل، وفي حذف الألف بعد الحاء لغة وقرأ بها الأعمش، واختلف في أنها حرف أو اسم أو فعل وشرح ذلك يطول، والذي يظهر أن من حذفها رجح فعليتها بخلاف من نفاها، ويؤيد فعليتها قول النابغة "ولا أحاشي من الأقوام من أحد" فإن تصرف الكلمة من الماضي إلى المستقبل دليل فعليتها، واقتضى كلامه أن إثبات الألف وحذفها سواء لغة، وقيل إن حذف الألف الأخيرة لغة أهل الحجاز دون غيرهم.
" تنبيه " : قوله: "تنزيه" في رواية الأكثر بفتح أوله وسكون النون بعدها زاي مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم هاء وفي رواية حكاها عياض موحدة ساكنة بعد أوله وكسر الراء بعدها تحتانية مفتوحة مهموزة ثم تاء تأنيث. قوله: "حصحص وضح" قال أبو عبيدة في قوله: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي الساعة وضح الحق وتبين. وقال الخليل: معناه تبين وظهر بعد خفاء، ثم قيل هو مأخوذ من الحصة أي ظهرت حصة الحق

(8/366)


من حصة الباطل، وقيل من حصة إذا قطعه، ومنه أحص الشعر وحص وحصحص مثل كف وكفكف. قوله: "حدثنا سعيد بن تليد" بفتح المثناة وكسر اللام بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة هو سعيد بن عيسى بن تليد، مصري يكنى أبا عثمان، تقدم ذكره في بدء الخلق، نسبه البخاري إلى جده. قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن القاسم" هو العتقي بضم المهملة وفتح المثناة بعدها قاف المصري الفقيه المشهور صاحب مالك وراوي المدونة من علم مالك، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع. والإسناد مسلسل بالمصريين إلى يونس بن يزيد والباقون مدنيون، وفيه رواية الأقران لأن عمرو بن الحارث المصري الفقيه المشهور من أقران يونس بن يزيد، وقد تقدم شرح حديث الباب في ترجمتي إبراهيم ولوط من أحاديث الأنبياء.

(8/367)


6- باب {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}
4695- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} قَالَ قُلْتُ أَكُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا قَالَتْ عَائِشَةُ كُذِّبُوا قُلْتُ فَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ قَالَتْ أَجَلْ لَعَمْرِي لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ فَقُلْتُ لَهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا قُلْتُ فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْبَلاَءُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ النَّصْرُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنَّتْ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِك"
4696- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَقُلْتُ لَعَلَّهَا كُذِبُوا مُخَفَّفَةً قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ نَحْوَه"
قوله: "باب قوله {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} استيأس استفعل من اليأس ضد الرجاء، قال أبو عبيدة في قوله: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} استفعلوا من يئست، ومثله في هذه الآية، وليس مراده باستفعل إلا الوزن خاصة وإلا فالسين والتاء زائدتان، واستيأس بمعنى يئس كاستعجب وعجب وفرق بينهما الزمخشري بأن الزيادة تقع في مثل هذا للتنبيه على المبالغة في ذلك الفعل، واختلف فيما تعلقت به الغاية من قوله: "حتى" فاتفقوا على أنه محذوف، فقيل التقدير {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} فتراخى النصر عنهم "حتى إذا" وقيل التقدير فلم تعاقب أممهم حتى إذا، وقيل فدعوا قومهم فكذبوهم فطال ذلك حتى إذا. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان. قوله: "عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله عز وجل" في رواية عقيل عن ابن شهاب في أحاديث الأنبياء "أخبرني عروة أنه سأل عائشة عن قوله تعالى" فذكره. قوله: "قلت كذبوا أم كذبوا" أي مثقلة أو مخففة؟ ووقع ذلك صريحا في رواية الإسماعيلي من طريق صالح ابن كيسان هذه. قوله: "قالت عائشة كذبوا" أي بالتثقيل في رواية الإسماعيلي مثقلة. قوله:"فما هو بالظن؟ قالت أجل" زاد الإسماعيلي: "قلت فهي مخففة، قالت معاذ الله" وهذا ظاهر في أنها

(8/367)


أنكرت القراءة بالتخفيف بناء على أن الضمير للرسل، وليس الضمير للرسل على ما بينته ولا لإنكار القراءة بذلك معنى بعد ثبوتها. ولعلها لم يبلغها ممن يرجع إليه في ذلك. وقد قرأها بالتخفيف أئمة الكوفة من القراء عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، ووافقهم من الحجازيين أبو جعفر بن القعقاع، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي في آخرين. وقال الكرماني: لم تنكر عائشة القراءة، وإنما أنكرت تأويل ابن عباس. كذا قال، وهو خلاف الظاهر، وظاهر السياق أن عروة كان يوافق ابن عباس في ذلك قبل أن يسأل عائشة، ثم لا يدري رجع إليها أم لا. روى ابن أبي حاتم من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري قال: جاء رجل إلى القاسم بن محمد فقال له إن محمد بن كعب القرظي يقرأ: {كذبوا" بالتخفيف فقال: أخبره عني أني سمعت عائشة تقول "كذبوا" مثقلة أي كذبتهم أتباعهم. وقد تقدم في تفسير البقرة من طريق ابن أبي مليكة قال: "قال ابن عباس { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} خفيفة قال ذهب بها هنالك" وفي رواية الأصيلي: "بما هنالك" بميم بدل الهاء وهو تصحيف. وقد أخرجه النسائي والإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: "ذهب هاهنا - وأشار إلى السماء - وتلا حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب" وزاد الإسماعيلي في روايته: "ثم قال ابن عباس كانوا بشرا ضعفوا وأيسوا وظنوا أنهم قد كذبوا" وهذا ظاهره أن ابن عباس كان يذهب إلى أن قوله: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} مقول الرسول، وإليه ذهب طائفة. ثم اختلفوا فقيل الجميع مقول الجميع، وقيل الجملة الأولى مقول الجميع والأخيرة من كلام الله. وقال آخرون الجملة الأولى وهي {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} مقول الذين آمنوا معه. والجملة الأخيرة وهي {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} مقول الرسول، وقدم الرسول في الذكر لشرفه وهذا أولى، وعلى الأول فليس قول الرسول {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} شكا بل استبطاء للنصر وطلبا له، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم يوم بدر "اللهم أنجز لي ما وعدتني" قال الخطابي: لا شك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تكذب بالوحي، ولا يشك في صدق المخبر، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهما لطول البلاء عليهم وإبطاء النصر وشدة استنجاز من وعدوه به توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان حسبانا من أنفسهم، وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من ذلك، فيكون الذي بنى له الفعل أنفسهم لا الآتي بالوحي، والمراد بالكذب الغلط لا حقيقة الكذب كما يقول القائل كذبتك نفسك. قلت: ويؤيده قراءة مجاهد {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} بفتح أوله مع التخفيف أي غلطوا، ويكون فاعل "وظنوا" الرسل، ويحتمل أن يكون أتباعهم. ويؤيده ما رواه الطبري بأسانيد متنوعة من طريق عمران بن الحارث وسعيد بن جبير وأبي الضحى وعلي بن أبي طلحة والعوفي كلهم عن ابن عباس في هذه الآية قال: أيس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل كذبوا. وقال الزمخشري: إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في النفس من الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأما الظن وهو ترجيح أحد الطرفين فلا يظن بالمسلم فضلا عن الرسول. وقال أبو نصر القشيري ولا يبعد أن المراد خطر بقلب الرسل فصرفوه عن أنفسهم، أو المعنى قربوا من الظن كما يقال بلغت المنزل إذا قربت منه. وقال الترمذي الحكيم: وجهه أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر أن يتخلف النصر، لا من تهمة بوعد الله بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال واشتد البلاء عليهم دخلهم الظن من هذه الجهة. قلت: ولا يظن بابن عباس أنه يجوز على الرسول أن نفسه تحدثه بأن الله

(8/368)


يخلف وعده، بل الذي يظن بابن عباس أنه أراد بقوله: "كانوا بشرا" إلى آخر كلامه من آمن من أتباع الرسل لا نفس الرسل، وقول الراوي عنه "ذهب بها هناك" أي إلى السماء معناه أن أتباع الرسل ظنوا أن ما وعدهم به الرسل على لسان الملك تخلف، ولا مانع أن يقع ذلك في خواطر بعض الأتباع. وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح. ثم الزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس، فإنه صح عنه، لكن لم يأت عنه التصريح بأن الرسل هم الذين ظنوا ذلك، ولا يلزم ذلك من قراءة التخفيف، بل الضمير في {وَظَنُّوا} عائد على المرسل إليهم، وفي "وكذبوا" عائد على الرسل أي وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا، أو الضمائر للرسل والمعنى يئس الرسل من النصر وتوهموا أن أنفسهم كذبتهم حين حدثتهم بقرب النصر، أو كذبهم رجاؤهم. أو الضمائر كلها للمرسل إليهم أي يئس الرسل من إيمان من أرسلوا إليه، وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوهم في جميع ما ادعوه من النبوة والوعد بالنصر لمن أطاعهم والوعيد بالعذاب لمن لم يجبهم، وإذا كان ذلك محتملا وجب تنزيه ابن عباس عن تجويزه ذلك على الرسل، ويحمل إنكار عائشة على ظاهر مساقهم من إطلاق المنقول عنه. وقد روى الطبري أن سعيد ابن جبير سئل عن هذه الآية فقال: يئس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا. فقال الضحاك بن مزاحم لما سمعه: لو رحلت إلى اليمن في هذه الكلمة لكان قليلا. فهذا سعيد بن جبير وهو من أكابر أصحاب ابن عباس العارفين بكلامه حمل الآية على الاحتمال الأخير الذي ذكرته. وعن مسلم بن يسار أنه سأل سعيد بن جبير فقال له: آية بلغت مني كل مبلغ، فقرأ هذه الآية بالتخفيف، قال في هذا ألوت أن تظن الرسل ذلك، فأجابه بنحو ذلك، فقال: فرجت عني فرج الله عنك، وقام إليه فاعتنقه. وجاء ذلك من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس نفسه، فعند النسائي من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {قَدْ كُذِبُوا} قال: استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم. وإسناده حسن. فليكن هو المعتمد في تأويل ما جاء عن ابن عباس في ذلك، وهو أعلم بمراد نفسه من غيره. ولا يرد على ذلك ما روى الطبري من طريق ابن جريج في قوله: {قَدْ كُذِبُوا} خفيفة أي أخلفوا، ألا إنا إذا قررنا أن الضمير للمرسل إليهم لم يضر تفسير كذبوا بأخلفوا، أي ظن المرسل إليهم أن الرسل أخلفوا ما وعدوا به، والله أعلم. وروى الطبري من طريق تميم بن حذلم. سمعت ابن مسعود يقول في هذه الآية: استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أن الرسل كذبوهم. ومن طريق عبد الله بن الحارث: استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن القوم أنهم قد كذبوا فيما جاءوهم به. وقد جاء عن ابن مسعود شيء موهم كما جاء عن ابن عباس، فروى الطبري من طريق صحيح عن مسروق عن ابن مسعود أنه قرأ: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مخففة قال أبو عبد الله: هو الذي يكره. وليس في هذا أيضا ما يقطع به على أن ابن مسعود أراد أن الضمير للرسل، بل يحتمل أن يكون الضمير عنده لمن أمن من أتباع الرسل، فإن صدور ذلك ممن أمن مما يكره سماعه، فلم يتعين أنه أراد الرسل. قال الطبري: لو جاز أن يرتاب الرسل بوعد الله ويشكوا في حقيقة خبره لكان المرسل إليهم أولى بجواز ذلك عليهم. وقد اختار الطبري قراءة التخفيف ووجهها بما تقدم ثم قال: وإنما اخترت هذا لأن الآية وقعت عقب قوله: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فكان في ذلك إشارة إلى أن يأس الرسل كان من إيمان قومهم الذين كذبوهم فهلكوا، أو أن المضمر في قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} إنما هو للذين من قبلهم من الأمم

(8/369)


الهالكة. ويزيد ذلك وضوحا أن في بقية الآية الخبر عن الرسل ومن آمن بهم بقوله تعالى:{فننجي من نشاء} أي الذين هلكوا هم الذين ظنوا أن الرسل قد كذبوا فكذبوهم، والرسل ومن اتبعهم هم الذين نجوا، انتهى كلامه، ولا يخلو من نظر. قوله :"قالت أجل" أي نعم. ووقع في رواية عقيل في أحاديث الأنبياء في هذا الموضع "فقالت يا عرية" وهو بالتصغير وأصله عريوة فاجتمع حرفا علة فأبدلت الواو ياء ثم أدغمت في الأخرى. قوله: "لعمري لقد استيقنوا بذلك" فيه إشعار بحمل عروة الظن على حقيقته وهو رجحان أحد الطرفين، ووافقته عائشة. لكن روى الطبري من طريق سعيد عن قتادة أن المراد بالظن هنا اليقين. ونقله نفطويه هنا عن أكثر أهل اللغة وقال: هو كقوله في آية أخرى {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} وأنكر ذلك الطبري وقال: إن الظن لا تستعمله العرب في موضع العلم إلا فيما كان طريقه غير المعاينة، فأما ما كان طريقه المشاهدة فلا، فإنها لا تقول أظنني إنسانا ولا أظنني حيا بمعنى إنسانا أو حيا. قوله في الطريق الثانية عن الزهري "أخبرني عروة فقلت لعلها كذبوا مخففة قالت معاذ الله. نحوه" هكذا أورده مختصرا، وقد ساقه أبو نعيم في "المستخرج" بتمامه ولفظه عن عروة أنه سأل عائشة فذكر نحو حديث صالح بن كيسان. "فائدة" : قوله تعالى في بقية الآية "فننجي من نشاء" قرأ الجمهور بنونين الثانية ساكنة والجيم خفيفة وسكون آخره مضارع أنجي، وقرأ عاصم وابن عامر بنون واحدة وجيم مشددة وفتح آخره على أنه فعل ماض مبني للمفعول ومن قائمة مقام الفاعل، وفيها قراءات أخرى. قال الطبري كل من قرأ بذلك فهو منفرد بقراءته والحجة في قراءة غيره، والله أعلم.

(8/370)


13- سورة الرَّعْدِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} مَثَلُ الْمُشْرِكِ الَّذِي عَبَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ غَيْرَهُ كَمَثَلِ الْعَطْشَانِ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى ظِلِّ خَيَالِهِ فِي الْمَاءِ مِنْ بَعِيدٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ وَلاَ يَقْدِرُ وَقَالَ غَيْرُهُ سَخَّرَ ذَلَّلَ {مُتَجَاوِرَاتٌ} مُتَدَانِيَاتٌ وَقَالَ غَيْرُهُ {الْمَثُلاَتُ} وَاحِدُهَا مَثُلَةٌ وَهِيَ الأَشْبَاهُ وَالأَمْثَالُ وَقَالَ { إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا} {بِمِقْدَارٍ} بِقَدَرٍ يُقَالُ {مُعَقِّبَاتٌ} مَلاَئِكَةٌ حَفَظَةٌ تُعَقِّبُ الأُولَى مِنْهَا الأُخْرَى وَمِنْهُ قِيلَ الْعَقِيبُ أَيْ عَقَّبْتُ فِي إِثْرِهِ {الْمِحَالِ} الْعُقُوبَةُ {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} لِيَقْبِضَ عَلَى الْمَاءِ {رَابِيًا} مِنْ رَبَا يَرْبُو أَوْ {مَتَاعٍ زَبَدٌ} الْمَتَاعُ مَا تَمَتَّعْتَ بِهِ {جُفَاءً} يُقَالُ أَجْفَأَتْ الْقِدْرُ إِذَا غَلَتْ فَعَلاَهَا الزَّبَدُ ثُمَّ تَسْكُنُ فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ بِلاَ مَنْفَعَةٍ فَكَذَلِكَ يُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ {الْمِهَادُ} الْفِرَاشُ {يَدْرَءُونَ} يَدْفَعُونَ دَرَأْتُهُ عَنِّي دَفَعْتُهُ {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} تَوْبَتِي {أَفَلَمْ يَيْئَسْ} أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ {قَارِعَةٌ} دَاهِيَةٌ {فَأَمْلَيْتُ} أَطَلْتُ مِنْ الْمَلِيِّ وَالْمِلاَوَةِ وَمِنْهُ {مَلِيًّا} وَيُقَالُ لِلْوَاسِعِ الطَّوِيلِ مِنْ الأَرْضِ مَلًى مِنْ الأَرْضِ {أَشَقُّ} أَشَدُّ مِنْ الْمَشَقَّةِ {مُعَقِّبَ} مُغَيِّرٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مُتَجَاوِرَاتٌ} طَيِّبُهَا وَخَبِيثُهَا السِّبَاخُ {صِنْوَانٌ} النَّخْلَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} وَحْدَهَا {بِمَاءٍ وَاحِدٍ} كَصَالِحِ بَنِي آدَمَ

(8/370)


وَخَبِيثِهِمْ أَبُوهُمْ وَاحِدٌ {السَّحَابُ الثِّقَالُ} الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} يَدْعُو الْمَاءَ بِلِسَانِهِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ فَلاَ يَأْتِيهِ أَبَدًا {َسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} تَمْلاَ بَطْنَ كُلِّ وَادٍ {زَبَدًا رَابِيًا} الزَّبَدُ زَبَدُ السَّيْلِ {زَبَدٌ مِثْلُهُ} خَبَثُ الْحَدِيدِ وَالْحِلْيَةِ
قوله: "سورة الرعد {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثبت البسملة لأبي ذر وحده. قوله :"قال ابن عباس {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} مثل المشرك الذي عبد مع الله إلها آخر غيره كمثل العطشان الذي ينظر إلى ظل خياله في الماء من بعيد وهو يريد أن يناوله ولا يقدر" وصله ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} الآية، فذكر مثله وقال في آخره: ولا يقدر عليه.
" تنبيه " : وقع في رواية الأكثر "فلا يقدر" بالراء وهو الصواب، وحكى عياض أن في رواية غير القابسي "يقدم" بالميم وهو تصحيف وإن كان له وجه من جهة المعنى. وروى الطبري أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال: "مثل الأوثان التي تعبد من دون الله كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كربه الموت وكفاه في الماء قد وضعهما لا يبلغان فاه، يقول الله لا يستجيب له الأوثان ولا تنفعه حتى تبلغ كفا هذا فاء وما هما ببالغتين فاه أبدا. ومن طريق أبي أيوب عن علي قال: كالرجل العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو بمرتفع. ومن طريق سعيد عن قتادة: الذي يدعو من دون الله إلها لا يستجيب له بشيء أبدا من نفع أو ضر حتى يأتيه الموت، مثله كمثل الذي بسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ولا يصل ذلك إليه فيموت عطشا. ومن طريق معمر عن قتادة نحوه ولكن قال: وليس الماء ببالغ فاه ما دام باسطا كفيه لا يقبضهما، وسيأتي قول مجاهد في ذلك فيما بعد. قوله: "وقال غيره: متجاورات متداينات. وقال غيره: المثلات واحدها مثلة وهي الأمثال والأشباه. وقال: إلا مثل أيام الذين خلوا" هكذا وقع في رواية أبي ذر، ولغيره: وقال غيره سخر ذلل، متجاورات متدانيات، المثلات واحدها مثلة إلى آخره، فجعل الكل لقاتل واحد. وقوله: "وسخر" هو بفتح المهملة وتشديد الخاء المعجمة. وذلل بالذال المعجمة وتشديد اللام تفسير سخر، وكل هذا كلام أبي عبيدة قال في قوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي ذللهما فانطاعا، قال: والتنوين في كل بدل من الضمير للشمس والقمر، وهو مرفوع على الاستئناف فلم يعمل فيه وسخر. وقال في قوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} أي متدانيات متقاربات. وقال في قوله: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} قال: الأمثال والأشباه والنظير. وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {الْمَثُلاتُ} قال: الأمثال. ومن طريق معمر عن قتادة قال: المثلات العقوبات. ومن طريق زيد بن أسلم: المثلات ما مثل الله به من الأمم من العذاب، وهو جمع مثلة كقطع الأذن والأنف.
" تنبيه " : المثلات والمثلة كلاهما بفتح الميم وضم المثلثة مثل سمرة وسمرات، وسكن يحيى بن وثاب المثلثة في قراءته وضم الميم، وكذا طلحة بن مصرف لكن فتح أوله، وقرأ الأعمش بفتحهما. وفي رواية أبي بكر بن عياش بضمهما، وبهما قرأ عيسى بن عمر. قوله: "بمقدار بقدر" هو كلام أبي عبيدة أيضا وزاد: مفعال من القدر، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة: أي جعل لهم أجلا معلوما. قوله: "يقال معقبات ملائكة حفظة تعقب الأولى منها الأخرى ومنه قيل العقيب أي عقبت في أثره" سقط لفظ: "يقال: "من رواية غير أبي ذر وهو أولى فإنه كلام أبي عبيدة أيضا قال في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} أي ملائكة تعقب بعد ملائكة،

(8/371)


حفظة بالليل تعقب بعد حفظة النهار وحفظة النهار تعقب بعد حفظة الليل، ومنه قولهم فلان عقبني وقولهم عقبت في أثره. وروى الطبري بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدره خلوا عنه. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يقول بإذن الله، فالمعقبات هن من أمر الله وهي الملائكة. ومن طريق سعيد بن جبير قال: حفظهم إياه بأمر الله. ومن طريق إبراهيم النخعي قال: يحفظونه من الجن. ومن طريق كعب الأحبار قال: لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتم. وأخرج الطبري من طريق كنانة العدوي أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد الملائكة الموكلة بالآدمي فقال: لكل آدمي عشرة بالليل وعشرة بالنهار، واحد عن يمينه وآخر عن شماله واثنان من بين يديه ومن خلفه واثنان على جنبيه وآخر قابض على ناصيته فإن تواضع رفعه وإن تكبر وضعه واثنان على شفتيه ليس يحفظان عليه إلا الصلاة على محمد والعاشر يحرسه من الحية أن تدخل فاه يعني إذا نام. وجاء في تأويل قول آخر رجحه ابن جرير فأخرج بإسناد صحيح عن ابن عباس في قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} قال: ذلك ملك من ملوك الدنيا له حرس ومن دونه حرس. ومن طريق عكرمة في قوله: {مُعَقِّبَاتٌ} قال: المراكب. "تنبيه" : عقبت يجوز فيه تخفيف القاف وتشديدها، وحكى ابن التين عن رواية بعضهم كسر القاف مع التخفيف فيكشف عن ذلك لاحتمال أن يكون لغة. قوله: "المحال العقوبة" هو قول أبي عبيدة أيضا، وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "شديد المحال" قال شديد القوة، ومثله عن قتادة ونحوه عن السدي. وفي رواية عن مجاهد: شديد الانتقام، وأصل المحال بكسر الميم القوة، وقيل أصله المحل وهو المكر، وقيل الحيلة والميم مزيدة وغلطوا قائله، ويؤيد التأويل الأول قوله في الآية {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} ، وروى النسائي في سبب نزولها من طريق علي بن أبي سارة عن ثابت عن أنس قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من فراعنة العرب يدعوه - الحديث وفيه - فأرسل الله صاعقة فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله هذه الآية" وأخرجه البزار من طريق أخرى عن ثابت والطبراني من حديث ابن عباس مطولا. قوله: "كباسط كفيه إلى الماء ليقبض على الماء" هو كلام أبي عبيدة أيضا قال في قوله: {إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} أي أن الذي يبسط كفيه ليقبض على الماء حتى يؤديه إلى فمه لا يتم له ذلك ولا تجمعه أنامله، قال صابئ بن الحارث:
وإني وإياكم وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تسقه أنامله
تسقه بكسر المهملة وسكون القاف أي لم تجمعه. قوله: "رابيا من ربا يربو" قال أبو عبيدة في قوله: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} من ربا يربو أي ينتفخ، وسيأتي تفسير قتادة قريبا. قوله: {أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} ، المتاع ما تمتعت به" هو قول أبي عبيدة أيضا، وسيأتي تفسير مجاهد لذلك قريبا. قوله: "جفاه يقال أجفأت القدر إذا غلت فعلاها الزبد ثم تسكن فيذهب الزبد بلا منفعة فكذلك يميز الحق من الباطل" قال أبو عبيدة في قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} . قال أبو عمرو بن العلاء: يقال أجفأت القدر وذلك إذا غلت وانتصب زبدها، فإذا سكنت لم يبق منه شيء. ونقل الطبري عن بعض أهل اللغة من البصريين أن معنى قوله: {فَيَذْهَبُ جُفَاء} تنشفه

(8/372)


الأرض، يقال جفا الوادي وأجفى في معنى نشف، وقرأ رؤبة بن العجاج "فيذهب جفالا" باللام بدل الهمزة وهي من أجفلت الريح الغيم إذا قطعته. قوله: "المهاد الفراش" ثبت هذا لغير أبي ذر وهو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "يدرءون يدفعون درأته عني دفعته" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "الأغلال واحدها غل، ولا تكون إلا في الأعناق" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي يقولون سلام عليكم" قال أبو عبيدة في قوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ} قال: مجازه مجاز المختصر الذي فيه ضمير، تقديره يقولون سلام عليكم. وقال الطبري: حذفت يقولون لدلالة الكلام، كما حذفت في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} والأولى أن المحذوف حال من فاعل يدخلون، أي يدخلون قائلين. وقوله: {بِمَا صَبَرْتُمْ} يتعلق بما يتعلق به عليكم، وما مصدرية أي بسبب صبركم. قوله: "والمتاب إليه توبتي" قال أبو عبيدة: المتاب مصدر تبت إليه وتوبتي، وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح في قوله: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} قال: توبتي. قوله: "أفلم ييأس أفلم يتبين" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {أفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي أفلم يعلم ويتبين قال سحيم اليربوعي: "ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم" أي لم تبينوا. وقال آخر:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
ونقل الطبري عن القاسم بن معن أنه كان يقول: إنها لغة هوازن تقول: يئست كذا أي علمته، قال: وأنكره بعض الكوفيين - يعني الفراء - لكنه سلم أنه هنا بمعنى علمت وإن لم يكن مسموعا، ورد عليه بأن من حفظ حجه على من لم يحفظ، ووجهوه بأن اليأس إنما استعمل بمعنى العلم، لأن الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون. وروى الطبري من طرق عن مجاهد وقتادة وغيرهما {أفَلَمْ يَيْأَسِ} أي أفلم يعلم، وروى الطبري وعبد بن حميد بإسناد صحيح كلهم من رجال البخاري عن ابن عباس أنه كان يقرؤها "أفلم يتبين" ويقول: كتبها الكاتب وهو ناعس ومن طريق ابن جريج قال: زعم ابن كثير وغيره أنها القراءة الأولى، وهذه القراءة جاءت عن علي وابن عباس وعكرمة وابن مليكة وعلي بن بديمة وشهر بن حوشب بن الحسين وابنه زيد وحفيده جعفر بن محمد في آخر من قرءوا كلهم "أفلم يتبين" وأما ما أسنده الطبري عن ابن عباس فقد اشتد إنكار جماعة ممن لا علم له بالرجال صحته، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته إلى أن قال: وهي والله فرية ما فيها مرية. وتبعه جماعة بعده، والله المستعان. وقد جاء عن ابن عباس نحو ذلك في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} قال: "ووصى" التزقت الواو في الصاد، أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيد عنه. وهذه الأشياء وإن كان غيرها المعتمد، لكن تكذيب المنقول بعد صحته ليس من دأب أهل التحصيل، فلينظر في تأويله بما يليق به. قوله: "قارعة داهية" قال أبو عبيدة في قوله: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} أي داهية مهلكة. تقول قرعت عظمة أي صدعته، وفسره غيره بأخص من ذلك: فأخرج الطبري بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} قال سرية أو تحل قريبا من دارهم قال أنت يا محمد حتى يأتي وعد الله فتح مكة، ومن طريق مجاهد وغيره نحوه. قوله: "فأمليت أطلت، من الملي والملاوة. ومنه مليا، ويقال للواسع الطويل من الأرض ملي" كذا فيه، والذي قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي أطلت لهم، ومنه الملي والملاوة من الدهر، ويقال لليل والنهار الملوان لطولهما، ويقال للخرق الواسع من الأرض ملي، قال الشاعر "ملي لا تخطاه

(8/373)


العيون رغيب" انتهى. والملي بفتح ثم كسر تم تشديد بغير همزة. قوله: "أشق أشد من المشقة" هو قول أبي عبيدة أيضا، ومراده أنه أفعل تفضيل. قوله: "معقب مغير" قال أبو عبيدة في قوله: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي لا راد لحكمه ولا مغير له عن الحق، وروى ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم في قوله: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي لا يتعقب أحد حكمه فيرده. قوله: "وقال مجاهد متجاورات طيبها وخبيثها السباخ" كذا للجميع، وسقط خبر طيبها وقد وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} قال: طيها عذبها، وخبيثها السباخ. وعند الطبري من وجه آخر عن مجاهد: القطع المتجاورات العذبة والسبخة والمالح والطيب ومن طريق أبي سنان عن ابن عباس مثله، ومن وجه آخر منقطع عن ابن عباس مثله وزاد: تنبت هذه وهذه إلى جنبها لا تنبت. ومن طريق أخرى متصلة عن ابن عباس قال: تكون هذه حلوة وهذه حامضة وتسقى بماء واحد وهن متجاورات. قوله: "صنوان النخلتان أو أكثر في أصل واحد، وغير صنوان وحدها تسقى بماء واحد كصالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد مثله، لكن قال: تسقى بماء واحد قال بماء السماء والباقي سواء. وروى الطبري من طريق سعيد بن جبير في قوله: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} مجتمع وغير مجتمع. وعن سعيد بن منصور عن البراء بن عازب قال: الصنوان أن يكون أصلها واحدا ورءوسها متفرقة، وغير الصنوان أن تكون النخلة منفردة ليس عندها شيء انتهى. وأصل الصنو المثل، والمراد به هنا فرع يجمعه وفرعا آخر أو أكثر أصل واحد، ومنه عم الرجل صنوا أبيه لأنهما يجمعهما أصل واحد. قوله: "السحاب الثقال الذي فيه الماء" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد مثله. قوله: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا" وصله الفريابي والطبري من طرق عن مجاهد أيضا، وقد تقدم قول غيره في أول السورة. قوله: "فسالت أودية بقدرها، تملأ بطن كل واد زيدا رابيا.
الزبد السيل، زبد مثله خبث الحديد والحلية" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد في قوله: {زَبَداً رَابِياً} قال الزبد السيل. وفي قوله: {زَبَدٌ مِثْلُهُ} قال خبث الحلية والحديد وأخرجه الطبري من وجهين عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} قال: بملئها {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} قال: الزبد السيل" ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله" قال: خبث الحديث والحلية {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} قال جمودا في الأرض {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} قال الماء، وهما مثلان للحق والباطل. وأخرجه من طريقين عن ابن عباس نحوه، ووجه المماثلة في قوله: {زَبَدٌ مِثْلُهُ} أن كلا من الزبدين ناشئ عن الأكدار. ومن طريق سعيد عن قتادة في قوله: {بِقَدَرِهَا} قال: الصغير بصغره والكبير بكبره. وفي قوله: {رَابِياً} أي عاليا. وفي قوله: {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} الذهب والفضة. وفي قوله: أو متاع الحديد والصفر الذي ينتفع به. والجفاء ما يتعلق بالشجر، وهي ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد يقول: كما اضمحل هذا الزبد فصار لا ينتفع به كذلك يضمحل الباطل عن أهله، وكما مكث هذا الماء في الأرض فأمرعت وأخرجت نباتها كذلك يبقى الحق لأهله. ونظيره بقاء خالص الذهب والفضة إذا دخل النار وذهب خبثه وبقي صفوه، كذلك يبقى الحق لأهله ويذهب الباطل.
" تنبيه " : وقع للأكثر "يملأ بطن واد" وفي رواية الأصيلي: "يملأ كل واحد" وهو أشبه، ويروي ماء بطن واد

(8/374)


1- باب {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} غِيضَ نُقِصَ

(8/374)


4697- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ اللَّه"
قوله: "باب قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} غيض نقص" قال أبو عبيدة في قوله: "وغيض الماء" أي ذهب وقل. وهذا تفسير سورة هود. وإنما ذكره هنا لتفسير قوله، تغيض الأرحام، فإنها من هذه المادة. وروى عبد بن حميد من طريق أبي بشر عن مجاهد في قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قال: إذا حاضت المرأة وهي حامل كان نقصانا من الولد، فإن زادت على تسعة أشهر كان تماما لما نقص من ولدها. ثم روى من طريق منصور عن الحسن قال: الغيض ما دون تسعة أشهر، والزيادة ما زادت عليها يعني في الوضع. ثم ذكر المصنف حديث ابن عمر في مفاتح الغيب وقد تقدم في سورة الأنعام، ويأتي له تفسير سورة لقمان ويشرح هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثني إبراهيم بن المنذر حدثنا معن عن مالك" قال أبو مسعود: تفرد به إبراهيم بن المنذر، وهو غرب عن مالك. قلت: قد أخرجه الدار قطني رواية عبد الله بن جعفر البرمكي عن معن، ورواه أيضا من طريق القعنبي عن مالك لكنه اختصره. قلت: وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن القاسم عن مالك قال الدار قطني: ورواه أحمد بن أبي طيبة عن مالك عن نافع عن ابن عمر فوهم فيه إسنادا ومتنا.

(8/375)


14- سورة إِبْرَاهِيمَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {هَادٍ} دَاعٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {صَدِيدٌ} قَيْحٌ وَدَمٌ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أَيَادِيَ اللَّهِ عِنْدَكُمْ وَأَيَّامَهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} رَغِبْتُمْ إِلَيْهِ فِيهِ {تَبْغُونَهَا عِوَجًا} يَلْتَمِسُونَ لَهَا عِوَجًا {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} أَعْلَمَكُمْ آذَنَكُمْ {رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} هَذَا مَثَلٌ كَفُّوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ {مَقَامِي} حَيْثُ يُقِيمُهُ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ {مِنْ وَرَائِهِ} قُدَّامَهُ جَهَنَّمُ {لَكُمْ تَبَعًا} وَاحِدُهَا تَابِعٌ مِثْلُ غَيَبٍ وَغَائِبٍ {بِمُصْرِخِكُمْ} اسْتَصْرَخَنِي اسْتَغَاثَنِي يَسْتَصْرِخُهُ مِنْ الصُّرَاخِ {وَلاَ خِلاَلَ} مَصْدَرُ خَالَلْتُهُ خِلاَلًا وَيَجُوزُ أَيْضًا جَمْعُ خُلَّةٍ وَخِلاَلٍ {اجْتُثَّتْ} اسْتُؤْصِلَتْ
قوله: "سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال ابن عباس: هاد داع" كذا في جميع النسخ، وهذه الكلمة إنما وقعت في السورة التي قبلها في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} واختلف أهل التأويل في تفسيرها بعد اتفاقهم على أن المراد بالمنذر محمد صلى الله عليه وسلم، فروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي داع، ومن طريق قتادة مثله،

(8/375)


ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: الهادي الله، وهذا بمعنى الذي قبله كأنه لحظ قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . ومن طريق أبي العالية قال: الهادي القائد. ومن طريق مجاهد وقتادة أيضا: الهادي نبي، وهذا أخص من الذي قبله. ويحمل القوم في الآية في هذه الأقوال على العموم. ومن طريق عكرمة وأبي الضحى ومجاهد أيضا قال: الهادي محمد، وهذا أخص من الجميع، والمراد بالقوم على هذا الخصوص أي هذه الأمة. والمستغرب ما أخرجه الطبري بإسناد حسن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما نزلت هذه الآية وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: أنا المنذر، وأومأ إلى علي وقال أنت الهادي بك يهتدي المهتدون بعدي" فإن ثبت هذا فالمراد بالقوم أخص من الذي قبله أي بني هاشم مثلا. وأخرج ابن أبي حاتم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وابن مردويه من طريق السدي عن عبد خير عن علي قال: الهادي رجل من بني هاشم. قال بعض رواته: هو علي. وكأنه أخذه من الحديث الذي قبله. وفي إسناد كل منهما بعض الشيعة، ولو كان ذلك ثابتا ما تخالفت رواته. قوله: "وقال مجاهد: صديد قيح ودم" سقط هذا لأبي ذر، وصله الفريابي بسنده إليه في قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} قال: قيح ودم. قوله: "وقال ابن عيينة {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أيادي الله عندكم وأيامه" وصله الطبري من طريق الحميدي عنه، وكذا رويناه في "تفسير ابن عيينة" رواية سعيد بن عبد الرحمن عنه. وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والنسائي، وكذا ذكره ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس عن أبي بن كعب قال: إن الله أوحى إلى موسى وذكرهم بأيام الله، قال: نعم الله. وأخرجه عبد الرزاق من حديث ابن عباس بإسناد صحيح فلم يقل عن أبي بن كعب. قوله: "وقال مجاهد من كل ما سألتموه رغبتم إليه فيه" وصله الفريابي في قوله: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} قال: رغبتم إليه فيه. قوله: "تبغونها عوجا تلتمسون لها عوجا" كذا وقع هنا للأكثر، ولأبي ذر قبل الباب الذي يليه وصنيعهم أولى لأن هذا من قول مجاهد فذكره مع غيره من تفاسيره أولى، وقد وصله عبد بن حميد من طريق ابن نجيح عن مجاهد في قوله: {وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} قال تلتمسون لها الزيغ، وذكر يعقوب بن السكيت أن العوج بكسر العين في الأرض والدين، وبفتحها في العود ونحوه مما كان منتصبا. قوله: "ولا خلال مصدر خاللته خلالا، ويجوز أيضا جمع خلة وخلال" كذا وقع فيه فأوهم أنه من تفسير مجاهد، وإنما هو من كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} أي لا مخالة خليل، قال وله معنى آخر جمع خلة مثل حلة والجمع خلال وقلة والجمع قلال. وروى الطبري من طريق قتادة قال: علم الله أن في الدنيا بيوعا وخلالا يتخالون بها في الدنيا، فمن كان يخالل الله فليدم عليه وإلا فسينقطع ذلك عنه، وهذا يوافق من جعل الخلال في الآية جمع خلة. قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} : أعلمكم آذنكم "كذا للأكثر، ولأبي ذر أعلمكم ربكم، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} إذ زائدة، وتأذن تفعل من آذن أي أعلم، وهو قول أكثر أهل اللغة أن تأذن من الإيذان وهو الإعلام، ومعنى تفعل عزم عزما جازما، ولهذا أجيب بما يجاب به القسم. ونقل أبو علي الفارسي أن بعض العرب يجعل أذن وتأذن بمعنى واحد. قلت: ومثله قولهم تعلم موضع أعلم وأوعد وتوعد وقيل إن إذ زائدة فإن المعنى اذكروا حين تأذن ربكم وفيه نظر. قوله: "أيديهم في أفواههم، هذا مثل كفوا عما أمروا به" قال أبو عبيدة في قوله: " {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} مجازه مجاز المثل ومعناه كقوله عما أمروا بقبوله من الحق ولم يؤمنوا به يقال رد يده في فمه إذا أمسك ولم يجب. وقد تعقبوا كلام أبي عبيدة فقيل: لم يسمع من

(8/376)


العرب رد يده في فيه إذا ترك الشيء الذي كان يريد أن يفعله، وقد روى عبد بن حميد من طريق أبي الأحوص عن عبد الله قال: عضوا على أصابعهم، وصححه الحاكم وإسناده صحيح، ويؤيده الآية الأخرى {إِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} . وقال الشاعر "يردون في فيه غيظ الحسود" أي يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وقيل المعنى رد الكفار أيدي الرسل في أفواههم بمعنى أنهم امتنعوا من قبول كلامهم، أو المراد بالأيدي النعم أي ردوا نعمة الرسل وهي نصائحهم عليهم لأنهم إذا كذبوها كأنهم ردوها من حيث جاءت. قوله: "مقامي حيث يقيمه الله بين يديه" قال أبو عبيدة في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} قال: حيث أقيمه بين يدي للحساب. قلت: وفيه قول آخر قال الفراء أيضا إنه مصدر لكن قال إنه مضاف للفاعل أي قيامي عليه بالحفظ. قوله: "من ورائه قدامه جهنم" قال أبو عبيدة في قوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} مجازه قدامه وأمامه يقال: الموت من ورائك أي قدامك وهو اسم لكل ما توارى عن الشخص، نقله ثعلب، ومنه قول الشاعر:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحتي عليها الأصابع
وقول النابغة "وليس وراء الله للمرء مذهب" أي بعد الله ونقل قطرب وغيره أنه من الأضداد، وأنكره إبراهيم ابن عرفة نفطويه وقال: لا يقع وراء بمعنى أمام إلا في زمان أو مكان. قوله: "لكم تبعا واحدها تابع مثل غيب وغائب" هو قول أبي عبيدة أيضا، وغيب بفتح الغين المعجمة والتحتانية بعدها موحدة. قوله: "بمصرخكم، استصرخني استغاثني، يستصرخه من الصراخ" سقط هذا لأبي ذر، قال أبو عبيدة {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي ما أنا بمغيثهم، ويقال استصرخني فأصرخته أي استغاثني فأغثته. قوله: "اجتثت استؤصلت" هو قول أبي عبيدة أيضا أي قطعت جثثها بكمالها. وأخرجه الطبري من طريق سعيد عن قتادة مثله، ومن طريق العوفي عن ابن عباس: ضرب الله مثل الشجرة الخبيثة بمثل الكافر، يقول: الكافر لا يقبل عمله ولا يصعد، فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء ومن طريق الضحاك قال في قوله ما لها من قرار أي ما لها أصل ولا فرع ولا ثمرة ولا منفعة، كذلك الكافر ليس يعمل خيرا ولا يقول خيرا، ولم يجعل الله فيه بركة ولا منفعة

(8/377)


باب {كشجرة كجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء}
...
1- باب {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ}
4698- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ أَوْ كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ لاَ يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا وَلاَ وَلاَ وَلاَ تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ" قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لاَ يَتَكَلَّمَانِ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هِيَ النَّخْلَةُ" فَلَمَّا قُمْنَا قُلْتُ لِعُمَرَ يَا أَبَتَاهُ وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكَلَّمَ قَالَ لَمْ أَرَكُمْ تَكَلَّمُونَ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئًا قَالَ عُمَرُ لاَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا"
قوله: "باب قوله {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى {حِينٍ} وسقط عندهم

(8/377)


"باب قوله:"ثم ذكر حديث ابن عمر. قوله: "تشبه أو كالرجل المسلم" شك من أحد رواته، وأخرجه الإسماعيلي من الطريق التي أخرجها منها البخاري بلفظ: "تشبه الرجل المسلم:"ولم يشك، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي في كتاب العلم، وقد تقدم هناك البيان الواضح بأن المراد بالشجرة في هذه الآية النخلة، وفيه رد على من زعم أن المراد بها شجرة الجوز الهندي. وقد أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف في قوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قال: هي شجرة جوز الهند لا تتعطل من ثمرة تحمل كل شهر، ومعنى قوله: "طيبة" أي لذيذة الثمر أو حسنة الشكل أو نافعة، فتكون طيبة بما يئول إليه نفعها. وقوله: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي لا ينقطع، وقوله: {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أي هي نهاية في الكمال، لأنها إذا كانت مرتفعة بعدت عن عفونات الأرض. وللحاكم من حديث أنس "الشجرة الطيبة النخلة والشجرة الخبيثة الحنظلة" .

(8/378)


2- بَاب {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}
4699- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} "
قوله بَاب {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} ذكر فيه حديث البراء مختصرا، وقد تقدم في الجنائز أتم سياقا واستوفيت شرحه في ذلك الباب.

(8/378)


3- باب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} أَلَمْ تَرَ {أَلَمْ تَعْلَمْ}
كَقَوْلِهِ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} {الْبَوَارُ} الْهَلاَكُ بَارَ يَبُورُ {قَوْمًا بُورًا} هَالِكِينَ
4700- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء سمع ابن عباس {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} قال هم كفار أهل مكة"
قوله: "باب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} : ألم تر ألم تعلم، كقوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} زاد غير أبي ذر "ألم تر كيف" وهذا قول أبي عبيدة بلفظه. قوله: "البوار الهلاك، بار يبور بورا، قوما بورا: هالكين" هو كلام أبي عبيدة. ثم ذكر حديث ابن عباس فيمن نزلت فيه الآية مختصرا، وقد تقدم مستوفي مع شرحه في غزوة بدر. وروى الطبري من طريق أخرى عن ابن عباس أنه سأل عمر عن هذه الآية فقال: من هم قال هم الأفجران من بني مخزوم وبني أمية أخوالي وأعمامك، فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر، وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين. ومن طريق علي قال: هم الأفجران بنو أمية وبنو المغيرة، فأما بنو المغيرة فقطع الله دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. وهو عند عبد الرزاق أيضا والنسائي وصححه الحاكم. قلت: المراد بعضهم لا جميع بني أمية وبني بني مخزوم لم يستأصلوا يوم بدر، بل المراد بعضهم كأبي جهل من بني مخزوم وأبي سفيان من بني أمية

(8/378)


15- سورة الْحِجْرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ الْحَقُّ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} عَلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَعَمْرُكَ} لَعَيْشُكَ {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أَنْكَرَهُمْ لُوطٌ وَقَالَ غَيْرُهُ {كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أَجَلٌ {لَوْ مَا} تَأْتِينَا هَلاَ تَأْتِينَا {شِيَعٌ} أُمَمٌ وَلِلأَوْلِيَاءِ أَيْضًا شِيَعٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {يُهْرَعُونَ} مُسْرِعِينَ {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} لِلنَّاظِرِينَ {سُكِّرَتْ} غُشِّيَتْ {بُرُوجًا} مَنَازِلَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ {لَوَاقِحَ} مَلاَقِحَ مُلْقَحَةً {حَمَإٍ} جَمَاعَةُ حَمْأَةٍ وَهُوَ الطِّينُ الْمُتَغَيِّرُ وَالْمَسْنُونُ الْمَصْبُوبُ {تَوْجَلْ} تَخَفْ {دَابِرَ} آخِرَ {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} الإِمَامُ كُلُّ مَا ائْتَمَمْتَ وَاهْتَدَيْتَ بِهِ الصَّيْحَةُ الْهَلَكَة"
قوله: "تفسير سورة الحجر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر عن المستملي، وله عن غيره بدون لفظ: "تفسير" وسقطت البسملة للباقين. قوله: "وقال مجاهد صراط على مستقيم الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه" وصله الطبري من طرق عنه مثله وزاد: "لا يعرض على شيء" ومن طريق قتادة ومحمد بن سيرين وغيرهما أنهم قرءوا على بالتنوين على أنه صفة للصراط أي رفيع. قلت: وهي قراءة يعقوب. قوله: "لبإمام مبين على الطريق" وروى الطبري من طرق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} قال: بطريق معلم. ومن رواية سعيد عن قتادة قال. طريق واضح، وسيأتي له تفسير آخر.
" تنبيه " : سقط هذا والذي قبله لأبي ذر إلا عن المستملي. قوله: "وقال ابن عباس: لعمرك لعيشك" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: "قوم منكرون، أنكرهم لوط" وصله ابن أبي حاتم أيضا من الوجه المذكور.
" تنبيه " : سقط هذا والذي قبله لأبي ذر قوله: "كتاب معلوم أجل" كذا لأبي ذر فأوهم أنه من تفسير مجاهد، ولغيره: وقال غيره كتاب معلوم أجل، وهو تفسير أبي عبيدة قال في قوله: {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أي أجل ومدة، معلوم أي مؤقت. قوله: "لوما هلا تأتينا" قال أبو عبيدة في قوله: "لوما تأتينا" مجازها هلا تأتينا. قوله: "شيع أمم والأولياء أيضا شيع" قال أبو عبيدة في قوله: {شِيَعِ الأَوَّلِينَ} أي أمم الأولين واحدتها شيعة، والأولياء أيضا شيع أي يقال لهم شيع. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} يقول: أمم الأولين. قال الطبري. وقال لأولياء الرجل أيضا شيعة. قوله: "وقال ابن عباس يهرعون مسرعين" كذا أوردها هنا، وليست من هذه السورة وإنما هي في سورة هود، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: "للمتوسمين للناظرين" تقدم شرحه في قصة لوط من أحاديث الأنبياء.
" تنبيه " : سقط هذا والذي قبله لأبي ذر أيضا. قوله: "سكرت غشيت" كذا لأبي ذر فأوهم أنه من تفسير مجاهد، وغيره يوهم أنه من تفسير ابن عباس، لكنه قول أبي عبيدة، وهو بمهملة ثم معجمة1 وذكر الطبري عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: هو مأخوذ من سكر الشراب، قال: ومعناه غشني أبصارنا
ـــــــ
(1) بمهملة أي في سكرت، ثم معجمة أي في غشيت. ا هـ من هامش الأصل

(8/379)


مثل السكر. ومن طريق مجاهد والضحاك قوله سكرت أبصارنا قال سدت. ومن طريق قتادة قال: سحرت. ومن وجه آخر عن قتادة قال: سكرت بالتشديد سددت وبالتخفيف سحرت انتهى. وهما قراءتان مشهورتان، فقرأها بالتشديد الجمهور، وابن كثير بالتخفيف، وعن الزهري بالتخفيف، لكن بناها للفاعل. قوله: "لعمرك لعيشك" كذا ثبت هنا لبعضهم، وسيأتي لهم في الأيمان والنذور مع شرحه. قوله: "وإنا له لحافظون قال مجاهد عندنا" وصله ابن المنذر، ومن طريق ابن أبي نجيح عنه وهو في بعض نسخ الصحيح. قوله: "بروجا منازل للشمس والقمر، لواقح ملافح، حمأ جماعة حماة وهو الطين المتغير، والمسنون المصبوب" كذا ثبت لغير أبي ذر وسقط له، وقد تقدم مع شرحه في بدء الخلق. قوله: "لا توجل لا تخف، دابر آخر" تقدم شرح الأول في قصة إبراهيم وشرح الثاني في قصة لوط من أحاديث الأنبياء. وسقط لأبي ذر هنا. قوله: "لبإمام مبين، الإمام ما ائتممت به واهتديت" هو تفسير أبي عبيدة. قوله: "الصيحة الهلكة" هو تفسير أبي عبيدة، وقد تقدمت الإشارة إليه في قصة لوط من أحاديث الأنبياء

(8/380)


1- بَاب {إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}
4701- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ قَالَ عَلِيٌّ وَقَالَ غَيْرُهُ صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ آخَرَ - وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى نَصَبَهَا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ- فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ الْمُسْتَمِعَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ فَيُحْرِقَهُ وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى يَرْمِيَ بِهَا إِلَى الَّذِي يَلِيهِ إِلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ حَتَّى يُلْقُوهَا إِلَى الأَرْضِ -وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الأَرْضِ- فَتُلْقَى عَلَى فَمْ السَّاحِرِ فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ فَيُصَدَّقُ فَيَقُولُونَ أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا لِلْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنْ السَّمَاءِ" حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ وَزَادَ وَالْكَاهِنِ و حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ فَقَالَ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ وَقَالَ عَلَى فَمْ السَّاحِرِ قُلْتُ لِسُفْيَانَ آنْتَ سَمِعْتَ عَمْرًا قَالَ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ لِسُفْيَانَ إِنَّ إِنْسَانًا رَوَى عَنْكَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَرْفَعُهُ أَنَّهُ قَرَأَ فُرِّغَ قَالَ سُفْيَانُ هَكَذَا قَرَأَ عَمْرٌو فَلاَ أَدْرِي سَمِعَهُ هَكَذَا أَمْ لاَ قَالَ سُفْيَانُ وَهِيَ قِرَاءَتُنَا"
[الحدبث 4701- طرفه في: 4800، 7481]
قوله بَاب {إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} ذكر فيه حديث أبي هريرة في قصة مسترقي السمع،

(8/380)


2- باب {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ}
4702- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأَصْحَابِ الْحِجْرِ : "لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُم"
قوله: "باب قوله {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} ذكر فيه حديث ابن عمر في النهي عن الدخول على المعذبين، وقوله: "إلا أن تكونوا باكين" ذكر ابن التين أنه عند الشيخ أبي الحسن بائين بهمزة بدل الكاف، قال: ولا وجه له

(8/381)


3- باب {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}
4703- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُصَلِّي فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي فَقُلْتُ كُنْتُ أُصَلِّي فَقَالَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ثُمَّ قَالَ أَلاَ أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَذَكَّرْتُهُ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُه"
4704- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيم"
قوله باب قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ثم ساقه من حديث أبي هريرة في قصة أبي بن كعب كما تقدم في تفسير الفاتحة. ثم ذكر حديث أبي هريرة مختصرا بلفظ أم القرآن هي السبع المثاني في رواية الترمذي من هذا الوجه الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وقد تقدم في تفسير الفاتحة من وجه آخر عن أبي هريرة ورفعه أتم من هذا وللطبري من وجه آخر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رفعه الركعة التي لا يقرأ فيها كالخداج قال فقلت لأبي هريرة فإن لم يكن معي إلا أم القرآن قال هي حسبك هي أم الكتاب وهي أم القرآن وهي السبع المثاني قال الخطابي وفي الحديث رد على بن سيرين حيث قال إن الفاتحة لا يقال لها أم القرآن وإنما يقال لها فاتحة الكتاب ويقول أم الكتاب هو اللوح المحفوظ قال وأم الشيء أصله وسميت الفاتحة أم القرآن لأنها أصل القرآن وقيل لأنها متقدمة كأنها تؤمه قوله "هي السبع

(8/381)


المثاني والقرآن العظيم" هو معطوف على قوله أم القرآن وهو مبتدأ وخبره محذوف أو خبر مبتدأ محذوف تقديره والقرآن العظيم ما عداها، وليس هو معطوفا على قوله: "السبع المثاني" لأن الفاتحة ليست هي القرآن العظيم، وإنما جاز إطلاق القرآن عليها لأنها من القرآن لكنها ليست هي القرآن كله. ثم وجدت في تفسير ابن أبي حاتم من طريق أخرى عن أبي هريرة مثله لكن بلفظ: "والقرآن العظيم الذي أعطيتموه أي هو الذي أعطيتموه" فيكون هذا هو الخبر. وقد روى الطبري بإسنادين جيدين عن عمر ثم علي قال: "السبع المثاني فاتحة الكتاب" زاد عن عمر "تثني في كل ركعة" وبإسناد منقطع عن ابن مسعود مثله، وبإسناد حسن عن ابن عباس أنه قرأ الفاتحة ثم قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} قال: هي فاتحة الكتاب، وبسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة، ومن طريق جماعة من التابعين: السبع المثاني هي فاتحة الكتاب. ومن طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب. قلت للربيع: إنهم يقولون إنها السبع الطوال، قال: لقد أنزلت هذه الآية وما نزل من الطوال شيء. وهذا الذي أشار إليه هو قول آخر مشهور في السبع الطوال، وقد أسنده النسائي والطبري والحاكم عن ابن عباس أيضا بإسناد قوي، وفي لفظ للطبري: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، قال الراوي: ذكر السابعة فنسيتها. وفي رواية صحيحة عند ابن أبي حاتم عن مجاهد وسعيد ابن جبير أنها يونس. وعند الحاكم أنها الكهف، وزاد: قيل له ما المثاني؟ قال: تثني فيهن القصص. ومثله عن سعيد بن جبير عن سعيد بن منصور. وروى الطبري أيضا من طريق خضيف عن زياد بن أبي مريم قال في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} قال مروان وبشر وأنذر واضرب الأمثال واعدد النعم والأنباء. ورجح الطبري القول الأول لصحة الخبر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. حديث أبي هريرة في قصة أبي بن كعب كما تقدم في تفسير الفاتحة.

(8/382)


باب قوله {الذين جعلوا القرآن عضين}
...
4- باب {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}{الْمُقْتَسِمِينَ} الَّذِينَ حَلَفُوا وَمِنْهُ {لاَ أُقْسِمُ} أَيْ أُقْسِمُ وَتُقْرَأُ لاَقْسِمُ و {قَاسَمَهُمَا} حَلَفَ لَهُمَا وَلَمْ يَحْلِفَا لَهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ تَقَاسَمُوا تَحَالَفُوا.
4705- حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ قَالَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ جَزَّءُوهُ أَجْزَاءً فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِه"
4706- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قَالَ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى"
قوله: "باب {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} قيل إن {عِضِينَ} جمع عضو، فروى الطبري من طريق الضحاك قال في قوله: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أي جعلوه أعضاء كأعضاء الجزور، وقيل هي جمع عضة وأصلها عضهة فحذفت الهاء كما حذفت من الشفة وأصلها شفهة وجمعت بعد الحذف على عضين مثل برة وبرين وكرة كرين، وروى

(8/382)


الطبري من طريق قتادة قال: عضين عضهوه وبهتوه. ومن طريق عكرمة قال: العضه السحر بلسان قريش، تقول للساحرة العاضهة، أخرجه ابن أبي حاتم. وروى ابن أبي حاتم أيضا من طريق عطاء مثل قول الضحاك ولفظه: عضوا القرآن أعضاء، فقال بعضهم ساحر وقال آخر مجنون وقال آخر كاهن، فذلك العضين. ومن طريق مجاهد مثله وزاد: وقالوا أساطير الأولين. ومن طريق السدي قال: قسموا القرآن واستهزءوا به فقالوا: ذكر محمد البعوض والذباب والنمل والعنكبوت، فقال بعضهم أنا صاحب البعوض وقال آخر أنا صاحب النمل وقال آخر أنا صاحب العنكبوت، وكان المستهزئون خمسة: الأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والعاصي بن وائل والحارث بن قيس والوليد بن المغيرة. ومن طريق عكرمة وغيره في عد المستهزئين مثله، ومن طريق الربيع بن أنس مثله وزاد بيان كيفية هلاكهم في ليلة واحدة. قوله: "المقتسمين الذين حلفوا، ومنه لا أقسم أي أقسم، وتقرأ لأقسم، وقاسها حلف لهما ولم يحلفا له. وقال مجاهد: تقاسموا تحالفوا" قلت هكذا جعل المقتسمين من القسم بمعنى الحلف والمعروف أنه من القسمة وبه جزم الطبري وغيره، وسياق الكلام يدل عليه، وقوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا} هو صفة للمقتسمين، وقد ذكرنا أن المراد أنهم قسموه وفرقوه. وقال أبو عبيدة: وقاسهما، حلف لهما. وقال أيضا أبو عبيدة الذي يكثر المصنف نقل كلامه: من المقتسمين الذين اقتسموا وفرقوا، قال: وقوله عضين أي فرقوه عضوه أعضاء. قال رؤبة "وليس دين الله بالمعضي" أي بالمفرق، وأما قوله: "ومنه لا أقسم إلخ" فليس كذلك، أي فليس هو من الاقتسام بل هو من القسم، وإنما قال ذلك بناء على ما اختاره من أن المقتسمين من القسم. وقال أبو عبيدة في قوله: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} : مجازها أقسم بيوم القيامة. واختلف المعربون في "لا" فقيل زائدة وإلى هذا يشير كلام أبي عبيدة، وتعقب بأنها لا تزاد إلا في أثناء الكلام، وأجيب بأن القرآن كله كالكلام الواحد، وقيل هو جواب شيء محذوف، وقيل نفي على بابها وجوابها محذوف والمعنى لا أقسم بكذا بل بكذا، وأما قراءة لأقسم بغير ألف فهي رواية عن ابن كثير، واختلف في اللام فقيل هي لام القسم وقيل لام التأكيد، واتفقوا على إثبات الألف في التي بعدها {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ} وعلى إثباتها في {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} اتباعا لرسم المصحف في ذلك. وأما قول مجاهد تقاسموا تحالفوا فهو كما قال، وقد أخرجه الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه في قوله: {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} قال تحالفوا على هلاكه فلم يصلوا إليه حتى هلكوا جميعا، وهذا أيضا لا يدخل في المقتسمين إلا على رأي زيد بن أسلم، فإن الطبري روى عنه أن المراد بقوله: "المقتسمين" قوم صالح الذين تقاسموا على هلاكه فلعل المصنف اعتمد على ذلك. قوله: "عن ابن عباس الذين جعلوا القرآن عضين" يعني في تفسير هذه الكلمة، وقد ذكرت ما قيل في أصل اشتقاقها أول الباب. قوله: "هم أهل الكتاب" فسره في الرواية الثانية فقال: "اليهود والنصارى" وقوله: "جزءوه أجزاء" فسره في الرواية الثانية فقال: "آمنوا ببعض وكفروا ببعض" قوله في الرواية الثانية "عن أبي ظبيان" بمعجمة ثم موحدة هو حصين بن جندب، وليس له في البخاري عن ابن عباس سوى هذا الحديث

(8/383)


5- باب {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قَالَ سَالِمٌ الْيَقِينُ الْمَوْتُ}
قوله: "باب قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قَالَ سَالِمٌ الْيَقِينُ الْمَوْتُ} قال سالم: اليقين الموت" وصله الفريابي وعبد بن حميد وغيرهما من طريق طارق بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجعد بهذا، وأخرجه الطبري من طرق عن مجاهد وقتادة

(8/383)


وغيرهما مثله، واستشهد الطبري لذلك بحديث أم العلاء في قصة عثمان بن مظعون "أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير" وقد تقدم في الجنائز مشروحا، وقد اعترض بعض الشراح على البخاري لكونه لم يخرج هنا هذا الحديث وقال: كان ذكره أليق من هذا؛ قال ولأن اليقين ليس من أسماء الموت.
قلت: لا يلزم البخاري ذلك، وقد أخرج النسائي حديث بعجة عن أبي هريرة رفعه: "خير ما عاش الناس به رجل ممسك بعنان فرسه" الحديث، وفي آخره: " حتى يأتيه اليقين ليس هو من الناس إلا في خير" فهذا شاهد جيد لقول سالم، ومنه قوله تعالى: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} وإطلاق اليقين على الموت مجاز، لأن الموت لا يشك فيه.

(8/384)


16- سورة النَّحْلِ
{رُوحُ الْقُدُسِ} جِبْرِيلُ {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} {فِي ضَيْقٍ} يُقَالُ أَمْرٌ ضَيْقٌ وَضَيِّقٌ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ { تَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} تَتَهَيَّأُ {سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا} لاَ يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فِي تَقَلُّبِهِمْ} اخْتِلاَفِهِمْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَمِيدُ} تَكَفَّأُ {مُفْرَطُونَ} مَنْسِيُّونَ وَقَالَ غَيْرُهُ { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} هَذَا مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ وَذَلِكَ أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَمَعْنَاهَا الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {تُسِيمُونَ} تَرْعَوْنَ {شَاكِلَتِهِ} نَاحِيَتِهِ {قَصْدُ السَّبِيلِ} الْبَيَانُ الدِّفْءُ مَا اسْتَدْفَأْتَ {تُرِيحُونَ} بِالْعَشِيِّ {وَتَسْرَحُونَ} بِالْغَدَاةِ {بِشِقِّ} يَعْنِي الْمَشَقَّةَ {عَلَى تَخَوُّفٍ} تَنَقُّصٍ {الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} وَهِيَ تُؤَنَّثُ وَتُذَكَّرُ وَكَذَلِكَ النَّعَمُ {الأَنْعَامُ} جَمَاعَةُ النَّعَمِ أَكْنَانٌ وَاحِدُهَا كِنٌّ مِثْلُ حِمْلٍ وَأَحْمَالٍ {سَرَابِيلَ} قُمُصٌ {تَقِيكُمْ الْحَرَّ} وَأَمَّا {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} فَإِنَّهَا الدُّرُوعُ {دَخَلًا بَيْنَكُمْ} كُلُّ شَيْءٍ لَمْ يَصِحَّ فَهُوَ دَخَلٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {حَفَدَةً} مَنْ وَلَدَ الرَّجُلُ {السَّكَرُ} مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرَتِهَا وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ {أَنْكَاثًا} هِيَ خَرْقَاءُ كَانَتْ إِذَا أَبْرَمَتْ غَزْلَهَا نَقَضَتْهُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الأُمَّةُ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ
قوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - سورة النحل" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "روح القدس جبريل، نزل به الروح الأمين" أما قوله روح القدس جبريل فأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد رجاله ثقات عن عبد الله بن مسعود، وروى الطبري من طريق محمد بن كعب القرظي قال: روح القدس جبريل، وكذا جزم به أبو عبيدة وغير واحد. وأما قوله: "نزل به الروح الأمين" فذكره استشهادا لصحة هذا التأويل، فإن المراد به جبريل اتفاقا، وكأنه أشار إلى رد ما رواه الضحاك عن ابن عباس قال: روح القدس الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى، أخرجه ابن أبي حاتم وإسناده ضعيف. قوله: "وقال ابن عباس: في تقلبهم في اختلافهم" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه مثله، ومن طريق سعيد عن قتادة "في تقلبهم" يقول في أسفارهم. قوله: "وقال مجاهد: تميد تكفا" هو بالكاف وتشديد الفاء مهموز، وقيل بضم أوله وسكون الكاف. وقد وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} قال: تكفأ بكم، ومعنى تكفأ تقلب. وروى

(8/384)


الطبري من حديث علي بإسناد حسن موقوفا قال: لما خلق الله الأرض قمصت، قال فأرسى الله فيها الجبال، وهو عند أحمد والترمذي من حديث أنس مرفوع. قوله: "مفرطون منسيون" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} قال: منسيون، ومن طريق سعيد بن جبير قال: مفرطون أي متروكون في النار منسيون فيها. ومن طريق سعيد عن قتادة قال: معجلون. قال الطبري: ذهب قتادة إلى أنه من قولهم أفرطنا فلانا إذا قدموه فهو مفرط ومنه "أنا فرطكم على الحوض" قلت وهذا كله على قراءة الجمهور بتخفيف الراء وفتحها وقرأها نافع بكسرها وهو من الإفراط، وقرأها أبو جعفر بن القعقاع بفتح الفاء وتشديد الراء مكسورة أي مقصرون في أداء الواجب مبالغون في الإساءة. قوله: "في ضيق يقال أمر ضيق وأمر ضيق مثل هين وهين ولين ولين وميت وميت" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ} بفتح أوله وتخفيف ضيق كميت وهين ولين فإذا خففتها قلت ميت وهين ولين فإذا كسرت أوله فهو مصدر ضيق انتهى. وقرأ ابن كثير هنا وفي النمل بالكسر والباقون بالفتح، فقيل على لغتين، وقيل المفتوح مخفف من ضيق أي في أمر ضيق. واعترضه الفارسي بأن الصفة غير خاصة بالموصوف فلا يدعى الحذف. قوله: "قال ابن عباس: تتقيأ ظلاله تتهيا" كذا فيه والصواب تتميل، وقد تقدم بيانه في كتاب الصلاة. قوله: "سبل ربك ذللا لا يتوعر عليها مكان سلكته" رواه الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله، ويتوعر بالعين المهملة، وذللا حال في السبل أي ذللها الله لها، وهو جمع ذلول قال تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً} ومن طريق قتادة من قوله تعالى: {ذُلُلاً} أي مطيعة، وعلى هذا فقوله ذللا حال من فاعل اسلكي، وانتصاب سبل على الظرفية أو على أنه مفعول به. قوله: "القانت المطيع" سيأتي في آخر السورة، قوله: "وقال غيره {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} هذا مقدم ومؤخر، وذلك أن الاستعاذة قبل القراءة" المراد بالغير أبو عبيدة، فإن هذا كلامه بعينه، وقرره غيره فقال إذا وصلة بين الكلامين، والتقدير فإذا أخذت في القراءة فاستعذ، وقيل هو على أصله لكن فيه إضمار، أي إذا أردت القراءة لأن الفعل يوجد عند القصد من غير فاصل، وقد أخذ بظاهر الآية ابن سيرين، ونقل عن أبي هريرة وعن مالك وهو مذهب حمزة الزيات فكانوا يستعيذون بعد القراءة، وبه قال داود الظاهري. قوله: "ومعناها" أي معنى الاستعاذة "الاعتصام بالله" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "وقال ابن عباس تسيمون ترعون" روى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} قال: ترعون فيه أنعامكم، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: تسيمون أي ترعون، ومن طريق عكرمة مولى ابن عباس مثله. وقال أبو عبيدة، أسمت الإبل رعيتها، وسامت هي رعت. قوله: "شاكلته ناحيته" كذا وقع هنا وإنما هو في السورة التي تليها، وقد أعاده فيها. ووقع في رواية أبي ذر عن الحموي "نيته" بدل ناحيته وسيأتي الكلام عليها هناك. قوله: "قصد السبيل البيان" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن أبي عباس في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} قال: البيان. ومن طريق العوفي عن ابن عباس مثله وزاد: البيان بيان الضلالة والهدى. قوله: "الدفء ما استدفأت به" قال أبو عبيدة: الدفء ما استدفأت به من أوبارها ومنافع ما سوى ذلك، وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} قال: الثياب. ومن طريق مجاهد قال: لباس ينسج. ومن طريق قتادة مثله. قوله: "تخوف تنقص" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في

(8/385)


قوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} قال: على تنقص. وروى بإسناد فيه مجهول عن عمر أنه سأل عن ذلك فلم يجب. فقال عمر: ما رأى إلا أنه على ما ينتقصون من معاصي الله، قال فخرج رجل فلقي أعرابيا فقال: ما فعل فلان؟ قال تخوفته - أي تنقصته - فرجع فأخبر عمر، فأعجبه" وفي شعر أبي كثير الهذلي ما يشهد له. وروى ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس {عَلَى تَخَوُّفٍ} قال: على تنقص من أعمالهم، وقيل التخوف تفعل من الخوف. قوله: "تريحون بالعشي وتسرحون بالغداة" قال أبو عبيدة في قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ} أي بالعشي، {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي بالغداة. قوله: "الأنعام لعبرة، هي تؤنث وتذكر، وكذلك النعم الأنعام جماعة النعم" قال أبو عبيدة في قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} : فذكر وأنث، فقيل الأنعام تذكر وتؤنث، وقيل المعنى على النعم فهي تذكر وتؤنث، والعرب تظهر الشيء ثم تخبر عنه بما هو منه بسبب وإن لم يظهره كقول الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة ... وللسبع أولى من ثلاث وأطيب
أي ثلاثة أحياء، ثم قال: "من ثلاث" أي قبائل انتهى. وأنكر الفراء تأنيث النعم وقال: إنما يقال: هذا نعم، ويجمع على نعمان بضم أوله مثل حمل وحملان. قوله: "أكنانا واحدها كن، مثل حمل وأحمال" هو تفسير أبي عبيدة، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: {أَكْنَاناً} قال: غيرانا من الجبال يسكن فيها. قوله: "بشق يعني المشقة" قال أبو عبيدة في قوله: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ} أي بمشقة {الأَنْفُسِ} . وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ} قال: المشقة عليكم، ومن طريق سعيد عن قتادة {إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ} إلا بجهد الأنفس. "تنبيه" قرأ الجمهور بكسر الشين من شق، وقرأها أبو جعفر بن القعقاع بفتحها، قال أبو عبيدة: هما بمعنى، وأنشد.
وذو إبل تسعى ويحبسها له ... أخو نصب من شقها وذءوب
قال الأثرم صاحب أبي عبيدة: سمعته بالكسر والفتح. وقال الفراء: معناهما مختلف، فبالكسر معناه ذابت حتى صارت على نصف ما كانت وبالفتح المشقة انتهى. وكلام أهل التفسير يساعد الأول. قوله: "سرابيل قمص تقيكم الحر، وأما سرابيل تقيكم بأسكم فإنها الدروع" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي قمصا {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} أي دروعا. وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} قال القطن والكتان {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} قال: دروع من حديد. قوله: "دخلا بينكم، كل شيء لم يصح فهو دخل" هو قول أبي عبيدة أيضا، وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة قال: "دخلا" خيانة، وقيل الدخل الداخل في الشيء ليس منه. قوله: "وقال ابن عباس: حفدة من ولد الرجل" وصله الطبري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} قال: الولد وولد الولد، وإسناده صحيح. وفيه عن ابن عباس قول آخر أخرجه من طريق العوفي عنه قال: هم بنو امرأة الرجل. وفيه عنه قول ثالث أخرجه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الحفدة والأصهار. ومن طريق عكرمة عن ابن عباس قال: الأختان. وأخرج هذا الأخير عن ابن مسعود بإسناد صحيح، ومن طريق أبي الضحى وإبراهيم وسعيد بن جبير وغيرهم مثله، وصحح الحاكم حديث

(8/386)


ابن مسعود. وفيه قول رابع عن ابن عباس أخرجه الطبري من طريق أبي حمزة عنه قال: من أعانك فقد حفدك. ومن طريق عكرمة قال: الحفدة الخدام. ومن طريق الحسن قال: الحفدة البنون وبنو البنين، ومن أعانك من أهل أو خادم فقد حفدك. وهذا أجمع الأقوال، وبه تجتمع، وأشار إلى ذلك الطبري. وأصل الحفد مداركة الخطو والإسراع في المشي، فأطلق على من يسعى في خدمة الشخص ذلك. قوله: "السكر ما حرم من ثمرتها، والرزق الحسن ما أحل" وصله الطبري بأسانيد من طريق عمرو بن سفيان عن ابن عباس مثله وإسناده صحيح، وهو عند أبي داود في "الناسخ" وصححه الحاكم، ومن طريق سعيد بن جبير عنه قال: الرزق الحسن الحلال، والسكر الحرام، ومن طريق سعيد بن جبير ومجاهد مثله وزاد أن ذلك كان قبل تحريم الخمر، وهو كذلك لأن سورة النحل مكية. ومن طريق قتادة: السكر خمر الأعاجم. ومن طريق الشعبي وقيل له في قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} أهو هذا الذي تصنع النبط؟ قال لا، هذا خمر، وإنما السكر نقيع الزبيب، والرزق الحسن التمر والعنب. واختار الطبري هذا القول وانتصر له. قوله: "وقال ابن عيينة عن صدقة {أَنْكَاثاً} هي خرقاء كانت إذا أبرمت غزلها نقضته" وصله ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن عمر العدني، والطبري من طريق الحميدي كلاهما عن ابن عيينة عن صدقة عن السدي قال: كانت بمكة امرأة تسمى خرقاء، فذكر مثله. وفي "تفسير مقاتل" أن اسمها بطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وعند البلاذري أنها والدة أسد" بن عبد العزى بن قصي، وأنها بنت سعد بن تميم بن مرة. وفي "غرر التبيان" أنها كانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى نصف النهار ثم تأمرهن بنقض ذلك، هذا دأبها لا تكف عن الغزل ولا تبقي ما غزلت. وروى الطبري من طريق ابن جريج عن عبد الله بن كثير مثل رواية صدقة المذكور، ومن طريق سعيد عن قتادة قال: هو مثل ضربه الله تعالى لمن نكث عهده. وروى ابن مردويه بإسناد ضعيف عن ابن عباس أنها نزلت في أم زفر الآتي ذكرها في كتاب الطب، والله أعلم. وصدقة هذا لم أر من ذكره في رجال البخاري، وقد أقدم الكرماني فقال: صدقة هذا هو ابن الفضل المروزي شيخ البخاري، وهو يروي عن سفيان بن عيينة، وهنا روى عنه سفيان، ولا سلف له فيما ادعاه من ذلك، ويكفي في الرد عليه ما أخرجناه من تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم من رواية صدقة هذا عن السدي، فإن صدقة بن الفضل المروزي ما أدرك السدي ولا أصحاب السدي، وكنت أظن أن صدقة هذا هو ابن أبي عمران قاضي الأهواز لأن لابن عيينة عنه رواية، إلى أن رأيت في "تاريخ البخاري" صدقة أبو الهذيل، روى عن السدي قوله روى عنه ابن عيينة، وكذا ذكره ابن حبان في "الثقات" من غير زيادة، وكذا ابن أبي حاتم عن أبيه لكن قال: صدقة بن عبد الله بن كثير القارئ صاحب مجاهد، فظهر أنه غير ابن أبي عمران، ووضح أنه من رجال البخاري تعليقا، فيستدرك على من صنف في رجاله فإن الجميع أغفلوه، والله أعلم. قوله: "وقال ابن مسعود: الأمة معلم الخير؛ والقانت المطيع" وصله الفريابي وعبد الرزاق وأبو عبيد الله في "المواعظ" والحاكم كلهم من طريق الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: "قرئت عنده هذه الآية {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} فقال ابن مسعود: إن معاذا كان أمة قانتا لله، فسئل عن ذلك فقال: هل تدرون ما الأمة؟ الأمة الذي يعلم الناس الخير، والقانت الذي يطيع الله ورسوله" .

(8/387)


1- باب {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}
4707- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الأَعْوَرُ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَنَسِ

(8/387)


بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو "أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَات"
قوله: "باب قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} ذكر فيه حديث أنس في الدعاء بالاستعاذة من ذلك وغيره، وسيأتي شرحه في الدعوات شعيب الراوي عن أنس هو ابن الحبحاب بمهملتين وموحدتين، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: أرذل العمر هو الخرف. وروى ابن مردويه من حديث أنس أنه مائة سنة.

(8/388)


17- سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
1- باب 4708- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ إِنَّهُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَهُزُّونَ وَقَالَ غَيْرُهُ نَغَضَتْ سِنُّكَ أَيْ تَحَرَّكَت"
[الحديث 4708- طرفاه في: 4739، 4994]
قوله: "سورة بني إسرائيل - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" ثبتت البسملة لأبي ذر. قوله سمعت بن مسعود قال في بني إسرائيل والكهف ومريم إنهن من العتاق بكسر المهملة وتخفيف الشاة جمع عتيق وهو القديم أو هو كل ما بلغ الغاية في الجودة وبالثاني جزم جماعة في هذا الحديث وبالأول جزم أبو الحسين بن فارس وقوله الأول بتخفيف الواو وقوله هن من تلادي بكسر الشاة وتخفيف اللام أي مما حفظ قديما والتلاد قديم الملك وهو بخلاف الطارف ومراد بن مسعود أنهن من أول ما تعلم من القرآن وأن لهن فضلا لما فيهن من القصص وأخبار الأنبياء والأمم وسيأتي الحديث في فضائل القرآن بأتم من هذا السياق إن شاء الله تعالى قوله فسينغضون إليك رءوسهم قال بن عباس يهزون وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن بن عباس ومن طريق العوفي عن بن عباس قال يحركونها استهزاء ومن طريق بن جريج عن عطاء عن بن عباس نحوه ومن طريق سعيد عن قتادة مثله قوله وقال غيره نغضت سنك أي تحركت قال أبو عبيدة في قوله: {فسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} أي يحركونها استهزاء يقال نغضت سنة أي تحركت وارتفعت من أصلها وقال بن قتيبة المراد أنهم يحركون رءوسهم استبعادا وروى سعيد بن منصور من طريق محمد بن كعب في قوله {فسَيُنْغِضُونَ} قال يحركون.

(8/388)


باب {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَخْبَرْنَاهُمْ أَنَّهُمْ سَيُفْسِدُونَ وَالْقَضَاءُ عَلَى وُجُوهٍ {وَقَضَى رَبُّكَ} أَمَرَ رَبُّكَ وَمِنْهُ الْحُكْمُ {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} وَمِنْهُ الْخَلْقُ {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} خَلَقَهُنَّ {نَفِيرًا} مَنْ يَنْفِرُ مَعَهُ {وَلِيُتَبِّرُوا} يُدَمِّرُوا {مَا عَلَوْا} {حَصِيرًا} مَحْبِسًا مَحْصَرًا {حَقَّ} وَجَبَ {مَيْسُورًا} لَيِّنًا {خِطْئًا} إِثْمًا وَهُوَ اسْمٌ مِنْ خَطِئْتَ وَالْخَطَأُ مَفْتُوحٌ مَصْدَرُهُ مِنْ الإِثْمِ خَطِئْتُ بِمَعْنَى أَخْطَأْتُ {تَخْرِقَ} تَقْطَعَ {وَإِذْ هُمْ} نَجْوَى مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ {رُفَاتًا}

(8/388)


3- باب {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
4709- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ ح و حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ قَالَ جِبْرِيلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُك "
4710- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" زَادَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ " لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.." نَحْوَهُ قَاصِفًا رِيحٌ تَقْصِفُ كُلَّ شَيْء"
قوله: "باب قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لم يختلف القراء في "أسرى" بخلاف قوله في قصة لوط "فأسر" فقرئت بالوجهين، وفيه تعقب على من قال من أهل اللغة أن أسرى وسرى بمعنى واحد، قال السهيلي: السرى من سريت إذا سرت ليلا يعني فهو لازم، والإسراء يتعدى في المعني لكن حذف مفعوله حتى ظن من ظن أنهما بمعنى واحد، وإنما معني {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} جعل البراق يسري به كما تقول أمضيت كذا بمعنى جعلته يمضي، لكن حسن حذف المفعول لقوة الدلالة عليه أو الاستغناء عن ذكره، لأن المقصود بالذكر المصطفى لا الدابة التي سارت به. وأما قصة لوط فالمعنى سر بهم على ما يتحملون عليه من دابة ونحوها، هذا معنى القراءة بالقطع، ومعنى الوصل سر بهم ليلا، ولم يأت مثل ذلك في الإسراء لأنه لا يجوز أن يقال سرى بعبده بوجه من

(8/391)


الوجوه انتهى. والنفي الذي جزم به إنما هو من هذه الحيثية التي قصد فيها الإشارة إلى أنه سار ليلا على البراق، وإلا فلو قال قائل: سرت بزيد بمعنى صاحبته لكان المعنى صحيحا. حديث أبي هريرة "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين" وقد تقدم شرحه في السيرة النبوية، ويأتي في الأشربة. وذكر فيه أيضا حديث جابر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما كذبتني قريش" كذا للأكثر، وللكشميهني كدبني بغير مثناة. حديث أبي هريرة "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين" وقد تقدم شرحه في السيرة النبوية، ويأتي في الأشربة. وذكر فيه أيضا حديث جابر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما كذبتني قريش" كذا للأكثر، وللكشميهني كدبني بغير مثناة. قوله فجلى الله لي بيت مقدس تقدم شرحه أيضا في السيرة النبوية والذي اقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم بيت المقدس هو المطعم بن عدي أخرجه أبو يعلى من حديث أم هانئ وأخرج النسائي من طريق بينها بن أبي أوفى عن بن عباس هذه القصة مطولة وقد ذكرت طرفا منها في أول شرح حديث الإسراء معزوا إلى أحمد والبزار ولفظ النسائي " لما كان ليلة أسرى بي ثم أصبحت بمكة قطعت بأمري وعرفت أن الناس مكذبي فقعدت معتزلا حزينا فمر بن عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزئ هل كان من شيء قال نعم قال ما هو قال إني أسرى بي الليله قال إلى أين قال الى بيت المقدس قال ثم أصبحت بين أظهرنا قال نعم قال فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد ما قال إن دعا قومه قال إن دعوت قومك لك تحدثهم قال نعم قال أبو جهل يا معشر بني كعب بن لؤي هلم قال فانقضت إليه المجالس فجاءوا حتى جلسوا إليهما قال حدث قومك بما حدثتني فحدثهم قال فمن مصفق ومن واضع يده على رأسه متعجبا وفي القوم من سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد قال فهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد قال النبي صلى الله عليه وسلم فذهبت أنعت لهم قال فما زلت أنعت حتى التبس على بعض النعت فجيء بالمسجد حتى وضع فنعته وأنا انظر إليه قال فقال القوم أما النعت فقد أصاب" قوله زاد يعقوب بن إبراهيم حدثنا بن أخي بن شهاب عن عمه لما كذبتني قريش حين أسرى إلى بيت المقدس وصله الذهلي في الزهريات عن يعقوب بهذا الإسناد وأخرجه قاسم بن ثابت في الدلائل من طريقه ولفظه جاء ناس من قريش إلى أبي بكر فقالوا هل لك في صاحبك يزعم أنه أتى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة قال أبو بكر أو قال ذلك قالوا نعم قال لقد صدق وروى الذهلي أيضا وأحمد في مسنده جميعا عن يعقوب بن إبراهيم المذكور عن أبيه عن صالح بن كيسان عن بن شهاب بسنده لما كذبتني قريش الحديث فلعله دخل إسناد في إسناد أو لما كان الحديثان في قصة واحدة أدخل ذلك

(8/392)


4- باب {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} كَرَّمْنَا وَأَكْرَمْنَا وَاحِدٌ {ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} عَذَابَ الْحَيَاةِ عَذَابَ الْمَمَاتِ خِلاَفَكَ وَخَلْفَكَ سَوَاءٌ {وَنَأَى} تَبَاعَدَ {شَاكِلَتِهِ} نَاحِيَتِهِ وَهِيَ مِنْ شَكْلِهِ {صَرَّفْنَا} وَجَّهْنَا {قَبِيلًا} مُعَايَنَةً وَمُقَابَلَةً وَقِيلَ الْقَابِلَةُ لأَنَّهَا مُقَابِلَتُهَا وَتَقْبَلُ وَلَدَهَا {خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} أَنْفَقَ الرَّجُلُ أَمْلَقَ وَنَفِقَ الشَّيْءُ ذَهَبَ {قَتُورًا} مُقَتِّرًا {لِلأَذْقَانِ} مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ وَالْوَاحِدُ ذَقَنٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَوْفُورًا} وَافِرًا {تَبِيعًا} ثَائِرًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَصِيرًا {خَبَتْ} طَفِئَتْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لاَ تُبَذِّرْ} لاَ تُنْفِقْ فِي الْبَاطِلِ {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ} رِزْقٍ {مَثْبُورًا} مَلْعُونًا {لاَ تَقْفُ} لاَ تَقُلْ {فَجَاسُوا} تَيَمَّمُوا {يُزْجِي الْفُلْكَ} يُجْرِي الْفُلْكَ {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} لِلْوُجُوهِ.

(8/392)


قوله: باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} كرمنا وأكرمنا واحد "أي في الأصل، وإلا فالتشديد أبلغ، قال أبو عبيد: كرمنا أي أكرمنا إلا أنها أشد مبالغة في الكرامة انتهى. وهي من كرم بضم الراء مثل شرف وليس من الكرم الذي هو في المال. قوله: {ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} عذاب الحياة وعذاب الممات" قال أبو عبيدة في قوله: {ضِعْفَ الْحَيَاةِ} مختصر، والتقدير ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات. وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {ضِعْفَ الْحَيَاةِ} قال: عذابها "وضعف الممات" قال: عذاب الآخرة. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ضعف عذاب الدنيا والآخرة. ومن طريق سعيد عن قتادة مثله. وتوجيه ذلك أن عذاب النار يوصف بالضعف، قال: لقوله تعالى: { عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} أي عذابا مضاعفا، فكأن الأصل لأذقناك عذابا ضعفا في الحياة ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف؛ فهو كما لو قيل أليم الحياة مثلا. قوله: "خلافك وخلفك سواء" قال أبو عبيدة في قوله: {وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي بعدك قال: خلافك وخلقك سواء، وهما لغتان بمعنى؛ وقرئ بهما. قلت: والقراءتان مشهورتان، فقرأ خلفك الجمهور، وقرأ خلافك ابن عامر والإخوان، وهي رواية حفص عن عاصم. قوله: "ونأى تباعد" هو قول أبي عبيدة، قال في قوله: {وَنَأَى بِجَانِبِه} أي تباعد. قوله: "شاكلته ناحيته وهي من شكلته" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {عَلَى شَاكِلَتِهِ} قال: على ناحيته، ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: على طبيعته وعلى حدته، ومن طريق سعيد عن قتادة قال: يقول على ناحيته وعلى ما ينوي. وقال أبو عبيدة: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} أي على ناحيته وخلقته، ومنها قولهم هذا من شكل هذا. قوله: "صرفنا وجهنا" قال أبو عبيدة في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ} أي وجهنا وبينا. قوله: "حصيرا محبسا1"هو قول أبي عبيدة أيضا، وهو بفتح الميم وكسر الموحدة، وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "حصيرا" أي سجنا. قوله: "قبيلا معاينة ومقابلة. وقيل القابلة لأنها مقابلتها وتقبل ولدها" قال أبو عبيدة: {وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} مجاز مقابلة أي معاينة، قال الأعشى: "كصرخة حبلى بشرتها قبيلها" أي قابلتها. وقال ابن التين: ضبط بعضهم تقبل ولدها بضم الموحدة وليس بشيء، وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة "قبيلا أي جندا تعاينهم معاينة" . قوله: "خشية الإنفاق، يقال أنفق الرجل أملق ونفق الشيء ذهب" كذا ذكره هنا، والذي قاله أبو عبيدة في قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} أي من ذهاب مال، يقال أملق فلان ذهب ماله. وفي قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} أي فقر، وقوله: "نفق الشيء ذهب" هو بفتح الفاء ويجوز كسرها هو قول أبي عبيدة، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: خشية الإنفاق أي خشية أن ينفقوا فيفتقروا. قوله: "قتورا مقترا" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "للأذقان مجتمع اللحيين، الواحد ذقن" هو قول أبي عبيدة أيضا، وسيأتي له تفسير آخر قريبا، واللحيين بفتح اللام ويجوز كسرها تثنية لحية. قوله: "وقال مجاهد: موفورا وافرا" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عنه سواء. قوله: "تبيعا ثائرا. وقال ابن عباس: نصيرا" أما قول مجاهد فوصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عنه في قوله: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: تقدم ذلك وكتب عليه الشارح، وليس بالمتن الذي بأيدينا.

(8/393)


بِهِ تَبِيعاً} أي ثائرا؛ وهو اسم فاعل من الثأر، يقال لكل طالب ثأر وغيره تبيع وتابع، ومن طريق سعيد عن قتادة أي لا تخاف أن تتبع بشيء من ذلك. وأما قول ابن عباس فوصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله: {تَبِيعاً} قال: نصيرا. قوله: "لا تبذر لا تنفق في الباطل" وصله الطبري من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: "ولا تبذر" : لا تنفق في الباطل، والتبذير السرف في غير حق. ومن طريق عكرمة قال: المبذر المنفق في غير حق، ومن طرق متعددة عن أبي العبيدين - وهو بلفظ التصغير والتثنية - عن ابن مسعود مثله وزاد في بعضها "كنا أصحاب محمد نتحدث أن التبذير النفقة في غير حق" . قوله: "ابتغاء رحمة رزق" وصله الطبري من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} قال: ابتغاء رزق، ومن طريق عكرمة مثله، ولابن أبي حاتم من طريق إبراهيم النخعي في قوله: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} قال فضلا. قوله: "مثبورا ملعونا" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ومن وجه آخر عن سعيد بن جبير عنه، ومن طريق العوفي عنه قال: مغلوبا، ومن طريق الضحاك مثله، ومن طريق مجاهد قال: هالكا، ومن طريق قتادة قال: مهلكا، ومن طريق عطية قال: مغيرا مبدلا؛ ومن طريق ابن زيد بن أسلم قال: مخبولا لا عقل له. قوله: "فجاسوا تيمموا" أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} أي فمشوا. وقال أبو عبيدة: جاس يجوس أي نقب، وقيل: نزل وقيل قتل وقيل تردد وقيل هو طلب الشيء باستقصاء وهو بمعني نقب. قوله: "يزجي الفلك يجري الفلك" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه به، ومن طريق سعيد عن قتادة {يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ} أي يسيرها في البحر. قوله: "يخرون للأذقان للوجوه" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وكذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. وعن معمر عن الحسن للحي، وهذا يوافق قول أبي عبيدة الماضي، والأول على المجاز.

(8/394)


باب {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} الْآيَةَ
4711- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَمِرَ بَنُو فُلاَنٍ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَقَالَ أَمَر"
قوله: "باب {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} الآية" حديث عبد الله وهو ابن مسعود "كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية: أمر بنو فلان" ثم ذكره عن شيخ آخر عن سفيان يعني بسنده قال: أمر، فالأولى بكسر الميم والثانية بفتحها وكلاهما لغتان. وأنكر ابن التين فتح الميم في أمر بمعني كثر، وغفل في ذلك ومن حفظه حجة عليه كما سأوضحه، وضبط الكرماني أحدهما بضم الهمزة وهو غلط منه، وقراءة الجمهور بفتح الميم. وحكى أبو جعفر عن ابن عباس أنه قرأها بكسر الميم وأثبتها أبو زيد لغة وأنكرها الفراء، وقرأ أبو رجاء في آخرين بالمد وفتح الميم، ورويت عن أبي عمرو وابن كثير وغيرهما واختارها يعقوب ووجهها الفراء بما ورد من تفسير ابن مسعود وزعم أنه لا يقال أمرنا بمعنى كثرنا إلا بالمد، واعتذر عن حديث: "أفضل المال مهرة مأمورة" فإنها ذكرت للمزاوجة لقوله فيه: "أو سكة مأبورة" وقرأ أبو عثمان النهدي كالأول لكن بتشديد الميم بمعنى الإمارة، واستشهد الطبري بما أسنده من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {مَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قال: سلطنا

(8/394)


شرارها. ثم ساق عن أبي عثمان وأبي العالية ومجاهد أنهم قرءوا بالتشديد، وقيل التضعيف للتعدية والأصل أمرنا بالتخفيف أي كثرنا كما وقع في هذا الحديث الصحيح، ومنه حديث: "خير المال مهرة مأمورة" أي كثيرة النتاج أخرجه أحمد، ويقال أمر بنو فلان أي كثروا وأمرهم الله كثرهم وأمروا أي كثروا، وقد تقدم قول أبي سفيان في أول هذا الشرح في قصة هرقل حيث قال: "لقد أمر أمر ابن أبي كبشة" أي عظم، واختار الطبري قراءة الجمهور، واختار في تأويلها حملها على الظاهر وقال: المعنى أمرنا مترفيها بالطاعة فعصوا، ثم أسنده عن ابن عباس ثم سعيد بن جبير. وقد أنكر الزمخشري هذا التأويل وبالغ كعادته، وعمدة إنكاره أن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، وتعقب بأن السياق يدل عليه، وهو كقولك أمرته فعصاني أي أمرته بطاعتي فعصاني وكذا أمرته فامتثل.

(8/395)


5- باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}
4712- حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا أبو حيان التيمي عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ثم أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة ثم قال: "أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما قد بلغنا فيقول آدم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات -فذكرهن أبو حيان في الحديث- نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا

(8/395)


إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفسا لم أو مر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيا اشفع لنا ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبا نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتون محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي عز وجل ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا نجاسة عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى"
قوله: باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} ذكر فيه حديث أبي هريرة في الشفاعة من طريق أبي زرعة بن عمرو عنه، وسيأتي في شرحه في الرقاق؛ وأورده هنا لقوله فيه: "يقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا" وقد مضى البحث في كونه أول الرسل في كتاب التيمم، وقوله فيه في ذكر إبراهيم "وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات" فذكرهن أبو حيان في الحديث، يشير إلى أن من دون أبي حيان اختصر ذلك، وأبو حيان هو الراوي له عن أبي زرعة، وقد مضى ذلك في أحاديث الأنبياء. وفي الحديث رد على من زعم أن الضمير في قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} لموسى عليه السلام، وقد صحح ابن حبان من حديث سلمان الفارسي "كان نوح إذا طعم أو لبس حمد الله، فسمي عبدا شكورا" وله شاهد عند ابن مردويه من حديث معاذ بن أنس، وآخر من حديث أبي فاطمة. وقوله: "ينفذهم البصر" بفتح أوله وضم الفاء من الثلاثي أي يخرقهم وبضم أوله وكسر الفاء من الرباعي أي يحيط بهم، والذال معجمة في الرواية. وقال أبو حاتم السجستاني: أصحاب الحديث يقولونه بالمعجمة، وإنما هو بالمهملة، ومعناه يبلغ أولهم وآخرهم. وأجيب بأن المعني يحيط بهم الرائي لا يخفى عليه منهم شيء لاستواء الأرض، فلا يكون فيها ما يستتر به أحد من الرائي، وهذا أولى من قول أبي عبيدة "يأتي عليهم بصر الرحمن" إذ رؤية الله تعالى محيطة بجميعهم في كل حال سواء الصعيد المستوى وغيره، ويقال نفذه البصر إذا بلغه وجاوزه، والنفاذ الجواز والخلوص من الشيء، ومنه نفذ السهم إذا خرق الرمية وخرج منها.

(8/396)


6- باب {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا}
4713- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقِرَاءَةُ فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَابَّتِهِ لِتُسْرَجَ فَكَانَ يَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ يَعْنِي الْقُرْآن"
قوله: "باب قوله: وآتينا داود زبورا" حديث أبي هريرة "خفف على داود القرآن" ووقع في رواية لأبي ذر "القراءة" والمراد بالقرآن مصدر القراءة لا القرآن المعهود لهذه الأمة، وقد تقدم إشباع القول فيه في ترجمة داود عليه السلام من أحاديث الأنبياء.

(8/397)


7- باب {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}
4714- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ} قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنْ الإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَاساً مِنْ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَتَمَسَّكَ هَؤُلاَءِ بِدِينِهِمْ زَادَ الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الأَعْمَشِ {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ}
[الحديث 4714-طرفه في: 4717]
قوله: باب {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى {تَحْوِيلاً} . قوله: "يحيي" هو القطان، وسفيان هو الثوري، وسليمان هو الأعمش، وإبراهيم هو النخعي، وأبو معمر هو عبد الله الأزدي، وعبد الله هو ابن مسعود. قوله: "عن عبد الله {إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قال: كان ناس" في رواية النسائي من هذا الوجه عن عبد الله في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قال: كان ناس إلخ، والمراد بالوسيلة القربة أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، وأخرجه الطبري من طريق أخرى عن قتادة، ومن طريق ابن عباس أيضا. قوله: "فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم" أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة. وروى الطبري من وجه آخر عن ابن مسعود فزاد فيه: "والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم" وهذا هو المعتمد في تفسير هذه الآية، وأما ما أخرجه الطبري من وجه آخر عن ابن مسعود قال: "كان قبائل العرب يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجن، ويقولون هم بنات الله، فنزلت هذه الآية" فإن ثبت فهو محمول على أنها نزلت في الفريقين، وإلا فالسياق يدل على أنهم قبل الإسلام كانوا راضين بعبادتهم، وليست هذه من صفات الملائكة. وفي رواية سعيد بن منصور عن ابن مسعود في حديث الباب: "فعيرهم الله بذلك" وكذا ما أخرجه من طريق أخرى ضعيفة عن ابن عباس أن المراد من كان يعبد الملائكة والمسيح وعزيرا.
" تنبيه " : استشكل ابن التين قوله: "ناسا من الجن" من حيث أن الناس ضد الجن، وأجيب بأنه على قول من قال: إنه من ناس إذا تحرك أو ذكر للتقابل حيث قال: ناس من الإنس وناسا من الجن، ويا ليت شعري على من يعترض. قوله: "زاد الأشجعي" هو عبيد الله بن عبيد الرحمن بالتصغير فيهما. قوله: "عن سفيان عن الأعمش قل ادعوا الذين زعمتم" أي روى الحديث بإسناده

(8/397)


وزاد في أوله من أول الآية التي قبلها، وروى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} إلى آخر الآية. قال: كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة وهم الذين يدعون.

(8/398)


8- باب {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ} الآيَةَ
4715- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنْ الْجِنِّ يُعْبَدُونَ فَأَسْلَمُوا"
قوله: باب قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ} الآية ذكر فيه الحديث قبله من وجه آخر عن الأعمش مختصرا، ومفعول يدعون محذوف تقديره أولئك الذين يدعونهم آلهة يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وقرأ ابن مسعود "تدعون" بالمثناة الفوقانية على أن الخطاب للكفار وهو واضح، وقوله: {يُّهُمْ أَقْرَبُ} معناه يبتغون من هو أقرب منهم إلى ربهم. وقال أبو البقاء: مبتدأ والخبر أقرب، وهو استفهام في موضع نصب يدعون، ويجوز أن يكون بمعنى الذين وهو بدل من الضمير في يدعون. كذا قال، وكأنه ذهب إلى أن فاعل يدعون ويبتغون واحد، والله أعلم.

(8/398)


9- باب {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ}
4716- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ قَالَ هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ شَجَرَةُ الزَّقُّوم"
قوله: "باب {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} سقط "باب" لغير أبي ذر. قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به" لم يصرح بالمرئي، وعند سعيد بن منصور من طريق أبي مالك قال: هو ما أري في طريقه إلى بيت المقدس. قلت: وقد بينت ذلك واضحا في الكلام على حديث الإسراء في السيرة النبوية من هذا الكتاب. قوله: "أريها ليلة أسري به" زاد سعيد بن منصور عن سفيان في آخر الحديث: "وليست رؤيا منام" وقوله: "ليلة أسري به" جاء فيه قول آخر، فروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس قال: أري أنه دخل مكة هو وأصحابه، فلما رده المشركون كان لبعض الناس بذلك فتنة، وجاء فيه قول آخر: فروى ابن مردويه من حديث الحسين بن علي رفعه: "إني أريت كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا، فقيل هي دنيا تنالهم، ونزلت هذه الآية" وأخرجه ابن أبي حاتم من حديث عمرو بن العاص ومن حديث يعلى بن مرة ومن مرسل ابن المسيب نحوه وأسانيد الكل ضعيفة واستدل به على إطلاق لفظ الرؤيا على ما يرى بالعين في اليقظة، وقد أنكره الحريري تبعا لغيره وقالوا: إنما يقال رؤيا في المنام، وأما التي في اليقظة فيقال رؤية. وممن استعمل الرؤيا في اليقظة المتنبي في قوله: "ورؤياك أحلى في العيون من الغمض" وهذا التفسير يرد

(8/398)


10- باب {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قَالَ مُجَاهِدٌ صَلاَةَ الْفَجْرِ
4717- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَضْلُ صَلاَةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلاَةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً وَتَجْتَمِعُ مَلاَئِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ" يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} "
قوله: باب قوله: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال مجاهد: صلاة الفجر" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عنه وزاد: يجتمع بها ملائكة الليل وملائكة النهار. ومن طريق العوفي عن ابن عباس نحوه. حديث أبي هريرة وقد تقدم شرحه في صفة الصلاة.

(8/399)


11- باب {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُوداً}
4718- حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ يَا فُلاَنُ اشْفَعْ يَا فُلاَنُ اشْفَعْ حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ"
4719- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَة"ِ رَوَاهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "باب قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُوداً} روى النسائي بإسناد صحيح من حديث حذيفة قال: "يجتمع الناس في صعيد واحد، فأول مدعو محمد فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك؛ المهدي

(8/399)


12- باب {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} يَزْهَقُ يَهْلِكُ
4720- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلاَثُ مِائَةِ نُصُبٍ فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: "جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ "
قوله: باب {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الآية. يزهق يهلك" قال أبو عبيدة في قوله: "تزهق أنفسهم وهم كارهون" أي تخرج وتموت وتهلك، ويقال: زهق ما عندك أي ذهب كله. وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "إن الباطل كان زهوقا" أي ذاهبا. ومن طريق سعيد عن قتادة "زهق الباطل" أي هلك. قوله: "عن ابن أبي نجيح" كذا لهم، وفي بعض النسخ "حدثنا ابن أبي نجيح" . قوله: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم" في حديث أبي هريرة عند مسلم والنسائي أن ذلك كان في فتح مكة وأوله في قصة فتح مكة إلى أن قال: "فجاء رسول الله حتى طاف بالبيت، فجعل يمر بتلك الأصنام فجعل يطعنها بسية القوس ويقول: جاء الحق

(8/400)


وزهق الباطل" الحديث بطوله. وقد تقدم شرح ذلك مستوفى في غزوة الفتح بحمد الله تعالى. وقوله: "وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب" كذا للأكثر هنا بغير ألف، وكذا وقع في رواية سعيد بن منصور لكن بلفظ: "صنم" والأوجه نصبه على التمييز إذ لو كان مرفوعا لكان صفة، والواحد لا يقع صفة للجمع. ويحتمل أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف والجملة صفة، أو هو منصوب لكنه كتب بغير ألف على بعض اللغات.

