26 و27..
كتاب :26 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
=بالباب قوله: "لمَسْتُم" وهي قراءة الكوفيين حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب، وخالفهم عاصم من الكوفيين فوافق أهل الحجاز فقرءوا {أَوْ لامَسْتُمُ} بالألف ووافقهم أبو عمرو بن العلاء من البصريين. ذكر المصنف حديث عائشة في سبب نزول الآية المذكورة من وجهين، وقد تقدم الكلام عليها مستوفي في كتاب. التيمم، واستدل به على أن قيام الليل لم يكن واجبا عليه صلى الله عليه وسلم، وتعقب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم صلى أول ما نزل ثم نام، وفيه نظر لأن التهجد القيام إلى الصلاة بعد هجعة، ثم يحتمل أنه هجع فلم ينتقض وضوءه لأن قلبه لا ينام، ثم قام فصلى ثم نام، والله أعلم.
باب {فاذهب أنت
وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}
...
4- باب {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ}
4609- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ
طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
شَهِدْتُ مِنْ الْمِقْدَادِ ح و حَدَّثَنِي حَمْدَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا
أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ
طَارِقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ الْمِقْدَادُ يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّا لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى
{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} وَلَكِنْ
امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ فَكَأَنَّهُ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقٍ
أَنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم"
قوله: "باب قوله {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا
قَاعِدُونَ} كذا للمستملي، ولغيره: "باب فاذهب إلخ" وأغرب الداودي فقال:
مرادهم بقولهم "وربك" أخوه هارون لأنه كان أكبر منه سنا، وتعقبه ابن
التين بأنه خلاف قول أهل التفسير كلهم. قوله: "وحدثني حمدان بن عمر" هو
أبو جعفر البغدادي واسمه أحمد وحمدان لقبه، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع،
وهو من صغار شيوخه وعاش بعد البخاري سنتين، وقد تقدم الكلام على الحديث في غزوة
بدر. قوله: "ورواه وكيع عن سفيان إلخ" يريد بذلك أن صورة سياقه أنه
مرسل، بخلاف سياق الأشجعي، لكن استظهر المصنف لرواية الأشجعي الموصولة برواية
إسرائيل التي ذكرها قبل. وطريق وكيع هذه وصلها أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه، وكذا
أخرجها ابن أبي خيثمة من طريقه.
" تنبيه " : وقع قوله: "ورواه وكيع إلخ" مقدما في الباب على
بقية ما فيه عند أبي ذر، مؤخرا عند الباقين، وهو أشبه بالصواب.
5- باب {إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} إِلَى قَوْلِهِ {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ
الأَرْضِ} الْمُحَارَبَةُ لِلَّهِ الْكُفْرُ بِهِ
4610- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ أَبُو
رَجَاءٍ مَوْلَى أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا
خَلْفَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَذَكَرُوا وَذَكَرُوا فَقَالُوا وَقَالُوا
قَدْ أَقَادَتْ بِهَا الْخُلَفَاءُ فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي قِلاَبَةَ وَهْوَ
خَلْفَ ظَهْرِهِ فَقَالَ مَا تَقُولُ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ أَوْ قَالَ
مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلاَبَةَ قُلْتُ مَا عَلِمْتُ نَفْسًا حَلَّ قَتْلُهَا فِي
الإِسْلاَمِ إِلاَّ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا
6- باب {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
4611- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَسَرَتْ الرُّبَيِّعُ وَهْيَ عَمَّةُ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَطَلَبَ الْقَوْمُ
الْقِصَاصَ فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ
النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ لاَ وَاللَّهِ لاَ تُكْسَرُ سِنُّهَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أَنَسُ كِتَابُ
اللَّهِ الْقِصَاصُ" فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الأَرْشَ فَقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى
اللَّهِ لاَبَرَّه"
(8/274)
قوله: "باب
قوله {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} كذا للمستملي، ولغيره: "باب والجروح قصاص"
وأورد فيه حديث أنس "أن الربيع" أي بالتشديد عمته "كسرت ثنية
جارية" وسيأتي شرحه مستوفي في الديات.
" تنبيه " : الفزاري المذكور في هذا الإسناد هو مروان بن معاوية، ووهم
من زعم أنه أبو إسحاق ".
(8/275)
باب {يا أيها
الرسول بلغ ما أرسل إليك من ربك}
...
7 - باب {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}
الآية"
4612- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ
عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ
مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ
شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ وَاللَّهُ يَقُولُ: {يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية.
قوله باب {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}
ذكر فيه طرفا من حديث عائشة من "حدثك أن محمد كتم شيئا مما انزل الله عليه
فقد كذب" وسيأتي بتمامه مع كمال شرحه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى
(8/275)
8- باب {لاَ
يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}
4613- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ
حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ} فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لاَ وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّه"
[الحديث 4613- طرفه في: 6663]
4614- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ
قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَبَاهَا
كَانَ لاَ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ لاَ أَرَى يَمِينًا أُرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ
قَبِلْتُ رُخْصَةَ اللَّهِ وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْر"
[الحديث 4616- طرفه في: 6631]
قوله: "باب قوله {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}
سقط "باب" قوله: "لغير أبي ذر، وفسرت عائشة لغو اليمين بما يجري
على لسان المكلف من غير قصد، وقيل هو الحلف على غلبة الظن، وقيل في الغضب، وقيل في
المعصية، وفيه خلاف آخر سيأتي بيانه في الأيمان، والنذور إن شاء الله تعالى.