(8/401)


13- باب {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ}
4721- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ فَقَالَ مَا رَأْيُكُمْ إِلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ فَقَالُوا سَلُوهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقُمْتُ مَقَامِي فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} "
قوله: "باب {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ} ذكر فيه حديث إبراهيم - وهو النخعي - عن علقمة عن عبد الله وهو ابن مسعود. قوله: "في حرث" بفتح المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة، ووقع في كتاب العلم من وجه آخر بخاء معجمه وموحدة، وضبطوه بفتح أوله وكسر ثانيه وبالعكس، والأول أصوب فقد أخرجه مسلم من طريق مسروق عن ابن مسعود بلفظ: "كان في نخل" وزاد في رواية العلم "بالمدينة" ولابن مردويه من وجه آخر عن الأعمش "في حرث للأنصار" وهذا يدل على أن نزول الآية وقع بالمدينة، لكن روى الترمذي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: "قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ورجاله رجال مسلم، وهو عند ابن إسحاق من وجه آخر عن ابن عباس نحوه، ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح. قوله: "يتوكا" أي يعتمد. قوله: "على عسيب" بمهملتين وآخره موحدة بوزن عظيم وهي الجريدة التي لا خوص فيها، ووقع في رواية ابن حبان: "ومعه جريدة" قال ابن فارس: العسبان من النخل كالقضبان من غيرها. قوله: "إذ مر اليهود" كذا فيه اليهود بالرفع على الفاعلية، وفي بقية الروايات في العلم والاعتصام والتوحيد وكذا عند مسلم: "إذ مر بنفر من اليهود" وعند الطبري من وجه آخر عن الأعمش "إذ مررنا على يهود" ويحمل هذا الاختلاف على أن الفريقين تلاقوا فيصدق أن كلا مر بالآخر، وقوله: "يهود" هذا اللفظ معرفة تدخله اللام تارة وتارة يتجرد، وحذفوا منه ياء النسبة ففرقوا بين مفرده وجمعه كما قالوا زنج وزنجي، ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية أحد من هؤلاء اليهود. قوله: "ما رأيكم إليه" كذا للأكثر بصيغة الفعل الماضي من الريب، ويقال فيه رابه كذا وأرابه كذا بمعنى. وقال أبو زيد: رابه إذا علم

(8/401)


منه الريب، وأرابه إذا ظن ذلك به. ولأبي ذر عن الحموي وحده بهمزة وضم الموحدة من الرأب وهو الإصلاح، يقال فيه رأب بين القوم إذا أصلح بينهم. وفي توجيهه هنا بعد. وقال الخطابي: الصواب ما أربكم بتقديم الهمزة وفتحتين من الأرب وهو الحاجة، وهذا واضح المعنى لو ساعدته الرواية. نعم رأيته في رواية المسعودي عن الأعمش عند الطبري كذلك. وذكر ابن التين أن رواية القابسي كرواية الحموي، لكن بتحتانية بدل الموحدة من الرأي. والله أعلم. قوله: "وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه" في رواية العلم "لا يجيء فيه بشيء تكرهونه" وفي الاعتصام "لا يسمعكم ها تكرهون" وهي بمعني، وكلها بالرفع على الاستئناف، ويجوز السكون وكذا النصب أيضا. قوله: "فقالوا سلوه" في رواية التوحيد "فقال بعضهم لنسألنه" واللام جواب قسم محذوف. قوله: "فسألوه عن الروح" في رواية التوحيد "فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح"؟ وفي رواية العوفي عن ابن عباس عند الطبري "فقالوا: أخبرنا عن الروح" قال ابن التين: اختلف الناس في المراد بالروح المسئول عنه في هذا الخبر على أقوال: الأول روح الإنسان، الثاني روح الحيوان، الثالث جبريل، الرابع عيسى، الخامس القرآن، السادس الوحي، السابع ملك يقوم وحده صفا يوم القيامة، الثامن ملك له أحد عشر ألف جناح ووجه وقيل ملك له سبعون ألف لسان، وقيل له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان ألف لغة يسبح الله تعالى يخلق الله بكل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة، وقيل ملك رجلاه في الأرض السفلي ورأسه عند قائمة العرش، التاسع خلق كخلق بني آدم يقال لهم الروح يأكلون ويشربون، لا ينزل ملك من السماء إلا نزل معه، وقيل بل هم صنف من الملائكة يأكلون ويشربون، انتهى كلامه ملخصا بزيادات من كلام غيره. وهذا إنما اجتمع من كلام أهل التفسير في معنى لفظ الروح الوارد في القرآن، لا خصوص هذه الآية. فمن الذي في القرآن {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} ، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} ، {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} ، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً}، {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} : فالأول جبريل، والثاني القرآن، والثالث الوحي، والرابع القوة، والخامس والسادس محتمل لجبريل ولغيره. ووقع إطلاق روح الله على عيسى. وقد روى ابن إسحاق في تفسيره بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: الروح من الله، وخلق من خلق الله وصور كبني آدم، لا ينزل ملك إلا ومعه واحد من الروح. وثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسر الروح، أي لا يعين المراد به في الآية وقال الخطابي: حكوا في المراد بالروح في الآية أقوالا: قيل سألوه عن جبريل، وقيل عن ملك له ألسنة. وقال الأكثر: سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد. وقال أهل النظر: سألوه عن كيفية مسلك الروح في البدن وامتزاجه به، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه. وقال القرطبي: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله ولا تجهل أن جبريل ملك وأن الملائكة أرواح. وقال الإمام فخر الدين الرازي: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه، وبيانه أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته وهل هي متحيزة أم لا، وهل هي حالة في متحيز أم لا، وهل هي قديمة أو حادثة، وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى، وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها، وغير ذلك من متعلقاتها. قال: وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية، وهل الروح قديمة أو حادثة والجواب يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث

(8/402)


وهو قوله تعالى: {كُنْ} فكأنه قال: هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه، ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه. قال: ويحتمل أن يكون المراد بالأمر في قوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الفعل، كقوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي فعله فيكون الجواب الروح من فعل ربي، وإن كان السؤال هل هي قديمة أو حادثة فيكون الجواب إنها حادثة. إلى أن قال: وقد سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء والتعمق فيها ا ه. وقد تنطع قوم فتباينت أقوالهم، فقيل: هي النفس الداخل والخارج، وقيل الحياة، وقيل جسم لطيف يحل في جميع البدن، وقيل هي الدم، وقيل هي عرض، حني قيل إن الأقوال فيها بلغت مائة. ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين أن لكل نبي خمسة أرواح، وأن لكل مؤمن ثلاثة، ولكل حي واحدة. وقال ابن العربي: اختلفوا في الروح والنفس، فقيل متغايران وهو الحق، وقيل هما شيء واحد، قال: وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس، كما يعبر عن الروح وعن النفس بالقلب وبالعكس، وقد يعبر عن الروح بالحياة حتى يتعدى ذلك إلى غير العقلاء بل إلى الجماد مجازا. وقال السهيلي: يدل على مغايرة الروح والنفس قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} فإنه لا يصح جعل أحدهما موضع الأخر ولولا التغاير لساغ ذلك. قوله: "فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم" في رواية الكشميهني عليه بالإفراد. وفي رواية العلم "فقام متوكئا على العسيب وأنا خلفه" . قوله: "فعلمت أنه يوحي إليه" في رواية التوحيد "فظننت أنه يوحي إليه" وفي الاعتصام "فقلت: إنه يوحى إليه" وهي متقاربة، وإطلاق العلم على الظن مشهور، وكذا إطلاق القول على ما يقع في النفس. ووقع عند ابن مردويه من طريق ابن إدريس عن الأعمش "فقام وحنى من رأسه، فظننت أنه يوحي إليه" . قوله: "فقمت مقامي" في رواية الاعتصام "فتأخرت عنه" أي أدبا معه لئلا يتشوش بقربي منه. قوله: "فلما نزل الوحي قال" في رواية الاعتصام "حتى صعد الوحي فقال: "وفي رواية العلم "فقمت فلما انجلى". قوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} قال الإسماعيلي: يحتمل أن يكون جوابا وأن الروح من جملة أمر الله وأن يكون المراد أن الله اختص بعلمه ولا سؤال لأحد عنه. وقال ابن القيم: ليس المراد هنا بالأمر الطلب اتفاقا، وإنما المراد به المأمور، والأمر يطلق على المأمور كالخلق على المخلوق، ومنه {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} وقال ابن بطال: معرفة حقيقة الروح مما استأثر الله بعلمه بدليل هذا الخبر، قال: والحكمة في إبهامه اختبار الخلق ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حني يضطرهم إلى رد العلم إليه. وقال القرطبي: الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء، لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب الأولى. وجنح ابن القيم في "كتاب الروح" إلى ترجيح أن المراد بالروح المسئول عنها في الآية ما وقع في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً} قال: وأما أرواح بني آدم فلم يقع تسميتها في القرآن إلا نفسا. كذا قال، ولا دلالة في ذلك لما رجحه، بل الراجح الأول، فقد أخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في هذه القصة أنهم قالوا عن الروح: وكيف يعذب الروح الذي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ فنزلت الآية. وقال بعضهم: ليس في الآية دلالة على أن الله لم يطلع نبيه على حقيقة الروح، بل يحتمل أن يكون أطلعه ولم يأمره أنه يطلعهم، وقد قالوا في علم الساعة نحو هذا والله أعلم. وممن رأى الإمساك عن الكلام في الروح أستاذ الطائفة أبو القاسم فقال فيما نقله في "عوارف المعارف" عنه بعد أن نقل كلام الناس في الروح: وكان الأولى الإمساك عن ذلك والتأدب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقل عن الجنيد

(8/403)


أنه قال: الروح استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود. وعلى ذلك جرى ابن عطية وجمع من أهل التفسير. وأجاب من خاض في ذلك بأن اليهود سألوا عنها سؤال تعجيز وتغليط لكونه يطلق على أشياء فأضمروا أنه بأي شيء أجاب قالوا: ليس هذا المراد، فرد الله كيدهم، وأجابهم جوابا مجملا مطابقا لسؤالهم المجمل. وقال السهروردي في "العوارف" : يجوز أن يكون من خاض فيها سلك سبيل التأويل لا التفسير، إذ لا يسوغ التفسير إلا نقلا، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل، وهو ذكر ما لا يحتمل إلا به من غير قطع بأنه المراد، فمن ثم يكون القول فيه، قال: وظاهر الآية المنع من القول فيها لختم الآية بقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} أي اجعلوا حكم الروح من الكثير الذي لم تؤتوه فلا تسألوه عنه فإنه من الأسرار. وقيل: المراد بقوله: {أَمْرِ رَبِّي} كون الروح من عالم الأمر الذي هو عالم الملكوت، لا عالم الخلق الذي هو عالم الغيب والشهادة. وقد خالف الجنيد ومن تبعه من الأئمة جماعة من متأخري الصوفية فأكثروا من القول في الروح، وصرح بعضهم بمعرفة حقيقتها، وعاب من أمسك عنها. ونقل ابن منده في "كتاب الروح" له عن محمد بن نصر المروزي الإمام المطلع على اختلاف الأحكام من عهد الصحابة إلى عهد فقهاء الأمصار أنه نقل الإجماع على أن الروح مخلوقة، وإنما ينقل القول بقدمها عن بعض غلاة الرافضة والمتصوفة. واختلف هل تفني عند فناء العالم قبل البعث أو تستمر باقية؟ على قولين، والله أعلم. ووقع في بعض التفاسير أن الحكمة في سؤال اليهود عن الروح أن عندهم في التوراة أن روح بني آدم لا يعلمها إلا الله، فقالوا: نسأله، فإن فسرها فهو نبي، وهو معنى قولهم: لا يجيء بشيء تكرهونه وروى الطبري من طريق مغيرة عن إبراهيم في هذه القصة" فنزلت الآية فقالوا: هكذا نجده عندنا" ورجاله ثقات، إلا أنه سقط من الإسناد علقمة. قوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ} كذا للكشميهني هنا، وكذا لهم في الاعتصام، ولغير الكشميهني هنا "وما أوتوا" وكذا لهم في العلم، وزاد: "قال الأعمش: هكذا قراءتنا" وبين مسلم اختلاف الرواة عن الأعمش فيها، وهي مشهورة عن الأعمش أعني بلفظ: "وما أوتوا" ولا مانع أن يذكرها بقراءة غيره، وقراءة الجمهور "وما أوتيتم" والأكثر على أن المخاطب بذلك اليهود فتتحد القراءتان. نعم وهي تتناول جميع علم الخلق بالنسبة إلى علم الله. "ووقع في حديث ابن عباس الذي أشرت إليه أول الباب: "أن اليهود لما سمعوا ما قالوا: أوتينا علما كثيرا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا" فنزلت: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية. قال الترمذي: حسن صحيح. قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} هو استثناء من العلم أي إلا علما قليلا، أو من الإعطاء أي الإعطاء قليلا، أو من ضمير المخاطب أو الغائب على القراءتين أي إلا قليلا منهم أو منكم. وفي الحديث من الفوائد غير ما سبق جواز سؤال العالم في حال قيامه ومشيه إذا كان لا يثقل ذلك عليه. وأدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل بما يغلب على الظن، والتوقف عن الجواب بالاجتهاد لمن يتوقع النص، وأن بعض المعلومات قد استأثر الله بعلمه حقيقة، وأن الأمر يرد لغير الطلب، والله أعلم.

(8/404)


14- باب {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}
4722- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ

(8/404)


كَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} أَيْ بِقِرَاءَتِكَ فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلاَ تُسْمِعُهُمْ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} "
4723- حَدَّثَنِي طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أُنْزِلَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاء"
[الحديث 4723- طرفاه في: 6327، 7526]
قوله: "باب {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} سقط "باب" لغير أبي ذر. قوله: "حدثنا يعقوب بن إبراهيم" هو الدورقي. قوله: "أخبرنا أبو بشر" في رواية غير أبي ذر "حدثنا أبو بشر" وهو جعفر بن أبي وحشية، وذكر الكرماني أنه وقع في نسخته "يونس" بدل قوله أبو بشر وهو تصحيف. قال الفربري: أنبأنا محمد بن عياش قال: لم يخرج محمد بن إسماعيل البخاري في هذا الكتاب من حديث هشيم إلا ما صرح فيه بالإخبار. قلت: يريد في الأصول، وسبب ذلك أن هشيما مذكور بتدليس الإسناد. قوله: "عن ابن عباس" كذا وصله هشيم وأرسله شعبة أخرجه الترمذي من طريق الطيالسي عن شعبة وهشيم مفصلا. قوله: "نزلت ورسول الله مختف بمكة" يعني في أول الإسلام. قوله: "رفع صوته بالقرآن" في رواية الطبري من وجه آخر عن ابن عباس "فكان إذا صلى بأصحابه وأسمع المشركين فآذوه" وفسرت رواية الباب الأذى بقوله: سبوا القرآن. وللطبري من وجه آخر عن سعيد بن جبير "فقالوا له: لا تجهر فتؤذي آلهتنا فنهجو إلهك" ومن طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرق عنه أصحابه، وإذا خفض صوته لم يسمعه من يريد أن يسمع قراءته فنزلت" . قوله: "ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك" وفي رواية الطبري "لا تجهر بصلاتك" أي لا تعلن بقراءة القرآن إعلانا شديدا فيسمعك المشركون فيؤذونك، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أي لا تخفض صوتك حتى لا تسمع أذنيك "وابتغ بين ذلك سبيلا" أي طريقا وسطا. قوله: "حدثنا طلق" بفتح المهملة وسكون اللام "ابن غنام" بالمعجمة والنون وهو النخعي، من كبار شيوخ البخاري، وروايته عنه في هذا الكتاب قليلة. وشيخه زائدة هو ابن قدامة. قوله: "عن عائشة" تابعه الثوري عن هشام، وأرسله سعيد بن منصور عن يعقوب بن عبد الرحيم الإسكندراني عن هشام، وكذلك أرسله مالك. قوله: "أنزل ذلك في الدعاء" هكذا أطلقت عائشة، وهو أعم من أن يكون ذلك داخل الصلاة أو خارجها. وقد أخرجه الطبري وابن خزيمة والعمري والحاكم من طريق حفص بن غياث عن هشام فزاد في الحديث: "في التشهد" ومن طريق عبد الله بن شداد قال: "كان أعرابي من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ارزقنا مالا وولدا" ورجح الطبري حديث ابن عباس قال: لأنه أصح مخرجا. ثم أسند عن عطاء قال: "يقول قوم: إنها في الصلاة، وقوم إنها في الدعاء" وقد جاء عن ابن عباس نحو تأويل عائشة أخرجه الطبري من طريق أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس قال: "نزلت في الدعاء" ومن وجه آخر عن ابن عباس مثله، ومن طريق عطاء ومجاهد وسعيد ومكحول مثله، ورجح النووي وغيره قول ابن عباس كما رجحه الطبري، لكن

(8/405)


يحتمل الجمع بينهما بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة وقد روى ابن مردويه من حديث أبي هريرة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى عند البيت رفع صوته بالدعاء، فنزلت: {وجاء عن أهل التفسير في ذلك أقوال أخر، منها ما روى سعيد بن منصور من طريق صحابي لم يسم رفعه في هذه الآية" لا ترفع صوتك في دعائك فتذكر ذنوبك فتعير بها "ومنها ما روى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "لا تجهر بصلاتك" أي لا تصل مراآة للناس "ولا تخافت بها" أي لا تتركها مخافة منهم. ومن طرق عن الحسن البصري نحوه. وقال الطبري: لولا أننا لا نستجيز مخالفة أهل التفسير فيما جاء عنهم لاحتمل أن يكون المراد "لا تجهر بصلاتك" أي بقراءتك نهارا {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أى ليلا، وكان ذلك وجها لا يبعد من الصحة، انتهى. وقد أثبته بعض المتأخرين قولا. وقيل: الآية في الدعاء، وهي منسوخة بقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} .

(8/406)


18- سورة الْكَهْفِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَقْرِضُهُمْ} تَتْرُكُهُمْ {وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ} ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ وَقَالَ غَيْرُهُ جَمَاعَةُ الثَّمَرِ {بَاخِعٌ} مُهْلِكٌ {أَسَفًا} نَدَمًا {الْكَهْفُ} الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ {وَالرَّقِيمُ} الْكِتَابُ مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مِنْ الرَّقْمِ {رَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا {لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} {شَطَطًا} إِفْرَاطًا {الْوَصِيدُ} الْفِنَاءُ جَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ وَيُقَالُ الْوَصِيدُ الْبَابُ مُؤْصَدَةٌ مُطْبَقَةٌ آصَدَ الْبَابَ وَأَوْصَدَ {بَعَثْنَاهُمْ} أَحْيَيْنَاهُمْ {أَزْكَى} أَكْثَرُ وَيُقَالُ أَحَلُّ وَيُقَالُ أَكْثَرُ رَيْعًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أُكْلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ} لَمْ تَنْقُصْ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {الرَّقِيمُ} اللَّوْحُ مِنْ رَصَاصٍ كَتَبَ عَامِلُهُمْ أَسْمَاءَهُمْ ثُمَّ طَرَحَهُ فِي خِزَانَتِهِ فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ فَنَامُوا وَقَالَ غَيْرُهُ وَأَلَتْ تَئِلُ تَنْجُو وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَوْئِلاً} مَحْرِزًا {لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} لاَ يَعْقِلُونَ
سورة الكهف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "ثبتت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال مجاهد {تَقْرِضُهُمْ} تتركهم" وصله الفريابي عنه، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة نحوه، وسقط هنا لأبي ذر. قوله: "وقال مجاهد: وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ} ذهب وفضة" وصله الفريابي بلفظه. وأخرج الفراء من وجه آخر عن مجاهد قال: ما كان في القرآن ثمر بالضم فهو المال، وما كان بالفتح فهو النبات. قوله: "وقال غيره: جماعة الثمر" كأنه عنى به قتادة فقد أخرج الطبري من طريق أبي سفيان المعمري عن معمر عن قتادة قال: الثمر المال كله، وكل مال إذا اجتمع فهو ثمر إذا كان من لون الثمرة وغيرها من المال كله. وروى ابن المنذر من وجه آخر عن قتادة قال: قرأ ابن عباس {ثُمُرٌ} يعني بفتحتين وقال: يريد أنواع المال، انتهى. والذي قرأ هنا بفتحتين عاصم، وبضم ثم سكون أبو عمرو، والباقون بضمتين. قال ابن التين: معني قوله: "جماعة الثمر" أن ثمرة يجمع على ثمار، وثمار على ثمر. قوله: "باخع مهلك" هو قول أبي عبيدة، وأنشد لذي الرمة" ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه" وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي قاتل نفسك. قوله: "أسفا ندما" هو قول أبي عبيدة. وقال قتادة: حزنا.

(8/406)


قوله: "الكهف الفتح في الجبل، والرقيم الكتاب، مرقوم مكتوب من الرقم" تقدم جميع ذلك في أحاديث الأنبياء مشروحا. قوله: "أمدا غاية، طال عليهم الأمد" سقط هذا لأبي ذر وهو قول أبي عبيدة، وروى عبد بن حميد من طريق مجاهد في قوله: "أمدا" قال: عددا. قوله: "وقال سعيد - يعني ابن جبير - عن ابن عباس: الرقيم لوح من رصاص كتب عاملهم أسماءهم ثم طرحه في خزانته، فضرب الله على آذانهم" وصله عبد بن حميد من طريق يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير مطولا، وقد لخصته في أحاديث الأنبياء، وإسناده صحيح على شرط البخاري. وقد روى ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أعرف الرقيم، ثم سألت عنه فقيل لي هي القرية التي خرجوا منها. وإسناده ضعيف. قوله: "وقال غيره: ربطنا على قلوبهم ألهمناهم صبرا" تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء. قوله: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} أي ومن هذه المادة هذا الموضع، ذكره استطرادا وإنما هو في سورة القصص، وهو قول أبي عبيدة أيضا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: لولا أن ربطنا على قلبها بالإيمان. قوله: "مرفقا كل شيء ارتفقت به" هو قول أبي عبيدة وزاد: ويقرأه قوم بفتح الميم وكسر الفاء انتهى. وهي قراءة نافع وابن عامر. واختلف هل هما بمعنى أم لا؟ فقيل: هو بكسر الميم للجارحة وبفتحها للأمر، وقد يستعمل أحدهما موضع الآخر، وقيل لغتان فيما يرتفق به وأما الجارحة فبالكسر فقط وقيل لغتان في الجارحة أيضا. وقال أبو حاتم: هو بفتح الميم الموضع كالمسجد، وبكسرها الجارحة. قوله: "تزاور من الزور، والأزور الأميل" هو قول أبي عبيدة، قوله: "فجوة متسع والجمع فجوات وفجى، كقولك زكوات وزكاة" هو قول أبي عبيدة أيضا، قوله: "شططا إفراطا، الوصيد الفناء إلخ" تقدم كله في أحاديث الأنبياء، قوله: "بعثناهم أحييناهم" هو قول أبي عبيدة، وروى عبد الرزاق من طريق عكرمة قال: كان أصحاب الكهف أولاد ملوك اعتزلوا قومهم في الكهف فاختلفوا في بعث الروح والجسد فقال قائل يبعثان. وقال قائل: تبعث الروح فقط وأما الجسد فتأكله الأرض، فأماتهم الله ثم أحياهم، فذكر القصة. قوله: "أزكى أكثر، ويقال أحل، ويقال أكثر ريعا" تقدم أيضا. وروى سعيد بن منصور من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أحل ذبيحة، وكانوا يذبحون للطواغيت.
" تنبيه " : سقط من قوله: "الكهف الفتح" إلى هنا من رواية أبي ذر هنا، وكأنه استغنى بتقديم جل ذلك هناك. قوله: "وقال غيره: لم يظلم لم ينقص" كذا لأبي ذر، ولغيره: وقال ابن عباس، فذكره، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وكذا الطبري من طريق سعيد عن قتادة. قوله: "وقال مجاهد: موئلا محرزا" وصله الفريابي. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {مَوْئِلاً} قال: ملجأ، ورجحه ابن قتيبة وقال: هو من وأل إذا لجأ إليه، وهو هنا مصدر، وأصل الموئل المرجع. قوله: "وألت تئل تنجو" قال أبو عبيدة في قوله: "موئلا" : ملجأ منجأ، قال الشاعر: "فلا وألت نفس عليها تحاذر" أي لا نجت.
قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} أي "لا يعقلون" وصله الفريابي من طريق مجاهد مثله.

(8/407)


باب {وكان الإنسان أكثر شيئا جدلا}
...
1- باب {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}
4724- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ

(8/407)


قَالَ: "أَلاَ تُصَلِّيَانِ". {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} لَمْ يَسْتَبِنْ {فُرُطًا} يُقَالُ نَدَمًا {سُرَادِقُهَا} مِثْلُ السُّرَادِقِ وَالْحُجْرَةِ الَّتِي تُطِيفُ بِالْفَسَاطِيطِ {يُحَاوِرُهُ} مِنْ الْمُحَاوَرَةِ {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أَيْ لَكِنْ أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ثُمَّ حَذَفَ الأَلِفَ وَأَدْغَمَ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الأُخْرَى {وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَراً} يَقُولُ بَيْنَهُمَا {زَلَقًا} لاَ يَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ {هُنَالِكَ الْوِلاَيَةُ} مَصْدَرُ الْوَلِيِّ {عُقُبًا} عَاقِبَةً وَعُقْبَى وَعُقْبَةً وَاحِدٌ وَهِيَ الآخِرَةُ {قِبَلاً} وَقُبُلًا وَقَبَلًا اسْتِئْنَافًا {لِيُدْحِضُوا} لِيُزِيلُوا الدَّحْضُ الزَّلَق"
قوله: "باب {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} ذكر فيه حديث علي مختصرا، ولم يذكر مقصود الباب على عادته في التعمية، وقد تقدم شرحه مستوفى في صلاة الليل، وفيه ذكر الآية المذكورة، وقوله في آخره: "ألا تصليان" زاد في نسخة الصغاني" وذكر الحديث والآية إلى قوله: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} . قوله: "رجما بالغيب: لم يستبن" سقط هذا لأبي ذر هنا، وقد تقدم في أحاديث الأنبياء. ولقتادة عند عبد الرزاق {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} قال: قذفا بالظن. قوله: "فرطا ندما" وصله الطبري من طريق داود بن أبي هند في قوله: {فُرُطًا} قال: ندامة. وقال أبو عبيدة في قوله: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} أي تضييعا وإسرافا. وللطبري عن مجاهد قال: ضياعا. وعن السدي قال: إهلاكا. وعن ابن جريج: نزلت في عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري قبل أن يسلم. قوله: "سرادقها مثل السرادق والحجرة التي تطيف بالفساطيط" هو قول أبي عبيدة لكنه تصرف فيه، قال أبو عبيدة في قوله: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} كسرادق الفسطاط، وهي الحجرة التي تطوف بالفسطاط، قال الشاعر: "سرادق المجد عليك ممدود" وروى الطبري من طريق ابن عباس بإسناد منقطع قال: سرادقها حائط من نار، قوله: "يحاوره من المحاورة" قال أبو عبيدة: يحاوره أي يكلمه من المحاورة أي المراجعة. قوله: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أي لكن أنا هو الله ربي، ثم حذف الألف وأدغم إحدى النونين في الأخرى" هو قول أبي عبيدة. وقال الفراء: ترك الألف من أنا كثير في الكلام ثم أدغمت نون أنا في نون لكن، وأنشد:
وترمقني بالطرف أي أنت مذنب ... وتقلينني لكن إياك لا أقلي
أي لكن أنا إياك لا أقلي. قال: ومن العرب من يشبع ألف أنا فجاءت القراءة على تلك اللغة. قوله: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} تقول بينهما" ثبت لأبي ذر، وهو قول أبي عبيدة، وقراءة الجمهور بالتشديد، ويعقوب وعيسى بن عمر بالتخفيف. قوله: "هنالك الولاية مصدر ولي الولي ولاء" كذا لأبي ذر وللباقين "مصدر الولي" وهو أصوب، وهو قول أبي عبيدة قاله في تفسير سورة البقرة، وقرأ الجمهور بفتح الواو، والأخوان بكسرها، وأنكره أبو عمرو والأصمعي لأن الذي بالكسر الإمارة ولا معنى له هنا. وقال غيرهما: الكسر لغة بمعني الفتح كالدلالة بفتح دالها وكسرها بمعنى.
" تنبيه " : يأتي قوله: {وَخَيْرٌ عُقْباً} في الدعوات. قوله: "قبلا وقبلا وقبل استثنافا" قال أبو عبيدة في قوله: {وْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} أي أولا، فإن فتحوا أولها فالمعنى استئنافا، وغفل ابن التين فقال: لا أعرف للاستئناف هنا معنى، وإنما هو استقبالا، وهو يعود على قبلا بفتح القاف، انتهى. والمؤتنف قريب من المقبل فلا معنى لا دعاء تفسيره. قوله: {لِيُدْحِضُوا} ليزيلوا، الدحض الزلق "قال أبو عبيدة في قوله:

(8/408)


{لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} : أي ليزيلوا، يقال: مكان دحض أي مزل مزلق لا يثبت فيه خف ولا حافر.

(8/409)


2- باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} زَمَانًا وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ
4725- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ قَالَ تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا فَنَامَا وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتَهُمَا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَا الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا فَقَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا قَالَ رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى ثَوْبًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَقَالَ الْخَضِرُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ قَالَ أَنَا مُوسَى قَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لاَ أَعْلَمُهُ فَقَالَ مُوسَى سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُمْ بِغَيْرِ نَوْلٍ فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلاَّ وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى قَوْمٌ قَدْ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي

(8/409)


بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا قَالَ وَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَكَانَتْ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا قَالَ وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ ثُمَّ خَرَجَا مِنْ السَّفِينَةِ فَبَيْنَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلاَمًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا قَالَ وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنْ الأُولَى قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ قَالَ مَائِلٌ فَقَامَ الْخَضِرُ فَأَقَامَهُ بِيَدِهِ فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ إِلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا" قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا وَكَانَ يَقْرَأُ وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْن"
قوله: "باب قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} اختلف في مكان مجمع البحرين، فروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: بحر فارس والروم، وعن الربيع بن أنس مثله أخرجه عبد بن حميد، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: هما الكر والرس حيث يصبان في البحر. قال ابن عطية: مجمع البحرين ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان يخرج من البحر المحيط من شماليه إلى جنوبيه وطرفيه مما يلي بر الشام. وقيل هما بحر الأردن والقلزم. وقال محمد بن كعب القرظي: مجمع البحرين بطنجة. وعن ابن المبارك قال: قال بعضهم: بحر أرمينية. وعن أبي بن كعب قال: بإفريقية أخرجهما ابن أبي حاتم لكن السند إلى أبي بن كعب ضعيف. وهذا اختلاف شديد. وأغرب من ذلك ما نقله القرطبي عن ابن عباس قال: المراد بمجمع البحرين اجتماع موسى والخضر لأنهما بحرا علم، وهذا غير ثابت ولا يقتضيه اللفظ، وإنما يحسن أن يذكر في مناسبة اجتماعهما بهذا المكان المخصوص، كما قال السهيلي: اجتمع البحران بمجمع البحرين. قوله: "أو أمضى حقبا زمانا، وجمعه أحقاب" هو قول أبي عبيدة قال: ويقال فيه أيضا حقبة أي بكسر أوله والجمع حقب. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الحقب الزمان. وعن ابن: عباس: الحقب الدهر. وعن سعيد بن جبير: الحقب الحين أخرجهما ابن المنذر. وجاء تقديره عن غيرهم، فروى ابن المنذر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه ثمانون سنة، وروى عبد بن حميد عن مجاهد أنه سبعون. ثم ذكر المصنف قصة موسى والخضر، وسأذكر شرح ذلك في الباب الذي يليه.

(8/410)


باب {فلما بلغ مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا}
...
3- باب {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} مَذْهَبًا يَسْرُبُ يَسْلُكُ وَمِنْهُ {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}

(8/410)


4726- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَغَيْرُهُمَا قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِهِ إِذْ قَالَ سَلُونِي قُلْتُ أَيْ أَبَا عَبَّاسٍ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ بِالْكُوفَةِ رَجُلٌ قَاصٌّ يُقَالُ لَهُ نَوْفٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَّا عَمْرٌو فَقَالَ لِي قَالَ قَدْ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ وَأَمَّا يَعْلَى فَقَالَ لِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَم قَالَ ذَكَّرَ النَّاسَ يَوْمًا حَتَّى إِذَا فَاضَتْ الْعُيُونُ وَرَقَّتْ الْقُلُوبُ وَلَّى فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِي الأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ قَالَ لاَ فَعَتَبَ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ قِيلَ بَلَى قَالَ أَيْ رَبِّ فَأَيْنَ قَالَ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ قَالَ أَيْ رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلَمًا أَعْلَمُ ذَلِكَ بِهِ فَقَالَ لِي عَمْرٌو قَالَ: حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ وَقَالَ لِي يَعْلَى قَالَ: خُذْ نُونًا مَيِّتًا حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ فَقَالَ لِفَتَاهُ لاَ أُكَلِّفُكَ إِلاَّ أَنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ قَالَ مَا كَلَّفْتَ كَثِيرًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} يُوشَعَ بْنِ نُونٍ -لَيْسَتْ عَنْ سَعِيدٍ- قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ فِي مَكَانٍ ثَرْيَانَ إِذْ تَضَرَّبَ الْحُوتُ وَمُوسَى نَائِمٌ فَقَالَ فَتَاهُ لاَ أُوقِظُهُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ وَتَضَرَّبَ الْحُوتُ حَتَّى دَخَلَ الْبَحْرَ فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْبَحْرِ حَتَّى كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ -قَالَ لِي عَمْرٌو هَكَذَا كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ وَحَلَّقَ بَيْنَ إِبْهَامَيْهِ وَاللَّتَيْنِ تَلِيَانِهِمَا- {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} قَالَ قَدْ قَطَعَ اللَّهُ عَنْكَ النَّصَبَ -لَيْسَتْ هَذِهِ عَنْ سَعِيدٍ- أَخْبَرَهُ فَرَجَعَا فَوَجَدَا خَضِرًا قَالَ لِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ -قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ وَطَرَفَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ- فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ هَلْ بِأَرْضِي مِنْ سَلاَمٍ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا مُوسَى قَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَا شَأْنُكَ قَالَ جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ يَا مُوسَى إِنَّ لِي عِلْمًا لاَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْلَمَهُ وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْلَمَهُ فَأَخَذَ طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ مِنْ الْبَحْرِ وَقَالَ وَاللَّهِ مَا عِلْمِي وَمَا عِلْمُكَ فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمِنْقَارِهِ مِنْ الْبَحْرِ حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ وَجَدَا مَعَابِرَ صِغَارًا تَحْمِلُ أَهْلَ هَذَا السَّاحِلِ إِلَى أَهْلِ هَذَا السَّاحِلِ الْآخَرِ عَرَفُوهُ فَقَالُوا عَبْدُ اللَّهِ الصَّالِحُ قَالَ قُلْنَا لِسَعِيدٍ خَضِرٌ قَالَ نَعَمْ لاَ نَحْمِلُهُ بِأَجْرٍ فَخَرَقَهَا وَوَتَدَ فِيهَا وَتِدًا قَالَ مُوسَى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} -قَالَ مُجَاهِدٌ مُنْكَرًا- قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا كَانَتْ

(8/411)


الأُولَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا {قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} {لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ} قَالَ يَعْلَى قَالَ سَعِيدٌ وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ غُلاَمًا كَافِرًا ظَرِيفًا فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} لَمْ تَعْمَلْ بِالْحِنْثِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا زَكِيَّةً زَاكِيَةً مُسْلِمَةً كَقَوْلِكَ غُلاَمًا زَكِيًّا فَانْطَلَقَا فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ سَعِيدٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَرَفَعَ يَدَهُ فَاسْتَقَامَ قَالَ يَعْلَى حَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدًا قَالَ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ سَعِيدٌ أَجْرًا نَأْكُلُهُ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ وَكَانَ أَمَامَهُمْ قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَزْعُمُونَ عَنْ غَيْرِ سَعِيدٍ أَنَّهُ هُدَدُ بْنُ بُدَدَ وَالْغُلاَمُ الْمَقْتُولُ اسْمُهُ يَزْعُمُونَ جَيْسُورٌ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا فَأَرَدْتُ إِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا لِعَيْبِهَا فَإِذَا جَاوَزُوا أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سَدُّوهَا بِقَارُورَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْقَارِ كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ وَكَانَ كَافِرًا فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينِهِ {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبَدِّلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} لِقَوْلِهِ {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} هُمَا بِهِ أَرْحَمُ مِنْهُمَا بِالأَوَّلِ الَّذِي قَتَلَ خَضِرٌ وَزَعَمَ غَيْرُ سَعِيدٍ أَنَّهُمَا أُبْدِلاَ جَارِيَةً وَأَمَّا دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فَقَالَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ إِنَّهَا جَارِيَة"
قوله: "باب قوله: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} ووقع في رواية الأصيلي: "فلما بلغ مجمع بينهما" والأول هو الموافق للتلاوة. قوله: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} : مذهبا، يسرب يسلك. ومنه: وسارب بالنهار" قال أبو عبيده في قوله تعالى: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} أي مسلكا ومذهبا يسرب فيه، وفي آية أخرى {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} وقال أيضا في قوله: {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} : سالك في سربه أى مذهبه، ومنه أصبح فلان آمنا في سربه، ومنه انسرب فلان إذا مضى. قوله: "يزيد أحدهما على صاحبه" يستفاد بيان زيادة أحدهما على الآخر من الإسناد الذي قبله، فإن الأول من رواية سفيان عن عمرو بن دينار فقط وهو أحد شيخي ابن جريج فيه. قوله: "وغيرهما قد سمعته يحدثه" أي يحدث الحديث المذكور، وعداه بغير الباء. ووقع في رواية الكشميهني يحدث بحذف المفعول، وقد عين ابن جريج بعض من أبهمه كعثمان بن أبي سليمان، وروى شيئا من هذه القصة عن سعيد بن جبير من مشايخ ابن جريج عبد الله بن عثمان بن خثيم وعبد الله بن هرمز وعبد الله بن عبيد بن عمير، وممن روى هذا الحديث عن سعيد بن جبير أبو إسحاق السبيعي وروايته عند مسلم وأبي داود وغيرهما، والحكم بن عتيبة وروايته في السيرة الكبرى لابن إسحاق، وسأذكر بيان ما في رواياتهم من فائدة. قوله: "إذ قال: سلوني" فيه جواز قول العالم ذلك، ومحله إذا أمن العجب أو دعت الضرورة إليه كخشية نسيان العلم.
قوله: "أي أبا عباس" هي كنية عبد الله بن عباس. وقوله: "جعلني الله فداءك" فيه حجة لمن أجاز ذلك خلافا لمن منعه، وسيأتي البحث فيه في كتاب الأدب. قوله: "إن بالكوفة رجلا قاصا" في رواية الكشميهني: "بالكوفة رجل قاص" بحذف إن من أوله، والقاص بتشديد المهملة الذي يقص على الناس الأخبار من المواعظ وغيرها. قوله: "يقال له نوف" بفتح النون وسكون الواو

(8/412)


بعدها فاء. وفي رواية سفيان "أن نوفا البكالي" وهو بكسر الموحدة مخففا وبعد الألف لام، ووقع عند بعض رواة مسلم بفتح أوله والتشديد والأول هو الصواب، واسم أبيه فضالة بفتح الفاء وتخفيف المعجمة، وهو منسوب إلى بني بكال بن دعمي بن سعد بن عوف بطن من حمير، ويقال إنه ابن امرأة كعب الأحبار وقيل ابن أخيه وهو تابعي صدوق. وفي التابعين جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة ابن نوف البكيلي بفتح الموحدة وكسر الكاف مخففا بعدها تحتانية بعدها لام منسوب إلى بكيل بطن من همدان، ويكني أبا الوداك بتشديد الدال، وهو مشهور بكنيته، ومن زعم أن ولد نوف البكالي فقد وهم. قوله: "يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل" في رواية سفيان يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. ووقع في رواية ابن إسحاق عن سعيد بن جبير عند النسائي قال: "كنت عند ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب فقال بعضهم: يا أبا عباس إن نوفا يزعم عن كعب الأحبار أن موسى الذي طلب العلم إنما هو موسى بن ميشا أي ابن أفرائيم بن يوسف عليه السلام، فقال ابن عباس: أسمعت ذلك منه يا سعيد؟ قلت: نعم. قال: كذب نوف" وليس بين الروايتين تعارض لأنه يحمل على أن سعيدا أبهم نفسه في هذه الرواية ويكون قوله: فقال بعضهم أي بعض الحاضرين، لا أهل الكتاب، ووقع عند مسلم من هذا الوجه" قيل لابن عباس" بدل قوله: "فقال بعضهم" وعند أحمد في رواية أبي إسحاق" وكان ابن عباس متكئا فاستوى جالسا وقال: أكذاك يا سعيد؟ قلت: نعم أنا سمعته" وقال ابن إسحاق في "المبتدا" : كان موسى بن ميشا قبل موسى بن عمران نبيا في بني إسرائيل، ويزعم أهل الكتاب أنه الذي صحب الخضر. قوله: "أما عمرو" ابن دينار "قال لي: كذب عدو الله" أراد ابن جريج أن هذه الكلمة وقعت في رواية عمرو بن دينار دون رواية يعلى بن مسلم، وهو كما قال، فإن سفيان رواها أيضا عن عمرو بن دينار كما مضى، وسقط ذلك من رواية يعلى بن مسلم. وقوله: كذب وقوله: عدو الله محمولان على إرادة المبالغة في الزجر والتنفير عن تصديق تلك المقالة، وقد كانت هذه المسألة دارت أولا بين ابن عباس والحر بن قيس الفزاري وسألا عن ذلك أبي بن كعب، لكن لم يفصح في تلك الرواية ببيان ما تنازعا فيه، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب العلم. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية سفيان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "قال: ذكر" هو بتشديد الكاف أي وعظهم. وفي رواية ابن إسحاق عند النسائي: "فذكرهم بأيام الله. وأيام الله نعماؤه" ولمسلم من هذا الوجه "يذكرهم بأيام الله وآلاء الله نعماؤه وبلاؤه" وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في تفسير سورة إبراهيم. وفي رواية سفيان "قام خطيبا في بني إسرائيل" . قوله: "حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب" يظهر لي إن هذا القدر من زيادة يعلى بن مسلم على عمرو بن دينار، لأن ذلك لم يقع في رواية سفيان عن عمرو وهو أثبت الناس فيه، وفيه أن الواعظ إذا أثر وعظه في السامعين فخشعوا وبكوا ينبغي أن يخفف لئلا يملوا. قوله: "فأدركه رجل" لم أقف على اسمه، وهو يقتضي أن السؤال عن ذلك وقع بعد أن فرغ من الخطبة وتوجه، ورواية سفيان توهم أن ذلك وقع في الخطبة، لكن يمكن حملها على هذه الرواية، فإن لفظه: "قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل" فتحمل على أن فيه حذفا تقديره: قام خطيبا فخطب ففرغ فتوجه فسئل، والذي يظهر أن السؤال وقع وموسى بعد لم يفارق المجلس، ويؤيده أن في منازعة ابن عباس والحر بن قيس "بينما موسى في ملأ بني إسرائيل جاءه رجل فقال: هل تعلم أحدا أعلم منك" الحديث. قوله: "هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا" في رواية سفيان "فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا" وبين الروايتين فرق،

(8/413)


لأن رواية سفيان تقتضي الجزم بالأعلمية له ورواية الباب تنفي الأعلمية عن غيره عليه فيبقى احتمال المساواة، ويؤيد رواية الباب أن في قصة الحر بن قيس "فقال: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: لا" وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فقال: ما أعلم في الأرض رجلا خيرا وأعلم مني، فأوحى الله إليه: إني أعلم بالخير عند من هو، وإن في الأرض رجلا هو أعلم منك" وقد تقدم في كتاب العلم البحث عما يتعلق بقوله: "فعتب الله عليه" وهذا اللفظ في العلم، ووقع هنا "فعتب" بحذف الفاعل، وقوله في رواية الباب: "قيل بلى" وقع في رواية سفيان" فأوحى الله إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك" وفي قصة الحر بن قيس "فأوحى الله إلى موسى" بلى عبدنا خضر" وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم: "أن في الأرض رجلا هو أعلم منك" وعند عبد بن حميد من طريق هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس "أن موسى قال: أي رب، أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، قال: من هو وأين هو؟ قال: الخضر، تلقاه عند الصخرة" وذكر له حليته. وفي هذه القصة "وكان موسى حدث نفسه بشيء من فضل علمه أو ذكره على منبره" وتقدم في كتاب العلم شرح هذه اللفظة وبيان ما فيها من إشكال والجواب عنه مستوفى. ووقع في رواية أبي إسحاق عند النسائي: "أن من عبادي من آتيته من العلم ما لم أوتك" وهو يبين المراد أيضا. وعند عبد بن حميد من طريق أبي العالية ما يدل على أن الجواب وقع في نفس موسى قبل أن يسأل ولفظه: "لما أوتي موسى التوراة وكلمه الله وجد في نفسه أن قال من أعلم مني" ونحوه عند النسائي من وجه آخر عن ابن عباس وأن ذلك وقع في حال الخطبة ولفظه: "قام موسى خطيبا في بني إسرائيل فأبلغ في الخطبة، فعرض في نفسه أن أحدا لم يؤت من العلم ما أوتي" . قوله: "قال: أي رب فأين" في رواية سفيان "قال: يا رب فكيف لي به" وفي رواية النسائي المذكورة" قال: فادللني على هذا الرجل حتى أتعلم منه" . قوله: "اجعل لي علما" بفتح العين واللام أي علامة، وفي قصة الحر بن قيس: فجعل الله له الحوت آية" وفي رواية سفيان "فكيف لي به" وفي قصة الحر بن قيس "فسأل موسى السبيل إلى لقيه" . قوله: "أعلم ذلك به" أي المكان الذي أطلب فيه. قوله: "فقال لي عمرو" هو ابن دينار، والقائل هو ابن جريج. قوله: "قال: حيث يفارقك الحوت" يعني فهو ثم، وقع ذلك مفسرا في رواية سفيان عن عمرو قال: "تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل، فحيث ما فقدت الحوت فهو ثم" ونحوه في قصة الحر بن قيس ولفظه: "وقيل له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه" . قوله: "وقال لي يعلى" هو ابن مسلم، والقائل أيضا هو ابن جريج. قوله: "قال: خذ حوتا" في رواية الكشميهني: "نونا" وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فقيل له تزود حوتا مالحا، فإنه حيث تفقد الحوت" ويستفاد من هذه الرواية أن الحوت كان ميتا لأنه لا يملح وهو حي، ومنه تعلم الحكمة في تخصيص الحوت دون غيره من الحيوانات لأن غيره لا يؤكل ميتا، ولا يرد الجراد لأنه قد يفقد وجوده لا سيما بمصر. قوله: "حيث ينفخ فيه الروح" هو بيان لقوله في الروايات الأخرى: "حيث تفقده" . قوله: "فأخذ حوتا فجعله في مكتل" في رواية الربيع بن أنس عند ابن أبي حاتم أنهما اصطاداه، يعني موسى وفتاه. قوله: "فقال لفتاه" في رواية سفيان "ثم انطلق وانطلق معه بفتاه" . قوله: "ما كلفت كثيرا" للأكثر بالمثلثة وللكشميهني بالموحدة. قوله. "فلذلك قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} يوشع بن نون، ليست عن سعيد" القائل ليست عن سعيد هو ابن جريج، ومراده أن تسمية الفتى ليست عنده في رواية سعيد بن جبير، ويحتمل أن يكون الذي نفاه صورة السياق لا التسمية فإنها وقعت في رواية سفيان عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير ولفظه: "ثم انطلق

(8/414)


وانطلق معه فتاه يوشع بن نون" وقد تقدم بيان نسب يوشع في أحاديث الأنبياء، وأنه الذي قام في بني إسرائيل بعد موت موسى، ونقل ابن العربي أنه كان ابن أخت موسى، وعلى القول الذي نقله نوف بن فضالة من أن موسى صاحب هذه القصة ليس هو ابن عمران فلا يكون فتاه يوشع بن نون، وقد روى الطبري من طريق عكرمة قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكر من حين لقي الخضر، فقال ابن عباس: إن الفتى شرب من الماء الذي شرب منه الحوت فخلد، فأخذه العالم فطابق به بين لوحين ثم أرسله في البحر فإنها لتموج به إلى يوم القيامة، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه. قال أبو نصر بن القشيري: إن ثبت هذا فليس هو يوشع. قلت: لم يثبت، فإن إسناده ضعيف. وزعم ابن العربي أن ظاهر القرآن يقتضي أن الفتى ليس هو يوشع، وكأنه أخذ بن لفظ الفتى أو أنه خاص بالرقيق، وليس بجيد لأن الفتى مأخوذ من الفتى وهو الشباب، وأطلق ذلك على من يخدم المرء سواء كان شابا أو شيخا، لأن الأغلب أن الخدم تكون شبانا. قوله: "فبينما هو في ظل صخرة" في رواية سفيان "حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما" . قوله: "في مكان ثريان" بمثلثة مفتوحة وراء ساكنة ثم تحتانية أي مبلول. قوله: "إذ تضرب الحوت" بضاد معجمة وتشديد وهو تفعل من الضرب في الأرض وهو السير. وفي رواية سفيان "واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر" وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فاضطرب الحوت في الماء" ولا مغايرة بينهما، لأنه اضطرب أولا في المكتل فلما سقط في الماء اضطرب أيضا، فاضطرابه الأول فيما في مبدأ ما حيي، والثاني في سيره في البحر حيث اتخذ فيه مسلكا. وفي رواية قتيبة عن سفيان في الباب الذي يليه من الزيادة قال سفيان: وفي غير حديث عمرو "وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر" وحكى ابن الجوزي أن في روايته في البخاري "الحيا" بغير هاء قال: وهو ما يحيى به الناس، وهذه الزيادة التي ذكر سفيان أنها في حديث غير عمرو قد أخرجها ابن مردويه من رواية إبراهيم بن يسار عن سفيان مدرجة في حديث عمرو ولفظه: "حتى انتهينا إلى الصخرة فقال موسى عندها - أي نام - قال: وكان عند الصخرة عين ماء يقال لها: عين الحياة لا يصيب من ذلك الماء ميت إلا عاش، فقطرت من ذلك الماء على الحوت قطرة فعاش، وخرج من المكتل فسقط في البحر" وأظن أن ابن عيينة أخذ ذلك عن قتادة، فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريقه قال: "فأتى على عين في البحر يقال لها عين الحياة، فلما أصاب تلك العين رد الله روح الحوت إليه" وقد أنكر الداودي فيما حكاه ابن التين هذه الزيادة فقال: لا أرى هذا يثبت، فإن كان محفوظا فهو من خلق الله وقدرته. قال: لكن في دخول الحوت العين دلالة على أنه كان حيي قبل دخوله، فلو كان كما في هذا الخبر لم يحتج إلى العين. قال: والله قادر على أن يحييه بغير العين انتهى. قال: ولا يخفى ضعف كلامه دعوى واستدلالا، وكأنه ظن أن الماء الذي دخل فيه الحوت هو ماء العين، وليس كذلك بل الأخبار صريحة في أن العين عند الصخرة وهي غير البحر وكأن الذي أصاب الحوت من الماء كان شيئا من رشاش، ولعل هذا العين إن ثبت النقل فيها مستند من زعم أن الخضر شرب من عين الحياة فخلد، وذلك مذكور عن وهب بن منبه وغيره ممن كان ينقل من الإسرائيليات. وقد صنف أبو جعفر بن المنادي في ذلك كتابا وقرر أنه لا يوثق بالنقل فيما يوجد من الإسرائيليات. قوله: "وموسى نائم، فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ فنسي أن يخبره" في الكلام حذف تقديره حتى إذا استيقظ سار فنسي. وأما قوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} فقيل نسب

(8/415)


النسيان إليهما تغليبا، والناسي هو الفتى، نسي أن يخبر موسى كما في هذا الحديث. وقيل: بل المراد أن الفتى نسي أن يخبر موسى بقصة الحوت، ونسي موسى أن يستخبره عن شأن الحوت بعد أن استيقظ لأنه حينئذ لم يكن معه وكان بصدد أن يسأله أين هو فنسي ذلك. وقيل: بل المراد بقوله: "نسيا" أخرا، مأخوذ من النسي بكسر النون وهو التأخير، والمعنى أنهما أخرا افتقاده لعدم الاحتياج إليه، فلما احتاجا إليه ذكراه. وهو بعيد، بل صريح الآية يدل على صحة صريح الخبر، وأن الفتى اطلع على ما جرى للحوت ونسي أن يخبر موسى بذلك. ووقع عند مسلم في رواية أبي إسحاق "أن موسى تقدم فتاه لما استيقظ فسار، فقال فتاه: ألا ألحق نبي الله فأخبر، قال: فنسي أن يخبره" وذكر ابن عطية أنه رأى سمكة أحد جانبيها شوك وعظم وجلد رقيق على أحشائها ونصفها الثاني صحيح، ويذكر أهل ذلك المكان أنها من نسل حوت موسى، إشارة إلى أنه لما حيي بعد أن أكل منه استمرت فيه تلك الصفة ثم في نسله، والله أعلم. قوله: "فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كان أثره في حجر" كذا فيه بفتح الحاء المهملة والجيم. وفي رواية جحر بضم الجيم وسكون المهملة وهو واضح. قوله: "قال لي عمرو" القائل هو ابن جريج "كأن أثره في حجر وحلق بين إبهاميه والتي" في رواية الكشميهني: "واللتين تليانهما" يعني السبابتين. وفي رواية سفيان عن عمرو "فصار عليه مثل الطاق" وهو يفسر ما أشار إليه من الصفة. وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فاضطرب الحوت في الماء فجعل لا يلتئم عليه، صار مثل الكوة" . قوله: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} كذا وقع هنا مختصرا. وفي رواية سفيان "فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا" قال الداودي: هذه الرواية وهم. وكأنه فهم أن الفتى لم يخبر موسى إلا بعد يوم وليلة، وليس ذلك المراد بل المراد أن ابتداءها من يوم خرجا لطلبه، ويوضح ذلك ما في رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فلما تجاوزا قال لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} قال: ولم يصبه نصب حتى تجاوزا" وفي رواية سفيان المذكورة "ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به" . قوله: "قال: قد قطع الله عنك النصب، ليست هذه عن سعيد" هو قول ابن جريج، ومراده أن هذه اللفظة ليست في الإسناد الذي ساقه. قوله: "أخره" كذا عند أبي ذر بهمزة ومعجمة وراء وهاء، ثم في نسخة منه بمد الهمزة وكسر الخاء وفتح الراء بعدها هاء ضمير أي إلى آخر الكلام وأحال ذلك على سياق الآية، وفي أخرى بفتحات وتاء تأنيث منونة منصوبة. وفي رواية غير أبي ذر "أخبره" بفتح الهمزة وسكون الخاء ثم موحدة من الإخبار، أي أخبر الفتى موسى بالقصة. ووقع في رواية سفيان "فقال له فتاه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} فساق الآية إلى "عجبا" قال: فكان للحوت سربا ولموسى عجبا" ولابن أبي حاتم من طريق قتادة قال: عجب موسى أن تسرب حوت مملح في مكتل. قوله: "فرجعا فوجدا خضرا" في رواية سفيان "فقال موسى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أي نطلب" وفي رواية للنسائي: "هذه حاجتنا" وذكر موسى ما كان الله عهد إليه يعني في أمر الحوت. قوله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} قال: رجعا يقصان آثارهما1 "أي آثار سيرهما" حتى انتهيا إلى الصخرة(1) "زاد النسائي في رواية له" التي فعل فيها الحوت ما فعل" وهذا يدل على أن الفتى لم يخبر موسى حتى سارا زمانا، إذ لو أخبره أول ما استيقظ ما احتاجا إلى اقتصاص آثارهما. قوله:
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: هكذا بالنسخ، وليست بالمتن هنا.

(8/416)


"فوجدا خضرا" تقدم ذكر نسبه وشرح حاله في أحاديث الأنبياء. وفي رواية سفيان "حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل" ، وزعم الداودي أن هذه الرواية وهم وأنهما إنما وجداه في جزيرة البحر. قلت: ولا مغايرة بين الروايتين، فإن المراد أنهما لما انتهيا إلى الصخرة تتبعاه إلى أن وجداه في الجزيرة. ووقع في رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فأراه مكان الحوت فقال: هاهنا وصف لي، فذهب يلتمس فإذا هو بالخضر" . وروى ابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس قال: انجاب الماء عن مسلك الحوت فصار كوة، فدخلها موسى على أثر الحوت فإذا هو بالخضر. وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: فرجع موسى حتى أتى الصخرة فوجد الحوت، فجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء ويتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يصير: صخرة، فجعل موسى يعجب من ذلك حتى انتهى إلى جزيرة في البحر فلقي الخضر. ولابن أبي حاتم من طريق السدي قال: بلغنا عن ابن عباس أن موسى دعا ربه ومعه ماء في سقاء يصب منه في البحر فيصير حجرا فيأخذ فيه، حتى انتهى إلى صخر فصعدها وهو يتشوف هل يرى الرجل، ثم رآه. قوله: "قال لي عثمان بن أبي سليمان: على طنفسة خضراء" القائل هو ابن جريج، وعثمان هو ابن أبي سليمان بن جبير بن مطعم وهو ممن أخذ هذا الحديث عن سعيد بن جبير، وروى عبد بن حميد من طريق ابن المبارك عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان قال: رأى موسى الخضر على طنفسة خضراء على وجه الماء انتهى. والطنفسة فرش صغير وهي بكسر الطاء والفاء بينهما نون ساكنة وبضم الطاء والفاء وبكسر الطاء وبفتح الفاء لغات. قوله: "قال سعيد بن جبير: مسجى بثوبه" هو موصول بالإسناد المذكور. وفي رواية سفيان "فإذا رجل مسجى بثوب" وفي رواية مسلم: "مسجى ثوبا مستلقيا على القفا" ولعبد بن حميد من طريق أبي العالية "فوجده نائما في جزيرة من جزائر البحر ملتفا بكساء" ولابن أبي حاتم من وجه آخر عن السدي "فرأى الخضر وعليه جبة من صوف وكساء من صوف ومعه عصا قد ألقى عليها طعامه، قال: وإنما سمي الخضر لأنه كان إذا أقام في مكان نبت العشب حوله" انتهى. وقد تقدم في أحاديث الأنبياء حديث أبي هريرة رفعه: "إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء" والمراد بالفروة وجه الأرض. قوله: "فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه" في رواية أبي إسحاق عند مسلم: "فقال: السلام عليكم، فكشف الثوب عن وجهه وقال: وعليكم السلام" . قوله: "وقال: هل بأرضي من سلام" في رواية الكشميهني: "بأرض" بالتنوين. وفي رواية سفيان "قال: وأني بأرضك السلام" وهي بمعنى أين أو كيف، وهو استفهام استبعاد يدل على أن أهل تلك الأرض لم يكونوا إذ ذاك مسلمين، ويجمع بين الروايتين بأنه استفهمه بعد أن رد عليه السلام. قوله: "من أنت؟ قال أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم" وسقط من رواية سفيان قوله: "من أنت" وفي رواية أبي إسحاق "قال: من أنت؟ قال: موسى. قال: من موسى؟ قال: موسى بني إسرائيل" ويجمع بينهما بأن الخضر أعاد ذلك تأكيدا. وأما ما أخرجه عبد بن حميد من طريق الربيع بن أنس في هذه القصة. فقال موسى: السلام عليك يا خضر، فقال: وعليك السلام يا موسى، قال: وما يدريك أني موسى؟ قال: أدراني بك الذي أدراك بي وهذا إن ثبت فهو من الحجج على أن الخضر نبي، لكن يبعد ثبوته قوله في الرواية التي في الصحيح "من أنت؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل" الحديث. قوله: "قال: فما شأنك" في رواية أبي إسحاق "قال: ما جاء بك"؟ قوله: "جئت لتعلمني مما علمت رشدا" قرأ أبو عمرو بفتحتين والباقون كلهم بضم أوله وسكون ثانيه، والجمهور على أنهما

(8/417)


بمعنى كالبخل والبخل، وقيل بفتحتين: الدين، وبضم ثم سكون: صلاح النظر. وهو منصوب على أنه مفعول ثان لتعلمني، وأبعد من قال إنه لقوله: "علمت" . قوله: "أما يكفيك أن التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك" سقطت هذه الزيادة من رواية سفيان، فالذي يظهر أنها من رواية يعلى بن مسلم. قوله: "يا موسى إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه" أي جميعه "وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه" أي جميعه، وتقدير ذلك متعين لأن الخضر كان يعرف من الحكم الظاهر ما لا غني بالمكلف عنه، وموسى كان يعرف من الحكم الباطن ما يأتيه بطريق الوحي. ووقع في رواية سفيان "يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت" وهو بمعنى الذي قبله، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في كتاب العلم. قوله في رواية سفيان "قال: إنك لن تستطيع معي صبرا" كذا أطلق بالصيغة الدالة على استمرار النفي لما أطلعه الله عليه من أن موسى لا يصبر على ترك الإنكار إذا رأى ما يخالف الشرع، لأن ذلك شأن عصمته ولذلك لم يسأله موسى عن شيء من أمور الديانة بل مشى معه ليشاهد منه ما أطلع به على منزلته في العلم الذي اختص به. وقوله: "وكيف تصبر" استفهام عن سؤال تقديره: لم قلت إني لا أصبر وأنا سأصبر، قال: كيف تصبر؟ وقوله: "ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك" قيل. استثنى في الصبر فصبر ولم يستثن في العصيان فعصاه، وفيه نظر، وكأن المراد بالصبر أنه صبر عن اتباعه والمشي معه وغير ذلك، لا الإنكار عليه فيما يخالف ظاهر الشرع. وقوله: "فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا" في رواية العوفي عن ابن عباس "حتى أبين لك شأنه" . قوله: "فأخذ طائر بمنقاره" تقدم شرحه في كتاب العلم، وظاهر هذه الرواية أن الطائر نقر في البحر عقب قول الخضر لموسى ما يتعلق بعلمهما، ورواية سفيان تقتضي أن ذلك وقع بعدما خرق السفينة، ولفظه: "كانت الأولى من موسى نسيانا" قال: "وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر إلخ" فيجمع بأن قوله فأخذ طائر بمنقاره معقب بمحذوف وهو ركوبهما السفينة لتصريح سفيان بذكر السفينة، وروى النسائي من وجه آخر عن ابن عباس أن الخضر قال لموسى: "أتدري ما يقول هذا الطائر؟ قال: لا. قال: يقول: ما علمكما الذي تعلمان في علم الله إلا مثل ما أنقص بمنقاري من جميع هذا البحر" وفي رواية هارون بن عنترة عند عبد بن حميد في هذه القصة قال: "أرسل ربك الخطاف فجعل يأخذ بمنقاره من الماء" ولابن أبي حاتم من طريق السدي قال: الخطاف ولعبد بن حميد من طريق أبي العالية قال: رأى هذا الطائر الذي يقال له النمر، ونقل بعض من تكلم على البخاري أنه الصرد. قوله: "وجدا معابر" هو تفسير لقوله: {رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ} لا أن قوله: "وجدا" جواب "إذا" لأن وجودهما المعابر كان قبل ركوبهما السفينة. ووقع في رواية سفيان "فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرا في سفينة فكلموهم أن يحملوهم" والمعابر بمهملة وموحدة جمع معبر وهي السفن الصغار، ولابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس قال: "مرت بهم سفينة ذاهب فناداهم خضر" . قوله: "عرفوه فقالوا: عبد الله الصالح، قال: قلنا لسعيد بن جبير: خضر؟ قال. نعم" القائل فيما أظن يعلى بن مسلم. وفي رواية سفيان عن عمرو بن دينار "فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوا" . قوله: "بأجر" أي أجرة. وفي رواية سفيان "فحملوا بغير نول" بفتح النون وسكون الواو وهو الأجرة، ولابن أبي حاتم من رواية الربيع بن أنس "فناداهم خضر وبين لهم أن يعطي عن كل واحد ضعف ما حملوا به غيرهم، فقالوا لصاحبهم: إنا نرى رجالا في مكان مخوف نخشى أن يكونوا لصوصا، فقال: لأحملنهم، فإني أرى على وجوههم النور، فحملهم بغير أجرة" وذكر النقاش في تفسيره أن أصحاب السفينة

(8/418)


كانوا سبعة بكل واحد زمانة ليست في الآخر. قوله: "فخرقها ووتد فيها" بفتح الواو وتشديد المثناة أي جعل فيها وتدا. وفي رواية سفيان "فلما ركبوا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم" والجمع بين الروايتين أنه قلع اللوح وجعل مكانه وتدا، وعند عبد بن حميد من رواية ابن المبارك عن ابن جريج عن يعلى بن مسلم: "جاء بود حين خرقها" والود بفتح الواو وتشديد الدال لغة في الوتد. وفي رواية أبي العالية "فخرق السفينة فلم يره أحد إلا موسى، ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين ذلك" . قوله: "لقد جئت شيئا إمرا. قال مجاهد: منكرا" هو من رواية ابن جريج عن مجاهد، وقيل لم يسمع منه، وقد أخرجه عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله، وروى ابن أبي حاتم هن طريق خالد بن قيس عن قتادة في قوله: "إمرا" قال: عجبا ومن طريق أبي صخر في قوله: "إمرا" قال: عظيما. وفي رواية الربيع بن أنس عند ابن أبي حاتم "أن موسى لما رأى ذلك امتلأ غضبا وشد ثيابه وقال: أردت إهلاكهم، ستعلم أنك أول هالك. فقال له يوشع: ألا تذكر العهد؟ فأقبل عليه الخضر فقال: ألم أقل لك؟ فأدرك موسى الحلم فقال: لا تؤاخذني. وإن الخضر لما خلصوا قال لصاحب السفينة: إنما أردت الخير، فحمدوا رأيه، وأصلحها الله على يده" . قوله: "كانت الأولى نسيانا والوسطى شرطا والثالثة عمدا" في رواية سفيان قال: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكانت الأولى من موسى نسيانا" ولم يذكر الباقي، وروى ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس مرفوعا قال: "الأولى نسيان والثانية عذر والثالثة فراق" وعند ابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس قال: "قال الخضر لموسى: إن عجلت علي في ثلاث فذلك حين أفارقك" وروى الفراء من وجه آخر عن أبي بن كعب قال: "لم ينس موسى، ولكنه من معاريض الكلام" وإسناده ضعيف، والأول هو المعتمد، ولو كان هذا ثابتا لاعتذر موسى عن الثانية وعن الثالثة بنحو ذلك. قوله: "لقيا غلاما" في رواية سفيان "فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما" . قوله: "فقتله" الفاء عاطفة على لقيا وجزاء الشرط قال: أقتلت، والقتل من جملة الشرط إشارة إلى أن قتل الغلام يعقب لقاءه من غير مهلة، وهو بخلاف قوله: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} فإن الخرق وقع جواب الشرط لأنه تراخى عن الركوب. قوله: "قال يعلى" هو ابن مسلم وهو بالإسناد المذكور" قال سعيد "هو ابن جبير" وجد غلمانا يلعبون، فأخذ غلاما كافرا ظريفا" في رواية أخرى عن ابن جريج عند عبد بن حميد "غلاما وضيء الوجه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين" وفي رواية سفيان "فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله" وفي روايته في الباب الذي يليه "فقطعه" ويجمع بينهما بأنه ذبحه ثم اقتلع رأسه. وفي رواية أخرى عند الطبري "فأخذ صخرة فثلغ رأسه" وهي بمثلثة ثم معجمة، والأول أصح. ويمكن أن يكون ضرب رأسه بالصخرة ثم ذبحه وقطع رأسه. قوله: "قال: أقتلت نفسا زكية بغير نفس لم تعمل الحنث" بكسر المهملة وسكون النون وآخره مثلثة، ولأبي ذر بفتح المعجمة والموحدة، وقوله: "لم تعمل" تفسير لقوله: "زكية" والتقدير: أقتلت نفسا زكية لم تعمل الحنث بغير نفس. قوله: "وابن عباس قرأها" كذا لأبي ذر ولغيره: "وكان ابن عباس يقرأها زكية" وهي قراءة الأكثر، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو زاكية، والأولى أبلغ لأن فعيلة من صيغ المبالغة. قوله: "زاكية مسلمة كقولك غلاما زاكيا" هو تفسير من الراوي، ويشير إلى القراءتين، أي أن قراءة ابن عباس بصيغة المبالغة والقراءة الأخرى باسم الفاعل بمعني مسلمة، وإنما أطلق ذلك على موسى على حسب ظاهر حال الغلام، لكن اختلف في ضبط "مسلمة" فالأكثر بسكون السين وكسر اللام، ولبعضهم بفتح السين

(8/419)


وتشديد اللام المفتوحة، وزاد سفيان في روايته هنا {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} قال: وهذه أشد من الأولى، زاد مسلم من رواية أبي إسحاق عن سعيد بن جبير في هذه القصة" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رحمة الله علينا وعلى موسى، لولا أنه عجل لرأى العجب، ولكنه أخذته ذمامة من صاحبه فقال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني" ولابن مردويه من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير عن سعيد بن جبير "فاستحيا عند ذلك موسى وقال: إن سألتك عن شيء بعدها" وهذه الزيادة وقع مثلها في رواية عمرو بن دينار من رواية سفيان في آخر الحديث: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى صبر حني يقص الله علينا من أمرهما" زاد الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن سفيان "أكثر مما قص" قوله: "فانطلقا فوجدا جدارا" في رواية سفيان "فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية" وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم: "أهل قرية لئاما. فطافا في المجالس فاستطعما أهلها" قيل هي الأبلة وقيل إنطاكية وقيل أذربيجان وقيل برقة وقيل ناصرة وقيل جزيرة الأندلس، وهذا الاختلاف قريب من الاختلاف في المراد بمجمع البحرين، وشدة المباينة في ذلك تقتضي أن لا يوثق بشيء من ذلك. قوله: "قال سعيد بيده هكذا ورفع يده فاستقام" هو من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار عن سعيد، ولهذا قال بعده "قال يعلى هو ابن مسلم حسبت أن سعيدا قال: فمسحه بيده فاستقام" وفي رواية سفيان "فوجدا جدارا يريد أن ينقض - قال مائل - فقال الخضر بيده فأقامه" وذكر الثعلبي أن عرض ذلك الجدار كان خمسين ذراعا في مائة ذراع بذراعهم. قوله: "قال: لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال سعيد: أجرا نأكله" زاد سفيان في روايته: "فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا" وفي رواية أبي إسحاق "قال: هذا فراق بيني وبينك، فأخذ موسى بطرف ثوبه فقال: حدثني" وذكر الثعلبي أن الخضر قال لموسى: أتلومني على خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، ونسيت نفسك حين ألقيت في البحر، وحين قتلت القبطي، وحين سقيت أغنام ابنتي شعيب احتسابا. قوله: "وكان وراءهم ملك، وكان أمامهم، قرأها ابن عباس أمامهم ملك" وفي رواية سفيان "وكان ابن عباس يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا" وقد تقدم الكلام في "وراء" في تفسير إبراهيم. قوله: "يزعمون عن غير سعيد أنه هدد بن بدد" القائل ذلك هو ابن جريج، ومراده أن تسمية الملك الذي كان يأخذ السفن لم تقع في رواية سعيد. قلت: وقد عزاه ابن خالويه في "كتاب ليس" لمجاهد؛ قال: وزعم ابن دريد أن هدد اسم ملك من ملوك حمير زوجه سليمان بن داود بلقيس. قلت: إن ثبت هذا حمل على التعدد والاشتراك في الاسم لبعد ما بين مدة موسى وسليمان، وهدد في الروايات بضم الهاء وحكى ابن الأثير فتحها والدال مفتوحة اتفاقا، ووقع عند ابن مردويه بالميم بدل الهاء، وأبوه بدد بفتح الموحدة، وجاء في "تفسير مقاتل" أن اسمه منولة بن الجلندي بن سعيد الأزدي، وقيل: هو الجلندي وكان بجزيرة الأندلس. قوله: "الغلام المقتول اسمه يزعمون حيسور" القائل ذلك هو ابن جريج، وحيسور في رواية أبي ذر عن الكشميهني بفتح المهملة أوله ثم تحتانية ساكنة ثم مهملة مضمومة وكذا في رواية ابن السكن، وفي روايته عن غيره بجيم أوله، وعند القابسي بنون بدل التحتانية، وعند عبدوس بنون بدل الراء، وذكر السهيلي أنه رآه في نسخة بفتح المهملة والوحدة ونونين الأولى مضمومة بينهما الواو الساكنة، وعند الطبري من طريق شعيب الجبائي كالقابسي، وفي "تفسير الضحاك بن مزاحم" اسمه حشرد، ووقع في تفسير الكلبي اسم الغلام شمعون. قوله: {مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} في رواية النسائي: "وكان

(8/420)


أبي يقرأ يأخذ كل سفينة صالحة غصبا" وفي رواية إبراهيم بن يسار عن سفيان "وكان ابن مسعود يقرأ كل سفينة صحيحة غصبا" . قوله: "فأردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها" في رواية النسائي: "فأردت أن أعيبها حتى لا يأخذها" . قوله: "فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها" في رواية النسائي: "فإذا جاوزوه رقعوها فانتفعوا بها وبقيت لهم" . قوله: "ومنهم من يقول سدوها بقارورة، ومنهم من يقول بالقار" أما القار فهو بالقاف وهو الزفت، وأما قارورة فضبطت في الروايات بالقاف، لكن في رواية ابن مردويه ما يدل على أنها بالفاء لأنه وقع في روايته: "ثارورة" بالمثلثة والمثلثة تقع في موضع الفاء في كثير من الأسماء ولا تقع بدل القاف، قال الجوهري: يقال فار فورة مثل ثار ثورة، فإن كان محفوظا فلعله فاعولة من ثوران القدر الذي يغلي فيها القار أو غيره، وقد وجهت رواية القارورة بالقاف بأنها فاعولة من القار، وأما التي من الزجاج فلا يمكن السد بها، وجوز الكرماني احتمال أن يسحق الزجاج ويلت بشيء ويلصق به ولا يخفى بعده، ووقع في رواية مسلم: "وأصلحوها بخشبة" ولا إشكال فيها. قوله: "كان أبواه مؤمنين وكان كافرا" يعني الغلام المقتول، في رواية سفيان "وأما الغلام فطبع يوم طبع كافرا، وكان أبواه قد عطفا عليه" وفي "المبتدأ لوهب بن منبه" كان اسم أبيه ملاس واسم أمه رحما، وقيل اسم أبيه كاردي واسم أمه سهوى. قوله: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} : أن يحملها حبه على أن يتابعاه على دينه" هذا من تفسير ابن جريج عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير. وأخرج ابن المنذر من طريق سالم الأفطس عن سعيد بن جبير مثله. وقال أبو عبيدة في قوله: {يُرْهِقَهُمَا} أي يغشاهما. قوله: {خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} لقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} يعني أن قوله زكاة ذكر للمناسبة المذكورة. وروى ابن المنذر من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج في قوله: {خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً} قال: إسلاما. ومن طريق عطية العوفي قال: دينا. قوله: "وأقرب رحما هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر" وروى ابن المنذر من طريق إدريس الأودي عن عطية نحوه. وعن الأصمعي قال: الرحم بكسر الحاء القرابة، وبسكونها فرج الأنثى، وبضم الراء ثم السكون الرحمة. وعن أبي عبيد القاسم بن سلام: الرحم والرحم - يعني بالضم والفتح مع السكون فيهما - بمعني، وهو مثل العمر والعمر، وسيأتي قوله: "رحما" في الباب الذي بعده أيضا. قوله: "وزعم غير سعيد أنهما أبدلا جارية" هو قول ابن جريج، وروى ابن مردويه من وجه آخر عن ابن جريج قال. وقال يعلى بن مسلم أيضا عن سعيد بن جبير: إنها جارية. وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه، قال: ويقال أيضا عن سعيد بن جبير: إنها جارية. وللنسائي من طريق أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "فأبدلهما ربهما خيرا منه زكاة قال: أبدلهما جارية فولدت نبيا من الأنبياء" وللطبري من طريق عمرو بن قيس نحوه، ولابن المنذر من طريق بسطام بن حميل قال: أبدلهما مكان الغلام جارية ولدت نبيين، ولعبد بن حميد من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة: ولدت جارية، ولابن أبي حاتم من طريق السدي قال: ولدت جارية فولدت نبيا، وهو الذي كان بعد موسى فقالوا له: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، واسم هذا النبي شمعون، واسم أمه حنة. وعند ابن مردويه من حديث أبي بن كعب أنها ولدت غلاما، لكن إسناده ضعيف. وأخرجه ابن المنذر بإسناد حسن عن عكرمة عن ابن عباس نحوه. وفي تفسير ابن الكلبي: ولدت جارية ولدت عدة أنبياء فهدى الله بهم أمما. وقيل عدة من جاء من ولدها من الأنبياء سبعون نبيا. قوله: "وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد: إنها جارية" هو قول ابن جريج أيضا. وروى الطبري من طريق حجاج

(8/421)


بن محمد عن ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن يعقوب بن عاصم أنهما أبدلا جارية. قال: وأخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير: أنها جارية. قال ابن جريج: وبلغني أن أمه يوم قتل كانت حبلى بغلام. ويعقوب بن عاصم هو أخو داود وهما ابنا عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي وكل منهما ثقة من صغار التابعين. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: استحباب الحرص على الازدياد من العلم، - والرحلة فيه، ولقاء المشايخ وتجشم المشاق في ذلك، والاستعانة في ذلك بالأتباع، وإطلاق الفتى على التابع، واستخدام الحر، وطواعية الخادم لمخدومه وعذر الناسي، وقبول الهبة من غير المسلم. واستدل به على أن الخضر نبي لعدة معان قد نبهت عليها فيما تقدم كقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وكاتباع موسى رسول الله له ليتعلم منه، وكإطلاق أنه أعلم منه، وكإقدامه على قتل النفس لما شرحه بعد وغير ذلك. وأما من استدل به على جواز دفع أغلظ الضررين بأخفهما، والإغضاء على بعض المنكرات مخافة إن يتولد منه ما هو أشد، وإفساد بعض المال لإصلاح معظمه كخصاء البهيمة للسمن وقطع أذنها لتتميز، ومن هذا مصالحة ولي اليتيم السلطان على بعض مال اليتيم خشية ذهابه بجميعه فصحيح، لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع، فلا يسوغ الأقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفسا كثيرة قبل أن يتعاطى شيئا من ذلك. وإنما فعل الخضر ذلك لاطلاع الله تعالى عليه. وقال ابن بطال: قول الخضر: وأما الغلام فكان كافرا هو باعتبار ما يؤول إليه أمره أن لو عاش حتى يبلغ، واستحباب مثل هذا القتل لا يعلمه إلا الله، ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء قبل البلوغ وبعده انتهى. ويحتمل أن يكون جواز تكليف المميز قبل أن يبلغ كان في تلك الشريعة فيرتفع الإشكال. وفيه جواز الإخبار بالتعب ويلحق به الألم من مرضى ونحوه، ومحل ذلك إذا كان على غير سخط من المقدور، وفيه أن المتوجه إلى ربه يعان فلا يسرع إليه النصب والجوع، بخلاف المتوجه إلى غيره كما في قصة موسى في توجهه إلى ميقات ربه وذلك في طاعة ربه فلم ينقل عنه أنه تعب ولا طلب غداء ولا رافق أحدا، وأما في توجهه إلى مدين فكان في حاجة نفسه فأصابه الجوع، وفي توجهه إلى الخضر لحاجة نفسه أيضا فتعب وجاع. وفيه جواز طلب القوت وطلب الضيافة، وفيه قيام العذر بالمرة الواحدة وقيام الحجة بالثانية، قال ابن عطية: يشبه أن يكون هذا أصل مالك في ضرب الآجال في الأحكام إلى ثلاثة أيام، وفي التلوم ونحو ذلك. وفيه حسن الأدب مع الله وأن لا يضاف إليه ما يستهجن لفظه وإن كان الكل بتقديره وخلقه لقول الخضر عن السفينة {أَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} وعن الجدار "فأراد ربك" ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "والخير بيدك، والشر ليس إليك" .

(8/422)


4- باب {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} إلى قوله {قَصَصًا} صُنْعًا عَمَلاً حِوَلاً تَحَوُّلاً قَالَ {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} إِمْرًا وَ نُكْراً دَاهِيَةً يَنْقَضَّ يَنْقَاضُ كَمَا تَنْقَاضُ السِّنُّ لَتَخِذْتَ وَاتَّخَذْتَ وَاحِدٌ رُحْمًا مِنْ الرُّحْمِ وَهِيَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنْ الرَّحْمَةِ وَنَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ الرَّحِيمِ وَتُدْعَى مَكَّةُ أُمَّ رُحْمٍ أَيْ الرَّحْمَةُ تَنْزِلُ بِهَا

(8/422)


باب {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ}
4727- حدثني قتيبة بن سعيد قال حدثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير قال

(8/422)


5- باب {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً}
4728- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبِي {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} هُمْ الْحَرُورِيَّةُ قَالَ لاَ هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَفَرُوا بِالْجَنَّةِ وَقَالُوا لاَ طَعَامَ فِيهَا وَلاَ شَرَابَ وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَكَانَ سَعْدٌ يُسَمِّيهِمْ الْفَاسِقِينَ
قوله: "باب {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} ذكر فيه حديث مصعب بن سعد" سألت أبي - يعني سعد بن أبي وقاص - عن هذه الآية" وهذا الحديث رواه جماعة من أهل الكوفة عن مصعب بن سعد بألفاظ مختلفة ننبه على ما تيسر منها، ووقع في رواية يزيد بن هارون عن شعبة بهذا الإسناد عند النسائي: "سأل رجل أبي" فكأن الراوي نسي اسم السائل فأبهمه، وقد تبين من رواية غيره أنه مصعب راوي الحديث. قوله: "هم الحرورية"؟ بفتح المهملة وضم الراء نسبة إلى حروراء وهي القرية التي كان ابتداء خروج الخوارج على علي منها، ولابن مردويه من طريق حصين بن مصعب "لما خرجت الحرورية قلت لأبي: أهؤلاء الذين أنزل الله فيهم"؟ وله من طريق القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل عن علي في هذه الآية قال: "أظن أن بعضهم الحرورية" وللحاكم من وجه آخر عن أبي الطفيل قال: "قال علي منهم أصحاب النهروان" وذلك قبل أن يخرجوا. وأصله عند عبد الرزاق بلفظ: "قام ابن الكواء إلى علي فقال: ما الأخسرين أعمالا؟ قال: ويلك، منهم أهل حروراء" ولعل هذا هو السبب في سؤال مصعب أباه عن ذلك، وليس الذي قاله علي ببعيد، لأن اللفظ يتناوله وإن كان السبب مخصوصا. قوله: "قال: لا هم اليهود والنصارى" وللحاكم "قال: لا، أولئك أصحاب الصوامع" ولابن أبي حاتم من طريق هلال بن يساف عن مصعب "هم أصحاب الصوامع" وله من طريق أبي خميصة بفتح المعجمة وبالصاد المهملة واسمه عبيد الله بن قيس قال: "هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري" . قوله: "وأما النصارى كفروا بالجنة وقالوا: ليس فيها طعام ولا شراب"

(8/425)


في رواية ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مرة عن مصعب قال: "هم عباد النصارى قالوا: ليس في الجنة طعام ولا شراب" . قوله: "والحرورية الذين ينقضون إلخ" في رواية النسائي: "والحرورية الذين قال الله:"ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل - إلى - الفاسقين "قال يزيد: هكذا حفظت. قلت: وهو غلط منه أو ممن حفظه عنه، وكذا وقع عند ابن مردويه" أولئك هم الفاسقون "والصواب "الخاسرون" ووقع على الصواب كذلك في رواية الحاكم. قوله: "وكان سعد يسميهم الفاسقين" لعل هذا السبب في الغلط المذكور. وفي رواية للحاكم "الخوارج قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم" وهذه الآية هي التي آخرها الفاسقين فلعل الاختصار اقتضى ذلك الغلط، وكأن سعدا ذكر الآيتين معا التي في البقرة والتي في الصف، وقد روى ابن مردويه من طريق أبي عون عن مصعب قال: "نظر رجل من الخوارج إلى سعد فقال: هذا من أئمة الكفر، فقال له سعد: كذبت، أنا قاتلت أئمة الكفر. فقال له آخر: هذا من الأخسرين أعمالا، فقال له سعد: كذبت، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم الآية" قال ابن الجوزي: وجه خسرانهم أنهم تعبدوا على غير أصل، فابتدعوا، فخسروا الأعمار والأعمال

(8/426)


6- باب {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} الْآيَةَ
4729- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ اقْرَءُوا {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} وَعَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ مِثْلَه"
قوله: "باب {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} الآية" تقدم من حديث سعد بن أبي وقاص في الذي قبله بيان أنها نزلت في الأخسرين أعمالا. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله" هو الذهلي نسبة إلى جد أبيه، وقوله: "حدثنا سعيد بن أبي مريم" هو شيخ البخاري، أكثر عنه في هذا الكتاب، وربما حدث عنه بواسطة كما هنا. قوله: "الرجل العظيم السمين" في رواية ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة "الطويل العظيم الأكول الشروب" . قوله: "وقال: اقرأوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا" القائل يحتمل أن يكون الصحابي، أو هو مرفوع من بقية الحديث. قوله: "وعن يحيي بن بكير" هو معطوف على سعيد بن أبي مريم، والتقدير حدثنا محمد بن عبد الله عن سعيد بن أبي مريم وعن يحيى بن بكير، وبهذا جزم أبو مسعود، ويحيى بن بكير هو ابن عبد الله بن بكير، نسب لجده، وهو من شيوخ البخاري أيضا، وربما أدخل بينهما واسطة كهذا، وجوز غير أبي مسعود أن تكون طريق يحيى هذه معلقة، وقد وصلها مسلم عن محمد بن إسحاق الصغاني عنه.

(8/426)


19- سورة كهيعص
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} اللَّهُ يَقُولُهُ وَهُمْ الْيَوْمَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يُبْصِرُونَ {فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} يَعْنِي قَوْلَهُ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} الْكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ أَسْمَعُ شَيْءٍ وَأَبْصَرُهُ {لاَرْجُمَنَّكَ} لاَشْتِمَنَّكَ {وَرِئْيًا}

(8/426)


1- باب {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ}
4730- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ ثُمَّ قَرَأَ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} وَهَؤُلاَءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون} "
قوله: "باب قوله عز وجل: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} ذكر فيه حديث أبي سعيد في ذبح الموت، وسيأتي في الرقاق مشروحا، وقوله فيه: "فيشرئبون" بمعجمة وراء مفتوحة ثم همزة مكسورة ثم موحدة ثقيلة مضمومة أي يمدون أعناقهم ينظرون. وقوله: "أملح" قال القرطبي: الحكمة في ذلك أن يجمع بين صفتي أهل الجنة والنار السواد والبياض. قوله: "ثم قرأ وأنذرهم" في رواية سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش في آخر الحديث: "ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيستفاد منه انتفاء الإدراج. وللترمذي من وجه آخر عن الأعمش في أول الحديث: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنذرهم يوم الحسرة، فقال: يؤتى بالموت إلخ" .

(8/428)


2- باب {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ}
4731- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ: "مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا" فَنَزَلَتْ {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ

(8/428)


3- باب {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}
4732- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَمِعْتُ خَبَّاباً قَالَ جِئْتُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ أَتَقَاضَاهُ حَقّاً لِي عِنْدَهُ فَقَالَ لاَ أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لاَ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ قَالَ وَإِنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ إِنَّ لِي هُنَاكَ مَالاً وَوَلَداً فَأَقْضِيكَهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ وَحَفْصٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ
قوله: "باب قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} قراءة الأكثر بفتحتين، والكوفيين سوى عاصم بضم ثم سكون، قال الطبري: لعلهم أرادوا التفرقة بين الواحد والجمع، لكن قراءة الفتح أشمل وهي أعجب إلي. قوله: "عن الأعمش عن أبي الضحى" كذا رواه بشر بن موسى وغير واحد عن الحميدي، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن الحميدي بهذا الإسناد فقال: "عن أبي وائل" بدل أبي الضحى والأول أصوب، وشذ حماد بن شعيب فقال أيضا عن الأعمش عن أبي وائل، وأخرجه ابن مردويه أيضا. قوله: "جئت العاص بن وائل السهمي" هو والد عمرو بن العاص الصحابي المشهور، وكان له قدر في الجاهلية ولم يوفق للإسلام، قال ابن الكلبي: كان من حكام قريش، وقد تقدم في ترجمة عمر بن الخطاب أنه أجار عمر بن الخطاب حين أسلم.

(8/429)


وقد أخرج الزبير بن بكار هذه القصة مطولة وفيها "أن العاص بن وائل قال: رجل اختار لنفسه أمرا، فما لكم وله؟ فرد المشركين عنه" وكان موته بمكة قبل الهجرة، وهو أحد المستهزئين. قال عبد الله بن عمرو: سمعت أبي يقول: عاش أبي خمسا وثمانين، وإنه ليركب حمارا إلى الطائف فيمشي عنه أكثر مما يركب، ويقال أن حماره رماه على شوكة أصابت رجله فانتفخت فمات منها. قوله: "أتقاضاه حقا لي عنده" بين في الرواية التي بعده هذه أنه أجره سيفا عمله له. وقال فيها: "كنت قينا" وهو بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون وهو الحداد، ولأحمد من وجه آخر عن الأعمش "فاجتمعت لي عند العاص بن وائل دراهم" . قوله: "فقلت لا" أي لا أكفر. قوله: "حتى تموت ثم تبعث" مفهومه أنه يكفر حينئذ لكنه لم يرد ذلك لأن الكفر حينئذ لا يتصور، فكأنه قال: لا أكفر أبدا. والنكتة في تعبيره بالبعث تعيير العاص بأنه لا يؤمن به، وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل قوله هذا فقال: علق الكفر، ومن علق الكفر كفر، وأجاب بأنه خاطب العاص بما ينتقده فعلق على ما يستحيل بزعمه، والتقرير الأول يغني عن هذا الجواب. قوله: "فأقضيك، فنزلت" زاد ابن مردويه من وجه آخر عن الأعمش "فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت" . قوله: "رواه الثوري وشعبة وحفص وأبو معاوية ووكيع عن الأعمش" أما رواية الثوري فوصلها بعد هذا، وكذا رواية شعبة ووكيع، وأما رواية حفص وهو ابن غياث فوصلها في الإجارة، وأما رواية أبي معاوية فوصلها أحمد قال: "حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش به - وفيه - قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك، فأنزل الله: {أفرأيت الذي كفر بآياتتا} - إلى قوله: {يَأْتِينَا فَرْداً} وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من رواية أبي معاوية.

(8/430)


4- باب {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} قَالَ مَوْثِقاً
4733- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ سَيْفًا فَجِئْتُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لاَ أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ قُلْتُ لاَ أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيَكَ قَالَ إِذَا أَمَاتَنِي اللَّهُ ثُمَّ بَعَثَنِي وَلِي مَالٌ وَوَلَدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ مَوْثِقًا لَمْ يَقُلْ الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ سَيْفًا وَلاَ مَوْثِقًا
قوله: "باب {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قال: موثقا" سقط قوله. "موثقا" من رواية أبي ذر، وساق المؤلف الحديث من رواية الثوري وقال في آخره: {أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} ، قال: موثقا" وكذا أخرجه ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه. قوله: "لم يقل الأشجعي عن سفيان سيفا ولا موثقا" هو كذلك في تفسير الثوري رواية الأشجعي عنه.

(8/430)


5- باب {كَلاَ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدًّا}
4734- حدثنا بشر بن خالد حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان سمعت أبا الضحى يحدث عن

(8/430)


6- باب قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الْجِبَالُ هَدًّا} هَدْمًا
4735- حدثنا يحيى حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن خباب قال ثم كنت رجلا قينا وكان لي على العاصي بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي لا أقضيك حتى تكفر بمحمد قال قلت لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث قال وإني لمبعوث من بعد الموت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد قال فنزلت {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداًأَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} "
قوله: "باب {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} ساق فيه الحديث المذكور من رواية وكيع وسياقه أتم كسياق أبي معاوية، ويحيى شيخه هو ابن موسى، ويؤخذ من هذا السياق الجواب عن إيراد المصنف الآيات المذكورة في هذه الأبواب مع أن القصة واحدة، فكأنه أشار إلى أنها كلها نزلت في هذه القصة بدليل هذه الرواية وما وافقها. قوله في الترجمة" وقال ابن عباس: هدا هدما "وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه.

(8/431)


20- سورة طه
قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ بِالنَّبَطِيَّةِ أَيْ طَهْ يَا رَجُلُ يُقَالُ كُلُّ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أَوْ فِيهِ تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ فَهِيَ عُقْدَةٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَلْقَى صَنَعَ {أَزْرِي} ظَهْرِي {فَيَسْحَتَكُمْ} يُهْلِكَكُمْ {الْمُثْلَى} تَأْنِيثُ الأَمْثَلِ يَقُولُ بِدِينِكُمْ يُقَالُ خُذْ الْمُثْلَى خُذْ الأَمْثَلَ {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} يُقَالُ هَلْ أَتَيْتَ الصَّفَّ الْيَوْمَ يَعْنِي الْمُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ {فَأَوْجَسَ} فِي نَفْسِهِ خَوْفًا فَذَهَبَتْ الْوَاوُ مِنْ {خِيفَةً} لِكَسْرَةِ الْخَاءِ {فِي جُذُوعِ} أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ {خَطْبُكَ} بَالُكَ {مِسَاسَ} مَصْدَرُ مَاسَّهُ مِسَاسًا {لَنَنْسِفَنَّهُ} لَنَذْرِيَنَّهُ {قَاعًا} يَعْلُوهُ الْمَاءُ وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنْ الأَرْضِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَوْزَارًا} أَثْقَالًا {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} وَهِيَ الْحُلِيُّ الَّتِي اسْتَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَهِيَ الأَثْقَالُ {فَقَذَفْتُهَا} فَأَلْقَيْتُهَا {أَلْقَى} صَنَعَ

(8/431)


1- باب {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}
4736- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى لآدَمَ آنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَوَجَدْتَهَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي قَالَ نَعَمْ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى" الْيَمُّ الْبَحْرُ
قوله: "باب {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} وقع في رواية أبي أحمد الجرجاني "واصطفيتك" وهو تصحيف، ولعلها ذكرت على سبيل التفسير؛ حديث أبي هريرة في محاجة موسى وآدم عليهما السلام وسيأتي شرحه في كتاب القدر.

(8/434)


2- باب {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}
4737- حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوه"
قوله: "باب {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} إلخ" وقع عند غير أبي ذر " {أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} " وهو خلاف التلاوة. قوله: "اليم البحر" وصله ابن أبي حاتم من طريق أسباط بن نصر عن السدي ابن عباس في صيام عاشوراء، وقد سبق شرحه في كتاب الصيام مستوفى.

(8/434)


3- باب {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}
4738- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ النَّجَّارِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ

(8/434)


21- سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ
4739- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطه وَالأَنْبِيَاءُ هُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي وَقَالَ قَتَادَةُ {جُذَاذاً} قَطَّعَهُنَّ وَقَالَ الْحَسَنُ {فِي فَلَكٍ} مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ {يَسْبَحُونَ} يَدُورُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {نَفَشَتْ} رَعَتْ لَيْلاً {يُصْحَبُونَ} يُمْنَعُونَ {أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ {حَصَبُ} حَطَبُ بِالْحَبَشِيَّةِ وَقَالَ غَيْرُهُ {أَحَسُّوا} تَوَقَّعُوا مِنْ أَحْسَسْتُ {خَامِدِينَ} هَامِدِينَ وَالْحَصِيدُ مُسْتَأْصَلٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ {لاَ يَسْتَحْسِرُونَ} لاَ يُعْيُونَ وَمِنْهُ حَسِيرٌ وَحَسَرْتُ بَعِيرِي عَمِيقٌ بَعِيدٌ {نُكِّسُوا} رُدُّوا {صَنْعَةَ لَبُوسٍ} الدُّرُوعُ {تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} اخْتَلَفُوا الْحَسِيسُ وَالْحِسُّ وَالْجَرْسُ وَالْهَمْسُ وَاحِدٌ وَهُوَ مِنْ الصَّوْتِ الْخَفِيِّ {آذَنَّاكَ} أَعْلَمْنَاكَ آذَنْتُكُمْ إِذَا أَعْلَمْتَهُ فَأَنْتَ وَهُوَ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ تَغْدِرْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} تُفْهَمُونَ ارْتَضَى رَضِيَ التَّمَاثِيلُ الأَصْنَامُ السِّجِلُّ الصَّحِيفَة"
قوله: "سورة الأنبياء - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ذكر فيه حديث ابن مسعود قال: بني إسرائيل كذا فيه، وزعم بعض الشراح أنه وهم وليس كذلك بل له وجه وهو أن الأصل سورة بني إسرائيل فحذف المضاف وبقي المضاف إليه على هيئته، ثم وجدت في رواية الإسماعيلي: "سمعت ابن مسعود يقول في بني إسرائيل إلخ" وقد تقدم شرحه مستوفى في تفسير سبحان، وزاد في هذه الرواية ما لم يذكره في تلك، وحاصله أنه ذكر خمس سور متوالية، ومقتضى ذلك أنهن نزلن بمكة، لكن اختلف في بعض آيات منهن أما في سبحان فقوله: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً} الآية، وقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} - إلى – {تَحْوِيلاً} وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ} الآية، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الآية. وفي الكهف قوله: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية، وقيل من أولها إلى {حْسَنُ عَمَلاً} وفي مريم {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} الآية. وفي طه {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} الآية، وفي الأنبياء {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا} الآية، قيل في جميع ذلك إنه مدني، ولا يثبت شيء من ذلك، والجمهور على أن الجميع مكيات، وشذ من قال خلاف ذلك. قوله: "وقال قتادة: جذاذا قطعهن" وصله الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أي قطعا.

(8/435)


" تنبيه " : قرأ الجمهور {جُذَاذاً} بضم أوله وهو اسم للشيء المكسر كالحطام في المحطم، وقيل جمع جذاذة كزجاج وزجاجة، وقرأ الكسائي وابن محيصن بكسر أوله فقيل هو جمع جذيذ ككرام وكريم، فيها قراءات أخرى في الشواذ. قوله: "وقال الحسن: في فلك مثل فلكة المغزل" وصله ابن عيينة عن عمرو عن الحسن في قوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} مثل فلكة المغزل. قوله: "يسبحون يدورون" وصله ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {كلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: يدورون حوله. ومن طريق مجاهد {فِي فَلَكٍ} كهيئة حديدة الرحى {يَسْبَحُونَ} يجرون. وقال الفراء: قال يسبحون لأن السباحة من أفعال الآدميين فذكرت بالنون مثل {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} . قوله: "وقال ابن عباس: نفشت رعت ليلا" سقط "ليلا" لغير أبي ذر، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس بهذا وهو قول أهل اللغة: نفشت إذا رعت ليلا بلا راع، وإذا رعت نهارا بلا راع قيل هملت. قوله: "يصحبون يمنعون" وصله ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} قال: يمنعون. ومن وجه آخر منقطع عن ابن عباس "يمنعون" قال: ينصرون، وهو قول مجاهد رواه الطبري. قوله: {أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} : دينكم دين واحد" قال قتادة في هذه الآية: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} قال: دينكم، أخرجه الطبري وابن المنذر من طريقه. قوله: "وقال عكرمة: حصب جهنم حطب بالحبشة" سقط هذا لأبي ذر وقد تقدم في بدء الخلق، وروى الفراء بإسنادين عن علي وعائشة أنهما قرآا حطب بالطاء، وعن ابن عباس أنه قرأها بالضاد الساقطة المنقوطة قال وهو ما هيجت به النار. قوله: "وقال غيره: أحسوا توقعوا من أحسست" كذا لهم وللنسفي. وقال معمر: أحسوا إلخ، ومعمر هذا هو بالسكون وهو أبو عبيدة معمر بن المثنى اللغوي، وقد أكثر البخاري نقل كلامه، فتارة يصرح بعزوه وتارة يبهمه. وقال أبو عبيدة في قوله: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} لقوه يقال هل أحسست فلانا أي هل وجدته، وهل أحسست من نفسك ضعفا أو شرا. قوله: "خامدين هامدين" قال أبو عبيدة في قوله: {حَصِيداً خَامِدِينَ} مجاز خامد أي هامد، كما يقال للنار إذا طفئت خمدت، قال: والحصيد المستأصل، وهو يوصف بلفظ الواحد والاثنين والجمع من الذكر والأنثى سواء كأنه أجري مجرى المصدر، قال: ومثله {انَتَا رَتْقاً} ومثله "فجعلهم جذاذا" . قوله: "والحصيد مستأصل يقع على الواحد والاثنين والجميع" كذا لأبي ذر، ولغيره حصيدا مستأصلا وهو قول أبي عبيدة كما ذكرته قبل.
" تنبيه " : هذه القصة نزلت في أهل حضور بفتح المهملة وضم المعجمة قرية بصنعاء من اليمن، وبه جزم ابن الكلبي. وقيل بناحية الحجاز من جهة الشام، بعث إليهم نبي من حمير يقال له شعيب وليس صاحب مدين بين زمن سليمان وعيسى فكذبوه فقصمهم الله تعالى، ذكره الكلبي. وقد روى قصته ابن مردويه من حديث ابن عباس ولم يسمه. قوله: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} لا يعيبون، ومنه حسير وحسرت بعيري" هو قول أبي عبيدة أيضا، وكذا روى الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} قال: لا يعيبون.
" تنبيه " : وقع في رواية أبي ذر "يعيون" بفتح أوله ورواه ابن التين وقال: هو من أعيي أي الصواب بضم أوله. قوله: "عميق بعيد" كذا ذكره هنا، وإنما وقع ذلك في السورة التي بعدها وهو قول أبي عبيدة. وكأنه لما وقع في هذه السورة {فِجَاجاً} وجاء في التي بعدها {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} كأنه استطرد من هذه لهذه أو كان في طرة فنقلها الناسخ إلى غير موضعها. قوله: {نُكِسُوا} ردوا قال أبو عبيدة في قوله: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} أي قلبوا، وتقول نكسته على رأسه إذا قهرته. وقال

(8/436)


الفراء: نكسوا رجعوا. وتعقبه الطبري بأنه لم يتقدم شيء يصح أن يرجعوا إليه، ثم اختاروا ما رواه ابن إسحاق وحاصله أنهم قلبوا في الحجة فاحتجوا على إبراهيم بما هو حجة لإبراهيم عليه السلام. وهذا كله على قراءة الجمهور. وقرأ ابن أبي عبلة {نُكِسُوا} بالفتح وفيه حذف تقديره نكسوا أنفسهم على رءوسهم. قوله: "{صَنْعَةَ لَبُوسٍ} الدروع" قال أبو عبيدة: اللبوس السلاح كله من درع إلى رمح. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: اللبوس الدروع كانت صفائح، وأول من سردها وحلقها داود. وقال الفراء: من قرأ: {لِتُحْصِنَكُمْ} بالمثناة فلتأنيث الدروع، ومن قرأ بالتحتانية فلتذكير اللبوس. قوله: "تقطعوا أمرهم اختلفوا" هو قول أبي عبيدة وزاد: وتفرقوا. وروى الطبري من طريق زيد بن أسلم مثله وزاد: "في الدين" . قوله: "الحسيس والحس والجرس والهمس واحد، وهو من الصوت الخفي" سقط لأبي ذر "والهمس" . وقال أبو عبيدة في قوله: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أي صوتها، والحسيس والحس واحد، وقد تقدم في أواخر سورة مريم. قوله: "آذناك أعلمناك، آذنتكم إذا أعلمته فأنت وهو على سواء لم تغدر" قال أبو عبيدة في قوله: {آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} : إذا أنذرت عدوك وأعلمته ذلك ونبذت إليه الحرب حتى تكون أنت وهو على سواء فقد آذنته. وقد تقدم في تفسير سورة إبراهيم عليه السلام. وقوله: "آذناك" هو في سورة حم فصلت ذكره هنا استطرادا. قوله: "وقال مجاهد: لعلكم تسألون تفهمون" وصله الفريابي من طريقه، ولابن المنذر من وجه آخر عنه "تفقهون" . قوله: "ارتضى رضي" وصله الفريابي من طريقه بلفظ: "رضي عنه" وسقط لأبي ذر. قوله: "التماثيل الأصنام" وصله الفريابي من طريقه أيضا. قوله: "السجل الصحيفة" وصله الفريابي من طريقه وجزم به الفراء، وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {طَيِّ السِّجِلِّ} يقول: كطي الصحيفة على الكتاب، قال الطبري: معناه كطي السجل على ما فيه من الكتاب وقيل على بمعنى من أي من أجل الكتاب لأن الصحيفة تطوي حسناته لما فيها من الكتابة. وجاء عن ابن عباس أن السجل اسم كاتب كان للنبي صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو داود والنسائي والطبري من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس بهذا، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن مردويه، وفي حديث ابن عباس المذكور عند ابن مردويه: والسجل الرجل بلسان الحبش. وعند ابن المنذر من طريق السدي قال: السجل الملك. وعند الطبري من وجه آخر عن ابن عباس مثله. وعند عبد بن حميد من طريق عطية مثله. وبإسناد ضعيف عن على مثله. وذكر السهيلي عن النقاش أنه ملك في السماء الثانية ترفع الحفظة إليه الأعمال كل خميس واثنين. وعند الطبري من حديث ابن عمر بعض معناه. وقد أنكر الثعلبي والسهيلي أن السجل اسم الكاتب بأنه لا يعرف في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا في أصحابه من اسمه السجل، قال السهيلي: ولا وجد إلا في هذا الخبر، وهو حصر مردود، فقد ذكره في الصحابة ابن منده وأبو نعيم وأوردا من طريق ابن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم كاتب يقال له سجل" وأخرجه ابن مردويه من هذا الوجه.