وقولها "لا والله وبلى والله" أي كل واحد منهما إذا قالها لغو، فلو أن
رجلا قال الكلمتين معا فالأولى لغو والثانية منعقدة لأنها استدراك مقصودة، قاله
الماوردي. قوله: "حدثنا علي بن عبد الله" كذا لأبي ذر عن الكشميهني
والحموي، وله عن المستملي: "حدثنا علي بن سلمة" وهي رواية الباقين إلا
النسفي فقال: "حدثنا علي" فلم ينسبه. وعلي بن سلمة هذا يقال له اللبقي
بفتح اللام والموحدة الخفيفة بعدها قاف خفيفة وهو ثقة من صغار شيوخ البخاري، ولم
يقع له عنده ذكر إلا في هذا الموضع وقد نبهت على موضع آخر في الشفعة، ويأتي آخر في
الدعوات. قوله: "حدثنا مالك بن سعير" بمهملتين مصغر، ضعفه أبو داود.
وقال أبو حاتم وأبو زرعة والدار قطني: صدوق وليس له في البخاري سوى هذا الحديث
وآخر في الدعوات،
(8/275)
باب {لا تحرموا
طيبات ما أحل الله لكم}
...
9- باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ}
4615- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ
قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَغْزُو مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا
أَلاَ نَخْتَصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ فَرَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ
نَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ ثُمَّ قَرَأَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}
[الحديث 4615- طرفه في: 5071، 5075]
قوله: "باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا
طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} سقط "باب قوله: "لغير أبي ذر.
قوله: "خالد" هو ابن عبد الله الطحان، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس
هو ابن أبي حازم، وعبد الله هو ابن مسعود. وسيأتي شرح الحديث في كتاب النكاح وفي
الترمذي محسنا من حديث ابن عباس "أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت، وإني حرمت علي اللحم فنزلت" وروى
ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أنها نزلت في ناس قالوا "نترك شهوات
الدنيا ونسيح في الأرض" الحديث. وسيأتي ما يتعلق به أيضا في كتاب النكاح إن شاء
الله تعالى.
(8/276)
10- باب {إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الأَزْلاَمُ} الْقِدَاحُ يَقْتَسِمُونَ بِهَا فِي
الأُمُورِ وَالنُّصُبُ أَنْصَابٌ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا وَقَالَ غَيْرُهُ
الزَّلَمُ الْقِدْحُ لاَ رِيشَ لَهُ وَهُوَ وَاحِدُ الأَزْلاَمِ وَالاسْتِقْسَامُ
أَنْ يُجِيلَ الْقِدَاحَ فَإِنْ نَهَتْهُ انْتَهَى وَإِنْ أَمَرَتْهُ فَعَلَ مَا
تَأْمُرُهُ بِهِ يُجِيلُ يُدِيرُ وَقَدْ أَعْلَمُوا الْقِدَاحَ أَعْلاَمًا
بِضُرُوبٍ يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا وَفَعَلْتُ مِنْهُ قَسَمْتُ وَالْقُسُومُ
الْمَصْدَرُ
4616- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ
حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَزَلَ
تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ فِي الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ
مَا فِيهَا
(8/276)
11- باب {لَيْسَ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا -إِلَى
قَوْلِهِ - وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
4620- حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه ثم أن
الخمر التي أهريقت الفضيخ وزادني محمد عن أبي النعمان قال كنت ساقي القوم أبي طلحة
فنزل تحريم الخمر فأمر مناديا فنادى فقال أبو طلحة أخرج فانظر ما هذا الصوت قال
فخرجت فقلت هذا منادي ينادي ألا إن الخمر قد حرمت فقال لي اذهب فأهرقها قال فجرت
في سكك المدينة قال وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ فقال بعض القوم قتل قوم وهي في
بطونهم قال فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} "
(8/278)
قوله: "باب
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا
طَعِمُوا} الآية" كذا لأبي ذر، ولغيره: "إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ} وذكر في حديث أنس" أن الخمر التي هريقت الفضيخ" وسيأتي
شرحه الأشربة. وقوله: "وزادني محمد البيكندي عن أبي النعمان" كذا ثبت
لأبي ذر وسقط لغيره البيكندي، ومراده أن البيكندي سمعه من شيخهما أبي النعمان
بالإسناد المذكور فزاده فيه زيادة. والحاصل أن البخاري سمع الحديث من أبي النعمان
مختصرا ومن محمد بن سلام البيكندي عن أبي النعمان مطولا، وتصرف الزركشي فيه غافلا
عن زيادة أبي ذر فقال: القائل "وزادني" هو الفربري، ومحمد هو البخاري.
وليس كما ظن رحمه الله وإنما هو كما قدمته. قوله: "فنزلت تحريم الخمر فأمر
مناديا" الآمر بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمنادي لم أر التصريح
باسمه، والوقت الذي وقع ذلك فيه زعم الواحدي أنه عقب قول حمزة "إنما أنتم
عبيد لأبي" وحديث جابر يرد عليه. والذي يظهر أن تحريمها كان عام الفتح سنة
ثمان، لما روى أحمد من طريق عبد الرحمن بن وعلة قال: "سألت ابن عباس عن بيع
الخمر فقال: "كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو دوس فلقيه
يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه، فقال: يا فلان أما علمت أن الله حرمها؟ فأقبل
الرجل على غلامه فقال: بعها. فقال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها " . وأخرجه
مسلم من وجه آخر عن أبي وعلة نحوه، ولكن ليس فيه تعيين الوقت. وروى أحمد من طريق
نافع بن كيسان الثقفي عن أبيه "أنه كان يتجر في الخمر، وأنه أقبل من الشام
فقال: يا رسول الله إني جئتك بشراب جيد، فقال: يا كيسان إنها حرمت بعدك، قال:
فأبيعها؟ قال، إنها حرمت وحرم ثمنها" وروى أحمد وأبو يعلى من حديث تميم
الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام رواية خمر، فلما كان
عام حرمت جاء براوية فقال: أشعرت أنها قد حرمت بعدك؟ قال: أفلا أبيعها وأنتفع
بثمنها؟ فنهاه. ويستفاد من حديث كيسان تسمية المبهم في حديث ابن عباس، ومن حديث
تميم تأييد الوقت المذكور فإن إسلام تميم كان بعد الفتح، وقوله: "فقال بعض القوم
قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله تعالى إلخ" لم أقف على اسم القائل.