(8/437)


2- بَاب {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا}
4740- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ شَيْخٌ مِنْ النَّخَعِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً

(8/437)


{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ثُمَّ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ أَلاَ إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ {شَهِيدٌ} فَيُقَالُ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُم"
ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس "إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة" الحديث، وسيأتي شرحه في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(8/438)


22- سورة الْحَجِّ
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ الْمُخْبِتِينَ الْمُطْمَئِنِّينَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ فَيُبْطِلُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ آيَاتِهِ وَيُقَالُ {أُمْنِيَّتُهُ} قِرَاءَتُهُ {إِلاَّ أَمَانِيَّ} يَقْرَءُونَ وَلاَ يَكْتُبُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَشِيدٌ} بِالْقَصَّةِ جِصٌّ وَقَالَ غَيْرُهُ يَسْطُونَ يَفْرُطُونَ مِنْ السَّطْوَةِ وَيُقَالُ يَسْطُونَ يَبْطِشُونَ {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أُلْهِمُوا وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ إِلَى الْقُرْآنِ {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الإِسْلاَمِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {بِسَبَبٍ} بِحَبْلٍ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ {ثَانِيَ عِطْفِهِ} مُسْتَكْبِرٌ {تَذْهَلُ} تُشْغَل"
قوله: "سورة الحج - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" . قوله: "قال ابن عيينة: المخبتين المطمئنين" هو كذلك في "تفسير ابن عيينة" لكن أسنده عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وكذا هو عند ابن المنذر من هذا الوجه، ومن وجه آخر عن مجاهد قال: المصلين، ومن طريق الضحاك قال: المتواضعين. والمخبت من الإخبات؛ وأصله الخبت بفتح أوله وهو المطمئن من الأرض. قوله: "وقال ابن عباس {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم آياته" ، وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مقطعا. قوله: "ويقال أمنيته قراءته، إلا أماني: يقرؤون ولا يكتبون" هو قول الفراء قال: التمني التلاوة قال: وقوله: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} قال: الأماني أن يفتعل الأحاديث، وكانت أحاديث يسمعونها من كبرائهم وليست من كتاب الله، قال: ومن شواهد ذلك قول الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمني داود الزبور على رسل
قال الفراء والتمني أيضا حديث النفس انتهى. قال أبو جعفر النحاس في كتاب "معاني القرآن" له بعد أن ساق رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تأويل الآية: هذا من أحسن ما قيل في تأويل الآية وأعلاه وأجله. ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال: بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا انتهى. وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة

(8/438)


عن ابن عباس وهي عند البخاري عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في صحيحه هذا كثيرا على ما بيناه في أماكنه وهي عند الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح انتهى. وعلى تأويل ابن عباس هذا يحمل ما جاء عن سعيد بن جبير، وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبري وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبي بشر عنه قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم، فلما بلغ {أفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا، فنزلت هذه الآية" وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال في إسناده: "عن سعيد بن جبير عن ابن عباس" فيما أحسب، ثم ساق الحديث. وقال البزار: لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور، قال: وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس انتهى. والكلبي متروك ولا يعتمد عليه، وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدي، وذكره ابن إسحاق في السيرة مطولا وأسندها عن محمد بن كعب، وكذلك موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب الزهري، وكذا ذكره أبو معشر في السيرة له عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وأورده من طريقه الطبري، وأورده ابن أبي حاتم من طريق أسباط عن السدي؛ ورواه ابن مردويه من طريق عباد بن صهيب عن يحيى بن كثير عن الكلبي عن أبي صالح وعن أبي بكر الهذلي وأيوب عن عكرمة وسليمان التيمي عمن حدثه ثلاثتهم عن ابن عباس، وأوردها الطبري أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس، ومعناهم كلهم في ذلك واحد، وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإلا منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين أحدهما ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه، والثاني ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية، وقد تجرأ أبو بكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها، وهو إطلاق مردود عليه. وكذا قول عياض هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده، وكذا قوله: ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية، قال وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله، وأما الكلبي فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه. ثم رده من طريق النظر بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم، قال: ولم ينقل ذلك انتهى، وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله: "ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدا ما ليس منه، وكذا سهوا إذا كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته - وقد سلك العلماء في ذلك مسالك، فقيل جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة وهو لا يشعر، فلما علم بذلك أحكم الله آياته. وهذا أخرجه الطبري عن قتادة، ورده عياض بأنه لا يصح لكونه لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا

(8/439)


ولاية للشيطان عليه في النوم، وقيل إن الشيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره، ورده ابن العربي بقوله تعالى حكاية عن الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} الآية قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقي لأحد قوة في طاعة. وقيل: إن المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوهم بذلك، فعلق ذلك بحفظه صلى الله عليه وسلم فجرى على لسانه لما ذكرهم سهوا. وقد رد ذلك عياض فأجاد. وقيل لعله قالها توبيخا للكفار، قال عياض: وهذا جائز إذا كانت هناك قرينة تدل على المراد. ولا سيما وقد كان الكلام في ذلك الوقت في الصلاة جائزا - وإلى هذا نحا الباقلاني. وقيل إنه لما وصل إلى قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} خشي المشركون أن يأتي بعدها بشيء يذم آلهتهم به فبادروا إلى ذلك الكلام فخلطوه في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم على عادتهم في قولهم. {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} ونسب ذلك للشيطان لكونه الحامل لهم على ذلك، أو المراد بالشيطان شيطان الإنس، وقيل: المراد بالغرانيق العلى الملائكة وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله ويعبدونها، فسيق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع وقالوا: قد عظم آلهتنا، ورضوا بذلك، فنسخ الله تلك الكلمتين وأحكم آياته. وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها. قال: وهذا أحسن الوجوه. ويؤيده ما تقدم في صدر الكلام عن ابن عباس من تفسير "تمنى" بتلا. وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل وقال قبله: أن هذه الآية نص في مذهبنا في، براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه - قال: ومعنى قوله: "في أمنيته" أي في تلاوته، فأخبر تعالى في هذه الآية أن سنته في رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قيل نفسه، فهذا نص في أن الشيطان زاده في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله قال: وقد سبق إلى ذلك الطبري لجلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر فصوب على هذا المعنى وحوم عليه. "تنبيه" : هذه القصة وقعت بمكة قبل الهجرة اتفاقا فتمسك بذلك من قال إن سورة الحج مكية، لكن تعقب بأن فيها أيضا ما يدل على أنها مدنية كما في حديث علي وأبي ذر في {هَذَانِ خَصْمَانِ} فإنها نزلت في أهل بدر، وكذا قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الآية وبعدها {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} فإنها نزلت في الذين هاجروا من مكة إلى المدينة فالذي يظهر أن أصلها مكي ونزل منها آيات بالمدينة ولها نظائر، والله أعلم. قوله: "وقال مجاهد: مشيد بالقصة، جص" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال: بالقصة يعني الجص والقصة بفتح القاف وتشديد الصاد هي الجص بكسر الجيم وتشديد المهملة. ومن طريق عكرمة قال: المشيد المجصص، قال: والجص في المدينة يسمى الشيد، وأنشد الطبري قول امرئ القيس:
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ... ولا أجما إلا مشيدا بجندل
ومن طريق قتادة قال: كان أهله شيدوه وحصنوه. وقصة القصر المشيد ذكر أهل الأخبار أنه من بناء شداد بن عاد فصار معطلا بعد العمران لا يستطيع أحد أن يدنو منه على أميال مما يسمع فيه من أصوات الجن المنكرة.
قوله: "وقال غيره: {يَسْطُونَ} يفرطون من السطوة، ويقال يسطون يبطشون" قال أبو عبيدة في قوله: {يكَادُونَ يَسْطُونَ} أي يفرطون عليه من السطوة. وقال الفراء كان مشركو قريش إذا سمعوا المسلم يتلو القرآن كادوا يبطشون به وتقدم في تفسير طه. وقال عبد بن حميد أخبرني شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {يكَادُونَ}

(8/440)


أي كفار قريش {يَسْطُونَ} أي يبطشون بالذين يتلون القرآن. وروى ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {يَسْطُونَ} فقال: يبطشون. قوله: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} : الإسلام" هكذا لهم، وسيأتي تحريره من رواية النسفي قريبا. قوله: "وقال ابن عباس: "بسبب" بحبل إلى سقف البيت" وصله عبد بن حميد من طريق أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس بلفظ: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} إلى سماء بيته فليختنق به. قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} : مستكبر" ثبت هذا للنسفي، وسقط للباقين. وقد وصله ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال: مستكبر في نفسه. قوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} : ألهموا إلى القرآن "سقط قوله: "إلى القرآن" لغير أبي ذر، ووقع في رواية النسفي {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ} ألهموا" وقال ابن أبي خالد: "إلى القرآن، وهدوا إلى صراط الحميد: الإسلام" وهذا هو التحرير. وقد أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} : قال: ألهموا. وروى ابن المنذر من طريق سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله: {إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} : قال: القرآن: وفي قوله: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الإسلام. قوله: "تذهل تشغل" روى ابن المنذر من طريق الضحاك قال في قوله: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي تسلو من شدة خوف ذلك اليوم. وقال أبو عبيدة في قوله: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي تسلو، قال الشاعر: "صحا قلبه يا عز أو كاد يذهل" وقيل: الذهول الاشتغال عن الشيء مع دهش.

(8/441)


1- باب {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى}
4741- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا آدَمُ يَقُولُ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيُنَادَى بِصَوْتٍ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ قَالَ يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ أُرَاهُ قَالَ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ ثُمَّ أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الأَبْيَضِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ وَإِنِّي لاَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا قَالَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ الأَعْمَشِ تَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَقَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَقَالَ جَرِيرٌ وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى"
قوله: "باب قوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} سقط الباب والترجمة لغير أبي ذر، وقدم عندهم الطريق الموصول على

(8/441)


التعاليق، وعكس ذلك في رواية أبي ذر، وسيأتي شرح الحديث الموصول في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال أبو أسامة عن الأعمش: {سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} " يعني أنه وافق حفص بن غياث في رواية هذا الحديث عن الأعمش بإسناده ومتنه، وقد أخرجه أحمد عن وكيع عن الأعمش كذلك. قوله: "قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين" أي أنه جزم بذلك، بخلاف حفص فإنه وقع في روايته: "من كل ألف أراه قال: "فذكره. ورواية أبي أسامة هذه وصلها المؤلف في قصة يأجوج ومأجوج من أحاديث الأنبياء. قوله: "وقال جرير وعيسى بن يونس وأبو معاوية: سكرى وما هم بسكرى" يعني أنهم رووه عن الأعمش بإسناده هذا ومتنه لكنهم خالفوا في هذه اللفظة، فأما رواية جرير فوصلها المؤلف في الرقاق كما قال، وأما رواية عيسى بن يونس فوصلها إسحاق بن راهويه عنه كذلك، وأما رواية أبي معاوية فاختلف عليه فيها، فرواها بلفظ سكرى أبو بكر من أبي شيبة عنه، وقد أخرجها سعيد بن منصور عن أبي معاوية والنسائي عن أبي كريب عن أبي معاوية فقالا في روايتهما: {سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} وكذا عند الإسماعيلي من طريق أخرى عن أبي معاوية، وأخرجها مسلم عن أبي كريب عنه مقرونة برواية وكيع وأحال بهما على رواية جرير، وروى ابن مردويه من طريق محاضر والطبري من طريق المسعودي كلاهما عن الأعمش بلفظ: "سكرى" وقال الفراء: أجمع القراء على {سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} ثم روي بإسناده عن ابن مسعود "سكرى وما هم بسكرى" قال: وهو جيد في العربية انتهى. ونقله الإجماع عجب، مع أن أصحابه الكوفيين يحيى بن وثاب وحمزة والأعمش والكسائي قرؤوا بمثل ما نقل عن ابن مسعود، ونقلها أبو عبيد أيضا عن حذيفة وأبي زرعة بن عمرو واختارها أبو عبيد، وقد اختلف أهل العربية في "سكرى" هل هي صيغة جمع على فعلى مثل مرضى أو صيغة مفرد فاستغني بها عن وصفه الجماعة.

(8/442)


2 - باب {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} شَكٍّ {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} إِلَى قَوْلِهِ {ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} أَتْرَفْنَاهُمْ وَسَّعْنَاهُمْ
4742- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قَالَ كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ فَإِنْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ غُلاَمًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ هَذَا دِينٌ صَالِحٌ وَإِنْ لَمْ تَلِدْ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ هَذَا دِينُ سُوء"
قوله: "باب {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} شك" سقط لفظ شك لغير أبي ذر، وأراد بذلك تفسير قوله: "حرف" وهو تفسير مجاهد أخرجه ابن أبي حاتم من طريقه. وقال أبو عبيدة: كل شاك في شيء فهو على حرف لا يثبت ولا يدوم، وزاد غير أبي ذر بعد حرف {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} إِلَى قَوْلِهِ {ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} قوله: "أترفناهم وسعناهم" كذا وقع هنا عندهم، وهذه الكلمة من السورة التي تليها وهو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : مجازه وسعنا عليهم، وأترفوا بغوا وكفروا. قوله: "يحيى بن أبي بكير" هو الكرماني، وهو غير يحيي بن بكير المصري

(8/442)


يلتبسان لكنهما يفترقان من أربعة أوجه: أحدها النسبة، الثاني أبو هذا فيه أداة الكنية بخلاف المصري، الثالث ولا يظهر غالبا أن بكيرا جد المصري وأبا بكير والد الكرماني، الرابع المصري شيخ المصنف والكرماني شيخ شيخه. قوله: "حدثنا إسرائيل" كذا رواه يحيى عنه بهذا الإسناد موصولا، ورواه أبو أحمد الزبيري عن إسرائيل بهذا الإسناد فلم يجاوز سعيد بن جبير أخرجه ابن أبي شيبة عنه، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ عن يحيى بن أبي بكير كما أخرجه البخاري وقال في آخره: قال محمد بن إسماعيل بن سالم هذا حديث حسن غريب. وقد أخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير فذكر فيه ابن عباس. قوله: "كان الرجل يقدم المدينة فيسلم" في رواية جعفر "كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون" . قوله: "فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله" هو بضم نون نتجت فهي منتوجة مثل نفست فهي منفوسة، زاد العوفي عن ابن عباس "وصح جسمه" أخرجه ابن أبي حاتم. ولابن المنذر من طريق الحسن البصري "كان الرجل يقدم المدينة مهاجرا فإن صح جسمه" الحديث. وفي رواية جعفر "فإن وجدوا عام خصب وغيث وولاد" وقوله: "قال: هذا دين صالح" في رواية العوفي "رضي واطمأن وقال: ما أصبت في ديني إلا خيرا" وفي رواية الحسن "قال لنعم الدين هذا" وفي رواية جعفر "قالوا إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به" . قوله: "وإن لم تلد إلخ" في رواية جعفر "وإن وجدوا عام جدب وقحط وولاد سوء قالوا ما في ديننا هذا خير" وفي رواية العوفي "وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت على دينك هذا إلا شرا، وذلك الفتنة" وفي رواية الحسن "فإن سقم جسمه وحبست عنه الصدقة وأصابته الحاجة قال: والله ليس الدين هذا، ما زلت أتعرف النقصان في جسمي وحالي" وذكر الفراء أنها نزلت في أعاريب من بني أسد انتقلوا إلى المدينة بذراريهم وامتنوا بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر نحو ما تقدم. وروى ابن مردويه من حديث أبي سعيد بإسناد ضعيف أنها نزلت في رجل من اليهود أسلم فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإسلام فقال: لم أصب في ديني خيرا.

(8/443)


3- باب {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}
4743- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو هَاشِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَعُتْبَةَ وَصَاحِبَيْهِ يَوْمَ بَرَزُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ وَقَالَ عُثْمَانُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَوْلَه"
4744- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيْ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ قَيْسٌ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ هُمْ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ

(8/443)


عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَة"
قوله: "باب {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الخصمان تثنية خصم، وهو يطلق على الواحد وغيره، وهو من تقع منه المخاصمة. قوله: "يقسم قسما" كذا للأكثر، ولأبي ذر عن الكشميهني: "يقسم فيها" وهو تصحيف. قوله: "نزلت في حمزة" أي ابن عبد المطلب، وقد تقدم مشروحا في غزوة بدر مستوفى، ونقتصر هنا على بيان الاختلاف في إسناده. قوله: "رواه سفيان" أي الثوري "عن أبي هاشم" أي شيخ هشيم فيه، وهو الرماني بضم الراء وتشديد الميم أي بإسناده ومتنه، وقد تقدمت روايته موصولة في غزوة بدر. ولسفيان فيه شيخ آخر أخرجه الطبري من طريق محمد بن مجيب عن سفيان عن منصور عن هلال بن يساف قال: نزلت هذه الآية في الذين تبارزوا يوم بدر. قوله: "وقال عثمان" أي ابن أبي شيبة "عن جرير" أي ابن عبد الحميد "عن منصور" أي ابن المعتمر "عن أبي هاشم عن أبي مجلز قوله" أي موقوفا عليه. قوله: "عن قيس بن عباد" بضم المهملة وتخفيف الموحدة. قوله: "عن علي قال: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة قال قيس" هو ابن عباد الراوي المذكور "وفيهم نزلت" ، وهذا ليس باختلاف على قيس بن عباد في الصحابي، بل رواية سليمان التيمي عن أبي مجلز تقتضي أن عند قيس عن علي هذا القدر المذكور هنا فقط، ورواية أبي هاشم عن أبي مجلز تقتضي أن عند قيس عن أبي ذر ما سبق، لكن يعكر على هذا أن النسائي أخرج من طريق يوسف بن يعقوب عن سليمان التيمي بهذا الإسناد إلى علي قال: "فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر: {هذان خصمان} " ورواه أبو نعيم في "المستخرج" من هذا الوجه وزاد في أوله ما في رواية معتمر بن سليمان، وكذا أخرجه الحاكم من طريق أبي جعفر الرازي، وكذا ذكر الدار قطني في "العلل" أن كهمس بن الحسن رواه كلاهما عن سليمان التيمي، وأشار الدار قطني إلى أن روايتهم مدرجة وأن الصواب رواية معتمر. قلت: وقد رواه عبد بن حميد عن يزيد بن هارون وعن حماد بن مسعدة كلاهما عن سليمان التيمي كرواية معتمر، فإن كان محفوظا فيكون الحديث عند قيس عن أبي ذر وعن علي معا بدليل اختلاف سياقهما. ثم ينظر بعد ذلك في الاختلاف الواقع عن أبي مجلز في إرساله حديث أبي ذر ووصله، فوصله عنه أبو هاشم في رواية الثوري وهشيم عنه، وأما سليمان التيمي فوقفه على قيس، وأما منصور فوقفه على أبي مجلز، ولا يخفى أن الحكم للواصل إذا كان حافظا، وسليمان وأبو هاشم متقاربان في الحفظ فتقدم رواية من معه زيادة، والثوري أحفظ من منصور فتقدم روايته، وقد وافقه شعبة عن أبي هاشم أخرجه الطبراني، على أن الطبري أخرجه من وجه آخر عن جرير عن منصور موصولا، فبهذا التقرير يرتفع اعتراض من ادعى أنه مضطرب كما أشرت إلى ذلك في المقدمة، وإنما أعيد مثل هذا لبعد العهد به والله المستعان. وقد روى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس أنها نزلت في أهل الكتاب والمسلمين، ومن طريق الحسن قال: هم الكفار والمؤمنون، ومن طريق مجاهد هو اختصام المؤمن والكافر في البعث، واختار الطبري هذه الأقوال في تعميم الآية قال: ولا يخالف المروي عن علي وأبي ذر لأن الذين تبارزوا ببدر كانوا فريقين مؤمنين وكفار، إلا أن الآية إذا نزلت في سبب من الأسباب لا يمتنع أن تكون عامة في نظير ذلك السبب.

(8/444)


23- سورة المؤمنون
قال بن عيينة {سَبْعَ طَرَائِقَ} سبع سماوات {لهَا سَابِقُونَ} سبقت لهم السعادة {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}

(8/444)


خائفين قال بن عباس {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} بعيد بعيد {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} الملائكة {لَنَاكِبُونَ} لعادلون {كَالِحُونَ} عابسون وقال غيره {مِنْ سُلالَةٍ} الولد والنطفة السلالة والجنة والجنون واحد والغثاء الزبد وما ارتفع عن الماء وما لا ينتفع به {يَجْأَرُونَ} يرفعون أصواتهم كما تجأر البقرة {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} رجع على عقبيه {سَامِراً} من السمر والجميع السمار والسامر ها هنا في موضع الجمع {تُسْحَرُونَ} تعمون من السحر"
قوله وقال بن عيينة سبع طرائق سبع سماوات هو في تفسير بن عيينة من رواية سعد بن عبد الرحمن المخزومي عنه وأخرجه الطبري من طريق بن زيد بن أسلم مثله قوله سابقون سبقت لهم السعادة ثبتت لغير أبي ذر وصله بن أبي حاتم من طريق على بن أبي طلحة عن بن عباس قوله قلوبهم وجلة خائفين وصله بن أبي حاتم من طريق على بن أبي طلحة عن بن عباس في قوله {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قال يعملون خائفين وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله وقلوبهم وجلة قال خائفة وللطبري من طريق يزيد النحوي عن عكرمة مثله وفي الباب عن عائشة قالت يا رسول الله في قوله تعالى وقلوبهم وجلة أهو الرجل يزني ويسرق وهو مع ذلك يخاف الله قال لا بل هو الرجل وهو مع ذلك يخاف الله أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجة وصححه الحاكم قوله وقال بن عباس هيهات هيهات بعيد بعيد وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن بن عباس مثله وروى عبد بن حميد عن سعيد عن قتادة قال تباعد ذلك في أنفسهم وقال الفراء إنما دخلت اللام في لما توعدون لأن هيهات أداة ليست بمأخوذة من فعل بمنزلة قريب وبعيد كما تقول هلم لك فإذا قلت أقبل لم تقل لك قوله فاسأل العادين الملائكة كذا لأبي ذر فأوهم أنه من تفسير بن عباس ولأبي ذر والنسفي وقال مجاهد فاسأل الخ وهو أولى فقد أخرجه الفريابي من طريقه وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله العادين قال الحساب أي بضم أوله والتشديد قوله تنكصون تستأخرون ثبت ثم النسفي وحده ووصله الطبري من طريق مجاهد قوله لناكبون لعادلون في رواية أبي ذر وقال بن عباس لناكبون الخ ووصله الطبري من طريق على بن أبي طلحة عنه وفي كلام أبي عبيدة مثله زاد ويقال نكب عن الطريق أي عدل عنه قوله كالحون عابسون وصله الطبري من طريق على بن أبي طلحة عن بن عباس مثله ومن طريق أبي الأحوص عن بن مسعود قال مثل كلوح الرأس النضيخ وكشر عن ثغره وأخرجه الحاكم وصححه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا تشويه النار فتقلص شفته العليا وتسترخي السفلى قوله وقال غيره من سلالة الولد والنطفة السلالة سقط وقال غيره لغير أبي ذر فأوهم أنه من تفسير بن عباس أيضا وليس كذلك وإنما هو قول أبي عبيدة قال في قوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ} السلالة الولد والنطفة السلالة قال الشاعر:
وهل هند إلا مهرة عربية ... سلالة أفراس تحللها بغل
انتهى وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله {مِنْ سُلالَةٍ} استل آدم من طين وخلقت ذريته من

(8/445)


ماء مهين وقد استشكل الكرماني ما وقع في البخاري فقال لا يصح تفسير السلالة بالولد لأن الإنسان ليس من الولد بل الأمر بالعكس ثم قال لم يفسر السلالة بالولد بل الولد مبتدأ وخبره السلالة والمعنى السلالة وما يستل من الشيء كالولد والنطفة انتهى وهو جواب ممكن في إيراد البخاري وكلام أبي عبيدة يأباه ولم يرد أبو عبيدة تفسير السلالة بالولد أنه المراد في الآية وإنما أشار إلى أن لفظ السلالة مشترك بين الولد والنطفة والشيء الذي يستل من الشيء وهذا الأخير هو الذي في الآية ولم يذكره استغناء بما ورد فيها وتنبيها على أن هذه اللفظة تطلق أيضا على ما ذكر قوله والجنة والجنون واحد هو قول أبي عبيدة أيضا قوله والغثاء الزبد وما ارتفع عن الماء وما لا ينتفع به قال أبو عبيدة في قوله تعالى فجعلناهم غثاء الغثاء الزبد وما ارتفع على الماء من الجيف مما لا ينتفع به وفي رواية عنه وما أشبه ذلك مما لا ينتفع به في شيء وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله غثاء قال هو الشيء البالي قوله يجأرون يرفعون أصواتهم كما تجأر البقرة ثبت هذا هنا للنسفي وتقدم في أواخر الزكاة وسيأتي في كتاب الأحكام لغيره مثله قوله على أعقابكم رجع على عقبيه هو قول أبي عبيدة قوله سامرا من السمر والجمع السمار والسامر ههنا في موضع الجمع ثبت هنا للنسفي وقد تقدم في أواخر المواقيت قوله تسحرون تعمون من السحر

(8/446)


24- سورة النُّورِ
{مِنْ خِلاَلِهِ} مِنْ بَيْنِ أَضْعَافِ السَّحَابِ {سَنَا بَرْقِهِ} وَهُوَ الضِّيَاءُ {مُذْعِنِينَ} يُقَالُ لِلْمُسْتَخْذِي مُذْعِنٌ {أَشْتَاتاً} وَشَتَّى وَشَتَاتٌ وَشَتٌّ وَاحِدٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} بَيَّنَّاهَا وَقَالَ غَيْرُهُ سُمِّيَ الْقُرْآنُ لِجَمَاعَةِ السُّوَرِ وَسُمِّيَتْ السُّورَةُ لأَنَّهَا مَقْطُوعَةٌ مِنْ الأُخْرَى فَلَمَّا قُرِنَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ سُمِّيَ قُرْآنًا وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عِيَاضٍ الثُّمَالِيُّ الْمِشْكَاةُ الْكُوَّةُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} تَأْلِيفَ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا جَمَعْنَاهُ وَأَلَّفْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أَيْ مَا جُمِعَ فِيهِ فَاعْمَلْ بِمَا أَمَرَكَ وَانْتَهِ عَمَّا نَهَاكَ اللَّهُ وَيُقَالُ لَيْسَ لِشِعْرِهِ قُرْآنٌ أَيْ تَأْلِيفٌ وَسُمِّيَ الْفُرْقَانَ لأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ مَا قَرَأَتْ بِسَلا قَطُّ أَيْ لَمْ تَجْمَعْ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا وَقَال {فَرَّضْنَاهَا} أَنْزَلْنَا فِيهَا فَرَائِضَ مُخْتَلِفَةً وَمَنْ قَرَأَ {فَرَضْنَاهَا} يَقُولُ فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} لَمْ يَدْرُوا لِمَا بِهِمْ مِنْ الصِّغَرِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: {أُولِي الإِرْبَةِ} مَنْ لَيْسَ لَهُ أَرَبٌ وَقَالَ طَاوُسٌ هُوَ الأَحْمَقُ الَّذِي لاَ حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ لاَ يُهِمُّهُ إِلاَّ بَطْنُهُ وَلاَ يَخَافُ عَلَى النِّسَاءِ
قوله: "سورة النور - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}{مِنْ خِلاَلِهِ} من بين أضعاف السحاب، هو قول أبي عبيدة، ولفظة أضعاف أو بين مزيدة فإن المعنى ظاهر بأحدهما، وروى الطبري من طريق ابن عباس أنه قرأ: {يخرج من خلله" قال هارون أحد رواته: فذكرته لأبي عمرو فقال: إنها لحسنة ولكن خلاله أعم. قوله: "سنا برقه وهو الضياء" قال أبو عبيدة في قوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} مقصور أي ضياء، والسناء ممدود في الحسب. وروى الطبري من طريق ابن عباس في قوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} يقول: ضوء برقه. ومن طريق قتادة قال: لمعان البرق. قوله:

(8/446)


"مذعنين يقال للمستخذي مذعن" قال أبو عبيدة في قوله: {أْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي مستخذين، وهو بالخاء والذال المعجمتين. وروى الطبري من طريق مجاهد في قوله: {مُذْعِنِينَ} قال: سراعا. وقال الزجاج: الإذعان الإسراع في الطاعة. قوله: "أشتاتا وشتى وشتات وشت واحد" هو قول أبي عبيدة بلفظه. وقال غيره: أشتات جمع ومفرد. قوله: "وقال مجاهد: لو إذا خلافا" وصله الطبري من طريقه، واللواذ مصدر لاوذت. قوله: "وقال سعد بن عياض الثمالي" بضم المثلثة وتخفيف الميم نسبة إلى ثمالة قبيلة من الأزد، وهو كوفي تابعي، ذكر مسلم أن أبا إسحاق تفرد بالرواية عنه، وزعم بعضهم أن له صحبة ولم يثبت، وما له في البخاري إلا هذا الموضع، وله حديث عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، قال ابن سعد: كان قليل الحديث. وقال البخاري: مات غازيا بأرض الروم. قوله: "المشكاة الكوة بلسان الحبشة" وصله ابن شاهين من طريقه، ووقع لنا بعلو في "فوائد جعفر السراج" وقد روى الطبري من طريق كعب الأحبار قال: المشكاة الكوة والكوة بضم الكاف وبفتحها وتشديد الواو وهي الطاقة للضوء، وأما قوله بلسان الحبشة فمضى الكلام فيه في تفسير سورة النساء. وقال غيره: المشكاة موضع الفتيلة رواه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وأخرج الحاكم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله: "كمشكاة" قال: يعني الكوة. قوله: "وقال ابن عباس: سورة أنزلناها بيناها" قال عياض: كذا في النسخ والصواب "أنزلناها وفرضناها" بيناها، فبيناها تفسير فرضناها، ويدل عليه قوله بعد هذا: "ويقال في فرضناها أنزلنا فيها فرائض مختلفة" فإنه يدل على أنه تقدم له تفسير آخر انتهى. وقد روى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَفَرَضْنَاهَا} يقول بيناها، وهو يؤيد قول عياض. قوله: "وقال غيره: سمي القرآن لجماعة السور، وسميت السورة لأنها مقطوعة من الأخرى. فلما قرن بعضها إلى بعض سمي قرآنا" هو قول أبي عبيدة قاله في أول "المجاز: . وفي رواية أبي جعفر المصادري عنه: سمي القرآن لجماعة السور، فذكر مثله سواء وجوز الكرماني في قراءة هذه اللفظة - وهي الجماعة - وجهين: إما بفتح الجيم وآخرها تاء تأنيث بمعنى الجميع، وإما بكسر الجيم وآخرها ضمير يعود على القرآن. قوله: "وقوله {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} : تأليف بعضه إلى بعض إلخ" يأتي الكلام عليه في تفسير سورة القيامة إن شاء الله تعالى. قوله: "ويقال ليس لشعره قرآن أي تأليف" هو قول أبي عبيدة. قوله: "ويقال للمرأة ما قرأت بسلاقط، أي لم تجمع ولدا في بطنها" هو قول أبي عبيدة أيضا قاله في "المجاز: رواية أبي جعفر المصادري عنه، وأنشد قول الشاعر "هجان اللون لم يقرأ جنينا" والسلا بفتح المهملة وتخفيف اللام، وحاصله أن القرآن عنده من قرأ بمعنى جمع، لا من قرأ بمعني تلا. قوله: "وقال: "فرضناها" أنزلنا فيها فرائض مختلفة، ومن قرأ فرضناها يقول فرضنا عليكم وعلى من بعدكم" فيها كذا وقال الفراء: من قرأ: {فرضناها "يقول فرضنا فيها فرائض مختلفة، وإن شئت فرضناها عليكم وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة، قال: فالتشديد بهذين الوجهين حسن. وقال أبو عبيدة في قوله: "فرضناها" حددنا فيها الحلال والحرام، وفرضنا من الفريضة. وفي رواية له ومن خففها جعلها من الفريضة قوله: "وقال الشعبي:"أولي الإربة "من ليس له أرب" ثبت هذا للنسفي، وسيأتي بعضه في النكاح، وقد وصله الطبري من طريق شعبة عن مغيرة عن الشعبي مثله. ومن وجه آخر عنه قال: الذي لم يبلغ أربه أن يطلع على عورة النساء. قوله: "وقال طاوس: هو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء" وصله عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه مثله. قوله: "وقال مجاهد لا يهمه إلا بطنه ولا يخاف على

(8/447)


النساء" {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} لم يدروا لما بهم من الصغر" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "أو التابعين غير أولي الإربة" قال: الذي يريد الطعام ولا يريد النساء، ومن وجه آخر عنه قال: الذين لا يهمهم إلا بطونهم ولا يخافون على النساء. وفي قوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} قال: لم يدروا ما هي من الصغر قبل الحلم.

(8/448)


1- باب {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ}
4745- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ عُوَيْمِرًا أَتَى عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي عَجْلاَنَ فَقَالَ كَيْفَ تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ سَلْ لِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَتَى عَاصِمٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ فَسَأَلَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا قَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَجَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُلاَعَنَةِ بِمَا سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَلاَعَنَهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ حَبَسْتُهَا فَقَدْ ظَلَمْتُهَا فَطَلَّقَهَا" فَكَانَتْ سُنَّةً لِمَنْ كَانَ بَعْدَهُمَا فِي الْمُتَلاَعِنَيْنِ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلاَ أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلاَّ قَدْ كَذَبَ" عَلَيْهَا فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ فَكَانَ بَعْدُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّه"

(8/448)


2- بَاب {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ}
4746- حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلاً رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ التَّلاَعُنِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ قُضِيَ فِيكَ وَفِي امْرَأَتِكَ" قَالَ فَتَلاَعَنَا وَأَنَا شَاهِدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَارَقَهَا فَكَانَتْ سُنَّةً أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَكَانَتْ حَامِلاً فَأَنْكَرَ حَمْلَهَا وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى إِلَيْهَا ثُمَّ جَرَتْ السُّنَّةُ فِي الْمِيرَاثِ أَنْ يَرِثَهَا وَتَرِثَ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا"

(8/448)


3- باب {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ}
4747- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ" فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْبَيِّنَةَ وَإِلاَ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ" فَقَالَ هِلاَلٌ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنْ الْحَدِّ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ} فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَجَاءَ هِلاَلٌ فَشَهِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ" ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا وَقَالُوا إِنَّهَا مُوجِبَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ ثُمَّ قَالَتْ لاَ أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ فَمَضَتْ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْن"
قوله: "باب {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} الآية" ذكر فيه حديث ابن عباس في قصة المتلاعنين من رواية عكرمة عنه، وقد ذكره في اللعان من رواية القاسم بن محمد عنه، وبينهما في سياقه اختلاف سأبينه هناك، وأقتصر هنا على بيان الراجح من الاختلاف في سبب نزول آيات اللعان دون أحكامه فأذكرها في بابها إن شاء الله تعالى. وقوله: "عن هشام بن حسان حدثنا عكرمة" هكذا قال ابن عدي عنه. وقال عبد الأعلى ومخلد بن حسين "عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أنس" فمنهم من أعل حديث ابن عباس بهذا ومنهم من حمله على أن لهشام فيه شيخين، وهذا هو المعتمد، فإن البخاري أخرج طريق عكرمة، ومسلما أخرج طريق ابن سيرين، ويرجح هذا الحمل اختلاف السياقين كما سنبينه إن شاء الله تعالى. قوله: "البينة أو حد في ظهرك" قال ابن مالك: ضبطوا البينة بالنصب على تقدير عامل أي أحضر البينة. وقال غيره: روي بالرفع والتقدير إما البينة وإما حد. وقوله في الرواية المشهورة: "أو حد في ظهرك" قال ابن مالك: حذف منه فاء الجواب وفعل الشرط بعد إلا والتقدير وإلا تحضرها فجزاؤك حد في ظهرك، قال: وحذف مثل هذا لم يذكر النحاة أنه يجوز إلا في الشعر، لكن يرد عليهم وروده في هذا الحديث الصحيح. قوله: "فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل

(8/449)


عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} كذا في هذه الرواية أن آيات اللعان نزلت في قصة هلال بن أمية، وفي حديث سعد الماضي أنها نزلت في عويمر ولفظه: "فجاء عويمر فقال: يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، فأمرهما بالملاعنة" وقد اختلف الأئمة في هذا الموضع: فمنهم من رجح أنها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضا فنزلت في شأنهما معا في وقت واحد. وقد جنح النووي إلى هذا، وسبقه الخطيب فقال: لعلهما اتفق كونهما جاآ في وقت واحد. ويؤيد التعدد أن القائل في قصة هلال سعد بن عبادة كما أخرجه أبو داود والطبري من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس مثل رواية هشام بن حسان بزيادة في أوله "لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية قال سعد بن عبادة: لو رأيت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي أربعة شهداء، ما كنت لآتي بهم حتى يفرغ من حاجته، قال: فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية" الحديث. وعند الطبري من طريق أيوب عن عكرمة مرسلا فيه نحوه وزاد: "فلم يلبثوا أن جاء ابن عم له فرمى امرأته" الحديث. والقائل في قصة عويمر عاصم بن عدي كما في حديث سهل بن سعد في الباب الذي قبله. وأخرج الطبري من طريق الشعبي مرسلا قال: "لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية قال عاصم بن عدي: إن أنا رأيت فتكلمت جلدت، وإن سكت سكت على غيظ" الحديث، ولا مانع أن تتعدد القصص ويتحد النزول.
وروى البزار من طريق زيد بن تبيع عن حذيفة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لأبي بكر: لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به؟ قال: كنت فاعلا به شرا. قال: فأنت يا عمر؟ قال: كنت أقول لعن الله الأبعد، قال: فنزلت: {ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال، فلما جاء عويمر ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم، ولهذا قال في قصة هلال: "فنزل جبريل" وفي قصة عويمر "قد أنزل الله فيك فيؤول قوله: قد أنزل الله فيك أي وفيمن كان مثلك" وبهذا أجاب ابن الصباغ في الشامل قال: نزلت الآية في هلال، وأما قوله لعويمر: "قد نزل فيك وفي صاحبتك" فمعناه ما نزل في قصة هلال، ويؤيده أن في حديث أنس عند أبي يعلى قال: "أول لعان كان في الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته" الحديث، وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين، قال: وهذه الاحتمالات وإن بعدت أولى من تغليط الرواة الحفاظ وقد أنكر جماعة ذكر هلال فيمن لاعن، قال القرطبي: أنكره أبو عبد الله بن أبي صفرة أخو المهلب وقال: هو خطأ، والصحيح أنه عويمر. وسبقه إلى نحو ذلك الطبري وقال ابن العربي: قال الناس: هو وهم من هشام بن حسان، وعليه دار حديث ابن عباس وأنس بذلك. وقال عياض في "المشارق" كذا جاء من رواية هشام بن حسان ولم يقله غيره، وإنما القصة لعويمر العجلاني، قال: ولكن وقع في "المدونة" في حديث العجلاني ذكر شريك. وقال النووي في مبهماته: اختلفوا في الملاعن على ثلاثة أقوال عويمر العجلاني، وهلال بن أمية، وعاصم بن عدي. ثم نقل عن الواحدي أن أظهر هذه الأقوال أنه عويمر. وكلام الجميع متعقب أما قول ابن أبي صفرة فدعوى مجردة، وكيف يجزم بخطأ حديث ثابت في الصحيحين مع إمكان الجمع؟ وما نسبه إلى الطبري لم أره في كلامه. وأما قول ابن العربي إن ذكر هلال دار على هشام بن حسان، وكذا جزم عياض بأنه لم يقله غيره، فمردود لأن هشام بن حسان لم ينفرد به، فقد وافقه عباد بن منصور كما قدمته، وكذا جرير بن حازم عن أيوب أخرجه الطبري وابن مردويه موصولا قال: "لما قذف هلال بن أمية امرأته"

(8/450)


وأما قول النووي تبعا للواحدي وجنوحه إلى الترجيح فمرجوح لأن الجمع مع إمكانه أولى من الترجيح. ثم قوله: "وقيل عاصم بن عدي" فيه نظر لأنه ليس لعاصم فيه قصة أنه الذي لاعن امرأته، وإنما الذي وقع من عاصم نظير الذي وقع من سعد بن عبادة. ولما روى ابن عبد البر في "التمهيد" طريق جرير بن حازم تعقبه بأن قال: قد رواه القاسم بن محمد عن ابن عباس كما رواه الناس. وهو يوهم أن القاسم سمى الملاعن عويمرا، والذي في الصحيح "فأتاه رجل من قومه" أي من قوم عاصم، والنسائي من هذا الوجه "لاعن بين العجلاني وامرأته" والعجلاني هو عويمر.

(8/451)


4- باب {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ}
4748- حَدَّثَنَا مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَمِّي الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً رَمَى امْرَأَتَهُ فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلاَعَنَا كَمَا قَالَ اللَّهُ ثُمَّ قَضَى بِالْوَلَدِ لِلْمَرْأَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاَعِنَيْن"
[الحديث 4748- أطرافه في: 5306، 5313، 5314، 5315، 6748]
قوله: "باب قوله: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ} ، حدثنا مقدم" هو بوزن محمد، وهو ابن محمد بن يحيى بن عطاء بن مقدم الهلالي المقدمي الواسطي، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في التوحيد وكلاهما في المتابعات. قوله: "حدثني عمي القاسم بن يحيى" هو ثقة وهو ابن عم أبي بكر بن علي المقدمي والد محمد شيخ البخاري أيضا، وليس للقاسم عند البخاري سوى الحديثين المذكورين. قوله: "عن عبيد الله وقد سمع منه" هو كلام البخاري وأشار بذلك إلى حديث غير هذا صرح فيه القاسم بن يحيى بسماعه من عبيد الله بن عمر، وأما هذا الحديث فقد رواه الطبراني عن أبي بكر بن صدقة عن يقدم بن محمد بهذا الإسناد معنعنا. قوله: "أن رجلا رمى امرأته فانتفى من ولدها" سيأتي البحث فيه مفصلا في كتاب اللعان إن شاء الله تعالى.

(8/451)


باب {إن الذين جاءو بالإفك عصبة منكم ...}
...
5- باب {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسِبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أَفَّاكٌ كَذَّابٌ
4749- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} قَالَتْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُول"
قوله: "باب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى قوله: "عذاب عظيم" وهو أولى لأنه اقتصر في الباب على تفسير الذي تولى كبره فقط. قوله: "أفاك كذاب" هو تفسير أبي عبيدة وغيره. قوله: "حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان" هو الثوري، وقد صرح به ابن مردويه من وجه آخر عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه، ورواه عبد الرزاق عن معمر مطولا في جملة حديث الإفك، وقد تقدم في غزوة المريسيع من المغازي من رواية معمر أيضا وغيره عن الزهري، وفي القصة التي دارت بينه وبين الوليد بن عبد الملك في ذلك

(8/451)


6- باب {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}
{لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
4750- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ الَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا نَزَلَ الْحِجَابُ فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ رَكِبْتُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ إِنَّمَا تَأْكُلُ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلاَ مُجِيبٌ فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي وَ وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً وَلاَ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ

(8/452)


أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لاَ أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّطَفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: "كَيْفَ تِيكُمْ" ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَذَاكَ الَّذِي يَرِيبُنِي وَلاَ أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقَهْتُ فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا وَكُنَّا لاَ نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ الْغَائِطِ فَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَهَا بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا قَالَتْ أَيْ هَنْتَاهْ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ قَالَتْ قُلْتُ وَمَا قَالَ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْنِي سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ كَيْفَ تِيكُمْ فَقُلْتُ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا قَالَتْ فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي يَا أُمَّتَاهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ قَالَتْ يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلاَّ كَثَّرْنَ عَلَيْهَا قَالَتْ فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا قَالَتْ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى أَصْبَحْتُ أَبْكِي فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ قَالَتْ فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْوُدِّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْلَكَ وَلاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَإِنْ تَسْأَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ قَالَتْ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ قَالَتْ بَرِيرَةُ لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ يَوْمَئِذٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ قَالَتْ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي" فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ يَا رَسُولَ

(8/453)


اللَّهِ أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مِنْ الأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ قَالَتْ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدٍ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ قَالَتْ فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ قَالَتْ فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي قَالَتْ فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي قَالَتْ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ قَالَتْ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي قَالَتْ فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ" قَالَتْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لأَبِي أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ قَالَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لأُمِّي أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلا إِلاَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ قَالَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} قَالَتْ ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَتْ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَتْ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: " يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأَكِ" فَقَالَتْ أُمِّي قُومِي إِلَيْهِ

(8/454)


قَالَتْ فَقُلْتُ لاَ وَاللَّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسِبُوهُ} الْعَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ: "يَا زَيْنَبُ مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ" فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي مَا عَلِمْتُ إِلاَّ خَيْرًا قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الإِفْك"
قوله: "باب {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} إلى قوله: {الْكَاذِبُونَ} كذا لأبي ذر، وقد وقع عند غيره سياق آيتين غير متواليتين: الأولى قوله: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} - إلى قوله: {عَظِيمٌ} والأخرى وله: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إلى قوله: {الْكَاذِبُونَ} واقتصر النسفي على الآية الأخيرة. ثم ساق المصنف حديث الإفك بطوله من طريق الليث عن يونس بن يزيد عن الزهري عن مشايخه الأربعة، وقد ساقه بطوله أيضا في الشهادات من طريق فليح بن سليمان، وفي المغازي من طريق صالح بن كيسان كلاهما عن الزهري، وأورده في مواضع أخرى باختصار. فأول ما أخرجه في الجهاد ثم في الشهادات ثم في التفسير ثم في الإيمان والنذر ثم في التوحيد من طريق عبد الله النميري عن يونس باختصار في هذه المواضع، وأخرجه في التوحيد وعلقه في الشهادات باختصار أيضا من رواية الليث أيضا، وأخرجه في التفسير والأيمان والنذور والاعتصام من طريق صالح بن كيسان باختصار في هذه المواضيع أيضا. وأخرج طرفا منه معلقا في المغازي عن طريق النعمان بن راشد عن الزهري، ومن طريق معمر عن الزهري طرفا آخر. وأخرجه مسلم من رواية عبد الله بن المبارك عن يونس، ومن رواية عبد الرزاق عن معمر كلاهما عن الزهري ساقه على لفظ معمر ثم ساقه من طريق فليح وصالح بإسنادهما قال. مثله، غير أنه بين الاختلاف في "احتملته الحمية" أو "اجتهلته" وفي "موغرين" كما سيأتي. وذكر في رواية صالح زيادة كما سأنبه عليها. وأخرجه النسائي في عشرة النساء من طريق صالح، وأخرجه في التفسير من طريق محمد بن ثور عن معمر لكنه اقتصر على نحو نصف أوله ثم قال. وساق الحديث. وأخرج من طريق ابن وهب عن يونس وذكر آخر كلاهما عن الزهري بسنده "ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وأسامة يستشيرهما إلى قوله - فتأتي الداجن فتأكله" أخرجه في القضاء. وأخرج أبو داود من طريق ابن وهب عن يونس طرفا منه في السنة، وهو قول عائشة: "ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى" وذكره الترمذي عن يونس ومعمر وغيرهما عن الزهري معلقا عقب رواية هشام بن عروة عن أبيه، فهذه جميع طرقه في هذه الكتب. وقد

(8/455)


جاء عن الزهري من غير رواية هؤلاء، فأخرجه أبو عوانة في صحيحه والطبراني من رواية يحيي بن سعيد الأنصاري وعبيد الله بن عمر العمري وإسحاق بن راشد وعطاء الخراساني وعقيل وابن جريج. وأخرجه أبو عوانة أيضا من رواية محمد بن إسحاق وبكر بن وائل ومعاوية بن يحيى وحميد الأعرج، وعند أبي داود طرف من رواية حميد هذا، والطبراني أيضا من رواية زياد بن سعد وابن أبي عتيق وصالح بن أبي الأخضر وأفلح بن عبد الله بن المغيرة وإسماعيل بن رافع ويعقوب بن عطاء، وأخرجه ابن مردويه من رواية ابن عيينة وعبد الرحمن بن إسحاق كلهم وعدتهم ثمانية عشر نفسا عن الزهري، منهم من طوله ومنهم من اختصره، وأكثرهم يقدم عروة على سعيد وبعد سعيد علقمة ويختم بعبيد الله، وقدم معمر ويونس من رواية ابن وهب عنه، وعقيل وابن إسحاق في رواية معاوية وزياد وأفلح وإسماعيل ويعقوب سعيد بن المسيب على عروة، وقدم ابن وهب علقمة على عبيد الله، وقدم ابن إسحاق في رواية علقمة وثنى بسعيد وثلث بعروة وأخر عبيد الله، وقدم عطاء الخراساني عبيد الله على عروة في رواية وحذف من أخرى سعيدا، وكذا قدم صالح بن أبي الأخضر عبيد الله لكن ثنى بأبي سلمة بن عبد الرحمن بدل سعيد وثلث بعلقمة وختم بعروة، واقتصر بكر على سعيد. قوله "وكل حدثني طائفة من الحديث" أي بعضه هو مقول الزهري كما في رواية فليح قال الزهري الخ وفي رواية بن إسحاق قال الزهري كل حدثني بعض هذا الحديث وقد جمعت لك كل الذي حدثوني ولما ضم بن إسحاق إلى رواية الزهري عن الأربعة روايته هو عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة وعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه كلاهما عن عائشة قال دخل حديث هؤلاء جميعا يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه وكل كان ثقة فكل حدث عنها ما سمع قال فذكره قال عياض انتقدوا على الزهري ما صنعه من روايته لهذا الحديث ملفقا عن هؤلاء الأربعة وقالوا كان ينبغي له أن يفرد حديث كل واحد منهم عن الآخر انتهى وقد تتبعت الإشارة فوجدته من رواية عروة على انفرداه ومن رواية علقمة بن وقاص على انفرداه وفي سياق كل منهما مخالفات ونقص وبعض زيادة لما في سياق الزهري عن الأربعة فأما رواية عروة فأخرجها المصنف في الشهادات من رواية فليح بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عقب رواية فليح عن الزهري قال مثله ولم يسق لفظه وبينهما تفاوت كبير بالحق فليحا تجوز في قوله مثله وقد علقها المصنف كما سيأتي قريبا لأبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه بتمامه ووصلها مسلم لأبي أسامة إلا أنه لم يسقه بتمامه ووصله أحمد وأبو بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة بتمامه وكذا أخرجه الترمذي والطبري والإسماعيلي من رواية أبي أسامة وأخرجه أبو عوانة والطبراني من رواية حماد بن سلمة وأبي أويس وأبي عوانة وابن مردويه من رواية يونس بن بكير والدارقطني في الغرائب من رواية مالك وأبو عوانة من رواية على بن مسهر وسعيد بن أبي هلال ووصلها المصنف باختصار في الاعتصام من رواية يحيى بن أبي زكريا كلهم عن هشام بن عروة مطولا ومختصرا وأما رواية علقمة بن وقاص فوصلها الطبري والطبراني من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنه وأما رواية سعيد بن المسيب وعبيد الله فلم أجدهما إلا من رواية الزهري عنهما وقد رواه عن هؤلاء الأربعة فأخرجه المصنف في الشهادات من رواية عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة ولم يسق لفظها وقد ساقه أبو عوانة في صحيحه والطبراني من طريق أبي أويس وأبو عوانة والطبري أيضا من طريق محمد بن إسحاق كلاهما عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عنها وأخرجه أبو عوانة أيضا من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة والمصنف من رواية القاسم

(8/456)


ابن محمد بن أبي بكر عن عائشة إلا أنه لم يسق لفظه أخرجه في الشهادات وكذا رواية عمرة عقب رواية فليح عن الزهري وأخرجه أبو عوانة والطبراني من طريق الأسود بن يزيد وعباد بن عبد الله بن الزبير ومقسم مولى بن عباس ثلاثتهم عن عائشة وقد روى هذا الحديث من عائشة جماعة منهم عبد الله بن الزبير وحديثه أيضا عقب رواية فليح ثم المصنف في الشهادات ولم يسق لفظه وأم رومان قد تقدم حديثها في قصة يوسف وفي المغازي ويأتي باختصار قريبا وابن عباس وابن عمر وحديثهما ثم الطبراني وابن مردويه وأبو هريرة وحديثه ثم البزار وأبو اليسر وحديثه باختصار ثم بن مردويه فجميع من رواه من عائشة ستة ومن التابعين عن عائشة عشرة وأورده بن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير مرسلا بإسناد واه وأورده الحاكم في الأكليل من رواية مقاتل بن حيان وهو بالمهملة والتحتانية مرسلا أيضا وسأذكر في أثناء شرح هذا الحديث ما في رواية هؤلاء من فائدة زائدة أن شاء الله تعالى قوله "وبعض حديثهم يصدق بعضا" كأنه مقلوب والمقام يقتضى أن يقول وحديث بعضهم يصدق بعضا ويحتمل أن يكون على ظاهره والمراد أن بعض حديث كل منهم يدل على صدق الراوي في بقية حديثه لحسن سياقه وجودة حفظه قوله وان كان بعضهم أوعى له من بعض هو إشارة إلى أن بعض هؤلاء الأربعة أميز في سياق الحديث من بعض من جهة حفظ أكثره لا أن بعضهم أضبط من بعض مطلقا ولهذا قال أوعى له أي للحديث المذكور خاصة زاد في رواية فليح وأثبت اقتصاصا أي سياقا وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة أي القدر الذي حدثني به ليطابق قوله وكل حدثني طائفة من الحديث وحاصله أن جميع الحديث عن مجموعهم لا أن مجموعه عن كل واحد منهم ووقع في رواية أفلح وبعض القوم أحسن سياقا وأما قوله في رواية الباب الذي حدثني عروة عن عائشة فهكذا في رواية الليث عن يونس وأما رواية بن المبارك وابن وهب وعبد الله النميري فلم يقل واحد منهم عن يونس الذي حدثني عروة وإنما قالوا عن عائشة فاقتضت رواية الليث أن سياق الحديث عن عروة ويحتمل أن يكون المراد أول شيء منه ويؤيده أنه تقدم في الهبة وفي الشهادات من طريق يونس عن الزهري عن عروة وحده عن عائشة أول هذا الحديث ثم إرادة السفر وكذلك أفردها أبو داود والنسائي من طريق يونس وكذا يحيى بن يمان عن معمر عن الزهري عن عروة ثم بن ماجة والاحتمال الأول أولى لما ثبت أن الرواة اختلفوا في تقديم بعض شيوخ الزهري على بعض فلو كان الاحتمال الثاني متعينا لامتنع عروة على عروة ولأشعر أيضا أن الباقين لم يرووا عن عائشة وليس كذلك فقد أخرج النسائي خاصة من طريق محمد بن على بن شافع عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله وحده عن عائشة وستأتي القصة من رواية هشام بن عروة وحده وفي سياقه مخالفة كثيرة للسياق الذي هنا للزهري عن عروة وهو مما يتأيد به الاحتمال الأول والله اعلم قوله "عروة عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت "ليس المراد أن عائشة تروي عن نفسها بل معنى قوله عن عائشة أي عن حديث عائشة في قصة الإفك ثم شرع يحدث عن عائشة فقال أن عائشة قالت ووقع في رواية فليح زعموا أن عائشة قالت والزعم قد يقع موضع القول وأن لم يكن فيه تردد لكن لعل السر فيه أن جميع مشايخ الزهري لم يصرحوا له بذلك كذا أشار إليه الكرماني قوله "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج" زاد معمر سفرا أي إلى سفر فهو سيما بنزع الخافض أو ضمن يخرج معنى ينشئ

(8/457)


فيكون سفرا نصبا على المفعولية وفي رواية فليح وصالح بن كيسان كان إذا أراد سفرا قوله "أقرع بين أزواجه" فيه والرد على من منع منها وقد تقدم التعريف بها وحكمها في أواخر كتاب الشهادات في في المشكلات قوله "فأيتهن" وقع في رواية الأصيلي من طريق فليح فأيهن بغير مثناة والأولى أولى قوله في غزوة غزاها هي غزوة بني المصطلق وصرح بذلك محمد بن إسحاق في روايته وكذا أفلح بن عبد الله ثم الطبراني وعنده في رواية أبي أويس فخرج سهم عائشة في غزوة بني المصطلق من خزاعة وعند البزار من حديث أبي هريرة فأصابت في غزوة بني المصطلق وفي رواية بكر بن وائل ثم أبي عوانة ما يشعر بأن تسمية الغزوة في حديث عائشة مدرج في الخبر قوله "فخرج سهمي" هذا يشعر بأنها كانت في تلك الغزوة وحدها لكن ثم الواقدي من طريق عباد بن عبد الله عنها أنها خرجت معه في تلك الغزوة أيضا أم سلمة وكذا في حديث بن عمر وهو ضعيف ولم يقع لأم سلمة في تلك الغزوة ذكر ورواية بن إسحاق من رواية عباد ظاهره في تفرد عائشة بذلك ولفظه فخرج سهمي عليهن فخرج بي معه قوله بعد ما نزل الحجاب أي بعد ما نزل الأمر بالحجاب والمراد حجاب النساء عن رؤية الرجال لهن وكن قبل ذلك لا يمنعن وهذا قالته كالتوطئة للسبب في كونها كانت مستترة في الهودج حتى أفضى ذلك إلى تحميله وهي ليست فيه وهم يظنون أنها فيه بخلاف ما كان قبل الحجاب فلعل النساء حينئذ كن يركبن ظهور الرواحل بغير هوادج أو يركبن مستترات فما كان يقع لها الذي يقع بل كان يعرف الذي كان يخدم بعيرها إن كانت ركبت أم لا قوله "فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه" في رواية بن إسحاق فكنت إذا رحلوا بعيري جلست في هودجي ثم يأخذون بأسفل الهودج فيضعونه على ظهر البعير والهودج بفتح الهاء والدال بينهما واو ساكنة وآخره جيم محمل له قبة تستر بالثياب ونحوه يوضع عن ظهر البعير يركب عليه النساء ليكون أستر لهن ووقع في رواية أبي أويس بلفظ المحفة قوله "فسرنا حتى إذا فرغ" كذا اقتصرت القصة لأن مراد سياق قصة الإفك خاصة وإنما ذكرت ما ذكرت ذلك كالتوطئة لما أرادت اقتصاصه ويحتمل أن تكون ذكرت جميع ذلك فاختصره الراوي للغرض المذكور ويؤيده أنه قد جاء عنها في قصة غزوة بني المصطلق هذا ويؤيد الأول أن في رواية الواقدي عن عباد قلت لعائشة يا أمتاه حدثينا عن قصة الإفك قال نعم وعنده فخرجنا فغنمه الله أموالهم وأنفسهم ورجعنا قوله "وقفل" بقاف وفاء أي رجع من غزوته قوله "ودنونا من المدينة قافلين" أي راجعين أي أن قصتها وقعت حال رجوعهم من الغزوة قرب دخولهم المدينة قوله "آذن" بالمد والتخفيف وبغير مد والتشديد كلاهما بمعنى أعلم بالرحيل وفي رواية بن إسحاق فنزل منزلا فبات به بعض الليل ثم آذن بالرحيل قوله "بالرحيل" في رواية بعضهم الرحيل بغير موحدة وبالنصب وكأنه حكاية قولهم الرحيل بالنصب على الإغراء قوله فمشيت جتى جاوزت الجيش أي لتقضي حاجتها منفردة قوله فلما قضيت شأني الذي توجهت بسببه ووقع في حديث بن عمر خلاف ما في الصحيح وأن سبب توجهها لقضاء حاجتها أن رحل أم سلمة مال فأناخوا بعيرها ليصلحوا رحلها قالت عائشة فقلت إلى أن يصلحوا رحلها قضيت حاجتي فتوجهت ولم يعلموا بن فقضيت حاجتي فانقطعت قلادتي فأقمت في جمعها ونظامها وبعث القوم إبلهم ومضوا ولم يعلموا بنزولي وهذا شاذ منكر قوله "عقد" بكسر العين قلادة تعلق في العنق للتزين بها قوله "من جزع" بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها مهملة خرز معروف في سواده

(8/458)


بياض كالعروق قال بن القطاع هو واحد لا جمع له وقال بن سيده هو جمع واحدة جزعة وهو بالفتح فأما الجزع بالكسر فهو جانب الوادي ونقل كراع أن جانب الوادي بالكسر فقط وأن الآخر يقال بالفتح وبالكسر وأغرب بن التين فحكى فيه الضم قال التيفاشي يوجد في معادن العقيق ومنه ما يؤتى به من الصين قال وليس في الحجارة أصلب جسما منه ويزداد حسنة إذا طبخ بالزيت لكنهم لا يتيمنون بلبسه ويقولون من تقلده الغرماء همومه ورأى منامات رديئة وإذا علق على طفل سأل لعابه ومن منافعه إذا أمر على شعر المطلقة سهلت ولادتها قوله "جزع أظفار" كذا في هذه الرواية أظفار بزيادة ألف وكذا في رواية فليح لكن في رواية الكشميهني من طريقه ظفار وكذا في رواية معمر وصالح وقال بن بطال الرواية أظفار بألف وأهل اللغة لا يعرفونه بألف ويقولون ظفار قال بن قتيبة جزع ظفاري وقال القرطبي وقع في بعض روايات مسلم أظفار وهي خطأ قلت لكنها في أكثر روايات أصحاب الزهري حتى إن في رواية صالح بن أبي الأخضر ثم الطبراني جزع الأظافير فأما ظفار بفتح الظاء المعجمة ثم فاء بعدها راء مبنية على الكسر فهي مدينة ظاهرا وقيل جبل وقيل سميت به المدينة وهي في أقصى اليمن إلى جهة الهند وفي المثل من دخل ظفار حمر أي تكلم بالحميرية لأن أهلها كانوا من حمير وأن ثبتت الرواية أن جزع أظفار فلعل عقدها كان من الظفر أحد أنواع القسط وهو طيب الرائحة يتبخر به فلعله عمل مثل الخرز فأطلقت عليه جزعا تشبيها به ونظمته قلادة إما لحسن لونه أو لطيب ريحه وقد حكى بن التين أن قيمته كانت أثنى عشر درهما وهذا يؤيد أنه ليس جزعا ظفاريا إذ لو كان كذلك لكانت قيمته أكثر من ذلك ووفع في رواية الواقدي فكان في عنقي عقد من جزع ظفار كانت أمي أدخلتني به على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله "فلما قضيت شأني" أي فرغت من قضاء حاجتي أقبلت إلى رحلى أي رجعت إلى المكان الذي كانت نازلة فيه قوله "فإذا عقد لي" في رواية فليح "فلمست صدري" فإذا عقدي قوله "قد انقطع" في رواية بن إسحاق قد انسل من عنقي وأنا لا أدري قوله "فالتمست عقدي" في رواية فليح "فرجعت فالتمست وحبسني ابتغاؤه" أي طلبه وفي رواية بن إسحاق فرجعت عودي على بدئي إلى المكان الذي ذهبت إليه وفي رواية الواقدي وكنت أظن أن القوم لو لبثوا شهرا لم يبعثوا بعيري حتى أكون في هودجي قوله "وأقبل الرهط" هو عدد من ثلاثة إلى عشرة ذلك كما تقدم في أول الكتاب في حديث أبي سفيان الطويل ولم أعرف منهم هنا أحدا إلا أن في رواية الواقدي أن أحدهم أبو موهوبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو مويهبة الذي روى عنه عبد الله بن عمرو بن العاص حديثا في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته أخرجه أحمد وغيره قال البلاذري شهد أبو مويهبة غزوة المريسيع وكان يخدم بعير عائشة وكان من مولدي بني مزبنة وكأنه في الأصل أبو موهوبة ويصغر فيقال أبو مويهبة قوله "يرحلون" بفتح أوله والتخفيف رحلت البعير إذا شددت عليه الرحل ووقع في رواية أبي ذر هنا بالتشديد في هذا وفي فرحلوه قوله "إلى" في رواية معمر بن وحكى النووي عن أكثر نسخ صحيح مسلم "يرحلون لي" قال وهو أجود وقال غيره بالباء أجود لأن المراد وضعها وهي في الهودج فشبهت الهودج الذي هي فيه بالرحل الذي يوضع على البعير قوله "فرحلوه" في وضعوه وفيه تجوز وإنما الرحل هو الذي يوضع على ظهر البعير ثم يوضع الهودج فوقه قوله "وكان النساء إذ ذاك خفافا" قالت هذا كالتفسير لقولها "وهم يحسبون إني فيه" قوله "لم يثقلهن اللحم" في رواية فليح لم يثقلهن ولم يغشهن اللحم قال بن أبي

(8/459)


جمرة ليس هذا تكرارا لأن كل سمين ثقيل عكس لأن الهزيل قد يمتلئ بطنه طعاما فيقل بدنه فأشارت إلى أن المعنيين لم يكونا في نساء ذلك الزمان وقال الخطابي معنى قولها لم يغشهن أي لم يكثر عليهن فيركب بعضه بعضا وفي رواية معمر لم يهبلهن وضبطه بن الخشاب فيما حكاه بن الجوزي بفتح أوله وسكون الهاء وكسر الموحدة ومثله القرطبي لكن الموحدة قال لأن ماضيه بفتحتين مخففا وقال النووي المشهور في ضبطه بضم أوله وفتح الهاء وتشديد الموحدة وبفتح أوله وثالثه أيضا وبضم أوله وكسر ثالثه من الرباعي يقال هبله اللحم وأهبله إذا أثقله وأصبح فلان مهبلا أي كثير اللحم أو رام الوجه قلت وفي رواية بن جريج "لم يهبلهن اللحم" وحكى القرطبي أنها في رواية لابن الحذاء في مسلم أيضا وأشار إليها بن الجوزي وقال المهبل الكثير اللحم الثقيل الحركة من السمن وفلان مهبل أي مهيج كأن به ورما قوله "إنما يأكلن" كذا للأكثر وفي رواية الكشميهني هنا إنما نأكل بالنون أوله وباللام فقط قوله العلقة بضم العين المهملة وسكون اللام ثم قاف أي القليل قال القرطبي كأن المراد الشيء القليل الذي يسكن الرمق كذا قال وقد قال الخليل العلقة ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغداء حكاه بن بطال قال وأصلها شجر يبقى في الشتاء تتبلغ به الإبل حتى يدخل زمن الربيع قوله "فلم يستنكر القوم خفة الهودج" وقع في رواية فليح ومعمر ثقل الهودج والأول أوضح لأن مرادها إقامة عذرهم في تحميل هودجها وهي ليست فيه فكأنها تقول كأنها لخفة جسمها بحيث أن الذين يحملون هودجها لا فرق عندهم بين وجودها فيه وعدمها ولهذا أردفت ذلك بقولها وكنت جارية حديثه السن أي أنها مع نحافتها صغيرة السن فذلك أبلغ في خفتها وقد وجهت الرواية الأخرى بأن المراد لم يستنكروا الثقل الذي اعتادوه لأن ثقله في الأصل إنما هو ركب الهودج منه من خشب وحبال وستور وغير ذلك وأما هي فلشدة نحافتها كان لا يظهر بوجودها فيه زيادة ثقل والحاصل أن الثقل والخفة من الأمور الاضافية فيتفاوتان بالنسبة ويستفاد من ذلك أيضا أن الذين كانوا يرحلون بعيرها كانوا في غاية الأدب معها والمبالغة في ترك التنقيب عما في الهودج بحيث أنها لم تكن فيه وهم يظنون أنها فيه وكأنهم جوزوا أنها نائمة قوله "وكنت جارية حديثه السن" هو كما قالت لأنها أدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة في شوال ولها تسع سنين وأكثر ما قبل في المريسيع كما سيأتي أنها ثم بن إسحاق كانت في شعبان سنة ست فتكون لم تكمل خمس عشرة فإن كانت المريسيع قبل ذلك فتكون أصغر من ذلك وقد أشرت إلى فائدة ذكرها ذلك قبل ويحتمل أن تكون أشارت بذلك إلى بيان عذرها فيما فعلته من الحرص على العقد الذي انقطع ومن استقلالها بالتفتيش عليه في تلك الحال وترك إعلام أهلها بذلك وذلك لصغر سنها وعدم تجاربها للأمور بخلاف ما لو كانت ليست صغيرة لكانت تتفطن لعاقبة ذلك وقد وقع لها بعد ذلك في ضياع العقد أيضا أنها أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم بأمره فأقام بالناس ماء حتى وجدته ونزلت آية التيمم بسبب ذلك فظهر تفاوت حال من جرب الشيء ومن لم يجربه وقد تقدم إيضاحه في كتاب التيمم قوله "فبعثوا الجمل" أي أثاروه قوله "بعد ما استمر الجيش" أي ذهب ماضيا وهو استفعل من مر قوله "فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب" في رواية فليح وليس فيها أحد فإن قيل لم لم تستصحب عائشة معها غيرها فكان ادعى لأمنها مما يقع للمنفرد ولكانت لما تأخرت للبحث عن العقد ترسل من رافقها لينتظروها إن أرادوا الرحيل والجواب أن هذا من جملة ما يستفاد من قوله حديثه السن لأنها لم يقع لها

(8/460)


تجربة مثل ذلك وقد صارت بعد ذلك إذا خرجت لحاجتها تستصحب كما سيأتي في قصتها مع أم مسطح وقوله فأممت منزلي بالتخفيف أي قصدت وفي رواية أبي ذر هنا بتشديد الميم الأولى قال الداودي ومنه قوله تعالى {ولا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} قال بن التين هذا على أنه بالتخفيف انتهى وفي رواية صالح بن كيسان فتيممت قوله وظننت أنهم سيعقدونني في رواية فليح سيفقدوني بنون واحدة فأما أن تكون حذفت تخفيفا أو هي مثقلة قوله فيرجعون إلى وقع في رواية معمر فيرجعوا بغير نون وكأنه على لغة من يحذفها مطلقا قال عياض الظن هنا بمعنى العلم وتعقب باحتمال أن يكون على بابه فإنهم أقاموا إلى وقت الظهر ولم يرجح أحد منهم إلى المنزل الذي كانت به ولا نقل أن أحدا لاقاها في الطريق لكن يحتمل أن يكونوا استمروا في السير إلى قرب الظهر فلما نزلوا إلى أن يشتغلوا بحط رحالهم وربط رواحلهم واستصحبوا حالهم في ظنهم أنها في هودجها لم يفتقدوها إلى أن وصلت على قرب ولو فقدوها لرجعوا كما ظنته وقد وقع في رواية بن إسحاق وعرفت أن لو افتقدوني لرجعوا إلى وهذا ظاهر في أنها لم تتبعهم ووقع في حديث بن عمر خلاف ذلك فإن فيه فجئت فاتبعتهم حتى أعييت فقمت على بعض الطريق فمر بن صفوان وهذا السياق ليس بصحيح لمخالفته لما في الصحيح وأنها أقامت في منزلها إلى أن أصبحت وكأنه تعارض عندها أن تتبعهم فلا تأمن أن يختلف عليها الطرق فتهلك قبل أن تدركهم ولا سيما وقد كانت في الليل أو تقيم في منزلها لعلهم إذا فقدوها عادوا إلى مكانها الذي فارقوها فيه وهكذا ينبغي لمن فقد شيئا أن يرجع بفكره القهقرى إلى الحد الذي يتحقق وجوده ثم يأخذ من هناك في التنقيب عليه وأرادت بمن يفقدها من هو منها بسبب كزوجها أو أبيها والغالب الأول لأنه كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يساير بعيرها ويتحدث معها بالحق ذلك لم يتفق في تلك الليلة ولما لم يتفق ما توقعته من رجوعهم إليها ساق الله إليها من حملها بغير حول منها ولا قوة قوله "فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت" يحتمل أن يكون سبب النوم شدة الغم الذي حصل لها في تلك الحالة ومن شأن الغم وهو وقوع ما يكره غلبة النوم بخلاف الهم وهو توقع ما يكره فأنه يقتضي السهر أو لما وقع من برد السحر لها مع رطوبة بدنها وصغر سنها وعند بن إسحاق فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني أو أن الله سبحانه وتعالى لطف بها فألقى عليها النوم لتستريح من وحشة الانفراد في البرية بالليل قوله "وكان صفوان بن المعطل" بفتح الطاء المهملة المشددة السلمي بضم المهملة ثم الذكوائي منسوب إلى ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بضم الموحدة وسكون الهاء بعدها مثلثة بن سليم وذكوان بطن من بني سليم وكان صحابيا فاضلا أول مشاهده ثم الواقدي الخندق وعند المريسيع وسيأتي في أثناء شرح هذا الحديث ما يدل على تقدم إسلامه ويأتي أيضا بعد خمسة أبواب قول عائشة أنه قتل كلاهما في سبيل الله ومرادها أنه قتل بعد ذلك لا أنه في تلك الأيام وقد ذكر بن إسحاق أنه استشهد في غزاة ارمينية في خلافة عمر سنة تسع عشرة وقيل بل عاش إلى سنة أربع وخمسين فاستشهد بأرض الروم في خلافة معاوية قوله "من وراء الجيش" في رواية معمر "قد عرس من وراء الجيش" وعرس بمهملات مشددا أي نزل قال أبو زيد التعريس النزول في السفر في أي وقت كان وقال غيره أصله النزول من آخر الليل في السفر للراحة ووقع في حديث بن عمر بيان سبب تأخر صفوان ولفظه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله على الساقة فكان إذا رحل الناس قام يصلي ثم اتبعهم فمن سقط له شيء أتاه به وفي حديث أبي هريرة وكان صفوان يتخلف عن الناس فيصيب القدح والجراب

(8/461)


والإداوة وفي مرسل مقاتل بن حيان فيحمله فيقدم به فيعرفه في أصحابه وكذا في مرسل سعيد بن جبير نحوه قوله "فأدلج فأصبح عند منزلي" أدلج بسكون الدال في روايتنا وهو كادلج بتشديدها وقيل بالسكون سار من أوله وبالتشديد سار من آخره وعلى هذا فيكون الذي هنا بالتشديد لأنه كان في آخر الليل وكأنه تأخر في مكانه حتى قرب الصبح فركب ليظهر له ما يسقط من الجيش مما يخفيه الليل ويحتمل أن يكون سبب تأخيره ما جرت به عادته من غلبة النوم عليه ففي سنن أبي داود والبزار وابن سعد وصحيح بن حبان والحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد إن امرأة صفوان بن المعطل جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله "إن زوجي يضربني إذا صليت ويفطرني إذا صمت ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس قال: وصفوان عنده فسأله فقال: أما قولها يضربني إذا صليت فإنها تقرأ سورتي وقد نهيتها عنها وأما قولها يفطرني إذا صمت فأنا رجل شاب لا أصبر وأما قولها إني لا أصلي حتى تطلع الشمس" الحديث قال البزار هذا الحديث كلامه منكر ولعل الأعمش أخذه ثقة فدلسه فصار ظاهر سنده الصحة وليس للحديث عندي أصل انتهى وما أعله به ليس بقادح لأن بن سعد صرح في روايته بالتحديث بين الأعمش وأبي صالح وأما رجاله فرجال الصحيح ولما أخرجه أبو داود قال بعده رواه حماد بن سلمة عن حميد عن ثابت عن أبي المتوكل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه متابعة جيدة تؤذن بأن للحديث أصلا وغفل من جعل هذه الطريقة الثانية علة للطريق الأولى وأما استنكار البزار ما وقع في متنه فمراده أنه مخالف للحديث الآتي قريبا من رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قصة الإفك قالت "فبلغ الأمر ذلك الرجل فقال سبحان الله والله ما كشفت كنف أنثى قط" أي ما جامعتها والكنف بفتحتين الثوب الساتر ومنه قولهم أنت في كنف الله أي في ستره والجمع بينه وبين حديث أبي سعيد على ما ذكر القرطبي أن مراده بقوله "ما كشفت كنف أنثى قط" أي بزنا قلت وفيه نظر لأن في رواية سعيد بن أبي هلال عن هشام بن عروة في قصة الإفك أن الرجل الذي قيل فيه ما قيل لما بلغه الحديث قال: "والله ما أصبت امرأة قط حلالا ولا حراما" وفي حديث بن عباس ثم الطبراني "وكان لا يقرب النساء" فالذي يظهر أن مراده بالنفي المذكور ما قبل هذه القصة ولا مانع أن يتزوج بعد ذلك فهذا الجمع لا اعتراض عليه إلا بما جاء عن بن إسحاق أنه كان حصورا لكنه لم يثبت فلا يعارض الحديث الصحيح ونقل القرطبي أنه هو الذي جاءت امرأته تشكوه ومعها ابنان لها منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: "أشبه به من الغراب بالغراب ولم صليت" على مستند القرطبي في ذلك وسيأتي هذا الحديث في كتاب النكاح وأبين هناك أن المقول فيه صفوان وهو المعتمد أن شاء الله تعالى قوله "فرأى سواد إنسان" بلفظ ضد البياض يطلق على الشخص أي شخص كان فكأنها قالت رأى شخص آدمي لكن لا يظهر أهو رجل أو امرأة قوله "فعرفني حين رآني" هذا يشعر بأن وجهها انكشف لما نامت لأنه تقدم أنها تلففت بجلبابها ونامت فلما انتبهت باسترجاع صفوان بادرت إلى تغطية وجهها قوله "وكان يراني قبل الحجاب" أي قبل نزول آية الحجاب وهذا يدل على قدم إسلام صفوان فإن الحجاب كان في قول أبي عبيدة وطائفة في ذي القعدة سنة ثلاث وعند آخرين فيها سنة أربع وصححه الدمياطي وقيل بل كان فيها سنة خمس وهذا مما تناقض فيه الواقدي فإنه ذكر أن المريسيع كان في شعبان سنة خمس وأن الخندق كانت في شوال منها وأن الحجاب كان في ذي القعدة منها

(8/462)


مع روايته حديث عائشة هذا وتصريحها فيه بأن قصة الإفك التي وقعت في المريسيع كانت بعد الحجاب وسلم من هذا بن إسحاق قال المريسيع عنده في شعبان لكن سنة ست وسلم الواقدي من التناقض في قصة سعد بن معاذ الآتي ذكرها نعم وسلم منها بن إسحاق فإنه لم يذكر سعد بن معاذ في القصة أصلا كما سأبينه ومما يؤيد صحة ما وقع في هذا الحديث أن الحجاب كان قبل قصة الإفك قول عائشة أيضا في هذا الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم "سأل زينب بنت جحش عنها" وفيه "وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" وفيه "وطفقت أختها حمنة تحارب لها" فكل ذلك دال على أن زينب كانت حينئذ زوجته ولا خلاف أن آية الحجاب نزلت حين دخوله صلى الله عليه وسلم بها فثبت أن الحجاب كان قبل قصة الإفك وقد كنت أمليت في أوائل كتاب الوضوء أن قصة الإفك وقعت قبل نزول الحجاب وهو أخذها والصواب بعد نزول الحجاب فليصلح هناك قوله "فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني" أي بقوله إنا لله وإنا إليه راجعون وصرح بها بن إسحاق في روايته وكأنه شق عليه ما جرى لعائشة أو خشي أن يقع ما وقع أو أنه اكتفى بالاسترجاع رافعا به صوته عن مخاطبتها بكلام آخر صيانة لها عن المخاطبة في الجملة وقد كان عمر يستعمل التكبير ثم إرادة الإيقاظ وفيه دلالة على فطنة صفوان وحسن أدبه قوله "فخمرت" أي غطيت وجهي بجلبابي أي الثوب الذي كان عليها وقد تقدم شرحه في الطهارة قوله "والله ما كلمني كلمة" عبرت بهذه الصيغة إشارة إلى أنه استمر منه ترك المخاطبة لئلا يفهم لو عبرت بصيغة الماضي اختصاص النفي بحال الاستيقاظ فعبرت بصيغة المضارعة قوله "ولا سمعت منه استرجاعه حتى أناخ راحلته" في رواية الكشميهني "حين أناخ راحلته" ووقع في رواية فليح حتى للاصيلي و حين للباقين وكذا ثم مسلم عن معمر وعلى التقديرين فليس فيه نفى أنه كلمها بغير الاسترجاع لأن النفي على رواية حين مقيد بحال إناخة الراحلة فلا يمنع ما قبل الاناخة ولا ما بعدها وعلى رواية حتى معناها بجميع حالاته إلى أن أناخ ولا يمنع ما بعد الإناخة وقد فهم كثير من الشراح أنها أرادت بهذه العبارة نفي المكالمة البتة فقالوا استعمل معها الصمت اكتفاء بقرائن الحال مبالغة منه في الأدب وإعظاما لها وإجلالا انتهى وقد وقع في رواية بن سحق أنه قال لها ما خلفك وأنه قال لها اركبي واستأخر وفي رواية أبي أويس فاسترجع وأعظم مكاني أي حين رآني وحدي وقد كان يعرفني قبل أن يضرب علينا الحجاب فسألني عن أمري فسترت وجهي عنه بجلبابي وأخبرته بأمري فقرب بعيره فوطيء على ذراعه فولاني قفاه فركبت وفي حديث بن عمر "فلما رآني ظن أني رجل فقال يا نومان قم فقد سار الناس" وفي مرسل سعيد بن جبير "فاسترجع ونزل عن بعيره وقال ما شأنك يا أم المؤمنين فحدثته بأمر القلادة" قوله "فوطيء على يدها" أي ليكون أسهل لركوبها ولا يحتاج إلى مسها ثم ركوبها وفي حديث أبي هريرة "فغطى وجهه عنها ثم أدنى بعيره منها" قوله "فانطلق يقود بن الراحلة حتى أتينا الجيش" هكذا وقع في جميع الروايات إلا في مرسل مقاتل بن حيان فإن فيه أنه ركب معها مردفا لها والذي في الصحيح هو الصحيح قوله بعد ما نزلوا موغرين بضم الميم وكسر الغين المعجمة والراء المهملة أي نازلين في وقت الوغرة بفتح الواو وسكون الغين وهي شدة الحر لما تكون الشمس في كبد السماء ومنه أخذ وغر الصدر وهو توقده من الغيظ بالحقد وأوغر فلان إذا دخل في ذلك الوقت كأصبح وأمسى وقد وقع ثم مسلم عن عبد بن حميد قال قلت لعبد الرزاق ما قوله "موغرين" قال الوغرة شدة الحر ووقع في مسلم من طريق يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن صالح بن كيسان

(8/463)


موعزين بعين مهملة وزاي قال القرطبي كأنه من وعزت إلى فلان بكذا أي تقدمت والأول أولى قال وصحفه بعضهم بمهلتين وهو غلط قلت وروى مغورين بتقديم الغين المعجمة وتشديد الواو والتغوير النزول وقت القائلة ووقع في رواية فليح معرسين بفتح العين المهملة وتشديد الراء ثم سين مهملة والتعريس نزول المسافر في آخر الليل وقد استعمل في النزول مطلقا كما تقدم وهو المراد هنا قوله "في نحر الظهيرة" تأكيد لقوله "موغرين" فإن نحر الظهيرة أولها وهو وقت شدة الحر ونحر كل شيء أوله كأن الشمس لما بلغت غايتها في الارتفاع كأنها وصلت إلى النحر الذي هو أعلى الصدر ووقع في رواية بن إسحاق "فوالله ما أدركنا الناس وإلا افتقدت حتى نزلوا واطمأنوا طلع الرجل يقودني قوله "فهلك من هلك" زاد صالح في روايته "في شأني" وفي رواية أبي أويس فهنالك قال في وفيه أهل الإفك ما قالوا فأبهمت القائل وما قال وأشارت بذلك إلى الذين تكلموا بالإفك وخاضوا في ذلك وأما أسماؤهم فالمشهور في الروايات الصحيحة عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وقد وقع في المغازي من طريق صالح بن كيسان عن الزهري قال قال عروة لم يسم من أهل الإفك عبد الله بن أبي إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي أنهم عصبة كما قال الله تعالى انتهى والعصبة من ثلاثة إلى عشرة وقد تطلق على الجماعة حصر في عدد وزاد أبو الربيع بن سالم فيهم تبعا لأبي الخطاب بن دحية عبد الله وأبا أحمد ابنا جحش وزاد فيهم الزمخشري زيد بن رفاعة ولم أره لغيره وعند بن مردويه من طريق بن سيرين حلف أبو بكر أن لا ينفق على يتيمين كانا عنده خاضا في أمر عائشة أحدهما مسطح انتهى ولم صليت على تسمية رفيق مسطح وأما القول فوقع في حديث بن عمر فقال عبد الله بن أبي فجربها ورب الكعبة وأعانه على ذلك جماعة وشاع ذلك في العسكر وفي مرسل سعيد بن جبير وقذفها عبد الله بن أبي فقال ما برئت عائشة من صفوان ولا بريء منها وخاض بعضهم وبعضهم أعجبه قوله وكان الذي تولى كبره أي تصدى لذلك وتقلده وكبره أي كبر الإفك وكبر الشيء معظمه وهو قراءة الجمهور بكسر الكاف وقرأ حميد الأعرج بضمها قال الفراء وهي قراءة جيدة في العربية وقيل المعنى الذي تولى أئمة قوله عبد الله بن أبي تقدمت ترجمته في تفسير سورة براءة وقد بينت قوله في ذلك من قبل وقد اقتصر بعضهم من قصة الإفك على هذه القصة كما تقدم في الباب الذي قبل هذا وسيأتي بعد أربعة أبواب نقل الخلاف في المراد بالذي تولى كبره في الآية ووقع في المغازي من طريق صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة قال أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره بضم أوله وكسر القاف ويستمعه ويستوشيه بمهملة ثم معجمة أي يستخرجه بالبحث عنه والتفتيش ومنهم من ضبطه يقره بفتح القاف وفي رواية بن إسحاق وكان الذي تولى كبر ذلك عبد الله بن أبي في رجال من الخزرج قوله فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وفي رواية بن إسحاق وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوي ولا يذكرون لي شيئا من ذلك وفيها أنها مرضت بضعا وعشرين ليلة وهذا فيه رد على ما وقع في مرسل مقاتل بن حيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قول أهل الإفك وكان شديد الغيرة قال لا تدخل عائشة رحلي فخرجت تبكي حتى أتت أباها فقال أنا أحق أن أخرجك فانطلقت تجول لا يؤويها أحد حتى أنزل الله عذرها وإنما ذكرته مع ظهور نكارته لا يراد الحاكم له في الإكليل وتبعه بعض من تأخر غير

(8/464)


متأمل لما فيه من النكارة والمخالفة للحديث الصحيح من عدة أوجه فهو باطل ووقع في حديث بن عمر فشاع ذلك في العسكر فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا المدينة أشاع عبد الله بن أبي ذلك في الناس فاشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله "والناس يفيضون" بضم أوله أي يخوضون من أفاض في قول إذا أكثر منه قوله "وهو يريني في وجعي" بفتح أوله من الريب ويجوز الضم من الرباعي يقال رأبه وأرابه وقد تقدم تقريبا قوله اللطف بضم أوله وسكون ثانيه وبفتحهما لغتان والمراد الرفق ووقع في رواية بن إسحاق أنكرت بعض لطفه قوله "الذي كنت أرى منه حين أشتكى" أي حين أمرض قوله "إنما يدخل فيسلم ثم يقول كيف تيكم" وفي رواية بن إسحاق "فكان إذا دخل قال لامي وهي تمرضني كيف تيكم" بالمثناة المكسورة وهي للمؤنث مثل ذاكم للمذكر واستدلت عائشة بهذه الحالة على أنها استشعرت منه بعض جفاء ولكنها لما لم تكن تدري السبب لم تبالغ في التنقيب عن ذلك حتى عرفته ووقع في رواية أبي أويس إلا أنه يقول وهو مار كيف تيكم ولا يدخل عندي ولا يعودني ويسأل عني أهل البيت وفي حديث بن عمر وكنت أرى منه جفوة ولا أدري من أي شيء قوله "نقهت" بفتح القاف وقد تكسر والأول أشهر والناقه بكسر القاف الذي أفاق من مرضه ولم تتكامل صحته وقيل إن الذي بكسر القاف بمعنى فهمت لكنه هنا لا يتوجه لأنها ما فهمت ذلك إلا فيما بعد وقد أطلق الجوهري وغيره أنه بفتح القاف وكسرها لغتان في برأ من المرض وهو قريب العهد لم يرجع إليه كمال صحته قوله "فخرجت مع أم مسطح" في رواية أبي أويس "فقلت يا أم مسطح خذي الإداوة فاملئيها ماء فاذهبي بنا إلى المناصع" قوله قبل المناصع أي جهتها تقدم شرحه في أوائل كتاب الوضوء وأن المناصع صعيد أفيح خارج المدينة قوله متبرزنا بفتح الراء قبل الزاي موضع التبرز وهو الخروج إلى البراز وهو الفضاء وكله كناية عن الخروج إلى قضاء الحاجة والكنف بضمتين جمع كنيف وهو الساتر والمراد به هنا المكان المتخذ لقضاء الحاجة وفي رواية بن إسحاق الكنف التي يتخذها الأعاجم قوله "وأمرنا أمر العرب الأول" بضم الهمزة وتخفيف الراء صفة العرب وبفتح الهمزة وتشديد الراء صفة الأمر قال النووي كلاهما صحيح تريد أنهم لم يتخلقوا بأخلاق العجم قلت ضبطه بن الحاجب بالوجه الثاني وصرح بمنع وصف الجمع باللفظ الأول ثم قال إن ثبتت الرواية خرجت على أن العرب اسم جمع تحته جموع فتصير مفردة بهذا التقدير قوله "في التبرز قبل الغائط" في رواية فليح في البرية بفتح الموحدة وتشديد الراء ثم التحتانية أو في التنزه بمثناة ثم نون ثم زاي ثقيلة هكذا على الشك والتنزه طلب النزاهة والمراد البعد عن البيوت قوله "فانطلقت أنا وأم مسطح" بكسر الميم وسكون السين وفتح الطاء بعدها حاء مهملات قيل عدا سلمى وفيه نظر لأن سلمى اسم أم أبي بكر ثم ظهر لي أن لا وهم فيه فإن أم أبي بكر خالتها فسميت باسمها قوله "وهي بنت أبي رهم" بضم الراء وسكون الهاء قوله "بن عبد مناف" كذا هنا ولم ينسبه فليح وفي رواية صالح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وهو الصواب واسم أبي رهم أنيس قوله وأمها بنت صخر بن عامر أي بن كعب بن سعد بن تيم من رهط أبي بكر قوله "خالة أبي بكر الصديق" عدا رائطة حكاه أبو نعيم قوله "وابنها مسطح بن أثاثة" بضم الهمزة ومثلثتين الأولى خفيفة بينهما ألف بن عباد بن المطلب فهو المطلبي من أبيه وأمه والمسطح عود من أعواد الخباء وهو لقب واسمه عوف وقيل عامر والأول هو المعتمد وقد أخرج الحاكم من حديث بن عباس قال قال أبو بكر يعاتب مسطحا في قصة عائشة

(8/465)


يا عوف ويحك هل لا قلت عارفة ... من الكلام ولم تبتغ به طعما
وكان هو وأمه من المهاجرين الأولين وكان أبوه مات وهو صغير فكفله أبو بكر لقرابة أم مسطح منه وكانت وفاة مسطح سنة أربع وثلاثين وقيل سنة سبع وثلاثين بعد أن شهد صفين مع على قوله "فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا فعثرت" بالمهملة والمثلثة أم مسطح في مرطها بكسر الميم وفي رواية مقسم عن عائشة أنها وطئت على عظم أو شوكة وهذا ظاهره أنها عثرت بعد أن قضت عائشة حاجتها ثم أخبرتها الخبر بعد ذلك لكني في رواية هشام بن عروة الآتية قريبا أنها عثرت قبل أن تقضي عائشة حاجتها وأنها لما أخبرتها الخبر رجعت كأن الذي خرجت له لا تجد منه لا قليلا ولا كثيرا وكذا وقع في رواية بن إسحاق قالت فوالله ما قدرت أن أقضي حاجتي وفي رواية بن أويس فذهب عني ما كنت أجد من الغائط ورجعت عودي على بدئي وفي حديث بن عمر فأخذتني الحمى وتقلص ما كان مني ويجمع بينهما بأن معنى قولها "وقد فرغنا من شأننا" أي من شأن المسير لاقضاء الحاجه قوله "فقالت تعس مسطح" بفتح الشاة وكسر العين المهملة وبفتحها أيضا بعدها سين مهملة أي كب لوجهه أو هلك ولزمه الشر أو بعد أقوال وقد تقدم شرحها أيضا في الجهاد قوله "فقلت لها بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا" في رواية هشام بن عروة أنها عثرت ثلاث مرات كل ذلك تقول تعس مسطح وأن عائشة تقول لها أي أم أتسبين ابنك وأنها انتهرتها في الثالثة فقالت والله ما أسبه إلا فيك وعند الطبراني "فقلت أتسبين ابنك وهو من المهاجرين الأولين" وفي رواية بن حاطب عن علقمة بن وقاص فقلت أتقولين هذا لابنك وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت مرتين فأعدت عليها فحدثتني بالخبر فذهب عني الذي خرجت له حتى ما أجد منه شيئا قال أبو محمد بن أبي جمرة يحتمل أن يكون قول أم مسطح هذا عمدا لتتوصل إلى إخبار عائشة بما قيل فيها وهي غافلة ويحتمل أن يكون اتفاقا أجراه الله على لسانها لتستيقظ عائشة من غفلتها عما قيل فيها قوله "قالت أي هنتاه" أي حرف نداء للبعيد وقد يستعمل للقريب حيث ينزل البعيد والنكتة فيه هنا أن أم مسطح نسبت عائشة إلى الغفلة عما قيل فيها لإنكارها سب مسطح فخاطبتها خطاب البعيد وهنتاه بفتح الهاء وسكون النون وقد تفتح بعدها مثناة وآخره هاء ساكنة وقد تضم أي هذه وقيل امرأة وقيل بلهى كأنها نسبتها إلى قلة المعرفة بمكائد الناس وهذه اللفظة تختص بالنداء وهي عبارة عن كل نكرة وإذا خوطب المذكر قيل ياهنة وقد تشبع النون فيقال يا هناه وحكى بعضهم تشديد النون فيه وأنكره الأزهري قوله "قالت قلت وما قال في" رواية أبي أويس "فقالت لها إنك لغافلة عما يقول الناس" وفيها أن مسطحا وفلانا وفلانا يجتمعون في بيت عبد الله بن أبي يتحدثون عنك وعن صفوان يرمونك به وفي رواية مقسم عن عائشة أشهد إنك من الغافلات المؤمنات وفي رواية هشام بن عروة الآتيه فنقرت لي الحديث وهي بنون وقاف ثقيلة أي شرحته ولبعضهم بموحدة وقاف خفيفة أي أعلمتنيه قوله "فازددت مرضا على مرضي" ثم سعيد بن منصور من مرسل أبي صالح "فقالت وما تدرين ما قال قالت لا والله فأخبرتها بما خاض فيه الناس فأخذتها الحمى" وعند الطبراني بإسناد صحيح عن أيوب عن بن أبي مليكة "عن عائشة قالت لما بلغني ما تكلموا به هممت أن آتي قليبا فأطرح نفسي فيه" وأخرجه أبو عوانة أيضا قوله "فلما رجعت إلى بيتي ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية معمر فدخل قيل الفاء زائدة والأولى أن في الكلام حذفا تقديره فلما دخلت بيتي استقريت فيه فدخل قوله

(8/466)


"فقلت أتأذن لي أن آتي أبوي" في رواية هشام بن عروة المعلقة "فقلت أرسلني إلى بيت أبي فأرسل معي الغلام" وسيأتي نحوه موصولا في الاعتصام ولم صليت على اسم هذا الغلام قوله "فقلت لأمي يا أمتاه ما يتحدث الناس قالت يا بنية هوني عليك" في رواية هشام بن عروة "فقالت يا بنية خففي عليك الشأن" قوله "وضيئة" بوزن عظيمة من الوضاءة أي حسنة جميلة وعند مسلم من رواية بن ماهان حظية بمهملة ثم معجمة من الحظوة أي رفيعة المنزلة وفي رواية هشام "ما كانت امرأة حسناء" قوله "ضرائر" جمع ضرة وقيل للزوجات ضرائر لأن كل واحدة يحصل لها الضرر من الأخرى بالغيرة قوله "أكثرن عليها" في رواية الكشميهني كثرن بالتشديد أي القول في عيبها وفي رواية بن حاطب لقلما أحب رجل امرأته إلا قالوا لها نحو ذلك وفي رواية هشام إلا حسدنها وقيل فيها وفي هذا الكلام من فطنة أمها وحسن تأتيها في تربيتها ما لا مزيد عليه فإنها علمت أن ذلك يعظم عليها فهونت عليها الأمر بإعلامها بأنها لم تنفرد بذلك لأن المرء يتأسى بغيره فيما يقع له وأدمجت في ذلك ما تطيب به خاطرها من أنها فائقة في الجمال والحظوة وذلك مما يعجب المرأة أن توصف به مع ما فيه من الإشارة إلى ما وقع من حمنة بنت جحش وأن الحامل لها على ذلك كون عائشة ضرة أختها زينب بنت جحش وعرف من هذا أن الاستثناء في قولها "إلا أكثرن عليها" متصل لأنها لم تقصد قصتها بعينها بل ذكرت شأن الضرائر وأما ضرائرها هي فإنهن وإن كن لم يصدر منهن في حقها شيء مما يصدر من الضرائر لكن لم يعدم ذلك ممن هو منهن بسبيل كما وقع من حمنة لأن ورع أختها منعها من القول في عائشة كما منع بقية العالمين المؤمنات وإنما اختصت زينب بالذكر لأنها التي كانت تضاهي عائشة في المنزلة قوله "فقلت سبحان الله أو لقد تحدث الناس بهذا" زاد الطبري من طريق معمر عن الزهري وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت نعم وفي رواية هشام "فقلت وقد علم به أبي قالت نعم قلت ورسول الله قلت نعم ورسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية بن إسحاق "فقلت لأمي غفر الله لك يتحدث الناس بهذا ولا تذكرين لي" وفي رواية بن حاطب عن علقمة "ورجعت إلى أبوي فقلت أما اتقيتما الله في وما وصلتما رحمي يتحدث الناس بهذا ولم تعلماني" وفي رواية هشام بن عروة فاستعبرت "فبكيت فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ فقال لأمي ما شأنها فقالت بلغها الذي ذكر من شأنها ففاضت عيناه فقال أقسمت عليك يا بنية إلا رجعت إلى بيتك فرجعت" وفي رواية معمر ثم الطبراني "فقالت أمي لم تكن علمت ما قيل لها فأكبت تبكي ساعة ثم قال اسكتي يا بنية" قوله "فقلت سبحان الله" استغاثت بالله متعجبة من وقوع مثل ذلك في حقها مع براءتها المحققة عندها قوله "لا يرقأ لي دمع" بالقاف بعدها همزة أي لا ينقطع قوله "ولا أكتحل بنوم" استعارة للسهر ووقع في رواية مسروق عن أم رومان كما مضى في المغازي "فخرت مغشيا عليها فما استفاقت إلا وعليها حمى بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها" وفي رواية الأسود عن عائشة فألقت على أمي كل ثوب في البيت تنبيه طرق حديث الإفك مجتمعة على أن عائشة بلغها الخبر من أم مسطح لكن وقع في حديث أم رومان ما يخالف ذلك ولفظه "بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت علينا امرأة من الأنصار فقالت فعل الله بفلان وفعل فقلت وما ذاك قالت ابني ومن حدث الحديث قالت وما ذلك قالت كذا وكذا هذا" لفظ المصنف في المغازي ولفظه في قصة يوسف قالت إنه ثمى الحديث فقالت عائشة أي حديث فأخبرتها قالت فسمعه أبو بكر قالت نعم قالت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قالت نعم فخرت مغشيا عليها وطريق الجمع

(8/467)


بينهما أنها سمعت ذلك أولا من أم مسطح ثم ذهبت لبيت أمها لتستيقن الخبر منها فأخبرتها أمها بالأمر مجملا كما مضى من قولها "هوني عليك وما أشبه ذلك ثم دخلت عليها الأنصارية فأخبرتها بمثل ذلك بحضرة أمها فقوي عندها القطع بوقوع ذلك فسألت هل سمعه أبوها وزوجها ترجيا منها أن لا يكونا سمعا ذلك ليكون أسهل عليها فلما قالت لها إنهما سمعاه غشي عليها ولم صليت على اسم هذه المرأة الأنصارية ولا على اسم ولدها قوله "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا" ظاهره أن السؤال وقع بعد ما علمت بالقصة لأنها عقبت بكاءها تلك الليلة بهذا ثم عقبت هذا بالخطبة ورواية هشام بن عروة تشعر بأن السؤال والخطبة وقعا قبل أن تعلم عائشة بالأمر فإن في أول رواية هشام عن أبيه عن عائشة لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فذكر قصة الخطبة الآتية ويمكن الجمع بأن الفاء في قوله فدعا عاطفة على شيء محذوف تقديره وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد سمع ما قيل فدعا على قوله على بن أبي طالب وأسامة بن زيد في حديث بن عمر وكان إذا أراد أن يستشير أحدا في أمر أهله لم يعد عليا وأسامة لكن وقع في رواية الحسن العربي عن بن عباس ثم الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم استشار زيد بن ثابت فقال دعها فلعل الله يحدث لك فيها أمرا وأظن في قوله بن ثابت تغيير وأنه كان في الأصل بن حارثة وفي رواية الواقدي أنه سأل أم أيمن فبرأتها وأم أيمن هي والدة أسامة بن زيد وسيأتي أنه سأل زينب بنت جحش أيضا قوله حين استلبث الوحي بالرفع أي طال لبث نزوله وبالنصب أي أستبطأ النبي صلى الله عليه وسلم نزوله قوله في فراق أهله عدلت عن قولها في فراقي إلى قولها فراق أهله لكراهتها التصريح بإضافة الفراق إليها قوله أهلك بالرفع فإن في رواية معمر هم أهلك ولو لم تقع هذه الرواية لجاز النصب أي أمسك ومعناه هم أهلك أي العفيفة اللائقة بك ويحتمل أن يكون قال ذلك متبرئا من المشورة ووكل الأمر إلى رأى النبي صلى الله عليه وسلم ثم لم يكتف بذلك حتى أخبر بما عنده فقال ولا نعلم إلا خيرا وإطلاق الأهل على الزوجة شائع قال بن التين أطلق عليها أهلا وذكرها بصيغة الجمع حيث قال: "هم أهلك" إشارة إلى تعميم الأزواج بالوصف المذكور انتهى ويحتمل أن يكون جمع لإرادة تعظيمها قوله "وأما على بن أبي طالب فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير" كذا للجميع بصيغة التذكير كأنه أراد الجنس مع أن لفظ فعيل يشترك فيه المذكر والمؤنث افرادا وجمعا وفي رواية الواقدي "قد أحل لك وأطاب طلقها وأنكح غيرها" وهذا الكلام الذي قاله علي حمله عليه ترجيح جانبا النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عنده من القلق بسبب القول الذي قيل وكان صلى الله عليه وسلم شديد الغيرة فرأى علي أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن يتحقق براءتها فيمكن رجعتها ويستفاد منه ارتكاب أخف الضررين لذهاب أشدهما وقال الثوري رأى ذلك هو المصلحة في حق النبي صلى الله عليه وسلم واعتقد ذلك لما رأى من انزعاجه فبذل جهده في النصيحة لإرادة راحة خاطره صلى الله عليه سلم وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة لم يجزم علي بالإشارة بفراقها لأنه عقب ذلك بقوله "وسل الجارية تصدقك" ففوض الأمر في ذلك إلى نظر النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال إن أردت تعجيل الراحة ففارقها وأن أردت خلاف ذلك فابحث عن حقيقة الأمر إلى أن تطلع على براءتها لأنه كان يتحقق أن بريرة لا تخبره إلا بما علمته وهي لم تعلم من عائشة إلا البراءة المحضة والعلة في اختصاص على أسامة بالمشاورة أن عليا كان عنده كالولد لأنه رباه من حال صغره ثم لم يفارقه بل وازداد اتصاله بتزويج فاطمة فلذلك كان مخصوصا بالمشاورة فيما يتعلق بأهله لمزيد اطلاعه على أحواله أكثر من غيره وكان أهل ==

  كتاب : 27-فتح الباري  أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) 

 =مشورته فيما يتعلق بالأمور العامة أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وأما أسامة فهو كعلي في طول الملازمة ومزيد الاختصاص والمحبة ولذلك كانوا يطلقون عليه أنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخصه دون أبيه وأمه لكونه كان شابا كعلي وأن كان على أسن منه وذلك أن للشاب من صفاء الذهن ما ليس لغيره ولأنه أكثر جرأة على الجواب بما يظهر له من المسن لأن المسن غالبا يحسب العاقبة فربما أخفى ما يظهر له رعاية للقائل تارة والمسؤول عنه أخرى مع ما ورد في بعض الأخبار أنه استشار غيرهما تنبيه وقع بسبب هذا الكلام من على نسبه عائشة إياه إلى الإساءة في شأنها كما تقدم من رواية الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة في المغازي وما راجع به الوليد بن عبد الملك من ذلك فأغنى عن اعادته وقد وضح عذر على في ذلك قوله "وسل الجارية تصدقك" في رواية مقسم عن عائشة أرسل إلى بريرة خادمها فسلها فعسى أن تكون قد اطلعت على شيء من أمرها قوله "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة" بفتح الموحدة وكسر الراء تقدم ضبطها في العتق وفي رواية مقسم "فأرسل إلى بريرة فقال لها أتشهدين أني رسول الله قالت نعم قال فإني سائلك عن شيء فلا تكتمينه قالت نعم قال هل رأيت من عائشة ما تكرهينه قالت لا" وقد قيل إن تسميتها هنا وهم لأن قصتها كانت بعد فتح مكة كما سيأتي أنها لما خيرت فاختارت نفسها كان زوجها يبكي فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة الحديث وسيأتي ويمكن الجواب بأن تكون بريرة كانت تخدم عائشة وهي في رق مواليها وأما قصتها معا في مكاتبتها وغير ذلك فكان بعد ذلك بمدة أو أن اسم هذه الجارية المذكورة في قصة الإفك وافق اسم بريرة التي وقع لها التخيير وجزم البدر الزركشي فيما استدركته عائشة على الصحابة أن تسمية هذه الجارية ببريرة مدرجة من بعض الرواة وأنها جارية أخرى وأخذه من بن القيم الحنبلي فإنه قال تسميتها ببريرة وهم من بعض الرواة فإن عائشة إنما اشترت بريرة بعد الفتح ولما كاتبتها عقب شرائها وعتقت خيرت فاختارت نفسها فظن الراوي أن قول علي وسل الجارية تصدقك أنها بريرة فغلط قال وهذا نوع غامض لا ينتبه له الا الحذاق قلت وقد أجاب غيره بأنها كانت تخدم عائشة بالأجرة وهي في رق مواليها قبل وقوع قصتها في المكاتبة وهذا أولى من دعوى الإدراج وتغليط الحفاظ قوله "أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك" في رواية هشام بن عروة فانتهرها بعض أصحابه فقال اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أبي أويس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي شأنك بالجارية فسألها على وتوعدها فلم تخبره إلا بخير ثم ضربها وسألها فقالت والله ما علمت على عائشة سواء وفي رواية بن إسحاق فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا يقول اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع في رواية هشام حتى أسقطوا لها به يقال أسقط الرجل في القول إذا أتى بكلام ساقط والضمير في قوله به للحديث أو الرجل الذي اتهموها به وحكى عياض أن في رواية بن ماهان في مسلم حتى أسقطوا لهاتها بمثناة مفتوحة وزيادة ألف بعد الهاء قال وهو تصحيف لأنهم لو أسقطوا لهاتها لم تستطع الكلام والواقع أنها تكلمت فقالت سبحان الله الخ وفي رواية حماد بن سلمة عن هشام بن عروة ثم الطبرائي فقال لست عن هذا أسألك قالت نعمة فلما فطنت قالت سبحان الله وهذا يدل على أن المراد بقوله في الرواية حتى أسقطوا لها به حتى صرحوا لها بالأمر فلهذا تعجبت وقال بن الجوزي أسقطوا لها به أي صرحوا بها بالأمر وقيل جاءوا في خطابها بسقط من القول ووقع في رواية

(8/469)


الطبري من طريق أبي أسامة قال عروة فعيب ذلك على من قاله وقال بن بطال يحتمل أن يكون من قولهم سقط إلى الخبر إذا علمته قال الشاعر إذا هن ساقطن الحديث وقلن لي قال فمعناه ذكروا لها الحديث وشرحوه قوله "إن رأيت عليها أمرا" أي ما رأيت فيها مما تسألون عنه شيئا أصلا وأما من غيره ففيها ما ذكرت من غلبة النوم لصغر سنها ورطوبة بدنها قوله أغمصه بغين معجمة وصاد مهملة أي أعيبه قوله "سوى أنها جارية حديثه السن تنام عن عجين أهلها" في رواية بن إسحاق "ما كنت أعيب عليها إلا أني كنت أعجن عجيني وآمرها أن تحفظه فتنام عنه" وفي رواية مقسم "ما رأيت منها مذ كنت عندها إلا أني عجنت عجينا لي فقلت احفظي هذه العجينة حتى أقتبس نار إلا خبزها فغفلت فجاءت الشاة فأكلتها" وهو يفسر المراد بقوله في رواية الباب حتى تأتي الداجن وهي بدال مهملة ثم جيم الشاة التي تألف البيت ولا تخرج إلى المرعى وقيل هي كل ما يألف البيوت مطلقا شاة أو طيرا قال بن المنير في الحاشية هذا من الاستثناء البديع الذي يراد به المبالغة في نفي العيب فغفلتها عن عجينها أبعد لها من مثل الذي رميت به وأقرب إلى أن تكون من الغافلات المؤمنات وكذا في قولها في رواية هشام بن عروة ما علمت إلا ما يعلم الصائغ على الذهب الأحمر أي كما لا يعلم الصائغ من الذهب الأحمر إلا الخلوص من العيب فكذلك أنا لا أعلم منها إلا الخلوص من العيب وفي رواية بن حاطب عن علقمة "فقالت الجارية الحبشيه والله لعائشة أطيب من الذهب ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنك الله قالت فعجب الناس من فقهها" قوله "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية أبي أويس ثم خرج حين سمع من بريرة ما قالت وفي رواية هشام بن عروة "قام فينا خطيبا فتشهد وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد وزاد عطاء الخراساني عن الزهري هنا قبل قوله "فقم وكانت أم أيوب الأنصارية قالت لأبي أيوب أما سمعت ما يتحدث الناس فحدثته بقول أهل الإفك فقال ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم قلت" وسيأتي في الاعتصام من طريق يحيى بن أبي زكريا عن هشام بن عروة في قصة الإفك مختصرة وفيه بعد قوله وأرسل معها الغلام وقال رجل من الأنصار ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك فيستفاد معرفته من رواية عطاء هذه وروى الطبري منه حديث بن عمر قال قال أسامة ما يحل لنا أن نتكلم بهذا سبحانك الآية لكن أسامة مهاجري فإن ثبت حمل على التوارد وفي مرسل سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ ممن قال ذلك وروى الطبري أيضا من طريق بن إسحاق حدثني أبي عن بعض رجال بني النجار أن أبا أيوب قالت له أم أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة قال بلى وذلك الكذب أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب قالت لا والله قال فعائشة والله خير منك قالت فنزل القرآن لولا إذ سمعتموه الآية وللحاكم من طريق أفلح مولى أبي أيوب عن أبي أيوب نحوه وله من طريق أخرى قال قالت أم طفيل لأبي بن كعب فذكر نحوه قوله فاستعذر من عبد الله بن أبي أي طلب من يعذره منه أي ينصفه قال الخطابي يحتمل أن يكون معناه من يقوم بعذره فيما رمى أهلي به من المكروه ومن يقوم بعذري إذا عاقبته على سوء ما صدر منه ورجح النووي هذا الثاني وقيل معنى من يعذرني من ينصرني والعزيز الناصر وقيل المراد من ينتقم لي منه وهو ليث قبله ويؤيده قول سعد أنا أعذرك منه قوله "بلغني أذاه في أهل بيتي" في رواية هشام بن عروة أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي وهو بفتح الموحدة الخفيفة والنون المضمومة وحكى عياض أن في رواية الأصيلي

(8/470)


بتشديد الموحدة وهي لغة ومعناه عابوا أهلي أو اتهموا أهلي وهو المعتمد لأن الابن بفتحتين التهمة وقال بن الجوزي المراد رموا أهلي بالقبيح ومنه الحديث الذي في الشمائل في ذكر مجلسه صلى الله عليه وسلم لا تؤين فيه الحرم وحكى عياض أن في بتقديم النون الثقيلة على الموحدة قال وهو تصحيف لأن التأنيب هو اللوم الشديد ولا معنى له هنا انتهى قال النووي وقد يوجه بأن المراد لاموهم أشد اللوم فيما زعموا أنهم صنعوه وهم لم يصنعوا شيئا من ذلك لكنه بعيد من صورة الحال والأول هو المعتمد قال النووي التخفيف أشهر وفي رواية بن إسحاق ما بال أناس يؤذوني في أهلي وفي رواية بن حاطب من يعذرني فيمن يؤذيني في أهلي ويجمع في بيته من يؤذيني ووقع في رواية الغساني المذكورة في قوم يسبون أهلي وزاد فيه ما علمت عليهم من سوء قط قوله "ولقد ذكروا رجلا" زاد الطبري في روايته صالحا وزاد أبو أويس في روايته وكان صفوان بن المعطل قعد لحسان فضربه ضربة بالسيف وهو يقول:
تلق ذباب السيف مني فإنني ... غلام إذا هو جئت لست بشاعر
فصاح حسان ففر صفوان فاستوهب النبي صلى الله عليه وسلم من حسان ضربة صفوان فوهبها له قوله "فقام سعد بن معاذ الأنصاري" كذا هنا وفي رواية معمر وأكثر أصحاب الزهري ووقع في رواية صالح بن كيسان فقام سعد أخو بني عبد الأشهل وفي رواية فليح فقام سعد ولم ينسبه وقد تعين أنه سعد بن معاذ لما وقع في رواية الباب وغيره وأما قوله "شيخ شيوخنا القطب" فلهذا وقع في نسخة سماعنا فقام سعد بن معاذ وفي موضع آخر فقام سعد أخو بني عبد الأشهل فيحتمل أن يكون سعد بن معاذ فإن في بني عبد الأشهل جماعة من الصحابة يسمى كل منهم سعدا منهم سعد بن زيد الأشهلي شهد بدرا وكان على سبايا قريظة الذين بيعوا بنجد وله ذكر في عدة أخبار منها في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته قال فيحتمل أن يكون هو المتكلم في قصة الإفك قلت وحمله على ذلك ما حكاه عياض وغيره من الأشكال في ذكر سعد بن معاذ في هذه القصة والذي جوزه مردود بالتصريح بسعد بن معاذ في هذه الرواية الثالثة فأذكر كلام عياض وما تيسر من الجواب عنه قال عياض في ذكر سعد بن معاذ في هذا الحديث إشكال لم يتكلم الناس عليه ونبهنا عليه بعض شيوخنا وذلك أن الإفك كان في المريسيع وكانت سنة ست فيما ذكر بن إسحاق وسعد بن معاذ مات من الرمية التي رميها بالخندق فدعا الله فأبقاه حتى حكم في بني قريظة ثم انفجر جرحه فمات منها وكان ذلك سنة أربع ثم الجميع إلا ما زعم الواقدي أن ذلك كان سنة خمس قال وعلى كل تقدير فلا يصح ذكر سعد بن معاذ في هذه القصة والأشبه أنه غيره ولهذا لم يذكره بن إسحاق في روايته وجعل المراجعة أولا وثانيا بين أسيد بن حضير وبين سعد بن عبادة قال وقال لي بعض شيوخنا يصح أن يكون سعد موجودا في المريسيع بناء على الاختلاف في تاريخ غزوة المريسيع وقد حكى البخاري عن موسى بن عقبة أنها كانت سنة أربع وكذلك الخندق كانت سنة أربع فيصح أن تكون المريسيع قبلها لأن بن إسحاق جزم بأن المريسيع كانت في شعبان وأن الخندق كانت في شوال فإن كانا من سنة واحدة استقام أن تكون المريسيع قبل الخندق فلا يمتنع أن يشهدها سعد بن معاذ انتهى وقد قدمنا في المغازي أن الصحيح في النقل عن موسى بن عقبة أن المريسيع كانت سنة خمس وأن الذي نقله عنه البخاري من أنها سنة أربع سبق قلم نعم والراجح أن الخندق أيضا كانت في سنة خمس خلافا لابن إسحاق فيصح الجواب المذكور وممن جزم بأن المريسيع

(8/471)


سنة خمس الطبري، لكن يعكر على هذا شيء لم يتعرضوا له أصلا وذلك أن ابن عمر ذكر أنه كان معهم في غزوة بني المصطلق وهو المريسيع كما تقدم من حديثه في المغازي وثبت في الصحيحين أيضا أنه عرض في يوم أحد النبي صلى الله عليه وسلم وعرض في الخندق فأجازه فإذا كان أول مشاهده الخندق وقد ثبت أنه شهد المريسيع لزم أن تكون المريسيع بعد الخندق فيعود الإشكال ويمكن الجواب بأنه لا يلزم من كون بن عمر كان معهم في غزوة بني المصطلق أن يكون أجيز في القتال فقد يكون صحب أباه ولم يباشر القتال كما ثبت عن جابر أنه كان يمنح الماء لأصحابه يوم بدر وهو لم يشهد بدرا باتفاق وقد سلك البيهقي في أصل الإشكال جوابا آخر بناء على أن الخندق قبل المريسيع فقال يجوز أن يكون جرح سعد بن معاذ لم ينفجر من بني قريظة بل تأخر زمانا ثم انفجر بعد ذلك وتكون مراجعته في قصة الإفك في أثناء ذلك ولعله لم يشهد غزوة المريسيع لمرضه وليس ذلك مانعا له أن يجيب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك مما أجابه وأما دعوى عياض أن الذين تقدموا لم يتكلموا على الإشكال المذكور فما أدرى من الذين عناهم فقد تعرض له من القدماء إسماعيل القاضي فقال الأولى أن تكون المريسيع قبل الخندق للحديث الصحيح عن عائشة واستشكله بن حزم لاعتقاده أن الخندق قبل المريسيع وتعرض له بن عبد البر فقال رواية من روى أن سعد بن معاذ راجح في قصة الإفك سعد بن عبادة وهم خطأ وإنما راجع سعد بن عبادة أسيد بن حضير كما ذكره بن إسحاق وهو الصحيح فإن سعد بن معاذ مات في منصرفهم من غزوة بني قريظة لا يختلفون في ذلك فلم يدرك المريسيع ولا حضرها وبالغ بن العربي على عادته فقال اتفق الرواة على أن ذكر بن معاذ في قصة الإفك على هذا الإطلاق القرطبي قوله "أعذرك منه" في رواية فليح فقال أنا والله أعذرك منه ووقع في رواية معمر أعذرك منه بحذف المبتدأ قوله "إن كان من الأوس" يعني قبيلة سعد بن معاذ قوله "ضربنا عنقه" في رواية صالح بن كيسان ضربت بضم الشاة وإنما قال ذلك لأنه كان سيدهم فجزم بأن حكمة فيهم نافذ قوله "وإن كان من إخواننا من الخزرج" من الأولى تبعضية والأخرى بيانية ولهذا سقطت من رواية فليح قوله "أمرتنا ففعلنا" التابعين في رواية بن جريج أتيناك به ففعلنا فيه التابعين قوله "فقام سعد بن عبادة" وهو سيد الخزرج في رواية صالح بن كيسان فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بن ثابت بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج انتهى وأم حسان عدا الفريعة بنت خالد بن خنيس بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة وقوله "من فخذه بعد" قوله "بنت عمه" إشارة إلى أنها ليست بنت عمه لحا لأن سعد بن عبادة يجتمع معها في ثعلبة وقد تقدم سياق نسبه في المناقب قوله "وكان قبل ذلك رجلا صالحا" أي كامل الصلاح في رواية الواقدي وكان صالحا لكن الغضب بلغ منه ومع ذلك لم يغمص عليه في دينه قوله "ولكن احتملته الحمية" كذا للأكثر احتملته بمهملة ثم مثناة ثم ميم أي أغضبته وفي رواية معمر ثم مسلم وكذا يحيى بن سعيد ثم الطبراني اجتهلته بجيم ثم مثناة ثم هاء وصوبها الوقشي أي حملته على الجهل قوله فقال لسعد أي بن معاذ كذبت لعمر الله لا تقتله العمر بفتح العين المهملة هو البقاء وهو العمر بضمها لكن لا يستعمل في القسم إلا بالفتح قوله ولا تقدر على قتله ولوكان من رهطك ما أحببت أن تقتل1" فسر قوله لا تقتله بقوله ولا تقدر على قتله إشارة إلى أن قومه يمنعونه من قتله وأما قوله ولو كان من رهطك فهو من تفسير
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: "ولو كان من رهطك الخ" ليس في نسخ المتن التي بأيدينا.