" فائدة " : في رواية الإسماعيلي عن ابن ناجية عن أحمد بن عبيدة ومحمد
بن موسى عن حماد في آخر هذا الحديث: "قال حماد فلا أدري هذا في الحديث - أي
عن أنس - أو قاله ثابت" أي مرسلا يعني قوله: "فقال بعض القوم" إلى
آخر الحديث. وكذا عند مسلم عن أبي الربيع الزهراني عن حماد نحو هذا. وتقدم للمصنف
في المظالم عن أنس بطوله من طريق عفان عن حماد كما وقع عنده في هذا الباب فالله
أعلم. وأخرجه ابن مردويه من طريق قتادة عن أنس بطوله وفيه الزيادة المذكورة. وروى النسائي
والبيهقي من طريق ابن عباس قال: "نزل تحريم الخمر في ناس شربوا، فلما ثملوا
وعبثوا، فلما صحوا جعل بعضهم يرى الأثر بوجه الآخر فنزلت، فقال ناس من المكلفين هي
رجس وهي في بطن فلان وقد قتل بأحد، فنزلت {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} إلى آخرها. وروى البزار من حديث جابر أن الذين
قالوا ذلك كانوا من اليهود، وروى أصحاب السنن من طريق أبي ميسرة عن عمر أنه قال:
اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في البقرة {قُلْ فِيهِمَا
إِثْمٌ كَبِيرٌ} فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت
التي في النساء {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فقرئت عليه، فقال:
اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في المائدة {فَاجْتَنِبُوهُ} -
إلى قوله: {مُنْتَهُونَ} فقال عمر: انتهينا انتهينا" وصححه علي بن المديني
والترمذي. وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة نحوه دون قصة عمر، لكن قال عند نزول آية
البقرة" فقال الناس: ما حرم علينا، فكانوا
(8/279)
يشربون، حتى أم رجل أصحابه في المغرب فخلط في قراءته فنزلت الآية التي في النساء، فكانوا يشربون ولا يقرب الرجل الصلاة حتى يفيق، ثم نزلت آية المائدة فقالوا: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرشهم وكانوا يشربونها، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرم عليهم لتركوه كما تركتموه" وفي مسند الطيالسي من حديث ابن عمر نحوه. وقال: "في الآية الأولى قيل حرمت الخمر، فقالوا دعنا يا رسول الله ننتفع بها، وفي الثانية فقيل حرمت الخمر، فقالوا لا أنا لا نشربها قرب الصلاة. وقال في الثالثة فقالوا يا رسول الله حرمت الخمر" قال ابن التين وغيره: في حديث أنس وجوب قبول خبر الواحد والعمل به في النسخ وغيره، وفيه عدم مشروعية تخليل الخمر، لأنه لو جاز لما أراقوها، وسيأتي مزيد لذلك في الأشربة إن شاء الله تعالى. "تنبيه" : في رواية عبد العزيز بن صهيب "أن رجلا أخبرهم أن الخمر حرمت فقالوا: أرق يا أنس" وفي رواية ثابت عن أنس "أنهم سمعوا المنادي فقال أبو طلحة: أخرج يا أنس فانظر ما هذا الصوت" وظاهرهما التعارض لأن الأول يشعر بأن المنادي بذلك شافههم، والثاني يشعر بأن الذي نقل لهم ذلك غير أنس، فنقل ابن التين عن الداودي أنه قال لا اختلاف بين الروايتين، لأن الآتي أخبر أنسا وأنس أخبر القوم. وتعقبه ابن التين بأن نص الرواية الأولى أن الآتي أخبر القوم مشافهة بذلك. قلت: فيمكن الجمع بوجه آخر، وهو أن المنادي غير الذي أخبرهم، أو أن أنسا لما أخبرهم عن المنادي جاء المنادي أيضا في أثره فشافههم.