(8/472)


قوله كذبت أي في قولك إن كان من الأوس ضربت عنقه فنسبه إلى الكذب في هذه الدعوى وأنه جزم أن يقتله إن كان من رهطه مطلقا وأنه إن كان رهطه إن أمر بقتله قتله وإلا فلا فكأنه قال له بل الذي نعتقده على العكس بما نطقت به وأنه لو إن كان من رهطك ما أحببت أن يقتل ولكنه رهطك فأنت تحب أن يقتل وهذا بحسب ما ظهر له في تلك الحالة ونقل بن التين عن الداودي أن معنى قوله "كذبت لا تقتله" أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجعل حكمة إليك فذلك لا تقدر على قتله وهو حمل جيد وقد بينت الروايات الأخرى السبب الحامل لسعد بن عبادة على ما قال ففي رواية بن إسحاق فقال سعد بن عبادة ما قلت هذه المقالة إلا إنك علمت أنه من الخزرج وفي رواية بن حاطب فقال سعد بن عبادة يا بن معاذ والله ما بك نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها قد كانت بيننا ضغائن في الجاهلية وإحن لم تحلل لنا من صدوركم فقال بن معاذ الله أعلم بما أردت وفي حديث بن عمر إنما طلبت به دخول الجاهلية قال بن التين قول بن معاذ إن كان من الأوس ضربت عنقه إنما قال ذلك لأن الأوس قومه وهم بنو النجار ولم يقل في الخزرج لما كان بين الأوس والخزرج من التشاحن قبل الإسلام ثم زال بالإسلام وبقي بعضه بحكم الأنفة قال فتكلم سعد بن عبادة بحكم الأنفة ونفى أن يحكم فيهم سعد بن معاذ وهو من الأوس قال ولم يرد سعد بن عبادة الرضا بما نقل عن عبد الله بن أبي وإنما بمعنى قول عائشة وكان قبل ذلك رجلا صالحا أي لم يتقدم منه ما يتعلق بالوقوف مع أنفة الحمية ولم ترد أنه ناضل عن المنافقين وهو كما قال إلا أن دعواه أن بني النجار قوم سعد بن معاذ خطأ وإنما هم من رهط سعد بن عبادة ولم يجر لهم في هذه القصة ذكر وقد تأول بعضهم ما دار بين السعدين بتأويل بعيد فارتكب شططا فزعم أن قول سعد بن عبادة لا تقتله ولا تقدر على قتله أي إن كان من الأوس واستدل على ذلك بأن بن معاذ لم يقل في الخزرجي ضربنا عنقه وإنما قال ذلك في الأوسي فدل على أن بن عبادة لم يقل ذلك حمية لقومه إذ لو كان حمية لم يوجهها رهط غيره قال وسبب قوله ذلك أن الذي خاض في الإفك كان يظهر الإسلام ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقتل من يظهر الإسلام وأراد أن بقية قومه يمنعونه منه إذا أراد قتله إذا لم يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله فكأنه قال لا تقل ما لا تفعل ولا تعد بما لا تقدر على الوفاء به ثم أجاب عن قول عائشة احتملته الحمية بأنها كانت حينئذ منزعجة الخاطر لما دهمها من الأمر فقد يقع في فهمها ما يكون أرجح منه وعن قول أسيد بن حضير الآتي بأنه حمل قول بن عبادة على ظاهر لفظه وخفي عليه أن له محملا سائغا انتهى ولا يخفى ما فيه من التعسف حاجة إلى ذلك وقوله إن عائشة قالت ذلك وهي منزعجة الخاطر مردود لأن ذلك إنما يتم لو كانت حدثت بذلك ثم وقوع الفتنة والواقع أنها إنما حدثت بها بعد حتى سمع ذلك منها عروة وغيره من التابعين كما قدمت الإشارة إليه وحينئذ كان ذلك الانزعاج وزال وانقضى والحق أنها فهمت ذلك ثم وقوعه بقرائن الحال وأما قوله لا تقدر على قتله مع أن سعد بن معاذ لم يقل بقتله كما قال في حق من يكون من الأوس فإن سعد بن عبادة فهم أن قول بن معاذ أمرتنا بأمرك أي إن أمرتنا بأمرك أي أمرتنا بقتله قتلناه وإن أمرت قومه بقتله قتلوه فنفى سعد بن عبادة قدرة سعد بن معاذ على قتله إن كان من الخزرج لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا قومه بقتله فكأنه أيأسه من مباشرة قتله وذلك بحكم الحمية التي أشارت إليها عائشة ولا يلزم من ذلك ما فهمه المذكور أنه يرد أمر النبي صلى الله عليه بقتله ولا يمتثله حاشا لسعد من ذلك وقد اعتذر المازري عن قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة إنك منافق أن ذلك

(8/473)


وقع منه على جهة الغيظ والحنق والمبالغة في زجر سعد بن عبادة عن المجادلة عن بن أبي وغيره ولم يرد النفاق الذي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر قال ولعله صلى الله عليه وسلم إنما ترك الإنكار عليه لذلك وسأذكر ما في فوائد هذا الحديث في آخر شرحه زيادة في هذا قوله "فقام أسيد بن حضير" بالتصغير فيه وفي أبيه وأبوه بمهملة ثم معجمة تقدم نسبه في المناقب قوله "وهو بن عم سعد بن معاذ" أي من رهطه ولم يكن بن عمه لحا لأنه سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ آلاف بن زيد بن عبد الأشهل وأسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن امرئ آلاف إنما يجتمعان في امرئ آلاف وهما في التعدد إليه سواء قوله "فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه" أي ولو كان من الخزرج إذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وليست لكم قدرة على منعنا من ذلك قوله "فإنك منافق تجادل عن المنافقين" أطلق أسيد ذلك مبالغة في زجره عن القول الذي قاله وأراد بقوله "فإنك منافق" أي تصنع صنيع المنافقين وفسره بقوله "تجادل عن المنافقين" وقابل قوله لسعد بن معاذ كذبت لا تقتله بقوله هو كذبت لنقتلنه وقال المازري إطلاق أسيد لم يرد به نفاق الكفر وإنما أراد أنه كان يظهر المودة للأوس ثم ظهر منه في هذه القصة ضد ذلك فأشبه حال المنافق لأن حقيقته إظهار شيء واخفاء غيره ولعل هذا هو السبب في ترك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليه قوله فتثاور بمثناة ثم مثلثة تفاعل من الثورة والحيان بمهملة ثم تحتانية تثنية حي والحي كالقبيلة أي نهض بعضهم إلى بعض من الغضب ووقع في حديث بن عمر وقام سعد بن معاذ فسل سيفه قوله حتى هموا أن يقتتلوا زاد بن جريج في روايته في قصة الإفك هنا قال قال بن عباس فقال بعضهم لبعض موعدكم الحرة أي خارج المدينة لتتقاتلوا هناك قوله "فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا" وفي رواية بن حاطب فلم يزل يوميء بيده إلى الناس ههنا حتى هدأ الصوت وفي رواية فليح فنزل فخفضهم حتى سكتوا ويحمل على أنه سكتهم وهو على المنبر ثم نزل إليهم أيضا ليكمل تسكيتهم ووقع في رواية عطاء الخراساني عن الزهري فحجز بينهم قوله "فمكثت يومي ذلك في رواية الكشميهني فبكيت وهي في رواية فليح وصالح وغيرهما قوله "فأصبح أبواي عندي" أي أنهما جاآ إلى المكان الذي هي به من بينهما لا أنها رجعت من عندهما إلى بيتها ووقع في رواية محمد بن ثور عن معمر ثم الطبري وأنا في بيت أبوي قوله وقد بكيت ليلتين ويوما أي الليلة التي أخبرتها فيها أم مسطح الخبر واليوم الذي خطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم الناس والليلة التي تليه ووقع في رواية فليح وقد بكيت ليلتي ويوما وكأن الياء مشددة ونسبتهما إلى نفسها لما وقع لها فيهما قوله فبيناهما وفي رواية الكشميهني فبينما هما قوله يظنان أن البكاء فالق كبدي في رواية فليح حتى أظن ويجمع بأن الجميع كانوا يظنون ذلك قوله فاستأذنت كذا فيه وفي الكلام حذف تقديره جاءت امرأة فاستأذنت وفي رواية فليح إذ استأذنت قوله امرأة من الأنصار لم صليت على عدا قوله فبينا نحن على ذلك في رواية الكشميهني فبينا نحن كذلك وهي رواية فليح والأول رواية صالح قوله دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي في رواية هشام بن عروة بلفظ فأصبح أبواي عندي فلم يزالا حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى العصر وقد اكتنفني أبواي عن يميني وعن شمالي وفي رواية بن حاطب وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على سرير وجاهي وفي حديث أم رومان إن عائشة في تلك الحالة كانت بها الحمى النافض وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل فوجدها كذلك قال ما شأن هذه قالت أخذتها الحمى بناقض قال فلعله في حديث تحدث قالت نعم فقعدت

(8/474)


عائشة قوله ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني حكى التسهيلي أن بعض المفسرين ذكر أن المدة كانت سبعة وثلاثين يوما فألغى الكسر في هذه الرواية وعند بن حزم أن المدة كانت خمسين يوما أو أزيد ويجمع بأنها المدة التي كانت بين قدومهم المدينة ونزول القرآن في قصة الإفك وأما التقييد بالشهر فهو المدة التي أولها إتيان عائشة إلى بيت أبويها حين بلغها الخبر قوله "فتشهد" في رواية هشام بن عروة "فحمد الله وأثنى عليه" قوله "أما بعد يا عائشة فأنه بلغني عنك كذا وكذا" هو كناية عما رميت به من الإفك ولم أر في شيء من الطرق التصريح فلعل الكناية من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في رواية بن إسحاق فقال يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتق الله وأن كنت قارفت سوءا فتوبى قوله "فإن كنت بريئة فسيبرئك الله" أي بوحى ينزله بذلك قرآنا أو غيره قوله "وإن كنت ألممت بذنب" أي وقع منك على خلاف العادة وهذا حقيقة الإدام ومنه ألمت بنا والليل مرخ ستوره قوله "فاستغفري الله وتوبي إليه" في رواية معمر ثم توبي إليه وفي رواية أبي أويس إنما أنت من بنات آدم إن كنت أخطأت فتوبى قوله "فان العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه" قال الداودي أمرها بالاعتراف ولم يندبها إلى الكتمان المفرق بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن فيجب على أزواجه الاعتراف بما يقع منهن ولا يكتمنه إياه لأنه لا يحل لنبي إمساك من يقع منها ذلك بخلاف نساء الناس فأنهن تدين إلى الستر بالإجماع عياض بأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك ولا فيه أنه أمرها بالاعتراف وإنما أمرها أن تستغفر الله وتتوب إليه أي فيما بينها وبين ربها فليس صريحا في الأمر لها بان تعترف ثم الناس بذلك وسياق جواب عائشة يشعر بما قاله الداودي لكن المعترف عنده ليس إطلاقه فليتأمل ويؤيد ما قاله عياض أن في رواية حاطب قالت فقال أبي إن كنت صنعت شيئا فاستغفري الله وإلا فأخبري رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذرك قوله "قلص دمعي" بفتح القاف واللام ثم مهملة أي استمسك نزوله فانقطع ومنه قلص الظل إذا شمر قال القرطبي سببه أن الحزن والغضب إذا أخذ أحدهما فقد الدمع لفرط حرارة المصيبة قوله "حتى ما أحس" بضم الهمزة وكسر المهملة أي أجد قوله "فقلت لأبي أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال قال والله ما أدري ما أقول" قيل إنما قالت عائشة لأبيها ذلك مع أن السؤال إنما وقع عما في باطن الأمر وهو لا اطلاع له على ذلك لكن قالته إشارة إلى أنها لم يقع منها شيء في الباطن يخالف الظاهر الذي هو يطلع عليه فكأنها قالت له برئني بما شئت وأنت على ثقة من الصدق فيما تقول وإنما أجابها أبو بكر بقوله لا أدري لأنه كان كثير الأتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب بما يطابق السؤال في المعنى ولأنه وإن كان يتحقق براءتها لكنه كره أن يزكى ولده وكذا الجواب عن قول أمها لا أدري ووقع في رواية هشام بن عروة الآتية فقال ماذا أقول وفي رواية أبي أويس فقلت لأبي أجب فقال لا أفعل هو رسول الله والوحي يأتيه قوله قالت قلت وأنا جارية حديثه السن لا أقرأ كثيرا من القرآن قالت هذا توطئة لعذرها لكونها لم تستحضر اسم يعقوب عليه السلام كما سيأتي ووقع في رواية هشام بن عروة الآتيه فلما لم يجيباه تشهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ثم قلت أما بعد وفي رواية بن إسحاق فلما استعجما على استعبرت فبكيت ثم قلت والله لا أتوب مما ذكروا أبدا قوله حتى استقر في أنفسكم في رواية فليح وقر بالتخفيف أي ثبت وزنا ومعنى قوله وصدقتم به في رواية هشام بن عروة لقد تكلمتم به وأشربته قلوبكم قالت هذا وإن لم يكن على حقيقته على

(8/475)


سبيل المقابلة لما وقع من المبالغة في التنقيب عن ذلك وهي كانت لما تحققته من براءة نفسها ومنزلتها تعتقد أنه كان ينبغي لكل من سمع عنها ذلك أن يقطع بكذبه لكن العذر لهم عن ذلك أنهم أرادوا إقامة الحجة على من تكلم في ذلك ولا يكفي فيها مجرد نفي ما قالوا والسكوت عليه بل تعين التنقيب عليه لقطع شبههم أو مرادها بمن صدق به أصحاب الإفك لكن ضمت إليه من لم يكذبهم تغليبا قوله "لا تصدقونني بذلك أي لا تقطعون بصدقي وفي رواية هشام بن عروة ما ذاك بنافعي عندكم وقالت في الشق الآخر لنصدقني وهو بتشديد النون والأصل تصدقونني فأدغمت إحدى النونين في الأخرى وإنما قالت ذلك لأن المرء مؤاخذ بإقراره ووقع في حديث أم رومان لئن حلفت لا تصدقونني ولئن قلت لا تعذرونني قوله والله ما أجد لكم مثلا في رواية صالح وفليح ومعمر ما أجد لكم ولي مثلا قوله "إلا قول أبي يوسف" زاد بن جريج في روايته واختلس مني اسمه وفي رواية هشام بن عروة والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه وفي رواية أبي أويس نسيت اسم يعقوب لما بي من البكاء واحتراق الجوف ووقع في حديث أم رومان مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه وهي بالمعنى للتصريح في حديث هشام وغيره بأنها لم تستحضر اسمه قوله ثم تحولت فاضطجعت على فراشي زاد بن جريج ووليت وجهي نحو الجدر قوله "وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي" زعم بن التين أنه وقع عنده وإن الله مبرئني بنون قبل الياء وبعد الهمزة قال وليس ببين لأن نون الوقاية تدخل في الأفعال لتسلم من الكسر والأسماء تكسر فلا تحتاج إليها انتهى والذي وقفنا عليه في جميع الروايات مبرئي بغير نون وعلى تقدير وجود ما ذكر فقد سمع مثل ذلك في بعض اللغات قوله ولكن والله ما كنت أظن أن في شأني وحيا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر زاد يونس في روايته يتلى وفي رواية فليح من أن يتكلم بالقرآن في أمري وفي رواية بن إسحاق يقرأ به في به قوله فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم أي فارق ومصدره الريم بالتحتانية بخلاف رام بمعنى طلب فمصدره الروم ويفترقان في المضارع يقال رام يروم روما ورام يريم ريما وحذف في هذه الرواية الفاعل ووقع في رواية صالح وفليح ومعمر وغيرهم مجلسه أي ما فارق مجلسه قوله ولا خرج أحد من أهل البيت أي الذين كانوا حينئذ حضورا ووقع في رواية أبي أسامة وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته قوله "فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء" بضم الموحدة وفتح الراء ثم مهملة ثم مد هي شدة الحمى وقيل شدة الكرب وقيل شدة الحر ومنه برح بي الهم إذا بلغ مني غايته ووقع في رواية إسحاق بن راشد وهو العرق وبه جزم الداودي وهو تفسير باللازم غالبا لأن البرحاء شدة الكرب ويكون عنده العرق غالبا وفي رواية بن حاطب وشخص بصره إلى السقف وفي رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن عائشة ثم الحاكم فأتاه الوحي وكان إذا أتاه الوحي أخذه السبل وفي رواية بن إسحاق فسجى بثوب ووضعت تحت رأسه وسادة من أدم قوله حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه الجمان بضم الجيم وتخفيف الميم اللؤلؤ وقيل حب يعمل من الفضة كاللؤلؤ وقال الداودي خرز أبيض والأول أولى فشبهت قطرات عرقه صلى الله عليه وسلم بالجمان لمشابهتها في الصفاء والحسن وزاد بن جريج في روايته قال أبو بكر فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخشى أن ينزل من السماء ما لا مرد له وأنظر إلى وجه عائشة فإذا هو منبق فيطمعني ذلك فيها وفي رواية بن إسحاق فأما أنا فوالله ما فزعت

(8/476)


قد عرفت أني بريئة وأن ظالمي وأما أبواي فما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسها فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما يقول الناس ونحوه في رواية الواقدي قوله فلما سرى بضم المهملة وتشديد الراء المكسورة أي كشف قوله "وهو يضحك" في رواية هشام بن عروة فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه يمسح جبينه وفي رواية بن حاطب فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما زال يضحك حتى إني لأنظر إلى نواجذه سرورا ثم مسح وجهه قوله "فكان أول كلمة تكلم بها يا عائشة: "أما الله عز وجل فقد برأك" في رواية صالح بن كيسان قال يا عائشة وفي رواية فليح أن قال لي يا عائشة: " احمدي الله فقد برأك" زاد في رواية معمر أبشري وكذا في رواية هشام بن عروة وعند الترمذي من هذا الوجه البشرى يا عائشة فقد أنزل الله براءتك وفي رواية عمر بن أبي سلمة فقال أبشري يا عائشة قوله "أما الله فقد برأك" أي بما أنزل من القرآن قوله "فقالت أمي قومي إليه قال فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله" في رواية صالح فقالت لي أمي قومي إليه فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي وفي رواية الطبري من هذا الوجه أحمد الله لا إياكما وفي رواية بن جريج فقلت بحمد الله وذمكما وفي رواية أبي أويس نحمد الله ولا نحمدكم وفي رواية أم رومان وكذا في حديث أبي هريرة فقالت نحمد الله لا نحمدك ومثله في رواية عمر بن أبي سلمة وكذا ثم الواقدي وفي رواية بن حاطب والله لا نحمدك ولا نحمد أصحابك وفي رواية مقسم والأسود وكذا في حديث بن عباس ولا نحمدك ولا نحمد أصحابك وزاد في رواية الأسود عن عائشة وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فانتزعت يدي منه فنهرني أبو بكر وعذرها في إطلاق ذلك ما ذكرته من الذي خامرها من الغضب من كونهم لم يبادروا بتكذيب من قال فيها ما قال مع تحققهم حسن طريقتها قال بن الجوزي إنما قالت ذلك إدلالا كما يدل الحبيب على حبيبه وقيل أشارت إلى أفراد الله تعالى بقولها فهو الذي أنزل براءتي فناسب إفراده بالحمد في الحال ولا يلزم منه ترك الحمد بعد ذلك ويحتمل أن تكون مع ذلك تمسكت بظاهر قوله "صلى الله عليه وسلم لها احمدي الله" ففهمت منه أمرها بإفراد الله تعالى بالحمد فقالت ذلك وما أضافته إليه من الألفاظ المذكورة كان من باعث الغضب وروى الطبري وأبو عوانة من طريق أبي حصين عن مجاهد قال قالت عائشة لما نزل عذرها فقبل أبو بكر رأسها فقلت ألا عذرتني فقال أي سماء تظلني ونصف أرض تقلني إذا قلت ما لا أعلم قوله فأنزل الله تعالى إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم العشر الآيات كلها قلت آخر العشرة قوله تعالى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} لكن وقع في رواية عطاء الخراساني عن الزهري فانزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا} إلى قوله إن يغفر الله لكم والله غفور رحيم وعدد الآي إلى هذا الموضع ثلاث عشر آية فلعل في قولها العشر الآيات مجازا بطريق إلغاء الكسر وفي رواية الحكم بن عتيبة مرسلا عن الطبري لما خاض الناس في أمر عائشة فذكر الحديث مختصرا وفي آخره فانزل الله تعالى خمس عشرة آية من سورة النور حتى بلغ الخبيثات للخبيثين وهذا فيه تجوز وعدة الاي إلى هذا الموضع ست عشرة وفي مرسل سعيد بن جبير ثم بن أبي حاتم والحاكم في الأكليل فنزلت ثماني عشرة آية متواليه كذبت من قذف عائشة إن الذين جاءوا إلى قوله "رزق كريم" وفيه ما فيه أيضا وتحرير العدة سبع عشرة قال الزمخشري لم يقع في القرآن من التغليظ في معصية ما وقع في قصة الإفك بأوجز عبارة وأشبعها لاشتماله على الوعيد الشديد والعتاب البليغ

(8/477)


والزجر العنيف واستعظام القول في ذلك واستشناعه بطرق مختلفة وأساليب متقنة كل واحد منها كاف في بابه بل ما وقع منها من وعيد عبدة الأوثان إلا بما هو دون ذلك وما ذلك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير من هو منه بسبيل وعند أبي داود من طريق حميد الأعرج عن الزهري عن عروة عن عائشة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف الثوب عن وجهه ثم قال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم وفي رواية بن إسحاق ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ويجمع بأنه قرأ ذلك ثم عائشة ثم خرج فقرأها على الناس قوله فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر يؤخذ منه مشروعية ترك المؤاخذة بالذنب ما دام احتمال عدمه موجودا لأن أبا بكر لم يقطع نفقة مسطح إلا بعد تحقيق ذنبه فيما وقع منه قوله لقرابته منه تقدم بيان ذلك قبل قوله وفقره علة أخرى للأنفاق عليه قوله بعد الذي قال لعائشة أي عن عائشة وفي رواية هشام بن عروة فخلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا قوله ولا يأتل سيأتي شرحه في باب مفرد قريبا قوله وليعفوا وليصفحوا قال مسلم حدثنا حبان بن موسى أنبأنا عبد الله بن المبارك قال هذه أرجى آية في كتاب الله انتهى وإلى ذلك إشار القائل:
فإن قدر الذنب من مسطح ... يحط قدر النجم من أفقه
وقد جرى منه الذي قد جرى ... وعوتب الصديق في حقه
قوله قال أبو بكر بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي في رواية هشام بن عروة بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا قوله فرجع إلى مسطح النفقة أي ردها إليه وفي رواية فليح فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه وفي رواية هشام بن عروة وعاد له بما كان يصنع ووقع ثم الطبراني أنه صار يعطيه ضعف ما كان يعطيه قبل ذلك قوله يسأل زينب بنت جحش أي أم المؤمنين أحمى سمعي وبصري أي من الحماية فلا أنسب إليهما ما لم أسمع وأبصر قوله وهي التي كانت تساميني أي تعاليني من السمو وهو العلو والارتفاع أي تطلب من العلو والرفعة والحظوة ثم النبي صلى الله عليه وسلم ما أطلب أو تعتقد أن الذي لها عنده مثل الذي لي عنده وذهل بعض الشراح فقال إنه من سوم الخسف وهو حمل الإنسان على ما يكرهه والمعنى تغايظني وهذا لا يصح فإنه لا يقال في مثله سام ولكن ساوم قوله فعصمها الله أي حفظها ومنعها قوله بالورع أي بالمحافظة على دينها وبجانبه ما تخشي سوء عاقبته قوله وطفقت بكسر الفاء وحكى فتحها أي جعلت أو شرعت وحمنة بفتح المهملة وسكون الميم وكانت تحت طلحة بن عبيد الله قوله تحارب لها أي تجادل لها وتنعصب وتحكي ما قال أهل الإفك لتنخفض منزلة عائشة وتعلو مرتبة أختها زينب قوله فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك أي حدثت فيمن حدث أو أئمت مع من أثم زاد صالح بن كيسان وفليح ومعمر وغيرهم قال بن شهاب فهذا الذي بلغنا من حديث هؤلاء الرهط زاد صالح بن كيسان عن بن شهاب عن عروة قالت عائشة والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول سبحان الله والذي نفسي بيده ما كشفت كنف أنثى قط وقد تقدم شرحه قبل قالت عائشة ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله وتقدم الخلاف في سنة قتله وفي الغزاة التي استشهد فيها في أوائل الكلام على هذا الحديث ووقع في آخر رواية هشام بن عروة وكان الذي تكلم به مسطح وحسان بن ثابت والمنافق عبد الله بن

(8/478)


أبي وهو الذي يستوشيه وهو الذي تولى كبره هو وحمنه وعند الطبراني من هذا الوجه وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ومسطح وحمنة وحسان وكان كبر ذلك من قبل عبد الله بن أبي وعند أصحاب السنن من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام حد القذف على الذين تكلموا بالإفك لكن لم يذكر فيهم عبد الله بن أبي وكذا في حديث أبي هريرة ثم البزار وبنى على ذلك صاحب الهدى فأبدى الحكمة في ترك الحد على عبد الله بن أبي وفاته أنه ورد أنه ذكر أيضا فيمن أقيم عليه الحد ووقع ذلك في رواية أبي أويس وعن حسن بن زيد عن عبد الله بن أبي بكر أخرجه الحاكم في الأكليل وفيه رد على الماوردي حيث صحح أنه لم يحدهم مستندا إلى أن الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار ثم قال وقيل إنه حدهم وما ضعفه هو الصحيح المعتمد وسيأتي مزيد بيان لذلك في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى وفي هذا الحديث من ما تقدم جواز الحديث عن جماعة ملفقا مجملا وقد تقدم البحث فيه وفيه حتى بين النساء وفي المسافرة بهن والسفر بالنساء حتى في الغزو وجواز حكاية ما وقع للمرء من الفضل ولو كان فيه مدح ناس وذم ناس إذا تضمن ذلك إزلة توهم النقص عن الحاكي إذا كان بريئا ثم قصد نصح من يبلغه ذلك لئلا يقع فيما وقع فيه من سبق وإن الاعتناء بالسلامة من وقوع الغير في الإثم أولى من تركه يقع في الإثم وتحصيل الأجر للموقوع فيه وفيه استعمال التوطئة فيما يحتاج إليه من الكلام وأن الهودج يقوم مقام البيت في حجب المرأة وجواز ركوب المرأة الهودج على ظهر البعير ولو كان ذلك عليه حيث يكون مطيقا لذلك وفيه رحمة الأجانب للمرأة من وراء الحجاب وجواز تستر المرأة بالشيء المنفصل عن البدن وتوجه المرأة لقضاء حاجتها وحدها وبغير إذن خاص من زوجها بل اعتمادا على الأذن العام المستند إلى العرف العام وجواز تحلى المرأة في السفر بالقلادة ونحوها وصيانة المال ولو قل للنهي عن إضاعة المال فإن عقد عائشة لم يكن من ذهب ولا جوهر وفيه شؤم الحرص على المال لأنها لو لم تطل في التفتيش لرجعت بسرعة فلما زاد على قدر الحاجة أثر ما جرى وقريب منه قصة المتخاصمين حيث رفع علم ليلة القدر بسببهما فإنهما لم يقتصرا على ما لا بد منه بل زاد في الخصام حتى ارتفعت أصواتهما فأثر ذلك بالرفع المذكور وتوقف رحيل العسكر على إذن الأمير واستعمال بعض الجيش ساقه يكون أمينا ليحمل الضعيف ويحفظ ما يسقط وغير ذلك من المصالح والاسترجاع ثم المصيبة وتغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي وإطلاق الظن على العلم كذا قيل وفيه نظر قدمته وإغاثة الملهوف وعون المنقطع وإنقاذ الضائع وإكرام ذوي القدر وإيثارهم بالركوب وتجشم المشقة لأجل ذلك وحسن الأدب مع الأجانب خصوصا النساء لا سيما في الخلوة والمشي أمام المرأة ليستقر خاطرها وتأمن مما يتوهم من نظره لما عساه ينكشف منها في حركة المشي وفيه ملاطفة الزوجة وحسن معاشرتها والتقصير من ذلك ثم إشاعة ما يقتضي النقص وإن لم يتحقق وفائدة ذلك أن تتفطن لتغيير الحال فتعتذر أو تعترف وأنه لا ينبغي لأهل المريض أن يعلموه بما يؤذي باطنه لئلا يزيد ذلك في مرضه وفيه السؤال عن المريض وإشارة إلى مراتب الهجران بالكلام والملاطفة فإذا كان السبب محققا فيترك أصلا وإن كان مظنونا فيخفف وإن كان مشكوكا فيه أو محتملا فيحسن التقليل منه لا للعمل بما قيل بل لئلا يظن بصاحبه عدم المبالاة بما قيل في حقه لأن ذلك من خوارم المروءة وفيه أن المرأة إذا خرجت لحاجة تستصحب من يؤنسها أو يخدمها ممن يؤمن عليها وفيه ذب المسلم عن المسلم خصوصا من كان من أهل الفضل وردع من يؤذيهم ولو كان منهم بسبيل وبيان مزيد

(8/479)


فضيلة أهل بدر وإطلاق السب على لفظ الدعاء بالسوء على الشخص وفيه البحث عن الأمر القبيح إذا أشيع وتعرف صحته وفساده بالتنقيب على من قيل فيه هل وقع منه قبل ذلك ما يشبهه أو يقرب منه واستصحاب حال من أتهم بسوء إذا كان قبل ذلك معروفا بالخير إذا لم يظهر عنه بالبحث ما يخالف ذلك وفيه فضيلة قوية لأم مسطح لأنهالم تحاب ولدها في وقوعه في حق عائشة بل تعمدت سبه على ذلك وفيه تقوية لأحد الاحتمالين في قوله صلى الله عليه وسلم عن أهل بدر إن الله قال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأن الراجح أن المراد بذلك أن الذنوب تقع منهم لكنها مقرونة بالمغفرة تفضيلا لهم على غيرهم بسبب ذلك المشهد العظيم ومرجوحية القول الآخر أن المراد أن الله تعالى عصمهم فلا يقع منهم ذنب نبه على ذلك الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به وفيه مشروعية التسبيح ثم سماع ما يعتقد السامع أنه كذب وتوجيهه هنا أنه سبحانه وتعالى ينزه أن يحصل لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدنيس فيشرع شكره بالتنزيه في مثل هذا نبه عليه أبو بكر بن العربي وفيه توقف خروج المرأة من بيتها على إذن زوجها ولو كانت إلى بيت أبويها وفيه البحث عن الأمر المقول ممن يدل عليه المقول فيه والتوقف في خير الواحد ولو كان صادقا وطلب الارتقاء من مرتبة الظن إلى مرتبة اليقين وأن خبر الواحد إذا جاء شيئا بعد شيء أفاد القطع لقول عائشة لأستيقن الخبر من قبلهما وأن ذلك لا يتوقف على عدد معين وفيه استشارة المرء أهل بطانته ممن يلوذ به بقرابة وغيرها وتخصيص من جربت صحة رأيه منهم بذلك ولو كان غيره أقرب والبحث عن حال من اتهم بشيء وحكاية ذلك للكشف عن أمره ولا يعد ذلك غيبة وفيه استعمال لا نعلم إلا خيرا في التزكية وأن ذلك كاف في حق من سبقت عدالته ممن يطلع على خفي أمره وفيه التثبت في الشهادة وفطنة الإمام ثم الحادث المهم والاستنصار بالاخصاء على الأجانب وتوطئة العذر لمن يراد إيقاع العقاب به أو العتاب له واستشارة الأعلى لمن هو دونه واستخدام من ليس في الرق وأن من استفسر عن حال شخص فأراد بيان ما فيه من عيب فليقدم ذكر عذره في ذلك إن كان يعلمه كما قالت بريرة في عائشة حيث عاتبها بالنوم عن العجين فقدمت قبل ذلك أنها جارية حديثه السن وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحكم لنفسه إلا بعد نزول الوحي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجزم في القصة بشيء قبل نزول الوحي نبه عليه الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به وأن الحمية لله ورسوله لا تذم وفيه فضائل جمة لعائشة ولأبويها ولصفوان ولعلى بن أبي طالب وأسامة وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وفيه أن التعصب لأهل الباطل يخرج عن اسم الصلاح وجواز سب من يتعرض للباطل ونسبته إلى ما يسوءه وإن لم يكن ذلك في الحقيقة فيه لكن إذا وقع منه ما يشبه ذلك جاز إطلاق ذلك عليه تغليظا له وإطلاق الكذب على الخطأ والقسم بلفظ لعمر الله وفيه الندب إلى قطع الخصومة وتسكين ثائرة الفتنة وسد ذريعة ذلك واحتمال أخف الضررين بزوال أغلظهما وفضل احتمال الأذى وفيه مباعدة من خالف الرسول ولو كان قريبا حميما وفيه أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بقول أو فعل يقتل لأن سعد بن معاذ أطلق ذلك ولم ينكره النبي عليه وسلم وفيه مساعدة من نزلت فيه بلية بالتوجع والبكاء والحزن وفيه تثبت أبي بكر الصديق في الأمور لأنه لم ينقل عنه في هذه القصة مع تمادي الحال فيها شهرا كلمة فما فوقها إلا ما ورد عنه في بعض طرق الحديث أنه قال والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية فكيف بعد أن أعزانا الله بالإسلام وقع ذلك في حديث بن عمر ثم الطبراني وفيه ابتداء الكلام في الأمر المهم بالتشهد والحمد والثناء وقول أما بعد وتوقيف من نقل عنه ذنب على

(8/480)


7- باب {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَلَقَّوْنَهُ} يَرْوِيهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ {تُفِيضُونَ} تَقُولُونَ
4751- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ أُمِّ رُومَانَ أُمِّ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا رُمِيَتْ عَائِشَةُ خَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا"
قوله: "باب قوله {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في رواية أبي ذر بعد قوله: {أَفَضْتُمْ فِيهِ} الآية.
قوله: {أَفَضْتُمْ} قلتم ثبت هذا لأبي نعيم في رواية: "المستخرج" : وقال أبو عبيدة في قوله: أفضتم أي خضتم فيه. قوله: "تفيضون فيه تقولون" هو قول أبي عبيدة. قوله: "وقال مجاهد تلقونه يرويه بعضكم عن بعض" وصله الفريابي من طريقه وقال: معناه من التلقي للشيء وهو أخذه وقبوله، وهو على القراءة المشهورة، وبذلك جزم أبو عبيدة وغيره. وتلقونه بحذف إحدى التاءين، وقرأ ابن مسعود بإثباتها، وقراءة عائشة ويحيى بن يعمر "تلقونه" بكسر اللام وتخفيف القاف من الولق بسكون اللام وهو الكذب. وقال الفراء: الولق الاستمرار في السير وفي الكذب، ويقال للذي أدمن الكذب الألق بسكون اللام وبفتحها أيضا. وقال الخليل: أصل الولق الإسراع، ومنه جاءت الإبل تلق، وقد تقدم في غزوة المريسيع التصريح بأن عائشة قرأته كذلك، وأن ابن أبي مليكة قال: هي أعلم من غيرها بذلك لكونه نزل فيها. وقد تقدم فيه أيضا الكلام على إسناد حديث أم رومان المذكور في هذا الباب، والمذكور هنا طرف من حديثها وقد تقدم بتمامه هناك، وتقدم شرحه مستوفى في الباب الذي قبله في أثناء حديث عائشة. وقال الإسماعيلي: هذا الذي ذكره من حديث أم رومان لا يتعلق بالترجمة، وهو كما قال. إلا أن الجامع بينهما قصة الإفك في الجملة. وقوله في هذه الرواية: "حدثنا محمد بن كثير حدثنا سليمان عن حصين" كذا للأكثر، وسليمان هو ابن كثير أخو محمد الراوي عنه، وللأصيلي عن الجرجاني سفيان بدل "سليمان" قال أبو علي الجياني: هو خطأ والصواب سليمان. وهو كما قال.

(8/482)


باب {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ماليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم}
...
8- باب {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}
4752- حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام أن بن جريج أخبرهم قال بن أبي مليكة ثم سمعت عائشة تقرأ {إذ تلقونه بألسنتكم} "

(8/482)


باب {وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}
4753- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ اسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَبْلَ مَوْتِهَا عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ مَغْلُوبَةٌ قَالَتْ أَخْشَى أَنْ يُثْنِيَ عَلَيَّ فَقِيلَ ابْنُ

(8/482)


9- باب {يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا}
4755- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ جَاءَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا قُلْتُ أَتَأْذَنِينَ لِهَذَا قَالَتْ أَوَلَيْسَ قَدْ أَصَابَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ قَالَ سُفْيَانُ تَعْنِي ذَهَابَ بَصَرِهِ فَقَالَ:

(8/484)


حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
قَالَتْ لَكِنْ أَنْت"

(8/485)


10- بَاب {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
4756- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ دَخَلَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى عَائِشَةَ فَشَبَّبَ وَقَالَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
قَالَتْ لَسْتَ كَذَاكَ قُلْتُ تَدَعِينَ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ فَقَالَتْ وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَى وَقَالَتْ وَقَدْ كَانَ يَرُدُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "باب {يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} الآية" سقط لغير أبي ذر لفظ: "الآية" . قوله: "عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء حسان بن ثابت يستأذن عليها" فيه التفات من المخاطبة إلى الغيبة. وفي رواية مؤمل عن سفيان عند الإسماعيلي: "كنت عند عائشة فدخل حسان، فأمرت فألقيت له وسادة، فلما خرج قلت: أتأذنين لهذا" . قوله: "قلت: أتأذنين لهذا" في رواية مؤمل "ما تصنعين بهذا" وفي رواية شعبة في الباب الذي يليه "تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله: والذي تولى كبره منهم" وهذا مشكل لأن ظاهره أن المراد بقوله: "والذي تولى كبره منهم" هو حسان بن ثابت وقد تقدم قبل هذا أنه عبد الله بن أبي وهو المعتمد، وقد وقع في رواية أبي حذيفة عن سفيان الثوري عند أبي نعيم في المستخرج "وهو ممن تولى كبره" فهذه الرواية أخف إشكالا. قوله: "قالت: أو ليس قد أصابه عذاب عظيم" في رواية شعبة "قالت: وأي عذاب أشد من العمى". قوله: "قال سفيان: تعني ذهاب بصره" زاد أبو حذيفة "وإقامة الحدود" ووقع بعد هذا الباب في رواية شعبة تصريح عائشة بصفة العذاب دون رواية سفيان، ولهذا احتاج أن يقول: "تعني". وسفيان المذكور هو الثوري، والراوي عنه الفريابي، وقد روى البخاري عن محمد بن يوسف عن سفيان عن الأعمش شيئا غير هذا، ومحمد بن يوسف فيه هو البيكندي، وسفيان هو ابن عيينة بخلاف الذي هنا. ووقع عند الإسماعيلي التصريح بأن سفيان هنا هو الثوري ومحمد بن يوسف هو الفريابي. قوله: "فشبب" بمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة أي تغزل، يقال شبب الشاعر بفلانة أي عرض بحبها وذكر حسنها، والمراد ترقيق الشعر بذكر النساء، وقد يطلق على إنشاد الشعر وإنشائه ولم يكن فيه غزل كما وقع في حديث أم معبد "فلما سمع حسان شعر الهاتف شبب يجاريه" أخذ في نظم جوابه. قوله: "حصان" بفتح المهملة قال السهيلي: هذا الوزن يكثر في أوصاف المؤنث وفي الإعلام منها كأنهم قصدوا بتوالي الفتحات مشاكلة خفة اللفظ لخفة المعني "حصان" من الحصين والتحصين يراد به الامتناع على الرجال ومن نظرهم إليها، وقوله: "رزان" من الرزانة يراد قلة الحركة، "وتزن" بضم أوله ثم زاي ثم نون ثقيلة أي ترمى، وقوله: "غرثى" بفتح المعجمة وسكون الراء ثم مثلثة أي خميصة البطن أي لا تغتاب أحدا، وهي استعارة فيها تلميح بقوله تعالى في المغتاب: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ

(8/485)


لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} . و "الغوافل" جمع غافلة وهي العفيفة الغافلة عن الشر، والمراد تبرئتها من اغتياب الناس بأكل لحومهم من الغيبة، ومناسبة تسمية "الغيبة" بأكل اللحم أن اللحم ستر على العظم، فكأن المغتاب يكشف ما على من اغتابه من ستر. وزاد ابن هشام في السيرة في هذا الشعر على أبي زيد الأنصاري:
عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل سوء وباطل
وفيه عن ابن إسحاق:
فإن كنت قد قلت الذي زعموا لكم ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
فكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل
وزاد فيه الحاكم في رواية له من غير رواية ابن إسحاق:
حليلة خير الخلق دينا ومنصبا ... نبي الهدى والمكرمات الفواضل
رأيتك وليغفر لك الله حرة ... من المحصنات غير ذات الغوائل
و "الخيم" بكسر المعجمة وسكون التحتانية الأصل الثابت، وأصله من الخيمة يقال خام يخيم إذا أقام بالمكان. قوله: "فقالت عائشة: لست كذاك" ذكر ابن هشام عن أبي عبيدة أن امرأة مدحت بنت حسان بن ثابت عند عائشة فقالت: حصان رزان البيت. فقالت عائشة: لكن أبوها. وهو بتخفيف النون، فإن كان محفوظا أمكن تعدد القصة ويكون قوله في بعض طرق رواية مسروق "يشبب ببنت له" بالنون لا بالتحتانية، ويكون نظم حسان في بنته لا في عائشة، وإنما تمثل به، لكن بقية الأبيات ظاهرة في أنها في عائشة، وهذا البيت في قصيدة لحسان يقول فيها:
فإن كنت قد قلت الذي زعموا لكم ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
وإن الذي قد قيل ليس بلائق ... بك الدهر بل قيل امرئ متماحل
قوله: "قالت: لكن أنت" في رواية شعيب "قالت: لست كذاك" وزاد في آخره: "وقالت: قد كان يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وتقدم في المغازي من وجه آخر عن شعبة بلفظ: "أنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ودل قول عائشة: "لكن أنت لست كذلك" على أن حسان كان ممن تكلم في ذلك، وهذه الزيادة الأخيرة تقدمت هناك من طريق عروة عن عائشة أتم من هذا، وتقدم هناك أيضا في أثناء حديث الإفك من طريق صالح بن كيسان عن الزهري "قال عروة: كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول: إنه الذي قال:
فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
"قوله: "باب {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} "ذكر فيه بعض حديث مسروق عن عائشة، وقد بينت ما فيه في الباب الذي قبله، وقوله في أول السند: "حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سليمان"1 كذا للأكثر غير منسوب وهو
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: هذه الجملة ليست في نسخ الصحيح التي بأيدينا، ولعلها رواية الشارح

(8/486)


سليمان بن كثير أخو محمد الراوي عنه صرح به، ووقع في رواية الأصيلي عن أبي زيد كالجماعة، وعن الجرجاني سفيان بدل سليمان، قال أبو علي الجياني: وسليمان هو الصواب.

(8/487)


11- باب {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
4757- وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا ذُكِرَ مِنْ شَأْنِي الَّذِي ذُكِرَ وَمَا عَلِمْتُ بِهِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيَّ خَطِيبًا فَتَشَهَّدَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي أُنَاسٍ أَبَنُوا أَهْلِي وَايْمُ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سُوءٍ وَأَبَنُوهُمْ بِمَنْ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَطُّ وَلاَ يَدْخُلُ بَيْتِي قَطُّ إِلاَّ وَأَنَا حَاضِرٌ وَلاَ غِبْتُ فِي سَفَرٍ إِلاَّ غَابَ مَعِي" فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ نَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْخَزْرَجِ وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ رَهْطِ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَقَالَ كَذَبْتَ أَمَا وَاللَّهِ أَنْ لَوْ كَانُوا مِنْ الأَوْسِ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ تُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ حَتَّى كَادَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ شَرٌّ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا عَلِمْتُ فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي وَمَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ فَعَثَرَتْ وَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ أَيْ أُمِّ تَسُبِّينَ ابْنَكِ وَسَكَتَتْ ثُمَّ عَثَرَتْ الثَّانِيَةَ فَقَالَتْ تَعَسَ مِسْطَحٌ فَقُلْتُ لَهَا أَيْ أُمِّ أَتَسُبِّينَ ابْنَكِ فَسَكَتَتْ ثُمَّ عَثَرَتْ الثَّالِثَةَ فَقَالَتْ تَعَسَ مِسْطَحٌ فَانْتَهَرْتُهَا فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا أَسُبُّهُ إِلاَّ فِيكِ فَقُلْتُ فِي أَيِّ شَأْنِي قَالَتْ فَبَقَرَتْ لِي الْحَدِيثَ فَقُلْتُ وَقَدْ كَانَ هَذَا قَالَتْ نَعَمْ وَاللَّهِ فَرَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي كَأَنَّ الَّذِي خَرَجْتُ لَهُ لاَ أَجِدُ مِنْهُ قَلِيلًا وَلاَ كَثِيرًا وَوُعِكْتُ فَقُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسِلْنِي إِلَى بَيْتِ أَبِي فَأَرْسَلَ مَعِي الْغُلاَمَ فَدَخَلْتُ الدَّارَ فَوَجَدْتُ أُمَّ رُومَانَ فِي السُّفْلِ وَأَبَا بَكْرٍ فَوْقَ الْبَيْتِ يَقْرَأُ فَقَالَتْ أُمِّي مَا جَاءَ بِكِ يَا بُنَيَّةُ فَأَخْبَرْتُهَا وَذَكَرْتُ لَهَا الْحَدِيثَ وَإِذَا هُوَ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا مِثْلَ مَا بَلَغَ مِنِّي فَقَالَتْ يَا بُنَيَّةُ خَفِّفِي عَلَيْكِ الشَّأْنَ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلاَّ حَسَدْنَهَا وَقِيلَ فِيهَا وَإِذَا هُوَ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهَا مَا بَلَغَ مِنِّي قُلْتُ وَقَدْ عَلِمَ بِهِ أَبِي قَالَتْ نَعَمْ قُلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ نَعَمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْبَرْتُ وَبَكَيْتُ فَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ صَوْتِي وَهُوَ فَوْقَ الْبَيْتِ يَقْرَأُ فَنَزَلَ فَقَالَ لِأُمِّي مَا شَأْنُهَا قَالَتْ بَلَغَهَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ شَأْنِهَا فَفَاضَتْ

(8/487)


عَيْنَاهُ قَالَ أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ أَيْ بُنَيَّةُ إِلاَّ رَجَعْتِ إِلَى بَيْتِكِ فَرَجَعْتُ وَلَقَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتِي فَسَأَلَ عَنِّي خَادِمَتِي فَقَالَتْ لاَ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا عَيْبًا إِلاَّ أَنَّهَا كَانَتْ تَرْقُدُ حَتَّى تَدْخُلَ الشَّاةُ فَتَأْكُلَ خَمِيرَهَا أَوْ عَجِينَهَا وَانْتَهَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلاَّ مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ الأَحْمَرِ وَبَلَغَ الأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي قِيلَ لَهُ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُتِلَ شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَتْ وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي فَلَمْ يَزَالاَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ وَقَدْ اكْتَنَفَنِي أَبَوَايَ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ إِنْ كُنْتِ قَارَفْتِ سُوءًا أَوْ ظَلَمْتِ فَتُوبِي إِلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ " قَالَتْ وَقَدْ جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَهِيَ جَالِسَةٌ بِالْبَابِ فَقُلْتُ أَلاَ تَسْتَحْيِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا فَوَعَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْتَفَتُّ إِلَى أَبِي فَقُلْتُ لَهُ أَجِبْهُ قَالَ فَمَاذَا أَقُولُ فَالْتَفَتُّ إِلَى أُمِّي فَقُلْتُ أَجِيبِيهِ فَقَالَتْ أَقُولُ مَاذَا فَلَمَّا لَمْ يُجِيبَاهُ تَشَهَّدْتُ فَحَمِدْتُ اللَّهَ وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قُلْتُ أَمَّا بَعْدُ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي لَمْ أَفْعَلْ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَشْهَدُ إِنِّي لَصَادِقَةٌ مَا ذَاكَ بِنَافِعِي عِنْدَكُمْ لَقَدْ تَكَلَّمْتُمْ بِهِ وَأُشْرِبَتْهُ قُلُوبُكُمْ وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْ لَتَقُولُنَّ قَدْ بَاءَتْ بِهِ عَلَى نَفْسِهَا وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً وَالْتَمَسْتُ اسْمَ يَعْقُوبَ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ حِينَ قَالَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} وَأُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَاعَتِهِ فَسَكَتْنَا فَرُفِعَ عَنْهُ وَإِنِّي لاَتَبَيَّنُ السُّرُورَ فِي وَجْهِهِ وَهُوَ يَمْسَحُ جَبِينَهُ وَيَقُولُ أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ قَالَتْ وَكُنْتُ أَشَدَّ مَا كُنْتُ غَضَبًا فَقَالَ لِي أَبَوَايَ قُومِي إِلَيْهِ فَقُلْتُ لاَ وَاللَّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ وَلاَ أَحْمَدُهُ وَلاَ أَحْمَدُكُمَا وَلَكِنْ أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي لَقَدْ سَمِعْتُمُوهُ فَمَا أَنْكَرْتُمُوهُ وَلاَ غَيَّرْتُمُوهُ وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ أَمَّا زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِدِينِهَا فَلَمْ تَقُلْ إِلاَّ خَيْرًا وَأَمَّا أُخْتُهَا حَمْنَةُ فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ وَكَانَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ مِسْطَحٌ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَحَمْنَةُ قَالَتْ فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لاَ يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ {وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} يَعْنِي مِسْطَحًا إِلَى قَوْلِهِ: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاللَّهِ يَا رَبَّنَا إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَعَادَ لَهُ بِمَا كَانَ يَصْنَع"

(8/488)


قوله: "باب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} الآية إلى قوله: {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى رءوف رحيم. قوله: "تشيع تظهر" ثبت هذا لأبي ذر وحده، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "تشيع الفاحشة" تظهر يتحدث به، ومن طريق سعيد بن جبير في قوله: {أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} يعني أن تفشو وتظهر والفاحشة الزنا. قوله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} - إلى قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سقط لغير أبي ذر فصارت الآيات موصولا بعضها ببعض فأما قوله: {وَلا يَأْتَلِ} فقال أبو عبيدة: معناه لا يفتعل من آليت أي أقسمت، وله معنى آخر من ألوت أي قصرت، ومنه {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} وقال الفراء الائتلاء الحلف، وقرأ أهل المدينة "ولا يتأل" بتأخير الهمزة. وتشديد اللام، وهي خلاف رسم المصحف، وما نسبه إلى أهل المدينة غير معروف وإنما نسبت هذه القراءة للحسن البصري، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلا يَأْتَلِ} يقول لا يقسم، وهو يؤيد القراءة المذكورة. قوله: "وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة إلخ" وصله أحمد عنه بتمامه، وقد ذكرت ما فيه من فائدة في أثناء حديث الإفك الطويل قريبا، ووقع في رواية المستملي عن الفربري "حدثنا حميد بن الربيع حدثنا أبو أسامة" فظن الكرهاني أن البخاري وصله عن حميد بن الربيع، وليس كذلك بل هو خطأ فاحش فلا يغتر به.

(8/489)


12- باب {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}
4758- وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا"
[الحديث 4758- طرفه في: 4759]
4759- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أَخَذْنَ أُزْرَهُنَّ فَشَقَّقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا"
قوله: "باب {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} كأن يضربن ضمن معني يلقين فلذلك عدي بعلى. قوله: "وقاله أحمد بن شيب" بمعجمة وموحدتين وزن عظيم، وهو من شيوخ البخاري إلا أنه أورد هذا عنه بهذه الصيغة، وقد وصله ابن المنذر عن محمد بن إسماعيل الصائغ عن أحمد بن شبيب، وكذا أخرجه ابن مردويه من طريق موسى بن سعيد الدنداني عن أحمد بن شبيب بن سعيد، وهكذا أخرجه أبو داود والطبراني من طريق قرة بن عبد الرحمن عن الزهري مثله. قوله: "يرحم الله نساء المهاجرات" أي النساء المهاجرات فهو كقولهم شجر الأراك، ولأبي داود من وجه آخر عن الزهري يرحم الله النساء المهاجرات. قوله: "الأول" بضم الهمزة وفتح الواو جمع أولى أي السابقات من المهاجرات، وهذا يقتضي أن الذي صنع ذلك نساء المهاجرات، لكن في رواية صفية بنت شيبة عن عائشة أن

(8/489)


ذلك في نساء الأنصار كما سأنبه عليه. قوله: "مروطهن" جمع مرط وهو الإزار، وفي الرواية الثانية "أزرهن" وزاد: "شققنها من قبل الحواشي" . قوله: "فاختمرن" أي غطين وجوههن؛ وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر وهو التقنع، قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها، فأمرن بالاستتار، والخمار للمرأة كالعمامة للرجل. قوله في الرواية الثانية: "عن الحسن" هو ابن مسلم. قوله: "لما نزلت هذه الآية {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أخذن أزرهن" هكذا وقع عند البخاري الفاعل ضميرا، وأخرجه النسائي من رواية ابن المبارك عن إبراهيم بن نافع بلفظ: "أخذ النساء" وأخرجه الحاكم من طريق زيد بن الحباب عن إبراهيم بن نافع بلفظ: "أخذ نساء الأنصار" ولابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية ما يوضح ذلك، ولفظه: "ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن، فقالت: إن نساء قريش لفضلاء، ولكني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان" ويمكن الجمع بين الروايتين بأن نساء الأنصار بادرن إلى ذلك.

(8/490)


25- سورة الْفُرْقَانِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {هَبَاءً مَنْثُورًا} مَا تَسْفِي بِهِ الرِّيحُ {مَدَّ الظِّلّ} َ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ {سَاكِنًا} دَائِمًا {عَلَيْهِ دَلِيلاً} طُلُوعُ الشَّمْسِ {خِلْفَةً} مَنْ فَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ عَمَلٌ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ أَوْ فَاتَهُ بِالنَّهَارِ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ وَقَالَ الْحَسَنُ {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَرَى حَبِيبَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {ثُبُوراً} وَيْلاً وَقَالَ غَيْرُهُ {السَّعِيرُ} مُذَكَّرٌ وَالتَّسَعُّرُ وَالْاضْطِرَامُ التَّوَقُّدُ الشَّدِيدُ {تُمْلَى عَلَيْهِ} تُقْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْلَيْتُ وَأَمْلَلْتُ {الرَّسُّ} الْمَعْدِنُ جَمْعُهُ رِسَاسٌ {مَا يَعْبَأُ} يُقَالُ مَا عَبَأْتُ بِهِ شَيْئًا لاَ يُعْتَدُّ بِهِ {غَرَامًا} هَلاَكًا وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَعَتَوْا} طَغَوْا وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ {عَاتِيَةٍ} عَتَتْ عَنْ الْخَزَّان"
قوله: "سورة الفرقان {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: وقال ابن عباس: هباء منثورا ما تسفي به الريح" وصله ابن جرير من طريق، ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مثله وزاد في آخره: "ويبثه" ولابن أبي حاتم من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس 1. وقال أبو عبيدة في قوله: {هَبَاءً مَنْثُورًا} : هو الذي يدخل البيت من الكوة، يدخل مثل الغبار مع الشمس، وليس له مس ولا يرى في الظل. وروى ابن أبي حاتم من طريق الحسن البصري نحوه وزاد: "لو ذهب أحدكم يقبض عليه لم يستطع" ومن طريق الحارث عن علي في قوله: "هباء منثورا" قال: ما ينثر من الكوة. قوله: "دعاؤكم إيمانكم" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن
ـــــــ
(1) بياض يالأصل.

(8/490)


عباس مثله، وقد تقدم الكلام عليه في أوائل كتاب الإيمان، وثبت هذا هنا للنسفي وحده. قوله: {مَدَّ الظِّلَّ} ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، وعند عبد الرزاق عن معمر عن الحسن وقتادة مثله. وقال ابن عطية: تظاهرت أقوال المفسرين بهذا، وفيه نظر لأنه لا خصوصية لهذا الوقت بذلك، بل من بعد غروب الشمس مدة يسيرة يبقى فيها ظل ممدود مع أنه في نهار، وأما سائر النهار ففيه ظلال متقطعة. ثم أشار إلى اعتراض آخر وهو أن الظل إنما يقال لما يقع بالنهار، قال: والظل الموجود في هذين الوقتين من بقايا الليل انتهى. والجواب عن الأول أنه ذكر تفسير الخصوص من سياق الآية، فإن في بقيتها {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} والشمس تعقب الذي يوجد قبل طلوعها فيزيله فلهذا جعلت عليه دليلا، فظهر اختصاص الوقت الذي قبل الطلوع بتفسير الآية دون الذي بعد الغروب. وأما الاعتراض الثاني فساقط لأن الذي نقل أنه يطلق على ذلك ظل ثقة مثبت فهو مقدم على الباقي، حتى ولو كان قول النافي محققا لما امتنع إطلاق ذلك عليه مجازا. قوله: "ساكنا دائما" وصله ابن أبي حاتم من الوجه المذكور. قوله: {عَلَيْهِ دَلِيلاً} : طلوع الشمس" وصله ابن أبي حاتم كذلك. قوله: "خلفة: من فاته من الليل عمل أدركه بالنهار أو فاته بالنهار أدركه بالليل" وصله ابن أبي حاتم أيضا كذلك، وكذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الحسن نحوه. قوله: "قال الحسن" هو البصري. قوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} : في طاعة الله" وصله سعيد بن منصور "حدثنا جرير بن حازم سمعت الحسن وسأله رجل عن قوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} : ما القرة، أفي الدنيا أم في الآخرة؟ قال: بل في الدنيا، هي والله أن يرى العبد من ولده طاعة الله إلخ" وأخرجه عبد الله بن المبارك في "كتاب البر والصلة" عن حزم القطعي عن الحسن، وسمي الرجل السائل كثير بن زياد. قوله. "وما شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى حبيبه في طاعة الله" في رواية سعيد بن منصور "أن يرى حميمه" . قوله: "وقال ابن عباس ثبورا ويلا" وصله ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وثبت هذا لأبي ذر والنسفي فقط. وقال أبو عبيدة في قوله: "دعوا هنالك ثبورا" أي هلكة. وقال مجاهد: "عتوا" طغوا، وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "وعنوا عتوا كبيرا" قال: طغوا. قوله: "وقال غيره: السعير مذكر" قال أبو عبيدة في قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} - ثم قال بعده – {إِذَا رَأَتْهُمْ} والسعير مذكر وهو ما يسعر به النار، ثم أعاد الضمير للنار، والعرب تفعل ذلك تظهر مذكرا من سبب مؤنث ثم يؤنثون ما بعد المذكر. قوله: "والتسعير والاضطرام التوقد الشديد" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "أساطير" تقدم في تفسير سورة الأنعام. قوله: "تملي عليه: تقرأ عليه من أمليت وأمللت" قال أبو عبيدة في قوله: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} : أي تقرأ عليه، وهو من أمليت عليه، وهي في موضع آخر أمللت عليه، يشير إلى قوله تعالى في سورة البقرة: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} . قوله: "الرس المعدن جمعه رساس" قال أبو عبيده في قوله: "وأصحاب الرس" أي المعدن. وقال الخليل: الرس كل بئر تكون غير مطوية، ووراء ذلك أقوال. أحدها أورده ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الرس البئر، ومن طريق سفيان عن رجل عن عكرمة قال: أصحاب الرس رسوا نبيهم في بئر، ومن طريق سعيد عن قتادة قال: حدثنا أن أصحاب الرس كانوا باليمامة. ومن طريق شبيب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: "وأصحاب الرس" قال: بئر بأذربيجان. قوله: "ما يعبأ يقال ما عبأت به شيئا لا يعتد به" قال أبو عبيدة في قوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ

(8/491)


رَبِّي} هو من قولهم ما عبأت بك شيئا أي ما عددتك شيئا.
" تنبيه " : وقع في بعض الروايات تقديم وتأخير لهذه التفاسير، والخطب فيها سهل. قوله: "غراما هلاكا" قال أبو عبيدة في قوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أي: هلاكا وإلزاما لهم، ومنه رجل مغرم بالحب. قوله: "وقال ابن عيينة: عاتية عتت على الخزان" كذا في تفسيره وهذا في سورة الحاقة؛ وإنما ذكره هنا استطرادا لما ذكر قوله: {عَتَوْا} ، وقد تقدم ذكر هذا في قصة هود من أحاديث الأنبياء.

(8/492)


باب {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شرا مكانا وأضل سبيلا}
...
1- باب {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً}
4760- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ قَتَادَةُ بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا"
قوله: "باب قوله: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله: "وأضل سبيلا" قوله: "شيبان" هو ابن عبد الرحمن. قوله: "أن رجلا قال: يا نبي الله يحشر الكافر" لم أقف على اسم السائل؛ وسيأتي شرح الحديث مستوفى في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى. قوله: "يحشر الكافر" في رواية الحاكم من وجه آخر عن أنس "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحشر أهل النار على وجوههم" وفي حديث أبي هريرة عند البزار "يحشر الناس على ثلاثة أصناف: صنف على الدواب، وصنف على أقدامهم، وصنف على وجوههم. فقيل: فكيف يمشون على وجوههم" الحديث. ويؤخذ من مجموع الأحاديث أن المقربين يحشرون ركبانا، ومن دونهم من المسلمين على أقدامهم، وأما الكفار يحشرون على وجوههم. قوله: "قال قتادة: بلى وعزة ربنا" هذه الزيادة موصولة بالإسناد المذكور، قالها قتادة تصديقا لقوله: "أليس" .

(8/492)


2- باب {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} الْعُقُوبَةَ
4761- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ح قَالَ وَحَدَّثَنِي وَاصِلٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ" قَالَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ}
4762- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ

(8/492)


3- باب {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}
4765- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ ابْنُ أَبْزَى سَلْ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} وَقَوْلِهِ {وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} حَتَّى بَلَغَ {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ فَقَدْ عَدَلْنَا بِاللَّهِ وَقَدْ قَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} إِلَى قَوْلِهِ {غَفُورًا رَحِيمًا}
قوله: "باب {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} قرأ الجمهور بالجزم في" يضاعف ويخلد "بدلا

(8/494)


من الجزاء في قوله: {يَلْقَ أَثَاماً} بدل اشتمال. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالرفع على الاستئناف. قوله: "حدثنا سعد بن حفص" هو الطلحي، وشيبان هو ابن عبد الرحمن، ومنصور هو ابن المعتمر. قوله: "عن سعيد من جبير قال: قال ابن أبزى" بموحدة وزاي مقصورة واسمه عبد الرحمن، وهو صحابي صغير. قوله: "سئل ابن عباس" كذا في رواية أبي ذر بصيغة الفعل الماضي، وهذه للنسفي، وهو يقتضي أنه من رواية سعيد بن جبير عن ابن أبزى عن ابن عباس. وفي رواية الأصيلي: "سل" بصيغة الأمر وهو المعتمد، ويدل عليه قوله بعد سياق الآيتين "فسألته" فإنه واضح في جواب قوله: "سل" وإن كان اللفظ الآخر يمكن توجيهه بتقدير سئل ابن عباس عن كذا فأجاب فسألته عن شيء آخر مثلا، ولا يخفى تكلفه. ويؤيد الأول رواية شعبة في الباب الذي يليه عن منصور عن سعيد بن جبير قال: "أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس فسألته" وكذا أخرجه إسحاق بن إبراهيم في تفسيره عن جرير عن منصور، وأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن جرير بلفظ: "قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس" فذكره، وذكر عياض ومن تبعه أنه وقع في رواية أبي عبيد القاسم بن سلام في هذا الحديث من طريق 1 عن سعيد بن جبير "أمرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس" فالحديث من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، ولغيره: "أمرني ابن عبد الرحمن" قال: وقال بعضهم: لعله سقط "ابن" قبل عبد الرحمن وتصحف من "أمرني" ويكون الأصل "أمر ابن عبد الرحمن" ثم لا ينكر سؤال عبد الرحمن واستفادته من ابن عباس فقد سأله من كان أقدم منه وأفقه. قلت: الثابت في الصحيحين وغيرهما من المستخرجات عن سعيد بن جبير "أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس" فالحديث من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، والذي زاد فيه سعيد بن عبد الرحمن أو ابن عبد الرحمن.
ـــــــ
(1) بياض بالأصل

(8/495)


4- بَاب {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}
4766- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ وَعَنْ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} قَالَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْك"
قوله: "عن هاتين الآيتين" ومن يقتل مؤمنا متعمدا" فسألته فقال: لم ينسخها شيء، وعن "والذين يدعون من الله إلها آخر" قال: نزلت في أهل الشرك" هكذا أورده مختصرا، وسياق مسلم من هذا الوجه أتم، وأتم منهما ما تقدم في المبعث من رواية جرير بلفظ: "هاتين الآيتين ما أمرهما؟ التي في سورة الفرقان {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} والتي في سورة النساء {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} قال: سألت ابن عباس فقال: لما أنزلت التي في سورة الفرقان قال مشركو مكة: قد قتلنا النفس ودعونا مع الله إلها آخر وأتينا الفواحش، قال: فنزلت: {إِلاَّ مَنْ تَابَ} الآية، قال: فهذه لأولئك، قال: وأما التي في سورة النساء فهو الذي قد عرف الإسلام ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم لا توبة

(8/495)


له، قال. فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم" وحاصل ما في هذه الروايات أن ابن عباس كان تارة يجعل الآيتين في محل واحد فلذلك يجزم بنسخ إحداهما، وتارة يجعل محلهما مختلفا. ويمكن الجمع بين كلاميه بأن عموم التي في الفرقان خص منها مباشرة المؤمن القتل متعمدا، وكثير من السلف يطلقون النسخ على التخصيص، وهذا أولى من حمل كلامه على التناقض، وأولى من دعوى أنه قال بالنسخ ثم رجع عنه. وقول ابن عباس بأن المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا لا توبة له مشهور عنه، وقد جاء عنه في ذلك ما هو أصرح مما تقدم: فروى أحمد والطبري من طريق يحيى الجابر والنسائي وابن ماجه من طريق عمار الذهبي كلاهما عن سالم بن أبي الجعد قال: "كنت عند ابن عباس بعدما كف بصره، فأتاه رجل فقال: ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ قال: جزاؤه جهنم خالدا فيها، وساق الآية إلى "عظيما" قال: لقد نزلت في آخر ما نزل، وما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل عملا صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأني له التوبة والهدى" لفظ يحيى الجابر، والآخر نحوه. وجاء على وفق ما ذهب إليه ابن عباس في ذلك أحاديث كثيرة: منها ما أخرجه أحمد والنسائي من طريق أبي إدريس الخولاني عن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره؛ إلا الرجل يموت كافرا، والرجل يقتل مؤمنا متعمدا" وقد حمل جمهور السلف وجميع أهل السنة ما ورد من ذلك على التغليظ، وصححوا توبة القاتل كغيره. وقالوا: معني قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} أي إن شاء الله أن يجازيه تمسكا بقوله تعالى في سورة النساء أيضا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ومن الحجة في ذلك حديث الإسرائيلي الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم أتى تمام المائة فقال له: لا توبة، فقتله فأكمل به مائة. ثم جاء آخر فقال: "ومن يحول بينك وبين التوبة" الحديث، وهو مشهور، وسيأتي في الرقاق واضحا. وإذا ثبت ذلك لمن قبل من غير هذه الأمة فمثله لهم أولى لما خفف الله عنهم من الأثقال التي كانت على من قبلهم.

(8/496)


5- باب {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أَيْ هَلَكَةً
4767- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ الدُّخَانُ وَالْقَمَرُ وَالرُّومُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} "
قوله: باب قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أَيْ هَلَكَةً قال أبو عبيدة في قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} : أي جزاء يلزم كل عامل بما عمل، وله معنى آخر يكون هلاكا. قوله: "حدثنا مسلم" هو أبو الضحى الكوفي.

(8/497)


26- سورة الشُّعَرَاءِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَعْبَثُونَ} تَبْنُونَ {هَضِيمٌ} يَتَفَتَّتُ إِذَا مُسَّ {مُسَحَّرِينَ} ْمَسْحُورِينَ {لَيْكَةُ} وَ {الأَيْكَةُ} جَمْعُ أَيْكَةٍ وَهِيَ جَمْعُ شَجَرٍ {يَوْمِ الظُّلَّةِ} إِظْلاَلُ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ {مَوْزُونٍ} مَعْلُومٍ {كَالطَّوْدِ} كَالْجَبَلِ وَقَالَ غَيْرُهُ {لَشِرْذِمَةٌ} الشِّرْذِمَةُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ {فِي السَّاجِدِينَ} الْمُصَلِّينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} كَأَنَّكُمْ {الرِّيعُ} الأَيْفَاعُ مِنْ الأَرْضِ وَجَمْعُهُ رِيَعَةٌ وَأَرْيَاعٌ وَاحِدُهُ الرِيعَةٌ

(8/496)


1- باب {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يَرَى أَبَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ الْغَبَرَةُ وَالْقَتَرَةُ" الْغَبَرَةُ هِيَ الْقَتَرَة
4769- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَخِي عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَيَقُولُ اللَّهُ إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِين"
قوله: "باب {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} سقط "باب" لغير أبي ذر. قوله: "وقال إبراهيم بن طهمان إلخ" وصله النسائي عن أحمد بن حفص بن عبد الله عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان وساق الحديث بتمامه. قوله: "عن سعيد المقبري عن أبي هريرة" كذا قال ابن أبي أويس، وأورد البخاري هذه الطريق معتمدا عليها وأشار إلى الطريق الأخرى التي زيد فيها بين سعيد وأبي هريرة رجل فذكرها معلقة، وسعيد قد سمع من أبي هريرة وسمع من أبيه عن أبي هريرة، فلعل هذا مما سمعه من أبيه عن أبي هريرة ثم سمعه من أبي هريرة، أو سمعه من أبي هريرة مختصرا ومن أبيه عنه تاما، أو سمعه من أبي هريرة ثم ثبته فيه أبوه، وكل ذلك لا يقدح في صحة الحديث، وقد وجد للحديث أصل عن أبي هريرة من وجه آخر أخرجه البزار والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة، وشاهده عندهما أيضا من حديث أبي سعيد. قوله: "إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة وعليه الغيرة والقترة. والغيرة هي القترة" كذا أورده مختصرا، ولفظ النسائي: "وعليه الغيرة والقترة، فقال له: قد نهيتك عن هذا فعصيتني، قال: لكن لا أعصيك اليوم" الحديث، فعرف من هذا أن قوله: والغيرة هي القترة من كلام المصنف، وأخذه من كلام أبي عبيدة. وأنه قال في تفسير سورة يونس: "ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة" القتر الغبار، وأنشد لذلك شاهدين. قال ابن التين: وعلى هذا فقوله في سورة عبس: {غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة} تأكيد لفظي، كأنه قال: غيرة فوقها غبرة. وقال غير هؤلاء: القترة ما يغشى الوجه من الكرب، والغيرة ما يعلوه من الغبار، وأحدهما حسي والآخر معنوي. وقيل: القترة شدة الغيرة بحيث يسود الوجه. وقيل: القترة سواد الدخان فاستعير هنا. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس، وأخوه هو أبو بكر عبد الحميد. قوله في الطريق الموصولة "يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين" هكذا أورده هنا مختصرا، وساقه في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء تاما. قوله: "يلقى إبراهيم أباه آزر" هذا موافق لظاهر القرآن في تسمية والد إبراهيم، وقد سبقت نسبته في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء. وحكى الطبري من طريق ضعيفة عن مجاهد أن آزر اسم الصنم وهو شاذ. قوله: "وعلى وجه آزر قترة وغبرة" هذا موافق لظاهر

(8/499)


القرآن {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أي يغشاها قترة، فالذي يظهر أن الغبرة الغبار من التراب، والقترة السواد الكائن عن الكآبة. قوله: "فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك" في رواية إبراهيم بن طهمان "فقال له قد نهيتك عن هذا فعصيتني، قال: لكني لا أعصيك واحدة" . قوله: "فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد" وصف نفسه بالأبعد على طريق الفرض إذا لم تقبل شفاعته في أبيه، وقيل: الأبعد صفة أبيه أي أنه شديد البعد من رحمة الله لأن الفاسق بعيد منها فالكافر أبعد، وقيل: الأبعد بمعنى البعيد والمراد الهالك، ويؤيد الأول أن في رواية إبراهيم بن طهمان "وإن أخزيت أبي فقد أخزيت الأبعد" وفي رواية أيوب " يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول له: أي ابن كنت لك؟ فيقول: خير ابن، فيقول: هل أنت مطيعي اليوم؟ فيقول: نعم. فيقول خذ بارزتي. فيأخذ بارزته. ثم ينطلق حتى يأتي ربه وهو يعرض الخلق، فيقول الله: يا عبدي ادخل من أي أبواب الجنة شئت، فيقول: أي رب أبي معي، فإنك وعدتني أن لا تخزني" . قوله: "فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين" في حديث أبي سعيد "فينادى: إن الجنة لا يدخلها مشرك" . قوله: "ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ انظر، فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار" في رواية إبراهيم بن طهمان" فيؤخذ منه فيقول: يا إبراهيم أين أبوك؟ قال: أنت أخذته مني، قال: انظر أسفل، فينظر فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه" . وفي رواية أيوب " فيمسخ الله أباه ضبعا" فيأخذ بأنفه فيقول: يا عبدي أبوك هو، فيقول: لا وعزتك "وفي حديث أبي سعيد" فيحول في صورة قبيحة وريح منتنة في صورة ضبعان "زاد ابن المنذر من هذا الوجه" فإذا رآه كذا تبرأ منه قال: لست أبي "والذيخ بكسر الذال المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم خاء معجمة ذكر الصباع، وقيل لا يقال له ذيخ إلا إذا كان كثير الشعر. والضبعان لغة في الضبع. وقوله: "متلطخ" قال بعض الشراح: أي في رجيع أو دم أو طين. وقد عينت الرواية الأخرى المراد وأنه الاحتمال الأول حيث قال: فيتمرغ في نتنه. قيل: الحكمة وفي مسخه لتنفر نفس إبراهيم منه ولئلا يبقى في النار على صورته فيكون فيه غضاضة على إبراهيم. وقيل: الحكمة في مسخه ضبعا أن الضبع من أحمق الحيوان، وآزر كان من أحمق البشر، لأنه بعد أن ظهر له من ولده من الآيات البينات أصر على الكفر حتى مات. واقتصر في مسخه على هذا الحيوان لأنه وسط في التشويه بالنسبة إلى ما دونه كالكلب والخنزير وإلى ما فوقه كالأسد مثلا، ولأن إبراهيم بالغ في الخضوع له وخفض الجناح فأبى واستكبر وأصر على الكفر فعومل بصفة الذل يوم القيامة، ولأن للضبع عوجا فأشير إلى أن آزر لم يستقم فيؤمن بل استمر على عوجه في الدين. وقد استشكل الإسماعيلي هذا الحديث من أصله وطعن في صحته فقال بعد أن أخرجه: هذا خبر في صحته نظر من جهة أن إبراهيم علم أن الله لا يخلف الميعاد؛ فكيف يجعل ما صار لأبيه خزيا مع علمه بذلك؟ وقال غيره: هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} انتهى. والجواب عن ذلك أن أهل التفسير اختلفوا في الوقت الذي تبرأ فيه إبراهيم من أبيه، فقيل: كان ذلك في الحياة الدنيا لما مات آزر مشركا، وهذا أخرجه الطبري من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وإسناده صحيح. وفي رواية: "فلما مات لم يستغفر له" ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه قال: "استغفر له ما كان حيا فلما مات أمسك" وأورده أيضا من طريق مجاهد وقتادة وعمرو بن دينار نحو ذلك، وقيل

(8/500)


إنما تبرأ منه يوم القيامة لما يئس منه حين مسخ على ما صرح به في رواية ابن المنذر التي أشرت إليها، وهذا الذي أخرجه الطبري أيضا من طريق عبد الملك بن أبي سليمان سمعت سعيد بن جبير يقول: إن إبراهيم يقول يوم القيامة: رب والدي، رب والدي. فإذا كان الثالثة أخذ بيده فيلتفت إليه وهو ضبعان فيتبرأ منه. ومن طريق عبيد بن عمير قال: يقول إبراهيم لأبيه: إني كنت آمرك في الدنيا وتعصيني، ولست تاركك اليوم فخذ بحقوي، فيأخذ بضبعيه فيمسخ ضبعا، فإذا رآه إبراهيم مسخ تبرأ منه. ويمكن الجمع بين القولين بأنه تبرأ منه لما مات مشركا فترك الاستغفار له، لكن لما رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقة فسأل فيه، فلما رآه مسخ يئس منه حينئذ فتبرأ منه تبرءا أبديا وقيل: إن إبراهيم لم يتيقن موته على الكفر بجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع إبراهيم على ذلك، وتكون تبرئته منه حينئذ بعد الحال التي وقعت في هذا الحديث. قال الكرماني: فإن قلت: إذا أدخل الله أباه النار فقد أخزاه لقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وخزي الوالد خزي الولد فيلزم الخلف في الوعد وهو محال، ولو أنه يدخل النار لزم الخلف في الوعيد وهو المراد بقوله: "إن الله حرم الجنة على الكافرين" والجواب أنه إذا مسخ في صورة ضبع وألقي في النار لم تبق الصورة التي هي سبب الخزي، فهو عمل بالوعد والوعيد. وجواب آخر: وهو أن الوعد كان مشروطا بالإيمان، وإنما استغفر له وفاء بما وعده، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. قلت: وما قدمته يؤدي المعنى المراد مع السلامة مما في اللفظ من الشناعة، والله أعلم.

(8/501)


2- باب {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ أَلِنْ جَانِبَكَ
4770- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: "يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ" لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}
4771- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا" تَابَعَهُ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ

(8/501)


وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَاب"
قوله: "باب {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} ، واخفض جناحك: ألن جانبك" هو قول أبي عبيدة وزاد: "وكلامك" . قوله: "عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} هذا من مراسيل الصحابة، وبذلك جزم الإسماعيلي لأن أبا هريرة إنما أسلم بالمدينة، وهذه القصة وقعت بمكة، وابن عباس كان حينئذ إما لم يولد، وإما طفلا. ويؤيد الثاني نداء فاطمة فإنه يشعر بأنها كانت حينئذ بحيث تخاطب بالأحكام، وقد قدمت في "باب من انتسب إلى آبائه" في أوائل السيرة النبوية احتمال أن تكون هذه القصة وقعت مرتين، لكن الأصل عدم تكرار النزول، وقد صرح في هذه الرواية بأن ذلك وقع حين نزلت. نعم وقع عند الطبراني من حديث أبي أمامة قال: "لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هاشم ونساءه وأهله فقال: يا بني هاشم، اشتروا أنفسكم من النار، واسعوا في فكاك رقابكم يا عائشة بنت أبي بكر، يا حفصة بنت عمر، يا أم سلمة" فذكر حديثا طويلا، فهذا إن ثبت دل على تعدد القصة، لأن القصة الأولى وقعت بمكة لتصريحه في حديث الباب أنه صعد الصفا، ولم تكن عائشة وحفصة وأم سلمة عنده ومن أزواجه إلا بالمدينة، فيجوز أن تكون متأخرة عن الأولى فيمكن أن يحضرها أبو هريرة وابن عباس أيضا، ويحمل قوله: "لما نزلت. جمع" أي بعد ذلك، لا أن الجمع وقع على الفور، ولعله كان نزل أولا {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فجمع قريشا فعم ثم خص كما سيأتي، ثم نزل ثانيا: "ورهطك منهم المخلصين" فخص بذلك بني هاشم ونساءه والله أعلم. وفي هذه الزيادة تعقب على النووي حيث قال في "شرح مسلم:"إن البخاري لم يخرجها أعني. "ورهطك منهم المخلصين" اعتمادا على ما في هذه السورة، وأغفل كونها موجودة عند البخاري في سورة تبت. فوله: "لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} زاد في تفسير تبت من رواية أبي أسامة عن الأعمش بهذا السند" ورهطك منهم المخلصين" وهذه الزيادة وصلها الطبري من وجه آخر عن عمرو بن مرة أنه كان يقرأها كذلك، قال القرطبي لعل هذه الزيادة كانت قرآنا فنسخت تلاوتها. ثم استشكل ذلك بأن المراد إنذار الكفار، والمخلص صفة المؤمن، والجواب عن ذلك أنه لا يمتنع عطف الخاص على العام، ف قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} عام فيمن آمن منهم ومن لم يؤمن؛ ثم عطف عليه الرهط المخلصين تنويها بهم وتأكيدا، واستدل بعض المالكية بقوله في هذا الحديث: "يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا" أن النيابة لا تدخل في أعمال البر، إذ لو جاز ذلك لكان يتحمل عنها صلى الله عليه وسلم بما يخلصها، فإذا كان عمله لا يقع نيابة عن ابنته فغيره أولى بالمنع. وتعقب بأن هذا كان قبل أن يعلمه الله تعالى بأنه يشفع فيمن أراد وتقبل شفاعته، حتى يدخل قوما الجنة بغير حساب، ويرفع درجات قوم آخرين، ويخرج من النار من دخلها بذنوبه، أو كان المقام مقام التخويف والتحذير أو أنه أراد المبالغة في الحض على العمل، ويكون في قوله: "لا أغني شيئا" إضمار إلا إن أذن الله لي بالشفاعة. قوله: "فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش" في حديث أبي هريرة قال: "يا معشر قريش، أو كلمة نحوها" ووقع عند البلاذري من وجه آخر عن ابن عباس أبين من هذا ولفظه: "فقال: يا بني فهر، فاجتمعوا. ثم قال: يا بني غالب، فرجع بنو محارب والحارث ابنا فهر. فقال: يا بني لؤي، فرجع بنو الأدرم بن غالب. فقال: يا آل كعب، فرجع بنو عدي وسهم وجمح فقال: يا آل كلاب، فرجع بنو مخزوم وتيم. فقال: يا آل قصي، فرجع بنو زهرة. فقال: يا آل عبد مناف، فرجع بنو عبد الدار وعبد العزى. فقال له أبو لهب: هؤلاء بنو

(8/502)


عبد مناف عندك" وعند الواقدي أنه قصر الدعوة على بني هاشم والمطلب، وهم يومئذ خمسة وأربعون رجلا. وفي حديث علي عند ابن إسحاق والطبري والبيهقي في "الدلائل" أنهم كانوا حينئذ أربعون يزيدون رجلا أو ينقصون وفيه عمومته أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب. ولابن أبي حاتم من وجه آخر عنه أنهم يومئذ أربعون غير رجل أو أربعون ورجل. وفي حديث علي من الزيادة أنه صنع لهم شاة على ثريد وقعب لبن، وأن الجميع أكلوا من ذلك وشربوا وفضلت فضلة، وقد كان الواحد منهم يأتي على جميع ذلك. قوله: "أرأيتكم لو أخبرتكم إلخ" أراد بذلك تقريرهم بأنهم يعلمون صدقه إذا أخبر عن الأمر الغائب. ووقع في حديث علي" ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة" . قوله: "كنتم مصدقي" بتشديد التحتانية. قوله: "قال: فإني نذير لكم" أي منذر. ووقع في حديث قبيصة بن محارب وزهير بن عمرو عند مسلم وأحمد "فجعل ينادي: إنما أنا نذير، وإنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو فجعل يهتف: يا صباحاه" يعني ينذر قومه. وفي رواية موسى بن وردان عن أبي هريرة عند أحمد قال: "أنا النذير، والساعة الموعد" وعند الطبري من مرسل قسامة بن زهير قال: "بلغني أنه صلى الله عليه وسلم وضع أصابعه في أذنه ورفع صوته وقال: يا صباحاه" ووصله مرة أخرى عن قسامة عن أبي موسى الأشعري، وأخرجه الترمذي موصولا أيضا. قوله: "فنزلت تبت يدا أبي لهب وتب" في رواية أبي أسامة "تبت يدا أبي لهب وقد تب" وزاد: "هكذا قرأها الأعمش يومئذ" انتهى. وليست هذه القراءة فيما نقل الفراء عن الأعمش، فالذي يظهر أنه قرأها حاكيا لا قارئا، ويؤيده قوله في هذا السياق: "يومئذ" فإنه يشعر بأنه كان لا يستمر على قراءتها كذلك، والمحفوظ أنها قراءة ابن مسعود وحده. قوله في حديث أبي هريرة "اشتروا أنفسكم من الله" أي باعتبار تخليصها من النار، كأنه قال: أسلموا تسلموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا الطاعة ثمن النجاة. وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} فهناك المؤمن بائع باعتبار تحصيل الثواب والثمن الجنة، وفيه إشارة إلى أن النفوس كلها ملك لله تعالى، وأن من أطاعه حق طاعته في امتثال أوامره واجتناب نواهيه ووفى ما عليه من الثمن، وبالله التوفيق. قوله: "يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم من الله، يا عباس إلخ" في رواية موسى بن طلحة عن أبي هريرة عند مسلم وأحمد "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا فعم وخص فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني كعب، يا معشر بني هاشم كذلك، يا معشر بني عبد المطلب كذلك" الحديث. قوله: "يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم" بنصب عمة، ويجوز في صفية الرفع والنصب وكذا القول في قوله يا فاطمة بنت محمد. قوله: "تابعه أصبغ عن ابن وهب إلخ" سبق التنبيه عليه في الوصايا، وفي الحديث أن الأقرب للرجل من كان يجمعه هو وجد أعلى، وكل من اجتمع معه في جد دون ذلك كان أقرب إليه، وقد تقدم البحث في المراد بالأقربين والأقارب في الوصايا، والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولا أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع، وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة فيحابيهم في الدعوة والتخويف، فلذلك نص له على إنذارهم. وفيه جواز تكنية الكافر، وفيه خلاف بين العلماء، كذا قيل. وفي إطلاقه نظر، لأن الذي منع من ذلك إنما منع منه حيث يكون السياق يشعر بتعظيمه، بخلاف ما إذا كان ذلك لشهرته بها دون غيرها كما في هذا أو للإشارة إلى ما يؤول أمره إليه من لهب جهنم. ويحتمل أن يكون ترك ذكره باسمه لقبح اسمه لأن اسمه كان عبد العزى، ويمكن جواب آخر وهو أن التكنية لا تدل

(8/503)


بمجردها على التعظيم، بل قد يكون الاسم أشرف من الكنية، ولهذا ذكر الله الأنبياء بأسمائهم دون كناهم.

(8/504)


27- سورة النَّمْلِ
الْخَبْء}ُ مَا خَبَأْتَ {لاَ قِبَلَ} لاَ طَاقَةَ {الصَّرْحُ} كُلُّ مِلاَطٍ اتُّخِذَ مِنْ الْقَوَارِيرِ وَالصَّرْحُ الْقَصْرُ وَجَمَاعَتُهُ صُرُوحٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَلَهَا عَرْشٌ} سَرِيرٌ {كَرِيمٌ} حُسْنُ الصَّنْعَةِ وَغَلاَءُ الثَّمَنِ يَأْتُونِي {مُسْلِمِينَ} طَائِعِينَ {رَدِفَ} اقْتَرَبَ {جَامِدَةً} قَائِمَةً {أَوْزِعْنِي} اجْعَلْنِي وَقَالَ مُجَاهِدٌ {نَكِّرُوا} غَيِّرُوا {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} يَقُولُهُ سُلَيْمَانُ {الصَّرْحُ} بِرْكَةُ مَاءٍ ضَرَبَ عَلَيْهَا سُلَيْمَانُ قَوَارِيرَ أَلْبَسَهَا إِيَّاهُ
قوله: "سورة النمل – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقط "سورة والبسملة" لغير أبي ذر، وثبت للنسفي لكن بتقديم البسملة. قوله: "الخبء ما خبأت" في رواية غير أبي ذر "والخبء" بزيادة واو في أوله، وهذا قول ابن عباس أخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه قال: "يخرج الخبء" : يعلم كل خفية في السماوات والأرض. وقال الفراء في قوله: "يخرج الخبء" : أي الغيث من السماء والنبات من الأرض، قال: و "في" هنا بمعنى من، وهو كقولهم: ليستخرجن العلم فيكم أي الذي منكم، وقرأ ابن مسعود" يخرج الخبء من "بدل "في" ، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: الخبء السر، ولابن أبي حاتم من طريق عكرمة مثله، ومن طريق مجاهد قال: الغيث. ومن طريق سعيد بن المسيب قال: الماء. قوله: "لا قبل: لا طاقة" هو قول أبي عبيدة. وأخرج الطبري من طريق إسماعيل بن أبي خالد مثله. قوله: "الصرح كل ملاط اتخذ من القوارير" كذا للأكثر بميم مكسورة. وفي رواية الأصيلي بالموحدة المفتوحة ومثله لابن السكن، وكتبه الدمياطي في نسخته بالموحدة وليست هي روايته. والملاط بالميم المكسورة الطين الذي يوضع بين ساقتي البناء، وقيل: الصخر، وقيل: كل بناء عال منفرد. وبالموحدة المفتوحة ما كسيت به الأرض من حجارة أو رخام أو كلس. وقد قال أبو عبيدة: الصرح كل بلاط اتخذ من قوارير، والصرح القصر. وأخرج الطبري من طريق وهب بن منبه قال: أمر سليمان الشياطين فعملت له الصرح من زجاج كأنه الماء بياضا، ثم أرسل الماء تحته ووضع سريره فيه فجلس عليه. وعكفت عليه الطير والجن والإنس، ليريها ملكا هو أعز من ملكها، فلما رأت ذلك بلقيس حسبته لجة وكشفت عن ساقيها لتخوضه. ومن طريق محمد بن كعب قال: سجن سليمان فيه دواب البحر الحيتان والضفادع، فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما، فأمرها سليمان فاستترت. قوله: "والصرح القصر وجماعته صروح" هو قول أبي عبيدة كما تقدم، وسيأتي له تفسير آخر بعد هذا بقليل. قوله: "وقال ابن عباس: ولها عرش سرير كريم حسن الصنعة وغلاء الثمن" وصله الطبري من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} قال: سرير كريم حسن الصنعة، قال: وكان من ذهب وقوائمه من جوهر ولؤلؤ. ولابن أبي حاتم من طريق زهير بن محمد قال: حسن الصنعة غالي الثمن سرير من ذهب وصفحتاه مرمول بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا في أربعين. قوله: " {يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} طائعين" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، ومن طريق

(8/504)


ابن جريج أي مقرين بدين الإسلام، ورجح الطبري الأول واستدل له. قوله: "ردف اقترب" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {عسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ} اقترب لكم. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {عسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ} أي جاء بعدكم. ودعوى المبرد أن اللام زائده وأن الأصل ردفكم قاله على ظاهر اللفظ، وإذا صح أن المراد به اقترب صح تعديته باللام كقوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} . قوله: "جامدة قائمة" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله. قوله: "أوزعني: اجعلني" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله. وقال أبو عبيدة في قوله: "أوزعني" أي سددني إليه. وقال في موضع آخر: أي ألهمني، وبالثاني جزم الفراء. قوله: "وقال مجاهد: نكروا غيروا" وصله الطبري من طريقه، ومن طريق قتادة وغيره نحو. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر صحيح عن مجاهد قال: أمر بالعرش فغير ما كان أحمر جعل أخضر وما كان أخضر جعل أصفر، غير كل شيء عن حاله. ومن طريق عكرمة قال: زيدوا فيه وأنقصوا. قوله: "والقبس ما اقتبست منه النار" ثبت هذا للنسفي وحده، وهو قول أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} أي بشعلة نار، ومعنى قبس ما اقتبس من النار ومن الجمر. قوله: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} يقوله سليمان" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، ونقل الواحدي أنه من قول بلقيس، قالته مقرة بصحة نبوة سليمان، والأول هو المعتمد. قوله: "الصرح بركة ماء ضرب عليها سليمان قوارير وألبسها إياه" في رواية الأصيلي: "إياها" وأخرج الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الصرح بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير ألبسها، قال: وكانت هلباء شقراء. ومن وجه آخر عن مجاهد: كشفت بلقيس عن ساقيها فإذا هما شعراوان، فأمر سليمان بالنورة فصنعت. ومن طريق عكرمة نحوه قال: فكان أول من صنعت له النورة. وصله ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس.