(8/280)
12- باب {لاَ
تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
4621- حَدَّثَنَا مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْجَارُودِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ قَالَ: "لَوْ
تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً"
قَالَ فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ فَقَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِي قَالَ فُلاَنٌ فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الآيَةُ {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
رَوَاهُ النَّضْرُ وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ شُعْبَة"
4622- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا
أَبُو خَيْثَمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً فَيَقُولُ الرَّجُلُ مَنْ أَبِي وَيَقُولُ
الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ أَيْنَ نَاقَتِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ
الآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ
تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} حَتَّى فَرَغَ مِنْ الآيَةِ كُلِّهَا"
قوله: "باب قوله {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ} سقط" باب قوله: "لغير أبي ذر، وقد تعلق بهذا النهي من كره
السؤال عما لم يقع. وقد أسنده الدارمي في مقدمة كتابه عن جماعة من الصحابة
والتابعين. وقال ابن العربي: اعتقد قوم من الغافلين منع أسئلة النوازل حتى تقع
تعلقا بهذه الآية، وليس كذلك، لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المساءة في
جوابه، ومسائل النوازل ليست كذلك. وهو كما قال، إلا أنه أساء في قوله الغافلين على
(8/280)
عادته كما نبه عليه
القرطبي. وقد روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رفعه: "أعظم المسلمين بالمسلمين
جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" وهذا يبين المراد من الآية،
ليس مما أشار إليه ابن العربي في شيء. قوله: "حدثنا منذر بن الوليد بن عبد
الرحمن" أي ابن حبيب بن علياء بن حبيب بن الجارود العبدي البصري الجارودي
نسبة إلى جده الأعلى، وهو ثقة، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر في كفارات
الأيمان، وأبوه ما له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، ولا رأيت عنه راويا إلا
ولده، وحديثه هذا في المتابعات، فإن المصنف أورده في الاعتصام من رواية غيره كما
سأبينه.
" تنبيه " : وقع في كلام أبي علي الغساني فيما حكاه الكرماني أن البخاري
روى هذا الحديث عن محمد غير منسوب عن منذر هذا وأن محمدا المذكور هو ابن يحيى
الذهلي، ولم أر ذلك في شيء من الروايات التي عندنا من البخاري، وأظنه وقع في بعض
النسخ "حدثنا محمد" غير منسوب والمراد به البخاري المصنف والقائل ذلك
الراوي عنه وظنوه شيخا للبخاري، وليس كذلك، والله أعلم. قوله: "عن أنس"
في رواية روح بن عبادة عن شعبة في الاعتصام "أخبرني موسى قال سمعت أنس بن
مالك يقول" . قوله: "خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها
قط قال: لو تعلمون ما أعلم" وقع عند مسلم من طريق النضر بن شميل عن شعبة في
أوله زيادة يظهر منها سبب الخطبة ولفظه: "بلغ صلى الله عليه وسلم عن أصحابه
شيء، فخطب فقال: عرضت على الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولن تعلمون
ما أعلم" . قوله: "لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، قال فغطى" في
رواية النضر بن شميل "قال فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم كان أشد من ذلك، غطوا رءوسهم" . قوله: "لهم حنين" بالحاء
المهملة للأكثر، وللكشهميني بالخاء المعجمة، والأول الصوت الذي يرتفع بالبكاء من
الصدر، والثاني من الأنف. وقال الخطابي: الحنين بكاء دون الانتحاب، وقد يجعلون
الحنين والخنين واحدا إلا أن الحنين من الصدر أي المهملة والحنين من الأنف
بالمعجمة. وقال عياض 13 قوله: "فقال رجل من أبي؟ قال: أبوك فلان" تقدم
في العلم أنه عبد الله بن حذافة. وفي رواية للعسكري "نزلت في قيس بن
حذافة" وفي رواية للإسماعيلي يأتي التنبيه عليها في كتاب الفتن "خارجة
بن حذافة" والأول أشهر، وكلهم له صحبة، وتقدم فيه أيضا زيادة من حديث أبي
موسى وأحدث بشرحه على كتاب الاعتصام، وسيأتي إن شاء الله تعالى، فاقتصر هنا على
بيان الاختلاف في سبب نزول الآية. قوله: "فنزلت هذه الآية" هكذا أطلق
ولم يقع ذلك في سياق الزهري عن أنس مع أنه أشبع سياقا من رواية موسى بن أنس كما
تقدم في أوائل المواقيت، ولذا لم يذكر ذلك هلال بن علي عن أنس كما سيأتي في كتاب
الرقاق. ووقع في الفتن من طريق قتادة عن أنس في آخر هذا الحديث بعد أن ساقه مطولا
قال: "فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن قتادة عن
أنس قال: "سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فصعد
المنبر فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به ، فجعلت ألتفت عن يمين وشمال فإذا
كان رجل لاف ثوبه برأسه يبكي" الحديث، وفيه قصة عبد الله بن حذافة، وقول عمر
روى الطبري من طريق أبي صالح عن أبي هريرة قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: "أين أنا
قال: في النار. فقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: حذافة" . فقام عمر - فذكر كلامه
وزاد فيه - وبالقرآن إماما، قال فسكن غضبه ونزلت هذه الآية" وهذا شاهد جيد
لحديث موسى بن أنس
ـــــــ
1 بياض في الأصل.