(8/505)


28- سورة الْقَصَصِ
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} إِلاَّ مُلْكَهُ وَيُقَالُ إِلاَّ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} الْحُجَجُ
قوله: "سورة القصص – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت "سورة البسملة" لغير أبي ذر والنسفي.
قوله: "إلا وجهه: إلا ملكه" في رواية النسفي "وقال معمر" : فذكره. ومعمر هذا هو أبو عبيدة بن المثنى، وهذا كلامه في كتابه "مجاز القرآن" لكن بلفظ: "إلا هو" وكذا نقله الطبري عن بعض أهل العربية، وكذا ذكره الفراء. وقال ابن التين قال أبو عبيدة: إلا وجهه أي جلاله، وقيل: إلا إياه، تقول: أكرم الله وجهك أي أكرمك الله. قوله: "ويقال: إلا ما أريد به وجهه" نقله الطبري أيضا عن بعض أهل العربية، ووصله ابن أبي حاتم من طريق خصيف عن مجاهد مثله، ومن طريق سفيان الثوري قال: إلا ما ابتغي به وجه الله من الأعمال الصالحة انتهى. ويتخرج هذان القولان على الخلاف في جواز إطلاق "شيء" على الله، فمن أجازه قال: الاستثناء متصل والمراد بالوجه الذات والعرب تعبر بالأشرف عن الجملة، ومن لم يجز إطلاق "شيء" على الله قال: هو منقطع، أي لكن هو تعالى لم يهلك، أو متصل والمراد بالوجه ما عمل لأجله. قوله: "وقال مجاهد: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ} الحجج" وصله الطبري

(8/505)


من طريق ابن أبي نجيح عنه.

(8/506)


1- باب {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
4772- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: "أَيْ عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ" فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أُولِي الْقُوَّةِ} لاَ يَرْفَعُهَا الْعُصْبَةُ مِنْ الرِّجَالِ {لَتَنُوءُ} لَتُثْقِلُ {فَارِغًا} إِلاَّ مِنْ ذِكْرِ مُوسَى {الْفَرِحِينَ} الْمَرِحِينَ {قُصِّيهِ} اتَّبِعِي أَثَرَهُ وَقَدْ يَكُونُ أَنْ يَقُصَّ الْكَلاَمَ {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} عَنْ جُنُبٍ عَنْ بُعْدٍ عَنْ جَنَابَةٍ وَاحِدٌ وَعَنْ اجْتِنَابٍ أَيْضًا يَبْطِشُ وَيَبْطُشُ {يَأْتَمِرُونَ} يَتَشَاوَرُونَ الْعُدْوَانُ وَالْعَدَاءُ وَالتَّعَدِّي وَاحِدٌ {آنَسَ} أَبْصَرَ الْجِذْوَةُ قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنْ الْخَشَبِ لَيْسَ فِيهَا لَهَبٌ وَالشِّهَابُ فِيهِ لَهَبٌ وَالْحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ الْجَانُّ وَالأَفَاعِي وَالأَسَاوِدُ {رِدْءًا} مُعِينًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَدِّقُنِي وَقَالَ غَيْرُهُ {سَنَشُدُّ} سَنُعِينُكَ كُلَّمَا عَزَّزْتَ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلْتَ لَهُ عَضُدًا {مَقْبُوحِينَ} مُهْلَكِينَ {وَصَّلْنَا} بَيَّنَّاهُ وَأَتْمَمْنَاهُ {يُجْبَى} يُجْلَبُ {بَطِرَتْ} أَشِرَتْ {فِي أُمِّهَا رَسُولاً} أُمُّ الْقُرَى مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا {تُكِنُّ} تُخْفِي أَكْنَنْتُ الشَّيْءَ أَخْفَيْتُهُ وَكَنَنْتُهُ أَخْفَيْتُهُ وَأَظْهَرْتُهُ {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} مِثْلُ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ عَلَيْه"
قوله: "باب {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} لم تختلف النقلة في أنها نزلت في أبي طالب واختلفوا في المراد بمتعلق {أَحْبَبْتَ} فقيل: المراد أحببت هدايته، وقيل: أحببته هو لقرابته منك. قوله: "عن أبيه" هو المسيب بن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها نون، وقد تقدم بعض شرح الحديث في الجنائز. قوله: "لما حضرت أبا طالب الوفاة" قال الكرماني: المراد حضرت علامات الوفاة، وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن، ويدل على الأول ما وقع من المراجعة بينه وبينهم انتهى. ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة لكن رجا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه وتسوغ شفاعته صلى الله عليه وسلم لمكانه منه، ولهذا قال: "أجادل لك بها وأشفع لك" وسيأتي بيانه. ويؤيد الخصوصية أنه بعد أن امتنع من

(8/506)


الإقرار بالتوحيد وقال هو: "على ملة عبد المطلب" ومات على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الشفاعة له، بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره، وكان ذلك من الخصائص في حقه، وقد تقدمت الرواية بذلك في السيرة النبوية. قوله: "جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية" يحتمل أن يكون المسيب حضر هذه القصة، فإن المذكورين من بني مخزوم وهو من بني مخزوم أيضا، وكان الثلاثة يومئذ كفارا فمات أبو جهل على كفره وأسلم الآخران. وأما قول بعض الشراح: هذا الحديث من مراسيل الصحابة فمردود، لأنه استدل بأن المسيب على قول مصعب من مسلمة الفتح، وعلى قول العسكري ممن بايع تحت الشجرة، قال: فأيا ما كان فلم يشهد وفاة أبي طالب لأنه توفي هو وخديجة في أيام متقاربة في عام واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نحو الخمسين انتهى. ووجه الرد أنه لا يلزم من كون المسيب تأخر إسلامه أن لا يشهد وفاة أبي طالب كما شهدها عبد الله بن أبي أمية وهو يومئذ كافر ثم أسلم بعد ذلك، وعجب من هذا القائل كيف يعزو كون المسيب كان ممن بايع تحت الشجرة إلى العسكري ويغفل عن كون ذلك ثابتا في هذا الصحيح الذي شرحه كما مر في المغازي واضحا. قوله: "أي عم" أما "أي" فهو بالتخفيف حرف نداء، وأما "عم" فهو منادي مضاف، ويجوز فيه إثبات الياء وحذفها. قوله: "كلمة" بالنصب على البدل من لا إله إلا الله أو الاختصاص. ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. قوله: "أحاج" بتشديد الجيم من المحاجة وهي مفاعلة من الحجة والجيم مفتوحة على الجزم جواب الأمر، والتقدير إن تقل أحاج، ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، ووقع في رواية معمر عن الزهري بها الإسناد في الجنائز "أشهد" بدل "أحاج" وفي رواية مجاهد عند الطبري "أجادل عنك بها" زاد الطبري من طريق سفيان بن حسين عن الزهري قال: "أي عم، إنك أعظم الناس علي حقا، وأحسنهم عندي يدا، فقل كلمة تجب لي بها الشفاعة فيك يوم القيامة" . قوله: "فلم يزل يعرضها" بفتح أوله وكسر الراء. وفي رواية الشعبي عند الطبري "فقال له ذلك مرارا" . قوله: "ويعيدانه بتلك المقالة" أي ويعيدانه إلى الكفر بتلك المقالة، كأنه قال: كان قارب أن يقولها فيردانه. ووقع في رواية معمر فيعودان له بتلك المقالة وهي أوضح، ووقع عند مسلم: "فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويقول له تلك المقالة" قال القرطبي في: "المفهم" كذا في الأصول وعند أكثر الشيوخ، والمعنى أنه عرض عليه الشهادة وكررها عليه. ووقع في بعض النسخ "ويعيد أن له بتلك المقالة" والمراد قول أبي جهل ورفيقه له "ترغب عن ملة عبد المطلب" . قوله: "آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب" خبر مبتدأ محذوف أي هو على ملة. وفي رواية معمر "هو على ملة عبد المطلب" وأراد بذلك نفسه. ويحتمل أن يكون قال: "أنا" فغيرها الراوي أنفة أن يحكي كلام أبي طالب استقباحا للفظ المذكور؛ وهي من التصرفات الحسنة. ووقع في رواية مجاهد قال: "يا ابن أخي ملة الأشياخ" ووقع في حديث أبي حازم عن أبي هريرة عند مسلم والترمذي والطبري "قال: لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله عليه إلا جزع الموت لأقررت بها عينك" وفي رواية الشعبي عند الطبراني "قال: لولا أن يكون عليك عار لم أبال أن أفعل" وضبط "جزع" بالجيم والزاي، ولبعض رواة مسلم بالخاء المعجمة والراء. قوله: "وأبى أن يقول لا إله إلا الله" هو تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب، وكأنه استند في ذلك إلى عدم سماعه ذلك منه في تلك الحال، وهذا القدر هو الذي يمكن إطلاعه عليه، ويحتمل أن يكون أطلعه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. قوله:"والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" قال الزين بن المنير: ليس المراد طلب المغفرة العامة والمسامحة بذنب الشرك، وإنما

(8/507)


المراد تخفيف العذاب عنه كما جاء مبينا في حديث آخر. قلت: وهي غفلة شديدة منه، فإن الشفاعة لأبي طالب في تخفيف العذاب لم ترد، وطلبها لم ينه عنه، وإنما وقع النهي عن طلب المغفرة العامة، وإنما ساغ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بإبراهيم في ذلك، ثم ورد نسخ ذلك كما سيأتي بيانه واضحا. قوله: "فأنزل الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" أي ما ينبغي لهم ذلك، وهو خبر بمعنى النهي هكذا وقع في هذه الرواية. وروى الطبري من طريق شبل عن عمرو بن دينار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال استغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي. فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه، فنزلت" وهذا فيه إشكال، لأن وفاة أبي طالب كانت بمكة قبل الهجرة اتفاقا، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية، والأصل عدم تكرر النزول. وقد أخرج الحاكم وابن أبي حاتم من طريق أيوب بن هانئ عن مسروق عن ابن مسعود قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى، فبكينا لبكائه، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، واستأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، فأنزل علي : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وأخرج أحمد من حديث ابن بريدة عن أبيه نحوه وفيه: "نزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب" ولم يذكر نزول الآية. وفي رواية الطبري من هذا الوجه" لما قدم مكة أتى رسم قبر" ومن طريق فضيل بن مرزوق عن عطية" لما قدم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت، وللطبراني من طريق عبد الله بن كيسان عن عكرمة عن ابن عباس نحو حديث ابن مسعود وفيه: "لما هبط من ثنية عسفان" وفيه نزول الآية في ذلك. فهذه طرق يعضد بعضها بعضا، وفيها دلالة على تأخير نزول الآية عن وفاة أبي طالب، ويؤيده أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد بعد أن شج وجهه "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" لكن يحتمل في هذا أن يكون الاستغفار خاصا بالأحياء وليس البحث فيه، ويحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم، ويكون لنزولها سببان: متقدم وهو أمر أبي طالب ومتأخر وهو أمر آمنة. ويؤيد تأخير النزول ما تقدم في تفسير براءة من استغفاره صلى الله عليه وسلم للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك، فإن ذلك يقتضي تأخير النزول وإن تقدم السبب، ويشير إلى ذلك أيضا قوله في حديث الباب: "وأنزل الله في أبي طالب: إنك لا تهدي من أحببت" لأنه يشعر بأن الآية الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره والثانية نزلت فيه وحده، ويؤيد تعدد السبب ما أخرج أحمد من طريق أبي إسحاق عن أبي الخليل عن علي قال: "سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: ما كان للنبي الآية" وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: وقال المؤمنون ألا نستغفر لآبائنا كما استغفر إبراهيم لأبيه؟ فنزلت ومن طريق قتادة قال: "ذكرنا له أن رجالا" فذكر نحوه. وفي الحديث أن من لم يعمل خيرا قط إذا ختم عمره بشهادة أن لا إله إلا الله حكم بإسلامه وأجريت عليه أحكام المسلمين، فإن قارن نطق لسانه عقد قلبه نفعه ذلك عند الله تعالى، بشرط أن لا يكون وصل إلى حد انقطاع الأمل من الحياة وعجز عن فهم الخطاب ورد الجواب وهو وقت المعاينة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} والله أعلم. قوله: "العدوان والعداء والتعدي واحد" أي بمعنى واحد وأراد تفسير قوله في قصة موسى وشعيب: {فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} والعداء بفتح العين ممدود قال أبو عبيدة في قوله: {فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} : وهو والعداء والتعدي والعدو كله واحد، والعدو

(8/508)


من قوله: عدا فلان على فلان. قوله: وقال ابن عباس: "أولي القوة" : لا يرفعها العصبة من الرجال "لتنوء" لتثقل "فارغا" إلا من ذكر موسى "الفرحين" المرحين "قصيه" اتبعي أثره، وقد يكون أن يقص الكلام "نحن نقص عليك" . "عن جنب" عن بعد وعن جنابة واحد وعن اجتناب أيضا. "نبطش" ونبطش أي بكسر الطاء وضمها. "يأتمرون: يتشاورون" هذا جميعه سقط لأبي ذر والأصيلي وثبت لغيرهما من أوله إلى قوله: "ذكر موسى" تقدم في أحاديث الأنبياء في قصة موسى وكذا قوله: "نبطش إلخ" وأما قوله: "الفرحين المرحين" فهو عند ابن أبي حاتم موصول من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقوله: {قُصِّيهِ} : اتبعي أثره" وصله ابن أبي حاتم من طريق القاسم بن أبي بزة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال في قوله: {قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} : قصي أثره. وقال أبو عبيدة في قوله: "قصيه" اتبعي أثره، يقال: قصصت آثار القوم. وقال في قوله: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} أي عن بعد وتجنب، ويقال: ما تأتينا إلا عن جنابة وعن جنب. قوله: "تأجرني تأجر فلانا تعطيه أجرا، ومنه التعزية آجرك الله" ثبت هذا للنسفي وقد قال أبو عبيدة في قوله: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} من الإجارة، يقال: فلان تأجر فلانا، ومنه آجرك الله. قوله: "الشاطئ والشط واحد، وهما ضفتا وعدوتا الوادي" ثبت هذا للنسفي أيضا، وقد قال أبو عبيدة: "نودي من شاطئ الوادي" : الشاطئ والشط واحد وهما ضفتا الوادي وعدوتاه. قوله: "كأنها جان" في رواية أخرى {حيَّةٌ تَسْعَى} والحيات أجناس. الجان والأفاعي والأساود، ثبت هذا للنسفي أيضا وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "مقبوحين: مهلكين" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "وصلنا بيناه وأتمناه" هو قول أبي عبيدة أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي في قوله: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} قال: بينا لهم القول، وقيل: المعنى أتبعنا بعضه بعضا فاتصل وهذا قول الفراء. قوله: "يجبى يجلب" هو بسكون الجيم وفتح اللام ثم موحدة. وقال أبو عبيدة في قوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي يجمع كما يجمع الماء في الجابية فيجمع للوارد. قوله: "بطرت أشرت" قال أبو عبيدة في قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي أشرت وطغت وبغت، والمعنى بطرت في معيشتها. فانتصب بنزع الخافض. وقال الفراء: المعنى أبطرتها معيشتها. قوله: "في أمها رسولا: أم القرى مكة وما حولها" قال أبو عبيدة: أم القرى مكة في قول العرب وفي رواية أخرى "لتنذر أم القرى ومن حولها" ولابن أبي حاتم من طريق قتادة نحوه. ومن وجه آخر عن قتادة عن الحسن في قوله: "في أمها" قال: في أوائلها. قوله: "تكن تخفي، أكننت الشيء أخفيته، وكننته أخفيته وأظهرته" كذا للأكثر، ولبعضهم أكننته أخفيته، وكننته خفيته. وقال ابن فارس: أخفيته سترته وخفيته أظهرته. وقال أبو عبيدة في قوله: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي تخفي، يقال: أكننت ذلك في صدري بألف، وكننت الشيء خفيته وهو بغير ألف. وقال في موضع آخر: أكننت وكننت واحد. وقال أبو عبيدة: أكننته إذا أخفيته وأظهرته وهو من الأضداد. قوله: "ويكأن الله مثل "ألم تر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر "يوسع عليه ويضيق" وقع هذا لغير أبي ذر وهو قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} أي ألم تر أن الله. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "ويكأن الله" أي أو لا يعلم أن الله.

(8/509)


2- باب {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} الآيَةَ
4773- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا يَعْلَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الْعُصْفُرِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {لَرَادُّكَ

(8/509)


إِلَى مَعَادٍ} قَالَ إِلَى مَكَّةَ
قوله: "باب {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} سقطت الترجمة لغير أبي ذر. قوله: "أخبرنا يعلى" هو ابن عبيد. قوله: "حدثنا سفيان العصفري" هو ابن دينار التمار كما تقدم تحقيقه في آخر الجنائز، وليس له في البخاري سوى هذين الموضعين. قوله: "لرادك إلى معاد، قال: إلى مكة" هكذا في هذه الرواية. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: كان ابن عباس يكتم تفسير هذه الآية، وروى الطبري من وجه آخر عن ابن عباس قال: {لَرَادُكَ إلَى مَعٍادٍ} : قال: إلى الجنة" وإسناده ضعيف، ومن وجه آخر قال: "إلى الموت" وأخرجه ابن أبي حاتم وإسناده لا بأس به، ومن طريق مجاهد قال: "يحييك يوم القيامة" ومن وجه آخر عنه "إلى مكة" وقال عبد الرزاق قال معمر: وأما الحسن والزهري فقالا هو يوم القيامة؛ وروى أبو يعلى من طريق أبي جعفر محمد بن علي قال: سألت أبا سعيد عن هذه الآية فقال: معاده آخرته، وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف.

(8/510)


29 - سورة الْعَنْكَبُوتِ
قَالَ مُجَاهِدٌ وَكَانُوا {مُسْتَبْصِرِينَ} ضَلَلَةً وَقَالَ غَيْرُهُ الْحَيَوَانُ وَالْحَيُّ وَاحِدٌ {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ إِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ فَلِيَمِيزَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ} {أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أَوْزَاراً مَعَ أَوْزَارِهِم"
قوله: "سورة العنكبوت - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت "سورة والبسملة" لغير أبي ذر. قوله: "وقال مجاهد: وكانوا مستبصرين ضللة" وصله ابن أبي حاتم من طريق شبل بن عباد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: معجبين بضلالتهم. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن قتادة قال: كانوا مستبصرين في ضلالتهم معجبين بها. قوله: "وقال غيره: الحيوان والحي واحد" ثبت هذا لأبي ذر وحده، وللأصيلي: الحيوان والحياة واحد، وهو قول أبي عبيدة قال: الحيوان والحياة واحد وزاد: ومنه قولهم نهر الحيوان أي نهر الحياة، وتقول حييت حيا، والحيوان والحياة اسمان منه. وللطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {لَهيَ الحَيَوانُ} قال: لا موت فيها. قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} علم الله ذلك إنما هي بمنزلة فليميز الله كقوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وقال أبو عبيده في قوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي فليميزن الله لأن الله قد علم ذلك من قبل. قوله: {وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أوزارا مع أوزارهم "هو قول أبي عبيدة أيضا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال: من دعا قوما إلى ضلالة فعليه مثل أوزارهم. ولابن أبي حاتم من وجه آخر عن قتادة قال: "وليحملن أثقالهم" أي أوزارهم {وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أوزار من أضلوا.

(8/510)


30 - سورة الرُّومِ
{فَلاَ يَرْبُو} عِنْدَ اللَّهِ مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً يَبْتَغِي أَفْضَلَ مِنْهُ فَلاَ أَجْرَ لَهُ فِيهَا قَالَ مُجَاهِدٌ {يُحْبَرُونَ} يُنَعَّمُونَ {يَمْهَدُونَ} يُسَوُّونَ الْمَضَاجِعَ {الْوَدْقُ} الْمَطَرُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فِي الآلِهَةِ وَفِيهِ تَخَافُونَهُمْ أَنْ يَرِثُوكُمْ كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا {يَصَّدَّعُونَ} يَتَفَرَّقُونَ فَاصْدَعْ وَقَالَ غَيْرُهُ ضُعْفٌ وَضَعْفٌ

(8/510)


باب {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لِدِينِ اللَّهِ {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} دِينُ الأَوَّلِينَ وَالْفِطْرَةُ الإِسْلاَمُ
4775- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} "
قوله: باب {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لدين الله، {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} دين الأولين" أخرج الطبري من طريق إبراهيم النخعي في قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال: لدين الله. ومن طرق عن مجاهد وعكرمة وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك مثله، وفيه قول آخر أخرجه الطبري من طرق عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد قال: الإحصاء. وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} يقول: دين الأولين، وهذا يؤيد الأول. وفيه قول آخر أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علقمة في قوله: {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} قال: اختلاق الأولين. ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كذبهم. ومن طريق قتادة قال: سيرتهم.

(8/512)


قوله: "والفطرة الإسلام" هو قول عكرمة: وصله الطبري من طريقه، وقد تقدم نقل الخلاف في ذلك في أواخر كتاب الجنائز. حديث أبي هريرة "ما من مولود إلا يولد على الفطرة" وقد تقدم بسنده ومتنه في كتاب الجنائز مع شرحه في "باب ما قيل في أولاد المشركين" .

(8/513)


سورة لقمان: باب {لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}
...
31 - سورة لُقْمَانَ
1 - باب {لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
4776- حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال ثم لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليس بذاك آلا تسمع إلى قول لقمان لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
قوله: "سورة لقمان – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت سورة والبسملة لغير أبي ذر؛ وسقطت البسملة فقط للنسفي.
قوله: {لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ذكر فيه حديث ابن مسعود في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإيمان.

(8/513)


2 - باب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}
4777- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِيمَانُ قَالَ الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَلِقَائِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِسْلاَمُ قَالَ الإِسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِحْسَانُ قَالَ الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ رَبَّتَهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا وَإِذَا كَانَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ رُءُوسَ النَّاسِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا فِي خَمْسٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنْزِلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ فَقَالَ رُدُّوا عَلَيَّ فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا فَقَالَ هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُم"
4778- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ ثُمَّ قَرَأَ

(8/513)


32 - سورة السَّجْدَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَهِينٍ} ضَعِيفٍ نُطْفَةُ الرَّجُلِ {ضَلَلْنَا} هَلَكْنَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الْجُرُزُ} الَّتِي لاَ تُمْطَرُ إِلاَّ مَطَرًا لاَ يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا {يَهْدِ} يُبَيِّنْ
قوله: "سورة السجدة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر وسقطت البسملة للنسفي، ولغيرهما:"تنزيل السجدة" حسب. قوله: "وقال مجاهد: مهين ضعيف نطفة الرجل" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "من ماء مهين" ضعيف، وللفريابي من هذا الوجه في قوله: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} قال: نطفة الرجل. قوله: "ضللنا هلكنا" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} قال: هلكنا. قوله: "وقال ابن عباس الجرز التي لا تمطر إلا مطرا لا يغني عنها شيئا" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن رجل عن مجاهد عنه مثله، وذكره الفريابي وإبراهيم الحربي في "غريب الحديث:"من طريق ابن أبي نجيح عن رجل عن ابن عباس كذلك زاد إبراهيم، وعن مجاهد قال: هي أرض أبين. وأنكر ذلك الحربي وقال: أبين مدينة معروفة باليمن فلعل مجاهدا قال ذلك في وقت لم تكن أبين تنبت فيه شيئا. وأخرج ابن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله: {إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} قال: هي أرض باليمن. وقال أبو عبيدة: الأرض الجرز اليابسة الغليظة التي لم يصبها مطر. قوله: {يَهْدِ} يبين أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} قال: أو لم يبين لهم. وقال أبو عبيدة في قوله: {وَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} أي يبين لهم وهو من الهدى.

(8/515)


1- باب {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}
4779- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} و حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ اللَّهُ مِثْلَهُ قِيلَ لِسُفْيَانَ رِوَايَةً قَالَ فَأَيُّ شَيْءٍ؟ قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ "قُرَّاتِ أَعْيُن" .
4780- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ الأَعْمَشِ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ

(8/515)


33- سورة الأَحْزَابِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {صَيَاصِيهِمْ} قُصُورِهِمْ، معروفا في الكتاب
1- باب 4781- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَه"
قوله: "سورة الأحزاب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت سورة والبسملة لغير أبي ذر، وسقطت البسملة فقط للنسفي. قوله: "وقال مجاهد: صياصيهم قصورهم" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه. قوله: "معروفا في الكتاب" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن ابن جريج قال: قلت لعطاء في هذه الآية: {إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} فقال: هو إعطاء المسلم الكافر بينهما قرابة صلة له. قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ثبتت هذه الترجمة لأبي ذر. حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به " الحديث، وسيأتي الكلام عليه في الفرائض إن شاء الله تعالى.

(8/517)


2- باب {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}
4782-حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلاَّ زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} "
قوله: "باب {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي أعدل، وسيأتي تفسير القسط، والفرق بين القاسط والمقسط في آخر الكتاب. قوله: "إن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد ابن محمد، حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} في رواية القاسم بن معن عن موسى بن عقبة في هذا الحديث: "ما كنا ندعو زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا زيد ابن محمد" أخرجه الإسماعيلي. وفي حديث عائشة الآتي في النكاح في قصة سالم مولى أبي حذيفة "وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه، حتى نزلت هذه الآية" وسيأتي مزيد الكلام على قصة زيد بن حارثة في ذلك بعد قليل إن شاء الله تعالى.

(8/517)


باب {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينظر وما بدلوا تبديلا}
...
3- باب {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} نَحْبَهُ عَهْدَهُ أَقْطَارِهَا جَوَانِبُهَا الْفِتْنَةَ لاَتَوْهَا لاَعْطَوْهَا

(8/517)


باب {قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا}
...
4- باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} وَقَالَ مَعْمَرٌ التَّبَرُّجُ أَنْ تُخْرِجَ مَحَاسِنَهَا سُنَّةَ اللَّهِ اسْتَنَّهَا جَعَلَهَا
4785- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهَا حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ أَزْوَاجَهُ فَبَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} إِلَى تَمَامِ الآيَتَيْنِ فَقُلْتُ لَهُ فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَة"
قوله: "باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} في رواية أبي ذر {أُمَتِّعْكُنَّ} الآية" . قوله: "وقال معمر" كذا لأبي ذر. وسقط هذا العزو من رواية غيره. قوله: "التبرج أن تخرج زينتها" هو قول أبي عبيدة واسمه معمر بن المثنى، ولفظه في "كتاب المجاز: . في قوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} هو من التبرج، وهو أن يبرزن محاسنهن. وتوهم مغلطاي ومن قلده أن مراد البخاري معمر بن راشد فنسب هذا إلى تخريج عبد الرزاق في تفسيره عن معمر، ولا وجود لذلك في تفسير

(8/519)


عبد الرزاق، وإنما أخرج عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية قال. كانت المرأة تخرج تتمشى بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية، وعند ابن أبي حاتم عن طريق شيبان عن قتادة قال: كانت لهن مشية وتكسر وتغنج إذا خرجن من البيوت فنهين عن ذلك. ومن طريق عكرمة عن ابن عباس قال: قال عمر: ما كانت إلا جاهلية واحدة. فقال له ابن عباس. هل سمعت بأولى إلا ولها آخرة؟ ومن وجه آخر عن ابن عباس قال: تكون جاهلية أخرى. ومن وجه آخر عنه قال: كانت الجاهلية الأولى ألف سنة فيما بين نوح وإدريس، وإسناده قوي. ومن حديث عائشة قالت: الجاهلية الأولى بين نوح وإبراهيم، وإسناده ضعيف. ومن طريق عامر - وهو الشعبي - قال: هي ما بين عيسى ومحمد. وعن مقاتل بن حيان قال: الأولى زمان إبراهيم، والأخرى زمان محمد قبل أن يبعث. قلت: ولعله أراد الجمع بين ما نقل عن عائشة وعن الشعبي والله أعلم. قوله: "سنة الله استنها جعلها" هو قول أبي عبيده أيضا وزاد: جعلها سنة. ونسبه مغلطاي ومن تبعه أيضا إلى تخريج عبد الرزاق عن معمر، وليس ذلك فيه. قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمر الله أن يخير أزواجه" سيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده.

(8/520)


5- باب {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةُ السُّنَّةُ
4786- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ: " إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ قَالَتْ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا إِلَى أَجْرًا عَظِيمًا} قَالَتْ فَقُلْتُ فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْخِرَةَ قَالَتْ ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَبُو سُفْيَانَ الْمَعْمَرِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَة"
قوله: "باب قوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ساقوا كلهم الآية إلى { عَظِيمًا}. قوله: "وقال قتادة: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ، القرآن والسنة" وصله ابن أبي حاتم من طريق معمر عن قتادة بلفظ: "من آيات الله والحكمة، القرآن والسنة" أورده بصورة اللف والنشر المرتب، وكذا هو في تفسير عبد الرزاق. قوله: "وقال الليث: حدثني يونس" وصله الذهلي عن أبي صالح عنه، وأخرجه ابن جرير والنسائي والإسماعيلي من رواية ابن وهب عن يونس كذلك. قوله: "لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه" ورد في سبب هذا التخيير ما أخرجه مسلم من حديث جابر قال: "دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حولي كما ترى يسألنني النفقة" يعني نساءه، وفيه أنه اعتزلهن شهرا ثم نزلت عليه هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} حتى بلغ {أَجْراً عَظِيماً} قال: فبدأ بعائشة فذكر نحو حديث الباب، وقد تقدم في المظالم من طريق عقيل

(8/520)


ويأتي في النكاح أيضا من طريق شعيب كلاهما عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس عن عمر في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا بطوله وفي آخره: "حين أفشته حفصة إلى عائشة "وكان قد قال: ما أنا بداخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله، فلما مضت تسع وعشرون دخل على عائشة فبدأ بها، فقالت له: إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا، وقد أصبحنا لتسع وعشرين ليلة أعدها عدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون" . وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين. قالت عائشة: "فأنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأة فقال: إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تعجلي" الحديث. وهذا السياق ظاهره أن الحديث كله من رواية ابن عباس عن عمر، وأما المروي عن عائشة فمن رواية ابن عباس عنها، وقد وقع التصريح بذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق أبي صالح عن الليث بهذا الإسناد إلى ابن عباس قال: "قالت عائشة: أنزلت آية التخيير، فبدأ بي" الحديث. لكن أخرج مسلم الحديث من رواية معمر عن الزهري ففصله تفصيلا حسنا، وذلك أنه أخرجه بطوله إلى آخر قصة عمر في المتظاهرتين إلى قوله: "حتى عاتبه" ثم عقبه بقوله: "قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة قالت: لما مضى تسع وعشرون" فذكر مراجعتها في ذلك ثم عقبه بقوله: "قال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك" الحديث. فعرف من هذا أن قوله: "فلما مضت تسع وعشرون إلخ" في رواية عقيل هو من رواية الزهري عن عائشة بحذف الواسطة، ولعل ذلك وقع عن عمد من أجل الاختلاف على الزهري في الواسطة بينه وبين عائشة في هذه القصة بعينها كما بينه المصنف هنا، وكأن من أدرجه في رواية ابن عباس مشى على ظاهر السياق ولم يفطن للتفصيل الذي وقع في رواية معمر، وقد أخرج مسلم أيضا من طريق سماك بن الوليد عن ابن عباس" حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي نساءه دخلت المسجد" الحديث بطوله وفي آخره: "قال: وأنزل الله آية التخيير" فاتفق الحديثان على أن آية التخيير نزلت عقب فراغ الشهر الذي اعتزلهن فيه، ووقع ذلك صريحا في رواية عمرة عن عائشة قالت: "لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم إلى نسائه أمر أن يخيرهن" الحديث أخرجه الطبري والطحاوي، واختلف الحديثان في سبب الاعتزال، ويمكن الجمع بأن يكون القضيتان جميعا سبب الاعتزال فإن قصة المتظاهرتين خاصة بهما، وقصة سؤال النفقة عامة في جميع النسوة، ومناسبة آية التخيير بقصة سؤال النفقة أليق منها بقصة المتظاهرتين، وسيأتي في "باب من خير نساءه" من كتاب الطلاق بيان الحكم فيمن خيرها زوجها إن شاء الله تعالى. وقال الماوردي: اختلف هل كان التخيير بين الدنيا والآخرة أو بين الطلاق والإقامة عنده؟ على قولين للعلماء أشبههما بقول الشافعي الثاني، ثم قال: إنه الصحيح. وكذا قال القرطبي: اختلف في التخيير هل كان في البقاء والطلاق أو كان بين الدنيا والآخرة انتهى. والذي يظهر الجمع بين القولين، لأن أحد الأمرين ملزوم للآخر، وكأنهن خيرن بين الدنيا فيطلقهن وبين الآخرة فيمسكهن، وهو مقتضى سياق الآية. ثم ظهر لي أن محل القولين هل فوض إليهن الطلاق أم لا؟ ولهذا أخرج أحمد عن علي قال: "لم يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة" . قوله: "فلا عليك أن لا تعجلي" أي فلا بأس عليك في التأني وعدم العجلة حتى تشاوري أبويك. قوله: "حتى تستأمري أبويك" أي تطلبي منهما أن يبينا لك رأيهما في ذلك. ووقع في حديث جابر "حتى تستشيري أبويك" زاد محمد بن عمرو عن أبي سلمه عن عائشة "إني عارض عليك أمرا فلا تفتاتي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان " أخرجه أحمد والطبري، ويستقاد منه أن أم رومان كانت يومئذ موجودة، فيرد به

(8/521)


على من زعم أنها ماتت سنة ست من الهجرة، فإن التخيير كان في سنة تسع. قوله: "قالت: فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي"؟ في رواية محمد بن عمرو "فقلت: فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ولا أؤامر أبوي أبا بكر وأم رومان، فضحك" وفي رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه عند الطبري "ففرح" . قوله: "ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت" في رواية عقيل "ثم خير نساءه فقلن مثل ما قالت عائشة" زاد ابن وهب عن يونس في روايته: "فلم يكن ذلك طلاقا حين قاله لهن فاخترنه" أخرجه الطبري. وفي رواية محمد بن عمرو المذكورة "ثم استقرى الحجر - يعني حجر أزواجه - فقال: إن عائشة قالت كذا، فقلن: ونحن نقول مثل ما قالت" . وقوله: "استقرى الحجر" أي تتبع، والحجر - بضم المهملة وفتح الجيم - جمع حجرة بضم ثم سكون، والمراد مساكن أزواجه صلى الله عليه وسلم، وفي حديث جابر المذكور أن عائشة لما قالت: "بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة" قالت: "يا رسول الله وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، فقال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني متعنتا وإنما بعثني معلما ميسرا" . وفي رواية معمر عند مسلم: "قال معمر: فأخبرني أيوب أن عائشة قالت: لا تخبر نساءك أني اخترتك، فقال: إن الله أرسلني مبلغا ولم يرسلني متعنتا" وهذا منقطع بين أيوب وعائشة، ويشهد لصحته حديث جابر والله أعلم. وفي الحديث ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه وحلمه عنهن وصبره على ما كان يصدر منهم من إدلال وغيره مما يبعثه عليهن الغيرة. وفيه فضل عائشة لبداءته بها، كذا قرره النووي، لكن روى ابن مردويه من طريق الحسن عن عائشة أنها طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبا، فأمر الله نبيه أن يخير نساءه: أما عند الله تردن أم الدنيا؟ فإن ثبت هذا وكانت هي السبب في التخيير فلعل البداءة بها لذلك، لكن الحسن لم يسمع من عائشة فهو ضعيف، وحديث جابر في أن النسوة كن يسألنه النفقة أصح طريقا منه، وإذا تقرر أن السبب لم يتحد فيها وقدمت في التخيير دل على المراد، لا سيما مع تقديمه لها أيضا في البداءة بها في الدخول عليها. وفيه أن صغر السن مظنة لنقص الرأي، قال العلماء: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تستأمر أبويها خشية أن يحملها صغر السن على اختيار الشق الآخر، لاحتمال أن لا يكون عندها من الملكة ما يدفع ذلك العارض، فإذا استشارت أبويها أوضحا لها ما في ذلك من المفسدة وما في مقابله من المصلحة، ولهذا لما فطنت عائشة لذلك قالت: "قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه" ووقع في رواية عمرة عن عائشة في هذه القصة "وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثتي" وهذا شاهل للتأويل المذكور، وفيه منقبة عظيمة لعائشة وبيان كمال عقلها وصحة رأيها مع صغر سنها، وأن الغيرة تحمل المرأة الكاملة الرأي والعقل على ارتكاب ما لا يليق بحالها لسؤالها النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يخبر أحدا من أزواجه بفعلها، ولكنه صلى الله عليه وسلم لما علم أن الحامل لها على ذلك ما طبع عليه النساء من الغيرة ومحبة الاستبداد دون ضرائرها لم يسعفها بما طلبت من ذلك. "تنبيه" : وقع في النهاية والوسيط التصريح بأن عائشة أرادت أن يختار نساؤه الفراق، فإن كانا ذكراه فيما فهماه من السياق فذاك وإلا فلم أر في شيء من طرق الحديث التصريح بذلك، وذكر بعض العلماء أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم تخيير أزواجه واستند إلى هذه القصة، ولا دلالة فيها على الاختصاص. نعم ادعى بعض من قال: إن التخيير طلاق أنه في حق الأمة، واختص هو صلى الله عليه وسلم بأن ذلك في حقه ليس بطلاق، وسيأتي مزيد بيان لذلك في كتاب الطلاق إن شاء تعالى. واستدل به بعضهم على ضعف ما جاء أن من الأزواج حينئذ من اختارت الدنيا فتزوجها وهي فاطمة بنت الضحاك لعموم قوله: ثم فعل إلخ. قوله: "تابعه موسى بن أعين عن معمر عن الزهري أخبرني أبو سلمة" يعني عن عائشة،

(8/522)


وصل النسائي من طريق محمد بن موسى بن أعين حدثنا أبي فذكره. قوله: "وقال عبد الرزاق وأبو سفيان المعمري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة" ما رواية عبد الرزاق فوصلها مسلم وابن ماجه من طريقه، وأخرجها أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه، وقصر من قصر تخريجها على ابن ماجه. وأما رواية أبي سفيان المعمري فأخرجها الذهلي في الزهريات وتابع معمرا على عروة جعفر بن برقان، ولعل الحديث كان عند الزهري عنهما فحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وإلى هذا مال الترمذي. وقد رواه عقيل وشعب عن الزهري عن عائشة بغير واسطة كما قدمته، والله أعلم.

(8/523)


باب {ويخفي في نفسك ما الله مبدية وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}
...
6- باب {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}
4787- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَة"
[الحديث 4787- طرفه في: 7420]
قوله: "باب {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} لم تختلف الروايات أنها نزلت في قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش. قوله: "حدثنا معلى بن منصور" هو الرازي، وليس له عند البخاري سوى هذا الحديث وآخر في البيوع، وقد قال في "التاريخ الصغير" : دخلنا عليه سنة عشر، فكأنه لم يكثر عنه ولهذا حدث عنه في هذين الموضعين بواسطة. قوله: "حدثنا ثابت" كذا قال معلى بن منصور عن حماد، وتابعه محمد بن أبي بكر المقدمي وعارم وغيرهما. وقال الصلت بن مسعود وروح بن عبد المؤمن وغيرهما:"عن حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس" فلعل لحماد فيه إسنادين. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق سليمان بن أيوب صاحب البصري عن حماد بن زيد بالإسنادين معا. قوله: "إن هذه الآية {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة" هكذا اقتصر على هذا القدر من هذه القصة، وقد أخرجه في التوحيد من وجه آخر عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال: "جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك، قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا لكتم هذه الآية" قال: "وكانت تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:"الحديث. وأخرجه أحمد عن مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن زيد بهذا الإسناد بلفظ: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل زيد بن حارثة فجاءه زيد يشكوها إليه، فقال له: " أمسك عليك زوجك واتق الله" ، فنزلت إلى قوله: {زَوَّجْنَاكَهَا} قال: يعني زينب بنت جحش" . وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي فساقها سياقا واضحا حسنا ولفظه: "بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بعد أنها من أزواجه فكان يستحي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه، وكان قد تبنى زيدا" . وعنده من طريق علي بن زيد عن علي بن الحصين

(8/523)


بن علي قال: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه وقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك قال الله: قد أخبرتك أني مزوجكها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه. وقد أطنب الترمذي الحكيم في تحسين هذه الرواية وقال: إنها من جواهر العلم المكنون. وكأنه لم يقف على تفسير السدي الذي أوردته، وهو أوضح سياقا وأصح إسنادا إليه لضعف علي بن زيد بن جدعان. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: جاء زيد بن حارثة فقال: يا رسول الله إن زينب اشتد علي لسانها، وأنا أريد أن أطلقها، فقال له: "اتق الله وأمسك عليك زوجك" ، قال: والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يطلقها ويخشى قالة الناس. ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري ونقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد. والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه وهو تزوج امرأة الذي يدعي ابنا. ووقوع ذلك من إمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم. وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية والله أعلم، وقد أخرج الترمذي من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة قالت: "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية" وإذ تقول للذي أنعم الله عليه - يعني بالإسلام - وأنعمت عليه - بالعتق - أمسك عليك زوجك" إلى قوله: "قدرا مقدورا" وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية، وكان تبناه وهو صغير. قلت: حتى صار رجلا يقال له زيد ابن محمد، فأنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إلى قوله: {وَمَوَالِيكُمْ}. قال الترمذي: روي عن داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة إلى قوله: "لكتم هذه الآية" ولم يذكر ما بعده. قلت: وهذا القدر أخرجه مسلم كما قال الترمذي، وأظن الزائد بعده مدرجا في الخبر، فإن الراوي له عن داود لم يكن بالحافظ. وقال ابن العربي: إنما قال عليه الصلاة والسلام لزيد: "أمسك عليك زوجك" اختبارا لما عنده من الرغبة فيها أو عنها، فلما أطلعه زيد على ما عنده منها من النفرة التي نشأت من تعاظمها عليه وبذاءة لسانها أذن له في طلاقها، وليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع الآمر به والله أعلم. وروى أحمد ومسلم والنسائي من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: "لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لزيد: "اذكرها علي" ، قال: فانطلقت فقلت: يا زينب، أبشري، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها بغير إذن" وهذا أيضا من أبلغ ما وقع في ذلك، وهو أن يكون الذي كان زوجها هو الخاطب، لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهرا بغير رضاه. وفيه أيضا اختبار ما كان عنده منها هل بقي منه شيء أم لا؟ وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة ودعائها عند الخطبة قبل الإجابة، وأن من وكل أمره إلى الله عز وجل يسر الله له ما هو الأحظ له والأنفع دنيا وأخرى.

(8/524)


باب {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك}
...
7- باب {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تُرْجِئُ تُؤَخِّرُ أَرْجِئْهُ أَخِّرْهُ
4788- حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ هِشَامٌ حَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا

(8/524)


قَالَتْ كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللاَتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُولُ أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} قُلْتُ مَا أُرَى رَبَّكَ إِلاَّ يُسَارِعُ فِي هَوَاك"
[الحديث 4788- طرفه في: 5113]
4789- حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ عَنْ مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} فَقُلْتُ لَهَا مَا كُنْتِ تَقُولِينَ قَالَتْ كُنْتُ أَقُولُ لَهُ إِنْ كَانَ ذَاكَ إِلَيَّ فَإِنِّي لاَ أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُوثِرَ عَلَيْكَ أَحَدًا تَابَعَهُ عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ سَمِعَ عَاصِمًا"
قوله: "باب قوله: {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} كذا للجميع، وسقط لفظ: "باب" لغير أبي ذر، وحكى الواحدي عن المفسرين أن هذه الآية نزلت عقب نزول آية التخيير، وذلك أن التخيير لما وقع أشفق بعض الأزواج أن يطلقهن ففوضن أمر القسم إليه، فأنزلت: {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ} الآية. قوله: "قال ابن عباس: ترجي تؤخر" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به. قوله: "أرجه أخره" هذا من تفسير الأعراف والشعراء، ذكره هنا استطرادا. وقد وصله ابن أبي حاتم أيضا من طريق عطاء عن ابن عباس قال في قوله: "أرجه وأخاه" قال: أخره وأخاه. قوله: "حدثنا زكريا بن يحيى" هو الطائي وقيل: البلخي، وقد تقدم بيان ذلك في العيدين. قوله: "حدثنا أبو أسامة قال هشام: حدثنا" هو من تقديم المخبر على الصيغة وهو جائز. قوله: "كنت أغار" كذا وقع بالغين المعجمة من الغيرة ووقع عند الإسماعيلي من طريق محمد بن بشر عن هشام بن عروة بلفظ: "كانت تعير اللاتي وهبن أنفسهن" بعين مهملة وتشديد. قوله: "وهبن أنفسهن" هذا ظاهر في أن الواهبة أكثر من واحدة، ويأتي في النكاح حديث سهل بن سعد "أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني وهبت نفسي لك" الحديث، وفيه قصة الرجل الذي طلبها قال: "التمس ولو خاتما من حديد" ومن حديث أنس "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن لي ابنة - فذكرت من جمالها - فآثرتك بها. فقال: قد قبلتها . فلم تزل تذكر حتى قالت: لم تصدع قط. فقال: لا حاجة لي في ابنتك" وأخرجه أحمد أيضا، وهذه امرأة أخرى بلا شك. وعند ابن أبي حاتم من حديث عائشة: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هي خولة بنت حكيم، وسيأتي الكلام عليه في كتاب النكاح، فإن البخاري أشار إليه معلقا. ومن طريق الشعبي قال: من الواهبات أم شريك. وأخرجه النسائي من طريق عروة. وعند أبي عبيدة معمر بن المثنى أن من الواهبات فاطمة بنت شريح. وقيل: إن ليلى بنت الحطيم ممن وهبت نفسها له. ومنهن زينب بنت خزيمة، جاء عن الشعبي وليس بثابت، وخولة بنت حكيم وهو في هذا الصحيح. ومن طريق قتادة عن ابن عباس قال: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هي ميمونة بنت الحارث، وهذا منقطع. وأورده من وجه آخر مرسل وإسناده ضعيف. ويعارضه حديث

(8/525)


سماك عن عكرمة عن ابن عباس "لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له" أخرجه الطبري وإسناده حسن، والمواد أنه لم يدخل بواحدة ممن وهبت نفسها له وإن كان مباحا له لأنه راجع إلى إرادته لقوله تعالى. {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} ، وقد بينت عائشة في هذا الحديث سبب نزول قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} وأشارت إلى قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} وروى ابن مردويه من حديث ابن عمر ومن حديث ابن عباس أيضا قال: فرض عليهم أن لا نكاح إلا بولي وشاهدين قوله: "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك" أي ما أرى الله إلا موجدا لما تريد بلا تأخير، منزلا لما تحب وتختار. وقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} أي تؤخرهن بغير قسم، وهذا قول الجمهور، وأخرجه الطبري عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأبي رزين وغيرهم. وأخرج الطبري أيضا عن الشعبي في قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} قال: كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم، فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحهن، وهذا شاذ، والمحفوظ أنه لم يدخل بأحد من الواهبات كما تقدم. وقيل: المراد بقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} أنه كان هم بطلاق بعضهن، فقلن له لا تطلقنا واقسم لنا ما شئت، فكان يقسم لبعضهن قسما مستويا، وهن اللاتي آواهن، ويقسم للباقي ما شاء وهن اللاتي أرجأهن. فحاصل ما نقل في تأويل "ترجي" أقوال: أحدها تطلق وتمسك، ثانيها: تعتزل من شئت منهن بغير طلاق وتقسم لغيرها، ثالثها: تقبل من شئت من الواهبات وترد من شئت. وحديث الباب يؤيد هذا والذي قبله، واللفظ محتمل للأقوال الثلاثة. وظاهر ما حكته عائشة من استئذانه أنه لم يرج أحدا منهن، بمعنى أنه لم يعتزل، وهو قول الزهري: "ما أعلم أنه أرجأ أحدا من نسائه" أخرجه ابن أبي حاتم، وعن قتادة أطلق له أن يقسم كيف شاء فلم يقسم إلا بالسوية. قوله: "يستأذن المرأة في اليوم" أي الذي يكون فيه نوبتها إذا أراد أن يتوجه إلى الأخرى. قوله: "تابعه عباد بن عباد سمع عاصما" وصله ابن مردويه في تفسيره من طريق يحيي بن معين عن عباد بن عباد، ورويناه في الجزء الثالث من حديث يحيي بن معين رواية أبي بكر المروزي عنه من طريق المصريين إلى المروزي. "تكميل" : اختلف في المنفي في قوله تعالى في الآية التي تلي هذه الآية وهي قوله: "لا تحل لك النساء من بعد" هل المراد بعد الأوصاف المذكورة فكان يحل له صنف دون صنف؟ أو بعد النساء الموجودات عند التخيير؟ على قولين، وإلى الأول ذهب أبي بن كعب ومن وافقه أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وإلى الثاني ذهب ابن عباس ومن وافقه وأن ذلك وقع مجازاة لهن على اختيارهن إياه، نعم الواقع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتجدد له تزوج امرأة بعد القصة المذكورة، لكن ذلك لا يرفع الخلاف. وقد روى الترمذي والنسائي عن عائشة "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء" وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة رضي الله عنها مثله.

(8/526)


8- باب {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} يُقَالُ إِنَاهُ إِدْرَاكُهُ أَنَى يَأْنِي أَنَاةً فَهُوَ آنٍ

(8/526)


{لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} إِذَا وَصَفْتَ صِفَةَ الْمُؤَنَّثِ قُلْتَ قَرِيبَةً وَإِذَا جَعَلْتَهُ ظَرْفًا وَبَدَلًا وَلَمْ تُرِدْ الصِّفَةَ نَزَعْتَ الْهَاءَ مِنْ الْمُؤَنَّثِ وَكَذَلِكَ لَفْظُهَا فِي الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى
4790- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَاب"
4791- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ دَعَا الْقَوْمَ فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ وَإِذَا هُوَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ وَقَعَدَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقْتُ فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدْ انْطَلَقُوا فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الْآيَةَ
[الحديث 4791- أطرافه في: 4792، 4793، 4794، 5154، 5163، 5166، 5168، 5170، 5171، 5466، 6238، 6226، 6271، 7421]
4792- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ آيَةِ الْحِجَابِ لَمَّا أُهْدِيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ صَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا الْقَوْمَ فَقَعَدُوا يَتَحَدَّثُونَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ ثُمَّ يَرْجِعُ وَهُمْ قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} إِلَى قَوْلِهِ { مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فَضُرِبَ الْحِجَابُ وَقَامَ الْقَوْم"
4793- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بُنِيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ فَأُرْسِلْتُ عَلَى الطَّعَامِ دَاعِيًا فَيَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ فَدَعَوْتُ حَتَّى مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُو فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُوهُ قَالَ: "ارْفَعُوا طَعَامَكُمْ" وَبَقِيَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَقَالَ: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ" فَقَالَتْ وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فَتَقَرَّى حُجَرَ نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ يَقُولُ لَهُنَّ كَمَا يَقُولُ لِعَائِشَةَ وَيَقُلْنَ لَهُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا ثَلاَثَةٌ مِنْ رَهْطٍ فِي الْبَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الْحَيَاءِ فَخَرَجَ مُنْطَلِقًا

(8/527)


نَحْوَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَمَا أَدْرِي آخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا فَرَجَعَ حَتَّى إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي أُسْكُفَّةِ الْبَابِ دَاخِلَةً وَأُخْرَى خَارِجَةً أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَاب"
4794- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَنَى بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَأَشْبَعَ النَّاسَ خُبْزًا وَلَحْمًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حُجَرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ صَبِيحَةَ بِنَائِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيُسَلِّمْنَ عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُنَّ وَيَدْعُونَ لَهُ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ رَأَى رَجُلَيْنِ جَرَى بِهِمَا الْحَدِيثُ فَلَمَّا رَآهُمَا رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلاَنِ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ وَثَبَا مُسْرِعَيْنِ فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ بِخُرُوجِهِمَا أَمْ أُخْبِرَ فَرَجَعَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَاب"
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
4795- حدثني زكريا بن يحيى حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب فقال يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين قالت فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن"
قوله: "باب قوله: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} إلى قوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} كذا لأبي ذر والنسفي، وساق غيرهما الآية كلها. قوله: "يقال: إناه إدراكه، أنى يأنى أناة فهو آن" أنى بفتح الألف والنون مقصور، ويأتي بكسر النون، وأناة بفتح الهمزة والنون مخففا وآخره هاء تأنيث بغير مد مصدر، قال أبو عبيدة في قوله: {إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي إدراكه وبلوغه، ويقال: أنى يأنى أنيا أي بلغ وأدرك، قال الشاعر:
تمحضت المنون له بنوم ... أنى، ولكل حاملة تمام
وقوله: "أنيا" بفتح الهمزة وسكون النون مصدر أيضا. وقرأ الأعمش وحده "آناه" بمد أوله بصيغة الجمع مثل آناء الليل ولكن بغير همز في آخره. قوله: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} إذا وصفت صفة المؤنث قلت: قريبة، وإذا جعلته ظرفا وبدلا ولم ترد الصفة نزعت الهاء من المؤنث، وكذلك لفظها في الواحد والاثنين والجمع المذكر والأنثى" هكذا وقع هذا الكلام هنا لأبي ذر والنسفي، وسقط لغيرهما وهو أوجه، لأنه وإن اتجه ذكره في هذه السورة لكن ليس هذا محله، وقد قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} مجازه مجاز

(8/528)


الظرف هاهنا، ولو كان وصفا للساعة لكان "قريبة" وإذا كانت ظرفا فإن لفظها في الواحد وفي الاثنين والجمع من المذكر والمؤنث واحد بغير هاء وبغير جمع وبغير تثنية، وجوز غيره أن يكون المراد بالساعة اليوم فلذلك ذكره أو المراد شيئا قريبا أو زمانا قريبا أو التقدير قيام الساعة فحذف قيام وروعيت الساعة في تأنيث "تكون" وروعي المضاف المحذوف في تذكير "قريبا" وقيل قريبا كثر استعماله استعمال الظروف فهو ظرف في موضع الخبر. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. أحدها حديث أنس عن عمر قال: "قلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب" وهو طرف من حديث أوله: "وافقت ربي في ثلاث" وقد تقدم بتمامه في أوائل الصلاة وفي تفسير البقرة. ثانيها: حديث أنس في قصة بناء النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ونزول آية الحجاب، أورده من أربعة طرق عن أنس بعضها أتم من بعض، وقوله: "لما أهديت" أي لما زينتها الماشطة وزفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم الصغاني أن الصواب "هديت" بغير ألف، لكن توارد النسخ على إثباتها يرد عليه، ولا مانع من استعمال الهدية في هذا استعارة. قوله: "لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا" في رواية الزهري عن أنس كما سيأتي في الاستئذان قال: "أنا أعلم الناس بشأن الحجاب وكان في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، أصبح بها عروسا فدعا القوم" وفي رواية أبي قلابة عن أنس قال: "أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب. لما أهديت زينب بنت جحش إلى النبي صلى الله عليه وسلم صنع طعاما" وفي رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس أنه كان الداعي إلى الطعام قال: "فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، قال: فدعوت حتى ما أجد أحدا" وفي رواية حميد "فأشبع المسلمين خبزا ولحما" ووقع في رواية الجعد بن عثمان عن أنس عند مسلم، وعلقه البخاري قال: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله، فصنعت له أم سليم حيسا، فذهبت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع لي فلانا وفلانا، وذهبت فدعوتهم زهاء ثلاثمائة رجل" فذكر الحديث في إشباعهم من ذلك، وقد تقدمت الإشارة إليه في "علامات النبوة" ويجمع بينه وبين رواية حميد بأنه صلى الله عليه وسلم أولم عليه باللحم والخبز، وأرسلت إليه أم سليم الحيس. وفي رواية سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم حتى امتد النهار" الحديث أخرجه مسلم. قوله: "قلت: يا رسول الله والله ما أجد أحدا، قال: فارفعوا طعامكم" زاد الإسماعيلي من طريق جعفر بن مهران عن عبد الوارث فيه: "قال: وزينب جالسة في جانب البيت، قال: وكانت امرأة قد أعطيت جمالا، وبقي في البيت ثلاثة" . قوله: "ثم جلسوا يتحدثون" في رواية أبي قلابة: "فجعل يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون" . قوله: "وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر" في رواية عبد العزيز "وبقي ثلاثة رهط" وفي رواية حميد "فلما رجع إلى بيته رأى رجلين" ووافقه بيان بن عمرو عن أنس عند الترمذي، وأصله عند المصنف أيضا، ويجمع بين الروايتين بأنهم أول ما قام وخرج من البيت كانوا ثلاثة وفي آخر ما رجع توجه واحد منهم في أثناء ذلك فصاروا اثنين، وهذا أولى من جزم ابن التين بأن إحدى الروايتين وهم، وجوز الكرماني أن يكون التحديث وقع من اثنين منهم فقط والثالث كان ساكتا، فمن ذكر الثلاثة لحظ الأشخاص ومن ذكر الاثنين لحظ سبب العقود، ولم أقف على تسمية أحد منهم. قوله: "فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم انطلقوا" هكذا وقع الجزم في هذه الرواية بأنه الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وكذا في رواية الجعد المذكورة، واتفقت رواية عبد العزيز وحميد على

(8/529)


أن أنسا كان يشك في ذلك، ولفظ حميد "فلا أدري ألا أخبرته بخروجهما أم أخبر" وفي رواية عبد العزيز عن أنس "فما أدري أخبرته أو أخبر" وهو مبني للمجهول أي أخبر بالوحي، وهذا الشك قريب من شك أنس في تسمية الرجل الذي سأل الدعاء بالاستسقاء، فإن بعض أصحاب أنس جزم عنه بأنه الرجل الأول وبعضهم ذكر أنه سأله عن ذلك فقال: لا أدري كما تقدم في مكانه، وهو محمول على أنه كان يذكره ثم عرض له الشك فكان يشك فيه ثم تذكر فجزم. قوله: "فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية" زاد أبو قلابة في روايته {إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} إلى قوله: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فضرب الحجاب. وفي رواية عبد العزيز "حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلة والأخرى خارجة أرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب" وعند الترمذي من رواية عمرو بن سعيد عن أنس "فلما أرخى الستر دوني ذكرت ذلك لأبي طلحة فقال: إن كان كما تقول لينزلن فيه قرآن، فنزلت آية الحجاب" . قوله في رواية عبد العزيز "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم" في رواية حميد "ثم خرج إلى أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه فيسلم عليهن ويسلمن عليه ويدعو لهن ويدعون له" وفي رواية عبد العزيز أنهن قلن له: "كيف وجدت أهلك بارك الله لك" . قوله: "فتقرى" بفتح القاف وتشديد الراء بصيغة الفعل الماضي، أي تتبع الحجرات واحدة واحدة، يقال منه قريت الأرض إذا تتبعتها أرضا بعد أرض وناسا بعد ناس. قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة" في رواية حميد "رأى رجلين جرى بهما الحديث فلما رآهما رجع عن بيته، فلما رأى الرجلان نبي الله صلى الله عليه وسلم رجع عن بيته وثبا مسرعين" ومحصل القصة أن الذين حضروا الوليمة جلسوا يتحدثون، واستحيي النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالخروج فتهيأ للقيام ليفطنوا لمراده فيقوموا بقيامه، فلما ألهاهم الحديث عن ذلك قام وخرج فخرجوا بخروجه، إلا الثلاثة الذين لم يفطنوا لذلك لشدة شغل بالهم بما كانوا فيه من الحديث، وفي غضون ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقوموا من غير مواجهتهم بالأمر بالخروج لشدة حيائه فيطيل الغيبة عنهم بالتشاغل بالسلام على نسائه، وهم في شغل بالهم، وكان أحدهم في أثناء ذلك أفاق من غفلته فخرج وبقي الاثنان، فلما طال ذلك ووصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله فرآهما فرجع فرأياه لما رجع، فحينئذ فطنا فخرجا، فدخل النبي، وأنزلت الآية، فأرخى الستر بينه وبين أنس خادمه أيضا ولم يكن له عهد بذلك. "تنبيه" : ظاهر الرواية الثانية أن الآية نزلت قبل قيام القوم. والأولى وغيرها أنها نزلت بعد، فيجمع بأن المراد أنها نزلت حال قيامهم أي أنزلها الله وقد قاموا. ووقع في رواية الجعد "فرجع فدخل البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} إلى قوله: {مِنَ الْحَقِّ} "وفي الحديث من الفوائد مشروعية الحجاب لأمهات المؤمنين، قال عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثم استدل بما في "الموطا" أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها؛ وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها. انتهى. وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص، وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة: أقبل الحجاب أو بعده؟ قال: قد أدركت ذلك بعد

(8/530)


الحجاب. وسيأتي في آخر الحديث الذي يليه مزيد بيان لذلك. قوله: "وقال ابن أبي مريم: أنبأنا يحيى حدثني حميد سمعت أنسا" مراده بذلك أن عنعنة حميد في هذا الحديث غير مؤثرة لأنه ورد عنه التصريح بالسماع لهذا الحديث ومنه، ويحيى المذكور هو ابن أيوب الغافقي المصري، وابن أبي مريم من شيوخ البخاري واسمه سعيد بن الحكم، ووقع في بعض النسخ من رواية أبي ذر "وقال إبراهيم بن أبي مريم" وهو تغيير فاحش، وإنما هو سعيد. الحديث الثالث حديث عائشة "خرجت سودة - أي بنت زمعة أم المؤمنين - بعدما ضرب الحجاب لحاجتها" وقد تقدم في كتاب الطهارة من طريق هشام بن عروة عن أبيه ما يخالف ظاهره رواية الزهري هذه عن عروة. قال الكرماني: فإن قلت: وقع هنا أنه كان بعدما ضرب الحجاب، وتقدم في الوضوء أنه كان قبل الحجاب، فالجواب: لعله وقع مرتين. قلت: بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني. والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي، حتى صرح يقوله له عليه الصلاة والسلام: "احجب نساءك" وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلا ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك، فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن دفعا للمشقة ورفعا للحرج. وقد اعترض بعض الشراح بأن إيراد الحديث المذكور في الباب ليس مطابقا، بل إيراده في عدم الحجاب أولى. وأجيب بأنه أحال على أصل الحديث كعادته، وكأنه أشار إلى أن الجمع بين الحديثين ممكن، والله أعلم. وقد وقع في رواية مجاهد عن عائشة لنزول آية الحجاب سبب آخر أخرجه النسائي بلفظ: "كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيسا في قعب، فمر عمر فدعاه فأكل، فأصاب إصبعه إصبعي فقال: حس - أو أوه - لو أطاع فيكن ما رأتكن عين. فنزل الحجاب" ويمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب، فلقربه منها أطلقت نزول الحجاب بهذا السبب، ولا مانع من تعدد الأسباب. وقد أخرج ابن مردويه من حديث ابن عباس قال: "دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فأطال الجلوس، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ليخرج فلم يفعل، فدخل عمر فرأى الكراهية في وجهه فقال للرجل: لعلك آذيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد قمت ثلاثا لكي يتبعني فلم يفعل" ، فقال له عمر: يا رسول الله لو اتخذت حجابا، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهن، فنزلت آية الحجاب" .

(8/531)


باب {إن تبدو شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما لا جناح عليهن في آبائهن ....}
...
9- باب {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}
4796- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَقُلْتُ لاَ آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ فَقال النبي

(8/531)


صلى الله عليه وسلم: " وَمَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِي عَمُّكِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَقَالَ ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ" قَالَ عُرْوَةُ فَلِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا تُحَرِّمُونَ مِنْ النَّسَب"
قوله: "باب قوله {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ} - إلى قوله: {شَهِيدًا} كذا لأبي ذر، وساق غيره الآيتين جميعا ثم ذكر حديث عائشة في قصة أفلح أخي أبي القعيس، وسيأتي شرح الحديث مستوفى في الرضاع. ومطابقته للترجمة من قوله: " {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} إلخ" فإن ذلك من جملة الآيتين، وقوله في الحديث: "ائذني له فإنه عمك" مع قوله في الحديث الآخر "العم صنو الأب" وبهذا يندفع اعتراض من زعم أنه ليس في الحديث مطابقة للترجمة أصلا، وكأن البخاري رمز بإيراد هذا الحديث إلى الرد على من كره للمرأة أن تضع خمارها عند عمها أو خالها، كما أخرجه الطبري من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة والشعبي أنه قيل لهما: لم لم يذكر العم والخال في هذه الآية؟ فقالا: لأنهما ينعتاها لأبنائهما، وكرها لذلك أن تضع خمارها عند عمها أو خالها. وحديث عائشة في قصة أفلح يرد عليهما. وهذا من دقائق ما في تراجم البخاري.

(8/532)


10- باب {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ صَلاَةُ اللَّهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلاَئِكَةِ وَصَلاَةُ الْمَلاَئِكَةِ الدُّعَاءُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلُّونَ يُبَرِّكُونَ لَنُغْرِيَنَّكَ لَنُسَلِّطَنَّكَ
4798- حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا السَّلاَمُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكَ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"
4798- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا التَّسْلِيمُ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ وَقَالَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيم"
[الحديث 4798- طرفه في: 6358]

(8/532)


قوله: باب قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية" كذا لأبي ذر، وساقها غيره إلى {تَسْلِيمًا} . قوله: "قال أبو العالية: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء" أخرجه ابن أبي حاتم. ومن طريق آدم بن أبي إياس "حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع هو ابن أنس بهذا" وزاد في آخره: "له" . قوله: "وقال ابن عباس: يصلون يبركون" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "ويصلون على النبي" قال: يبركون على النبي، أي يدعون له بالبركة، فيوافق قول أبي العالية، لكنه أخص منه. وقد سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله دون السلام وأمر المؤمنين بها وبالسلام، فقلت: يحتمل أن يكون السلام له معنيان التحية والانقياد، فأمر به المؤمنون لصحتهما منهم، والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد لم يضف إليهم دفعا للإبهام. والعلم عند الله. قوله: "لنغرينك: لنسلطنك" كذا وقع هذا هنا، ولا تعلق له بالآية وإن كان من جملة السورة، فلعله من الناسخ، وهو قول ابن عباس. ووصله الطبري أيضا من طريق علي بن أبي طلحة عنه بلفظ: "لنسلطنك عليهم" وقال أبو عبيدة مثله، وكذا قال السدي. قوله: "سعيد بن يحيي" هو الأموي. قوله: "قيل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه" في حديث أبي سعيد الذي بعد هذا "قلنا: يا رسول الله" والمراد بالسلام ما علمهم إياه في التشهد من قولهم: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" والسائل عن ذلك هو كعب بن عجرة نفسه، أخرجه ابن مردويه من طريق الأجلح عن الحكم بن أبي ليلى عنه. وقد وقع السؤال عن ذلك أيضا لبشير بن سعد والد النعمان بن بشير، كذا وقع في حديث أبي مسعود عند مسلم بلفظ: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك"؟ وروى الترمذي من طريق يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: "لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ} الآية، قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام فكيف الصلاة"؟. قوله: "فكيف الصلاة عليك"؟ في حديث أبي سعيد "فكيف نصلي عليك"؟ زاد أبو مسعود في روايته: "إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا" أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان بهذه الزيادة. قوله: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" في حديث أبي سعيد "على محمد عبدك ورسولك" . قوله: "كما صليت على آل إبراهيم" أي تقدمت منك الصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم فنسأل منك الصلاة على محمد وعلى آل محمد بطريق الأولى، لأن الذي يثبت للفاضل يثبت للأفضل بطريق الأولى، وبهذا يحصل الانفصال عن الإيراد المشهور من أن شرط التشبيه أن يكون المشبه به أقوى، ومحصل الجواب أن التشبيه ليس من باب إلحاق الكامل بالأكمل بل من باب التهييج ونحوه، أو من بيان حال ما لا يعرف بما يعرف، لأنه فيما يستقبل، والذي يحصل لمحمد صلى الله عليه وسلم من ذلك أقوى وأكمل. وأجابوا بجواب آخر على تقدير أنه من باب الإلحاق. وحاصل الجواب أن التشبيه وقع للمجموع بالمجموع، لأن مجموع آل إبراهيم أفضل من مجموع آل محمد، لأن في آل إبراهيم الأنبياء بخلاف آل محمد. ويعكر على هذا الجواب التفصيل الواقع في غالب طرق الحديث. وقيل في الجواب أيضا: إن ذلك كان قبل أن يعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه أفضل من إبراهيم وغيره من الأنبياء، وهو مثل ما وقع عند مسلم عن أنس "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية، قال ذاك إبراهيم" . قوله: "على آل إبراهيم" كذا فيه في الموضعين، وسأذكر تحرير ذلك في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. وفي آخر حديث أبي سعيد المذكور "والسلام كما قد علمتم" . قوله في حديث أبي سعيد "قال أبو صالح عن الليث" يعني بالإسناد المذكور قبل. قوله: "على محمد وعلى

(8/533)


آل محمد كما باركت على آل إبراهيم" يعني أن عبد الله بن يوسف لم يذكر آل إبراهيم عن الليث وذكرها أبو صالح عنه في الحديث المذكور، وهكذا أخرجه أبو نعيم من طريق يحيي بن بكير عن الليث. قوله: "حدثنا ابن أبي حازم" هو عبد العزيز بن سلمة بن دينار. قوله: "والدراوردي" هو عبد العزيز بن محمد. قوله: "عن يزيد" هو ابن عبد الله بن شداد بن الهاد شيخ الليث فيه، ومراده أنهما روياه بإسناد الليث، فذكر آل إبراهيم كما ذكره أبو صالح عن الليث. واستدل بهذا الحديث على جواز الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم من أجل قوله فيه: "وعلى آل محمد" وأجاب من منع بأن الجواز مقيد بما إذا وقع تبعا، والمنع إذا وقع مستقلا، والحجة فيه أنه صار شعارا للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يشاركه غيره فيه، فلا يقال قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم: وإن كان معناه صحيحا، ويقال: صلى الله على النبي وعلى صديقه أو خليفته ونحو ذلك. وقريب من هذا أنه لا يقال: قال محمد عز وجل وإن كان معناه صحيحا، لأن هذا الثناء صار شعار الله سبحانه لا يشاركه غيره فيه. ولا حجة لمن أجاز ذلك منفردا فيما وقع من قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ولا في قوله: "اللهم صل على آل أبي أوفى" ولا في قول امرأة جابر "صل علي وعلى زوجي، فقال: اللهم صل عليهما" فإن ذلك كله وقع من النبي صلى الله عليه وسلم. ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء، وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه، ولم يثبت عنه إذن في ذلك. ويقوي المنع بأن الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم صار شعارا لأهل الأهواء يصلون على من يعظمونه من أهل البيت وغيرهم. وهل المنع في ذلك حرام أو مكروه أو خلاف الأولى؟ حكى الأوجه الثلاثة النووي في "الأذكار" وصحح الثاني. وقد روى إسماعيل بن إسحاق في كتاب "أحكام القرآن" له بإسناد حسن عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب "أما بعد فإن ناسا من الناس التمسوا عمل الدنيا بعمل الآخرة، وإن ناسا من القصاص أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل الصلاة على النبي، فإذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين، ودعاؤهم للمسلمين، ويدعوا ما سوى ذلك" ثم أخرج عن ابن عباس بإسناد صحيح قال: "لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن للمسلمين والمسلمات الاستغفار" وذكر أبو ذر أن الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كان في السنة الثانية من الهجرة، وقيل من ليلة الإسراء.

(8/534)


11- باب {لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى}
4799- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ وَخِلاَسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}
قوله: باب {لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} ذكر فيه طرفا من قصة موسى مع بني إسرائيل" ، وقد تقدم بسنده مطولا في أحاديث الأنبياء مع شرحه مستوفى، وقد روى "أحمد بن منيع في مسنده" والطبري وابن أبي حاتم بإسناد قوي عن ابن عباس عن علي قال: "صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، فقال بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته، كان ألين لنا منك وأشد حبا فآذوه بذلك، فأمر الله الملائكة فحملته فمرت به على مجالس بني إسرائيل، فعلموا بموته" قال الطبري: يحتمل أن يكون هذا المراد بالأذى في قوله: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا

(8/534)


مُوسَى} . قلت: وما في الصحيح أصح من هذا، لكن لا مانع أن يكون للشيء سببان فأكثر كما تقدم تقريره غير مرة.

(8/535)


34- سورة سَبَإٍ
يُقَالُ {مُعَاجِزِينَ} مُسَابِقِينَ {بِمُعْجِزِينَ} بِفَائِتِينَ مُعَاجِزِيَّ مُسَابِقِيَّ {سَبَقُوا} فَاتُوا {لاَ يُعْجِزُونَ} لاَ يَفُوتُونَ يَسْبِقُونَا يُعْجِزُونَا وَقَوْلُهُ {بِمُعْجِزِينَ} بِفَائِتِينَ وَمَعْنَى مُعَاجِزِينَ مُغَالِبِينَ يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُظْهِرَ عَجْزَ صَاحِبِهِ مِعْشَارٌ عُشْرٌ يُقَالُ الأُكُلُ الثَّمَرُ بَاعِدْ وَبَعِّدْ وَاحِدٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لاَ يَعْزُبُ} لاَ يَغِيبُ {سَيْلَ الْعَرِمِ} السُّدُّ مَاءٌ أَحْمَرُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ فِي السُّدِّ فَشَقَّهُ وَهَدَمَهُ وَحَفَرَ الْوَادِيَ فَارْتَفَعَتَا عَنْ الْجَنْبَيْنِ وَغَابَ عَنْهُمَا الْمَاءُ فَيَبِسَتَا وَلَمْ يَكُنْ الْمَاءُ الأَحْمَرُ مِنْ السُّدِّ وَلَكِنْ كَانَ عَذَابًا أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ الْعَرِمُ الْمُسَنَّاةُ بِلَحْنِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَقَالَ غَيْرُهُ الْعَرِمُ الْوَادِي {السَّابِغَاتُ} الدُّرُوعُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يُجَازَى} يُعَاقَبُ {أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} بِطَاعَةِ اللَّهِ {مَثْنَى وَفُرَادَى} وَاحِدٌ وَاثْنَيْنِ {التَّنَاوُشُ} الرَّدُّ مِنْ الآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا {وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} مِنْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ زَهْرَةٍ {بِأَشْيَاعِهِمْ} بِأَمْثَالِهِمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {كَالْجَوَابِ} كَالْجَوْبَةِ مِنْ الأَرْضِ الْخَمْطُ الأَرَاكُ وَالأَثَلُ الطَّرْفَاءُ الْعَرِمُ الشَّدِيدُ
قوله. "سورة سبأ - {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"سقط لفظ: "سورة والبسملة" لغير أبي ذر. وهذه السورة سميت بقوله فيها: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} الآية، قال ابن إسحاق وغيره: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ووقع عند الترمذي وحسنه من حديث فروة بن مسيك قال: "أنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ، أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن ستة وتشاءم أربعة" الحديث. قال: "وفي الباب عن ابن عباس" . قلت. حديث ابن عباس وفروة صححهما الحاكم. وأخرج ابن أبي حاتم في حديث فروة زيادة أنه قال: "يا رسول الله إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية، وإني أخشى أن يرتدوا فأقاتلهم، قال: ما أمرت فيهم بشيء، فنزلت: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} الآيات. فقال له رجل: يا رسول الله، وما سبا" فذكره. وأخرج ابن عبد البر في "الأنساب" له شاهدا من حديث تميم الداري. وأصله قصة سبأ. وقد ذكرها ابن إسحاق مطولة في أول السيرة النبوية. وأخرج بعضها ابن أبي حاتم من طريق حبيب بن الشهيد عن عكرمة، وأخرجها أيضا من طريق السدي مطولا. قوله: "معاجزين مسابقين، بمعجزين بفائتين، معاجزي مسابقي، سبقوا فاتوا، لا يعجزون لا يفوتون، يسبقونا يعجزونا. قوله: بمعجزين بفائتين ومعنى معاجزين مغالبين يريد كل واحد منهما أن يظهر عجز صاحبه" أما قوله معاجزين مسابقين فقال أبو عبيدة في قوله: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي مسابقين، يقال: ما أنت بمعجزي أي سابقي. وهذا اللفظ أي {مُعَاجِزِينَ} على إحدى القراءتين، وهي قراءة الأكثر في موضعين من هذه السورة وفي سورة الحج، والقراءة الأخرى لابن كثير وأبي عمرو "معجزين" بالتشديد في المواضع الثلاثة وهي بمعناها، وقيل: معنى معاجزين معاندين

(8/535)


ومغالبين، ومعنى معجزين ناسبين غيرهم إلى العجز. وأما قوله: "بمعجزين" فلعله أشار إلى قوله في سورة العنكبوت {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} وقد أخرج ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير نحوه. وأما قوله: "معاجزي مسابقي" فسقط من رواية الأصيلي وكريمة وثبت عندهما "معاجزين مغالبين" وتكرر لهما بعد، وقد ظهر أنه بقية كلام أبي عبيدة كما قدمته. وأما قوله: "سبقوا إلخ" فقال أبو عبيدة في سورة الأنفال في قوله: {ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا} مجازه فاتوا "أنهم لا يعجزون" أي لا يفوتون. وأما قوله: {يَسْبِقُونَا} فأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} أي يعجزونا. وأما قوله: "بمعجزين بفائتين" فكذا وقع مكررا في رواية أبي ذر وحده، وسقط للباقين. وأما قوله: "معاجزين مغالبين إلخ. فقال الفراء: معناه معاندين. وذكر ابن أبي حاتم من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {مُعَاجِزِينَ} قال: مراغمين. وكلها بمعنى. قوله: "معشار: عشر" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} أي عشر ما أعطيناهم. وقال الفراء: المعنى وما بلغ أهل مكة معشار الذين أهلكناهم من قبلهم من القوة والجسم والولد والعدد، والمعشار العشر. قوله: "يقال الأكل الثمرة" قال أبو عبيدة في قوله تعالى : {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ} قال: الخمط هو كل شجر ذي شوك، والأكل الجني أي بفتح الجيم مقصور وهو بمعنى الثمرة. قوله: "باعد وبعد واحد" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} مجازه مجاز الدعاء، وقرأه قوم "بعد" يعني بالتشديد. قلت: قراءة باعد للجمهور، وقرأه "بعد" أبو عمرو وابن كثير وهشام. قوله: "وقال مجاهد: لا يعزب لا يغيب" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه بهذا. قوله: "سيل العرم السد" كذا للأكثر بضم المهملة وتشديد الدال، ولأبي ذر عن الحموي الشديد بمعجمة وزن عظيم. قوله: "فشقه" كذا للأكثر بمعجمة قبل القاف الثقيلة، وذكر عياض أن في رواية أبي ذر "فبثقه" بموحدة ثم مثلثة قبل القاف الخفيفة، قال: وهو الوجه، تقول بثقت النهر إذا كسرته لتصرفه عن مجراه. قوله: "فارتفعتا عن الجنبتين" كذا للأكثر بفتح الجيم والنون الخفيفة بعدها موحدة ثم مثناة فوقانية ثم تحتانية ثم نون، ولأبي ذر عن الحموي بتشديد النون بغير موحدة تثنيه جنة. واستشكل هذا الترتيب لأن السياق يقتضي أن يقول: ارتفع الماء على الجنتين، وارتفعت الجنتان عن الماء. وأجيب بأن المراد من الارتفاع الزوال أي ارتفع اسم الجنة منهما، فالتقدير: فارتفعت الجنتان عن كونهما جنتين. وتسمية ما بدلوا به جنتين على سبيل المشاكلة. قوله: "ولم يكن الماء الأحمر من السد" كذا للأكثر بضم المهملة وتشديد الدال، وللمستملي من السيل، وعند الإسماعيلي من السيول. وهذا الأثر عن مجاهد وصله الفريابي أيضا وقال: "السد" في الموضعين فقال: "فشقه" بالمعجمة والقاف الثقيلة. وقال: "على الجنتين" تثنية جنة كما للأكثر في المواضع كلها. قوله: "وقال عمرو بن شرحبيل؛ العرم المسناة بلحن أهل اليمن. وقال غيره. العرم الوادي" أما قول عمرو فوصله سعيد بن منصور عن شريك عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة وهو عمرو بن شرحبيل فذكره سواء، واللحن اللغة، والمسناة بضم الميم وفتح المهملة وتشديد النون، وضبط في أصل الأصيلي، بفتح الميم وسكون المهملة، قال ابن التين: المراد بها ما يبنى في عرض الوادي ليرتفع السيل ويفيض على الأرض" وكأنه أخذ من عرامة الماء وهو ذهابه كل مذهب" . وقال الفراء: العرم المسناة وهي مسناة كانت تحبس الماء على ثلاثة أبواب منها، فيسيبون من ذلك الماء من الباب الأول ثم الثاني ثم الآخر، ولا ينفذ حتى يرجع الماء السنة

(8/536)


المقبلة، وكانوا أنعم قوم، فلما أعرضوا عن تصديق الرسل وكفروا بثق الله عليهم تلك المسناة، فغرقت أرضهم ودقت الرمل بيوتهم ومزقوا كل ممزق، حنى صار تمزيقهم عند العرب مثلا يقولون: "تفرقوا أيدي سبا" . وأما قول غيره: فأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عثمان بن عطاء عن أبيه قال: العرم اسم الوادي، وقيل: العرم اسم الجرذ الذي خرب السد، وقيل: هو صفة السيل مأخوذ من العرامة، وقيل: اسم المطر الكثير. وقال أبو حاتم: هو جمع لا واحد له من لفظه. وقال أبو عبيدة: سيل العرم واحدتها عرمة، وهو بناء يحبس به الماء يبنى فيشرف به على الماء في وسط الأرض، ويترك فيه سبيل للسفينة، فتلك العرمات واحدتها عرمة. قوله: "السابغات الدروع" قال أبو عبيدة في قوله: {أنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي دروعا واسعة طويلة. قوله: "وقال مجاهد: يجازي يعاقب" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عنه، ومن طريق طاوس قال: هو المناقشة في الحساب، ومن نوقش الحساب عذب، وهو الكافر لا يغفر له.
" تنبيه " : قيل: إن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله من جهة الحصر في الكفر، فمفهومه أن غير الكفر بخلاف ذلك. ومثله {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وقيل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، وقيل: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ، وقيل: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} وقيل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية، وقيل: آية الدين، وقيل: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} وهذا الأخير نقله مسلم في صحيحه عن عبد الله بن المبارك عقب حديث الإفك، وفي كتاب الإيمان من "مستدرك الحاكم" عن ابن عباس قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . قوله: "أعظكم بواحدة: بطاعة الله، مثنى وفرادى واحد واثنين" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا. قوله: "التناوش: الرد من الآخرة إلى الدنيا" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ "وأنى لهما التناوش" قال: رد من مكان بعيد من الآخرة إلى الدنيا. وعند الحاكم من طريق التميمي عن ابن عباس في قوله: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قال: يسألون الرد، وليس بحين رد. قوله: "وبين ما يشتهون: من مال أو ولد أو زهرة" وصله الفريابي من طريق مجاهد مثله، ولم يقل. "أو زهرة" . قوله: "بأشياعهم: بأمثالهم" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: كما فعل بأشياعهم من قبل قال الكفار من قبلهم. قوله: "وقال ابن عباس: كالجوابي كالجوبة من الأرض" تقدم هذا في أحاديث الأنبياء، قيل: الجوابي في اللغة جمع جابية وهو الحوض الذي يجبى فيه الشيء أي يجمع، وأما الجوبة من الأرض فهي الموضع المطمئن فلا يستقيم تفسير الجوابي بها، وأجيب باحتمال أن يكون فسر الجابية بالجوبة ولم يرد أن اشتقاقهما واحد. قوله: "الخمط الأراك، والأثل الطرفاء؛ العرم الشديد" سقط الكلام الأخير للنسفي، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا كله مفرقا.

(8/537)


1- باب {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
4800- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فَيَسْمَعُهَا

(8/537)


مُسْتَرِقُ السَّمْعِ وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوْ الْكَاهِنِ فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ فَيُقَالُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنْ السَّمَاء"
قوله: "باب {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قوله: "حدثنا عمرو" هو ابن دينار. قوله: "إذا قضى الله الأمر في السماء" في حديث النواس بن سمعان عند الطبراني مرفوعا: "إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء بذلك صعقوا وخروا سجدا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهي به على الملائكة، كلما مر بسماء سأله أهله ماذا قال ربنا؟ قال: الحق، فينتهي به حيث أمر" . قوله: "ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا" بفتحتين من الخضوع. وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه وهو مصدر بمعنى خاضعين. قوله: "كأنه" أي القول المسموع "سلسلة على صفوان" هو مثل قوله في بدء الوحي: "صلصلة كصلصلة الجرس" وهو صوت الملك بالوحي، وقد روى ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه: "إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون، ويرون أنه من أمر الساعة . وقرأ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} الآية" وأصله عند أبي داود وغيره، وعلقه المصنف موقوفا، ويأتي في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. قال الخطابي: الصلصلة صوت الحديد إذا تحرك وتداخل، وكأن الرواية وقعت له بالصاد، وأراد أن التشبيه في الموضعين بمعنى واحد، فالذي في بدء الوحي هذا والذي هنا جر السلسلة من الحديد إلى الصفوان الذي هو الحجر الأملس يكون الصوت الناشئ عنهما سواء. قوله: "على صفوان" زاد في سورة الحجر عن علي بن عبد الله "قال غيره: - يعني غير سفيان - ينفذهم ذلك" في حديث ابن عباس عند ابن مردويه من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه "فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا" وعند مسلم والترمذي من طريق علي بن الحسين بن علي عن ابن عباس عن رجال من الأنصار أنهم كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فرمي بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون لهذا إذا رمي به في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول مات عظيم أو يولد عظيم، فقال: إنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح سماء الدنيا، ثم يقولون لحملة العرش: ماذا قال ربكم" الحديث. وليس عند الترمذي عن رجال من الأنصار، وسيأتي مزيد فيه في كتاب التوحيد. قوله: "ومسترقو السمع" في رواية علي عند أبي ذر "ومسترق" بالإفراد وهو فصيح. قوله: "هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان" أي ابن عيينة "بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه" أي فرق. وفي رواية علي "ووصف سفيان بيده ففرج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض" وفي حديث ابن عباس عند ابن مردويه "كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يسمعون منه الوحي" يعني يلقيها، زاد علي عن سفيان "حتى ينتهي إلى الأرض فيلقى". قوله: "على لسان الساحر أو الكاهن" في رواية الجرجاني "على لسان الآخر" بدل الساحر وهو تصحيف. وفي رواية علي "الساحر والكاهن" وكذا قال سعيد بن منصور عن سفيان. قوله: "فربما

(8/538)


أدرك الشهاب إلخ" يقتضي أن الأمر في ذلك يقع على حد سواء، والحديث الآخر يقتضي أن الذي يسلم منهم قليل بالنسبة إلى من يدركه الشهاب. ووقع في رواية سعيد بن منصور عن سفيان في هذا الحديث: "فيرمي هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى يلقى على فم ساحر أو كاهن". قوله: "فيكذب معها مائة كذبة، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" زاد علي بن عبد الله عن سفيان كما تقدم في تفسير الحجر "فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقا الكلمة التي سمعت من السماء" وفي حديث ابن عباس المذكور "فيقول يكون العام كذا وكذا فيسمعه الجن فيخبرون به الكهنة فتخبر الكهنة الناس فيجدونه" وسيأتي بقية شرح هذا القدر في أواخر كتاب الطب إن شاء الله تعالى.
" تنبيه " : وقع في تفسير سورة الحجر في آخر هذا الحديث عن علي بن عبد الله "قلت لسفيان: إن إنسانا روى عنك عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة أنه قرأ فرغ - بضم الفاء وبالراء المهملة الثقيلة وبالغين المعجمة - فقال سفيان: هكذا قرأ عمرو - يعني ابن دينار - فلا أدري سمعه هكذا أم لا" وهذه القراءة رويت أيضا عن الحسن وقتادة ومجاهد، والقراءة المشهورة بالزاي والعين المهملة، وقرأها ابن عامر مبنيا للفاعل ومعناه بالزاي والمهملة أدهش الفزع عنهم، ومعنى التي بالراء والغين المعجمة ذهب عن قلوبهم ما حل فيها "فقال سفيان: هكذا قرأ عمرو فلا أدري سمعه أم لا. قال سفيان: وهي قراءتنا" قال الكرماني: فإن قيل كيف جازت القراءة إذا لم تكن مسموعة فالجواب لعل مذهبه جواز القراءة بدون السماع إذا كان المعنى صحيحا. قلت: هذا وإن كان محتملا لكن إذا وجد احتمال غيره فهو أولى، وذلك محمل قول سفيان: "لا أدري سمعه أم لا" على أن مراده سمعه من عكرمة الذي حدثه بالحديث لا أنه شك في أنه هل سمعه مطلقا، فالظن به أن لا يكتفي في نقل القرآن بالأخذ من الصحف بغير سماع. وأما قول سفيان: "وهي قراءتنا" فمعناه أنها وافقت ما كان يختار من القراءة به؛ فيجوز أن ينسب إليه كما نسب لغيره.

(8/539)


باب {إن هو إلا نذير بين يدي عذاب شديد}
...
2- باب {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}
4801- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: "يَا صَبَاحَاهْ" فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ قَالُوا مَا لَكَ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب} "
قوله: باب قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} ذكر فيه طرفا من حديث ابن عباس في نزول قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وقد تقدم شرحه مستوفى في سورة الشعراء.

(8/539)


35- سورة الْمَلاَئِكَةِ
قَالَ مُجَاهِدٌ {الْقِطْمِيرُ} لِفَافَةُ النَّوَاةِ {مُثْقَلَةٌ} مُثَقَّلَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الْحَرُورُ} بِاللَّيْلِ وَالسَّمُومُ بِالنَّهَارِ. وَقَالَ

(8/539)


36- سورة يس
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {فَعَزَّزْنَا} شَدَّدْنَا {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} كَانَ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرُّسُلِ {أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} لاَ يَسْتُرُ ضَوْءُ أَحَدِهِمَا ضَوْءَ الآخَرِ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُمَا ذَلِكَ {سَابِقُ النَّهَارِ} يَتَطَالَبَانِ حَثِيثَيْنِ {نَسْلَخُ} نُخْرِجُ أَحَدَهُمَا مِنْ الآخَرِ وَيَجْرِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا {مِنْ مِثْلِهِ} مِنْ الأَنْعَامِ {فَكِهُونَ} مُعْجَبُونَ {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} عِنْدَ الْحِسَابِ وَيُذْكَرُ عَنْ عِكْرِمَةَ {الْمَشْحُونِ} الْمُوقَرُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {طَائِرُكُمْ} مَصَائِبُكُمْ {يَنْسِلُونَ} يَخْرُجُونَ {مَرْقَدِنَا} مَخْرَجِنَا {أَحْصَيْنَاهُ} حَفِظْنَاهُ {مَكَانَتُهُمْ} وَمَكَانُهُمْ وَاحِدٌ
قوله: "سورة يس" سقط هذا لأبي ذر هنا والصواب إثباته. قوله: "وقال مجاهد: فعززنا شددنا" سقط هذا لأبي ذر، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد. قوله: "يا حسرة على العباد، وكان حسرة عليهم استهزاؤهم بالرسل" وصله الفريابي كذلك، وقد أخرج سعيد بن منصور عن سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ: {يا حسرة العباد" بالإضافة. قوله: "أن تدرك القمر إلخ، وقوله سابق النهار إلخ، وقوله نسلخ نخرج إلخ" سقط كله لأبي ذر، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "من مثله من الأنعام" وصله الفريابي أيضا من طريق مجاهد، وعن ابن عباس قال: المراد بالمثل هنا السفن، ورجح لقوله بعد: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} إذ الغرق لا يكون في الأنعام. قوله: "فكهون معجبون" في رواية غير أبي ذر "فاكهون" وهي القراءة المشهورة، والأولى رويت عن يعقوب الحضرمي، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد: فاكهون معجبون. قال أبو عبيدة: من قرأها فاكهون جعله كثير الفاكهة، قال الحطيئة:
ودعوتني وزعمت أنك ... لابن في الصيف تامر
أي عندك لبن كثير وتمر كثير، وأما فكهون فهي قراءة أبي جعفر وشيبة وهي بوزن فرحون، ومعناه

(8/540)


مأخوذ من الفاكهة وهي التلذذ والتنعم. قوله: " {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} عند الحساب" سقط هذا لأبي ذر، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد كذلك. قوله: "ويذكر عن عكرمة المشحون الموقر" سقط هذا لأبي ذر، وقد تقدم في أحاديث الأنبياء، وجاء مثله عن ابن عباس، وصله الطبري من طريق سعيد بن جبير عنه بإسناد حسن. قوله: "سورة يس - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر هنا، وسقط لغيره. قوله: "وقال ابن عباس: طائركم عند الله مصائبكم" وتقدم في أحاديث الأنبياء وللطبري من وجه آخر عن ابن عباس قال: طائركم أعمالكم. وقال أبو عبيدة: طائركم أي حظكم من الخير والشر. قوله: "ينسلون يخرجون" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به. قوله: "مرقدنا مخرجنا. وقوله: أحصيناه حفظناه. وقوله: مكانتهم ومكانهم واحد" سقط هذا كله لأبي ذر وسيأتي تفسير "أحصيناه" في كتاب التوحيد. وروى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} يقول: لأهلكناهم في مساكنهم. وقال أبو عبيدة في قوله: {لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} المكان والمكانة واحد.

(8/541)


1- باب {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}
4802- حدثنا أبو نعيم حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال ثم كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم غروب الشمس فقال: " يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}
4803- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَالَ: مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْش"
قوله: "باب قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ذكر فيه حديث أبي ذر" كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال: يا أبا ذر أين تغرب الشمس؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب تسجد تحت العرش، فذلك قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} إلى آخر الآية" هكذا أورده مختصرا وأخرجه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: "تذهب حتى تنتهي تحت لعرش عند ربها" وزاد: "ثم تستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها وتستشفع وتطلب، فإذا كان ذلك قيل اطلعي من مكانك، فذلك قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} وقد ذكر نحو هذه الزيادة من غير طريق أبي نعيم كما سأنبه عليه. قوله في الرواية الثانية" سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: مستقرها تحت العرش" كذا رواه وكيع عن الأعمش مختصرا، وهو بالمعنى، فإن في الرواية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي استفهمه " أتدري أين تغرب الشمس؟ فقال: الله ورسوله أعلم" . قوله: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش" في رواية أبي معاوية عن الأعمش كما سيأتي في التوحيد فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها، وكأنها

(8/541)


قد قيل لها اطلعي من حيث جئت فتطلع من مغربها. ثم قرأ "وذلك مستقر لها" . قال: وهي قراءة عبد الله. وروى عبد الرزاق من طريق وهب عن جابر عن عبد الله بن عمرو في هذه الآية قال: مستقرها أن تطلع فيردها ذنوب بني آدم، فإذا غربت سلمت وسجدت واستأذنت فلا يؤذن لها، فتقول: إن السير بعد، وإني إن لا يؤذن لي لا أبلغ، فتحبس ما شاء الله. ثم يقال: اطلعي من حيث غربت، قال فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسا إيمانها. وأما قوله: "تحت العرش" فقيل هو حين محاذاتها. ولا يخالف هذا قوله: "وجدها تغرب في عين حمئة" فإن المراد بها نهاية مدرك البصر إليها حال الغروب، وسجودها تحت العرش إنما هو بعد الغروب. وفي الحديث رد على من زعم أن المراد بمستقرها غاية ما تنتهي إليه في الارتفاع، وذلك أطول يوم في السنة، وقيل إلى منتهى أمرها عند انتهاء الدنيا. وقال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش أنها تستقر تحته استقرارا لا نحيط به نحن، ويحتمل أن يكون المعنى أو علم ما سألت عنه من مستقرها تحت العرش في كتاب كتب فيه ابتداء أمور العالم ونهايتها فيقطع دوران الشمس وتستقر عند ذلك ويبطل فعلها، وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق عن دورانها في سيرها. قلت: وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار وقوعه في كل يوم وليلة عند سجودها ومقابل الاستقرار المسير الدائم المعبر عنه بالجري. والله أعلم.

(8/542)


37- سورة الصَّافَّاتِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ} بَعِيدٍ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ { وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} يُرْمَوْنَ {وَاصِبٌ} دَائِمٌ {لاَزِبٌ} لاَزِمٌ {تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ} يَعْنِي الْحَقَّ الْكُفَّارُ تَقُولُهُ لِلشَّيْطَانِ {غَوْلٌ} وَجَعُ بَطْنٍ {يُنْزَفُونَ} لاَ تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ {قَرِينٌ} شَيْطَانٌ {يُهْرَعُونَ} كَهَيْئَةِ الْهَرْوَلَةِ {يَزِفُّونَ} النَّسَلاَنُ فِي الْمَشْيِ {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْمَلاَئِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَأُمَّهَاتُهُمْ بَنَاتُ سَرَوَاتِ الْجِنِّ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} سَتُحْضَرُ لِلْحِسَابِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} الْمَلاَئِكَةُ {صِرَاطِ الْجَحِيمِ} سَوَاءِ الْجَحِيمِ وَوَسَطِ الْجَحِيمِ {لَشَوْبًا} يُخْلَطُ طَعَامُهُمْ وَيُسَاطُ بِالْحَمِيمِ {مَدْحُورًا} مَطْرُودًا {بَيْضٌ مَكْنُونٌ} اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} يُذْكَرُ بِخَيْرٍ وَيُقَالُ {يَسْتَسْخِرُونَ} يَسْخَرُونَ بَعْلًا رَبًّا
قوله: "سورة الصافات {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}". قوله: "وقال مجاهد ويقذفون بالغيب من مكان بعيد من كل مكان، ويقذفون من كل جانب. دحورا يرمون. واصب دائم. لازب لازم" سقط هذا كله لأبي ذر، وقد تقدم بعضه في بدء الخلق. وروى الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "ويقذفون بالغيب من مكان" يقولون هو ساحر هو كاهن هو شاعر وفي قوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} قال: لازم. وقال أبو عبيدة في قوله: "ولهم عذاب واصب أي دائم وفي قوله: {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} هي بمعنى اللازم قال النابغة" ولا يحسبون الشر ضربة لازب" أي لازم. قوله: {تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} ، يعني الحق، الكفار تقوله للشياطين "ووقع في رواية الكشميهني: "يعني الجن" بجيم ثم نون، ونسبه عياض للأكثر. وقد وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ

(8/542)


الْيَمِينِ}، قال الكفار تقوله للشياطين" ولم يذكر الزيادة، فدل على أنه شرح من المصنف. ولكل من الروايتين وجه، فمن قال: "يعني الجن" أراد بيان المقول له وهم الشياطين، ومن قال: "الحق" بالمهملة والقاف أراد تفسير لفظ اليمين أي كنتم تأتوننا من جهة الحق فتلبسوه علينا، ويؤيده تفسير قتادة قال: يقول الإنس للجن: كنتم تأتوننا عن اليمين، أي من طريق الجنة تصدوننا عنها. قوله: "غول وجع بطن، ينزفون لا تذهب عقولهم، قرين شيطان" سقط هذا لأبي ذر، وقد وصله الفريابي عن مجاهد كذلك. قوله: "يهرعون كهيئة الهرولة" وصله الفريابي عن مجاهد كذلك. قوله: "يزفون النسلان في المشي" سقط هذا لأبي ذر، وقد وصله عبد بن حميد من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "فأقبلوا إليه يزفون" قال: الوزيف النسلان انتهى - والنسلان بفتحتين الإسراع مع تقارب الخطأ، وهو دون السعي. قوله: "وبين الجنة نسبا إلخ" سقط هذا لأبي ذر، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "وقال ابن عباس: لنحن الصافون الملائكة" وصله الطبري، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "صراط الجحيم سواء الجحيم ووسط الجحيم، لشوبا يخلط طعامهم ويساط بالحميم، مدحورا مطرودا" سقط هذا كله لأبي ذر وقد تقدم في بدء الخلق، قال بعض الشراح: أراد أن يفسر "دحورا" التي في الصافات ففسر مدحورا التي في سورة الإسراء. قوله: "بيض مكنون اللؤلؤ المكنون" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه. وقال أبو عبيدة في قوله كأنهن بيض مكنون أي مصون، وكل شيء صنته فهو مكنون، وكل شيء أضمرته في نفسك فقد أكننته. قوله: "وتركنا عليه في الآخرين يذكر بخير" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "الأسباب السماء" سقط هذا لغير أبي ذر، وثبت للنسفي بلفظ: "ويقال: "وقد وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: "، يقال يستسخرون يسخرون" ثبت هذا أيضا للنسفي وأبي ذر فقط. وقال أبو عبيدة: يستسخرون ويسخرون سواء. قوله: "بعلا ربا" ثبت هذا للنسفي وحده، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس أنه أبصر رجلا يسوق بقرة فقال: من بعل هذا؟ قال فدعاه فقال: من أنت؟ فقال من أهل اليمين، قال: هي لغة {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} أي ربا، وصله إبراهيم الحربي في "غريب الحديث:"من هذا الوجه مختصرا إلخ، ولمح المصنف بهذا القدر من قصة إلياس، وقد ذكرت خبره في أحاديث الأنبياء عند ذكر إدريس.

(8/543)


1- باب {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ}
4804- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى"
4805- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَب"
قوله: "باب قوله: وإن يونس لمن المرسلين" ذكر فيه حديث ابن مسعود "لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من

(8/543)


يونس بن متى" وحديث أبي هريرة " من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب" وقد تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء ولله الحمد

(8/544)


38- سُورَةُ "ص"
4806- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْعَوَّامِ قَالَ سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ السَّجْدَةِ فِي "ص" قَالَ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْجُدُ فِيهَا"
4807- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ عَنْ الْعَوَّامِ قَالَ سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةٍ فِي "ص" فَقَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ أَيْنَ سَجَدْتَ فَقَالَ أَوَ مَا تَقْرَأُ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} فَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَسَجَدَهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلاَم فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {عُجَابٌ} عَجِيبٌ {الْقِطُّ} الصَّحِيفَةُ هُوَ هَا هُنَا صَحِيفَةُ الْحِسَابِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {فِي عِزَّةٍ} مُعَازِّينَ {الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} مِلَّةُ قُرَيْشٍ {الاخْتِلاَقُ} الْكَذِبُ {الأَسْبَابُ} طُرُقُ السَّمَاءِ فِي أَبْوَابِهَا قَوْلُهُ {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} يَعْنِي قُرَيْشًا {أُولَئِكَ الأَحْزَابُ} الْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ {فَوَاقٍ} رُجُوعٍ {قِطَّنَا} عَذَابَنَا {اتَّخَذْنَاهُمْ سُخْرِيًّا} أَحَطْنَا بِهِمْ {أَتْرَابٌ} أَمْثَالٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الأَيْدُ الْقُوَّةُ} فِي الْعِبَادَةِ {الأَبْصَارُ} الْبَصَرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ {حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} مِنْ ذِكْرِ {طَفِقَ مَسْحًا} يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا {الأَصْفَادِ} الْوَثَاق"
قوله: "سورة "ص" – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة فقط للنسفي، واقتصر الباقون على "ص" ، وحكمها حكم الحروف المقطعة أوائل السور، وقد قرأها عيسى بن عمر بكسر الدال فقيل الدرج وقيل بل هي عند فعل أمر من المصاداة وهي المعارضة، كأنه قيل عارض القرآن بعملك، والأول هو المشهور. وسيأتي مزيد بيان في أسماء السورة في أول غافر. قوله: "حدثنا شعبة عن العوام" هو ابن حوشب، كذا قال أكثر أصحاب شعبة. وقال أمية بن خالد عنه "عن منصور وعمرو بن مرة وأبي حصين ثلاثتهم عن مجاهد" فكأن لشعبة فيه مشايخ. قوله: "عن مجاهد" كذا قال أكثر أصحاب العوام بن حوشب. وقال أبو سعيد الأشج "عن أبي خالد الأحمر وحفص بن غياث عن العوام عن سعيد بن جبير" بدل مجاهد، أخرجه ابن خزيمة. فلعل للعوام فيه شيخين. وقد تقدم في تفسير الأنعام من طريق سليمان الأحول عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي "ص" سجدة؟ قال نعم، ثم تلا: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} إلى قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} قال هو منهم، فالحديث محفوظ لمجاهد، فرواية أبي سعيد الأشج شاذة. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الله" قال الكلاباذي وابن طاهر: هو الذهلي نسب إلى جده. وقال غيرهما: يحتمل أن يكون محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي فإنه من هذه الطبقة. قوله: "فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم" سقط "فسجدها داود" من رواية غير أبي ذر؛ وهذا أصرح في الرفع من رواية شعبة وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالسجود في "ص" في كتاب سجود التلاوة مستوفي، واستدل بهذا على أن شرع من

(8/544)


قبلنا شرع لنا وهي مسألة مشهورة في الأصول وقد تعرضنا لها في مكان آخر. قوله: "عجاب عجيب" هو قول أبي عبيدة قال: والعرب تحول فعيلا إلى فعال بالضم وهو مثل طويل وطوال، قال الشاعر "تعدو به سلهبة سراعة" أي سريعة، وقرأ عيسى بن عمر ونقلت عن علي عجاب بالتشديد وهو مثل كبار في قوله: "مكروا مكرا كبارا" وهو أبلغ من كبار بالتخفيف وكبار المخفف أبلغ من كبير. قوله: "القط الصحيفة هو هاهنا صحيفة الحسنات" في رواية الكشميهني: "الحساب" وكذا في رواية النسفي، وذكر بعض الشراح بالعكس، قال أبو عبيدة: القط الكتاب والجمع قطوط وقططة كقرد وقرود وقردة، وأصله من قط الشيء أي قطعه والمعنى قطعة مما وعدتنا به، ويطلق على الصحيفة قط لأنها قطعة تقطع،. وكذلك الصك، ويقال للجائزة أيضا قط لأنها قطعة من العطية، وأكثر استعماله في الكتاب، وسيأتي له تفسير آخر قريبا. وعند عبد بن حميد من طريق عطاء أن قائل ذلك هو النضر بن الحارث. قوله: "وقال مجاهد في عزة" أي "معازين" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد به، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: "في عزة" قال في حمية، ونقل عن الكسائي في رواية أنه قرأ: {في غرة" بالمعجمة والراء، وهي قراءة الجحدري وأبي جعفر. قوله: "الملة الآخرة ملة قريش. الاختلاق الكذب" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد في قوله: "ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة" قال: ملة قريش {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} كذب وأخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "الملة الآخرة" قال النصرانية. وعن السدي نحوه. وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن الكلبي، قال وقال قتادة: دينهم الذي هم عليه قوله: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} ، يعني قريشا "سقط لفظ: "قوله:"لغير أبي ذر، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} قال قريش، وقوله جند خبر مبتدأ محذوف أي هم، وما مزيدة أو صفة لجند وهنالك مشار به إلى مكان المراجعة، ومهزوم صفة لجند أي سيهزمون بذلك المكان، وهو من الإخبار بالغيب لأنهم هزموا بعد ذلك بمكة، لكن يعكر على هذا ما أخرجه الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال: وعده الله وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويلها ببدر، فعلى هذا فهنالك ظرف للمراجعة فقط ومكان الهزيمة لم يذكر. قوله: "الأسباب طرق السماء في أبوابها" وصله الفريابي من طريق بلفظ: "طرق السماء أبوابها" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الأسباب هي أبواب السماء. وقال أبو عبيدة: العرب تقول للرجل إذا كان ذا دين ارتقى فلان في الأسباب. قوله: "أولئك الأحزاب: القرون الماضية" وصله الفريابي عن مجاهد. قوله: "فواق رجوع" وصله الفريابي من طريق مجاهد مثله. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ليس لها مثنوية وهي بمعنى قول مجاهد. وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي ما لها من فواق يقول ليس لهم إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا. وقال أبو عبيدة من فتحها أي الفاء قال ما لها من راحة، ومن ضمها جعلها من فواقي ناقة وهو ما بين الحلبتين، والذي قرأ بضم الفاء حمزة والكسائي والباقون بفتحها. وقال قوم: المعنى بالفتح وبالضم واحد مثل قصاص الشعر يقال بضم القاف وبفتحها. قوله: {قِطَّنَا} عذابنا وصله الفريابي من طريق مجاهد أيضا، ولا منافاة بينه وبين ما تقدم فإنه محمول على أن المراد بقولهم قطنا أي نصيبنا من العذاب. وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {قِطَّنَا} قال نصيبنا من العذاب وهو شبيه قولهم {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الآية، وقول الآخرين "ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين" وقد أخرج الطبري

(8/545)


من طريق إسماعيل بن أبي خالد قال قوله قطنا أي رزقنا، ومن طريق سعيد بن جبير قال نصيبنا من الجنة، ومن طريق السدي نحوه. ثم قال وأولي الأقوال بالصواب أنهم سألوا تعجيل كتبهم بنصيبهم من الخير أو الشر الذي وعد الله عباده في الآخرة أن يعجل لهم ذلك في الدنيا استهزاء منهم وعنادا. قوله: "الصافنات صفن الفرس إلخ" وقوله الجياد السراع وقوله {جَسَداً} شيطانا وقوله رخاء الرخاء الطيب وقوله حيث أصاب حيث شاء وقوله فامتن أعط وقوله بغير حساب بغير حرج ثبت هذا كله للنسفي هنا وسقط للباقين وقد تقدم جميعه في ترجمة سليمان بن داود عليهما السلام من أحاديث الأنبياء. قوله: "اتخذناهم سخريا أحطنا بهم" قال الدمياطي في حواشيه لعله أحطناهم، وتلقاه عن عياض فإنه قال أحطنا بهم كذا وقع ولعله أحطناهم وحذف مع ذلك القول الذي هذا تفسيره وهو أم زاغت عنهم الأبصار انتهى وقد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق مجاهد بلفظ أخطأناهم أم هم في النار لا نعلم مكانهم. وقال ابن عطية المعنى ليسوا معنا أم هم معنا لكن أبصارنا تميل عنهم. وقال أبو عبيدة من قرأها اتخذناهم أي بهمزة قطع جعلها استفهاما وجعل أم جوابا ومن لم يستفهم فتحها على القطع، ومعنى أم معنى بل ومثله أم أنا خير من هذا الذي هو مهين انتهى والذي قرأها بهمزة وصل أبو عمرو وحمزة والكسائي. قوله: "أتراب أمثال" وصله الفريابي كذلك قال أبو عبيدة الأتراب جمع ترب وهو بكسر أوله من يولد في زمن واحد. وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال أتراب مستويان. قوله: "وقال ابن عباس الأيد القوة في العباد" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله داود ذا الأيد قال القوة، ومن طريق مجاهد قال القوة في الطاعة وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {ذَا الْأَيْدِ} ذا القوة في العبادة. قوله: "الأبصار البصر في أمر الله" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله أولي الأيدي والأبصار قال أولي القوة في العبادة والفقه في الدين. ومن طريق منصور عن مجاهد قال الأبصار العقول.
" تنبيه " : الأبصار وردت في هذه السورة عقب الأيدي لا عقب الأيد لكن في قراءة ابن مسعود أولي الأيد والأبصار من غير ياء فلعل البخاري فسره على هذه القراءة. قوله: {حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} إلى آخره" سقط هذا لأبي ذر وقد تقدم في ترجمة سليمان بن داود من أحاديث الأنبياء. قوله: "الأصفاد الوثاق" سقط هذا أيضا لأبي ذر وقد تقدم في ترجمة سليمان أيضا

(8/546)


2- باب {هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}
4808- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ {رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} قَالَ رَوْحٌ فَرَدَّهُ خَاسِئًا"
قوله: "باب قوله {هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} تقدم شرحه في ترجمة سليمان عليه السلام من أحاديث الأنبياء. قوله: "تفلت على البارحة أو كلمة نحوها" يحتمل أن يكون الشك في لفظ التفلت أو في لفظ البارحة وقد تقدم ذلك في أوائل كتاب الصلاة. قوله: "فذكرت قول أخي سليمان" تقدم الكلام عليه في ترجمة

(8/546)


سليمان من أحاديث الأنبياء. وأما ما أخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال في قوله لا ينبغي لأحد من بعدي لا أسلبه كما سلبته أول مرة، وظاهر حديث الباب يرد عليه وكأن سبب تأويل قتادة هذا هكذا طعن بعض الملاحدة على سليمان ونسبته في هذا إلى الحرص على الاستبداد بنعمة الدنيا وخفي عليه أن ذلك كان بإذن له من الله وأن تلك كانت معجزته كما اختص كل نبي بمعجزة دون غيره والله أعلم. قوله: "قال روح فرده خاسئا" روح هو ابن عبادة أحد رواته وكأن المراد أن هذه الزيادة وقعت في روايته دون رواية رفيقه، وقد ذكرت ما في ذلك من البحث في أوائل كتاب الصلاة وذكرت ما يتعلق برؤية الجن في ترجمة سليمان عليه السلام من أحاديث الأنبياء

(8/547)


3- باب {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ}
حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال ثم دخلنا على عبد الله بن مسعود قال يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين وسأحدثكم عن الدخان إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشا إلى الإسلام فأبطؤوا عليه فقال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف " فأخذتهم سنة فحصت كل شيء حتى أكلوا الميتة والجلود حتى جعل الرجل يري بينه وبين السماء دخانا من الجوع قال الله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال فدعوا {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ َنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ أفيكشف العذاب يوم القيامة} قال فكشف ثم عادوا في كفرهم فأخذهم الله يوم بدر قال الله تعالى: {يوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
"باب قوله {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} ذكر فيه حديث ابن مسعود في قصة الدخان وقد تقدم قريبا في تفسير سورة الروم ويأتي في تفسير الدخان وتقدم ما يتعلق منه بالاستسقاء في بابه

(8/547)


39- سورة الزُّمَرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ} يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} {ذِي عِوَجٍ} لَبْسٍ {وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ} مَثَلٌ لآلِهَتِهِمْ الْبَاطِلِ وَالإِلَهِ الْحَقِّ {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} بِالأَوْثَانِ {خَوَّلْنَا} أَعْطَيْنَا {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} الْقُرْآنُ {وَصَدَّقَ بِهِ} الْمُؤْمِنُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ وَقَالَ غَيْرُهُ {مُتَشَاكِسُونَ}

(8/547)


1- باب {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
4810- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ يَعْلَى إِنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ} وَنَزَلَتْ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} "
قوله باب قوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية" ذكر فيه حديث ابن

(8/549)


عباس "أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا" . قوله: "أن ابن جريج أخبرهم، قال يعلى" أي: قال قال يعلى - و "قال:"تسقط خطأ وتثبت لفظا، ويعلى هذا هو ابن مسلم كما وقع عند مسلم من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج في هذا الحديث بعينه بلفظ: "أخبرني مسلم بن يعلى صلى الله عليه وسلم 0 وأخرجه أبو داود والنسائي من رواية حجاج هذا لكن وقع عندهما "عن يعلى" غير منسوب كما وقع عند البخاري. وزعم بعض الشراح أنه وقع عند أبي داود فيه: "يعلى بن حكيم" ولم أر ذلك في شيء من نسخه، وليس في البخاري من رواية يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس سوى حديث واحد وهو من رواية غير ابن جريج عن يعلى والله أعلم. ويعلى بن مسلم بصري الأصل سكن مكة مشهور بالرواية عن سعيد بن جبير وبرواية ابن جبير عنه، وقد روى يعلى بن حكيم أيضا عن سعيد بن جبير وروى عنه ابن جريج، ولكن ليس هو المراد هنا. قوله: "لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة" في رواية الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس أن السائل عن ذلك هو وحشي بن حرب قاتل حمزة وأنه لما قال ذلك نزلت: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} الآية فقال: هذا شرط شديد، فنزلت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ} الآية. وروى ابن إسحاق في "السيرة" قال: حدثني نافع عن ابن عمر عن عمر قال: "اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص أن نهاجر إلى المدينة" فذكر الحديث في قصتهم ورجوع رفيقه فنزلت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية قال فكتبت بها إلى هشام. قوله: "ونزل قل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} في رواية الطبراني" فقال الناس يا رسول الله إنا أصبنا ما أصاب وحشي، فقال هي للمسلمين عامة" وروى أحمد والطبراني في "الأوسط" من حديث ثوبان قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أحب أن لي بهذه الآية الدنيا وما فيها {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهمْ} الآية. فقال رجل: ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال: ومن أشرك ثلاث مرات" واستدل بعموم هذه الآية على غفران جميع الذنوب كبيرها وصغيرها سواء تعلقت بحق الآدميين أم لا، والمشهور عند أهل السنة أن الذنوب كلها تغفر بالتوبة، وأنها تغفر لمن شاء الله ولو مات على غير توبة، لكن حقوق الآدميين إذا تاب صاحبها من العود إلى شيء من ذلك تنفعه التوبة من العود، وأما خصوص ما وقع منه فلا بد له من رده لصاحبه أو محاللته منه. نعم في سعة فضل الله ما يمكن أن يعرض صاحب الحق عن حقه ولا يعذب العاصي بذلك، ويرشد إليه عموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} والله أعلم
ـــــــ
(1) لعله يعلى بن مسلم

(8/550)


2- باب {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
4811- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "جَاءَ حَبْرٌ مِنْ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ وَسَائِرَ الْخَلاَئِقِ عَلَى إِصْبَعٍ فَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ

(8/550)


قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} "
[الحديث 4811- طرفه في: 7414، 7415، 7451، 7513]
قوله: "باب قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ذكر فيه حديث عبد الله وهو ابن مسعود" قال جاء حبر" بفتح المهملة وبكسرها أيضا، ولم أقف على اسمه. قوله: "إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع الحديث" يأتي شرحه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى، قال ابن التين: تكلف الخطابي في تأويل الإصبع وبالغ حتى جعل ضحكه صلى الله عليه وسلم تعجبا وإنكارا لما قال الحبر، ورد ما وقع في الرواية الأخرى "فضحك صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا" بأنه على قدر ما فهم الراوي. قال النووي: وظاهر السياق أنه ضحك تصديقا له بدليل قراءته الآية التي تدل على صدق ما قال الحبر، والأولى في هذه الأشياء الكف عن التأويل مع اعتقاد التنزيه، فإن كل ما يستلزم النقص من ظاهرها غير مراد. وقال ابن فورك: يحتمل أن يكون المراد بالإصبع إصبع بعض المخلوقات، وما ورد في بعض طرقه: "أصابع الرحمن" يدل على القدرة والملك. قوله: "حتى بدت نواجذه" أي أنيابه، وليس ذلك منافيا للحديث الآخر أن ضحكه كان تبسما كما سيأتي في تفسير الأحقاف

(8/551)


باب {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه}
...
3- باب {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}
4812- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْض"
قوله: "باب قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} لما وقع ذكر الأرض مفردا حسن تأكيده، بقوله: "جميعا" إشارة إلى أن المراد جميع الأراضي. حديث أبي هريرة "يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض" ؟ وسيأتي شرحه أيضا مستوفي في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى

(8/551)


باب {ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون}
...
4- باب {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}
4813- حَدَّثَنِي الْحَسَنُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِّي أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى مُتَعَلِّقٌ بِالْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَكَذَلِكَ كَانَ أَمْ بَعْدَ النَّفْخَة"
4814- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ قَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَالَ أَبَيْتُ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَبَيْتُ قَالَ أَرْبَعُونَ شَهْرًا قَالَ أَبَيْتُ وَيَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الإِنْسَانِ إِلاَّ عَجْبَ ذَنَبِهِ فِيهِ

(8/551)


40- سُورَةُ الْمُؤْمِنِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَجَازُهَا مَجَازُ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَيُقَالُ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِقَوْلِ شُرَيْحِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الْعَبْسِيِّ:
يُذَكِّرُنِي حاميم وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلاَ تَلاَ حاميم قَبْلَ التَّقَدُّمِ
الطَّوْلِ التَّفَضُّلُ دَاخِرِينَ خَاضِعِينَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {إِلَى النَّجَاةِ} الإِيمَانُ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ يَعْنِي الْوَثَنَ {يُسْجَرُونَ} تُوقَدُ بِهِمْ النَّارُ {تَمْرَحُونَ} تَبْطَرُونَ وَكَانَ الْعَلاَءُ بْنُ زِيَادٍ يُذَكِّرُ النَّارَ فَقَالَ رَجُلٌ لِمَ تُقَنِّطْ النَّاسَ قَالَ وَأَنَا أَقْدِرُ أَنْ أُقَنِّطَ النَّاسَ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} وَيَقُولُ {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} وَلَكِنَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ تُبَشَّرُوا بِالْجَنَّةِ عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِكُمْ وَإِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَمُنْذِرًا بِالنَّارِ مَنْ عَصَاه"
4815- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ

(8/553)


عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُم} "
قوله: "سورة المؤمن. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال مجاهد: حم مجازها مجاز أوائل السور" ويقال بل هو اسم، لقول شريح بن أبي أوفى العبسي:
يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
ووقع في رواية أبي ذر: وقال البخاري "ويقال إلخ" وهذا الكلام لأبي عبيدة في "مجاز القرآن" ولفظه: حم مجازها مجاز أوائل السور. وقال بعضهم بل هو اسم، وهو يطلق المجاز ويريد به التأويل أي تأويل حم تأويل أوائل السور، أي أن الكل في الحكم واحد، فمهما قيل مثلا في ألم يقال مثله في حم. وقد اختلف في هذه الحروف المقطعة التي في أوائل السور على أكثر من ثلاثين قولا ليس هذا موضع بسطها. وأخرج الطبري من طريق الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الم، وحم، والمص، وص: فواتح افتتح بها. وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد قال: فواتح السور كلها ق وص وطسم وغيرها هجاء مقطوع. والإسناد الأول أصح. وأما قوله: "ويقال بل هو اسم" فوصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: حم اسم من أسماء القرآن. وقال ابن التين: لعله يريد على قراءة عيسى بن عمر بفتح الحاء والميم الثانية من ميم، ويحتمل أن يكون عيسى فتح لالتقاء الساكنين. قلت: والشاهد الذي أنشد يوافق قراءة عيسى. وقال الطبري: الصواب من القراءة عندنا في جميع حروف فواتح السور السكون لأنها حروف هجاء لا أسماء مسميات. وروى ابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "ص" وأشباهها قسم، أقسم الله بها، وهو من أسماء الله. وشريح بن أبي أوفى الذي نسب إليه البيت المذكور وقع في رواية القابسي شريح ابن أبي أوفى وهو خطأ. ولفظ أبي عبيدة "وقال بعضهم بل هو اسم، واحتجوا بقول شريح بن أبي أوفى العبسي" فذكر البيت. وروى هذه القصة عمر بن شبه في "كتاب الجمل" له من طريق داود بن أبي هند قال: كان على محمد بن طلحة بن عبيد الله يوم الجمل عمامة سوداء، فقال علي: لا تقتلوا صاحب العمامة السوداء، فإنما أخرجه بره بأبيه، فلقيه شرخ بن أبي أوفى فأهوى له بالرمح فتلاحم فقتله. وحكى أيضا عن ابن إسحاق أن الشعر المذكور للأشتر النخعي. وقال وهو الذي قتل محمد بن طلحة. وذكر أبو مخنف أنه لمدلج بن كعب السعدي ويقال كعب بن مدلج، وذكر الزبير بن بكار أن الأكثر على أن الذي قتله عصام بن مقشعر، قال المرزباني: هو الثبت. وأنشد له البيت المذكور وأوله:
وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخر صريعا لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعا ... عليا، ومن لا يتبع الحق يندم
يذكرني حم البيت. ويقال إن الشعر لشداد بن معاوية العبسي، ويقال اسمه حديد من بني أسد بن خزيمة حكاه

(8/554)


الزبير، وقيل عبد الله بن معكبر، وذكر الحسن بن المظفر النيسابوري في. "كتاب مأدبة الأدباء" قال: كان شعار أصحاب علي يوم الجمل حم، وكان شريح بن أبي أوفى مع علي، فلما طعن شريح محمدا قال حم، فأنشد "شريح الشعر. قال: وقيل بل قال محمد لما طعنه شريح" أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله "فهذا معنى قوله: "يذكرني حم" أي بتلاوة الآية المذكورة لأنها من حم.
" تكملة " : حم جمع على حواميم قال أبو عبيدة على غير قياس. وقال الفراء ليس هذا الجمع من كلام العرب. ويقال كأن مراد محمد بن طلحة بقوله أذكرك حم أي قوله تعالى في حم عسق {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} الآية، كأنه يذكره بقرابته ليكون ذلك دافعا له عن قتله. قوله: "الطول التفضل" هو قول أبي عبيدة وزاد تقول العرب للرجل إنه لذو طول على قومه أي ذو فضل عليهم، وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "ذي الطول" قال: ذي السعة والغنى، ومن طريق عكرمة قال: ذي المنن، ومن طريق قتادة قال: ذي النعماء. قوله: "داخرين خاضعين" هو قول أبي عبيدة، وروى الطبري من طريق السدي في قوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين. قوله: "وقال مجاهد إلى النجاة إلى الإيمان" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا. قوله: "ليس له دعوة يعني الوثن" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد بلفظ الأوثان. قوله: "يسجرون توقد بهم النار" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد بهذا. قوله: "تمرحون تبطرون" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ يبطرون ويأشرون. قوله: "وكان العلاء بن زياد يذكر النار" هو بتشديد الكاف أي يذكر الناس النار أي يخوفهم بها. قوله: "فقال رجل" لم أقف على اسمه. قوله: "لم" بكسر اللام للاستفهام "تقنط" بتشديد النون، وأراد بذكر هذه الآية الإشارة إلى الآية الأخرى "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا" فنهاهم عن القنوط من رحمته مع قوله: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} استدعاء منهم الرجوع عن الإسراف والمبادرة إلى التوبة قبل الموت. وأبو العلاء هذا هو العلاء بن زياد البصري تابعي زاهد قليل الحديث، وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، ومات قديما سنة أربع وتسعين. حديث عروة بن الزبير "قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد ما صنعه المشركون" وقد تقدم شرحه في أوائل السيرة النبوية

(8/555)


41- سورة حم السَّجْدَةِ
وَقَالَ طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أَعْطِيَا {قَالَتَا} أَتَيْنَا طَائِعِينَ أَعْطَيْنَا وَقَالَ الْمِنْهَالُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ {أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا} إِلَى قَوْلِهِ {دَحَاهَا} فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الأَرْضِ ثُمَّ قَالَ {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ {طَائِعِينَ} فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَقَالَ {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} {عَزِيزًا حَكِيمًا}{سَمِيعًا بَصِيرًا} فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى فَقَالَ {فَلاَ

(8/555)


أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} فِي النَّفْخَةِ الأُولَى ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ {أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} وَأَمَّا قَوْلُهُ {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ} حَدِيثًا فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لأَهْلِ الإِخْلاَصِ ذُنُوبَهُمْ وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُولُ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ فَخُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّهَ لاَ يُكْتَمُ حَدِيثًا وَعِنْدَهُ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآيَةَ وَخَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحَا الأَرْضَ وَدَحْوُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْجِمَالَ وَالآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ {دَحَاهَا} وَقَوْلُهُ {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} فَجُعِلَتْ الأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَخُلِقَتْ السَّمَوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئاً إِلاَّ أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ فَلاَ يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ فَإِنَّ كُلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ الْمِنْهَالِ بِهَذَا وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} مَحْسُوبٍ أَقْوَاتَهَا أَرْزَاقَهَا فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا مِمَّا أَمَرَ بِهِ {نَحِسَاتٍ} مَشَائِيمَ {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} قَرَنَّاهُمْ بِهِمْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ اهْتَزَّتْ بِالنَّبَاتِ وَرَبَتْ ارْتَفَعَتْ مِنْ أَكْمَامِهَا حِينَ تَطْلُعُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي أَيْ بِعَمَلِي أَنَا مَحْقُوقٌ بِهَذَا وَقَالَ غَيْرُهُ {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} قَدَّرَهَا سَوَاءً فَهَدَيْنَاهُمْ دَلَلْنَاهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَقَوْلِهِ {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} وَكَقَوْلِهِ {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} وَالْهُدَى الَّذِي هُوَ الإِرْشَادُ بِمَنْزِلَةِ أَصْعَدْنَاهُ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} يُوزَعُونَ يُكَفُّونَ مِنْ أَكْمَامِهَا قِشْرُ الْكُفُرَّى هِيَ الْكُمُّ وَقَالَ غَيْرُهُ وَيُقَالُ لِلْعِنَبِ إِذَا خَرَجَ أَيْضًا كَافُورٌ وَكُفُرَّى وَلِيٌّ حَمِيمٌ الْقَرِيبُ مِنْ مَحِيصٍ حَاصَ عَنْهُ أَيْ حَادَ مِرْيَةٍ وَمُرْيَةٌ وَاحِدٌ أَيْ امْتِرَاءٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} هِيَ وَعِيدٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الصَّبْرُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَالْعَفْوُ عِنْدَ الإِسَاءَةِ فَإِذَا فَعَلُوهُ عَصَمَهُمْ اللَّهُ وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}
قوله: "سورة حم السجدة. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال طاوس عن ابن عباس {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}"أعطينا وصله الطبري وابن أبي حاتم بإسناد على شرط البخاري في الصحة، ولفظ الطبري في قوله: "ائتيا" قال أعطيا وفي قوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا} قالتا أعطينا. وقال عياض: ليس أتي هنا بمعنى أعطى، وإنما هو من الإتيان وهو المجيء بمعنى الانفعال للوجود، بدليل الآية نفسها. وبهذا فسره المفسرون أن معناه جيئا بما خلقت فيكما وأظهراه، قالتا أجبنا. وروي ذلك عن ابن عباس قال وقد روي عن سعيد بن جبير نحو ما ذكره المصنف، ولكنه يخرج على تقريب المعنى أنهما لما أمرتا بإخراج

(8/556)


ما فيهما من شمس وقمر ونهر ونبات وغير ذلك وأجابتا إلى ذلك كان كالإعطاء، فعبر بالإعطاء عن المجيء بما أودعتاه. قلت. فإذا كان موجها وثبتت به الرواية فأي معنى لإنكاره عن ابن عباس، وكأنه لما رأى عن ابن عباس أنه فسره بمعنى المجيء نفى أن يثبت عنه أنه فسره بالمعنى الآخر، وهذا عجيب، فما المانع أن يكون له في الشيء قولان بل أكثر، وقد روى الطبري من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله عز وجل للسماوات اطلعي الشمس والقمر والنجوم. وقال للأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك، قالتا أتينا طائعين. وقال ابن التين: لعل ابن عباس قرأها آتينا بالمد ففسرها على ذلك. قلت: وقد صرح أهل العلم بالقراآت أنها قراءته، وبها قرأ صاحباه مجاهد وسعيد بن جبير. وقال السهيلي في أماليه: قيل إن البخاري وقع له في أي من القرآن وهم، فإن كان هذا منها وإلا فهي قراءة بلغته، وجهه أعطيا الطاعة كما يقال فلان يعطى الطاعة لفلان، قال: وقد قرئ {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا} بالمد والقصر، والفتنة ضد الطاعة. وإذا جاز في إحداهما جاز في الأخرى انتهى وجوز بعض المفسرين أن آتينا بالمد بمعنى الموافقة، وبه جزم الزمخشري. فعلى هذا يكون المحذوف مفعولا واحدا والتقدير: لتوافق كل منكما الأخرى، قالتا توافقنا. وعلى الأول يكون قد حذف مفعولان والتقدير: أعطيا من أمركما الطاعة من أنفسكما قالتا أعطيناه الطاعة. وهو أرجح لثبوته صريحا عن ترجمان القرآن. قوله: "قالتا" قال ابن عطية أراد الفرقتين المذكورتين جعل السماوات سماء والأرضين أرضا. ثم ذكر لذلك شاهدا. وهي غفلة منه، فإنه لم يتقدم قبل ذلك إلا لفظ سماء مفرد ولفظ أرض مفرد، نعم قوله طائعين عبر بالجمع بالنظر إلى تعدد كل منهما، وعبر بلفظ جمع المذكر من العقلاء لكونهم عوملوا معاملة العقلاء في الإخبار عنهم، وهو مثل {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} . قوله: "وقال المنهال" هو ابن عمرو الأسدي مولاهم الكوفي، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في قصة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، وهو صدوق من طبقة الأعمش، وثقه ابن معين والنسائي والعجلي وغيرهم، وتركه شعبة لأمر لا يوجب فيه قدحا كما بينته في المقدمة، وهذا التعليق قد وصله المصنف بعد فراغه من سياق الحديث كما سأذكره. قوله: "عن سعيد" هو ابن جبير، وصرح به الأصيلي في روايته وكذا النسفي. قوله: "قال رجل لابن عباس" كأن هذا الرجل هو نافع بن الأزرق الذي صار بعد ذلك رأس الأزارقة من الخوارج وكان يجالس ابن عباس بمكة ويسأله ويعارضه، ومن جملة ما وقع سؤاله عنه صريحا ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة قال: "سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} {فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} "وقوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} - {وهاؤم اقرءوا كتابيه} "الحديث بهذه القصة حسب، وهي إحدى القصص المسئول عنها في حديث الباب. وروى الطبراني من حديث الضحاك بن مزاحم قال: "قدم نافع بن الأزرق ونجدة بن عويمر في نفر من رءوس الخوارج مكة" فإذا هم بابن عباس قاعدا قريبا من زمزم والناس قياما يسألونه، فقال له نافع بن الأزرق: أتيتك لأسألك، فسأله عن أشياء كثيرة من التفسير، ساقها في ورقتين. وأخرج الطبري من هذا الوجه بعض القصة ولفظه: "أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال: قول الله {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} و قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فقال: أني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت لهم أين ابن عباس فألقي عليه متشابه القرآن؟ فأخبرهم أن الله تعالى إذا جمع الناس يوم القيامة قال المشركون: إن الله لا يقبل إلا من وحده، فيسألهم فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين،

(8/557)


قال فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم" انتهى وهذه القصة إحدى ما ورد في حديث الباب، فالظاهر أنه المبهم فيه. قوله: "إني أجد في القرآن أشياء تختلف على" أي تشكل وتضطرب، لأن بين ظواهرها تدافعا. زاد عبد الرزاق في رواية عن معمر عن رجل عن المنهال بسنده "فقال ابن عباس: ما هو، أشك في القرآن؟ قال: ليس بشك ولكنه اختلاف، فقال: هات ما اختلف عليك من ذلك، قال: أسمع الله يقول. وحاصل ما وقع السؤال في حديث الباب أربعة مواضع: الأول نفي المسائلة يوم القيامة وإثباتها، الثاني كتمان المشركين حالهم وإفشاؤه، الثالث خلق السماوات والأرض أيهما تقدم، الرابع الإتيان بحرف "كان" الدال على الماضي مع أن الصفة لازمة. وحاصل جواب ابن عباس عن الأول أن نفي المسائلة فيما قبل النفخة الثانية وإثباتها فيما بعد ذلك، وعن الثاني أنهم يكتمون بألسنتهم فتنطق أيديهم وجوارحهم، وعن الثالث أنه بدأ خلق الأرض في يومين غير مدحوة ثم خلق السماء فسواها في يومين ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين فتلك أربعة أيام للأرض، فهذا الذي جمع به ابن عباس بين قوله تعالى في هذه الآية وبين قوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} هو المعتمد، وأما ما أخرجه عبد الرزاق من طريق أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس رفعه قال: "خلق الله الأرض في يوم الأحد وفي يوم الاثنين، وخلق الجبال وشقق الأنهار وقدر في كل أرض قوتها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، ثم استوى إلى السماء وهي دخان وتلا الآية إلى قوله: {فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} قال في يوم الخميس ويوم الجمعة الحديث، فهو ضعيف لضعف أبي سعيد وهو البقال، وعن الرابع بأن "كان" وإن كانت للماضي لكنها لا تستلزم الانقطاع؛ بل المراد أنه لم يزل كذلك، فأما الأول فقد جاء فيه تفسر آخر أن نفي المساءلة عند تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباتها فيما عدا ذلك، وهذا منقول عن السدي أخرجه الطبري، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن نفي المساءلة عند النفخة الأولى وإثباتها بعد النفخة الثانية، وقد تأول ابن مسعود نفي المساءلة على معنى آخر وهو طلب بعضهم من بعض العفو، فأخرج الطبري من طريق زاذان قال: "أتيت ابن مسعود فقال: يؤخذ بيد العبد يوم القيامة فينادي: ألا إن هذا فلان ابن فلان، فمن كان له حق قبله فليأت، قال فتود المرأة يومئذ أن يثبت لها حق على أبيها أو ابنها أو أخيها أو زوجها، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" . ومن طريق أخرى قال: "لا يسأل أحد يومئذ بنسب شيئا ولا يتساءلون به ولا يمت برحم، وأما الثاني فقد تقدم بسطه من وجه آخر عند الطبري، والآية الأخرى التي ذكرها ابن عباس وهي قوله: {اللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فقد ورد ما يؤيده من حديث أبي هريرة أخرجه مسلم أثناء حديث وفيه: "ثم يلقى الثالث فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك ويثنى ما استطاع، فيقول: الآن نبعث شاهدا عليك، فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه وتنطق جوارحه" وأما الثابت فأجيب بأجوبة أيضا منها أن "ثم" بمعنى الواو فلا إيراد، وقيل المراد ترتيب الخبر لا المخبر به كقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية، وقيل على بابها لكن ثم لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في الزمان، وقيل خلق بمعنى قدر. وأما الرابع وجواب ابن عباس عنه فيحتمل كلامه أنه أراد أنه سمي نفسه غفورا رحيما، وهذه التسمية مضت لأن التعلق انقضى، وأما الصفتان فلا يزالان كذلك لا ينقطعان لأنه تعالى إذا أراد المغفرة أو الرحمة في الحال أو الاستقبال وقع مراده، قاله الكرماني. قال: ويحتمل أن يكون ابن عباس أجاب بجوابين أحدهما أن التسمية هي التي كانت وانتهت والصفة لا نهاية لها، والآخر أن معنى

(8/558)


"كان" الدوام فإنه لا يزال كذلك. ويحتمل أن يحمل السؤال على مسلكين والجواب على رفعهما كأن يقال: هذا اللفظ مشعر بأنه في الزمان الماضي كان غفورا رحيما مع أنه لم يكن هناك من يغفر له أو يرحم، وبأنه ليس في الحال كذلك لما يشعر به لفظ كان، والجواب عن الأول بأنه كان في الماضي يسمى به، وعن الثاني بأن كان تعطى معنى الدوام، وقد قال النحاة. كان لثبوت خبرها ماضيا دائما أو منقطعا. قوله: "فلا يختلف" بالجزم للنهي، وقد وقع في رواية ابن أبي حاتم من طريق مطرف عن المنهال بن عمرو وفي آخره: "قال فقال له ابن عباس: هل بقي في قلبك شيء؟ إنه ليس من القرآن شيء إلا نزل فيه شيء، ولكن لا تعلمون وجهه".
" تنبيه " : وقع في السياق " و السَّمَاءُ بَنَاهَا" والتلاوة {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} كذا زعم بعض الشراح، والذي في الأصل من رواية أبي ذر "والسماء وما بناها" وهو على وفق التلاوة، لكن قوله بعد ذلك "إلى قوله:{دحاها} يدل على أن المراد الآية التي فيها {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} . قوله: "حدثنيه يوسف بن عدي" أي ابن أبي زريق التيمي الكوفي نزيل مصر، وهو أخو زكريا بن عدي، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث. وقد وقع في رواية القابسي "حدثنيه عن يوسف" بزيادة "عن" وهي غلط. وسقط قوله: "وحدثنيه إلخ" من رواية النسفي، وكذا من رواية أبي نعيم عن الجرجاني عن الفربري، وثبت ذلك عند جمهور الرواة عن الفربري، لكن ذكر البرقاني في "المصافحة" بعد أن أخرج الحديث من طريق محمد ابن إبراهيم البوشنجي "حدثنا أبو يعقوب يوسف بن عدي" فساقه بتمامه قال: "وقال لي محمد بن إبراهيم الأردستاني قال: شاهدت نسخة من كتاب البخاري في هامشها" حدثنيه محمد بن إبراهيم حدثنا يوسف بن عدي "قال البرقاني: ويحتمل أن يكون هذا من صنيع من سمعه من البوشنجي فإن اسمه محمد بن إبراهيم، قال: ولم يخرج البخاري ليوسف ولا لعبيد الله بن عمرو ولا لزيد بن أبي أنيسة حديثا مسندا سواه، وفي مغايرة البخاري سياق الإسناد عن ترتيبه المعهود إشارة إلى أنه ليس على شرطه وإن صارت صورته صورة الموصول، وقد صرح ابن خزيمة في صحيحه بهذا الاصطلاح وأن ما يورده بهذه الكيفية ليس على شرط صحيحه وخرج على من يغير هذه الصيغة المصطلح عليها إذا أخرج منه شيئا على هذه الكيفية. فزعم بعض الشراح أن البخاري سمعه أولا مرسلا وآخرا مسندا فنقله كما سمعه، وهذا بعيد جدا، وقد وجدت للحديث طريقا أخرى أخرجها الطبري من رواية مطرف من طريق عن المنهال بن عمرو بتمامه، فشيخ معمر المبهم يحتمل أن يكون مطرفا أو زيد بن أبي أنيسة أو ثالثا. قوله: "وقال مجاهد لهم أجر غير ممنون: محسوب" سقط هذا من رواية النسفي، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد به، وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال: غير منقوص، وهو بمعنى قول مجاهد محسوب، والمراد أنه يحسب فيحصى فلا ينقص منه شيء. قوله: "أقواتها أرزاقها" أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الحسن بلفظ: "قال وقال قتادة جبالها وأنهارها ودوابها وثمارها" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} قال: من المطر. وقال أبو عبيدة: أقواتها واحدها قوت وهي الأرزاق. قوله: "في كل سماء أمرها مما أمر به" وصله الفريابي بلفظ: "مما أمر به وأراده" أي من خلق الرجوم والنيرات وغير ذلك. قوله: "نحسات مشائيم" وصله الفريابي من طريق مجاهد به. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "ريحا صرصرا: باردة. نحسات: مشومات" وقال أبو عبيدة: الصرصر هي الشديدة الصوت العاصفة، نحسات: ذوات نحوس أي مشائيم. قوله: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} تتنزل عليهم الملائكة عند الموت "كذا في رواية أبي ذر والنسفي وطائفة، وعند

(8/559)


الأصيلي: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} قرناهم بهم تتنزل عليهم الملائكة عند الموت" وهذا هو وجه الكلام وصوابه، وليس تتنزل عليهم تفسيرا لقيضنا. وقد أخرج الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} قال شياطين. وفي قوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} قال عند الموت "وكذلك أخرجه الطبري مفرقا في موضعيه، ومن طريق السدي قال: تتنزل عليهم الملائكة عند الموت، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تتنزل عليهم الملائكة وذلك في الآخرة. قلت: ويحتمل الجمع بين التأويلين فإن حالة الموت أول أحوال الآخرة في حق الميت، والحاصل من التأويلين أنه ليس المراد تتنزل عليهم في حال تصرفهم في الدنيا. د قوله: "اهتزت بالنبات، وربت ارتفعت من أكمامها حين تطلع" كذا لأبي ذر والنسفي. وفي رواية غيرهما إلى قوله: "ارتفعت" وهذا هو الصواب، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد إلى قوله: "ارتفعت" وزاد: "قبل أن تنبت" . قوله: "ليقولن هذا لي أي بعلمي أنا محقوق بهذا" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا ولكن لفظه: "بعملي" بتقديم المهم على اللام وهو الأشبه، واللام في ليقولن جواب القسم، وأما جواب الشرط فمحذوف، وأبعد من قال اللام جواب الشرط والفاء محذوفة منه لأن ذلك شاذ مختلف في جوازه في الشعر، ويحتمل أن يكون قوله: "هذا لي" أي لا يزول عني. قوله: "وقال غيره سواء للسائلين قدرها سواء" سقط "وقال غيره:"لغير أبي ذر والنسفي وهو أشبه، فإنه معنى قول أبي عبيدة. وقال في قوله سواء للسائلين: نصبها على المصدر. وقال الطبري: قرأ الجمهور سواء بالنصب وأبو جعفر بالرفع ويعقوب بالجر، فالنصب على المصدر أو على نعت الأقوات، ومن رفع فعلى القطع، ومن خفض فعلى نعت الأيام أو الأربعة. قوله: "فهديناهم دللناهم على الخير والشر "ك قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} وكقوله: "هديناه السبيل" والهدى الذي هو الإرشاد بمنزلة أسعدناه، ومن ذلك قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . كذا لأبي ذر والأصيلي ولغيرهما: "أصعدناه" بالصاد المهملة، قال السهيلي: هو بالصاد أقرب إلى تفسير أرشدناه من أسعدناه بالسين المهملة، لأنه إذا كان بالسين كان من السعد والسعادة، وأرشدت الرجل إلى الطريق وهديته السبيل بعيد من هذا التفسير، فإذا قلت أصعدناهم بالصاد خرج اللفظ إلى معنى الصعدات في قوله: "إياكم والقعود على الصعدات" وهي الطرق، وكذلك أصعد في الأرض إذا سار فيها على قصد، فإن كان البخاري قصد هذا وكتبها في نسخته بالصاد التفاتا إلى حديث الصعدات فليس بمنكر انتهى. والذي عند البخاري إنما هو بالسين كما وقع عند أكثر الرواة عنه، وهو منقول من "معاني القرآن" قال في قوله تعالى :{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} يقال دللناهم على مذهب الخير ومذهب الشر كقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ثم ساق عن علي في قوله: "وهديناه النجدين" قال: الخير والشر، قال: وكذلك قوله: "إنا هديناه السبيل" قال: والهدى على وجه آخر وهو الإرشاد، ومثله قولك أسعدناه من ذلك {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} في كثير من القرآن. قوله: "يوزعون يكفون" قال أبو عبيدة في قوله: "فهم يوزعون" : أي يدفعون، وهو من وزعت. وأخرج الطبري من طريق السدي في قوله: "فهم يوزعون" قال: عليهم وزعة ترد أولاهم على أخراهم. قوله: "من أكمامها: قشر الكفرى الكم" كذا لأبي ذر، ولغيره هي الكم، زاد الأصيلي: واحدها هو قول الفراء بلفظه. وقال أبو عبيدة في قوله: "من أكمامها" : أي أوعيتها واحدها كمة وهو ما كانت فيه، وكم وكمة واحد، والجمع أكمام، وأكمة. "تنبيه" : كاف الكم مضمومة ككم القميص وعليه يدل كلام أبي عبيدة وبه جزم

(8/560)


الراغب، ووقع في الكشاف بكسر الكاف فإن ثبت فلعلها لغة فيه دون كم القميص. قوله: "وقال غيره: ويقال للعنب إذا خرج أيضا: كافور وكفرى" ثبت هذا في رواية المستملي وحده، والكفرى بضم الكاف وفتح الفاء وبضمها أيضا والراء مثقلة مقصور، وهو وعاء الطالع وقشره الأعلى قاله الأصمعي وغيره، قالوا: ووعاء كل شيء كافوره. وقال الخطابي: قول الأكثرين الكفرى الطلع بما فيه، وعن الخليل أنه الطلع. قوله: "ولي حميم: القريب" كذا للأكثر، وعند النسفي: وقال معمر فذكره، ومعمر هو ابن المثنى أبو عبيدة وهذا كلامه، قال في قوله: {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} قال: ولي قريب. قوله: "من محيص حاص عنه حاد عنه" قال أبو عبيدة في قوله: {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} يقال حاص عنه أي عدل وحاد. وقال في موضع آخر "من محيص" أي من معدل. قوله: "مرية ومرية واحد" أي بكسر الميم وضمها أي امتراء، هو قول أبي عبيدة أيضا، وقراءة الجمهور بالكسر، وقرأ الحسن البصري بالضم. قوله: "وقال مجاهد {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} الوعيد" في رواية الأصيلي هو وعيد، وقد وصله عبد بن حميد من طريق سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} قال: هذا وعيد. وأخرجه عبد الرزاق من وجهين آخرين عن مجاهد. وقال أبو عبيدة: لم يأمرهم بعمل الكفر، وإنما هو توعد. قوله: "وقال ابن عباس {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الصبر عند الغضب والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم" سقط {كأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} من رواية أبي ذر وحده وثبت للباقين، وقد وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة إلخ، ومن طريق عبد الكريم الجزري عن مجاهد {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} : السلام

(8/561)


1- باب {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}
4816- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} الآيَةَ قَالَ كَانَ رَجُلاَنِ مِنْ قُرَيْشٍ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ ثَقِيفَ أَوْ رَجُلاَنِ مِنْ ثَقِيفَ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ قُرَيْشٍ فِي بَيْتٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَتُرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ حَدِيثَنَا قَالَ بَعْضُهُمْ يَسْمَعُ بَعْضَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَئِنْ كَانَ يَسْمَعُ بَعْضَهُ لَقَدْ يَسْمَعُ كُلَّهُ فَأُنْزِلَتْ {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ} الآيَةَ
[الحديث 4816- طرفاه في: 4817، 7521]
قوله باب قوله: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ} الآية قال الطبري: اختلف في معنى قوله: {تَسْتَتِرُونَ} ثم أخرج من طريق السدي قال: تستخفون، ومن طريق مجاهد قال: تتقون، ومن طريق شعبة عن قتادة قال: ما كنتم تظنون أن يشهد عليكم إلخ. قوله: "عن ابن مسعود: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} أي قال في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} . قوله: "كان رجلان من قريش وختن لهما من ثقيف أو رجلان

(8/561)


من ثقيف وختن لهما من قريش" هذا الشك من أبي معمر رواية عن ابن مسعود وهو عبد الله بن سخبرة، وقد أخرجه عبد الرزاق من طريق وهب بن ربيعة عن ابن مسعود بلفظ: "ثقفي وختناه قرشيان" ولم يشك. وأخرج مسلم من طريق وهب هذه ولم يسق لفظها، وأخرجه الترمذي من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود قال: "ثلاثة نفر" ولم ينسبهم، وذكر ابن بشكوال في "المبهمات" من طريق "تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفي" أحد الضعفاء بإسناده عن ابن عباس قال: القرشي الأسود بن عبد يغوث الزهري والثقفيان الأخنس بن شريق والآخر لم يسم، وراجعت التفسير المذكور فوجدته قال في تفسير قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} قال: جلس رجلان عند الكعبة أحدهما من ثقيف وهو الأخنس بن شريق والآخر من قريش وهو الأسود بن عبد يغوث، فذكر الحديث. وفي تنزيل هذا على هذا ما لا يخفى. وذكر الثعلبي وتبعه البغوي أن الثقفي عبد ياليل بن عمرو بن عمير والقرشيان صفوان وربيعة ابنا أمية بن خلف. وذكر إسماعيل بن محمد التيمي في تفسيره أن القرشي صفوان بن أمية والثقفيان ربيعة وحبيب ابنا عمرو، فالله أعلم

(8/562)


2- باب {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ}
4817- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ فَقَالَ أَحَدُهُمْ أَتُرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ قَالَ الْآخَرُ يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلاَ يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا وَقَالَ الآخَرُ إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ} الآيَةَ وَكَانَ سُفْيَانُ يُحَدِّثُنَا بِهَذَا فَيَقُولُ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ أَوْ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَوْ حُمَيْدٌ أَحَدُهُمْ أَوْ اثْنَانِ مِنْهُمْ ثُمَّ ثَبَتَ عَلَى مَنْصُورٍ وَتَرَكَ ذَلِكَ مِرَارًا غَيْرَ مَرَّةٍ وَاحِدَة"
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِنَحْوِه"
قوله: "باب {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} الإشارة في قوله: {وَذَلِكُمْ} لما تقدم من صنيع الاستتار ظنا منهم أنهم يخفى عملهم عند الله. وهو مبتدأ والخبر أرداكم، وظنكم بدل من ذلكم. ثم ذكر فيه الحديث الذي قبله من طريق أخرى. قوله: "اجتمع البيت" أي عند الكعبة. قوله: "كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم" كذا للأكثر بإضافة بطون لشحم وإضافة قلوب لفقه وتنوين كثيرة وقليلة. وفي رواية سعيد بن منصور والترمذي من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود "كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم" وذكره بعض الشراح بلفظ إضافة شحم إلى كثيرة وبطونهم بالرفع على أنه المبتدأ أي بطونهم كثيرة الشحم والآخر مثله وهو محتمل، وقد أخرجه ابن مردويه من وجه آخر بلفظ: "عظيمة بطونهم قليل فقههم" وفيه إشارة إلى أن الفطنة قلما تكون مع البطنة، قال الشافعي: ما رأيت سمينا عاقلا إلا محمد بن الحسن. قوله: "لئن كان يسمع بعضه

(8/562)


لقد سمع كله" أي لأن نسبة جميع المسموعات إليه واحدة فالتخصيص تحكم، وهذا يشعر بأن قائل ذلك كان أفطن أصحابه، وأخلق به أن يكون الأخنس بن شريق لأنه أسلم بعد ذلك، وكذا صفوان بن أمية. قوله: "وكان سفيان يحدثنا بهذا فيقول: حدثنا منصور أو ابن أبي نجيح أو حميد أحدهم أو اثنان منهم، ثم ثبت على منصور وترك ذلك مرارا غير واحدة" هذا كلام الحميدي شيخ البخاري فيه، وقد أخرجه عنه في كتاب التوحيد قال: "حدثنا سفيان حدثنا منصور عن مجاهد" فذكره مختصرا ولم يذكر مع منصور أحدا. وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طرق عن سفيان بن عيينة عن منصور وحده به. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن سعيد القطان. قوله: "حدثنا سفيان" هو الثوري. قوله: "عن منصور" لسفيان فيه إسناد آخر أخرجه مسلم عن أبي بكر بن خلاد عن يحيى القطان عن سفيان الثوري عن سليمان وهو الأعمش عن عمارة بن عمير عن وهب بن ربيعة عن ابن مسعود، وكأن البخاري ترك طريق الأعمش للاختلاف عليه قيل عنه هكذا، وقيل عنه عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود أخرجه الترمذي بالوجهين.

(8/563)


42- سُورَةُ حم عسق
وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {عَقِيمًا} الَّتِي لاَ تَلِدُ {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الْقُرْآنُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} نَسْلٌ بَعْدَ نَسْلٍ {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} لاَ خُصُومَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} ذَلِيلٍ وَقَالَ غَيْرُهُ {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} يَتَحَرَّكْنَ وَلاَ يَجْرِينَ فِي الْبَحْرِ {شَرَعُوا} ابْتَدَعُوا
قوله: "سورة حم عسق. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "ويذكر عن ابن عباس عقيما التي لا تلد" وصله ابن أبي حاتم والطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بلفظ {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} قال: لا يلقح. وذكره باللفظ المعلق بلفظ جويبر عن الضحاك عن ابن عباس وفيه ضعف وانقطاع، فكأنه لم يجزم به لذلك. قوله: " {رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} : القرآن" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بهذا، وروى الطبري من طريق السدي قال في قوله: { رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} قال: وحيا. ومن طريق قتادة عن الحسن في قوله: "روحا من أمرنا" قال: رحمة. قوله: "وقال مجاهد يذرؤكم فيه نسل بعد نسل" وصله الفريابي من طريق مجاهد في قوله: "يذرؤكم فيه" قال نسلا بعد نسل من الناس والأنعام، وروى الطبري من طريق السدي في قوله: "يذرؤكم" قال: يخلقكم. قوله: {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} لا خصومة بيننا وبينكم، وصله الفريابي عن مجاهد بهذا، وروى الطبري من طريق السدي في قوله: {جَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال: هم أهل الكتاب قالوا للمسلمين: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم. قوله: "{مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}: ذليل" وصله الفريابي عن مجاهد بهذا، وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله، ومن طريق قتادة ومن طريق السدي في قوله: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} قال: يسارقون النظر، وتفسير مجاهد هو بلازم هذا. قوله: "شرعوا ابتدعوا" هو قول أبي عبيدة. قوله: " {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} : يتحركن ولا يجرين في البحر" وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال سفن هذا البحر تجري بالريح فإذا أمسكت عنها الريح ركدت، وقوله: يتحركن أي يضربن بالأمواج، ولا يجرين في البحر بسكون الريح، وبهذا التقرير يندفع اعتراض من زعم أن "لا" سقطت في قوله: "يتحركن"

(8/563)


قال: لأنهم فسروا {رَوَاكِدَ} بسواكن، وتفسير {رَوَاكِدَ} بسواكن قول أبي عبيدة، ولكن السكون والحركة في هذا أمر نسبي

(8/564)


1- بَاب {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}
4818- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ طَاوُسًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَجِلْتَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلاَّ كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ فَقَالَ إِلاَّ أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ الْقَرَابَةِ
حديث طاوس "عن ابن عباس سئل عن تفسيرها، فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عجلت" أي أسرعت في التفسير. وهذا الذي جزم به سعيد بن جبير قد جاء عنه من روايته عن ابن عباس مرفوعا فأخرج الطبري وابن أبي حاتم من طريق قيس بن الربيع عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت قالوا يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ الحديث، وإسناده ضعيف، وهو ساقط لمخالفته هذا الحديث الصحيح. والمعنى إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني، والخطاب لقريش خاصة، والقربى قرابة العصوبة والرحم، فكأنه قال احفظوا للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة. ثم ذكر ما تقدم عن عكرمة في سبب نزول (1) وقد جزم بهذا التفسير جماعة من المفسرين واستندوا إلى ما ذكرته عن ابن عباس من الطبراني وابن أبي حاتم، وإسناده واه فيه ضعيف ورافضي. وذكر الزمخشري هنا أحاديث ظاهر وضعها، ورده الزجاج بما صح عن ابن عباس من رواية طاوس في حديث الباب، وبما نقله الشعبي عنه، وهو المعتمد. وجزم بأن الاستثناء منقطع. وفي سبب نزولها قول آخر ذكره الواحدي عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت تنوبه نوائب وليس بيده شيء، فجمع له الأنصار مالا فقالوا: يا رسول الله إنك ابن أختنا، وقد هدانا الله بك، وتنوبك النوائب وحقوق وليس لك سعة، فجمعنا لك من أموالنا ما تستعين به علينا، فنزلت. وهذه من رواية الكلبي ونحوه من الضعفاء. وأخرج من طريق مقسم عن ابن عباس أيضا قال بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنصار شيء فخطب فقال ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي الحديث، وفيه فجثوا على الركب وقالوا أنفسنا وأموالنا لك فنزلت. وهذا أيضا ضعيف ويبطله أن الآية مكية والأقوى في سبب نزولها صلى الله عليه وسلم عن قتادة قال: قال المشركون لعل محمدا يطلب أجرا على ما يتعاطاه فنزلت. وزعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة، ورده الثعلبي بأن الآية دالة على الأمر بالتودد إلى الله بطاعته أو باتباع نبيه أو صلة رحمه بترك أذيته أو صلة أقاربه من أجله وكل ذلك مستمر الحكم غير منسوخ، والحاصل أن سعيد بن جبير ومن وافقه كعلي بن الحسين والسدي وعمرو بن شعيب فيما أخرجه الطبري عنهم حملوا الآية على أمر المخاطبين بأن يواددوا أقارب النبي صلى الله عليه وسلم،
ـــــــ
(1) بياض بأصله.

(8/564)


وابن عباس حملها على أن يواددوا النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القرابة التي بينهم وبينه، فعلى الأول الخطاب عام لجميع المكلفين، وعلى الثاني الخطاب خاص بقريش. ويؤيد ذلك أن السورة مكية. وقد قيل إن هذه الآية نسخت بقوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} ويحتمل أن يكون هذا عاما خص بما دلت عليه آية الباب، والمعنى أن قريشا كانت تصل أرحامها، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قطعوه فقال: صلوني كما تصلون غيري من أقاربكم. وقد روى سعيد بن منصور من طريق الشعبي قال: أكثروا علينا في هذه الآية، فكتبت إلى ابن عباس أسأله عنها فكتب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسط النسب في قريش، لم يكن حي من أحياء قريش إلا ولده، فقال الله {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاَّ المَوَدَةَ فِي القُرْبَىَ" تودوني بقرابتي منكم، وتحفظوني في ذلك. وفيه قول ثالث أخرجه أحمد من طريق مجاهد عن ابن عباس أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} على ما جئتكم به من البينات والهدى إلا أن تقربوا إلى الله بطاعته، وفي إسناده ضعف. وثبت عن الحسن البصري نحوه، والأجر على هذا مجاز. وقوله: "القربى" هو مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة، والمراد في أهل القربى، وعبر بلفظ: "في" دون اللام كأنه جعلهم مكانا للمودة ومقرا لها، كما يقال لي في آل فلان هوى أي هم مكان هواي، ويحتمل أن تكون "في" سببية، وهذا على أن الاستثناء متصل، فإن كان منقطعا فالمعنى لا أسألكم عليه أجرا قط، ولكن أسألكم أن تودوني بسب قرابتي فيكم

(8/565)


43- سورة حم الزُّخْرُفِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {عَلَى أُمَّةٍ} عَلَى إِمَامٍ {وَقِيلَهُ يَا رَبِّ} تَفْسِيرُهُ أَيَحْسِبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَلاَ نَسْمَعُ قِيلَهُمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} لَوْلاَ أَنْ جَعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ كُفَّارًا لَجَعَلْتُ لِبُيُوتِ الْكُفَّارِ سَقْفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ مِنْ فِضَّةٍ وَهِيَ دَرَجٌ وَسُرُرَ فِضَّةٍ مُقْرِنِينَ مُطِيقِينَ آسَفُونَا أَسْخَطُونَا يَعْشُ يَعْمَى وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذِّكْرَ} أَيْ تُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ لاَ تُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} سُنَّةُ الأَوَّلِينَ مُقْرِنِينَ يَعْنِي الإِبِلَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ {يَنْشَأُ فِي الْحِلْيَةِ} الْجَوَارِي جَعَلْتُمُوهُنَّ لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ف {َكَيْفَ تَحْكُمُونَ} {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} يَعْنُونَ الأَوْثَانَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أَيْ الأَوْثَانُ إِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فِي عَقِبِهِ وَلَدِهِ مُقْتَرِنِينَ يَمْشُونَ مَعًا سَلَفًا قَوْمُ فِرْعَوْنَ سَلَفًا لِكُفَّارِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَ {مَثَلاً} : عِبْرَةً {يَصِدُّونَ} يَضِجُّونَ {مُبْرِمُونَ} مُجْمِعُونَ {أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ غَيْرُهُ {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} الْعَرَبُ تَقُولُ نَحْنُ مِنْكَ الْبَرَاءُ وَالْخَلاَءُ وَالْوَاحِدُ وَالاثْنَانِ وَالْجَمِيعُ مِنْ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ يُقَالُ فِيهِ بَرَاءٌ لأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَلَوْ قَالَ بَرِيءٌ لَقِيلَ فِي الاثْنَيْنِ بَرِيئَانِ وَفِي الْجَمِيعِ بَرِيئُونَ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّنِي بَرِيءٌ بِالْيَاءِ وَ {الزُّخْرُفُ}: الذَّهَبُ {مَلاَئِكَةً يَخْلُفُونَ} يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
قوله: "سورة حم الزخرف. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قوله: "على أمة على إمام" كذا للأكثر. وفي رواية أبي

(8/565)


ذر "وقال مجاهد فذكره" والأول أولى وهو قول أبي عبيدة وروى عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {عَلَى أُمَّةٍ} قال: على ملة: وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {عَلَى أُمَّةٍ} أي على دين، ومن طريق السدي مثله. قوله: "وقيله يا رب تفسيره أيحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ولا نسمع قيلهم" قال ابن التين: هذا التفسير أنكره بعضهم، وإنما يصح لو كانت التلاوة "وقيلهم" وقال أبو عبيدة: وقيله منصوب في قول أبي عمرو بن العلاء على نسمع سرهم ونجواهم وقيله، قال وقال غيره: هي في موضع الفعل، أي ويقول. وقال غيره: هذا التفسير محمول على أنه أراد تفسير المعنى، والتقدير ونسمع قيله فحذف العامل، لكن يلزم منه الفصل بين المتعاطفين بجمل كثيرة. وقال الفراء: من قرأ وقيله فنصب تجوز من قوله نسمع سرهم ونجواهم ونسمع قيلهم؛ وقد ارتضى ذلك الطبري وقال: قرأ الجمهور وقيله بالنصب عطفا على قوله {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} والتقدير ونسمع قيله يا رب، وبهذا يندفع اعتراض ابن التين وإلزامه بل يصح والقراءة وقيله بالإفراد، قال الطبري: وقراءة الكوفيين وقيله بالجر على معنى وعنده علم الساعة وعلم قيله، قال: وهما قراءتان صحيحتا المعنى، وسيأتي أواخر هذه السورة أن ابن مسعود قرأ: "وقال الرسول يا رب" في موضع وقيله يا رب. وقال بعض النحويين: المعنى إلا من شهد بالحق وقال قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون؛ وفيه أيضا الفصل بين المتعاطفين بجمل كثيرة. قوله: "وقال ابن عباس: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} إلخ" وصله الطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بلفظه مقطعا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: أمة واحدة كفارا، وروى الطبري من طريق عوف عن الحسن في قوله: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال: كفارا يميلون إلى الدنيا. قال: وقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل، فكيف لو فعل. قوله: "مقرنين مطيقين" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} قال: مطيقين. وهو بالقاف. ومن طريق للسدي مثله. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} لا في الأيدي ولا في القوة. قوله: "آسفونا أسخطونا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا} قال: أسخطونا. وقال عبد الرزاق سمعت ابن جريح يقول: {آسَفُونَا} أغضبونا. وعن سماك بن الفضل عن وهب بن منبه مثله وأورده في قصة له مع عروة بن محمد السعدي عامل عمر بن عبد العزيز على اليمن. قوله: "يعش يعمى" وصله ابن أبي حاتم من طريق شبيب عن بشر عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} قال: يعمى. وروى الطبري من طريق السدي قال: {وَمَنْ يَعْشُ} أي يعرض. ومن طريق سعيد عن قتادة مثله. قال الطبري: من فسر يعش بمعنى يعمى فقراءته بفتح الشين. وقال ابن قتيبة قال أبو عبيدة قوله: {وَمَنْ يَعْشُ} بضم الشين أي تظلم عينه. وقال الفراء. يعرض عنه، قال: ومن قرأ يعش بفتح الشين أراد تعمى عينه، قال: ولا أرى القول إلا قول أبي عبيدة، ولم أر أحدا يجيز عشوت عن الشيء أعرضت عنه، إنما يقال تعاشيت عن كذا تغافلت عنه ومثله تعاميت. وقال غيره: عشى إذا مشى ببصر ضعيف مثل عرج مشى مشية الأعرج. قوله: "وقال مجاهد أفنضرب عنكم الذكر صفحا أي تكذبون بالقرآن ثم لا تعاقبون عليه"؟ وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظه، وروى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: أفحسبتم أن نصفح عنكم ولم تفعلوا ما أمرتم به. قوله: "ومضى مثل الأولين: سنة الأولين" وصله الفريابي عن مجاهد

(8/566)


في قوله: {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} قال سنتهم، وسيأتي له تفسير آخر قريبا. قوله: "مقرنين يعني الإبل والخيل والبغال" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظه وزاد: والحمير. وهذا تفسير المراد بالضمير في قوله له، وأما لفظ: "مقرنين" فتقدم معناه قريبا. قوله: "أو من ينشأ في الحلية الجواري، يقول جعلتموهن للرحمن ولدا فكيف تحكمون" وصله االفريابي عن مجاهد بلفظه والمعنى أنه تعالى أنكر على الكفرة الذين زعموا أن الملائكة بنات الله فقال: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} وأنتم تمقتون البنات وتنفرون منهن حتى بالغتم في ذلك فوأدتموهن، فكيف تؤثرون أنفسكم بأعلى الجزأين وتدعون له الجزء الأدنى مع أن صفة هذا الصنف الذي هو البنات أنها تنشأ في الحلية والزينة المفضية إلى نقص العقل وعدم القيام بالحجة. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} قال: البنات {وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِين} قال فما تكلمت المرأة تريد أن تكلم بحجة لها إلا تكلمت بحجة عليها.
" تنبيه " : قرأ ينشأ بفتح أوله مخففا الجمهور، وحمزة والكسائي وحفص بضم أوله مثقلا، والجحدري مثله مخففا. قوله: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} ، يعنون الأوثان. يقول الله تعالى: ما لهم بذلك من علم الأوثان إنه لا يعلمون" وصله الفريابي من طريق، مجاهد في قوله: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} قال: الأوثان. قال الله {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} ما تعلمون قدرة الله على ذلك والضمير في قوله ما لهم بذلك من علم للكفار أي ليس لهم علم بما ذكروه من المشيئة ولا برهان معهم على ذلك إنما يقولونه ظنا وحسبانا، أو الضمير للأوثان ونزلهم منزلة من يعقل ونفى عنهم علم ما يصنع المشركون من عبادتهم. قوله: "في عقبه ولده" وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظه، والمراد بالولد الجنس حتى يدخل فيه ولد الولد وإن سفل. وقال عبد الرزاق في عقبه لا يزال في ذريته من يوحد الله عز وجل. قوله: "مقترنين يمشون معا" وصله الفريابي عن مجاهد في قوله: {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} يمشون معا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: يعني متتابعين. قوله: "سلفا قوم فرعون. سلفا لكفار أمة محمد" وصله الفريابي من طريق مجاهد قال: هم قوم فرعون كفارهم سلفا لكفار أمة محمد. قوله: "ومثلا عبرة" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظه وزاد: "لمن بعدهم" . قوله: "يصدون يضجون" وصله الفريابي والطبري عن مجاهد بلفظه، وهو قول أبي عبيدة وزاد: ومن ضمها فمعناه يعدلون. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ومن طريق آخر عن ابن عباس ومن طريق سعيد عن قتادة في قوله: "يصدون" قال: يضجون. وقال عبد الرزاق عن معمر عن عاصم أخبرني زر هو ابن حبيش أن ابن عباس كان يقرؤها "يصدون" يعني بكسر الصاد يقول: يضجون. قال عاصم: وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقرؤها بضم الصاد، فبالكسر معناه يضج وبالضم معناه يعرض. وقال الكسائي: هما لغتان بمعنى وأنكر بعضهم قراءة الضم، واحتج بأنه لو كانت كذاك لكانت عنه لا منه. وأجيب بأن المعنى منه أي من أجله فيصح الضم، وروى الطبري من طريق أبي يحيى عن ابن عباس أنه أنكر على عبيد بن عمير قراءته يصدون بالضم. قوله: "مبرمون مجمعون" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظه وزاد إن كادوا شرا كدناهم مثله. قوله: "أول العابدين أول المؤمنين" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ: "أول المؤمنين بالله فقولوا ما شئتم" وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قوله: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} يقول: فأنا أول من عبد الله وحده وكفر بما تقولون. وروى الطبري من طريق محمد بن ثور عن معمر بسنده قال: "قل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول من عبد الله وحده

(8/567)


وكذبكم" وسيأتي له بعد هذا تفسير آخر. قوله: "وقال غيره إنني براء مما تعبدون، العرب تقول: نحن منك البراء والخلاء، الواحد والاثنان والجميع من المذكر والمؤنث سواء يقال فيه براء لأنه مصدر، ولو قيل بريء لقيل في الاثنين بريئان وفي الجميع بريئون" قال أبو عبيدة: قوله: "إنني براء" مجازها لغة عالية يجعلون الواحد والاثنين والثلاثة من المذكر والمؤنث على لفظ واحد، وأهل نجد يقولون: أنا بريء وهي بريئة ونحن براء. قوله: "وقرأ عبد الله إنني بريء بالياء" وصله الفضل بن شاذان في "كتاب القراءات" بإسناده عن طلحة ابن مصرف عن يحيى بن وثاب عن علقمة عن عبد الله بن مسعود. قوله: "والزخرف الذهب" قال عبد الله بن حميد حدثنا هاشم بن القاسم عن شعبة عن الحكيم عن مجاهد قال: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيتها في قراءة عبد الله أي ابن مسعود "أو يكون لك بيت من ذهب" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "وزخرفا" قال الذهب. وعن معمر عن الحسن مثله. قوله: "ملائكة في الأرض يخلفون يخلف بعضهم بعضا" أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة وزاد في آخره: مكان ابن آدم.

(8/568)


باب {ونادوا يا مالك ليقضي علينا ربك}
...
1- باب {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}
4819- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} وَقَالَ قَتَادَةُ {مَثَلاً لِلآخِرِينَ} عِظَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَقَالَ غَيْرُهُ {مُقْرِنِينَ} ضَابِطِينَ يُقَالُ فُلاَنٌ مُقْرِنٌ لِفُلاَنٍ ضَابِطٌ لَهُ وَالأَكْوَابُ الأَبَارِيقُ الَّتِي لاَ خَرَاطِيمَ لَهَا وَقَالَ قَتَادَةُ فِي {أُمِّ الْكِتَابِ} جُمْلَةِ الْكِتَابِ أَصْلِ الْكِتَابِ {أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أَيْ مَا كَانَ فَأَنَا أَوَّلُ الآنِفِينَ وَهُمَا لُغَتَانِ رَجُلٌ عَابِدٌ وَعَبِدٌ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ} وَيُقَالُ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ الْجَاحِدِينَ مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ
قوله: "باب قوله {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} ظاهرها أنهم بعدما طال إبلاسهم تكلموا، والمبلس الساكت بعد اليأس من الفرج، فكان فائدة الكلام بعد ذلك حصول بعض فرج لطول العهد، أو النداء يقع قبل الإبلاس لأن الواو لا تستلزم ترتيبا. قوله: "عمرو" هو ابن دينار. قوله: "عن صفوان بن يعلى عن أبيه" هو يعلى بن أمية المعروف بابن منية. قوله: "يقرأ على المنبر ونادوا يا مالك" كذا للجميع بإثبات الكاف وهي قراءة الجمهور، وقرأ الأعمش "ونادوا يا مال" بالترخيم، ورويت عن علي، وتقدم في بدء الخلق أنها قراءة ابن مسعود، قال عبد الرزاق قال الثوري: في حرف ابن مسعود "ونادوا يا مال" يعني بالترخيم، وبه جزم ابن عيينة. ويذكر عن بعض السلف أنه لما سمعها قال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم؟ وأجيب باحتمال أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وشدة ما هم فيه. قوله: "وقال قتادة مثلا للآخرين عظة لمن بعدهم" قال عبد الرزاق. عن معمر عن قتادة في قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا} قال أغضبونا {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} قال إلى النار {وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} قال: عظة للآخرين. قوله: "وقال غيره: مقرنين ضابطين، يقال: فلان مقرن لفلان ضابط له" هو قول أبي عبيدة، واستشهد بقول الكميت "ولستم

(8/568)


للصعاب مقرنينا" . قوله: "والأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها" هو قول أبي عبيدة بلفظه، وروى الطبري من طريق السدي قال: الأكواب الأباريق التي لا آذان لها. قوله وقال قتادة "في أم الكتاب" جملة الكتاب، أصل الكتاب "قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} قال: في أصل الكتاب وجملته. قوله: "أول العابدين أي ما كان فأنا أول الآنفين، وهما لغتان رجل عابد وعبد" وأخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يقول لم يكن للرحمن ولد. ومن طريق سعيد عن قتادة قال: هذه كلمة في كلام العرب، إن كان للرحمن ولد أي أن ذلك لم يكن. ومن طريق زيد بن أسلم قال: هذا معروف من قول العرب: إن كان هذا الأمر قط. أي ما كان. ومن طريق السدي "إن" بمعنى لو أي لو كان للرحمن ولد كنت أول من عبده بذلك لكن لا ولد له، ورجحه الطبري. وقال أبو عبيدة إن بمعنى ما في قول، والفاء بمعنى الواو، أي ما كان للرحمن ولد وأنا أول العابدين. وقال آخرون: معناه. إن كان للرحمن في قولكم ولد فأنا أول العابدين أي الكافرين بذلك والجاحدين لما قلتم، والعابدين من عبد بكسر الباء يعبد بفتحها، قال الشاعر:
أولئك قومي إن هجوني هجوتهم ... وأعبد أن أهجو كليبا بدارم
أي أمتنع. وأخرج الطبري أيضا عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب: عبد معناه استنكف، ثم ساق قصة عن عمر في ذلك. وقال ابن فارس: عبد بفتحتين بمعنى عابد. وقال الجوهري: العبد بالتحريك الغضب. قوله: "وقرأ عبد الله: وقال الرسول يا رب" تقدمت الإشارة إلى إسناد قراءة عبد الله وهو ابن مسعود. وأخرج الطبري من وجهين عن قتادة في قوله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} قال: هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: "ويقال أول العابدين: أول الجاحدين، من عبد يعبد" وقال ابن التين كذا ضبطوه ولم أر في اللغة عبد بمعنى جحد انتهى. وقد ذكرها الفربري. "تنبيه" : ضبطت عبد يعبد هنا بكسر الموحدة في الماضي وفتحها في المستقبل

(8/569)


باب {أفنضرب الذكر عنكم صفحا إن كنتم قوما مسرفين}
...
2- باب {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} مُشْرِكِينَ وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ رُفِعَ حَيْثُ رَدَّهُ أَوَائِلُ هَذِهِ الأُمَّةِ لَهَلَكُوا {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} عُقُوبَةُ الأَوَّلِينَ {جُزْءًا} عِدْلاً
قوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} : مشركين، والله لو أن هذا القرآن رفع حيث رده أوائل هذه الأمة لهلكوا" وصله ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلفظه وزاد: ولكن الله عاد عليهم بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاهم إليه. قوله: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} ، عقوبة الأولين" وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بهذا. قوله: "جزءا عدلا" وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بهذا، وهو بكسر العين. وكذا أخرجه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مثله، وأما أبو عبيدة فقال جزءا أي نصيبا، وقيل جزءا إناثا، تقول جزأت المرأة إذا أتت بأنثى

(8/569)


44- سُورَةُ حم الدُّخَانِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {رَهْوًا} طَرِيقًا يَابِسًا وَيُقَالُ رَهْوًا سَاكِنًا {عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} عَلَى مَنْ بَيْنَ

(8/569)


1- باب {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} قَالَ قَتَادَةُ فَارْتَقِبْ فَانْتَظِرْ
4820- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مَضَى خَمْسٌ الدُّخَانُ وَالرُّومُ وَالْقَمَرُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ
قوله: "باب {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ، فارتقب فانتظر" كذا لأبي ذر. وفي رواية غيره: "وقال قتادة فارتقب فانتظر" وقد وصله عبد بن حميد من طريق شيبان عن قتادة به. قوله: "عن الأعمش عن مسلم" هو ابن صبيح بالتصغير أبو الضحى كما صرح به في الأبواب التي بعده، وقد ترجم لهذا الحديث ثلاث تراجم بعد هذا وساق الحديث بعينه مطولا ومختصرا، وقد تقدم أيضا في تفسير الفرقان مختصرا وفي تفسير الروم وتفسير "ص" مطولا، ويحيى الراوي فيه عن أبي معاوية وفي الباب الذي يليه عن وكيع هو ابن موسى البلخي، وقوله في الطريق الأولى "حتى أكلوا العظام" زاد في الرواية التي بعدها "والميتة" وفي التي تليها "حتى أكلوا الميتة" وفي التي بعدها "حتى أكلوا العظام والجلود" وفي رواية فيها "حتى أكلوا الجلود والميتة" وقع في جمهور الروايات "الميتة" بفتح الميم وبالتحتانية ثم المثناة، وضبطها بعضهم بنون مكسورة ثم تحتانية ساكنة وهمزة وهو الجلد أول ما يدبغ، والأول أشهر

(8/571)


2- باب {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}
4821- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ هَذَا لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنْ الْجَهْدِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قَالَ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ قَالَ: لِمُضَرَ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ فَاسْتَسْقَى لَهُمْ فَسُقُوا فَنَزَلَتْ {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} فَلَمَّا أَصَابَتْهُمْ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حَالِهِمْ حِينَ أَصَابَتْهُمْ الرَّفَاهِيَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} قَالَ يَعْنِي يَوْمَ بَدْر"
قوله بعد قوله {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال فأتى رسول الله" كذا بضم الهمزة على البناء للمجهول،

(8/571)


3- باب {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}
4822- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ إِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ تَقُولَ لِمَا لاَ تَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا غَلَبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ" فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ أَكَلُوا فِيهَا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ مِنْ الْجَهْدِ حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنْ الْجُوعِ {قَالُوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} فَقِيلَ لَهُ إِنْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَادُوا فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَعَادُوا فَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
قوله في الباب الثاني "عن مسروق قال دخلت على عبد الله" أي ابن مسعود. قوله: "إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم" تقدم سبب قول ابن مسعود هذا في سورة الروم من وجه آخر عن الأعمش ولفظه: "عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في كندة فقال: يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ففزعنا، فأتيت ابن مسعود وكان متكئا فغضب فجلس فقال: من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم. وقد جرى البخاري على عادته في إيثار الخفي على الواضح، فإن هذه السورة كانت أولى بإيراد هذا السياق من سورة الروم لما تضمنته من ذكر الدخان، لكن هذه طريقته يذكر الحديث في موضع ثم يذكره في الموضع اللائق به عاريا عن الزيادة اكتفاء بذكرها في الموضع الآخر، شحذا للأذهان وبعثا على مزيد الاستحضار، وهذا الذي أنكره ابن مسعود قد جاء عن علي، فأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم من طريق الحارث عن علي قال: "آية الدخان لم تمض بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وينفح الكافر حتى ينفد". ثم أخرج

(8/572)


عبد الرزاق من طريق ابن أبي مليكة قال: "دخلت على ابن عباس يوما فقال لي: لم أنم البارحة حتى أصبحت، قالوا طلع الكوكب ذو الذنب فخشينا الدخان قد خرج" وهذا أخشى أن يكون تصحيفا وإنما هو الدجال بالجيم الثقيلة واللام، ويؤيد كون آيه الدخان لم تمض ما أخرجه مسلم من حديث أبي شريحة رفعه: " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، الدخان، والدابة" وروى الطبري من حديث ربعي عن حذيفة مرفوعا في خروج الآيات والدخان" قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا هذه الآية قال: أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيخرج من منخريه وأذنيه ودبره" وإسناده ضعيف أيضا. وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد نحوه وإسناده ضعيف أيضا، وأخرجه مرفوعا بإسناد أصلح منه، وللطبري من حديث أبي مالك الأشعري رفعه: "إن ربكم أنذركم ثلاثا: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة " الحديث، ومن حديث ابن عمر نحوه وإسنادهما ضعيف أيضا، لكن تضافر هذه الأحاديث يدل على أن لذلك أصلا، ولو ثبت طريق حديث حذيفة لاحتمل أن يكون هو القاص المراد في حديث ابن مسعود.

(8/573)


4- باب {أَنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} الذِّكْرُ وَالذِّكْرَى وَاحِدٌ
4823- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا قُرَيْشًا كَذَّبُوهُ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ" فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ يَعْنِي كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى كَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ فَكَانَ يَقُومُ أَحَدُهُمْ فَكَانَ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخَانِ مِنْ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ ثُمَّ قَرَأَ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} حَتَّى بَلَغَ {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى يَوْمَ بَدْر"
قوله: "الذكرى" هو والذكر سواء.

(8/573)


5- بَاب {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}
4824- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى قُرَيْشًا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ" فَأَخَذَتْهُمْ السَّنَةُ حَتَّى حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْجُلُودَ فَقَالَ أَحَدُهُمْ حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَجَعَلَ يَخْرُجُ مِنْ الأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ أَيْ مُحَمَّدُ إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ فَدَعَا ثُمَّ قَالَ: "تَعُودُونَ بَعْدَ هَذَا" فِي حَدِيثِ مَنْصُورٍ ثُمَّ قَرَأَ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إِلَى {عَائِدُونَ} أَنَكْشِفُ عَنْهُمْ عَذَابَ الآخِرَةِ فَقَدْ مَضَى الدُّخَانُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَقَالَ

(8/573)


6- بَاب {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
4825- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ اللِّزَامُ وَالرُّومُ وَالْبَطْشَةُ وَالْقَمَرُ وَالدُّخَان"
قوله في الرواية الأخيرة "أخبرنا محمد" هو ابن جعفر غندر. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش، ومنصور هو ابن المعتمر. قوله: "حتى حصت" بمهملتين أي جردت وأذهبت، يقال سنة حصاء أي جرداء لا غيث فيها. قوله: "فقال أحدهم" كذا قاله في موضعين أي أحد الرواة، ولم يتقدم في سياق السدوسي موضع واحد فيه اثنان سليمان ومنصور، فحق العبارة أن يقول قال أحدهما لكن تحمل على تلك اللغة. قوله: "وجعل يخرج من الأرض كهيئة الدخان" وقع في الرواية التي قبلها "فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجوع" ولا تدافع بينهما لأنه يحمل على أنه كان مبدؤه من الأرض ومنتهاه ما بين السماء والأرض، ولا معارضة أيضا بين قوله: "يخرج من الأرض" وبين قوله: "كهيئة الدخان" لاحتمال وجود الأمرين بأن يخرج من الأرض بخار كهيئة الدخان من شدة حرارة الأرض ووهجها من عدم الغيث، وكانوا يرون بينهم وبين السماء مثل الدخان من فرط حرارة الجوع، والذي كان يخرج من الأرض بحسب تخيلهم ذلك من غشاوة أبصارهم من فرط الجوع، أو لفظ: "من - الجوع" صفة الدخان أي يرون مثل الدخان الكائن من الجوع.

(8/574)


سورة الجاثية
...
45- سورة حم الْجَاثِيَةِ
{جاثية} : مُسْتَوْفِزِينَ عَلَى الرُّكَبِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {نَسْتَنْسِخُ} نَكْتُبُ {نَنْسَاكُمْ} نَتْرُكُكُمْ
4826- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار"
[الحديث 4826- طرفاه في: 6181، 7491]
قوله: "سورة حم الجاثية. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر، ولغيره: "الجاثية" حسب. قوله: "جاثية مستوفزين على الركب" كذا لهم، وهو قول مجاهد وصله الطبري من طريقه. وقال أبو عبيدة في قوله: "جاثية" قال على الركب. ويقال استوفز في قعدته إذا قعد منتصبا قعودا غير مطمئن. قوله: "نستنسخ نكتب" كذا لأبي ذر، ولغيره: وقال مجاهد فذكر. وقد أخرج ابن أبي حاتم معناه عن مجاهد. قوله: "ننساكم نترككم" هو قول أبي عبيدة، وقد وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ} قال: اليوم نترككم كما تركتم. وأخرجه ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أيضا، وهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، لأن من نسى فقد ترك بغير عكس. قوله: "يؤذيني ابن آدم" كذا أورده مختصرا، وقد أخرجه الطبري

(8/574)


46- سورة الأَحْقَافِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تُفِيضُونَ} تَقُولُونَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَثَرَةٍ وَأُثْرَةٍ وَأَثَارَةٍ بَقِيَّةٌ مِنْ عِلْمٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ} لَسْتُ بِأَوَّلِ الرُّسُلِ وَقَالَ غَيْرُهُ {أَرَأَيْتُمْ} هَذِهِ الأَلِفُ إِنَّمَا هِيَ تَوَعُّدٌ إِنْ صَحَّ مَا تَدَّعُونَ لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَلَيْسَ قَوْلُهُ {أَرَأَيْتُمْ} بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ إِنَّمَا هُوَ أَتَعْلَمُونَ أَبَلَغَكُمْ أَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ خَلَقُوا شَيْئًا
قوله: "سورة حم الأحقاف. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال بعضهم أثرة وأثرة وأثارة من علم" قال أبو عبيدة في قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أي بقية من علم، ومن قال أثرة أي بفتحتين فهو مصدر أثره يأثره فذكره. قال الطبري: قرأ الجمهور "أو أثارة" بالألف، وعن أبي عبد الرحمن السلمي "أو أثرة" بمعنى أو خاصة من علم أوتيتموه وأوثرتم به على غيركم. قلت: وبهذا فسره الحسن وقتادة،

(8/575)


قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن في قوله: أو أثرة من علم" قال: أثرة شيء يستخرجه فيثيره. قال وقال قتادة: أو خاصة من علم. وأخرج الطبري من طريق أبي سلمة عن ابن عباس في قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قال: خط كانت تخطه العرب في الأرض. وأخرجه أحمد والحاكم وإسناده صحيح. ويروى عن ابن عباس: جودة الخط، وليس بثابت. وحمل بعض المالكية الخط هنا على المكتوب، وزعم أنه أراد الشهادة على الخط إذا عرفه، والأول هو الذي عليه الجمهور، وتمسك به بعضهم في تجويد الخط، ولا حجة فيه لأنه إنما جاء على ما كانوا يعتمدونه، فالأمر فيه ليس هو لإباحته. قوله: "وقال ابن عباس "بدعا من الرسل "ما كنت بأول الرسل" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وللطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. وقال أبو عبيدة مثله قال: ويقال ما هذا مني ببدع أي ببديع. وللطبري من طريق سعيد عن قتادة قال: إن الرسل قد كانت قبلي. قوله: "تفيضون تقولون" كذا لأبي ذر، وذكره غيره في أول السورة عن مجاهد، وقد وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد. قوله: "وقال غيره أرأيتم هذه الألف إنما هي توعد إن صح ما تدعون لا يستحق أن يعبد، وليس قوله أرأيتم برؤية العين إنما هو أتعلمون أبلغكم أن ما تدعون من دون الله خلقوا شيئا" هذا كله سقط لأبي ذر.

(8/576)


1- باب {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}
4827- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ كَانَ مَرْوَانُ عَلَى الْحِجَازِ اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ فَخَطَبَ فَجَعَلَ يَذْكُرُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لِكَيْ يُبَايَعَ لَهُ بَعْدَ أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا فَقَالَ خُذُوهُ فَدَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا فَقَالَ مَرْوَانُ إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} فَقَالَتْ عَائِشَةُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عُذْرِي"
قوله: "باب {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} - إلى قوله: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى آخرها، وأف قرأها الجمهور بالكسر، لكن نونها نافع وحفص عن عاصم، وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن - وهي رواية عن عاصم - بفتح الفاء بغير تنوين. قوله: "عن يوسف بن ماهك" بفتح الهاء وبكسرها ومعناه القمير تصغير القمر، ويجوز صرفه وعدمه كما سيأتي. قوله: "كان مروان على الحجاز: أي أميرا على المدينة من قبل معاوية. وأخرج الإسماعيلي والنسائي من طريق محمد بن زياد هو الجمحي قال: "كان مروان عاملا على المدينة" . قوله: "استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له" في رواية الإسماعيلي من الطريق المذكورة" فأراد معاوية أن يستخلف يزيد - يعني ابنه - فكتب إلى مروان بذلك، فجمع مروان الناس فخطبهم، فذكر يزيد، ودعا إلى بيعته وقال: إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر ". قوله: "فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا" قيل قال له: بيننا وبينكم ثلاث، مات

(8/576)


رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ولم يعهدوا. كذا قال بعض الشراح وقد اختصره فأفسده، والذي في رواية الإسماعيلي: فقال عبد الرحمن ما هي إلا هرقلية. وله من طريق شعبة عن محمد بن زياد: فقال مروان سنة أبي بكر وعمر. فقال عبد الرحمن: سنة هرقل وقيصر. ولابن المنذر من هذا الوجه: أجئتم بها هرقلية تبايعون لأبنائكم؟ ولأبي يعلى وابن أبي حاتم من طريق إسماعيل بن أبي خالد "حدثني عبد الله المدني قال: كنت في المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين رأيا حسنا في يزيد، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: هرقلية. إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ولا في أهل بيته، وما جعلها معاوية إلا كرامة لولده" . قوله: "فقال خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا" أي امتنعوا من الدخول خلفه إعظاما لعائشة. وفي رواية أبي يعلى "فنزل مروان عن المنبر حتى أتى باب عائشة فجعل يكلمها وتكلمه ثم انصرف" . قوله: "فقال مروان إن هذا الذي أنزل الله فيه" في رواية أبي يعلى "قال مروان: اسكت، ألست الذي قال الله فيه. فذكر الآية، فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" . قوله: "فقالت عائشة" في رواية محمد بن زياد: فقالت كذب مروان. قوله: "ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري" أي الآية التي في سورة النور في قصة أهل الإفك وبراءتها مما رموها به. وفي رواية الإسماعيلي: فقالت عائشة كذب والله ما نزلت فيه. وفي رواية له: والله ما أنزلت إلا في فلان ابن فلان الفلاني. في رواية له: لو شئت أن أسميه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه. وأخرج عبد الرزاق من طريق ميناء أنه سمع عائشة تنكر أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر وقالت: إنما نزلت في فلان ابن فلان سمت رجلا. وقد شغب بعض الرافضة فقال: هذا يدل على أن قوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} ليس هو أبا بكر، وليس كما فهم هذا الرافضي، بل المراد بقول عائشة فينا أي في بني أبي بكر، ثم الاستثناء من عموم النفي وإلا فالمقام يخصص، والآيات التي في عذرها في غاية المدح لها، والمراد نفي إنزال ما يحصل به الذم كما في قصة قوله: "والذي قال لوالديه" إلى آخره. والعجب مما أورده الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر. وقد تعقبه الزجاج فقال: الصحيح أنها نزلت في الكافر العاق، وإلا فعبد الرحمن قد أسلم فحسن إسلامه وصار من خيار المسلمين. وقد قال الله في هذه الآية {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} إلى آخر الآية فلا يناسب ذلك عبد الرحمن وأجاب المهدوي عن ذلك بأن الإشارة بأولئك للقوم الذين أشار إليهم المذكور بقوله: "وقد خلت القرون من قبلي" فلا يمتنع أن يقع ذلك من عبد الرحمن قبل إسلامه ثم يسلم بعد ذلك، وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن مجاهد قال: نزلت في عبد الله بن أبي بكر الصديق، قال ابن جريج: وقال آخرون في عبد الرحمن بن أبي بكر. قلت: والقول في عبد الله كالقول في عبد الرحمن فإنه أيضا أسلم وحسن إسلامه. ومن طريق أسباط عن السدي قال: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، قال لأبويه - وهما أبو بكر وأم رومان - وكانا قد أسلما وأبى هو أن يسلم، فكانا يأمرانه بالإسلام فكان يرد عليهما ويكذبهما ويقول: فأين فلان وأين فلان يعني مشايخ قريش ممن قد مات، فأسلم بعد فحسن إسلامه، فنزلت توبته في هذه الآية {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} . قلت: لكن نفي عائشة أن تكون نزلت في عبد الرحمن وآل بيته أصح إسنادا وأولى بالقبول. وجزم مقاتل في تفسيره أنها نزلت في عبد الرحمن. وأن قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} نزلت في ثلاثة من كفار قريش، والله أعلم.

(8/577)


2- باب {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَارِضٌ السَّحَابُ
4828- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّم"
4829- قَالَتْ وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا"
[الحديث 4828- طرفه في: 6092]
قوله: "باب {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} الآية" ساقها غير أبي ذر. قوله: "قال ابن عباس: عارض السحاب" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه. وأخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: الريح إذا أثارت سحابا قالوا هذا عارض. قوله: "حدثنا أحمد" كذا لهم. وفي رواية أبي ذر "حدثنا أحمد بن عيسى". قوله: "أخبرنا عمرو" هو ابن الحارث، وأبو النضر هو سالم المدني، ونصف هذا الإسناد الأعلى مدنيون والأدنى مصريون. قوله: "حتى أرى منه لهواته" بالتحريك جمع لهاة وهي اللحمة المتعلقة في أعلى الحنك، ويجمع أيضا على لهي بفتح اللام مقصور. قوله: "إنما كان يتبسم" لا ينافي هذا ما جاء في الحديث الآخر "أنه ضحك حتى بدت نواجذه" لأن ظهور النواجذ - وهي الأسنان التي في مقدمة الفم أو الأنياب - لا يستلزم ظهور اللهاة. قوله: "عرفت الكراهية في وجهه" عبرت عن الشيء الظاهر في الوجه بالكراهة لأنه ثمرتها. ووقع في رواية عطاء عن عائشة في أول هذا الحديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به" . وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سرى عنه" الحديث أخرجه مسلم بطوله، وتقدم في بدء الخلق من قوله: "كان إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر" وقد تقدم لهذا الدعاء شواهد من حديث أنس وغيره في أواخر الاستسقاء. قوله: "عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض" ظاهر هذا أن الذين عذبوا بالريح غير الذين قالوا ذلك، لما تقرر أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأول، لكن ظاهر آية الباب على أن الذين عذبوا بالريح هم الذين قالوا هذا عارض، ففي هذه السورة "واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف" الآيات وفيها "فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا، بل هو ما استعجلتم به، ريح فيها عذاب أليم" وقد أجاب الكرماني عن الإشكال بأن هذه القاعدة المذكورة إنما تطرد إذا لم يكن في السياق قرينة تدل على أنها عين الأول، فإن كان هناك قرينة كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} فلا. ثم قال: ويحتمل أن عادا قومان قوم بالأحقاف وهم أصحاب العارض وقوم غيرهم، قلت: ولا يخفى بعده. لكنه محتمل، فقد قال تعالى في سورة النجم {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى} فإنه يشعر بأن ثم عادا أخرى. وقد أخرج قصة عاد الثانية أحمد بإسناد حسن عن

(8/578)


الحارث بن حسان البكري قال: "خرجت أنا والعلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث - وفيه - فقلت: أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد، قال: وما وافد عاد؟ وهو أعلم بالحديث ولكنه يستطعمه، فقلت: إن عادا قحطوا، فبعثوا قيل بن عنز إلى معاوية بن بكر بمكة يستسقى لهم، فمكث شهرا في ضيافته تغنيه الجرادتان، فلما كان بعد شهر خرج لهم فاستسقى لهم، فمرت بهم سحابات فاختار السوداء منها، فنودي: خذها رمادا رمدا، لا تبق من عاد أحدا" وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه بعضه، والظاهر أنه في قصة عاد الأخيرة لذكر مكة فيه، وإنما بنيت بعد إبراهيم حين أسكن هاجر وإسماعيل بواد غير ذي زرع، فالذين ذكروا في سورة الأحقاف هم عاد الأخيرة ويلزم عليه أن المراد بقوله تعالى: {أَخَا عَادٍ} نبي آخر غير هود. والله أعلم.

(8/579)


47- سورة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{أَوْزَارَهَا} آثَامَهَا حَتَّى لاَ يَبْقَى إِلاَّ مُسْلِمٌ {عَرَّفَهَا} بَيَّنَهَا وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} وَلِيُّهُمْ {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} أَيْ جَدَّ الأَمْرُ {فَلاَ تَهِنُوا} لاَ تَضْعُفُوا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَضْغَانَهُمْ} حَسَدَهُمْ {آسِنٍ} مُتَغَيِّرٍ
قوله: "سورة محمد صلى الله عليه وسلم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كذا لابن ذر، ولغيره {الَّذِينَ كَفَرُوا} حسب. قوله: "أوزارها آثامها حتى لا يبقى إلا مسلم" قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} قال: حتى لا يكون شرك، قال: والحرب من كان يقاتله، سماهم حربا. قال ابن التين: لم يقل هذا أحد غير البخاري. والمعروف أن المراد بأوزارها السلاح، وقيل حتى ينزل عيسى بن مريم انتهى. وما نفاه قد علمه غيره؛ قال ابن قرقول: هذا التفسير يحتاج إلى تفسير، وذلك لأن الحرب لا آثام لها، فلعله كما قال الفراء آثام أهلها، ثم حذف وأبقى المضاف إليه، أو كما قال النحاس: حتى تضع أهل الآثام فلا يبقى مشرك انتهى. ولفظ الفراء الهاء في أوزارها لأهل الحرب أي آثامهم، ويحتمل أن يعود على الحرب والمراد بأوزارها سلاحها انتهى. فجعل ما ادعى ابن التين أنه المشهور احتمالا. قوله: "عرفها: بينها" قال أبو عبيدة في قوله: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} بينها لهم وعرفهم منازلهم. قوله: "وقال مجاهد: {مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} وليهم" كذا لغير أبي ذر وسقط له، وقد وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا. قوله: "فإذا عزم الأمر أي جد الأمر" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه. قوله: "فلا تهنوا: فلا تضعفوا" وصله ابن أبي حاتم من طريقه كذلك. قوله: "وقال ابن عباس: أضغانهم حسدهم" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} قال: أعمالهم، خبثهم والحسد. قوله: "آسن متغير" كذا لغير أبي ذر هنا، وسيأتي في أواخر السورة.

(8/579)


1- باب {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
4830- حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتْ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَهُ مَهْ قَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ

(8/579)


48- سورة الْفَتْحِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ بُورًا هَالِكِينَ {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} السَّحْنَةُ وَقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ التَّوَاضُعُ {شَطْأَهُ} فِرَاخَهُ {فَاسْتَغْلَظَ} غَلُظَ {سُوقِهِ} السَّاقُ حَامِلَةُ الشَّجَرَةِ وَيُقَالُ {دَائِرَةُ السَّوْءِ} كَقَوْلِكَ رَجُلُ السَّوْءِ وَدَائِرَةُ السُّوءِ الْعَذَابُ {تُعَزِّرُوهُ} تَنْصُرُوهُ {شَطْأَهُ} شَطْءُ السُّنْبُلِ تُنْبِتُ الْحَبَّةُ عَشْرًا أَوْ ثَمَانِيًا وَسَبْعًا فَيَقْوَى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَآزَرَهُ} قَوَّاهُ وَلَوْ كَانَتْ وَاحِدَةً لَمْ تَقُمْ عَلَى سَاقٍ وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ خَرَجَ وَحْدَهُ ثُمَّ قَوَّاهُ بِأَصْحَابِهِ كَمَا قَوَّى الْحَبَّةَ بِمَا يُنْبِتُ مِنْهَا"
قوله: "سورة الفتح. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال مجاهد: بورا هالكين" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، وسقط لغير أبي ذر. وقال أبو عبيدة: ويقال بار الطعام أي هلك، ومنه قول عبد الله بن الزبعرى:
يا رسول الله المليك إن لساني ... رائق ما فتقت إذ أنا بور
أي هالك. قوله: "سيماهم في وجوههم: السحنة" وفي رواية المستملي والكشميهني والقابسي "السجدة" والأول أولى، فقد وصله ابن أبي حاتم من طريق الحاكم عن مجاهد كذلك، والسحنة بالسين وسكون الحاء المهملتين وقيده ابن السكن والأصيلي بفتحهما قال عياض وهو الصواب عند أهل اللغة، وهو لين البشرة والنعمة، وقيل الهيئة،

(8/581)


وقيل الحال انتهى. وجزم ابن قتيبة بفتح الحاء أيضا وأنكر السكون وقد أثبته الكسائي والفراء. وقال العكبري: السحنة بفتح أوله وسكون ثانية لون الوجه. ولرواية المستملي ومن وافقه توجيه لأنه يريد بالسجدة أثرها في الوجه يقال لأثر السجود في الوجه سجدة وسجادة، ووقع في رواية النسفي "المسحة" . قوله: "وقال منصور عن مجاهد: التواضع" وصله علي بن المديني عن جرير عن منصور، ورويناه في "الزهد" لابن المبارك وفي "تفسير عبد بن حميد" وابن أبي حاتم عن سفيان وزائدة كلاهما عن منصور عن مجاهد قال: هو الخشوع، زاد في رواية زائدة "قلت ما كنت أراه إلا هذا الأثر الذي في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون" . قوله: "شطأه فراخه، فاستغلظ غلظ، سوقه الساق حاملة الشجرة" قال أبو عبيدة في قوله: "كزرع أخرج شطأه" أخرج فراخه، يقال قد أشطأه الزرع فآزره ساواه صار مثل الأم، فاستغلظ غلظ، فاستوى على سوقه الساق حاملة الشجر. وأخرج عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "كزرع أخرج شطأه" قال: ما يخرج بجنب الحقلة فيتم وينمى، وبه في قوله: "على سوقه" قال: على أصوله. قوله: "شطأه شطء السنبل تنبت الحبة عشرا أو ثمانيا وسبعا فيقوى بعضه ببعض فذاك قوله تعالى: {فَآزَرَهُ} قواه، ولو كانت واحدة لم تقم على ساق، وهو مثل ضربه الله للنبي صلى الله عليه وسلم إذ خرج وحده ثم قواه بأصحابه كما قوى الحبة بما ينبت منها"1 . قوله: "دائرة السوء كقولك رجل السوء، ودائرة السوء العذاب" هو قول أبي عبيدة قال المعنى تدور عليهم.
" تنبيه " : قرأ الجمهور السوء بفتح السين في الموضعين، وضمها أبو عمرو وابن كثير. قوله: "يعزروه ينصروه" قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "ويعزروه" قال: ينصروه، وقد تقدم في الأعراف "فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه" وهذه ينبغي تفسيرها بالتوقير فرارا من التكرار، والتعزير يأتي بمعنى التعظيم والإعانة والمنع من الأعداء، ومن هنا يجيء التعزير بمعنى التأديب لأنه يمنع الجاني من الوقوع في الجناية، وهذا التفسير على قراءة الجمهور، وجاء في الشواذ عن ابن عباس "يعزروه" بزاءين من العزة. ثم ذكر في الباب خمسة أحاديث: الحديث الأول:
ـــــــ
(1) كذا بالنسخ ولم يذكر المؤلف هنا شيئا ولعله كان بيض له فتركه النساخ

(8/582)


1- بَاب {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}
4833- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلاً فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثَكِلَتْ أُمُّ عُمَرَ نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لاَ يُجِيبُكَ قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يُنْزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي فَقُلْتُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّا

(8/582)


فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} "
4834- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قَالَ الْحُدَيْبِيَة"
4835- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ سُورَةَ الْفَتْحِ فَرَجَّعَ فِيهَا قَالَ مُعَاوِيَةُ لَوْ شِئْتُ أَنْ أَحْكِيَ لَكُمْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفَعَلْت"
قوله: "عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر" هذا السياق صورته الإرسال، لأن أسلم لم يدرك زمان هذه القصة لكنه محمول على أنه سمعه من عمر بدليل قوله في أثنائه "قال عمر فحركت بعيري إلخ" وإلى ذلك أشار القابسي، وقد جاء من طريق أخرى سمعت عمر" أخرجه البزار من طريق محمد بن خالد بن عثمة عن مالك ثم قال: "لا نعلم رواه عن مالك هكذا إلا ابن عثمة وابن غزوان" انتهي. ورواية ابن غزوان - وهو عبد الرحمن أبو نوح المعروف بقراد - قد أخرجها أحمد عنه، واستدركها مغلطاي على البزار ظانا أنه غير ابن غزوان، وأورده الدار قطني في "غرائب مالك" من طريق هذين ومن طريق يزيد بن أبي حكيم ومحمد بن حرب وإسحاق الحنيني أيضا، فهؤلاء خمسة رووه عن مالك بصريح الاتصال، وقد تقدم في المغازي أن الإسماعيلي أيضا أخرج طريق ابن عثمة، وكذا أخرجها الترمذي، وجاء في رواية الطبراني من طريق عبد الرحمن بن أبي علقمة عن ابن مسعود أن السفر المذكور هو عمرة الحديبية، وكذا في رواية معتمر عن أبيه عن قتادة عن أنس قال: "لما رجعنا من الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة فنزلت: {وسيأتي حديث سهل بن حنيف في ذلك قريبا. واختلف في المكان الذي نزلت فيه: فوقع عند محمد بن سعد بضجنان وهي بفتح المعجمة وسكون الجيم ونون خفيفة، وعند الحاكم في "الإكليل" بكراع الغميم، وعن أبي معشر بالجحفة، والأماكن الثلاثة متقاربة. قوله: "فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه" يستفاد منه أنه ليس لكل كلام جواب، بل السكوت قد يكون جوابا لبعض الكلام. وتكرير عمر السؤال إما لكونه خشي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمعه أو لأن الأمر الذي كان يسأل عنه كان مهما عنده، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أجابه بعد ذلك، وإنما ترك إجابته أولا لشغله بما كان فيه من نزول الوحي. قوله: "ثكلت" بكسر الكاف "أم عمر" في رواية الكشميهني: "ثكلتك أم عمر" والثكل فقدان المرأة ولدها، دعا عمر على نفسه بسبب ما وقع منه من الإلحاح، ويحتمل أن يكون لم يرد الدعاء على نفسه حقيقة وإنما هي من الألفاظ التي تقال عند الغضب من غير قصد معناها. قوله: "نزرت" بزاي ثم راء بالتخفيف والتثقيل والتخفيف أشهر، أي ألححت عليه قاله ابن فارس والخطابي. وقال الداودي: معنى المثقل أقللت كلامه إذا سألته ما لا يجب أن يجيب عنه، وأبعد من فسر نزرت براجعت. قوله: "فما نشبت" بكسر المعجمة بعدها موحدة ساكنة، أي لم أتعلق بشيء غير ما ذكرت. قوله: "أن سمعت صارخا يصرخ بي" لم أقف على اسمه. قوله: "لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" أي لما فيها من البشارة بالمغفرة والفتح، قال ابن العربي: أطلق المفاضلة

(8/583)


بين المنزلة التي أعطيها وبين ما طلعت عليه الشمس، ومن شرط المفاضلة استواء الشيئين في أصل المعنى ثم يزيد أحدهما على الآخر، ولا استواء بين تلك المنزلة والدنيا بأسرها. وأجاب ابن بطال بأن معناه أنها أحب إليه من كل شيء لأنه لا شيء إلا الدنيا والآخرة فأخرج الخبر عن ذكر الشيء بذكر الدنيا إذ لا شيء سواها إلا الآخرة. وأجاب ابن العربي بما حاصله: أن أفعل قد لا يراد بها المفاضلة كقوله: {خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ولا مفاضلة بين الجنة والنار، أو الخطاب وقع على ما استقر في أنفس أكثر الناس فإنهم يعتقدون أن الدنيا لا شيء مثلها أو أنها المقصودة فأخبر بأنها عنده خير مما يظنون أن لا شيء أفضل منه انتهى. ويحتمل أن يراد المفاضلة بين ما دلت عليه وبين ما دل عليه غيرها من الآيات المتعلقة به فرجحها، وجميع الآيات وإن لم تكن من أمور الدنيا لكنها أنزلت لأهل الدنيا فدخلت كلها فيما طلعت عليه الشمس. قوله سمعت قتادة عن أنس "إنا فتحنا لك فتحا مبينا قال: الحديبية" هكذا أورده مختصرا، وقد أخرجه في المغازي بأتم من هذا، وبين أن بعض الحديث عن أنس موصول وبعضه عن عكرمة مرسل، وسمي ما وقع في الحديبية فتحا لأنه كان مقدمة الفتح وأول أسبابه، وقد تقدم شرح ذلك مبينا في كتاب المغازي. الحديث الثالث. قوله: "عن عبد الله بن مغفل" بالمعجمة والفاء وزن محمد. قوله: "فرجع فيها" أي ردد صوته بالقراءة، وقد أورده في التوحيد من طريق أخرى بلفظ: "كيف ترجيعه؟ قال: إإإ ثلاث مرات" قال القرطبي: هو محمول على إشباع المد في موضعه، وقيل كان ذلك بسبب كونه راكبا فحصل الترجيع من تحريك الناقة. وهذا فيه نظر لأن في رواية علي بن الجعد عن شعبة عند الإسماعيلي: "وهو يقرأ قراءة لينة، فقال: لولا أن يجتمع الناس علينا لقرأت ذلك اللحن" وكذا أخرجه أبو عبيدة في "فضائل القرآن" عن أبي النضر عن شعبة، وسأذكر تحرير هذه المسألة في شرح حديث: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" .