(8/281)
المذكور. وأما ما روى الترمذي من حديث علي قال: "لما نزلت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} قالوا: يا رسول الله في كل عام؟ فسكت. ثم قالوا: يا رسول الله في كل عام؟ فقال: لا، ولو قلت نعم لوجبت. فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا} فهذا لا ينافي حديث أبي هريرة لاحتمال أن تكون نزلت في الأمرين، ولعل مراجعتهم له في ذلك هي سبب غضبه. وقد روى أحمد من حديث أبي هريرة والطبري من حديث أبي أمامة نحو حديث على هذا، وكذا أخرجه من وجه ضعيف ومن آخر منقطع عن ابن عباس، وجاء في سبب نزولها قول ثالث وهو ما يدل عليه حديث ابن عباس في الباب عقب هذا وهو أصح إسنادا، لكن لا مانع أن يكون الجميع سبب نزولها والله أعلم. وجاء في سبب نزولها قولان آخران، فأخرج الطبري وسعيد بن منصور من طريق خصيف عن مجاهد عن ابن عباس: أن المراد بالأشياء البحيرة والوصيلة والسائبة والحام. قال فكان عكرمة يقول: إنهم كانوا يسألون عن الآيات، فنهوا عن ذلك. قال: والمراد بالآيات نحو سؤال قريش أن يجعل الصفا لهم ذهبا، وسؤال اليهود أن ينزل عليهم كتابا من السماء ونحو ذلك. أخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الكريم عن عكرمة قال: "نزلت في الذي سأل عن أبيه. وعن سعيد بن جبير في الذين سألوا عن البحيرة وغيرها، وعن مقسم فيما سأل الأمم أنبياءها عن الآيات. قلت: وهذا الذي قاله محتمل، وكذا ما أخرج ابن أبي حاتم من طريق عطية قال: "نهوا أن يسألوا مثل ما سأل النصارى من المائدة فأصبحوا بها كافرين" وقد رجحه الماوردي، وكأنه من حيث المعنى، لوقوع قصة المائدة في السورة بعد ذلك، واستبعد نزولها في قصة من سأل عن أبيه أو عن الحج كل عام، وهو إغفال منه لما في الصحيح، ورجح ابن المنير نزولها في النهي عن كثرة المسائل عما كان وعما لم يكن، واستند إلى كثير مما أورده المصنف في "باب ما يكره من كثرة السؤال" في كتاب الاعتصام وهو متجه، لكن لا مانع أن تتعدد الأسباب، وما في الصحيح أصح. وفي الحديث إيثار الستر على المسلمين، وكراهة التشديد عليهم، وكراهة التنقيب عما لم يقع، وتكلف الأجوبة لمن يقصد بذلك التمرن على التفقه، فالله أعلم. وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. قوله: "رواه النضر" هو ابن شميل "وروح بن عبادة عن شعبة" أي بإسناده، ورواية النضر وصلها مسلم، ورواية روح بن عبادة وصلها المؤلف في كتاب الاعتصام. قوله: "حدثني الفضل بن سهل" هو البغدادي، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع وشيء تقدم الصلاة وأبو النضر هاشم بن القاسم، وأبو خيثمة هو زهير بن معاوية، وأبو الجويرية بالجيم مصغر اسمه حطان بكسر المهملة وتشديد الطاء ابن خفاف بضم المعجمة وفاءين الأولى خفيفة، ثقة ما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في الزكاة ويأتي في الأشربة له ثالث. قوله: "عن ابن عباس" في رواية ابن أبي حاتم من طريق أبي النضر عن أبي خيثمة حدثنا أبو الجويرية سمعت أعرابيا من بني سليم سأله يعني ابن عباس. قوله: "كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء" قد تقدم طريق الجمع بينه وبين الذي قبله، والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم تسأل عنه لكان على الإباحة، وفي أول رواية الطبري من طريق حفص بن نفيل عن أبي خيثمة عن أبي الجويرية" قال ابن عباس: قال أعرابي من بني سليم: هل تدري فيم أنزلت هذه الآية" فذكره ووقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن أبي خيثمة عن أبي الجويرية عن ابن عباس أنه سئل عن الضالة فقال ابن عباس: "من أكل الضالة فهو ضال" .
(8/282)
13- باب {مَا
جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ}
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} يَقُولُ قَالَ اللَّهُ وَإِذْ هَا هُنَا صِلَةٌ
الْمَائِدَةُ أَصْلُهَا مَفْعُولَةٌ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ
وَالْمَعْنَى مِيدَ بِهَا صَاحِبُهَا مِنْ خَيْرٍ يُقَالُ مَادَنِي يَمِيدُنِي
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُتَوَفِّيكَ مُمِيتُكَ
4623- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ
عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
قَالَ الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلاَ يَحْلُبُهَا
أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لاَ
يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ
فِي النَّارِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ" وَالْوَصِيلَةُ
النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الإِبِلِ ثُمَّ تُثَنِّي
بَعْدُ بِأُنْثَى وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ
إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ وَالْحَامِ فَحْلُ الإِبِلِ
يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَعُوهُ
لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفَوْهُ مِنْ الْحَمْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ
وَسَمَّوْهُ الْحَامِيَ و قَالَ لِي أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ
الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ سَعِيدًا قَالَ يُخْبِرُهُ بِهَذَا قَالَ وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ
وَرَوَاهُ ابْنُ الْهَادِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم"
4624- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْكَرْمَانِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ
عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَرَأَيْتُ
عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبَهُ وَهْوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِب"
قوله: "باب {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ
وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} أي ما حرم، ولم يرد حقيقة الجعل لأن الكل خلقه وتقديره،
ولكن المراد بيان ابتداعهم ما صنعوه من ذلك. قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} يقول
قال الله، وإذ هاهنا صلة" كذا ثبت هذا وما بعده هنا، وليس بخاص به وهو على ما
قدمنا من ترتيب بعض الرواة، وهذا الكلام ذكره أبو عبيدة في قوله تعالى : {وَإِذْ
قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} قال مجازه يقول الله، وإذ من حروف
الزوائد، وكذلك قوله {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ} أي وعلمتك. قوله: "المائدة أصلها
مفعولة كعيشة راضية وتطليقة بائنة، والمعنى ميد بها صاحبها من خير يقال مادني
يميدني" قال ابن التين: هو قول أبي عبيدة. وقال غيره: هي من ماد يمتد إذا
تحرك، وقيل من ماد يمتد إذا أطعم. قال ابن التين: وقوله تطليقة بائنة غير واضح إلا
أن يريد أن الزوج أبان المرأة بها، وإلا فالظاهر أنها فرقت بين الزوجين فهي فاعل
على بابها. قوله: "وقال ابن عباس: {مُتَوَفِّيكَ} مميتك" هكذا ثبت هذا
هنا، وهذه اللفظة إنما هي في سورة آل عمران، فكأن بعض الرواة ظنها من سورة المائدة
فكتبها فيها، أو ذكرها المصنف هنا لمناسبة قوله في هذه السورة { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي
كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ} ثم ذكر المصنف حديث ابن
(8/283)
شهاب عن سعيد بن المسيب في تفسير البحيرة والسائبة، والاختلاف في وقفه ورفعه. قوله: "البحيرة التي يمنع درها للطواغيت" وهي الأصنام، فلا يحلبها أحد من الناس، والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي التي بحرت أذنها أي حرمت. قال أبو عبيدة: جعلها قوم من الشاة خاصة إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها أي شقوها وتركت فلا يمسها أحد. وقال آخرون: بل البحيرة الناقة كذلك، وخلوا عنها فلم تركب ولم يضربها فحل، وأما قوله: "فلا يحلبها أحد من الناس" فهكذا أطلق نفي الحلب، وكلام أبي عبيدة يدل على أن المنفي إنما هو الشرب الخاص، قال أبو عبيدة: كانوا يحرمون وبرها ولحمها وظهرها ولبنها على النساء ويحلون ذلك للرجال، وما ولدت فهو بمنزلتها، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: البحيرة من الإبل كانت الناقة إذا نتجت خمس بطون فإن كان الخامس ذكرا كان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى بتكت أذنها ثم أرسلت فلم يجزوا لها وبرا ولم يشربوا لها لبنا ولم يركبوا لها ظهرا، وإن تكن ميتة فهم فيه شركاء الرجال والنساء. ونقل أهل اللغة في تفسير البحيرة هيأت أخرى تزيد بما ذكرت على العشر. وهي فعيلة بمعنى مفعولة، والبحر شق الأذن، كان ذلك علامة لها. قوله: "والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء" قال أبو عبيدة: كانت السائبة من جميع الأنعام، وتكون من النذور للأصنام فتسيب فلا تحبس عن مرعى ولا عن ماء ولا يركبها أحد، قال: وقيل السائبة لا تكون إلا من الإبل، كان الرجل ينذر إن برئ من مرضه أو قدم من سفره ليسيبن بعيرا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: السائبة كانوا يسيبون بعض إبلهم فلا تمنع حوضا أن تشرب فيه. قوله: "قال وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت عمر بن عامر الخزاعي إلخ" هكذا وقع في الرواية إيراد القدر المرفوع من الحديث في أثناء الموقوف، وسأبين ما فيه بعد. قوله: "والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى، ثم تثنى بعد بأنثى" هكذا أورده متصلا بالحديث المرفوع، وهو يوهم أنه من جملة المرفوع، وليس كذلك، بل هو بقية تفسير سعيد بن المسيب، والمرفوع من الحديث إنما هو ذكر عمرو بن عامر فقط، وتفسير البحيرة وسائر الأربعة المذكورة في الآية عن سعيد بن المسيب ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه بهذا الإسناد مثل رواية الباب، إلا أنه بعد إيراد المرفوع قال: "وقال ابن المسيب: والوصيلة الناقة إلخ" فأوضح أن التفسير جميعه موقوف، وهذا هو المعتمد، وهكذا أخرجه ابن مردويه من طريق يحيى بن سعيد وعبيد الله بن زياد عن ابن شهاب مفصلا. قوله: "أن وصلت" أي من أجل. وقال أبو عبيدة: كانت السائبة مهما ولدته فهو بمنزلة أمها إلى ستة أولاد، فإن ولدت السابع أنثيين تركتا فلم تذبحا، وإن ولدت ذكرا ذبح وأكله الرجال دون النساء، وكذا إذا ولدت ذكرين، وإن أتت بتوأم ذكر وأنثى سموا الذكر وصيلة فلا يذبح لأجل أخته، وهذا كله إن لم تلد ميتا، فإن ولدت بعد البطن السابع ميتا أكله النساء دون الرجال. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: الوصيلة الشاة كانت إذا ولدت سبعة فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكل وإن كان أنثى تركت وإن كان ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فترك ولم يذبح. قوله: "والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود إلخ" وكلام أبي عبيدة يدل على أن الحام إنما يكون من ولد السائبة. وقال أيضا: كانوا إذا ضرب فحل من ولد البحيرة فهو عندهم حام. وقال أيضا: الحام من فحول الإبل خاصة إذا نتجوا منه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره، فأحموا ظهره ووبره وكل شيء منه فلم يركب ولم يطرق. وعرف بهذا بيان العدد المبهم في رواية سعيد. وقيل الحام فحل الإبل إذا ركب ولد ولده، قال الشاعر:
(8/284)
حماها أبو قابوس في
غير ملكه ... كما قد حمى أولاد أولاده الفحلا
وقال الفراء: اختلف في السائبة فقيل كان الرجل يسيب من ماله ما شاء يذهب به إلى
السدنة وهم الذين يقومون على الأصنام. وقيل: السائبة الناقة إذا ولدت عشرة أبطن
كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يجز لها وبر ولم يشرب لها لبن. وإذا ولدت بنتها بحرت
أي شقت أذنها، فالبحيرة ابنة السائبة وهي بمنزلة أمها. والوصيلة من الشاة إذا ولدت
سبعة أبطن إذا ولدت في آخرها ذكرا وأنثى قيل وصلت أخاه فلا تشرب النساء لبن الأم
وتشربه الرجال وجرت مجرى السائبة إلا في هذا. وأما الحام فهو فحل الإبل كان إذا
لقح ولد ولده قيل حمى ظهره فلا يركب ولا يجز له وبر ولا يمنع من مرعى. قوله:
"وقال لي أبو اليمان" عند غير أبي ذر "وقال أبو اليمان" بغير
مجاورة. قوله: "سمعت سعيدا يخبره بهذا قال وقال أبو هريرة سمعت النبي صلى
الله عليه وسلم نحوه" هكذا للأكثر يخبر بصيغة الفعل المضارع من الخبر متصل
بهاء الضمير، ووقع لأبي ذر عن الحموي والمستملي بحيرة بفتح الموحدة وكسر المهملة،
وكأنه أشار إلى تفسير البحيرة وغيرها كما في رواية إبراهيم بن سعد، وأن المرفوع
منه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عمرو ابن عامر حسب، وهذا هو
المعتمد، فإن المصنف أخرجه في مناقب قريش قال حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن
الزهري سمعت سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها إلخ، لكنه أورده باختصار
قال: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن عامر
إلخ" . قوله: "ورواه ابن الهاد عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم" أما طريق ابن الهاد فأخرجها ابن مردويه من طريق
خالد بن حميد المهري عن ابن الهاد - وهو يزيد بن عبد الله ابن أسامة بن الهاد
الليثي - بهذا الإسناد، ولفظ المتن "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في
النار" وكان أول من سيب السوائب، والسائبة التي كانت تسيب فلا يحمل عليها شيء
إلى آخر التفسير المذكور، وقد أخرجه أبو عوانة وابن أبي عاصم في
"الأوائل" والبيهقي والطبراني من طريق عن الليث عن ابن الهاد بالمرفوع
فقط، وظهر أن في رواية خالد بن حميد إدراجا وأن التفسير من كلام سعيد بن المسيب
والله أعلم. قوله في المرفوع "وهو أول من سيب السوائب" زاد في رواية أبي
صالح عن أبي هريرة عند مسلم: "وبحر البحيرة وغير دين إسماعيل" وروى عبد
الرزاق عن معمر عن يزيد بن أسلم مرسلا "أول من سيب السوائب عمرو بن لحي، وأول
من بحر البحائر رجل من بني مدلج جدع أذن ناقته وحرم شرب ألبانها" والأول أصح،
والله أعلم. ثم ذكر المصنف حديث عائشة "رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت
عمرا يجر قصبه في النار، وهو أول من سيب السوائب " هكذا وقع هنا مختصرا،
وتقدم في أبواب العمل في الصلاة من وجه آخر عن يونس عن زيد مطولا وأوله "خسفت
الشمس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة طويلة" الحديث وفيه:
" لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء" وفيه القدر المذكور هنا، وأورده في
أبواب الكسوف من وجه آخر عن يونس بدون الزيادة، وكذا من طريق عقيل عن الزهيري، وقد
تقدم بيان نسب عمرو الخزاعي في مناقب قريش، وكذا بيان كيفية تغييره لملة إبراهيم
عليه السلام ونصبه الأصنام وغير ذلك
(8/285)
باب {ةكنت عليهم
شهيدا ما دمت فيهم ....}
...
14- باب {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ}
(8/285)
4625- حَدَّثَنَا
أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ
قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ
حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ثُمَّ قَالَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ
وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ:
"أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِبْرَاهِيمُ أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ
ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي
مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ
عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فَيُقَالُ: إِنَّ
هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ
فَارَقْتَهُم"
قوله: "باب {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ذكر فيه حديث
ابن عباس "إنكم محشورون إلى الله حفاة" الحديث، وسيأتي شرحه في الرقاق،
والغرض منه" فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا
دُمْتُ فِيهِمْ} وقوله أصيحابي كذا للأكثر بالتصغير، وللكشميهني بغير تصغير، قال
الخطابي: فيه إشارة إلى قلة عدد من وقع لهم ذلك، وإنما وقع لبعض جفاة العرب، ولم
يقع من أحد الصحابة المشهورين.
(8/286)
15- باب {إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قوله: "باب قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية"
ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور قبل، أورده مختصرا.
4626- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا
الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ وَإِنَّ نَاسًا يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ
فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا
دُمْتُ فِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ {الْعَزِيزُ الْحَكِيم} "
قوله: "باب قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية"
ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور قبل، أورده مختصرا.