(8/584)


باب {ليغفر الله لك ماتقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما}
...
3 - بَاب {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}
4836- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا زِيَادٌ هُوَ ابْنُ عِلاَقَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الْمُغِيرَةَ يَقُولُ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: "أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا"
4837- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ سَمِعَ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: "أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا" فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَع"
"قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه" وقد تقدم شرحه في صلاة الليل من كتاب الصلاة. قوله: "أنبأنا حيوة" هو ابن شريح المصري، وأبو الأسود هو محمد بن عبد الرحمن النوفلي المعروف بيتيم عرروة، ونصف هذا الإسناد مصريون ونصفه مدنيون، وقد تقدم شرحه في صلاة الليل. قوله: "فلما كثر لحمه" أنكره الداودي وقال: المحفوظ "فلما بدن" أي كبر فكأن الراوي

(8/584)


تأوله على كثرة اللحم انتهى. وتعقبه أيضا ابن الجوزي فقال: لم يصفه أحد بالسمن أصلا، ولقد مات صلى الله عليه وسلم وما شبع من خبز الشعير في يوم مرتين، وأحسب بعض الرواة لما رأى "بدن" ظنه كثر لحمه، وليس كذلك وإنما هو بدن تبدينا أي أسن، قاله أبو عبيدة. قلت: وهو خلاف الظاهر، وفي استدلاله بأنه لم يشبع من خبز الشعير نظر، فإنه يكون من جملة المعجزات. كما في كثرة الجماع وطوافه في الليلة الواحدة على تسع وإحدى عشرة مع عدم الشبع وضيق العيش، وأي فرق بين تكثير المني مع الجوع وبين وجود كثرة اللحم في البدن مع قلة الأكل؟ وقد أخرج مسلم من طريق عبد الله بن عروة عن عائشة قالت: "لما بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقل كان أكثر صلاته جالسا" لكن يمكن تأويل قوله: "ثقل" أي ثقل عليه حمل لحمه وإن كان قليلا لدخوله في السن. قوله: "صلى جالسا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع" في رواية هشام بن عروة عن أبيه "قام فقرأ نحوا من ثلاثين أو أربعين آية ثم ركع" أخرجاه، وقد تقدم في آخر أبواب تقصير الصلاة، وأخرجا من طريق أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن عائشة بلفظ: "فإذا بقي من قراءته نحو من ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأها وهو قائم ثم ركع" ولمسلم من طريق عمرة عن عائشة "فإذا أراد أن يركع قام فقرأ قدر ما يقرأ إنسان أربعين آية" وقد روى مسلم من طريق عبد الله بن شقيق عن عائشة في صفة تطوعه صلى الله عليه وسلم وفيه: "وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد" وهذا محمول على حالته الأولى قبل أن يدخل في السن جميعا بين الحديثين، وقد تقدم بيان ذلك والبحث فيه في صلاة الليل، وكثير من فوائده أيضا في آخر أبواب تقصير الصلاة.

(8/585)


3- بَاب {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}
4838- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ هِلاَلِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} قَالَ فِي التَّوْرَاةِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ بِالأَسْوَاقِ وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا"
قوله "بَاب {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} "قوله "حدثنا عبد الله بن مسلمة" كذا في رواية أبي ذر وأبي على بن الموطأ ووقع ثم غيرهما عبد منسوب فتردد فيه أبو مسعود بين أن يكون عبد الله بن رجاء وعبد الله بن صالح كاتب الليث وقال أبو على الجياني عندي أنه عبد الله بن صالح ورجح هذا المزي وحده بأن البخاري أخرج هذا الحديث بعينه في كتاب الأدب المفرد عن عبد الله بن صالح عن عبد العزيز قلت لكن لا يلزم من ذلك الجزم به وما المانع أن يكون له في الحديث الواحد شيخان عن شيخ واحد وليس الذي وقع في الأدب بأرجح مما وقع الجزم به في رواية أبي علي وأبي ذر وهما حافظان وقد أخرج البخاري في باب التكبير إذا علا شرفا من كتاب الحج حديثا قال فيه حدثنا عبد منسوب حدثنا عبد العزيز

(8/585)


ابن أبي سلمة كذا منسوب وتردد فيه أبو مسعود بين الرجلين الذين تردد فيهما في حديث الباب لكن وقع في رواية أبي على بن الموطأ حدثنا عبد الله بن يوسف فتعين المصير إليه لأنها زيادة من حافظ في الرواية فتقدم على من فسره بالظن قوله عن هلال بن أبي هلال تقدم القول فيه في أوائل البيوع قوله عن عبد الله بن عمرو بن العاص تقدم بيان الاختلاف فيه على عطاء بن يسار في البيوع أيضا وتقدم في تلك الرواية سبب تحديث عبد الله بن عمرو به وأنهم سألوه عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال أجل أنه لموصوف ببعض صفته في القرآن وللدارمي من طريق أبي صالح ذكوان عن كعب قال في السطر الأول محمد رسول الله عبدي المختار قوله إن هذه الآية التي في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} قال في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا أي شاهدا على الأمة ومبشرا للمطيعين بالجنة وللعصاة بالنار أو شاهدا والجواب قبله بالإبلاغ قوله وحرزا بكسر المهملة وسكون الراء بعدها زاي أي حصنا والاميين هم العرب وقد تقدم شرح ذلك في البيوع قوله سميتك المتوكل أي على الله لقناعته باليسير والصبر على ما كان يكره قوله ليس كذا وقع بصيغة الغيبة على طريق الالتفات ولو جرى على النسق الأول لقال لست قوله بلفظ ولا غليظ هو موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ولا يعارض من قوله تعالى: {اغْلُظْ عَلَيْهِمْ} لأن النفي محمول على طبعه الذي جبل عليه والأمر محمول على المعالجة أو النفي بالنسبة للمؤمنين والأمر بالنسبة للكفار والمنافقين كما هو مصرح به في نفس الآية قوله ولا سحاب كذا فيه بالسين المهملة وهي لغة أثبتها الفراء وغيره وبالصاد أشهر وقد تقدم ذلك أيضا قوله ولا يدفع السيئه بالسيئة هو مثل قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} زاد في رواية كعب مولده بمكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام قوله وإن يقبضه أي يميته قوله حتى يقيم به أي حتى ينفي الشرك ويثبت التوحيد والملة العوجاء ملة الكفر قوله فيفتح بها أي بكلمة التوحيد أعينا عميا أي عن الحق وليس هو على حقيقته ووقع في رواية القابسي أعين عمي بالإضافة وكذا الكلام في الآذان والقلوب وفي مرسل جبير بن نفير بإسناد صحيح ثم الدارمي ليس بوهن ولا كسل ليختن قلوبا غلفا ويفتح أعينا عميا ويسمع أذانا صما ويقيم ألسنة عوجاء حتى يقال لا إله إلا الله وحده تنبيه قيل أني بجمع القلة في قوله أعين للإشارة إلى أن المؤمنين أقل من الكافرين وقيل بل جمع القلة قد يأتي في موضع الكثرة وبالعكس كقوله {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} والأول أولى ويحتمل أن يكون هو نكتة العدول إلى جمع القلة أو للمؤاخاة في قوله آذانا وقد ترد القلوب على المعنى الأول وجوابه أنه لم يسمع للقلوب جمع قلة كما لم يسمع للآذان جمع كثرة

(8/586)


4- بَاب {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ}
4839- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ وَفَرَسٌ لَهُ مَرْبُوطٌ فِي الدَّارِ فَجَعَلَ يَنْفِرُ فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا وَجَعَلَ يَنْفِرُ فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآن"

(8/586)


قوله "بَاب {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ} ذكر في حديث البراء في نزول السكينة سيأتي بتمامه في فضائل القرآن مع شرحه إن شاء الله تعالى.

(8/587)


5- بَاب {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}
4840- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَة"
4841- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ صُهْبَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ إِنِّي مِمَّنْ شَهِدَ الشَّجَرَةَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَذْفِ "
[الحديث 4841- طرفاه في: 5479، 6220]
4842- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ صُهْبَانَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيَّ فِي الْبَوْلِ فِي الْمُغْتَسَل"
يَأْخُذُ مِنْهُ الْوَسْوَاسُ
4843-حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ "
4844- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ السُّلَمِيُّ حَدَّثَنَا يَعْلَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ أَسْأَلُهُ فَقَالَ كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَالَ رَجُلٌ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} فَقَالَ عَلِيٌّ نَعَمْ فَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ يَعْنِي الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكِينَ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ قَالَ: بَلَى قَالَ فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا فَقَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا" فَرَجَعَ مُتَغَيِّظًا فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى جَاءَ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْح"
قوله "بَاب {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ذكر فيه أربعة أحاديث: أحدها حديث جابر" كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة "وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب المغازي. قوله: "علي بن عبد الله" هو ابن المديني كذا للأكثر، ووقع في رواية المستملي "علي بن سلمة" وهو اللبقي بفتح اللام والموحدة ثم قاف خفيفة وبه جزم الكلاباذي. قوله: "عن عبد الله بن المغفل المزني ممن شهد الشجرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخذف" بخاء معجمة أي الرمي بالحصى بين إصبعين، وسيأتي الكلام عليه في الأدب. قوله: "وعن عقبة بن صهبان سمعت عبد الله بن مغفل المزني في البول في المغتسل" كذا للأكثر وزاد في رواية الأصيلي وكذا لأبي ذر عن السرخسي

(8/587)


"يأخذ منه الوسواس" وهذان الحديثان المرفوع والموقوف الذي عقبه به لا تعلق لهما بتفسير هذه الآية بل ولا هذه السورة، وإنما أورد الأول لقول الراوي فيه: "ممن شهد الشجرة" فهذا القدر هو المتعلق بالترجمة، ومثله ما ذكره بعده عن ثابت بن الضحاك وذكر المتن بطريق التبع لا القصد. وأما الحديث الثاني فأورده لبيان التصريح بسماع عقبة بن صهبان من عبد الله بن مغفل، وهذا من صنيعه في غاية الدقة وحسن التصرف فلله دره. وهذا الحديث قد أخرجه أبو نعيم في المستخرج والحاكم من طريق يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبد الله بن مغفل قال: "نهي - أو زجر - أن يبال في المغتسل" وهذا يدل على أن زيادة ذكر الوسواس التي عند الأصيلي ومن وافقه في هذه الطريق وهم. نعم أخرج أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من طريق أشعث عن الحسن عن عبد الله بن مغفل رفعه: "لا يبولن أحدكم في مستحمه، فإن عامة الوسواس منه" قال الترمذي غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث أشعث، وتعقب بأن الطبري أخرجه من طريق إسماعيل بن مسلم عن الحسن أيضا، وهذا التعقب وارد على الإطلاق، وإلا فإسماعيل ضعيف. قوله: "عن خالد" هو الحذاء. قوله: "عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك وكان من أصحاب الشجرة" هكذا ذكر القدر الذي يحتاج إليه من هذا الحديث ولم يسق المتن، ويستفاد من ذلك أنه لم يجر على نسق واحد في إيراد الأشياء التبعية، بل تارة يقتصر على موضع الحاجة من الحديث وتارة يسوقه بتمامه، فكأنه يقصد التفنن بذلك. وقد تقدم لحديث ثابت المذكور طريق أخرى في غزوة الحديبية. قوله: "حدثنا يعلى" هو ابن عبيد الطنافسي. قوله: "حدثنا عبد العزيز بن سياه" بمهملة مكسورة ثم تحتانية خفيفة وآخر هاء منونة، تقدم في أواخر الجزية. قوله: "أتيت أبا وائل أساله" لم يذكر المسئول عنه، وبينه أحمد في روايته عن يعلى بن عبيد ولفظه: "أتيت أبا وائل في مسجد أهله أسأله عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي - يعني الخوارج - قال: كنا بصفين فقال رجل" فذكره. قوله: "فقال كنا بصفين" هي مدينة قديمة على شاطئ الفرات بين الرقة ومنبج كانت بها الواقعة المشهورة بين علي ومعاوية. قوله: "فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله" ساق أحمد إلى أخر الآية. هذا الرجل هو عبد الله بن الكواء، ذكره الطبري، وكان سبب ذلك أن أهل الشام لما كاد أهل العراق يغلبونهم أشار عليهم عمرو بن العاص برفع المصاحف والدعاء إلى العمل بما فيها، وأراد بذلك أن تقع المطاولة فيستريحوا من الشدة التي وقعوا فيها فكان كما ظن، فلما رفعوها وقالوا بيننا وبينكم كتاب الله، وسمع من بعسكر علي وغالبهم ممن يتدين، قال قائلهم ما ذكر؛ فأذعن علي إلى التحكيم موافقة لهم واثقا بأن الحق بيده. وقد أخرج النسائي هذا الحديث عن أحمد بن سليمان عن يعلى بن عبيد بالإسناد الذي أخرجه البخاري فذكر الزيادة نحو ما أخرجها أحمد، وزاد بعد قوله كنا بصفين "قال فلما استحر القتل بأهل الشام قال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل المصحف إلى علي فادعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك، فأتي به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله، فقال علي: أنا أولى بذلك بيننا. كتاب الله، فجاءته الخوارج - ونحن يومئذ نسميهم القراء - وسيوفهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ما ننتظر بهؤلاء القوم، ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقام سهل بن حنيف" . قوله: "فقال علي نعم" زاد أحمد والنسائي: "أنا أولى بذلك" أي بالإجابة إذا دعيت إلى العمل بكتاب الله لأنني واثق بأن الحق بيدي. قوله: "وقال سهل بن حنيف اتهموا أنفسكم" أي في هذا الرأي لأن كثيرا منهم أنكروا التحكيم وقالوا لا حكم إلا لله، فقال على كلمة حق أريد

(8/588)


بها باطل، وأشار عليهم كبار الصحابة بمطاوعة علي وأن لا يخالف ما يشير به لكونه أعلم بالمصلحة، وذكر لهم سهل بن حنيف ما وقع لهم بالحديبية وأنهم رأوا يومئذ أن يستمروا على القتال ويخالفوا ما دعوا إليه من الصلح ثم ظهر أن الأصلح هو الذي كان شرع النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وسيأتي ما يتعلق بهذه القصة في كتاب استتابة المرتدين إن شاء الله تعالى، وسبق ما يتعلق بالحديبية مستوفى في كتاب الشروط.

(8/589)


49- سورة الْحُجُرَاتِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لاَ تُقَدِّمُوا} لاَ تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ {امْتَحَنَ} أَخْلَصَ {وَلاَ تَنَابَزُوا} يُدْعَى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ {يَلِتْكُمْ} يَنْقُصْكُمْ أَلَتْنَا نَقَصْنَا
قوله: "سورة الحجرات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" كذا لأبي ذر، واقتصر غيره على الحجرات حسب. والحجرات بضمتين جمع حجرة بسكون الجيم والمراد بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقال مجاهد: لا تقدموا لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله على لسانه" وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، ورويناه في كتاب "ذم الكلام" من هذا الوجه.
" تنبيه " : ضبط أبو الحجاج البناسي "تقدموا" بفتح القاف والدال وهي قراءة ابن عباس وقراءة يعقوب الحضرمي وهي التي ينطبق عليها هذا التفسير، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا فأنزلها الله، قال وقال الحسن: هم ناس من المسلمين ذبحوا قبل الصلاة يوم النحر فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة. قوله: "امتحن أخلص" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه بلفظه، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: أخلص الله قلوبهم فيما أحب. قوله: "ولا تنابزوا: يدعي بالكفر بعد الإسلام" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظ: "لا يدعو الرجل بالكفر وهو مسلم:"وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} قال: لا يطعن بعضكم على بعض {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} قال: لا تقل لأخيك المسلم: يا فاسق يا منافق. وعن الحسن قال: كان اليهودي يسلم فيقال له يا يهودي. فنهوا عن ذلك. وللطبري من طريق عكرمة نحوه. وروى أحمد وأبو داود من طريق الشعبي حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال: "فينا نزلت: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله لقبان أو ثلاثة، فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: إنه يغضب منه، فنزلت" . قوله: "يَلِتْكُمْ ينقصكم، ألتنا نقصنا" وصله الفريابي عن مجاهد بلفظه، وبه في قوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} قال: ما نقصنا الآباء للأبناء. "تنبيه" : هذا الثاني من سورة الطور ذكره هنا استطرادا، وإنما يتناسب ألتنا مع الآية الأخرى على قراءة أبي عمرو هنا فإنه قرأ: {لا يألتكم} بزيادة همزة، والباقون بحذفها، وهو من لات يليت قاله أبو عبيدة، قال وقال رؤبة:
وليلة ذات ندا سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت
وتقول العرب: ألاتني حقي وألاتني عن حاجتي أي صرفني. وأما قوله: "وما ألتناهم" فهو من ألت يألت أي نقص.

(8/589)


1 - باب {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآيَةَ تَشْعُرُونَ تَعْلَمُونَ وَمِنْهُ الشَّاعِرُ
4845- حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ جَمِيلٍ اللَّخْمِيُّ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ وَأَشَارَ الآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِعٌ لاَ أَحْفَظُ اسْمَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ مَا أَرَدْتَ إِلاَّ خِلاَفِي قَالَ مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الْآيَةَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْر"
4846- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ أَنْبَأَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ مَا شَأْنُكَ فَقَالَ شَرٌّ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ مُوسَى فَرَجَعَ إِلَيْهِ الْمَرَّةَ الآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: "إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة"
قوله: "باب {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية" كذا للجميع. قوله: "تشعرون تعلمون ومنه الشاعر" هو كلام أبي عبيدة. قوله: "حدثنا يسرة" بفتح الياء الأخيرة والمهملة وجد جميل بالجيم وزن عظيم ونافع بن عمر هو الجمحي المكي، وليس هو نافع مولى ابن عمر، ونبه الكرماني هنا على شيء لا يتخيله من له أدنى إلمام بالحديث والرجال فقال: ليس هذا الحديث ثلاثيا لأن عبد الله بن أبي مليكة تابعي. قوله: "كاد الخيران" كذا للجميع بالمعجمة بعدها تحتانية ثقيلة وحكى بعض الشراح رواية بالمهملة وسكون الموحدة. "يهلكان" كذا لأبي ذر. وفي رواية: "يهلكا" بحذف النون؛ قال ابن التين كذا وقع بغير نون وكأنه نصب بتقدير أن انتهى. وقد أخرجه أحمد عن وكيع عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "أن يهلكا" وهو بكسر اللام ونسبها ابن التين لرواية أبي ذر، ثم هذا السياق صورته الإرسال لكن ظهر في آخره أن ابن أبي مليكة حمله عن عبد الله بن الزبير، وسيأتي في الباب الذي بعده التصريح بذلك ولفظه عن ابن أبي مليكة "أن عبد الله بن الزبير أخبرهم" فذكره بكماله. قوله: "رفعا أصواتهما حين قدم عليه ركب بني تميم" في رواية أحمد "وفد بني تميم" وكان قدومهم سنة تسع بعد أن أوقع عيينة بن حصن ببني العنبر وهم بطن من بني تميم، ذكر ذلك أبو الحسن المدائني قوله: "فأشار أحدهما" هو عمر، بينه ابن جريج في الرواية التي في الباب بعده، ووقع عند الترمذي من رواية مؤمل بن إسماعيل عن نافع بن عمر بلفظ: "إن الأقرع بن حابس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمله على قومه، فقال عمر لا تستعمله يا رسول

(8/590)


الله" الحديث. وهذا يخالف رواية ابن جريج، وروايته أثبت من مؤمل بن إسماعيل والله أعلم. قوله: "بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع" الأقرع لقب واسمه فيما نقل ابن دريد فراس بن حابس بن عقال بكسر المهملة وتخفيف القاف ابن محمد بن سفيان بن مجاشع بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي، وكانت وفاة الأقرع بن حابس في خلافة عثمان. قوله: "وأشار الآخر" هو أبو بكر، بينه ابن جريج في روايته المذكورة برجل آخر فقال نافع: لا أحفظ اسمه، سيأتي في الباب الذي بعده من رواية ابن جريج عن ابن أبي مليكة أنه القعقاع بن معبد بن زرارة أي ابن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي. قال الكلبي في "الجامع" : كان يقال له تيار الفرات لجوده، قلت: وله ذكر في غزوة حنين، أورده البغوي في "الصحابة" بإسناد صحيح. قوله: "ما أردت إلا خلافي" أي ليس مقصودك إلا مخالفة قولي. وفي رواية أحمد "إنما أردت خلافي" وهذا هو المعتمد. وحكى ابن التين أنه وقع هنا "ما أردت إلى خلافي" بلفظ حرف الجر، و "ما" في هذا استفهامية "وإلى" بتخفيف اللام، والمعنى أي شيء قصدت منتهيا إلى مخالفتي. وقد وجدت الرواية التي ذكرها ابن التين في بعض النسخ لأبي ذر عن الكشميهني. قوله: "فارتفعت أصواتهما" في رواية ابن جريج "فتماريا" حتى ارتفعت أصواتهما. قوله: "فأنزل الله" في رواية ابن جريج "فنزل في ذلك" . قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية" زاد وكيع كما سيأتي في الاعتصام "إلى قوله:{عظيم" وفي رواية ابن جريج "فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} وقد استشكل ذلك، قال ابن عطية: الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب. قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث، فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة {لا تُقَدِّمُوا} ولكن لما اتصل بها قوله: "لا ترفعوا" تمسك عمر منها بخفض صوته، وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم، والذي يختص بهم قوله: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة "إن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فقال: يا محمد إن مدحي زين وإن شتمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاك الله عز وجل" ، ونزلت" . قلت: ولا مانع أن تنزل الآية لأسباب تتقدمها، فلا يعدل للترجيح مع ظهور الجمع وصحة الطرق، ولعل البخاري استشعر ذلك فأورد قصة ثابت بن قيس عقب هذا ليبين ما أشرت إليه من الجمع، ثم عقب ذلك كله بترجمة "باب قوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} إشارة إلى قصة جفاة الأعراب من بني تميم، لكنه لم يذكر في الترجمة حديثا كما سأبينه قريبا، وكأنه ذكر حديث ثابت لأنه هو الذي كان الخطيب لما وقع الكلام في المفاخرة بين بني تميم المذكورين كما أورده ابن إسحاق في المغازي مطولا. قوله: "فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه" في رواية وكيع في الاعتصام "فكان عمر بعد ذلك إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السرار لم يسمعه حتى يستفهمه" . قلت وقد أخرج ابن المنذر من طريق محمد بن عمرو بن علقمة أن أبا بكر الصديق قال مثل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مرسل، وقد أخرجه الحاكم موصولا من حديث أبي هريرة نحوه، وأخرجه ابن مردويه من طريق طارق بن شهاب عن أبي بكر قال: "لما نزلت لا ترفعوا أصواتكم الآية قال أبو بكر: قلت يا رسول الله آليت أن لا أكلمك إلا كأخي السرار" . قوله: "ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر" قال مغلطاي: يحتمل أنه أراد بذلك أبا بكر عبد الله بن الزبير أو أبا بكر عبد الله بن أبي مليكة فإن أبا مليكة له ذكر في الصحابة. قلت: وهذا بعيد عن الصواب، بل قرينة ذكر عمر ترشد إلى أن مراده أبو بكر

(8/591)


الصديق. وقد وقع في رواية الترمذي قال: "وما ذكر ابن الزبير جده" وقد وقع في رواية الطبري من طريق مؤمل بن إسماعيل عن نافع بن عمر فقال في آخره: "وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر" وفيه تعقب على من عد في الخصائص النبوية أن أولاد بنته ينسبون إليه لقوله: " إن ابني هذا سيد" وقد أنكره القفال على ابن القاص وعده القضاعي فيما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء، وفيه نظر فقد احتج بن يحيى بن يعمر بأن عيسى نسب إلى إبراهيم وهو ابن بنته، وهو استدلال صحيح، وإطلاق الأب على الجد مشهور، وهو مذهب أبي بكر الصديق كما تقدم في المناقب. قوله: "افتقد ثابت بن قيس" تقدم شرحه مستوفى في أواخر علامات النبوة. قوله: "فقال رجل يا رسول الله" هو سعد بن معاذ بينه حماد بن سلمة في روايته لهذا الحديث عن أنس، وقيل هو عاصم بن عدي، وقيل أبو مسعود، والأول المعتمد. قوله: "أنا أعلم لك علمه" أي أعلم لأجلك علما متعلقا به. قول "فقال موسى" هو ابن أنس راوي الحديث عن أنس.

(8/592)


2- باب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}
4847- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمِّرْ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدٍ وَقَالَ عُمَرُ بَلْ أَمِّرْ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَرَدْتَ إِلَى أَوْ إِلاَّ خِلاَفِي فَقَالَ عُمَرُ مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} حَتَّى انْقَضَتْ الآيَةُ
قوله: "باب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} ذكر فيه حديث ابن الزبير وقد تقدم شرحه في الذي قبله، وروى الطبري من طريق مجاهد قال: هم أعراب بني تميم. ومن طريق أبي إسحاق عن البراء قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن حمدي زين وإن ذمي شين، فقال: ذاك الله تبارك وتعالى"وروى من طريق معمر عن قتادة مثله مرسلا وزاد: "فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية" . ومن طريق الحسن نحوه. قوله: "عن ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة" كذا قال حجاج بن محمد تقدم في التفسير من طريق هشام ابن يوسف عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة بالعنعنة، وتابعه هشام بن يوسف، وأخرجه ابن المنذر من طريق محمد بن ثور عن ابن جريج فزاد فيه رجلا قال: "أخبرني رجل أن ابن أبي ملكية أخبره" فيحمل على أن ابن جريج حمله عن ابن أبي ملكية بواسطة، ثم لقيه فسمعه منه

(8/592)


باب {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خير لهم}
...
باب {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}
قوله: "باب قوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} هكذا في جميع الروايات الترجمة بغير حديث، وقد أخرج الطبري والبغوي وابن أبي عاصم في كتبهم في الصحابة من طريق موسى بن عقبة عن أبي سلمة قال: "حدثني الأقرع بن حابس التميمي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، اخرج إلينا، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الحديث:"وسياقه لابن جرير، قال ابن منده: الصحيح عن أبي سلمة أن الأقرع مرسل،

(8/592)


50- سورة ق
{رَجْعٌ بَعِيدٌ} رَدٌّ {فُرُوجٍ} فُتُوقٍ وَاحِدُهَا فَرْجٌ {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَرِيدَاهُ فِي حَلْقِهِ وَالْحَبْلُ حَبْلُ الْعَاتِقِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ} مِنْ عِظَامِهِمْ {تَبْصِرَةً} بَصِيرَةً {حَبَّ الْحَصِيدِ} الْحِنْطَةُ {بَاسِقَاتٍ} الطِّوَالُ {أَفَعَيِينَا} أَفَأَعْيَا عَلَيْنَا حِينَ أَنْشَأَكُمْ وَأَنْشَأَ خَلْقَكُمْ {وَقَالَ قَرِينُهُ} الشَّيْطَانُ الَّذِي قُيِّضَ لَهُ {فَنَقَّبُوا} ضَرَبُوا {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} لاَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ {رَقِيبٌ عَتِيدٌ} رَصَدٌ {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} الْمَلَكَانِ كَاتِبٌ وَشَهِيدٌ شَهِيدٌ شَاهِدٌ بِالْغَيْبِ {مِنْ لُغُوبٍ} النَّصَبُ وَقَالَ غَيْرُهُ {نَضِيدٌ} الْكُفُرَّى مَا دَامَ فِي أَكْمَامِهِ وَمَعْنَاهُ مَنْضُودٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَكْمَامِهِ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ {وَإِدْبَارِ النُّجُومِ} {وَأَدْبَارِ السُّجُودِ} كَانَ عَاصِمٌ يَفْتَحُ الَّتِي فِي ق وَيَكْسِرُ الَّتِي فِي الطُّورِ وَيُكْسَرَانِ جَمِيعًا وَيُنْصَبَانِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {يَوْمَ الْخُرُوجِ} يَوْمَ يَخْرُجُونَ إِلَى الْبَعْثِ مِنْ الْقُبُورِ
قوله: "سورة ق. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير أبي ذر، وروي عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ق اسم من أسماء القرآن. وعن ابن جريج عن مجاهد قال: جبل محيط بالأرض، وقيل هي القاف من قوله قضي الأمر، دلت على بقية الكلمة كما قال الشاعر "قلت لها قفي لنا قالت قاف" .
قوله: "رجع بعيد: رد" هو قول أبي عبيدة بلفظه. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج قال: أنكروا البعث فقالوا من يستطيع أن يرجعنا ويحيينا. قوله: "فروج: فتوق واحدها فرج" أي بسكون الراء، هو قول أبي عبيدة بلفظه، وروى الطبري من طريق مجاهد قال. الفرج الشق. قوله: "من حبل الوريد وريداه في حلقه، والحبل حبل العاتق" سقط هذا لغير أبي ذر، وهو قول أبي عبيدة بلفظه وزاد: فأضافه إلى الوريد كما يضاف الحبل إلى العاتق. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى:{مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} قال من عرق العنق. قوله: "وقال مجاهد: ما تنقص الأرض منهم من عظامهم" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح بهذا، وروى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: ما تأكل الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: يعني الموتى تأكلهم الأرض إذا ماتوا. وعن جعفر بن سليمان عن عوف عن الحسن: أي من أبدانهم. "تنبيه" : زعم ابن التين أنه وقع في البخاري بلفظ: "من أعظامهم" ثم استشكله وقال: الصواب من عظامهم. وفعل بفتح الفاء وسكون العين لا يجمع على أفعال إلا نادرا. قوله: "تبصرة بصيرة" وصله الفريابي عن مجاهد هكذا. وقاله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {تَبْصِرَةً} قال: نعمة من الله عز وجل. قوله: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} الحنطة "وصله الفريابي أيضا عنه. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: هو البر والشعير. قوله: {بَاسِقَاتٍ} الطوال" وصله

(8/593)


الفريابي أيضا كذلك. وروى الطبري من طريق عبد الله بن شداد قال بسوقها طولها في قامة. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: يعني طولها. قوله: {أَفَعَيِينَا} أفأعيي علينا" سقط هذا لأبي ذر، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "رقيب عتيد رصد" وصله الفريابي أيضا كذلك. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يكتب كل ما تكلم به من خير وشر. ومن طريق سعيد بن أبي عروبة قال: قال الحسن وقتادة {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} أي ما يتكلم به من شيء إلا كتب عليه. وكان عكرمة يقول: إنما ذلك في الخير والشر قوله: "سائق وشهيد: الملكان كاتب وشهيد" وصله الفريابي كذلك. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن قال: سائق يسوقها وشهيد يشهد عليها بعملها. وروى نحوه بإسناد موصول عن عثمان. قوله: "وقال قرينه الشيطان الذي قيض له" وصله الفريابي أيضا؛ وقال عبد الرزاق عن قتادة نحو. قوله: "فنقبوا ضربوا" وصله الفريابي أيضا وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قول "فنقبوا في البلاد" قال: أثروا. وقال أبو عبيدة في قوله: {فَنَقَّبُوا} طافوا وتباعدوا، قال امرؤ القيس:
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
قوله: "أو ألقى السمع: لا يحدث نفسه بغيره" وصله الفريابي أيضا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال: هو رجل من أهل الكتاب ألقى السمع أي استمع للقرآن وهو شهيد على ما في يديه من كتاب الله أنه يجد النبي محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوبا، قال معمر وقال الحسن: هو منافق استمع ولم ينتفع. قوله: "حين أنشأكم وأنشأ خلقكم" سقط هذا لأبي ذر، وقد تقدم في بدء الخلق، وهو بقية تفسير قوله: "أفعيينا" وحقه أن يكتب عندها. قوله: "شهيد شاهد بالغيب" في رواية الكشميهني: "بالقلب" ووصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ الأكثر. قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} من نصب" وصله الفريابي كذلك، وتقدم في بدء الخلق أيضا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: قالت اليهود إن الله خلق الخلق في ستة أيام وفرغ من الخلق يوم الجمعة واستراح يوم السبت، فأكذبهم الله فقال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} . قوله: "وقال غيرهم نضيد: الكفري ما دام في أكمامه، ومعناه منضود بعضه على بعض، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد" هو قول أبي عبيدة بمعناه. قوله: {وأدبار النجوم} وأدبار السجود" كان عاصم يفتح التي في ق ويكسر التي في الطور ويكسران جميعا وينصبان" هو كما قال، ووافق عاصما أبو عمرو وابن عامر والكسائي على الفتح هنا، وقرأ الباقون بالكسر هنا، وقرأ الجمهور بالفتح في الطور وقرأها بالكسر عاصم على ما نقل المصنف؛ ونقلها غيره في الشواذ، فالفتح جمح دبر والكسر مصدر أدبر يدبر إدبارا، ورجح الطبري الفتح فيهما. قوله: "وقال ابن عباس يوم الخروج يوم يخرجون إلى البعث من القبور" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس بلفظه، وتقدم في الجنائز نحوه.

(8/594)


1- باب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}
4848- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَط"
[الحديث 4848- طرفاه في: 6661، 1384]

(8/594)


4849- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيُّ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يُوقِفُهُ أَبُو سُفْيَانَ "يُقَالُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ فَيَضَعُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدَمَهُ عَلَيْهَا فَتَقُولُ قَطْ قَط"
[الحديث 4849- طرفاه في: 4850، 7449]
4850- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ النَّارُ أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ وَقَالَتْ الْجَنَّةُ مَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إِلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَقَالَ لِلنَّارِ إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا فَأَمَّا النَّارُ فَلاَ تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَلاَ يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا"
قوله: "باب قوله {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} اختلف النقل عن قول جهنم {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} فظاهر أحاديث الباب أن هذا القول منها لطلب المزيد، وجاء عن بعض السلف انه استفهام إنكار كأنها تقول ما بقي في موضع للزيادة، فروى الطبري من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} أي هل من مدخل قد امتلأت؟ ومن طريق مجاهد نحوه، وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس وهو ضعيف ورجح الطبري أنه لطلب الزيادة على ما دلت عليه الأحاديث المرفوعة. وقال الإسماعيلي: الذي قاله مجاهد موجه، فيحمل على أنها قد تزاد وهي عند نفسها لا موضع فيها للمزيد. قوله في حديث أنس "يلق في النار وتقول هل من مزيد" في رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة "لا تزال جهنم يلقى فيها" أخرجه أحمد ومسلم. قوله: "حتى يضع قدمه فيها" كذا في رواية شعبة. وفي رواية سعيد "حتى يضع رب العزة فيها قدمه" . قوله: "فتقول قط قط" في رواية سعيد "فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك" وفي رواية سليمان التيمي عن قتادة "فتقول قد قد" بالدال بدل الطاء، وفي حديث أبي هريرة "فيضع الرب عليها قدمه فتقول قط قط" وفي الرواية التي تليها "فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول قط قط قط فهناك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض" وفي حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى "وجهنم تسأل المزيد حتى يضع فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد "فيلقى في النار أهلها فتقول هل من مزيد ويلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يأتيها عز وجل فيضع قدمه عليها فتنزوي فتقول قدني قدني" وقوله: "قط قط" أي حسبي حسبي، وثبت بهذا التفسير عند عبد الرزاق من حديث أبي هريرة، وقط بالتخفيف ساكنا، ويجوز الكسر بغير إشباع، ووقع في بعض النسخ عن أبي ذر "قطي قطي" بالإشباع و "قطني" بزيادة نون مشبعة. ووقع في حديث أبي سعيد ورواية سليمان التيمي بالدال بدل الطاء وهي لغة أيضا، كلها بمعنى يكفي. وقيل قط صوت جهنم. والأول هو الصواب عند الجمهور. ثم رأيت في

(8/595)


تفسير ابن مردويه من وجه آخر عن أنس ما يؤيد الذي قبله ولفظه: "فيضعها عليها فتقطقط كما يقطقط السقاء إذا امتلا" انتهى. فهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن في سنده موسى بن مطير وهو متروك. واختلف في المراد بالقدم فطريق السلف في هذا وغيره مشهورة وهو أن تمر كما جاءت ولا يتعرض لتأويله بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله1 وخاض كثير من أهل العلم في تأويل ذلك فقال: المراد إذلال جهنم، فإنها "إذا بالغت في الطغيان وطلب المزيد أذلها الله فوضعها تحت القدم، وليس المراد حقيقة القدم، والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء في ضرب الأمثال ولا تريد أعيانها، كقولهم رغم أنفه وسقط في يده. وقيل المراد بالقدم الفرط السابق أي يضع الله فيها ما قدمه لها من أهل العذاب، قال الإسماعيلي: القدم قد يكون اسما لما قدم كما يسمى ما خبط من ورق خبطا، فالمعنى ما قدموا من عمل. وقيل المراد بالقدم قدم بعض المخلوقين فالضمير للمخلوق معلوم، أو يكون هناك مخلوق اسمه قدم، أو المراد بالقدم الأخير لأن القدم آخر الأعضاء فيكون المعنى حتى يضع الله في النار آخر أهلها فيها ويكون الضمير للمزيد. وقال ابن حبان في صحيحه بعد إخراجه: هذا من الأخبار التي أطلقت بتمثيل المجاورة وذلك أن يوم القيامة يلقى في النار من الأمم والأمكنة التي عصى الله فيها فلا تزال تستزيد حتى يضع الرب فيها موضعا من الأمكنة المذكورة فتمتلئ لأن العرب تطلق القدم على الموضع، قال تعالى: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} يريد موضع صدق. وقال الداودي: المراد بالقدم قدم صدق وهو محمد، والإشارة بذلك إلى شفاعته، وهو المقام المحمود فيخرج من النار من كان في قلبه شيء من الإيمان. وتعقب بأن هذا منابذ لنص الحديث لأن فيه يضع قدمه بعد أن قالت هل من مزيد، والذي قاله مقتضاه أنه ينقص منها، وصريح الخبر أنها تنزوي بما يجعل فيها لا يخرج منها. قلت: ويحتمل أن يوجه بأن من يخرج منها يبدل عوضهم من أهل الكفر كما حملوا عليه حديث أبي موسى في صحيح مسلم: "يعطي كل مسلم رجلا من اليهود والنصارى فيقال: هذا فداءك من النار" فإن بعض العلماء قال: المراد بذلك أنه يقع عند إخراج الموحدين، وأنه يجعل مكان كل واحد منهم واحدا من الكفار بأن يعظم حتى يسد مكانه ومكان الذي خرج، وحينئذ فالقدم سبب للعظم المذكور، فإذا وقع العظم حصل الملء الذي تطلبه. ومن التأويل البعيد قول من قال: المراد بالقدم قدم إبليس، وأخذه من قوله: "حتى يضع الجبار فيها قدمه" وإبليس أول من تكبر فاستحق أن يسمى متجبرا وجبارا، وظهور بعد هذا يغني عن تكلف الرد عليه. وزعم ابن الجوزي أن الرواية التي جاءت بلفظ: "الرجل" تحريف من بعض الرواة لظنه أن المراد بالقدم الجارحة فرواها بالمعنى فأخطأ، ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد بالرجل إن كانت محفوظة الجماعة كما تقول رجل من جراد، فالتقدير يضع فيها جماعة، وأضافهم إليه إضافة اختصاص. وبالغ ابن فورك فجزم بأن الرواية بلفظ: "الرجل" غير ثابتة عند أهل النقل، وهو مردود لثبوتها في الصحيحين. وقد أولها غيره بنحو ما تقدم في القدم فقيل رجل بعض المخلوقين، وقيل إنها اسم مخلوق من المخلوقين، وقيل إن الرجل تستعمل في الزجر كما تقول وضعته تحت رجلي، وقيل إن الرجل تستعمل في طلب الشيء على سبيل الجد كما تقول قام في هذا الأمر على رجل. وقال أبو الوفاء بن عقيل: تعالى الله عن أنه لا يعمل أمره في
ـــــــ
(1) وهذا هو الصواب الذي كان عليه سلف الأمة من الصحابة إلى أئمة المتبوعين، وباب التأويل هو الذي دخل منه جميع أصحاب مذاهب الضلال إلى ضلالاتهم، والغيب قد استأثر الله بعلمه، وكما قال الإمام مالك في الاستواء "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" .

(8/596)


النار حتى يستعين عليها بشيء من ذاته أو صفاته وهو القائل للنار "كوني بردا وسلاما" فمن يأمر نارا أججها غيره أن تنقلب عن طبعها وهو الإحراق فتنقلب كيف يحتاج في نار يؤججها هو إلى استعانة انتهى. ويفهم جوابه من التفصيل الواقع ثالث أحاديث الباب حيث قال فيه: "ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار" فذكر الحديث وقال فيه: "ولا يظلم الله من خلقه أحدا" فإن فيه إشارة إلى أن الجنة يقع امتلاؤها بمن ينشئوهم الله لأجل ملئها، وأما النار فلا ينشئ لها خلقا بل يفعل فيها شيئا عبر عنه بما ذكر يقتضي لها أن ينضم بعضها إلى بعض فتصير ملأى ولا تحتمل مزيدا، وفيه دلالة على أن الثواب ليس موقوفا على العمل بل ينعم الله بالجنة على من لم يعمل خيرا قط كما في الأطفال. قوله: "حدثنا محمد بن موسى القطان" هو الواسطي، وأبو سفيان الحميري أدركه البخاري بالسن ولم يلقه. قوله: "حدثنا عوف" لأبي سفيان فيه سند آخر أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن عمر الجزائري عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة مطولا، وقوله: "رفعه وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان" القائل ذلك محمد ابن موسى الراوي عنه. وقال يوقفه من الرباعي وهو لغة والفصيح يقفه من الثلاثي، والمعنى أنه كان يرويه في أكثر الأحوال موقوفا ويرفعه أحيانا، وقد رفعه غيره أيضا. قوله: "أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة" وقع في مصنف عبد الرزاق في آخره: "قال معمر واخبرني أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله" وأخرجه مسلم بالوجهين. قوله: "تحاجت" أي تخاصمت. قوله: "بالمتكبرين والمتجبرين" قيل هما بمعنى، وقيل المتكبر المتعاظم بما ليس فيه والمتجبر الممنوع الذي لا يوصل إليه وقيل الذي لا يكترث بأمر. قوله: "ضعفاء الناس وسقطهم" بفتحتين أي المحتقرون بينهم الساقطون من أعينهم، هذا بالنسبة إلى ما عند الأكثر من الناس، وبالنسبة إلى ما عند الله هم عظماء رفعاء الدرجات، لكنهم بالنسبة إلى ما عند أنفسهم لعظمة الله عندهم وخضوعهم له في غاية التواضع لله والذلة في عباده، فوصفهم بالضعف والسقط بهذا المعنى صحيح، أو المراد بالحصر في قول الجنة "إلا ضعفاء الناس" الأغلب، قال النووي: هذا الحديث على ظاهره، وإن الله يخلق في الجنة والنار تمييزا يدركان به ويقدران على المراجعة والاحتجاج، ويحتمل أن يكون بلسان الحال، وسيأتي مزيدا لهذا في "باب قوله إن رحمة الله قريب من المحسنين" من كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى

(8/597)


باب {وسبح بحمد ربك قيل طلوع الشمس وقبل الغروب}
...
2- باب {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}
4851- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}
4852- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَرَهُ أَنْ يُسَبِّحَ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا يَعْنِي قَوْلَهُ {وَأدْبَارَ السُّجُودِ} "

(8/597)


قوله: "باب قوله فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" كذا لأبي ذر في الترجمة، وفي سياق الحديث، ولغيره "وسبح" بالواو فيهما وهو الموافق للتلاوة فهو الصواب، وعندهم أيضا: "وقبل الغروب" وهو الموافق لآية السورة. أورد فيه حديث جرير "إنكم سترون ربكم" الحديث وفي آخره: "ثم قرأ: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} وهذه الآية في طه. قال الكرماني: المناسب لهذه السورة "وقبل الغروب" لا غروبها. قلت: لا سبيل إلى التصرف في لفظ الحديث، وإنما أورد الحديث هنا لاتحاد دلالة الآيتين وقد تقدم في الصلاة، وكذا وقع هنا في نسخة من وجه آخر عن إسماعيل بن أبي خالد بلفظ: "ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} وسيأتي شرح حديث جرير في التوحيد إن شاء الله تعالى. ومضى منه شيء في فضل وقت العصر من المواقيت. قوله: "عن مجاهد قال قال ابن عباس: أمره أن يسبح" يعني أمر الله نبيه. وأخرجه الطبري من طريق ابن علية عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: "قال ابن عباس في قوله: "فسبحه وأدبار السجود" قال: هو التسبيح بعد الصلاة" . قوله: "في أدبار الصلوات كلها" يعني قوله وأدبار السجود، كذا لهم وروى الطبري من وجه آخر عن ابن عباس قال: "قال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن عباس ركعتان بعد المغرب أدبار السجود" وإسناده ضعيف، لكن روى ابن المنذر من طريق أبي تميم الجيشاني قال: "قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : هما الركعتان بعد المغرب" وأخرجه الطبري من طرق عن علي وعن أبي هريرة وغيرهما مثله. وأخرج ابن المنذر عن عمر مثله. وأخرج الطبري من طريق كريب بن يزيد أنه كان إذا صلى الركعتين بعد الفجر والركعتين بعد المغرب قرأ أدبار النجوم وأدبار السجود، أي بهما.

(8/598)


سورة الذاريات
...
51- سورة وَالذَّارِيَاتِ
قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَم {الذَّارِيَاتُ} الرِّيَاحُ وَقَالَ غَيْرُهُ تَذْرُوهُ تُفَرِّقُهُ {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ فِي مَدْخَلٍ وَاحِدٍ وَيَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ { فَرَاغَ} فَرَجَعَ {فَصَكَّتْ} فَجَمَعَتْ أَصَابِعَهَا فَضَرَبَتْ بِهِ جَبْهَتَهَا وَ {الرَّمِيمُ} نَبَاتُ الأَرْضِ إِذَا يَبِسَ وَدِيسَ {لَمُوسِعُونَ} أَيْ لَذُو سَعَةٍ وَكَذَلِكَ {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرَهُ} يَعْنِي الْقَوِيَّ {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} الذَّكَرَ وَالأُنْثَى وَاخْتِلاَفُ الأَلْوَانِ حُلْوٌ وَحَامِضٌ فَهُمَا زَوْجَانِ {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} مَعْنَاهُ مِنْ اللَّهِ إِلَيْهِ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} مَا خَلَقْتُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَرِيقَيْنِ إِلاَّ لِيُوَحِّدُونِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ خَلَقَهُمْ لِيَفْعَلُوا فَفَعَلَ بَعْضٌ وَتَرَكَ بَعْضٌ وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لأَهْلِ الْقَدَرِ وَ{الذَّنُوبُ} الدَّلْوُ الْعَظِيمُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ صَرَّةٍ صَيْحَةٍ {ذَنُوبًا} سَبِيلا {الْعَقِيمُ} الَّتِي لاَ تَلِدُ وَلاَ تُلْقِحُ شَيْئًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَ {الْحُبُكُ} اسْتِوَاؤُهَا وَحُسْنُهَا {فِي غَمْرَةٍ} فِي ضَلاَلَتِهِمْ يَتَمَادَوْنَ وَقَالَ غَيْرُهُ {تَوَاصَوْا} تَوَاطَئُوا وَقَالَ {مُسَوَّمَةً} مُعَلَّمَةً مِنْ السِّيمَا {قُتِلَ الإِنْسَانُ} لُعِن"
قوله: "سورة والذاريات. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت سورة والبسملة لغير أبي ذر، والواو للقسم،

(8/598)


والفاءات بعدها عاطفات من عطف المتغايرات وهو الظاهر، وجوز الزمخشري أنها من عطف الصفات، وأن الحاملات وما بعدها من صفات الريح. قوله: "قال على الرياح" كذا لهم، ولأبي ذر. وقال علي: الذاريات الرياح، وهو عند الفريابي عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن علي، وأخرجه ابن عيينة في تفسيره أتم من هذا عن ابن أبي الحسين "سمعت أبا الطفيل قال: سمعت ابن الكواء يسأل علي بن أبي طالب عن الذاريات ذروا قال: الرياح، وعن الحاملات وقرا، قال: السحاب، وعن الجاريات يسرا، قال: السفن، وعن المدبرات أمرا قال: الملائكة" وصححه الحاكم من وجه آخر عن أبي الطفيل. وابن الكواء بفتح الكاف وتشديد الواو اسمه عبد الله، وهذا التفسير مشهور عن علي. وأخرج عن مجاهد وابن عباس مثله، وقد أطنب الطبري في تخريج طرقه إلى علي، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن أبي الطفيل قال: "شهدت عليا وهو يخطب وهو يقول: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل أنزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل. فقال ابن الكواء وأنا بينه وبين علي وهو خلفي فقال: ما الذاريات ذروا؟ فذكر مثله وقال فيه: ويلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا" وفيه سؤاله عن أشياء غير هذا، وله شاهد مرفوع أخرجه البزار وابن مردويه بسند لين عن عمر. قوله: "وقال غيره تذروه تفرقه" هو قول أبي عبيدة، قال في سورة الكهف في قوله: {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي تفرقه، ذروته وأذريته. وقال في تفسير الذاريات الرياح، وناس يقولون المذريات ذرت وأذرت. قوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} تأكل وتشرب في مدخل واحد ويخرج من موضعين" أي القبل والدبر، وهو قول الفراء. قال في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} يعني أيضا آيات، إن أحدكم يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من موضعين، ثم عنفهم فقال: أَفَلا تُبْصِرُونَ} ولابن أبي حاتم من طريق السدي قال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} قال فيما يدخل من طعامكم وما يخرج. وأخرج الطبري من طريق محمد بن المريفع عن عبد الله بن الزبير في هذه الآية قال: سبيل الغائط والبول. قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} أي لعنوا، كذا في بعض النسخ، وقد تقدم في كتاب البيوع. وأخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قال: لعن الكذابون. وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قال: الكذابون. قوله: "فراغ فرجع" هو قول الفراء وزاد: والروغ وإن جاء بهذا المعنى فإنه لا ينطق به حتى يكون صاحبه لذهابه ومجيئه. وقال أبو عبيدة في قوله: "فراغ" أي عدل. قوله: "فصكت: فجمعت أصابعها فضربت به جبهتها" في رواية ابن ذر "سمعت" بغير فاء وهو قول الفراء بلفظه. ولسعيد بن منصور من طريق الأعمش عن مجاهد في قوله: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} قال ضربت بيدها على جبهتها وقالت يا ويلتاه. وروى الطبري من طريق السدي قال: ضربت وجهها عجبا. ومن طريق الثوري: وضعت يدها على جبهتها تعجبا. قوله: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} من معه لأنهم من قومه "هو قول قتادة أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه. وقال الفراء وثبت هذا هنا للنسفي وحده. قوله: "والرميم نبات الأرض إذا يبس وديس" هو قول الفراء، وديس بكسر الدال وسكون التحتانية بعدها مهملة من الدوس وهو وطء الشيء بالقدم حتى يفتت ومنه دياس الأرض. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الرميم الشجر. وأخرج الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الرميم الهالك. قوله: "لموسعون أي لذو سعة، وكذلك على الموسع قدره" يعني في قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} أي من يكون ذا سعة،

(8/599)


قال الفراء {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي لذو سعة لخلقنا، وكذا قوله: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} يعني القوي. وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح قال: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} قال أن نخلق سماء مثلها. قوله: "زوجين الذكر والأنثى واختلاف الألوان حلو وحامض فهما زوجان" هو قول الفراء أيضا ولفظه: الزوجان من جميع الحيوان الذكر والأنثى، ومن سوى ذلك اختلاف ألوان النبات وطعوم الثمار بعض حلو وبعض حامض. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي معناه. وأخرج الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} قال: الكفر والإيمان والشقاوة والسعادة والهدى والضلالة والليل والنهار والسماء والأرض والجن والإنس. قوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} : من الله إليه" أي من معصيته إلى طاعته أو من عذابه إلى رحمته، هو قول الفراء أيضا. قوله: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} في رواية أبي ذر {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ما خلقت أهل السعادة من أهل الفريقين إلا ليوحدون، هو قول الفراء، ونصره ابن قتيبة في "مشكل القرآن" له. وسبب الحمل على التخصيص وجود من لا يعبده، فلو حمل على ظاهره لوقع التنافي بين العلة والمعلول. قوله: "وقال بعضهم خلقهم ليفعلوا ففعل بعض وترك بعض، وليس فيه حجة لأهل القدر" هو كلام الفراء أيضا، وحاصل التأويلين أن الأول محمول على أن اللفظ العام مراد به الخصوص، وأن المراد أهل السعادة من الجن والإنس، والثاني باق على عمومه لكن بمعنى الاستعداد، أي خلقهم معدين لذلك لكن منهم من أطاع ومنهم من عصي، وهو كقولهم الإبل مخلوقة للحرث أي قابلة لذلك، لأنه قد يكون فيها ما لا يحرث. وأما قوله: "وليس فيه حجة لأهل القدر" فيريد المعتزلة، لأن محصل الجواب أن المراد بالخلق خلق التكليف لا خلق الجبلة، فمن وفقه عمل لما خلق له ومن خذله خالف، والمعتزلة احتجوا بالآية المذكورة على أن إرادة الله لا تتعلق به، والجواب أنه لا يلزم من كون الشيء معللا بشيء أن يكون ذلك الشيء مرادا وأن لا يكون غيره مرادا، ويحتمل أن يكون مراده بقوله: "وليس فيه حجة لأهل القدر" أنهم يحتجون بها على أن أفعال الله لا بد وأن تكون معلولة فقال: لا يلزم من وقوع التعليل في موضع وجوب التعليل في كل موضع، ونحن نقول بجواز التعليل لا بوجوبه، أو لأنهم احتجوا بها على أن أفعال العباد مخلوقة لهم لإسناد العبادة إليهم فقال: لا حجة لهم في ذلك لأن الإسناد من جهة الكسب، وفي الآية تأويلات أخرى يطول ذكرها. وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: خلقهم للعبادة، فمن العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع. قوله: "والذنوب الدلو العظيم" هو قول الفراء لكن قال: "العظيمة" وزاد: ولكن العرب تذهب بها إلى الحظ والنصيب. وقال أبو عبيدة: الذنوب النصيب، وأصله من الدلو، والذنوب والسجل واحد، والسجل أقل ملإ من الدلو قوله: "وقال مجاهد ذنوبا سبيلا" وقع هذا مؤخرا عن الذي بعده لغير أبي ذر والذي عنده أولى، وقد وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} قال: سجلا من العذاب مثل عذاب أصحابهم. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن مجاهد في قوله: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً} قال: سبيلا. قال وقال ابن عباس: سجلا، وهو بفتح المهملة وسكون الجيم. ومن طريق ابن جريج عن عطاء مثله وأنشد عليه شاهدا. قوله: "صرة صيحة" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد. وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة في قوله: "صرة" شدة صوت، يقال أقبل فلان يصطر أي يصوت صوتا شديدا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: أقبلت ترن. قوله: "العقيم التي لا

(8/600)


تلد" زاد أبو ذر "ولا تلقح شيئا" أخرج ابن المنذر من طريق الضحاك قال: العقيم التي لا تلد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: العقيم التي لا تنبت. وأخرج الطبري والحاكم من طريق خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال: الريح العقيم التي لا تلقح شيئا. قوله: "وقال ابن عباس والحبك استواؤها وحسنها" تقدم في بدء الخلق. وأخرجه الفريابي عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، ومن طريق سفيان أخرجه الطبري وإسناده صحيح لأن سماع الثوري من عطاء بن السائب كان قبل الاختلاط. وأخرجه الطبري من وجه آخر صحيح عن ابن عباس. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {ذَاتِ الْحُبُكِ} قال: ذات الخلق الحسن وللطبري من طريق عوف عن الحسن قال: حبكت بالنجوم. ومن طريق عمران بن جدير: سئل عكرمة عن قوله: {ذَاتِ الْحُبُكِ} قال: ذات الخلق الحسن، ألم تر إذا نسج إذا نسج الثوب قال: ما أحسن ما حبكه. قوله: "في غمرة: في ضلالتهم يتمادون" كذا للأكثر، ولأبي ذر {فِي غَمْرَتِهِمْ} والأول أولى لوقوعه في هذه السورة، وأما الثاني فهو في سورة الحجر، لكن قوله في ضلالتهم يؤيد الثاني وكأنه ذكره كذلك هنا للاشتراك في الكلمة وقد وصله ابن أبي حاتم والطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} قال: في ضلالتهم يتمادون. ووقع في رواية النسفي "في صلاتهم أو ضلالتهم" بالشك والأول تصحيف. قوله: "وقال غيره تواصوا به تواطئوا" سقط هذا لأبي ذر، وقد أخرجه ابن المنذر من طريق أبي عبيدة في قوله: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} تواطئوا عليه وأخذه بعضهم عن بعض، وإذا كانت شيمة غالبة على قوم قيل كأنما تواصوا به. وروى الطبري من طرق عن قتادة قال: هل أوصى الأول الأخر منهم بالتكذيب؟. قوله: "وقال غيره مسومة معلمة من السيما" هو قول أبي عبيدة، ووصله ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {مُسَوَّمَةً} قال: معلمة. وأخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {مُسَوَّمَةً} قال مختومة بلون أبيض وفيه نقطة سوداء وبالعكس. قوله: "قتل الإنسان لعن" سقط هذا لغير أبي ذر، وقد تقدم تفسير قتل بلعن في أوائل السورة. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج في قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قال: هي مثل التي في عبس {قُتِلَ الْأِنْسَانُ} .
" تنبيه " : لم يذكر البخاري في هذه السورة حديثا مرفوعا، ويدخل فيها على شرطه حديث أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من طريق أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال: "أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني أنا الرزاق ذو القوة المتين} " قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان.

(8/601)


52- سورة وَالطُّورِ
وَقَالَ قَتَادَةُ {مَسْطُورٍ} مَكْتُوبٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {الطُّورُ} الْجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ {رَقٍّ مَنْشُورٍ} صَحِيفَةٍ {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} سَمَاءٌ {الْمَسْجُورِ} الْمُوقَدِ وَقَالَ الْحَسَنُ تُسْجَرُ حَتَّى يَذْهَبَ مَاؤُهَا فَلاَ يَبْقَى فِيهَا قَطْرَةٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَلَتْنَاهُمْ} نَقَصْنَا وَقَالَ غَيْرُهُ {تَمُورُ} تَدُورُ {أَحْلاَمُهُمْ} الْعُقُولُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْبَرُّ اللَّطِيفُ {كِسْفًا} قِطْعًا {الْمَنُونُ} الْمَوْتُ وَقَالَ غَيْرُهُ {يَتَنَازَعُونَ} يَتَعَاطَوْنَ.
قوله: "سورة الطور. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر، واقتصر الباقون على والطور، والواو للقسم

(8/601)


وما بعدها عاطفات أو للقسم أيضا. قوله: "وقال قتادة: مسطور مكتوب" سقط هذا من رواية أبي ذر وثبت لهم في التوحيد، وقد وصله المصنف في كتاب خلق أفعال العباد من طريق سعيد عن قتادة. قوله: "وقال مجاهد: الطور الجبل بالسريانية" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا؛ قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: قوله والطور قال جبل يقال له الطور. وعمن سمع عكرمة مثله. وقال أبو عبيدة: الطور الجبل في كلام العرب. وفي المحكم: الطور الجبل، وقد غلب على طور سيناء جبل بالشام، وهو بالسريانية طوري بفتح الراء والنسبة إليه طوري وطوراني. قوله: "رق منشور صحيفة" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "وكتاب مسطور، في رق منشور" قال صحف ورق. قوله: "منشور" قال: صحيفة. قوله: "والسقف المرفوع سماء" سقط هذا لأبي ذر، وتقدم في بدء الخلق. قوله: "والمسجور الموقد" في رواية الحموي والنسفي "الموقر" بالراء والأول هو الصواب، وقد وصله إبراهيم الحربي في "غريب الحديث:"والطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال: "الموقد" بالدال. وأخرج الطبري من طريق سعيد بن المسيب قال: قال علي لرجل من اليهود أين جهنم؟ قال: البحر. قال ما أراه إلا صادقا. ثم تلا: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} وعن زيد بن أسلم قال: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} الموقد {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أوقدت. ومن طريق شمر بن عطية قال: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} التنور المسجور، قال: وفيه قول آخر، قال أبو عبيدة: المسجور المملوء وأخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة مثله، ورجحه الطبري. قوله: "وقال الحسن: تسجر حتى يذهب ماؤها فلا يبقى فيها قطرة" وصله الطبري من طريق سعيد عن قتادة عن الحسن في قوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} فذكره، فبين الحسن أن ذلك يقع يوم القيامة، وأما اليوم فالمراد بالمسجور الممتلئ. ويحتمل أن يطلق عليه ذلك باعتبار ما يئول إليه حاله. قوله: "وقال مجاهد: ألتناهم نقصناهم" وقد تقدم في الحجرات. وأخرج عبد الرزاق مثله عن ابن عباس بإسناد صحيح، وعن معمر عن قتادة قال: ما ظلمناهم. قوله: "وقال غيره تمور تدور" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال في قوله تعالى: {وْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} قال: مورها تحركها. وأخرج الطبري من طريق ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {يوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} قال: تدور دورا. قوله: "أحلامهم: العقول" هو قول زيد بن أسلم، ذكره الطبري عنه. وقال الفراء: الأحلام في هذا الموضع العقول والألباب. قوله: "وقال ابن عباس: البر اللطيف" سقط هذا لأبي ذر هنا وثبت لهم في التوحيد، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، وسيأتي الكلام عليه في التوحيد إن شاء الله تعالى. قوله: "كسفا قطعا" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ولابن أبي حاتم من طريق قتادة مثله، ومن طريق السدي قال: عذابا. وقال أبو عبيدة "كسفا" الكسف جمع كسفة مثل السدر جمع سدرة. وهذا يضعف قول من رواه بالتحريك فيهما، وقد قيل إنها قراءة شاذة وأنكرها بعضهم وأثبتها أبو البقاء العكبري وغيره. قوله: "المنون الموت" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {رَيْبَ الْمَنُونِ} قال: الموت. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. وأخرج الطبري من طريق مجاهد قال: المنون حوادث الدهر. وذكر ابن إسحاق في السيرة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس: أن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة قال قائل منهم: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء، فإنما هو واحد منهم. فأنزل

(8/602)


الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} وهذا كله يؤيد قول الأصمعي: أن المنون واحد لا جمع له، ويبعد قول الأخفش أنه جمع لا واحد له. وأما قول الداودي: أن المنون جمع منية فغير معروف، مع بعده من الاشتقاق. قوله: "وقال غيره يتنازعون: يتعاطون" هو قول أبي عبيدة وصله ابن المنذر من طريقه وزاد: أي يتداولون. قال الشاعر "نازعته الراح حتى وقفه الساري"
1- باب 4853- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ: "طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ" فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُور"
4854- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثُونِي عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ} قَالَ كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ قَالَ سُفْيَانُ فَأَمَّا أَنَا فَإِنَّمَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ زَادَ الَّذِي قَالُوا لِي".
قوله: "عن أم سلمة قالت. شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي" أي أنها كانت ضعيفة لا تقدر على الطواف ماشية، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج. قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة "قال حدثوني عن الزهري" اعترضه الإسماعيلي بما أخرجه من طريق عبد الجبار بن العلاء وابن أبي عمر كلاهما عن ابن عيينة "سمعت الزهري قال:"فصرحا عنه بالسماع، وهما ثقتان. قلت: وهو اعتراض ساقط؛ فإنهما ما أوردا من الحديث إلا القدر الذي ذكره الحميدي عن سفيان أنه سمعه من الزهري، بخلاف الزيادة التي صرح الحميدي عنه بأنه لم يسمعها من الزهري، وإنما بلغته عنه بواسطة. قوله: "كاد قلبي يطير" قال الخطابي كأنه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها ومعرفته بما تضمنته، ففهم الحجة فاستدركها بلطيف طبعه، وذلك من قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} قيل معناه ليسوا أشد خلقا من خلق السموات والأرض لأنهما خلقتا من غير شيء، أي هل خلقوا باطلا لا يؤمرون ولا ينهون؟ وقيل المعنى أم خلقوا من غير خالق؟ وذلك لا يجوز فلا بد لهم من خالق، وإذا أنكروا الخالق فهم الخالقون لأنفسهم، وذلك في الفساد والبطلان أشد، لأن ما لا وجود له كيف يخلق، وإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا. ثم قال: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي إن جاز لهم أن يدعوا خلق أنفسهم فليدعوا خلق السموات والأرض، وذلك لا يمكنهم، فقامت الحجة. ثم قال: {بَلْ لا يُوقِنُونَ} فذكر العلة التي عاقتهم عن الإيمان وهو عدم اليقين الذي هو موهبة من الله ولا يحصل إلا بتوفيقه، فلهذا انزعج جبير حتى كاد قلبه يطير، ومال إلى الإسلام. انتهي. ويستفاد من قوله فلما بلغ

(8/603)


هذه الآية أنه استفتح من أول السورة، وظاهر السياق أنه قرأ إلى آخرها، وقد تقدم البحث في ذلك في صفة الصلاة

(8/604)


53- سورة وَالنَّجْمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {ذُو مِرَّةٍ} ذُو قُوَّةٍ {قَابَ قَوْسَيْنِ } حَيْثُ الْوَتَرُ مِنْ الْقَوْسِ {ضِيزَى} عَوْجَاءُ {وَأَكْدَى} قَطَعَ عَطَاءَهُ {رَبُّ الشِّعْرَى} هُوَ مِرْزَمُ الْجَوْزَاءِ {الَّذِي وَفَّى} وَفَّى مَا فُرِضَ عَلَيْهِ {أَزِفَتْ الآزِفَةُ} اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ {سَامِدُونَ} الْبَرْطَمَةُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ يَتَغَنَّوْنَ بِالْحِمْيَرِيَّةِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ {أَفَتُمَارُونَهُ} أَفَتُجَادِلُونَهُ وَمَنْ قَرَأَ أَفَتَمْرُونَهُ يَعْنِي أَفَتَجْحَدُونَهُ وَقَالَ {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} بَصَرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا طَغَى} وَمَا جَاوَزَ مَا رَأَى {فَتَمَارَوْا} كَذَّبُوا وَقَالَ الْحَسَنُ {إِذَا هَوَى} غَابَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَغْنَى وَأَقْنَى} أَعْطَى فَأَرْضَى
قوله: "سورة والنجم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كذا لأبي ذر، وللباقين والنجم حسب، والمراد بالنجم الثريا في قول مجاهد أخرجه ابن عيينة في تفسيره عن ابن أبي نجيح عنه. وقال أبو عبيدة: النجم والنجوم، ذهب إلى لفظ الواحد وهو بمعنى الجميع قال الشاعر "وباتت تعد النجم في مستجره" قال الطبري: هذا القول له وجه، ولكن ما أعلم أحدا من أهل التأويل قاله، والمختار قول مجاهد. ثم روى من وجه آخر عن مجاهد أن المراد به القرآن إذا نزل. ولابن أبي حاتم بلفظ: النجم نجوم القرآن. قوله: "وقال مجاهد: ذو مرة ذو قوة" وصله الفريابي بلفظ "شديد القوي ذو مرة" قوة جبريل. وقال أبو عبيدة ذو مرة أي شدة وإحكام. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {ذُو مِرَّةٍ} قال: ذو خلق حسن. قوله: "قاب قوسين حيث الوتر من القوس" سقط هذا لأبي ذر ووصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظه. وقال أبو عبيدة قاب قوسين أي قدر قوسين أو أدنى أو أقرب. قوله: "ضيزي عوجاء" وصله الفريابي أيضا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ضيزي جائرة. وأخرج الطبري من وجه ضعيف عن ابن عباس مثله. وقال أبو عبيدة: ناقصة، تقول ضأزته حقه نقصته. قوله: "وأكدي قطع عطاءه" وصله الفريابي بلفظ: "اقتطع عطاءه" وروى الطبري من هذا الوجه عن مجاهد أن الذي نزلت فيه هو الوليد بن المغيرة ومن طريق أخرى منقطعة عن ابن عباس أعطي قليلا أي أطاع قليلا ثم انقطع. وأخرج ابن مردويه من وجه لين عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أعطي قليلا ثم قطع ذلك. وقال أبو عبيدة: مأخوذ من الكدية بالضم وهو أن يحفر حتى ييأس من الماء. قوله: "رب الشعري هو مرزم الجوزاء" وصله الفريابي بلفظه. وأخرج الطبري من طريق خصيف عن مجاهد قال: الشعري الكوكب الذي خلف الجوزاء كانوا يعبدونه وأخرج الفاكهي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت في خزاعة وكانوا يعبدون الشعري، وهو الكوكب الذي يتبع الجوزاء. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: كان ناس في الجاهلية يعبدون هذا النجم الذي يقال له الشعري. وأخرجه الطبري من وجه آخر عن مجاهد قال: النجم الذي يتبع الجوزاء. وقال أبو حنيفة الدينوري في "كتاب الأنواء" : الغدرة والشعري العبور والجوزاء في نسق واحد وهن نجوم مشهورة، قال: وللشعري

(8/604)


ثلاثة أزمان إذا رؤيت غدوة طالعة فذاك صميم الحر، وإذا رؤيت عشاء طالعة فذاك صميم البرد، ولها زمان ثالث وهو وقت نوئها. وأحد كوكبي الذراع المقبوضة هي الشعري الغميصاء وهي تقابل الشعري العبور والمجرة بينهما، ويقال لكوكبها الآخر الشمالي المرزم مرزم الذراع، وهما مرزمان هذا وآخر في الجوزاء، وكانت العرب تقول انحدر سهيل فصار يمانيا فتبعته الشعري فعبرت إليه المجرة وأقامت الغميصاء فبكت عليه حتى غمصت عينها والشعريان الغميصاء والعبور يطلعان معا. وقال ابن التين: المرزم بكسر الميم وسكون الراء وفتح الزاي نجم يقابل الشعري من جهة القبلة لا يفارقها وهو الهنعة. قوله: "الذي وفي وفي ما فرض عليه" وصله الفريابي بلفظه، وروى سعيد بن منصور عن عمرو بن أوس قال: وفي أي بلغ. وروى ابن المنذر من وجه آخر عن عمرو بن أوس قال كان الرجل يؤخذ بذنب غيره حتى جاء إبراهيم فقال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ومن طريق هذيل بن شرحبيل نحوه، وروى الطبري بإسناد ضعيف عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى، لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وروى عبد بن حميد بإسناد ضعيف عن أبي أمامة مرفوعا: وفى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار. قوله: "أزفت الآزفة اقتربت الساعة" سقط هذا لأبي ذر هنا ويأتي في الرقاق، وقد وصله الفريابي من طريق مجاهد كذلك. وقال أبو عبيدة: دنت القيامة. قوله: "سامدون: البرطمة" كذا لهم وفي رواية الحموي والأصيلي والقابسي "البرطنة" بالنون بدل الميم. "وقال عكرمة يتغنون بالحميرية" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} قال: من هذا القرآن. {أَنْتُمْ سَامِدُونَ} قال: البرطمة. قال وقال عكرمة: السامدون يتغنون بالحميرية، ورواه الطبري من هذا الوجه عن مجاهد قال: كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم غضابا مبرطمين. قال وقال عكرمة هو الغناء بالحميرية. وروى ابن عيينة في تفسيره عن ابن أبي نجيح عن عكرمة في قوله: {أَنْتُمْ سَامِدُونَ} هو الغناء بالحميرية يقولون: أسمد لنا أي غن لنا. وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" وعبد الرزاق من وجهين آخرين عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {أَنْتُمْ سَامِدُونَ} قال: الغناء. قال عكرمة وهي بلغة أهل اليمن، إذا أراد اليماني أن يقول تغن قال اسمد. لفظ عبد الرزاق. وأخرجه من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس قال: لاهون. وعن معمر عن قتادة قال: غافلون. ولابن مردويه من طريق محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: معرضون.
" تنبيه " : البرطمة بفتح الموحدة وسكون الراء وفتح الطاء المهملة الإعراض. وقال ابن عيينة: البرطمة هكذا ووضع ذقنه في صدره. قوله: "وقال إبراهيم أفتمارونه: أفتجادلونه" وصله سعيد بن منصور عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم النخعي به، وجاء عن إبراهيم بهذا الإسناد فيه القراءة التي بعد هذه. قوله: "ومن قرأ أفتمرونه يعني أفتجحدونه" كذا لهم. وفي رواية الحموي "أفتجحدون" بغير ضمير، وقد وصله الطبري أيضا عن يعقوب بن إبراهيم عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقرأ: {أَفَتُمَارُونَهُ} يقول: أفتجحدونه فكأن إبراهيم قرأ بهما معا وفسرهما، وقد صرح بذلك سعيد بن منصور في روايته المذكورة عن هشيم، قال الطبري: وهكذا قرأ ابن مسعود وعامة قراء أهل الكوفة، وقرأها الباقون وبعض الكوفيين "أفتمارونه" أي تجادلونه. قلت: قرأها من الكوفيين عاصم كالجمهور. وقال الشعبي: كان شريح يقرأ: {أَفَتُمَارُونَهُ} ومسروق يقرأ: {أفتمرونه" ، وجاء عن الشعبي أنه قرأها كذلك لكن بضم التاء. قوله: "ما زاغ

(8/605)


البصر بصر محمد صلى الله عليه وسلم" في رواية أبي ذر "وقال ما زاغ إلخ" ولم يعين القائل، وهو قول الفراء. وقال في قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} : بصر محمد يقلبه يمينا وشمالا. وأخرج الطبري من طريق محمد بن كعب القرظي في قوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} قال: رأى محمد جبريل في صورة الملك. ومسألة الرؤية مشهورة سيأتي ذكرها في شرح حديث عائشة في هذه السورة. قوله: "وما طغى وما جاوز ما رأى" لا رواية الكشميهني: "ولا بدل" وما هو بقية كلام الفراء أيضا ولفظه: "وما جاوز: . وروى الطبري من طريق مسلم البطين عن ابن عباس في قوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} ما ذهب يمينا ولا شمالا {وَمَا طَغَى} ما جاوز ما أمر به. قوله: "فتماروا كذبوا" كذا لهم، ولم أر في هذه السورة "فتماروا" وإنما فيها "أفتمارونه" وقد تقدم ما فيها، وفي آخرها تتمارى. ولعله انتقال من بعض النساخ لأن هذه اللفظة في السورة التي تلي هذه، وهي قوله: {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} ، وحكى الكرماني عن بعض النسخ هنا "تتمارى تكذب" ولم أقف عليه، وهو بمعنى ما تقدم. ثم ظهر لي بعد ذلك أنه اختصر كلام الفراء، وذلك أنه قال في قوله تعالى: {بِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} قال: فبأي نعمة ربك تكذب أنها ليست منه، وكذلك قوله: {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} كذبوا بالنذر. قوله: "وقال الحسن: إذا هوى غاب" وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عنه. قوله: "وقال ابن عباس: أغنى وأقنى أعطى فأرضى" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه. وأخرج الفريابي من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: أقني قنع. ومن طريق أبي رجاء عن الحسن قال: أخدم. وقال أبو عبيدة: أقنى جعل له قنية أي أصول مال، قال وقالوا: أقنى أرضى، يشير إلى تفسير ابن عباس، وتحقيقه أنه حصل له قنية من الرضا.

(8/606)


باب حديث عائشة عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه
...
1- باب 4855- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا أُمَّتَاهْ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ فَقَالَتْ لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلاَثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآيَةَ وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَم فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْن"
قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن موسى. قوله: "عن عامر" هو الشعبي. قوله: "عن مسروق" في رواية الترمذي زيادة قصة في سياقه، فأخرج من طريق مجالد عن الشعبي قال: "لقي ابن عباس كعبا بعرفة فسأله عن شيء فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم، فقال له كعب إن الله قسم رؤيته وكلامه" هكذا في سياق الترمذي، وعند عبد الرزاق من هذا الوجه" فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم نقول إن محمدا رأى ربه مرتين، فكبر كعب وقال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين. قال مسروق: فدخلت على عائشة فقلت هل رأى محمد ربه" الحديث. ولابن مردويه من طريق إسماعيل بن أبي خالد

(8/606)


عن الشعبي عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن كعب مثله، قال - يعني الشعبي - فأتى مسروق عائشة فذكر الحديث فظهر بذلك سبب سؤال مسروق لعائشة عن ذلك. قوله: "يا أمتاه" أصله يا أم والهاء للسكت فأضيف إليها ألف الاستغاثة فأبدلت تاء وزيدت هاء السكت بعد الألف. ووقع في كلام الخطابي إذا نادوا قالوا يا أمة عند السكت، وعند الوصل يا أمة بالمثناة، فإذا فتحوا للندبة قالوا يا أمتاه والهاء للسكت. وتعقبه الكرماني بأن قول مسروق يا أمتاه ليس للندبة إذ ليس هو تفجعا عليها، وهو كما قال. قوله: "هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ قالت: لقد قف شعري" أي قام من الفزع، لما حصل عندها من هيبة الله واعتقدته من تنزيهه واستحالة وقوع ذلك، قال النضر بن شميل القف بفتح القاف وتشديد الفاء كالقشعريرة، وأصله التقبض والاجتماع، لأن الجلد ينقبض عند الفزع فيقوم الشعر لذلك. قوله: "أين أنت من ثلاث"؟ أي كيف يغيب فهمك عن هذه الثلاثة؟ وكان ينبغي لك أن تكون مستحضرها ومعتقدا كذب من يدعي وقوعها. قوله: "من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب" تقدم في بدء الخلق من رواية القاسم ابن محمد عن عائشة "من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم" ولمسلم من حديث مسروق المذكور من طريق داود ابن أبي هند عن الشعبي "فقد أعظم على الله الفرية" . قوله: "ثم قرأت: لا تدركه الأبصار" قال النووي تبعا لغيره: لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع ولو كان معها لذكرته، وإذا اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقا والمراد بالإدراك في الآية الإحاطة، وذلك لا ينافي الرؤية. انتهي. وجزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع تبع فيه ابن خزيمة فإنه قال في كتاب التوحيد من صحيحه: النفي لا يوجب علما، ولم تحك عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها أنه لم ير ربه، وإنما تأولت الآية. انتهى. وهو عجيب، فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ، فعنده من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق في الطريق المذكورة قال مسروق "وكنت متكئا فجلست فقلت. ألم يقل الله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إنما هو جبريل" وأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بهذا الإسناد "فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فقلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: " لا إنما رأيت جبريل منهبطا" نعم احتجاج عائشة بالآية المذكورة خالفها فيه ابن عباس، فأخرج الترمذي من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: "رأى محمد ربه، قلت: أليس الله يقول: "لا تدركه الأبصار"؟ قال: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين" وحاصله أن المراد بالآية نفي الإحاطة به عند رؤياه لا نفي أصل رؤياه. واستدل القرطبي في "المفهم" لأن الإدراك لا ينافي الرؤية بقوله تعالى حكاية عن أصحاب موسى {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا} وهو استدلال عجيب لأن متعلق الإدراك في آية الأنعام البصر، فلما نفي كان ظاهره نفي الرؤية، بخلاف الإدراك الذي في قصة موسى، ولولا وجود الإخبار بثبوت الرؤية ما ساغ العدول عن الظاهر. ثم قال القرطبي: الأبصار في الآية جمع محلى بالألف واللام فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعا في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فيكون المراد الكفار بدليل قوله تعالى في الآية الأخرى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: وإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا لتساوي الوقتين بالنسبة إلى المرئي انتهي. وهو استدلال جيد. وقال عياض: رؤية الله سبحانه وتعالى جائزة

(8/607)


عقلا، وثبتت الأخبار الصحيحة المشهورة بوقوعها للمؤمنين في الآخرة، وأما في الدنيا فقال مالك: إنما لم ير سبحانه في الدنيا لأنه باق، والباقي لا يرى بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي. قال عياض: وليس في هذا الكلام استحالة الرؤية إلا من حيث القدرة، فإذا قدر الله من شاء من عباده عليها لم يمتنع. قلت: ووقع في صحيح مسلم ما يؤيد هذه التفرقة في حديث مرفوع فيه: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" وأخرجه ابن خزيمة أيضا من حديث أبي أمامة، ومن حديث عبادة بن الصامت، فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلا فقد امتنعت سمعا، لكن من أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم له أن يقول إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه. وقد اختلف السلف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه فذهبت عائشة وابن مسعود إلى إنكارها، واختلف عن أبي ذر، وذهب جماعة إلى إثباتها، وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه حلف أن محمدا رأى ربه. وأخرج ابن خزيمة عن عروة بن الزبير إثباتها، وكان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس، وجزم به كعب الأحبار والزهري وصاحبه معمر وآخرون، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه. ثم اختلفوا هل رآه بعينه أو بقلبه؟ وعن أحمد كالقولين. قلت: جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة وأخرى مقيدة، فيجب حمل مطلقها على مقيدها، فمن ذلك ما أخرجه النسائي بإسناد صحيح وصححه الحاكم أيضا من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد؟ وأخرجه ابن خزيمة بلفظ: "إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة" الحديث. وأخرج ابن إسحاق من طريق عبد الله بن أبي سلمة أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس: هل رأى محمد ربه؟ فأرسل إليه أن نعم. ومنها ما أخرجه مسلم من طريق أبي العالية عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال: رأي ربه بفؤاده مرتين. وله من طريق عطاء عن ابن عباس قال: رآه بقلبه وأصرح من ذلك ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء أيضا عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه، إنما رآه بقلبه. وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباته على رؤية القلب. ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله على الدوام. بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما يخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا، ولو جرت العادة بخلقها في العين، وروى ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس قال: "رأى محمد ربه" ، وعند مسلم من حديث أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "نور أني أراه" ولأحمد عنه، قال: "رأيت نورا" ولابن خزيمة عنه قال: "رآه بقلبه ولم يره بعينه" . وبهذا يتبين مراد أبي ذر بذكره النور أي النور حال بين رؤيته له ببصره، وقد رجح القرطبي في "المفهم" قول الوقف في هذه المسألة وعزاه الجماعة من المحققين، وقواه بأنه ليس في الباب دليل قاطع، وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل، قال وليست المسألة من العمليات فيكتفي فيها بالأدلة الظنية، وإنما هي من المعتقدات فلا يكتفي فيها إلا بالدليل القطعي وجنح ابن خزيمة في "كتاب التوحيد" إلى ترجيح الإثبات وأطنب في الاستدلال له بما يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤيا وقعت مرتين مرة بعينه ومرة بقلبه، وفيما أوردته من ذلك مقنع. وممن أثبت الرؤية لنبينا صلى الله عليه وسلم الإمام أحمد فروى الخلال في "كتاب السنة" عن المروزي قلت لأحمد إنهم يقولون إن عائشة قالت: "من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية" فبأي شيء يدفع قولها؟ قال: بقول النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي،

(8/608)


قول النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها. وقد أنكر صاحب "الهدى" على من زعم أن أحمد قال رأى ربه بعيني رأسه قال: وإنما قال مرة رأى محمد ربه وقال مرة بفؤاده. وحكى عنه بعض المتأخرين رآه بعيني رأسه وهذا من تصرف الحاكي، فإن نصوصه موجودة. ثم قال ينبغي أن يعلم الفرق بين قولهم كان الإسراء مناما وبين قولهم كان بروحه دون جسده فإن بينهما فرقا، فإن الذي يراه النائم قد يكون حقيقة بأن تصعد الروح مثلا إلى السماء، وقد يكون من ضرب المثل أن يرى النائم ذلك وروحه لم تصعد أصلا، فيحتمل من قال أسرى بروحه ولم يصعد جسده أراد أن روحه عرج بها حقيقة فصعدت ثم رجعت وجسده باق في مكانه خرقا للعادة، كما أنه في تلك الليلة شق صدره والتأم وهو حي يقظان لا يجد بذلك ألما انتهى. وظاهر الأخبار الواردة في الإسراء تأبى الحمل على ذلك، بل أسرى بجسده وروحه وعرج بهما حقيقة في اليقظة لا مناما ولا استغراقا، والله أعلم. وأنكر صاحب "الهدى" أيضا على من زعم أن الإسراء تعدد واستند إلى استبعاد أن يتكرر قوله: "ففرض عليه خمسين صلاة وطلب التخفيف" إلى آخر القصة فإن دعوى التعدد تستلزم أن قوله تعالى "أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي" أن فرضية الخمسين وقعت بعد أن وقع التخفيف، ثم وقع سؤال التخفيف والإجابة إليه وأعيد "أمضيت فريضتي" إلى آخره، انتهى. وما أظن أحدا ممن قال بالتعدد يلتزم إعادة مثل ذلك يقظة، بل يجوز وقوع مثل ذلك مناما ثم وجوده يقظة كما في قصة المبعث، وقد تقدم تقريرها. ويجوز تكرير إنشاء الرؤية ولا تبعد العادة تكرير وقوعه كاستفتاح السماء وقول كل نبي ما نسب إليه، بل الذي يظن أنه تكرر مثل حديث أنس رفعه: "بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر فقعدت في أحدهما وقعد جبريل في الأخرى فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمسست، فالتفت إلى جبريل كأنه جلس لأجلي وفتح بابا من أبواب السماء فرأيت النور الأعظم وإذا دونه الحجاب وفوقه الدر والياقوت، فأوحى إلى عبده ما أوحى" أخرجه البزار وقال: تفرد به الحارث بن عمير وكان بصريا مشهورا. قلت: وهو من رجال البخاري. قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} هو دليل ثان استدلت به عائشة على ما ذهبت إليه من نفي الرؤية، وتقريره أنه سبحانه وتعالى حصر تكليمه لغيره في ثلاثة أوجه، وهي الوحي بأن يلقى في روعه ما يشاء، أو يكلمه بواسطة من وراء حجاب، أو يرسل إليه رسولا فيبلغه عنه، فيستلزم ذلك انتفاء الرؤية عنه حالة التكلم. والجواب أن ذلك لا يستلزم نفي الرؤية مطلقا قاله القرطبي، قال: وعامة ما يقتضي نفي تكليم الله على غير هذه الأحوال الثلاثة، فيجوز أن التكليم لم يقع حالة الرؤية. قوله: "ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا إلخ" تقدم شرح ذلك واضحا في تفسير سورة لقمان. قوله: "ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت: {يا أيها الرسول بلغ..} الآية" يأتي شرحه في كتاب التوحيد. قوله: "ولكن رأى جبريل في صورته مرتين" في رواية الكشمهيني "ولكنه" وهذا جواب عن أصل السؤال الذي سأل عنه مسروق كما تقدم بيانه وهو قوله: "ما كذب الفؤاد ما رأي" وقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} ولمسلم من وجه آخر عن مسروق أنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد أفق السماء. وله في رواية داود بن أبي هند "رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض،"وللنسائي من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود "أبصر جبريل ولم يبصر ربه"

(8/609)


باب {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} حَيْثُ الْوَتَرُ مِنْ الْقَوْسِ
4856- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ زِرًّا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاح"
قوله: "باب {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} حيث الوتر من القوس" تقدم هذا التفسير قريبا عن مجاهد، وثبتت هذه الترجمة لأبي ذر وحده، وهي عند الإسماعيلي أيضا. والقاب ما بين القبضة والسية من القوس، قال الواحدي: هذا قول جمهور المفسرين أن المراد القوس التي يرمي بها. قال: وقيل المراد بها الذراع لأنه يقاس بها الشيء. قلت: وينبغي أن يكون هذا القول هو الراجح، فقد أخرج ابن مردويه بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: القاب القدر، والقوسين الذراعان. ويؤيده أنه لو كان المراد به القوس التي يرمى بها لم يمثل بذلك ليحتاج إلى التثنية، فكان يقال مثلا: قاب رمح أو نحو ذلك. وقد قيل إنه على القلب والمراد: فكان قابي قوس، لأن القاب ما بين المقبض إلى السية، فلكل قوس قابان بالنسبة إلى خالفته. وقوله: "أو أدنى" أي أقرب. قال الزجاج: خاطب الله العرب بما ألفوا، والمعنى فيما تقدرون أنتم عليه، والله تعالى عالم بالأشياء على ما هي عليه لا تردد عنده. وقيل "أو" بمعنى "بل" والتقرير بل هو أقرب من القدر المذكور، وسيأتي بيان الاختلاف في معنى قوله: "فتدلى" في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن له زياد، وسليمان هو الشيباني، وزر هو ابن حبيش. قوله: "عن عبد الله فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، قال حدثنا ابن مسعود أنه رأى جبريل" هكذا أوره، والمراد بقوله: "عن عبد الله" وهو ابن مسعود أنه قال في تفسير هاتين الآيتين ما سأذكره، ثم استأنف فقال: "حدثنا ابن مسعود" وليس المراد أن ابن مسعود حدث عبد الله كما هو ظاهر السياق، بل عبد الله هو ابن مسعود. وقد أخرجه في الباب الذي يليه من وجه آخر عن الشيباني فقال: سألت زرا عن قوله، فذكره. ولا إشكال في سياقه. وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق سليمان بن داود الهاشمي عن عبد الواحد بن زياد عن الشيباني قال: "سألت زر بن حبيش عن قول الله {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فقال: قال عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فذكره

(8/610)


باب {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}
4857- حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ سَأَلْتُ زِرًّا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاح"
قول "باب قول تعالى {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ثبتت هذه الترجمة لأبي ذر وحده، وهي عند الإسماعيلي أيضا وأورد فيه حديث ابن مسعود المذكور في الذي قبله. قوله: "أن محمد" الضمير للعبد المذكور في قوله تعالى: {إِلَى عَبْدِهِ} ووقع عند أبي ذر "أن محمدا رأى جبريل" وهذا أوضح في المراد. والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب

(8/610)


في ذلك إلى أن الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل كما ذهبت إلى ذلك عائشة، والتقدير على رأيه فأوحى أي جبريل إلى عبده أي عبد الله محمد لأنه يرى أن الذي دنا فتدلى هو جبريل، وأنه هو الذي أوحى إلى محمد. وكلام أكثر المفسرين من السلف يدل على أن الذي أوحى هو الله، أوحى إلى عبده محمد، ومنهم من قال: إلى جبريل. قوله: "له ستمائة جناح" زاد عاصم عن زر في هذا الحديث: "يتناثر من ريشه التهاويل من الدر والياقوت" أخرجه النسائي وابن مردويه، ولفظ النسائي: "يتناثر منها تهاويل الدر والياقوت"

(8/611)


باب {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}
4858- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قَالَ رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الأُفُق"
قوله: "باب {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ثبتت هذه الترجمة لأبي ذر والإسماعيلي، واختلف في الآيات المذكورة فقيل: المراد بها جميع ما رأى صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وحديث الباب يدل على أن المراد صفة جبريل. قوله: "عن عبد الله بن مسعود لقد رأى" أي في تفسير هذه الآية. قوله: "رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق" هذا ظاهره يغاير التفسير السابق أنه رأى جبريل، ولكن يوضح المراد ما أخرجه النسائي والحاكم من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال: "أبصر نبي الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض" فيجتمع من الحديثين أن الموصوف جبريل والصفة التي كان عليها، وقد وقع في رواية محمد بن فضيل عند الإسماعيلي وفي رواية ابن عيينة عند النسائي كلاهما عن الشيباني عن زر عن عبد الله أنه رأى جبريل له ستمائة جناح قد سد الأفق، والمراد أن الذي سد الأفق الرفرف الذي فيه جبريل، فنسب جبريل إلى سد الأفق مجازا. وفي رواية أحمد والترمذي وصححها من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رأى جبريل في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض، وبهذه الرواية يعرف المراد بالرفرف وأنه حلة، ويؤيده قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ} وأصل الرفرف ما كان من الديباج رقيقا حسن الصنعة، ثم اشتهر استعماله في الستر، وكل ما فضل من شيء فعطف وثني فهو رفرف، ويقال رفرف الطائر بجناحيه إذا بسطهما. وقال بعض الشراح: يحتمل أن يكون جبريل بسط أجنحته فصارت تشبه الرفرف، كذا قال، والرواية التي أوردتها توضح المراد.

(8/611)


2- بَاب {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَتَ وَالْعُزَّى}
4859- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ حَدَّثَنَا أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ {اللاَتَ وَالْعُزَّى} كَانَ اللاَتُ رَجُلاً يَلُتُّ سَوِيقَ الْحَاج"
4860-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللاَتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّق"
[الحديث 4860- أرافه في: 6107، 6301، 6650]

(8/611)


3- باب {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}
4861- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ سَمِعْتُ عُرْوَةَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ إِنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ بِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ لاَ يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ قَالَ سُفْيَانُ مَنَاةُ بِالْمُشَلَّلِ مِنْ قُدَيْدٍ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ نَزَلَتْ فِي الأَنْصَارِ كَانُوا هُمْ وَغَسَّانُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ مِثْلَهُ وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الأَنْصَارِ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ لِمَنَاةَ وَمَنَاةُ صَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ كُنَّا لاَ نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ نَحْوَه"
قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} سقط "باب" لغير أبي ذر، وقد تقدم شرح مناة في سورة البقرة، وقرأ ابن كثير وابن محيصن "مناءة" بالمد والهمز. قوله: "قلت لعائشة رضي الله عنها فقالت" كذا أورده مختصرا، وتقدم في تفسير البقرة بيان ما قال، وأنه سأل عن وجوب السعي بين الصفا والمروة مع قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية وجواب عائشة له وفيه قولها إلى آخره. قوله: "من أهل المناة" أي لأجل مناة، في رواية غير أبي ذر "بمناة" بالموحدة بدل اللام، أي أهل عندها أو أهل باسمها.
قوله: "قال سفيان مناة بالمشلل" بفتح المعجمة واللام الثقيلة ثم لام ثانية، وهو موضع من قديد من ناحية البحر، وهو الجبل الذي يهبط منه إليها. قوله: "من قديد" بالقاف والمهملة مصغر، هو مكان معروف بين مكة والمدينة. قوله: "وقال عبد الرحمن بن خالد" أي ابن مسافر "عن ابن شهاب" هو الزهري، وصله الذهلي والطحاوي من طريق عبد الله بن صالح عن الليث عن عبد الرحمن بطوله. قوله: "نزلت في الأنصار كانوا هم وغسان قبل أن يسلموا يهلون لمناة مثله" أي مثل حديث ابن عيينة الذي قبله. وأخرج الفاكهي من طريق ابن إسحاق قال: "نصب عمرو بن لحي مناة على ساحل البحر مما يلي قديد يحجونها ويعظمونها إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلوا لها، فمن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة. قوله: "وقال معمر إلخ" وصله الطبري عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق مطولا، وقد تقدم الحديث بطوله من وجه آخر عن الزهري في كتاب الحج. قوله: "صنم بين مكة والمدينة" قد تقدم بيان مكانه، وهو بين مكة والمدينة كما قال. قوله: "تعظيما لمناة نحوه" بقيته عند الطبري "فهل علينا من حرج أن نطوف بهما" الحديث

(8/613)


وفيه: "قال الزهري فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر حديثه عن رجال من أهل العلم، وفي آخره:"نزلت في الفريقين كليهما: من طاف ومن لم يطف"

(8/614)


4- باب {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}
4862- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عُلَيَّةَ ابْنَ عَبَّاس"
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنِي أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ وَالنَّجْمِ قَالَ فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ إِلاَّ رَجُلاً رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَف"
قوله: "باب {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} في رواية الأصيلي: "واسجدوا" وهو غلط. قوله: "سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، تابعه ابن طهمان عن أيوب" في رواية أبي ذر إبراهيم بن طهمان. قوله: "ولم يذكر ابن علية ابن عباس" أما متابعة إبراهيم بن طهمان فوصلها الإسماعيلي من طريق حفص بن عبد الله النيسابوري عنه بلفظ: "أنه قال حين نزلت السورة التي يذكر فيها النجم سجد لها الإنس والجن" وقد تقدم ذكرها في سجود التلاوة، وأما حديث ابن علية فالمراد به أنه حدث به عن أيوب فأرسله، وأخرجه ابن أبي شيبة عنه، وهو مرسل، وليس ذلك بقادح لاتفاق ثقتين عن أيوب على وصله وهما عبد الوارث وإبراهيم بن طهمان. قوله: "والجن والإنس" إنما أعاد الجن والإنس مع دخولهم في المسلمين لنفي توهم اختصاص ذلك بالإنس، وسأذكر ما فيه في الكلام على الحديث الذي بعده. قال الكرماني: سجد المشركون مع المسلمين لأنها أول سجدة نزلت فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم، أو وقع ذلك منهم بلا قصد، أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم قلت: والاحتمالات الثلاثة فيها نظر، والأول منها لعياض، والثاني يخالفه سياق ابن مسعود حيث زاد فيه أن الذي استثناه منهم أخذ كفا من حصى فوضع جبهته عليه فإن ذلك ظاهر في القصد، والثالث أبعد إذ المسلمون حينئذ هم الذين كانوا خائفين من المشركين لا العكس، قال: وما قيل من أن ذلك بسبب إلقاء الشيطان في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صحة له عقلا ولا نقلا، انتهى. ومن تأمل ما أوردته من ذلك في تفسير سورة الحج عرف وجه الصواب في هذه المسألة بحمد الله تعالى. قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود، وأبو أحمد المذكور في إسناده هو محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري. قوله: "أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم، قال فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي لما فرغ من قراءتها، وقد قدمت في تفسير الحج من حديث ابن عباس بيان ذلك والسبب فيه. ووقع في رواية زكريا عن أبي إسحاق في أول هذا الحديث: "أن أول سورة استعان بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ على الناس النجم" وله من رواية زهير بن معاوية"

(8/614)


أول سورة قرأها على الناس النجم" . قوله: "إلا رجلا" في رواية شعبة في سجود القرآن "فما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفا من حصى" وهذا ظاهره تعميم سجودهم، لكن روى النسائي بإسناد صحيح عن المطلب بن أبي وداعة قال: "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم فسجد وسجد من عنده، وأبيت أن أسجد" ولم يكن يومئذ أسلم "قال المطلب: فلا أدع السجود فيها أبدا" فيحمل تعميم ابن مسعود على أنه بالنسبة إلى من اطلع عليه. قوله: "كفا من تراب" في رواية شعبة "كفا من حصى أو تراب" . قوله: "فسجد عليه" في رواية شعبة "فرفعه إلى وجهه فقال: يكفيني هذا" . قوله: "فرأيته بعد ذلك قتل كافرا" في رواية شعبة "قال عبد الله بن مسعود: فلقد رأيته بعد قتل كافرا" . قوله: "وهو أمية بن خلف" لم يقع ذلك في رواية شعبة، وقد وافق إسرائيل على تسميته زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عند الإسماعيلي وهذا هو المعتمد، وعند ابن سعد أن الذي لم يسجد هو الوليد بن المغيرة قال: وقيل سعيد بن العاص بن أمية، قال وقال بعضهم كلاهما جميعا، وجزم ابن بطال في "باب سجود القرآن" بأنه الوليد، وهو عجيب منه مع وجود التصريح بأنه أمية بن خلف ولم يقتل ببدر كافرا من الذين سموا عنده غيره. ووقع في تفسير ابن حبان أنه أبو لهب، وفي "شرح الأحكام لابن بزيزة" أنه منافق، ورد بأن القصة وقعت بمكة بلا خلاف ولم يكن النفاق ظهر بعد، وقد جزم الواقدي بأنها كانت في رمضان سنة خمس، وكانت المهاجرة الأولى إلى الحبشة خرجت في شهر رجب فلما بلغهم ذلك رجعوا فوجدوهم على حالهم من الكفر فهاجروا الثانية، ويحتمل أن يكون الأربعة لم يسجدوا، والتعميم في كلام ابن مسعود بالنسبة إلى ما اطلع عليه كما قلته في المطلب، لكن لا يفسر الذي في حديث ابن مسعود إلا بأمية لما ذكرته، والله أعلم

(8/615)


54- سورة اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ
قَالَ مُجَاهِدٌ {مُسْتَمِرٌّ} ذَاهِبٌ {مُزْدَجَرٌ} مُتَنَاهٍ {وَازْدُجِرَ} فَاسْتُطِيرَ جُنُونًا {دُسُرٍ} أَضْلاَعُ السَّفِينَةِ {لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} يَقُولُ كُفِرَ لَهُ جَزَاءً مِنْ اللَّهِ {مُحْتَضَرٌ} يَحْضُرُونَ الْمَاءَ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ {مُهْطِعِينَ} النَّسَلاَنُ الْخَبَبُ السِّرَاعُ وَقَالَ غَيْرُهُ {فَتَعَاطَى} فَعَاطَهَا بِيَدِهِ فَعَقَرَهَا {الْمُحْتَظِرِ} كَحِظَارٍ مِنْ الشَّجَرِ مُحْتَرِقٍ {ازْدُجِرَ} افْتُعِلَ مِنْ زَجَرْتُ كُفِرَ فَعَلْنَا بِهِ وَبِهِمْ مَا فَعَلْنَا جَزَاءً لِمَا صُنِعَ بِنُوحٍ وَأَصْحَابِهِ {مُسْتَقِرٌّ} عَذَابٌ حَقٌّ يُقَالُ الأَشَرُ الْمَرَحُ وَالتَّجَبُّرُ
"سورة اقتربت الساعة. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"كذا لأبي ذر، ولغيره "اقتربت الساعة" حسب، وتسمى أيضا سورة القمر. قوله: "وقال مجاهد مستمر ذاهب" وصله الفريابي من طريقه ولفظه: "في قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال: رأوه منشقا فقالوا هذا سحر ذاهب" وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس فذكر الحديث المرفوع، وفي آخره: "تلا الآية إلى قوله: "سحر مستمر" قال: يقول ذاهب، ومعنى ذاهب أي سيذهب ويبطل، وقيل سائر. قوله: "مزدجر متناهي" وصله الفريابي بلفظه عن مجاهد في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} قال: هذا القرآن. ومن طريق عمر بن عبد العزيز قال: "أحل فيه الحلال وحرم فيه

(8/615)


الحرام" وقوله: "متناهي" بصيغة الفاعل أي غاية في الزجر لا مزيد عليه. قوله: "وازدجر استطير جنونا" وصله الفريابي بلفظه عن مجاهد فيكون من كلامهم معطوفا على قولهم مجنون، وقيل هو من خبر الله عن فعلهم أنهم زجروه. قوله: "دسر أضلاع السفينة" وصله الفريابي بلفظه من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وروى ابن المنذر وإبراهيم الحربي في "الغريب" من طريق حصين عن مجاهد عن ابن عباس قال: الألواح ألواح السفينة، والدسر معاريضها التي تشد بها السفينة. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "ودسر" قال: المسامير. وبهذا جزم أبو عبيدة. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: الألواح مقاذيف السفينة والدسر دسرت بمسامير. قوله: "لمن كان كفر يقول كفر له جزاء من الله" وصله الفريابي بلفظ: "لمن كان كفر بالله" وهو يشعر بأنه قرأها كفر بفتحتين على البناء للفاعل، وسيأتي توجيه الأول. قوله: "محتضر يحضرون الماء" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: "يحضرون الماء إذا غابت الناقة" قوله: "وقال ابن جبير مهطعين النسلان، الخبب السراع" وصله ابن أبي حاتم من طريق شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في قوله: "مهطعين إلى الداع" قال: هو النسلان. وقد تقدم ضبط النسلان في تفسير الصافات. وقوله: "الخبب" بفتح المعجمة والموحدة بعدها أخرى تفسير النسلان، والسراع تأكيد له. وروى ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله مهطعين قال: ناظرين. وقال أبو عبيدة: المهطع المسرع. قوله: "وقال غيره فتعاطى فعاطى بيده فعقرها" في رواية غير أبي ذر "فعاطها" قال ابن التين: لا أعلم لقوله فعاطها وجها، إلا أن يكون من المقلوب لأن العطو التناول، فكأنه قال: تناولها بيده. قلت: ويؤيده ما روى ابن المنذر من طريق مجاهد عن ابن عباس "فتعاطى فعقر" تناول فعقر. قوله: "المحتظر كحظار من الشجر محترق" وصله ابن المنذر من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مثله، ومن طريق سعيد بن جبير قال: التراب يسقط من الحائط. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "كهشيم المحتظر" قال: كرماد محترق. وروى الطبري من طريق زيد بن أسلم قال: "كانت العرب تجعل حظارا على الإبل والمواشي من يبس الشوك" فهو المراد من قوله كهشيم المحتظر. وروى الطبري من طريق سعيد بن جبير قال: هو التراب المتناثر من الحائط. "تنبيه" : حظار بكسر المهملة وبفتحها والظاء المشالة خفيفة. قوله: "وازدجر افتعل من زجرت" هو قول الفراء، وزاد بعده: صارت تاء الافتعال فيه دالا. قوله: "كفر فعلنا به وبهم ما فعلنا جزاء لما صنع بنوح وأصحابه" هو كلام الفراء بلفظه، وزاد: يقول أغرقوا لنوح أي لأجل نوح، وكفر أي أجحد. ومحصل الكلام أن الذي وقع بهم من الغرق كان جزاء لنوح وهو الذي كفر أي جحد، وكذب فجوزي بذلك لصبره عليهم، وقد قرأ حميد الأعرج {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} بفتحتين فاللام في لمن على هذا لقوم نوح. قوله: "مستقر عذاب حق" هو قول الفراء، وعند ابن أبي حاتم بمعناه عن السدي، وعند عبد بن حميد عن قتادة في قوله: "عذاب مستقر" استقر بهم إلى نار جهنم. ولابن أبي حاتم من طريق مجاهد قال: "وكل أمر مستقر" قال يوم القيامة. ومن طريق ابن جريج قال: مستقر بأهله. قوله: "ويقال الأشر المرح والتجبر" قال أبو عبيدة في قوله: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} قال: الأشر المرح والتجبر. وربما كان من النشاط، وهذا على قراءة الجمهور. وقرأ أبو جعفر بفتح المعجمة وتشديد الراء أفعل تفضيل من الشر، وفي الشواذ قراءة أخرى، والمراد بقوله غدا يوم القيامة.

(8/616)


1- باب {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا}
4864- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةً فَوْقَ الْجَبَلِ وَفِرْقَةً دُونَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشْهَدُوا"
4865- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ فَقَالَ لَنَا: "اشْهَدُوا اشْهَدُوا"
4866- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي بَكْرٌ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
4867- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمْ انْشِقَاقَ الْقَمَر"
4868- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ فِرْقَتَيْن"
قوله: "باب {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر. ثم ذكر حديث انشقاق القمر من وجهين عن ابن مسعود وفيه: "فرقتين" ومن حديث ابن عباس "انشق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم:"وبكر فيه هو ابن مضر، وجعفر هو ابن ربيعة. ومن حديث أنس "سال أهل مكة أن يريهم آية، وقد تقدم شرحه. ومن وجه آخر عن أنس" انشق القمر فرقتين "وقد تقدم الكلام عليه مستوفي في أوائل السيرة النبوية. قوله: "باب {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} سقطت هذه الترجمة لغير أبي ذر. ثم ذكر حديث انشقاق القمر من وجهين عن ابن مسعود وفيه: "فرقتين" ومن حديث ابن عباس "انشق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم:"وبكر فيه هو ابن مضر، وجعفر هو ابن ربيعة. ومن حديث أنس "سال أهل مكة أن يريهم آية، وقد تقدم شرحه. ومن وجه آخر عن أنس "انشق القمر فرقتين" وقد تقدم الكلام عليه مستوفي في أوائل السيرة النبوية.

(8/617)


2- باب {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
قَالَ قَتَادَةُ أَبْقَى اللَّهُ سَفِينَةَ نُوحٍ حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الأُمَّةِ
4869- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}

(8/617)


باب { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ يَسَّرْنَا هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ
4870- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّه كَانَ يَقْرَأُ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}

(8/617)


باب {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}
4871- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا سَأَلَ الأَسْوَدَ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أَوْ مُذَّكِرٍ فَقَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقْرَؤُهَا {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قَالَ وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} دَالاً"

(8/618)


3- باب {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
4872- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} الآيَةَ

(8/618)


4- باب {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} إِلَى {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
4873- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
4874- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَهَلْ مِنْ مُذَّكِرٍ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
قوله: "باب {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} زاد غير أبي ذر الآية التي بعدها، وهي التي تناسب قول قتادة المذكور فيه. قوله: "قال قتادة: أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أوائل هذه الأمة" وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بلفظه وزاد: "على الجودي" . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة قال: "أبقى الله السفينة في أرض الجزيرة عبرة وآية حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة نظرا، وكم من سفينة بعدها فصارت رمادا" . قوله: "عن الأسود" في الرواية التي بعده ما يدل على سماع أبي إسحاق له منه. قوله: "أنه كان يقرأ فهل من مدكر" أي بالدال المهملة، وسبب ذكر ذلك أن بعض السلف قرأها بالمعجمة، وهو منقول أيضا عن قتادة. ثم ذكر المصنف لهذا الحديث خمس تراجم في كل ترجمة آية من هذه السورة، ومدار الجميع على أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد، وساق في الجميع الحديث المذكور ليبين أن لفظ: "مدكر" في الجميع واحد. وقد تكرر في هذه السورة قوله: "فهل من مدكر" بحسب تكرر القصص من أخبار الأمم استدعاء لأفهام السامعين ليعتبروا. وقال في الأولى "وقال مجاهد يسرنا هونا قراءته" وقال في الثانية عن أبي إسحاق أنه سمع رجلا سأل الأسود: فهل من مدكر أو مذكر؟ أي بمعجمة أو مهملة، فذكر الحديث وفي آخره: "دالا" أي مهملة. ولفظ الثالث والرابع كالأول، ولفظ الخامس عن عبد الله "قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم من مذكر - أي بالمعجمة - فقال: فهل من مدكر" أي بالمهلة. وأثر مجاهد وصله الفريابي وسيأتي في التوحيد، وقوله: "مدكر" أصله مذتكر بمثناة بعد ذال معجمة، فأبدلت التاء دالا مهملة ثم أهملت المعجمة لمقاربتها ثم أدغمت، وقوله في الطريق الرابع "حدثنا محمد حدثنا غندر" كذا وقع محمد غير منسوب وهو ابن المثنى أو ابن بشار أو ابن الوليد البسري، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن بشار بندار، وقوله

(8/618)


5- باب قَوْلُهُ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}
4875- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ وُهَيْبٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ لاَ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ "فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}
قوله: "باب قوله {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} الآية" ذكر فيه حديث ابن عباس في قصة بدر، وقد تقدم بيانه في المغازي وقوله: "حدثنا محمد بن حوشب" هو محمد بن عبد الله نسب لجده، وثبت كذلك لغير أبي ذر. وقوله: "ح وحدثني محمد حدثنا عفان بن مسلم:"كذا للأكثر، ومحمد هو الذهلي وسقط لابن السكن فصار عن البخاري حدثنا عفان. "تنبيه" : هذا من مرسلات ابن عباس لأنه لم يحضر القصة، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة" أن عمر قال: لما نزلت: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} جعلت أقول: أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} الآية، فكأن ابن عباس حمل ذلك عن عمر، وكأن عكرمة حمله عن ابن عباس عن عمر، وقد أخرج مسلم من طريق سماك بن الوليد عن ابن عباس: حدثني عمر ببعضه.

(8/619)


6- بَاب {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} يَعْنِي مِنْ الْمَرَارَةِ
4876- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ مَاهَكٍ قَالَ إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}
[الحديث4876- طرفه في:4993]
4877- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: " أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا" فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ وَقَالَ حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ وَهُوَ فِي الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}
قوله: {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} يعني من المرارة هو قول الفراء، قال في هذه الآية: معناه أشد عليهم من عذاب يوم بدر، وأمر من المرارة. قوله: "يوسف بن ماهك" تقدم ذكره قريبا في

(8/619)


55- سورة الرَّحْمَنِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {بِحُسْبَانٍ} كَحُسْبَانِ الرَّحَى وَقَالَ غَيْرُهُ {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ} يُرِيدُ لِسَانَ الْمِيزَانِ وَالْعَصْفُ بَقْلُ الزَّرْعِ إِذَا قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ فَذَلِكَ الْعَصْفُ {وَالرَّيْحَانُ} رِزْقُهُ {وَالْحَبُّ} الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْهُ وَالرَّيْحَانُ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ الرِّزْقُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ {وَالْعَصْفُ} يُرِيدُ الْمَأْكُولَ مِنْ الْحَبِّ وَالرَّيْحَانُ النَّضِيجُ الَّذِي لَمْ يُؤْكَلْ وَقَالَ غَيْرُهُ الْعَصْفُ وَرَقُ الْحِنْطَةِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ الْعَصْفُ التِّبْنُ وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْعَصْفُ أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ تُسَمِّيهِ النَّبَطُ هَبُورًا وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْعَصْفُ وَرَقُ الْحِنْطَةِ وَالرَّيْحَانُ الرِّزْقُ وَالْمَارِجُ اللَّهَبُ الأَصْفَرُ وَالأَخْضَرُ الَّذِي يَعْلُو النَّارَ إِذَا أُوقِدَتْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ مُجَاهِدٍ {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ} لِلشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ مَشْرِقٌ وَمَشْرِقٌ فِي الصَّيْفِ {وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} مَغْرِبُهَا فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ {لاَ يَبْغِيَانِ} لاَ يَخْتَلِطَانِ {الْمُنْشَآتُ} مَا رُفِعَ قِلْعُهُ مِنْ السُّفُنِ فَأَمَّا مَا لَمْ يُرْفَعْ قَلْعُهُ فَلَيْسَ بِمُنْشَأَةٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {كَالْفَخَّارِ} كَمَا يُصْنَعُ الْفَخَّارُ الشُّوَاظُ لَهَبٌ مِنْ نَارٍ {وَنُحَاسٌ} النُّحَاسُ الصُّفْرُ يُصَبُّ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَيُعَذَّبُونَ بِهِ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَتْرُكُهَا {مُدْهَامَّتَانِ} سَوْدَاوَانِ مِنْ الرِّيِّ {صَلْصَالٍ} طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ فَصَلْصَلَ كَمَا يُصَلْصِلُ الْفَخَّارُ وَيُقَالُ مُنْتِنٌ يُرِيدُونَ بِهِ صَلَّ يُقَالُ صَلْصَالٌ كَمَا يُقَالُ صَرَّ الْبَابُ عِنْدَ الإِغْلاَقِ وَصَرْصَرَ مِثْلُ كَبْكَبْتُهُ يَعْنِي كَبَبْتُهُ {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} َقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ الرُّمَّانُ وَالنَّخْلُ بِالْفَاكِهَةِ وَأَمَّا الْعَرَبُ فَإِنَّهَا تَعُدُّهَا فَاكِهَةً كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} فَأَمَرَهُمْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى كُلِّ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ أَعَادَ الْعَصْرَ تَشْدِيدًا لَهَا كَمَا أُعِيدَ النَّخْلُ وَالرُّمَّانُ وَمِثْلُهَا {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} ثُمَّ قَالَ {وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} وَقَدْ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَوَّلِ قَوْلِهِ {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} وَقَالَ غَيْرُهُ {أَفْنَانٍ} أَغْصَانٍ {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} مَا يُجْتَنَى قَرِيبٌ وَقَالَ الْحَسَنُ {فَبِأَيِّ آلاَءِ} نِعَمِهِ وَقَالَ قَتَادَةُ {رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} يَعْنِي الْجِنَّ وَالإِنْسَ وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ كُلَّ يَوْمٍ {هُوَ فِي شَأْنٍ} يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا وَيَرْفَعُ قَوْمًا وَيَضَعُ آخَرِينَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {بَرْزَخٌ} حَاجِزٌ {الأَنَامُ} الْخَلْقُ {نَضَّاخَتَانِ} فَيَّاضَتَانِ {ذُو الْجَلاَلِ} ذُو الْعَظَمَةِ وَقَالَ

(8/620)


غَيْرُهُ {مَارِجٌ} خَالِصٌ مِنْ النَّارِ يُقَالُ مَرَجَ الأَمِيرُ رَعِيَّتَهُ إِذَا خَلاَهُمْ يَعْدُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيُقَالُ مَرَجَ أَمْرُ النَّاسِ مَرِيجٍ مُلْتَبِسٌ {مَرَجَ} اخْتَلَطَ {الْبَحْرَانِ} مِنْ مَرَجْتَ دَابَّتَكَ تَرَكْتَهَا {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} سَنُحَاسِبُكُمْ لاَ يَشْغَلُهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ يُقَالُ لاَتَفَرَّغَنَّ لَكَ وَمَا بِهِ شُغْلٌ يَقُولُ لاَخُذَنَّكَ عَلَى غِرَّتِك"
قوله: "سورة الرحمن" كذا لهم، زاد أبو ذر البسملة، والأكثر عدوا {الرَّحْمَنِ} آية وقالوا هو خبر مبتدأ محذوف أو مبتدا محذوف الخبر، وقيل تمام الآية "علم القرآن" وهو الخبر. قوله: "وقال مجاهد بحسبان كحسبان الرحى" ثبت هذا لأبي ذر وحده، وقد تقدم في بدء الخلق بأبسط منه. قوله: "وقال غيره" وأقيموا الوزن "يريد لسان الميزان" سقط "وقال غيره:"لغير أبي ذر، وهذا كلام الفراء بلفظه، وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي المغيرة قال: "رأى ابن عباس رجلا يزن قد أرجح، فقال: أقم اللسان، كما قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} . وأخرج ابن المنذر من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} قال: اللسان. قوله: "والعصف بقل الزرع إذا قطع منه شيء قبل أن يدرك فذلك العصف، والريحان رزقه، والحب الذي يؤكل منه، والريحان في كلام العرب الرزق" هو كلام الفراء أيضا لكن ملخصا، ولفظه: العصف فيما ذكروا بقل الزرع لأن العرب تقول: خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه شيئا قبل أن يدرك، والباقي مثله لكن قال: والريحان رزقه وهو الحب إلخ، وزاد في آخره: قال ويقولون خرجنا نطلب ريحان الله. وأخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: العصف ورق الزرع الأخضر الذي قطعوا رءوسه فهو يسمى العصف إذا يبس. ولابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس: العصف أول ما يخرج الزرع بقلا. قوله: "وقال بعضهم: العصف يريد المأكول من الحب، والريحان النضيج الذي لم يؤكل" هو بقية كلام الفراء بلفظه. ولابن أبي حاتم من طريق الضحاك قال: العصف البر والشعير، ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الريحان حين يستوي الزرع على سوقه ولم يسنبل. قوله: "وقال غيره: العصف ورق الحنطة" كذا لأبي ذر. وفي رواية غيره: وقال مجاهد العصف ورق الحنطة، والريحان الرزق. وقد وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه مفرقا قال: العصف ورق الحنطة، والريحان الرزق. قوله: "وقال الضحاك: العصف التبن" وصله ابن المنذر من طريق الضحاك بن مزاحم أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. قوله: "وقال أبو مالك: العصف أول ما ينبت، تسميه النبط هبورا" وصله عبد بن حميد من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك بهذا، وأبو مالك هو الغفاري كوفي تابعي ثقة، قال أبو زرعة: لا يعرف اسمه. وقال غيره: اسمه غزوان بمعجمتين، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع. والنبط بفتح النون والموحدة ثم طاء مهملة هم أهل الفلاحة من الأعاجم؛ وكانت أماكنهم بسواد العراق والبطائح، وأكثر ما يطلق على أهل الفلاحة، ولهم فيها معارف اختصوا بها، وقد جمع أحمد بن وحشية في "كتاب الفلاحة" من ذلك أشياء عجيبة. وقوله: "هبورا" بفتح الهاء وضم الموحدة الخفيفة وسكون الواو بعدها راء هو دقاق الزرع بالنبطية، وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} قال: هو الهبور.
" تنبيه " : قرأ الجمهور {وَالرَّيْحَانُ} بالضم عطفا على الحب، وقرأ

(8/621)


حمزة والكسائي بالخفض عطفا على العصف، وذكر الفراء أن هذه الآية في مصاحف أهل الشام "والحب ذا العصف" بعد الذال المعجمة ألف، قال ولم أسمع أحدا قرأ بها، وأثبت غيره أنها قراءة ابن عامر، بل المنقول عن ابن عامر نصب الثلاثة الحب وذا العصف والريحان فقيل عطف على الأرض لأن معنى وضعها جعلها فالتقدير وجعل الحب إلخ أو نصبه بخلق مضمرة، قال الفراء: ونظير ما وقع في هذا الموضع ما وقع في مصاحف أهل الكوفة "والجار ذا القربى والجار الجنب" قال ولم يقرأ بها أيضا أحد انتهى. وكأنه نفي المشهور، وإلا فقد قرئ بها أيضا في الشواذ. قوله: "والمارج اللهب الأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت" وصله الفريابي من طريق مجاهد بهذا الإسناد، وسيأتي له تفسير آخر. قوله: "وقال بعضهم عن مجاهد رب المشرقين إلخ" وصله الفريابي أيضا. وأخرج ابن المنذر من طريق علي ابن أبي طلحة، وسعيد بن منصور من طريق أبي ظبيان كلاهما عن ابن عباس قال: للشمس مطلع في الشتاء ومغرب، ومطلع في الصيف ومغرب. وأخرج عبد الرزاق من طريق عكرمة مثله وزاد قوله: "ورب المشارق والمغارب" لها في كل يوم مشرق ومغرب، ولابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس قال: {الْمَشْرِقَيْنِ} مشرق الفجر ومشرق الشفق، "والمغربين" مغرب الشمس ومغرب الشفق. قوله: "لا يبغيان لا يختلطان" وصله الفريابي من طريق مجاهد. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بينهما من البعد ما لا يبغي كل واحد منهما على صاحبه، وتقدير قوله على هذا: يلتقيان، أي أن يلتقيا، وحذف "أن" سائغ، وهو كقوله ومن آياته يريكم البرق، وهذا يقوي قول من قال: أن المراد بالبحرين بحر فارس وبحر الروم لأن مسافة ما بينهما ممتدة، والحلو - وهو بحر النيل أو الفرات مثلا - يصب في الملح، فكيف يسوغ نفي اختلاطهما أو يقال بينهما بعد؟ لكن قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} يرد على هذا، فلعل المراد بالبحرين في الموضعين مختلف. ويؤيده قول ابن عباس هنا: قوله تعالى في هذا الموضع {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} فإن اللؤلؤ يخرج من بحر فارس والمرجان يخرج من بحر الروم، وأما النيل فلا يخرج منه لا هذا ولا هذا. وأجاب من قال: المراد من الآيتين متحد، والبحران هنا العذب والملح بأن معنى قوله منهما أي من أحدهما كما في قوله تعال {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} وحذف المضاف سائغ، وقيل بل قوله: "منهما" على حاله، والمعنى أنهما يخرجان من الملح في الموضع الذي يصل إليه العذب، وهو معلوم عند الغواصين، فكأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد قيل يخرج منهما. وقد اختلف في المراد بالمرجان فقيل: هو المعروف بين الناس الآن، وقيل: اللؤلؤ كبار الجوهر والمرجان صغاره، وقيل بالعكس. وعلى هذا يكون المراد بحر فارس فإنه هو الذي يخرج منه اللؤلؤ، والصدف يأوي إلى المكان الذي ينصب فيه الماء العذب كما تقدم، والله أعلم. قوله: "المنشئات ما رفع قلعه من السفن، فأما ما لم يرفع قلعه فليس بمنشئات" وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظه، لكن قال: "منشأة" بالإفراد، والقلع بكسر القاف وسكون اللام ويجوز فتحها، ومنشئات بفتح الشين المعجمة في قراءة الجمهور اسم مفعول، وقرأ حمزة وعاصم في رواية لأبي بكر عنه بكسرها أي المنشئة هي للسير، ونسبة ذلك إليها مجازية. قوله: "وقال مجاهد كالفخار كما يصنع الفخار" وصله الفريابي من طريقه. قوله: "الشواظ لهب من نار" تقدم في صفة النار من بدء الخلق وكذا تفسير النحاس. قوله: {خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} يهم بالمعصية فيذكر الله عز وجل فيتركها "وصله الفريابي وعبد الرزاق جميعا من طريق منصور عن مجاهد بلفظ: إذا هم بمعصية يذكر مقام الله

(8/622)


عليه فيتركها. قوله: {مُدْهَامَّتَانِ} سوداوان من الري" وصله الفريابي، وقد تقدم في بدء الخلق. قوله: "صلصال: طين خلط برمل فصلصل إلخ" تقدم في أول بدء الخلق، وسقط لأبي ذر هنا. قوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} . قال بعضهم: ليس الرمان والنخل بالفاكهة، وأما العرب فإنها تعدهما فاكهة كقوله عز وجل:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} إلخ" قال شيخنا ابن الملقن: البعض المذكور هو أبو حنيفة. وقال الكرماني قيل أراد به أبا حنيفة. قلت: بل نقل البخاري هذا الكلام من كلام الفراء ملخصا ولفظه: قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} قال بعض المفسرين: ليس الرمان ولا النخل من الفاكهة، قال: وقد ذهبوا في ذلك مذهبا. قلت: فنسبه الفراء لبعض المفسرين وأشار إلى توجيهه ثم قال: ولكن العرب تجعل ذلك فاكهة، وإنما ذكرا بعد الفاكهة كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ} إلخ" والحاصل أنه من عطف الخاص على العام كما في المثالين اللذين ذكرهما. واعترض بأن قوله هنا فاكهة نكرة في سياق الإثبات فلا عموم، وأجيب بأنها سيقت في مقام الامتنان فتعم، أو المراد بالعام هنا ما كان شاملا لما ذكر بعده. وقد وهم بعض من تكلم على البخاري فنسب البخاري للوهم، وما علم أنه تبع في ذلك كلام إمام من أئمة اللسان العربي. وقد وقع لصاحب "الكشاف" نحو ما وقع للفراء وهو من أئمة الفن البلاغي فقال: فإن قلت لم عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها؟ قلت: اختصاصا وبيانا لفضلهما كأنهما - لما كان لهما من المزية - جنسان آخران كقوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} بعد الملائكة. قوله: "وقال غيره أفنان أغصان، وجني الجنتين دان ما يجتني قريب" سقط هذا لأبي ذر هنا، وقد تقدم في صفة الجنة. قوله: "وقال الحسن: فبأي آلاء نعمه" وصله الطبري من طريق سهل السراج عن الحسن. قوله: "وقال قتادة: وربكما تكذبان يعني الجن والإنس" وصله ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. قوله: "وقال أبو الدرداء:"كل يوم هو في شأن "يغفر ذنبا ويكشف كربا ويرفع قوما ويضع آخرين" وصله المصنف في "التاريخ" وابن حبان في "الصحيح" وابن ماجه وابن أبي عاصم والطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا، وأخرجه البيهقي في "الشعب" من طريق أم الدرداء عن أبي الدرداء موقوفا، وللمرفوع شاهد آخر عن ابن عمر أخرجه البزار، وآخر عن عبد الله بن منيب أخرجه الحسن بن سفيان والبزار وابن جرير والطبراني. قوله: "وقال ابن عباس: برزخ حاجز، الأنام الخلق، نضاختان فياضتان" تقدم كله في بدء الخلق. قوله: "ذو الجلال العظمة" هو من كلام ابن عباس، وسيأتي في التوحيد، وقرأ الجمهور ذو الجلال الأولى بالواو صفة للوجه، وفي قراءة ابن مسعود ذي الجلال بالياء صفة للرب، وقرأ الجمهور الثانية كذلك إلا ابن عامر فقرأها أيضا بالواو وهي في مصحف الشام كذلك. قوله: "وقال غيره مارج خالص من النار، يقال مرج الأمير رعيته إذا خلاهم يعدو بعضهم على بعض إلخ" سقط قوله: "مريج مختلط" من رواية أبي ذر وقوله: "مرج اختلط" في رواية غير أبي ذر "مرج البحرين اختلط البحران" ، وقد تقدم جميع ذلك في صفة النار من بدء الخلق. قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} سنحاسبكم، لا يشغله شيء عن شيء "هو كلام أبي عبيدة أخرجه ابن المنذر من طريقه. وأخرج من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو وعيد من الله لعباده وليس بالله شغل، وهو معروف في كلام العرب يقال: لأتفرغن لك، وما به شغل، كأنه يقول لآخذنك على غرة

(8/623)


1- باب {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}
4878- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ

(8/623)


عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْن"
[الحديث 4878- طرفاه في: 4880، 7444]
قوله: "باب قوله {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} سقط باب قوله: "لغير أبي ذر، قال الترمذي الحكيم: المراد بالدون هنا القرب، أي وقربهما جنتان أي هما أدنى إلى العرش وأقرب، وزعم أنهما أفضل من اللتين قبلهما. وقال غيره: معنى دونهما بقربهما، وليس فيه تفضيل. وذهب الحليمي إلى أن الأوليين أفضل من اللتين بعدهما، ويدل عليه تفاوت ما بين الفضة والذهب. وقد روى ابن مردويه من طريق حماد عن أبي عمران في هذا الحديث قال: من ذهب للسابقين ومن فضة للتابعين. وفي رواية ثابت عن أبي بكر: من ذهب للمقربين ومن فضة لأصحاب اليمين. قول "العمي" بفتح المهملة وتشديد الميم، وأبو عمران الجوني بفتح الجيم وسكون الواو بعدها نون هو عبد الملك بن حبيب. قوله: "عن أبيه" هو أبو موسى الأشعري. قوله: "جنتان من فضة" وفي رواية الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني في أول هذا الحديث: جنان الفردوس أربع ثنتان من ذهب إلخ. قوله: "وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلخ" يأتي البحث فيه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. وقوله في جنة عدن متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال من القوم، فكأنه قال كائنين في جنة عدن

(8/624)


2- باب {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْحُورُ السُّودُ الْحَدَقِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ مَقْصُورَاتٌ مَحْبُوسَاتٌ قُصِرَ طَرْفُهُنَّ وَأَنْفُسُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ قَاصِرَاتٌ لاَ يَبْغِينَ غَيْرَ أَزْوَاجِهِنَّ
4879- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلاً فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ الْمُؤْمِنُون"
4880- وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ مِنْ كَذَا آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْن"
قول "باب {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} أي محبوسات، ومن ثم سموا البيت الكبير قصرا لأنه يحبس من فيه. قوله: "وقال ابن عباس حور سود الحدق" في رواية ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس: الحور سواد الحدقة. قوله: "وقال مجاهد: مقصورات محبوسات، قصرن طرفهن وأنفسهن على أزواجهن، قاصرات لا يبغين غير أزواجهن" وصله الفريابي وتقدم في بدء الخلق. قوله: "عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه" هو أبو موسى الأشعري. قوله: "إن في الجنة خيمة" أي المراد بقوله في الآية "في الخيام" والخيام جمع خيمة، والمذكور في الحديث صفتها. قوله: "مجوفة" أي واسعة الجوف. قوله: "في كل زاوية منها أهل" في رواية مسلم: "أهل

(8/624)


للمؤمن" . قوله: "ستون ميلا" تقدم الكلام عليه في صفة الجنة. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: الخيمة ميل في ميل، والميل ثلث الفرسخ. قوله: "يطوف عليهم المؤمنون" قال الدمياطي: صوابه المؤمن بالإفراد وأجيب بجواز أن يكون من مقابلة المجموع بالمجموع. قوله: "وجنتان من فضة "هذا معطوف على شيء محذوف تقديره هذا للمؤمن، أو هو من صنيع الراوي. وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "جنتان إلخ" وقد تقدم شرح ذلك في الباب الذي قبله

(8/625)


56- سورة الْوَاقِعَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {رُجَّتْ} زُلْزِلَتْ {بُسَّتْ} فُتَّتْ لُتَّتْ كَمَا يُلَتُّ السَّوِيقُ {الْمَخْضُودُ} الْمُوقَرُ حَمْلاً وَيُقَالُ أَيْضًا لاَ شَوْكَ لَهُ {مَنْضُودٍ} الْمَوْزُ وَالْعُرُبُ الْمُحَبَّبَاتُ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ {ثُلَّةٌ} أُمَّةٌ {يَحْمُومٍ} دُخَانٌ أَسْوَدُ {يُصِرُّونَ} يُدِيمُونَ {الْهِيمُ} الإِبِلُ الظِّمَاءُ {لَمُغْرَمُونَ} لَمَلُومُونَ {مَدِينِينَ} مُحَاسَبِينَ {رَوْحٌ} جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ {وَرَيْحَانٌ} الرِّزْقُ {وَنُنْشِئَكُمْ فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ} فِي أَيِّ خَلْقٍ نَشَاءُ وَقَالَ غَيْرُهُ {تَفَكَّهُونَ} تَعْجَبُونَ {عُرُبًا} مُثَقَّلَةً وَاحِدُهَا عَرُوبٌ مِثْلُ صَبُورٍ وَصُبُرٍ يُسَمِّيهَا أَهْلُ مَكَّةَ الْعَرِبَةَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ الْغَنِجَةَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ الشَّكِلَةَ وَقَالَ فِي {خَافِضَةٌ} لِقَوْمٍ إِلَى النَّارِ وَ {رَافِعَةٌ} إِلَى الْجَنَّةِ {مَوْضُونَةٍ} مَنْسُوجَةٍ وَمِنْهُ وَضِينُ النَّاقَةِ وَالْكُوبُ لاَ آذَانَ لَهُ وَلاَ عُرْوَةَ وَالأَبَارِيقُ ذَوَاتُ الآذَانِ وَالْعُرَى {مَسْكُوبٍ} جَارٍ {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ {مُتْرَفِينَ} مُمَتَّعِينَ {مَا تُمْنُونَ} مِنْ النُّطَفِ يَعْنِي هِيَ النُّطْفَةُ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ {لِلْمُقْوِينَ} لِلْمُسَافِرِينَ وَالْقِيُّ الْقَفْرُ {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} بِمُحْكَمِ الْقُرْآنِ وَيُقَالُ بِمَسْقِطِ النُّجُومِ إِذَا سَقَطْنَ وَمَوَاقِعُ وَمَوْقِعٌ وَاحِدٌ {مُدْهِنُونَ} مُكَذِّبُونَ مِثْلُ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ فَسَلاَمٌ لَكَ أَيْ مُسَلَّمٌ لَكَ إِنَّكَ {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} وَأُلْغِيَتْ إِنَّ وَهُوَ مَعْنَاهَا كَمَا تَقُولُ أَنْتَ مُصَدَّقٌ مُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ إِذَا كَانَ قَدْ قَالَ إِنِّي مُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ وَقَدْ يَكُونُ كَالدُّعَاءِ لَهُ كَقَوْلِكَ فَسَقْيًا مِنْ الرِّجَالِ إِنْ رَفَعْتَ السَّلاَمَ فَهُوَ مِنْ الدُّعَاءِ {تُورُونَ} تَسْتَخْرِجُونَ أَوْرَيْتُ أَوْقَدْتُ {لَغْوًا} بَاطِلًا {تَأْثِيمًا} كَذِبًا.
قوله: "سورة الواقعة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سقطت البسملة لغير أبي ذر، والمراد بالواقعة القيامة. قوله: "وقال مجاهد رجت زلزلت" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بهذا، وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. قوله: "بست: سمعت ولتت كما يلت السويق" وصله الفريابي من طريق مجاهد بنحوه، وعند أبي عبيدة بست كالسويق المبسوس بالماء. وعند ابن أبي حاتم من طريق منصور عن مجاهد قال: لتت لتا، ومن طريق الضحاك عن ابن عباس قال: فتت فتا. قوله: "المخضود لا شوك له" كذا لأبي ذر، ولغيره: المخضود الموقر حملا، ويقال أيضا إلخ تقدم بيانه في صفة الجنة من بدء الخلق. قوله: "منضود الموز: سقط هذا لأبي ذر، وقد

(8/625)


تقدم في صفة الجنة أيضا. قوله: "والعرب المحببات إلى أزواجهن" تقدم في صفة أهل الجنة أيضا. وقال ابن عيينة في تفسيره: حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {عُرُباً أَتْرَاباً} قال: هي المحببة إلى زوجها. قوله: "ثلة أمة" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد به. وقال أبو عبيدة: الثلة الجماعة، والثلة البقية. وعند ابن أبي حاتم من طريق ميمون بن مهران في قوله: "ثلة" قال: كثير. قوله: "يحموم دخان أسود" وصله الفريابي أيضا كذلك، وأخرجه سعيد بن منصور والحاكم من طريق يزيد بن الأصم عن ابن عباس مثله. وقال أبو عبيدة في قوله: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} : من شدة سواده، يقال أسود يحموم فهو وزن يفعول من الحمم. قوله: "يصرون يديمون" وصله الفريابي أيضا لكن لفظه: "يدمنون" بسكون الدال بعدها ميم ثم نون، وعند ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: يقيمون. قوله: "الهيم الإبل الظماء" سقط هنا لأبي ذر، وقد تقدم في البيوع. قوله: "لمغرمون لملزمون" وصله ابن أبي حاتم من طريق شعبة عن قتادة، وعند الفريابي من طريق مجاهد: ملقون للشر. قوله: "مدينين محاسبين" تقدم في تفسير الفاتحة. قوله: "روح جنة ورخاء" سقط هذا لأبي ذر، وقد تقدم في صفة الجنة. قوله: "وريحان الرزق" تقدم في تفسير الرحمن قريبا. قوله: "وقال غيره تفكهون تعجبون" هو قول الفراء، قال في قوله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم، قال ويقال: معناه تندمون. قلت: وهو قول مجاهد، أخرجه ابن أبي حاتم، وأخرجه ابن المنذر من طريق الحسن مثله، وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: هو شبه المتندم. قلت: تفكه بوزن تفعل وهو كتأثم أي ألقى الإثم، فمعنى تفكه أي ألقى عنه الفاكهة، وهو حال من دخل في الندم والحزن. قوله: "عربا مثقلة واحدها عروب إلى قوله الشكلة" سقط هنا لأبي ذر، وتقدم في صفة الجنة. قوله: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} ، أي في أي خلق نشاء" تقدم في بدء الخلق، وسقط "فيما لا تعلمون" هنا لأبي ذر. قوله: "وفرش مرفوعة بعضها فوق بعض" هو قول مجاهد، وتقدم أيضا في صفة الجنة. قوله: "والكوب إلخ وكذا قوله مسكوب جار" سقط كله لأبي ذر هنا، وتقدم في صفة الجنة. قوله: "موضوبة منسوجة، ومنه وضين الناقة" سقط هنا لأبي ذر، وقد تقدم في صفة الجنة أيضا. قوله: "وقال في "خافضة" لقوم إلى النار و" رافعة" لقوم إلى الجنة" قال الفراء في قوله تعالى: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} قال: خافضة لقوم إلى النار، رافعة لقوم إلى الجنة. وعن محمد بن كعب: خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرتفعين، ورفعت أقواما كانوا في الدنيا منخفضين، وأخرجه سعيد بن منصور. وعن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} قال: شملت القريب والبعيد، حتى خفضت أقواما في عذاب الله ورفعت أقواما في كرامة الله. وروى ابن أبي حاتم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس نحوه، ومن طريق عثمان بن سراقة عن خاله عمر بن الخطاب نحوه، ومن طريق السدي قال: خفضت المتكبرين ورفعت المتواضعين. قوله: "مترفين متنعمين" كذا للأكثر بمثناة قبل النون وبعد العين ميم، وللكشميهني: "متمتعين" بميم قبل المثناة من التمتع، كذا في رواية النسفي والأول هو الذي وقع في "معاني القرآن للفراء" ومنه نقل المصنف. ولابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: منعمين. قوله: "ما تمنون هي النطف يعني في أرحام النساء" تقدم في بدء الخلق، قال الفراء: قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} يعني النطف إذا قذفت في أرحام النساء، أأنتم تخلقون تلك النطف أم نحن. قوله: {لِلْمُقْوِينَ} للمسافرين والقي القفر" سقط هنا لأبي ذر، وقد تقدم في بدء الخلق أيضا. قوله: "بمواقع النجوم بمحكم القرآن" قال الفراء:

(8/626)


حدثنا فضيل بن عياض عن منصور عن المنهال بن عمرو قال: قرأ عبد الله {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} قال: بمحكم القرآن، وكان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم نجوما. وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} قال: بمنازل النجوم. قال وقال الكلبي: هو القرآن أنزل نجوما انتهي. ويؤيده ما أخرج النسائي والحاكم من طريق حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نزل القرآن جميعا ليلة القدر إلى السماء، ثم فصل فنزل في السنين، وذلك قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} . قوله: "ويقال بمسقط النجوم إذا سقطن ومواقع وموقع واحد" هو كلام الفراء أيضا بلفظه، ومراده أن مفادهما واحد وإن كان أحدهما جميعا والآخر مفردا، لكن المفرد المضاف كالجمع في إفادة التعدد، وقرأها بلفظ الواحد حمزة والكسائي وخلف" وقال أبو عبيدة: مواقع النجوم مساقطها حيث تغيب" . قوله: "مدهنون مكذبون مثل: لو تدهن فيدهنون" قال الفراء في قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} : أي مكذبون، وكذلك في قوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} أي لو تكفر فيكفرون، كل قد سمعته قد أدهن أي كفر. وقال أبو عبيدة مدهنون واحدها مدهن وهو المداهن. قوله: {فَسَلامٌ لَكَ} أي مسلم لك. إنك من أصحاب اليمين وألغيت إن وهو معناها كما تقول أنت مصدق ومسافر عن قليل إذا كان قد قال إني مسافر عن قليل" هو كلام الفراء بلفظه لكن قال: أنت مصدق مسافر بغير واو وهو الوجه، والتقدير أنت مصدق أنك مسافر، ويؤيد ما قال الفراء ما أخرج ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس قال: تأتيه الملائكة من قبل الله، سلام لك من أصحاب اليمين: تخبره أنه من أصحاب اليمين. قوله: "وقد يكون كالدعاء له كقولك فسقيا من الرجال، إن رفعت السلام فهو من الدعاء" هو كلام الفراء أيضا بلفظه، لكنه قال: "وإن رفعت السلام فهو دعاء" . قوله: "تورون تستخرجون، أوريت أوقدت" سقط هنا لأبي ذر، وقد تقدم في صفة النار من بدء الخلق. قوله: "لغوا باطلا، تأثيما كذبا" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "لغوا" باطلا. وفي قوله: {وَلا تَأْثِيماً} قال: كذبا

(8/627)


1- بَاب {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}
4881- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}
قوله "بَاب {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} "ذكر فيه حديث أبي هريرة "إن في الجنة شجرة" وقد تقدم شرحه في صفة الجنة من بدء الخلق

(8/627)


57- سورة الْحَدِيدِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ} مُعَمَّرِينَ فِيهِ {مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} مِنْ الضَّلاَلَةِ إِلَى الْهُدَى {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} جُنَّةٌ وَسِلاَحٌ {مَوْلاَكُمْ} أَوْلَى بِكُمْ {لِئَلاَ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُقَالُ {الظَّاهِرُ} عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا {وَالْبَاطِنُ} عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا {أَنْظِرُونَا} انْتَظِرُونَا

(8/627)


58- سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يُحَادُّونَ} يُشَاقُّونَ اللَّهَ {كُبِتُوا} أُخْزُوا مِنْ الْخِزْيِ {اسْتَحْوَذَ} غَلَبَ
قوله: "سورة المجادلة" كذا للإسماعيلي وأبي نعيم، وللنسفي المجادلة، وسقط لغيرهم. قوله: {يُحَادُّونَ} يشاقون" وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {يُحَادُّونَ اللَّهَ} قال: يعادون الله ورسوله. قوله: {كُبِتُوا} أخزنوا" كذا لأبي ذر. وفي رواية النسفي أحزنوا وكأنها بالمهملة والنون، ولابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة خزوا كما خزي الذين من قبلهم، ومن طريق مقاتل بن حيان أخزوا. وقال أبو عبيدة: كبتوا أهلكوا. قوله: "استحوذ غلب" أي غلبهم الشيطان، هو قول أبي عبيدة، وحكى عن قراءة عمر رضي الله عنه استحاذ بوزن استقام.
" تنبيه " : لم يذكر في تفسير الحديد حديثا مرفوعا، ويدخل فيه حديث ابن مسعود "لم يكن بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} إلا أربع سنين" أخرجه مسلم من طريق عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبيه عن عمه، وكذا سورة المجادلة ولم يخرج فيها حديثا مرفوعا، ويدخل فيها حديث التي ظاهر منها زوجها، وقد أخرجه النسائي، وأورد منه البخاري طرفا في كتاب التوحيد معلقا

(8/628)


59- سُورَةُ الْحَشْرِ. الْجَلاَءَ الإِخْرَاجُ مِنْ أَرْضٍ
1- باب4882- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو

(8/628)


2- باب {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} نَخْلَةٍ مَا لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً أَوْ بَرْنِيَّةً
4884- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}
قوله: "باب قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} نخلة ما لم تكن عجوة أو برنية" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} أي من نخلة، وهي من الألوان ما لم تكن عجوة أو برنية إلا أن الواو ذهبت بكسر اللام، وعند الترمذي من حديث ابن عباس "اللينة النخلة" في أثناء حديث، وروى سعيد بن منصور من طريق عكرمة قال: اللينة ما دون العجوة. وقال سفيان: هي شديدة الصفرة تنشق عن النوى.

(8/629)


باب قوله {ما أفاء الله على رسوله}
...
3- باب {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}
4885- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ

(8/629)


4- باب {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}
4886حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ فَجَاءَتْ فَقَالَتْ إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَقَالَ وَمَا لِي لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَتْ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ قَالَ لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قَالَتْ بَلَى قَالَ فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ قَالَتْ فَإِنِّي أَرَى أَهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ قَالَ فَاذْهَبِي فَانْظُرِي فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا فَقَالَ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعْتُهَا"
[الحديث 4886- أطرافه في: 4887، 5931، 5939، 5943، 5948]
4887- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ ذَكَرْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ حَدِيثَ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ فَقَالَ سَمِعْتُهُ مِنْ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَ حَدِيثِ مَنْصُور"
قوله: "باب {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} أي وما أمركم به فافعلوه، لأنه قابله بقوله: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . قوله: "عن عبد الله" هو ابن مسعود قال: "لعن الله الواشمات" سيأتي شرحه في كتاب اللباس. قوله: "فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب" لا يعرف اسمها، وقد أدركها عبد الرحمن بن عباس كما في الطريق التي بعده. قوله: "أما قرأت {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قالت بلى، قال فإنه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "قد نهى" بفتح الهاء وإنما ضبطت هذا خشية أن يقرأ بضم النون وكسر الهاء على البناء للمجهول على أن الهاء في إنه ضمير الشان لكن السياق يرشد إلى ما قررته، وفي هذا الجواب نظر، لأنها استشكلت اللعن ولا يلزم من مجرد النهي لعن من لم يمتثل، لكن يحمل على أن المراد في الآية وجوب امتثال قول الرسول، وقد نهى عن هذا الفعل، فمن فعله فهو ظالم، وفي القرآن لعن الظالمين. ويحتمل أن يكون ابن مسعود سمع اللعن من النبي صلى الله عليه وسلم كما في بعض طرقه. قوله:

(8/630)


"أهلك يفعلونه" هي زينب بنت عبد الله الثقفية. قوله: "فلم تر من حاجتها شيئا" أي من الذي ظنت أن زوج ابن مسعود تفعله. وقيل كانت المرأة رأت ذلك حقيقة وإنما ابن مسعود أنكر عليها فأزالته، فلهذا لما دخلت المرأة لم تر ما كانت رأت قبل ذلك. قوله: "ما جامعتها" يحتمل أن يكون المراد بالجماع الوطء، أو الاجتماع وهو أبلغ، ويؤيده قوله في رواية الكشميهني: "ما جامعتنا" وللإسماعيلي: "ما جامعتني" . واستدل بالحديث على جواز لعن من اتصف بصفة لعن رسول الله صلى الله عليه وسلممن اتصف بها لأنه لا يطلق ذلك إلا على من يستحقه، وأما الحديث الذي أخرجه مسلم فإنه قيد فيه بقوله: "ليس بأهل" أي عندك، لأنه إنما لعنه لما ظهر له من استحقاقه، وقد يكون عند الله بخلاف ذلك، فعلى الأول يحمل قوله: "فاجعلها له زكاة ورحمة" وعلى الثاني فيكون لعنه زيادة في شقوته. وفيه أن المعين على المعصية يشارك فاعلها في الإثم.

(8/631)


5- باب {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ}
4888- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُهَاجِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَعْفُوَ عَنْ مُسِيئِهِم"
قوله: "باب {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} أي استوطنوا المدينة، وقيل نزلوا، فعلى الأول يختص بالأنصار وهو ظاهر قول عمر، وعلى الثاني يشملهم ويشمل المهاجرين السابقين. ذكر فيه طرفا من قصة عمر عند مقتله وقد تقدم المناقب. قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} أي استوطنوا المدينة، وقيل نزلوا، فعلى الأول يختص بالأنصار وهو ظاهر قول عمر، وعلى الثاني يشملهم ويشمل المهاجرين السابقين. ذكر فيه طرفا من قصة عمر عند مقتله وقد تقدم المناقب.

(8/631)


6- باب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآيَةَ. الْخَصَاصَةُ الْفَاقَةُ الْمُفْلِحُونَ الْفَائِزُونَ بِالْخُلُودِ وَالْفَلاَحُ الْبَقَاءُ حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ عَجِّلْ وَقَالَ الْحَسَنُ حَاجَةً حَسَدًا
4889- حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ الأَشْجَعِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَنِي الْجَهْدُ فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ" فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا قَالَتْ وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلاَّ قُوتُ الصِّبْيَةِ قَالَ فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ فَفَعَلَتْ ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ ضَحِكَ مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنَةَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}
قوله: "باب قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية. الخصاصة فاقة" ولغير أبي ذر "الفاقة" وهو قول

(8/631)


60- سورة الْمُمْتَحِنَةِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} لاَ تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِيهِمْ فَيَقُولُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ عَلَى الْحَقِّ مَا أَصَابَهُمْ هَذَا {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} أُمِرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِرَاقِ نِسَائِهِمْ كُنَّ كَوَافِرَ بِمَكَّةَ
قوله: "سورة الممتحنة" سقطت البسملة لجميعهم، والمشهور في هذه التسمية فتح الحاء، وقد تكسر وبه جزم السهيلي، فعلى الأول هي صفة المرأة التي نزلت السورة بسببها، والمشهور فيها أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقيل سعيدة بنت الحارث، وقيل أميمة بنت بشر، والأول هو المعتمد كما سيأتي إيضاحه في كتاب النكاح. ومن كسر جعلها صفة للسورة كما قيل لبراءة الفاضحة. قوله: "وقال مجاهد: {لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} لا تعذبنا بأيديهم إلخ" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه بلفظه وزاد: "ولا بعذاب من عندك" وزاد في آخره: "ما أصابهم مثل هذا" وكذا أخرجه عبد بن حميد عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه، والطبري من طريق أخرى عن ورقاء عن عيسى عن ابن أبي نجيح كذلك، فاتفقوا كلهم على أنه موقوف عن مجاهد. وأخرج الحاكم مثل هذا من طريق آدم بن أبي إياس عن ورقاء فزاد فيه ابن عباس وقال: صحيح على شرط مسلم، وما أظن زيادة ابن عباس فيه إلا وهما لاتفاق أصحاب ورقاء على عدم ذكره. وقد أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: {لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} لا تسلطهم علينا فيفتنونا" وهذا بخلاف تفسير مجاهد، وفيه تقوية لما قلته. وأخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: {لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} قال: لا تظهرهم علينا فيفتنونا يرون أنهم إنما ظهروا علينا بحقهم، وهذا يشبه تأويل مجاهد. قوله: "بعصم الكوافر، أمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بفراق نسائهم كن كوافر بمكة" وصله الفريابي من طريق مجاهد، وأخرجه الطبري من طريقه أيضا ولفظه: "أمر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بطلاق نسائهم كوافر بمكة قعدن مع الكفار، ولسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي قال: نزلت في المرأة من المسلمين تلحق بالمشركين فتكفر فلا يمسك زوجها بعصمتها قد برئ منها انتهى. والكوافر جمع كافرة والعصم جمع عصمة. وقال أبو علي الفارسي قال لي الكرخي: الكوافر في الآية يشمل الرجال والنساء، قال فقلت له: النحاة لا يجيزون هذا إلا في نساء جمع كافرة، قال: أليس يقال طائفة كافرة انتهى. وتعقب بأنه لا يجوز كافرة وصفا للرجال إلا مع ذكر الموصوف فتعين الأول. والله أعلم.

(8/633)


1- باب {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}
4890- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ كَاتِبَ عَلِيٍّ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ: "انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا" فَذَهَبْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ فَقَالَتْ مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ

(8/633)


2- باب {إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ}
4891- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ بِهَذِهِ الآيَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَايَعْتُكِ كَلاَمًا وَلاَ وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ مَا يُبَايِعُهُنَّ إِلاَّ بِقَوْلِهِ: "قَدْ بَايَعْتُكِ عَلَى ذَلِكِ" تَابَعَهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَة"
قوله: "باب {إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} اتفقوا على نزولها بعد الحديبية، وأن سببها ما تقدم من الصلح بين قريش والمسلمين على أن من جاء من قريش إلى المسلمين يردونه إلى قريش، ثم استثنى الله من ذلك النساء بشرط الامتحان. قوله: "حدثي إسحاق أنبأنا يعقوب" في رواية غير أبي ذر "حدثنا يعقوب" فأما إسحاق فهو ابن منصور وكلام أبي نعيم يشعر بأنه ابن إبراهيم، وأما يعقوب بن إبراهيم فهو ابن سعد، وابن أخي ابن شهاب اسمه محمد ابن عبد الله بن مسلم. قوله: "قال عروة قالت عائشة" هو موصول بالإسناد المذكور، وسيأتي الكلام على شرحه في أواخر النكاح إن شاء الله تعالى. قوله: "قد بايعتك. كلاما" أي يقول ذلك كلاما فقط، لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة. قوله: "ولا والله" فيه القسم لتأكيد الخبر، وكأن عائشة أشارت بذلك إلى الرد على ما جاء عن أم عطية. فعند ابن خزيمة وابن حبان والبزار والطبري وابن مردويه من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة قال: "فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال: اللهم اشهد" وكذا الحديث الذي بعده حيث قال فيه: "قبضت منا امرأة يدها" فإنه يشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن، ويمكن الجواب عن الأول بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة وإن لم تقع مصافحة، وعن الثاني بأن المراد بقبض اليد التأخر عن القبول، أو كانت المبايعة تقع بحائل، فقد روى أبو داود في "المراسيل" عن الشعبي "أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه على يده وقال: لا أصافح النساء " وعند عبد الرزاق من طريق إبراهيم النخعي مرسلا نحوه، وعند سعيد بن منصور من طريق قيس بن أبي

(8/636)


حازم كذلك. وأخرج ابن إسحاق في المغازي من رواية يونس بن بكير عنه عن أبان بن صالح أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يغمس يده في إناء، وتغمس المرأة يدها فيه:"ويحتمل التعدد. وقد أخرج الطبراني أنه بايعهن بواسطة عمر، وروى النسائي والطبري من طريق محمد بن المنكدر" أن أميمة بنت رقيقة - بقافين مصغر - أخبرته أنها دخلت في نسوة تبايع، فقلن يا رسول الله ابسط يدك نصافحك، قال، إني لا أصافح النساء، ولكن سآخذ عليكن، فأخذ علينا حتى بلغ: ولا يعصينك في معروف، فقال: فيما طقتن واستطعتن، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا" وفي رواية الطبري "ما قولي لمائة امرأة إلا كقولي لامرأة واحدة" وقد جاء في أخبار أخرى أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب أخرجه يحيى بن سلام في تفسيره عن الشعبي، وفي المغازي لابن إسحاق عن أبان بن صالح "أنه كان يغمس يده في إناء فيغمسن أيديهن فيه" . قوله: "تابعه يونس ومعمر وعبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري" أما متابعة يونس فيأتي الكلام عليها في كتاب الطلاق، وأما متابعة معمر فوصلها المؤلف في الأحكام، أما متابعة عبد الرحمن بن إسحاق فوصلها ابن مردويه من طريق خالد بن عبد الله الواسطي عنه. قوله: "وقال إسحاق بن راشد عن الزهري عن عروة وعمرة" يعني عن عائشة، جمع بينهما، وصله الذهلي في "الزهريات" عن عتاب بن بشير عن إسحاق بن راشد به، وفي هذا الحديث أن المحنة المذكورة في قوله: "فامتحنوهن" هي أن يبايعهن بما تضمنته الآية المذكورة. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يمتحن من هاجر من النساء: بالله ما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحبا لله ورسوله" وأخرج عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه وزاد: "ولا خرج بك عشق رجل منا، ولا فرار من زوجك" ، وعند ابن مردويه وابن أبي حاتم والطبراني من حديث ابن عباس نحوه وسنده ضعيف، ويمكن الجمع بين التحليف والمبايعة والله أعلم. وذكر الطبري وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المرأة من المشركين كانت إذا غضبت على زوجها قالت: والله لأهاجرن إلى محمد، فنزلت: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} .

(8/637)


3- باب {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ}
4892- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْنَا أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَنَهَانَا عَنْ النِّيَاحَةِ فَقَبَضَتْ امْرَأَةٌ يَدَهَا فَقَالَتْ أَسْعَدَتْنِي فُلاَنَةُ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا فَمَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَانْطَلَقَتْ وَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا"
4893- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قَالَ إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ شَرَطَهُ اللَّهُ لِلنِّسَاء"
4894- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَاهُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ سَمِعَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَتُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ تَزْنُوا وَلاَ

(8/637)


تَسْرِقُوا وَقَرَأَ آيَةَ النِّسَاءِ وَأَكْثَرُ لَفْظِ سُفْيَانَ قَرَأَ الآيَةَ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ فِي الآيَةِ
4895- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ مُسْلِمٍ أَخْبَرَهُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ شَهِدْتُ الصَّلاَةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ مَعَ بِلاَلٍ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} حَتَّى فَرَغَ مِنْ الآيَةِ كُلِّهَا ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ: "أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ" فَقَالَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ يَدْرِي الْحَسَنُ مَنْ هِيَ قَالَ: "فَتَصَدَّقْنَ" وَبَسَطَ بِلاَلٌ ثَوْبَهُ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلاَل"
قوله: "باب {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} سقط "باب" لغير أبي ذر، وذكر فيه أربعة أحاديث. قوله: "عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية" كذا قال عبد الوارث عن أيوب. وقال سفيان بن عيينة" عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أم عطية" أخرجه النسائي، فكأن أيوب سمعه منهما جميعا، وقد تقدم شرح هذا في الجنائز. قوله: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا" أن لا يشركن بالله شيئا "ونهانا عن النياحة" في رواية مسلم من طريق عاصم عن حفصة عن أم عطية قالت "لما نزلت هذه الآية" يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا - ولا يعصينك في معروف" كان منه النياحة" . قوله: "فقبضت امرأة يدها" في رواية عاصم "فقلت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد من أن أسعدهم" لم أعرف آل فلان المشار إليهم. وفي رواية النسائي: "قلت إن امرأة أسعدتني في الجاهلية" ولم أقف على اسم المرأة. وتبين أن أم عطية في رواية عبد الوارث أبهمت نفسها. قوله: "أسعدتني فلانة فأريد أن أجزيها" وللنسائي في رواية أيوب "فأذهب فأسعدها ثم أجيئك فأبايعك" والإسعاد قيام المرأة مع الأخرى في النياحة تراسلها، وهو خاص بهذا المعنى، ولا يستعمل إلا في البكاء والمساعدة عليه، ويقال إن أصل المساعدة وضع الرجل يده على ساعد الرجل صاحبه عند التعاون على ذلك. قوله: "فانطلقت ورجعت، فبايعها" في رواية عاصم فقال: "إلا آل فلان" وفي رواية النسائي: "قال فاذهبي فأسعديها، قالت: فذهبت فساعدتها ثم جئت فبايعت" قال النووي: هذا محمول على أن الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة، ولا تحل النياحة لها ولا لغيرها في غير آل فلان كما هو ظاهر الحديث، وللشارع أن يخص من العموم من شاء بما شاء، فهذا صواب الحكم في هذا الحديث. كذا قال، وفيه نظر إلا إن ادعى أن الذين ساعدتهم لم يكونوا أسلموا، وفيه بعد،

(8/638)


وإلا فليدع مشاركتهم لها في الخصوصية، وسأبين ما يقدح في خصوصية أم عطية بذلك. ثم قال: واستشكل القاضي عياض وغيره هذا الحديث وقالوا فيه أقوالا عجيبة، ومقصودي التحذير من الاغترار بها، فإن بعض المالكية قال: النياحة ليست بحرام، لهذا الحديث، وإنما المحرم ما كان معه شيء من أفعال الجاهلية من شق جيب وخمش خد ونحو ذلك، قال: والصواب ما ذكرناه أولا وأن النياحة حرام مطلقا وهو مذهب العلماء كافة انتهى. وقد تقدم في الجنائز النقل عن غير هذا المالكي أيضا أن النياحة ليست بحرام، وهو شاذ مردود، وقد أبداه القرطبي احتمالا ورده بالأحاديث الواردة في الوعيد على النياحة، وهو دال على شدة التحريم، لكن لا يمتنع أن يكون النهي أولا ورد بكراهة التنزيه، ثم لما تمت مبايعة النساء وقع التحريم فيكون الإذن لمن ذكر وقع في الحالة الأولى لبيان الجواز ثم وقع التحريم فورد حينئذ الوعيد الشديد. وقد لخص القرطبي بقية الأقاويل التي أشار إليها النووي، منها دعوى أن ذلك قبل تحريم النياحة، قال: وهو فاسد لمساق حديث أم عطية هذا، ولولا أن أم عطية فهمت التحريم لما استثنت. قلت: ويؤيده أيضا أن أم عطية صرحت بأنها من العصيان في المعروف وهذا وصف المحرم. ومنها أن قوله: "إلا آل فلان" ليس فيه نص على أنها تساعدهم بالنياحة، فيمكن أنها تساعدهم باللقاء والبكاء الذي لا نياحة معه. قال وهذا أشبه مما قبله. قلت: بل يرد عليه ورود التصريح بالنياحة كما سأذكره، ويرد عليه أيضا أن اللقاء والبكاء المجرد لم يدخل في النهي كما تقدم في الجنائز تقريره، فلو وقع الاقتصار عليه لم يحتج إلى تأخير المبايعة حتى تفعله. ومنها يحتمل أن يكون أعاد "إلا آل فلان" على سبيل الإنكار كما قال لمن استأذن عليه فقال له: من ذا؟ فقال: أنا. فقال: أنا أنا. فأعاد عليه كلامه منكرا عليه. قلت: ويرد عليه [ما ورد] على الأول. ومنها أن ذلك خاص بأم عطية، قال: وهو فاسد فإنها لا تختص بتحليل شيء من المحرمات انتهى. ويقدح في دعوى تخصيصها أيضا ثبوت ذلك لغيرها، ويعرف منه أيضا الخدش في الأجوبة الماضية، فقد أخرج ابن مردويه من حديث ابن عباس قال: "لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء فبايعهن أن لا يشركن بالله شيئا الآية قالت خولة بنت حكيم: يا رسول الله كان أبي وأخي ماتا في الجاهلية، وإن فلانة أسعدتني وقد مات أخوها" الحديث. وأخرج الترمذي من طريق شهر بن حوشب عن أم سلمة الأنصارية وهي أسماء بنت يزيد قالت: "قلت يا رسول الله إن بني فلان أسعدوني على عمي ولا بد من قضائهن، فأبى قالت: فراجعته مرارا فأذن لي، ثم لم أنح بعد" . وأخرج أحمد والطبري من طريق مصعب بن نوح قال: "أدركت عجوزا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فأخذ علينا ولا ينحن، فقال عجوز: يا نبي الله إن ناسا كانوا أسعدونا على مصائب أصابتنا، وإنهم قد أصابتهم مصيبة فأنا أريد أن أسعدهم، قال: فاذهبي فكافئيهم. قالت: فانطلقت فكافأتهم. ثم إنها أتت فبايعته" وظهر من هذا كله أن أقرب الأجوبة أنها كانت مباحة ثم كرهت كراهة تنزيه ثم تحريم والله أعلم. قوله: "حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا أبي" هو جرير بن حازم. قوله: "سمعت الزبير" في رواية الإسماعيلي: "الزبير بن خريت" وهو بكسر الخاء المعجمة وتشديد الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة قوله: "في قوله: "ولا يعصينك في معروف" قال: إنما هو شرط شرطه الله للنساء" أي على النساء. وقوله: "فبايعهن" في السياق حذف تقديره: فإن بايعن على ذلك، أو فإن اشترطن ذلك على أنفسهن فبايعهن. واختلف في الشرط فالأكثر على أنه النياحة كما سبق، وقد تقدم عند مسلم ما يدل لذلك. وأخرج الطبري من طريق زهير بن محمد قال في قوله: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} لا يخلو الرجل

(8/639)


بامرأة. وقد جمع بينهما قتادة، فأخرج الطبري عنه قال: "أخذ عليهن أن لا ينحن ولا يحدثن الرجال، فقال عبد الرحمن بن عوف: إن لنا أضيافا وإنا نغيب عن نسائنا، فقال: ليس أولئك عنيت" وللطبري من حديث ابن عباس المقدم ذكره "إنما أنبئكن بالمعروف الذي لا يعصينني فيه، لا تخلون بالرجال وحدانا، ولا تنحن نوح الجاهلية" ومن طريق أسيد بن أبي أسيد البراد عن امرأة من المبايعات قالت: "كان فيما أخذ علينا أن لا نعصيه في شيء من المعروف، ولا نخمش وجها، ولا ننشر شعرا، ولا نشق جيبا، ولا ندعو ويلا" . قوله: "قال الزهري حدثناه" هو من تقديم الاسم على الصيغة، والضمير للحديث الذي يريد أن يذكره. قوله: "وقرأ آية النساء" أي آية بيعة النساء وهي "يا أيها النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا" الآية، وقد قدمت في كتاب الإيمان بيان وقت هذه المبايعة. قوله: "وأكثر لفظ سفيان قرأ الآية" وللكشميهني: "قرأ في الآية" والأول أولى. قوله: "ومن أصاب منها" أي من الأشياء التي توجب الحد، في رواية الكشميهني: "من ذلك شيئا" . قوله: "تابعه عبد الرزاق عن معمر" زاد المستملي: "في الآية" ، ووصله مسلم عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق عقب رواية سفيان وقال له آخره:"وزاد الحديث: فتلا علينا آية النساء أن لا يشركن بالله شيئا" وقد تقدم شرحه ومباحثه في كتاب الإيمان مستوفى. وقوله: "ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن" فيه عدة أقوال: منها أن المراد بما بين الأيدي ما يكتسب بها وكذا الأرجل، الثاني هما كناية عن الدنيا والآخرة، وقيل عن الأعمال الظاهرة والباطنة، وقيل الماضي والمستقبل، وقيل ما بين الأيدي كسب العبد بنفسه وبالأرجل كسبه بغيره، وقيل غير ذلك. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا هارون بن معروف حدثنا عبد الله بن وهب قال وأخبرني ابن جريج" قلت: نزل البخاري في هذا الإسناد درجتين بالنسبة لابن جريج، فإنه يروي عن ابن جريج بواسطة رجل واحد كأبي عاصم ومحمد بن عبد الله الأنصاري ومكي بن إبراهيم وغيرهم، نزل فيه درجة بالنسبة لابن وهب فإنه يروي عن جميع من أصحابه كأحمد بن صالح وأحمد بن عيسى وغيرها، وكأن السبب فيه تصريح ابن جريج في هذه الطريق النازلة بالإخبار. وقد أخرج البخاري طرفا من هذا الحديث في كتاب العيدين عن أبي عاصم عن ابن جريج بالعلو، وهو من أوله إلى قوله: "قبل الخطبة" وصرح فيه ابن جريج بالخبر، فلعله لم يكن بطوله عند ابن أبي عاصم ولا عند من لقيه من أصحاب ابن وهب، وقد علاه أبو ذر في روايته فقال: "حدثنا علي الحربي حدثنا ابن أبي داود حدثنا محمد بن مسلمة حدثنا ابن وهب" ، ووقع للبخاري بعلو في العيدين لكنه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج، وتقدم شرحه هناك مستوفى، وقول ابن وهب "وأخبرني ابن جريج" معطوف على شيء محذوف.

(8/640)


سورة الصف : باب {يأتي من بعدي اسمة أحمد}
...
61- سورة الصَّفِّ
بسم الله الرحمن الرحيم: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} مَنْ يَتَّبِعُنِي إِلَى اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {مَرْصُوصٌ} مُلْصَقٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَقَالَ يَحْيَى بِالرَّصَاصِ
1- باب {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}
4896- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ

(8/640)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ لِي أَسْمَاءً أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِب"
قوله: "سورة الصف – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير أبي ذر، ويقال لها أيضا سورة الحواريين. وأخرج الطبري من طريق معمر عن قتادة أن الحواريين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم من قريش، فسمى العشرة المشهورين إلا سعيد بن زيد وحده وحمزة وجعفر بن أبي طالب وعثمان بن مظعون. وقد وقع لنا سماع هذه السورة مسلسلا في حديث ذكر في أوله سبب نزولها وإسناده صحيح قل أن وقع في المسلسلات مثله مع مزيد علوه. قوله: "وقال مجاهد "من أنصاري إلى الله" من يتبعني إلى الله" في رواية الكشميهني: "من تبعني إلى الله" بصيغة الماضي. وقد وصله الفريابي بلفظ: "من يتبعني" وقال أبو عبيدة: إلى بمعنى في، أي من أنصاري في الله؟ قوله: "وقال ابن عباس مرصوص ملصق بعضه إلى بعض" كذا لأبي ذر، ولغيره: "ببعض" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قول {كأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } : مثبت لا يزول ملصق بعضه ببعض فعلى تفسير ابن عباس هو من التراص أي التضام مثل تراص الأسنان أو من الملائم الأجزاء المستوى. قوله: "وقال يحيى بالرصاص" كذا لأبي ذر والنسفي ولغيرهما: "وقال غيره:"وجزم أبو ذر بأنه يحيى بن زياد ابن عبد الله الفراء وهو كلامه في "معاني القرآن" ولفظه في قوله: {كأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} : يريد بالرصاص حثهم على القتال ورجح الطبري الأول. والرصاص بفتح الراء ويجوز كسرها. قوله: {أْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} في رواية أبي ذر "باب يأتي من بعدي" حديث جبير بن مطعم، وقد تقدم شرحه مستوفى أوائل السيرة النبوية.

(8/641)


سورة الجمعة: باب قوله {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم}
...
62- سورة الْجُمُعَةِ
قوله: "سورة الجمعة – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت سورة والبسملة لغير أبي ذر، وتقدم ضبطه في كتاب الصلاة.
1- باب قَوْلُهُ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} وَقَرَأَ عُمَرُ فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.
4897- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قَالَ قُلْتُ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حَتَّى سَأَلَ ثَلاَثًا وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ: " لَوْ كَانَ الإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ أَوْ رَجُلٌ مِنْ هَؤُلاَء"
[الحديث 4897- طرفه في: 4868]
4898- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ أَخْبَرَنِي ثَوْرٌ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلاَء"

(8/641)


قوله: "باب قوله {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} أي لم يلحقوا بهم، ويجوز في آخرين أن يكون منصوبا عطفا على الضمير المنصوب في يعلمهم، وأن يكون مجرورا عطفا على الأميين. قوله: "وقرأ عمر: فامضوا إلى ذكر الله" ثبت هذا هنا في رواية الكشميهني وحده، وروى الطبري عن عبد الحميد بن بيان عن سفيان عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: "ما سمعت عمر يقرؤها قط: فامضوا" ومن طريق مغيرة عن إبراهيم قال: "قيل لعمر إن أبى بن كعب يقرؤها فاسعوا، قال: أما إنه أعلمنا وأقرؤنا للمنسوخ، وإنما هي فامضوا" وأخرجه سعيد بن منصور فبين الواسطة بين إبراهيم وعمر وأنه خرشة بن الحر فصح الإسناد. وأخرجا أيضا من طريق إبراهيم عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرؤها "فامضوا" ويقول: لو كان "فاسعوا" لسعيت حتى يسقط ردائي. وأخرجه الطبراني ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع. وللطبراني أيضا من طريق قتادة قال: هي في حرف ابن مسعود "فامضوا" قال: وهي كقوله: "إن سعيكم لشتى". وقال أبو عبيدة: معنى فاسعوا أجيبوا وليس من العدو. قوله: "حدثنا عبد العزيز: كذا لهم غير منسوب، قال الجياني: وكلام الكلاباذي يقتضى أنه ابن أبي حازم سلمة بن دينار، قال: والذي عندي أنه الدراوردي لأن مسلما أخرجه عن قتيبة عن الدراوردي عن ثور. قلت: وأخرجه الترمذي والنسائي أيضا عن قتيبة، وأورده الإسماعيلي وأبو نعيم مستخرجيهما من طريق قتيبة، وجزم أبو مسعود أن البخاري أخرجه "عن عبد الله بن عبد الوهاب أنبأنا عبد العزيز الدراوردي" كذا فيه، وتبعه المزي، وظاهره أن البخاري نسبه ولم أر ذلك في شيء من نسخ الصحيح، ولم أقف على رواية عبد العزيز بن أبي حازم لهذا الحديث في شيء من المسانيد، ولكن يؤيده أن البخاري لم يخرج للدراوردي إلا متابعة أو مقرونا، وهو هنا كذلك فإنه صدره برواية سليمان بن بلال ثم تلاه برواية عبد العزيز. قوله: "عن ثور" هو ابن يزيد المدني، وأبو الغيث بالمعجمة والمثلثة اسمه سالم. قوله: "فأنزلت عليه سورة الجمعة وآخرين منهم لما يلحقوا بهم" كأنه يريد أنزلت عليه هذه الآية من سورة الجمعة، وإلا فقد نزل منها قبل إسلام أبي هريرة الأمر بالسعي، ووقع في رواية الدراوردي عن ثور عند مسلم: "نزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ وآخرين منهم" . قوله: "قال قلت من هم يا رسول الله" في رواية السرخسي "قالوا من هم يا رسول الله" وفي رواية الإسماعيلي: "فقال له رجل" وفي رواية الدراوردي "قيل من هم" وفي رواية عبد الله بن جعفر عن ثور عند الترمذي "فقال رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا" ولم أقف على اسم السائل. قوله: "فلم يراجعوه" كذا في نسختي من طريق أبي ذر، وفي غيرها "فلم يراجعه" وهو الصواب، أي لم يراجع النبي صلى الله عليه وسلم السائل، أي لم يعد عليه جوابه حتى سأله ثلاث مرات. ووقع ذلك صريحا في رواية الدراوردي قال: "فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأل مرتين أو ثلاثا" وفي رواية ابن وهب عن سليمان بن بلال "حتى سأله ثلاث مرات" بالجزم، وكذا في رواية عبد الله بن جعفر. قوله: "وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان" في رواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة "يده على فخذ سلمان" . قوله: "لو كان الإيمان عند الثريا" هي نجم معروف تقدم ذكره في تفسير سورة النجم. قول "لناله رجال - أو رجل - من هؤلاء" هذا الشك من سليمان بن بلال. بدليل الرواية التي أوردها بعده من غير شك مقتصرا على قوله: "رجال من هؤلاء" وهي عند مسلم والنسائي كذلك، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية ابن وهب عن سليمان بلفظ: "لناله رجال من هؤلاء" أيضا بغير شك. وعبد العزيز المذكور هو الدراوردي كما جزم به أبو نعيم والجياني ثم المزي،

(8/642)


وقد أخرجه مسلم عن قتيبة عن الدراوردي، وجزم الكلاباذي بأنه ابن أبي حازم، والأول أولى فإن الحديث مشهور عن الدراوردي، ولم أر في شيء من المسانيد من حديث أبي حازم، والدراوردي قد أخرج له البخاري في المتابعات غير هذا. قوله: "من أبناء فارس" قيل إنهم من ولد هدرام بن أرفخشد بن سام بن نوح وأنه ولد بضعة عشر رجلا كلهم كان فارسا شجاعا فسموا الفرس للفروسية، وقيل في نسبهم أقوال أخرى. وقال صاعد في الطبقات كان أولهم على دين نوح، ثم دخلوا في دين الصابئة في زمن طمهورث فداموا على ذلك أكثر من ألفي سنة، ثم تمجسوا على يد زرادشت. وقد أطنب أبو نعيم في أول "تاريخ أصبهان" في تخريج طرق هذا الحديث، أعني حديث: "لو كان الدين عند الثريا" ووقع في بعض طرقه عند أحمد بلفظ: "لو كان العلم عند الثريا" وفي بعض طرقه عند أبي نعيم عن أبي هريرة أن ذلك عند نزول قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} ويحتمل أن يكون ذلك صدر عند نزول كل من الآيتين. وقد أخرج مسلم الحديث مجردا عن السب من رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رفعه: "لو كان الدين عند الثريا لذهب رجال من أبناء فارس حتى يتناولوه" ، وأخرجه أبو نعيم من طريق سليمان التيمي حدثني شيخ من أهل الشام عن أبي هريرة نحوه وزاد في آخره: "برقة قلوبهم" ، وأخرجه أيضا من وجه آخر عن التيمي عن أبي عثمان عن سلمان الفارسي بالزيادة، ومن طريق أخرى من هذا الوجه فزاد فيه: "يتبعون سنتي، ويكثرون الصلاة علي" قال القرطبي: وقع ما قاله صلى الله عليه وسلم عيانا، فإنه وجد منهم من اشتهر ذكره من حفاظ الآثار والعناية بها ما لم يشاركهم فيه كثير من أحد غيرهم. واختلف أهل النسب في أصل فارس فقيل إنهم ينتهي نسبهم إلى جيومرت وهو آدم، وقيل إنه من ولد يافث بن نوح، وقيل من ذرية لاوي ابن سام بن نوح، وقيل هو فارس بن ياسور بن سام، وقيل هو من ولد هدرام بن أرفخشد بن سام، وقيل إنهم من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، والأول أشهر الأقوال عندهم، والذي يليه أرجحها عند غيرهم

(8/643)


باب {وإذا رأو تجارة أو لهوا}
...
2- باب {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا}
4899- حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ وَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَقْبَلَتْ عِيرٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَارَ النَّاسُ إِلاَّ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}
قوله: "باب {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} كذا لأبي ذر، ولغير "وإذا رأوا تجارة" حسب. قال ابن عطية: قال انفضوا إليها ولم يقل إليهما اهتماما بالأهم إذ كانت هي سبب اللهو من غير عكس. كذا قيل، وفيه نظر لأن العطف بأو لا يثنى معه الضمير، لكن يمكن أن يدعى أن "أو" هنا بمعنى الواو على تقدير أن تكون أو على بابها، فحقه أن يقول جيء بضمير التجارة دون ضمير اللهو للمعنى الذي ذكره، وقد تقدم بيان اختلاف النقلة في سبب انفضاضهم في كتاب الجمعة. قوله: "حدثني حفص بن عمر" هو الحوضي. قوله: "حدثنا حصين" بالتصغير هو ابن عبد الرحمن. قوله: "عن سالم بن أبي الجعد وعن أبي سفيان عن جابر" يعني كلاما عن جابر، وقد تقدم في الصلاة من طريق زائدة عن حصين عن سالم وحده قال: "حدثنا جابر" والاعتماد على سالم، وأما أبو سفيان واسمه

(8/643)


طلحة ابن نافع فليس على شرطه، وإنما أخرج له مقرونا، وقد تقدم له حديث في مناقب سعد بن معاذ قرنه بسالم أيضا. وأخرج له حديثين آخرين في الأشربة مقرونين بأبي صالح عن جابر، وهذا جميع ماله عنده. قوله: "أقبلت عير" بكسر المهملة وسكون التحتانية تقدم الكلام عليها في كتاب الجمعة مع بقية شرح هذا الحديث ولله الحمد. قوله: "فثار الناس إلا اثنا عشر رجلا" وقع عند الطبري من طريق قتادة "إلا اثني عشر رجلا وامرأة" وهو أصح مما روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: "لم يبق معه إلا رجلان وامرأة" ووقع في الكشاف أن الذين بقوا ثمانية أنفس وقيل أحد عشر وقيل اثنا عشر وقيل أربعون، والقولان الأولان لا أصل لهما فيما وقفت عليه، وقد مضى استيفاء القول في هذا أيضا في كتاب الجمعة.

(8/644)


سورة المنافقين: باب قوله {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله...}
...
63- سورة المنافقين. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1- باب قوله {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ -إِلَى- لَكَاذِبُونَ}
4900- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ كُنْتُ فِي غَزَاةٍ فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَلَئِنْ رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِهِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي أَوْ لِعُمَرَ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَهُ فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ فَجَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ لِي عَمِّي مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَتَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَبَعَثَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْد "
[الحديث 4900- أطرافه في: 4901، 4902، 4903، 4904]
"باب قوله {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} الآية" وساق غير أبي ذر الآية إلى قوله: {لَكَاذِبُونَ} . قوله: "عن أبي إسحاق" هو السبيعي، ولإسرائيل فيه إسناد آخر أخرجه الترمذي والحاكم من طريقه عن السدي عن أبي سعد الأزدي عن زيد بن أرقم. قوله: "عن زيد بن أرقم" سيأتي بعد بابين من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق تصريحه بسماعه له من زيد. قوله: "كنت في غزاة" زاد بعد باب من وجه آخر عن إسرائيل "مع عمي" وهذه الغزاة وقع في رواية محمد ابن كعب عن زيد بن أرقم عند النسائي أنها غزوة تبوك، ويؤيده قوله في رواية زهير المذكورة "في سفر أصاب الناس فيه شدة" وأخرج عبد بن حميد بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلا لم يرتحل منه حتى يصلي فيه، فلما كان غزوة تبوك نزل منزلا فقال عبد الله بن أبي "فذكر القصة، والذي عليه أهل المغازي أنها غزوة بني المصطلق، وسيأتي قريبا في حديث جابر ما يؤيده، وعند ابن عائذ وأخرجه الحاكم في "الإكليل" من طريقه ثم من طريق أبي الأسود عن عروة أن القول الآتي ذكره صدر من عبد الله بن أبي بعد أن قفلوا. قوله: "فسمعت عبد الله بن

(8/644)


أبي" هو ابن سلول رأس النفاق، وقد تقدم خبره في تفسير براءة. قوله: "يقول لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله" هو كلام عبد الله بن أبي، ولم يقصد الراوي بسياقه التلاوة، وغلط بعض الشراح فقال هذا وقع في قراءة ابن مسعود وليس في المصاحف المتفق عليها فيكون على سبيل البيان من ابن مسعود. قلت: ولا يلزم من كون عبد الله بن أبي قالها قبل أن ينزل القرآن بحكاية جميع كلامه. قوله: "ولئن رجعنا" كذا للأكثر، وللكشميهني: "ولو رجعنا" والأول أولى، وبعد الواو محذوف تقديره سمعته يقول، ووقع في الباب الذي بعده "وقال لئن رجعنا" وهو يؤيد ما قلته. وفي رواية محمد بن كعب عن زيد بعد باب "وقال أيضا لئن رجعنا" وسيأتي في حديث جابر سبب قول عبد الله بن أبي ذلك. قوله: "فذكرت ذلك لعمي أو لعمر" كذا بالشك، وفي سائر الروايات الآتية لعمي بلا شك، وكذا عند الترمذي من طريق أبي سعد الأزدي عن زيد، ووقع عند الطبراني وابن مردويه أن المراد بعمه سعد بن عبادة وليس عمه حقيقة وإنما هو سيد قومه الخزرج، وعم زيد بن أرقم الحقيقي ثابت بن قيس له صحبة، وعمه زوج أمه عبد الله بن رواحة خزرجي أيضا. ووقع في مغازي أبي الأسود عن عروة أن مثل ذلك وقع لأوس بن أرقم فذكره لعمر بن الخطاب سبب الشك في ذكر عمر، وجزم الحاكم في "الإكليل" أن هذه الرواية وهم والصواب زيد بن أرقم. قلت: ولا يمتنع تعدد المخبر بذلك عن عبد الله بن أبي، إلا أن القصة مشهورة لزيد بن أرقم، وسيأتي من حديث أنس قريبا ما يشهد لذلك. قوله: "فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم" أي ذكره عمي، وكذا في الرواية التي بعد هذه. ووقع في رواية ابن أبي ليلى عن زيد "فأخبرت به النبي صلى الله عليه وسلم:"وكذا في مرسل قتادة، فكأنه أطلق الإخبار مجازا، لكن في مرسل الحسن عن عبد الرزاق "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك أخطأ سمعك، لعلك شبه عليك " فعلى هذا لعله راسل بذلك أولا على لسان عمه ثم حضر هو فأخبر. قوله: "فحلفوا ما قالوا" في رواية زهير "فأجهد يمينه" والمراد به عبد الله بن أبي، وجمع باعتبار من معه. ووقع في رواية أبي الأسود عن عروة "فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي فسأله، فحلف بالله ما قال من ذلك شيئا" . قوله: "فكذبني" بالتشديد، في رواية زهير "فقالوا كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهذا بالتخفيف ورسول الله بالنصب على المفعولية، وقد تقدم تحقيقه في الكلام على حديث أبي سفيان في قصة هرقل. وفي رواية ابن أبي ليلى عن زيد عند النسائي: "فجعل الناس يقولون: أتى زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب" . قوله: "وصدقه" وفي الرواية التي بعدها فصدقهم، وفد مضى توجيهها. قوله: "فأصابني هم" في رواية زهير" فوقع في نفسي شدة" وفي رواية أبي سعد الأزدي عن زيد "فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد" وفي رواية محمد بن كعب "فرجعت إلى المنزل فنمت" زاد الترمذي في روايته: "فنمت كئيبا حزينا" وفي رواية ابن أبي ليلى "حتى جلست في البيت مخافة إذا رآني الناس أن يقولوا كذبت" . قوله: "فقال لي عمي ما أردت إلى أن كذبك" كذا للأكثر، وذكر أبو علي الجياني أنه وقع في رواية الأصيلي عن الجرجاني: فقال لي عمر. قال الجياني: والصواب "عمى" كما عند الجماعة، انتهى. وقد ذكرت قبل ذلك ما يقتضي احتمال ذلك. قوله: "ومقتك" في رواية لمحمد بن كعب "فلامني الأنصار" ، وعند النسائي من طريقه "ولامني قومي" . قوله: "فأنزل الله" في رواية محمد بن كعب "فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي بالوحي. وفي رواية زهير "حتى أنزل الله" وفي رواية أبي الأسود عن عروة "فبينما هم يسيرون أبصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه فنزلت: {وفي رواية أبي سعد قال:"فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خفقت برأسي من الهم أتاني فعرك بأذني

(8/645)


وضحك في وجهي، فلحقني أبو بكر فسألني فقلت له، فقال: أبشر. ثم لحقني عمر مثل ذلك، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين" . قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} زاد آدم إلى قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} - إلى قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} "وهو يبين أن رواية محمد بن كعب مختصرة حيث اقتصر فيها على قوله: "ونزل: هم الذين يقولون لا تنفقوا الآية" لكن وقع عند النسائي من طريقه" فنزلت {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} حتى بلغ: {لئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} . قوله: "إن الله قد صدقك يا زيد" وفي مرسل الحسن "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن الغلام فقال: وفت أذنك يا غلام" مرتين. زاد زهير في روايته: "فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم" وسيأتي شرحه بعد ثلاثة أبواب. وفي الحديث من الفوائد ترك مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات لئلا ينفر أتباعهم والاقتصار على معاتباتهم وقبول أعذارهم وتصديق أيمانهم وإن كانت القرائن ترشد إلى خلاف ذلك، لما في ذلك من التأنيس والتأليف. وفيه جواز تبليغ ما لا يجوز للمقول فيه، ولا يعد نميمة مذمومة إلا إن قصد بذلك الإفساد المطلق، وأما إذا كانت فيه مصلحة ترجح على المفسدة فلا.

(8/646)


2- باب {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يَجْتَنُّونَ بِهَا
4901- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَمِّي فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ يَقُولُ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَقَالَ أَيْضًا لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي فَذَكَرَ عَمِّي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا فَصَدَّقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} إِلَى قَوْلِهِ {هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَك"
قوله: "باب قوله {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يَجْتَنُّونَ بِهَا قال عبد بن حميد" حدثني شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {اتَّخَذُوا أيْمَانَهُمْ جُنّةً} قال يجتنون أنفسهم" وأخرجه الطبري وجه آخر عن ابن أبي نجيح باللفظ الذي ذكره المصنف. حديث زيد بن أرقم، وقد تقدم شرحه في الذي قبله مستوفى.

(8/646)


باب قوله {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}
...
3- باب {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ}
4902- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ وَقَالَ أَيْضًا لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ أَخْبَرْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَمَنِي الأَنْصَارُ وَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مَا قَالَ ذَلِكَ فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ

(8/646)


باب {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسِبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}
4903- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لأَصْحَابِهِ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَقَالَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ قَالُوا كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوا شِدَّةٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقِي فِي {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَدَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَقَوْلُهُ {خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} قَالَ كَانُوا رِجَالاً أَجْمَلَ شَيْء"
قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى {يُؤْفَكُونَ} ذكر فيه حديث زيد بن أرقم من رواية زهير عن أبي إسحاق نحو رواية إسرائيل عنه كما تقدم بيان ذلك. وقال في آخره: حتى أنزل الله عز وجل تصديقي إذا جاءك المنافقون، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رءوسهم. قوله: "وقوله {خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} قال كانوا رجالا أجمل شيء" هذا تفسير لقوله: {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} وخشب مسندة تمثيل لأجسامهم، ووقع هذا في نفس الحديث وليس مدرجا، فقد أخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن عمرو بن خالد شيخ البخاري فيه بهذه الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن زهير.
" تنبيه " : قرأ الجمهور "خشب" بضمتين، وأبو عمرو والأعمش والكسابي بإسكان الشين.

(8/647)


باب {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون عنك وهم مستكبرون}
...
4- باب {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} حَرَّكُوا اسْتَهْزَءُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ لَوَيْتُ
4904- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَمِّي فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ يَقُولُ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي فَذَكَرَ عَمِّي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا وَكَذَّبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَهُمْ فَأَصَابَنِي غَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي وَقَالَ عَمِّي مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَتَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وَأَرْسَلَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَك "
قوله: "باب قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} إلى قوله: {مُسْتَكْبِرُونَ} كذا لأبي ذر وساق غيره الآية كلها. في مرسل سعيد بن جبير" وجاء عبد الله بن أبي فجعل يعتذر، فقال الله النبي صلى الله عليه وسلم: تب فجعل يلوي رأسه فنزلت" . قوله: "حركوا استهزءوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ بالتخفيف من لويت" يعني لووا وهي قراءة نافع، وقرأ الباقون بالتثقيل. ثم ذكر حديث زيد بن أرقم من وجه آخر كما مضى بيانه. ووقع لأكثر الرواة مختصرا من أثنائه، وساقه أبو ذر تاما إلا قوله: "وصدقهم" . وقد تعقبه الإسماعيلي بأنه ليس في السياق الذي أورده خصوص ما ترجم به، والجواب أنه جرى على عادته في الإشارة إلى أصل الحديث، ووقع في مرسل الحسن "فقال قوم لعبد الله بن أبي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغفر لك، فجعل يلوي رأسه، فنزلت. وكذا أخرج عبد بن حميد من طريق قتادة، وعن طريق مجاهد، ومن طريق عكرمة أنها نزلت في عبد الله بن أبي.

(8/648)


باب قوله {سواء أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم...}
...
5- باب قوله {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
4905- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا فِي غَزَاةٍ قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً فِي جَيْشٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ" فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ فَعَلُوهَا أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"

(8/648)


وَكَانَتْ الأَنْصَارُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ ثُمَّ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَثُرُوا بَعْدُ قَالَ سُفْيَانُ فَحَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرًا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"
قوله: "باب قوله {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية. وأخرج الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: "أنزلت هذه الآية بعد التي في التوبة: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ". قوله: "قال عمرو" وقع في آخر الباب: "قال سفيان فحفظته من عمرو قال فذكره" ووقع رواية الحميدي الآتية بعد باب "حفظناه من عمرو" . قوله: "كنا في غزاة، قال سفيان مرة في جيش" وسمى ابن إسحاق هذه الغزوة غزوة بني المصطلق، وكذا وقع عند الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن سفيان قال: يرون أن هذه الغزاة غزاة بني المصطلق، وكذا في مرسل عروة الذي سأذكره. قوله: "فكسع رجل" الكسع يأتي تفسيره بعد باب، والمشهور فيه أنه ضرب الدبر باليد أو بالرجل. ووقع عند الطبري من وجه آخر عن عمرو بن دينار عن جابر "أن رجلا من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار برجله" وذلك عند أهل اليمن شديد، والرجل المهاجري هو جهجاه بن قيس ويقال ابن سعيد الغفاري، وكان مع عمر بن الخطاب يقود له فرسه، والرجل الأنصاري هو سنان بن وبرة الجهني حليف الأنصار. وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مرسلا أن الأنصاري كان حليفا لهم من جهينة، وأن المهاجري كان من غفار، وسماهما ابن إسحاق في المغازي عن شيوخه. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عقيل عن الزهري عن عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت أنهما أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة المريسيع وهي التي هدم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مناة الطاغية التي كانت بين قفا المشلل وبين البحر فاقتتل رجلان فاستعلى المهاجري على الأنصاري، فقال حليف الأنصار: يا معشر الأنصار، فتداعوا إلى أن حجز بينهم، فانكفأ كل منافق إلى عبد الله بن أبي فقالوا: كنت ترجي وتدفع، فصرت لا تضر ولا تنفع، فقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكر القصة بطولها، وهو مرسل جيد. واتفقت هذه الطرق على أن المهاجري واحد. ووقع في حديث أبي الزبير عن جابر عند مسلم: "اقتتل غلامان من المهاجرين وغلام من الأنصار، فنادى المهاجري: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ أدعوى الجاهلية ، قالوا: لا، إن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر، فقال: لا بأس، ولينصرن الرجل أخاه ظالما أو مظلوما" الحديث. ويمكن تأويل هذه الرواية بأن قوله: "من المهاجرين" بيان لأحد الغلامين، والتقدير اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فحذف لفظ غلام من الأول ويؤيده قوله في بقية الخبر "فقال المهاجري" فأفرده، فتتوافق الروايات. ويستفاد من قوله: "لا بأس" جواز القول المذكور بالقصد المذكور والتفصيل المبين، لا على ما كانوا عليه في الجاهلية من نصرة من يكون من القبيلة مطلقا، وقد تقدم شرح قوله: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" مستوفى في "باب أعن أخاك" من كتاب المظالم. قوله: "يا للأنصار" بفتح اللام وهي للاستغاثة أي أغيثوني، وكذا قول الآخر يا للمهاجرين. قوله: "دعوها فإنها منتنة" أي دعوة الجاهلية. وأبعد من قال المراد الكسعة. ومنتنة بضم الميم وسكون النون وكسر المثناة من النتن أي أنها كلمة قبيحة خبيثة، وكذا ثبتت في بعض الروايات. قوله: "فعلوها"؟ هو استفهام بحذف الأداة أي

(8/649)


افعلوها أي الأثرة أي شركناهم فيما نحن فيه فأرادوا الاستبداد به علينا. وفي مرسل قتادة "فقال رجل منهم عظيم النفاق: ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك" وعند ابن إسحاق: فقال عبد الله بن أبي أقد فعلوها؟ نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا وجلاليب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. قوله: "فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنقه" في مرسل قتادة "فقال عمر: مر معاذا أن يضرب عنقه" وإنما قال ذلك لأن معاذا لم يكن من قومه. قوله: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" أي أتباعه، ويجوز في "يتحدث" الرفع على الاستئناف والكسر على جواب الأمر. وفي مرسل قتادة "فقال لا والله لا يتحدث الناس" زاد ابن إسحاق "فقال مر به معاذ بن بشر بن وقش فليقتله، فقال: لا ولكن أذن بالرحيل، فراح في ساعة ما كان يرحل فيها، فلقيه أسيد بن حضير فسأله عن ذلك فأخبره فقال: فأنت يا رسول الله الأعز وهو الأذل" . قال وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فقال بل ترفق به وتحسن صحبته. قال فكان بعد ذلك إذا أحدث الحديث كان قومه هم الذين ينكرون عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "كيف ترى" ؟ ووقع في مرسل عكرمة عند الطبري "أن عبد الله بن عبد الله بن أبي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن والدي يؤذي الله ورسوله، فذرني حتى أقتله، قال: لا تقتل أباك" . قوله: "ثم إن المهاجرين كثروا بعد" هذا مما يؤيد تقدم القصة، ويوضح وهم من قال إنها كانت بتبوك لأن المهاجرين حينئذ كانوا كثيرا جدا، وقد انضافت إليهم مسلمة الفتح في غزوة تبوك فكانوا حينئذ أكثر من الأنصار. والله أعلم.

(8/650)


باب {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا}
...
6- باب قَوْلُهُ {هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} يَنْفَضُّوا يَتَفَرَّقُوا
باب {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ}
4906- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ حَزِنْتُ عَلَى مَنْ أُصِيبَ بِالْحَرَّةِ فَكَتَبَ إِلَيَّ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَبَلَغَهُ شِدَّةُ حُزْنِي يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَلأَبْنَاءِ الأَنْصَارِ" وَشَكَّ ابْنُ الْفَضْلِ فِي أَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ فَسَأَلَ أَنَسًا بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَقَالَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا الَّذِي أَوْفَى اللَّهُ لَهُ بِأُذُنِه"
قوله: "باب قوله {هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} كذا لهم وزاد أبو ذر "الآية" . قوله: "ينفضوا يتفرقوا" سقط هذا لأبي ذر، قال أبو عبيد في قوله: {حَتَّى يَنْفَضُّوا} حتى يتفرقوا. ووقع في رواية زهير سبب قول عبد الله بن أبي ذلك وهو قوله: "خرجنا في سفر أصاب الناس فيه شدة، فقال عبد الله ابن أبي لا تنفقوا الآية" فالذي يظهر أن قوله: {لاَ تُنْفِقُوا} كان سببه الشدة التي أصابتهم، وقوله: {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} سببه مخاصمة المهاجري والأنصاري كما تقدم في حديث جابر. قوله: "الكسع أن تضرب بيدك على شيء أو برجلك، ويكون أيضا إذا رميته بسوء" كذا لأبي ذر عن الكشميهني وحده، وحق هذا أن يذكر قبل

(8/650)


الباب، أو في الباب الذي يليه، لأن الكسع إنما وقع في حديث جابر. قال ابن التين: الكسع أن تضرب بيدك على دبر شيء أو برجلك. وقال القرطبي: أن تضرب عجز إنسان بقدمك. وقيل الضرب بالسيف على المؤخر. وقال ابن القطاع: كسع القوم ضرب أدبارهم بالسيف، وكسع الرجل ضرب دبره بظهر قدمه، وكذا إذا تكلم فأثر كلامه بما ساءه ونحوه في "تهذيب الأزهري" . قوله: "حدثنا إسماعيل بن عبد الله" هو ابن أبي أويس. قوله: "حدثني عبد الله بن الفضل" أي ابن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، تابعي صغير مدني ثقة ماله في البخاري عن أنس إلا هذا الحديث، وهو من أقران موسى بن عقبة الراوي عنه. قوله: "حزنت على من أصيب بالحرة" هو بكسر الزاي من الحزن، زاد الإسماعيلي من طريق محمد بن فليح عن موسى بن عقبة "من قومي" وكانت وقعة الحرة في سنة ثلاث وستين، وسببها أن أهل المدينة خلعوا بيعة يزيد ابن معاوية لما بلغهم ما يتعمده من الفساد1 فأمر الأنصار عليهم عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر وأمر المهاجرون عليهم عبد الله بن مطيع العدوي، وأرسل إليهم يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش كثير فهزمهم واستباحوا المدينة وقتلوا ابن حنظلة وقتل من الأنصار شيء كثير جدا، وكان أنس يومئذ بالبصرة فبلغه ذلك فحزن على من أصيب من الأنصار، فكتب إليه زيد بن أرقم وكان يومئذ بالكوفة يسليه، ومحصل ذلك أن الذي يصير إلى مغفرة الله لا يشتد الحزن عليه، فكان ذلك تعزية لأنس فيهم. قوله: "وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار" رواه النضر بن أنس عن زيد بن أرقم مرفوعا: "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار" أخرجه مسلم من طريق قتادة عنه من غير شك. وللترمذي من رواية علي بن زيد عن النضر بن أنس عن زيد بن أرقم أنه كتب إلى أنس بن مالك يعزيه فيمن أصيب من أهله وبني عمه يوم الحرة، فكتب إليه: إني أبشرك ببشرى من الله أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اغفر للأنصار ولذراري الأنصار ولذراري ذراريهم" . قوله: "فسأل أنسا بعض من كان عنده" هذا السائل لم أعرف اسمه، ويحتمل أن يكون النضر بن أنس فإنه روى حديث الباب عن زيد بن أرقم كما ترى، وزعم ابن التين أنه وقع عند القابسي: فسأل أنس بعض بالنصب وأنس بالرفع على أنه الفاعل، والأول هو الصواب، قال القابسي: الصواب أن المسئول أنس. قوله: "أوفى الله له بأذنه" أي بسمعه، وهو بضم الهمزة والذال المعجمة ويجوز فتحهما، أي أظهر صدقه فيما أعلم به، والمعنى أوفى صدقه. وقد تقدم في الكلام على حديث جابر أن في مرسل الحسن "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بأذنه فقال: وفي الله بأذنك يا غلام" كأنه جعل أذنه ضامنة بتصديق ما ذكرت أنها سمعت، فلما نزل القرآن بتصديقه صارت كأنها وافية بضمانها.
" تكميل " : وقع في رواية الإسماعيلي في آخر هذا الحديث من رواية محمد بن فليح عن موسى بن عقبة "قال ابن شهاب سمع زيد بن أرقم رجلا من المنافقين يقول والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب: لئن كان هذا صادقا لنحن شر من الحمير، فقال زيد: قد والله صدق، ولأنت شر من الحمار. ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجحده القائل، فأنزل الله على رسوله {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} الآية، فكان مما أنزل الله في هذه الآية تصديقا لزيد انتهى. وهذا مرسل جيد. وكأن البخاري حذفه لكونه على غير شرطه، ولا مانع من نزول الآيتين في القصتين في تصديق زيد
ـــــــ
(1) بلغهم ذلك من الدعاة الذين بثهم عبد الله بن مطيع داعية عبد الله بن الزبير، وهذه الدعايات كانت مغرضة ولأجل المزاحمة على الملك، كما صارحهم بذلك عبد الله بن عمر ومحمد بن علي بن أبي طالب وزين العابدين علي بن الحسين، ونصحوهم بالكف عن ذلك لما يترتب عليه من سوء العواقب، وأخبرهم أن ذلك مخالف لآداب الإسلام وسننه.

(8/651)


7- باب {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}
4907- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا هَذَا" فَقَالُوا كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ" قَالَ جَابِرٌ وَكَانَتْ الأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ ثُمَّ كَثُرَ الْمُهَاجِرُونَ بَعْدُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَوَقَدْ فَعَلُوا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَه"
قوله: "باب {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى {يَعْلَمُونَ} . ذكر فيه حديث جابر الماضي، وقد تقدم شرحه قبل بباب، ولعله أشار بالترجمة إلى ما وقع في آخر الحديث المذكور، فإن الترمذي لما أخرجه عن ابن أبي عمر عن أبي سفيان بإسناد حديث الباب قال في آخره: "وقال غير عمرو: فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي: والله لا ينقلب أبي إلى المدينة حتى تقول إنك أنت الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز، ففعل" وهذه الزيادة أخرجها ابن إسحاق في المغازي عن شيوخه، وذكرها أيضا الطبري من طريق عكرمة

(8/652)


64- سورة التَّغَابُنِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَقَالَ عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} : هُوَ الَّذِي إِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ رَضِيَ وَعَرَفَ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ التَّغَابُنُ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ.
قوله: "سورة التغابن والطلاق" كذا لأبي ذر، ولم يذكر غيره: "والطلاق" بلى اقتصروا على التغابن وأفردوا الطلاق بترجمة، وهو الأليق لمناسبة ما تقدم. قوله: "وقال علقمة عن عبد الله: ومن يؤمن بالله يهد قلبه إلخ" أي يهتدي إلى التسليم فيصبر ويشكر. وهذا التعليق وصله عبد الرزاق عن ابن عيينة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن علقمة مثله، لكن لم يذكر ابن مسعود. وكذا أخرجه الفريابي عن الثوري وعبد بن حميد عن عمر بن سعد عن الثوري عن الأعمش، والطبري من طريق عن الأعمش، نعم أخرجه البرقاني من وجه آخر فقال: "عن علقمة قال: شهدنا عنده - يعني عند عبد الله - عرض المصاحف، فأتى على هذه الآية {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قال: هي المصيبات تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم ويرضى" وعند الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المعنى يهدي قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قوله: "وقال مجاهد التغابن غبن أهل الجنة أهل

(8/652)


النار" كذا لأبي ذر عن الحموي وحده وقد وصله الفريابي وعبد بن حميد من طريق مجاهد وغبن بفتح المعجمة والموحدة وللطبري من طريق شعبة عن قتادة يوم التغابن يوم غبن أهل النار أي لكون أهل الجنة بايعوا على الإسلام بالجنة فربحوا وأهل النار امتنعوا من الإسلام فخسروا، فشبهوا بالمتبايعين يغبن أحدهما الآخر في بيعه، ويؤيد ذلك ما سيأتي في الرقاق من طريق الأعرج عن أبي هريرة رفعه: "لا يدخل أحد الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، ولا يدخل أحد النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة" .

(8/653)


65- سورة الطَّلاَقِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَبَالَ أَمْرِهَا} : جَزَاءَ أَمْرِهَا
1- باب 4908- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: "لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل"
[الحديث 4908- أطرافه في: 5251، 5252، 5253، 5258، 5264، 5332، 7160]
قوله: "سورة الطلاق" كذا لهم، وسقط لأبي ذر. قوله: "وقال مجاهد: وبال أمرها جزاء أمرها" كذا لهم، وسقط لأبي ذر أيضا، وصله عبد بن حميد أيضا من طريقه. قوله: "إن ارتبتم: إن لم تعلموا أتحيض أم لا تحيض، فاللائي قعدن عن الحيض واللائي لم يحضن بعد فعدتهن ثلاثة أشهر" كذا لأبي ذر عن الحموي وحده عقب قول مجاهد في التغابن، وقد وصله الفريابي بلفظه من طريق مجاهد، ولابن المنذر من طريق أخرى عن مجاهد "التي كبرت والتي لم تبلغ" . قوله: "أنه طلق امرأته" في رواية الكشميهني: "أنه طلق امرأة له" وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى.

(8/653)


باب {وأولات الأحما لأجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}
...
2- باب {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}
قوله: {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ وَاحِدُهَا ذَاتُ حَمْلٍ
4909- حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ عِنْدَهُ فَقَالَ أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ آخِرُ الأَجَلَيْنِ قُلْتُ أَنَا {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلاَمَهُ كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا فَقَالَتْ قُتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَخُطِبَتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَبُو السَّنَابِلِ فِيمَنْ خَطَبَهَا"
[الحديث 4909- طرفه في: 5318]

(8/653)


66- سورة التَّحْرِيمِ
بسم الله الرحمن الرحيم
1- باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
4911- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ ابْنِ حَكِيمٍ هُوَ يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ الثَّقَفِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فِي الْحَرَامِ يُكَفَّرُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
[الحديث 4911- طرفه في: 5266]
4912- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا فَوَاطَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ قَالَ: "لاَ وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَلَنْ أَعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ لاَ تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا"
[الحديث 4912- أطرافه في: 5216، 5267، 5268، 5431، 5599، 5614، 5682، 6691، 6972]
قوله: "سورة التحريم – {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي ذر ولغيره التحريم ولم يذكروا البسملة. قوله: "باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية" سقط "باب" لغير أبي ذر وساقوا الآية إلى "رحيم" . قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "عن ابن حكيم" هو يعلى بن حكيم، ووقع في رواية الأصيلي عن أبي زيد المروزي بأن أحمد الجرجاني يحيى عن ابن حكيم لم يسمه عن سعيد بن جبير وذكر أبو علي الحياني أنه وقع في رواية أبي علي بن السكن مسمى فقال فيه: "عن يحيى عن يعلى بن حكيم" قال: ووقع في رواية أبي ذر عن السرخسي" هشام عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير" قال الجياني: وهو خطأ فاحش. قلت: سقط عليه لفظة "عن" بين يحيى وابن حكيم، قال: ورواية ابن السكن رافعة للنزاع. قلت: وسماه يحيى بن أبي كثير في رواية معاوية بن سلام عنه كما سيأتي في كتاب الطلاق. قوله: "عن سعيد بن جبير" زاد في رواية معاوية المذكورة أنه أخبره أنه سمع ابن عباس. قوله: "في الحرام يكفر" أي إذا قال لامرأته أنت علي حرام لا تطلق وعليه كفارة يمين. وفي رواية معاوية المذكورة "إذا حرم امرأته ليس بشيء" وسيأتي البحث في ذلك في كتاب الطلاق. وقوله في هذه الطريق "يكفر" ضبط بكسر الفاء أي يكفر من وقع ذلك منه، ووقع في رواية ابن السكن وحده "يمين تكفر" وهو بفتح الفاء وهذا أوضح في المراد، والغرض من حديث ابن عباس قوله فيه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ ==بعده

=========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............