(8/286)
6- سورة
الأَنْعَامِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} مَعْذِرَتُهُمْ
{مَعْرُوشَاتٍ} مَا يُعْرَشُ مِنْ الْكَرْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ {حَمُولَةً} مَا
يُحْمَلُ عَلَيْهَا {وَلَلَبَسْنَا} لَشَبَّهْنَا { لأُنْذِرَكُمْ بِهِ} أَهْلَ
مَكَّةَ {يَنْأَوْنَ} يَتَبَاعَدُونَ {تُبْسَلُ} تُفْضَحُ {أُبْسِلُوا} أُفْضِحُوا
{بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} الْبَسْطُ الضَّرْبُ وَقَوْلُهُ {اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ
الإِنْسِ} أَضْلَلْتُمْ كَثِيرًا {مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ} جَعَلُوا لِلَّهِ
مِنْ ثَمَرَاتِهِمْ وَمَالِهِمْ نَصِيبًا وَلِلشَّيْطَانِ وَالأَوْثَانِ نَصِيبًا
{أَكِنَّةً} وَاحِدُهَا كِنَانٌ {أَمَّا اشْتَمَلَتْ} يَعْنِي هَلْ تَشْتَمِلُ
إِلاَّ عَلَى ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى فَلِمَ تُحَرِّمُونَ بَعْضًا وَتُحِلُّونَ بَعْضًا
{مَسْفُوحًا} مُهْرَاقًا {صَدَفَ} أَعْرَضَ {أُبْلِسُوا} أُويِسُوا وَ أُبْسِلُوا
أُسْلِمُوا {سَرْمَدًا} دَائِمًا {اسْتَهْوَتْهُ} أَضَلَّتْهُ {تَمْتَرُونَ}
تَشُكُّونَ {وَقْرٌ} صَمَمٌ وَأَمَّا الْوِقْرُ فَإِنَّهُ الْحِمْلُ {أَسَاطِيرُ}
وَاحِدُهَا أُسْطُورَةٌ وَإِسْطَارَةٌ وَهْيَ
(8/286)
1- باب {وَعِنْدَهُ
مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}
4627- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَفَاتِحُ
الْغَيْبِ خَمْسٌ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنْزِلُ الْغَيْثَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا
تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} "
قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} المفاتح جمع
مفتح بكسر الميم الآلة التي يفتح بها، مثل منجل ومناجل، وهي لغة قليلة في الآلة،
والمشهور مفتاح بإثبات الألف وجمعه مفاتيح بإثبات الياء، وقد قرئ بها في الشواذ،
قرأ ابن السميع {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} وقيل بل هو جمع مفتح بفتح الميم
وهو المكان. ويؤيده تفسير السدي فيما رواه الطبري قال: مفاتح الغيب خزائن الغيب،
وجوز الواحدي أنه جمع مفتح بفتح الميم على أنه مصدر بمعنى الفتح، أي وعنده فتوح
الغيب أي يفتح الغيب على من يشاء من عباده، ولا يخفى بعد هذا التأويل للحديث
المذكور في الباب، وأن مفاتح الغيب لا يعلمها أحد إلا الله سبحانه وتعالى. وروى
الطبري من طريق ابن مسعود قال: أعطي نبيكم صلى الله عليه وسلم علم كل شيء إلا
مفاتح الغيب، ويطلق المفتاح على ما كان محسوسا مما يحل غلقا كالقفل، وعلى ما كان
معنويا كما جاء في الحديث: "إن من الناس مفاتيح للخير" الحديث صححه ابن
حبان من حديث أنس ثم ذكر المصنف في الباب حديث ابن عمر "مفاتح الغيب خمس
" أورده مختصرا، وساقه في تفسير سورة لقمان مطولا، وسيأتي شرحه هناك مستوفى
إن شاء الله تعالى.
(8/291)
2- باب {قُلْ هُوَ
الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} الآيَةَ
يَلْبِسَكُمْ يَخْلِطَكُمْ مِنْ الالْتِبَاسِ يَلْبِسُوا يَخْلِطُوا شِيَعًا
فِرَقًا
4628- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ
هَذِهِ الآيَةُ {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا
مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَعُوذُ
بِوَجْهِكَ" قَالَ {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: "أَعُوذُ
بِوَجْهِكَ" {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَر"
[الحديث 4628- طرفاه في: 7313، 7406]
قوله: "باب {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا
مِنْ فَوْقِكُمْ} الآية، يلبسكم يخلطكم من الالتباس يلبسوا يخلطوا" هو من
كلام أبي عبيدة في الموضعين "وعند ابن أبي حاتم من طريق أسباط بن نصر عن
السدي مثله. قوله: "شيعا فرقا" هو كلام أبي عبيدة أيضا وزاد: واحدتها
شيعة، وللطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن
(8/291)
3- باب {وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}
4629- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ
شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ} قَالَ أَصْحَابُهُ وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ فَنَزَلَتْ {إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} "
قوله: "باب {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ذكر فيه حديث سليمان
وهو الأعمش عن إبراهيم وهو النخعي عن علقمة وهو ابن قيس عن عبد الله وهو ابن مسعود
قال: "لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال أصحابه"
أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الإيمان بما
أغنى عن إعادته.
(8/294)
4- باب {وَيُونُسَ
وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}
4630- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ
يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا
خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى"
4631- حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا
سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ
أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى"
قوله: "باب قوله {وَيُونُسَ وَلُوطًا} ذكر فيه حديثي ابن عباس وأبي هريرة
" ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" وقد تقدم شرحه في
أحاديث الأنبياء. قوله: "باب قوله: {وَيُونُسَ وَلُوطًا} ذكر فيه حديثي ابن
عباس وأبي هريرة "ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" وقد
تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء.
(8/264)
باب {أولائك الذين
هدى الله فبهداهم اقتده}
...
5- باب {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
4632- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ
جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ أَنَّ مُجَاهِدًا
أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَفِي "ص" سَجْدَةٌ فَقَالَ
نَعَمْ ثُمَّ تَلاَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إِلَى قَوْلِهِ
{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ثُمَّ قَالَ هُوَ مِنْهُمْ زَادَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ
وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ الْعَوَّامِ عَنْ مُجَاهِدٍ
قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِم"
قوله: "باب قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهْ} ذكر فيه حديث ابن عباس في السجود في "ص" ، وسيأتي شرحه في
تفسير "ص" . قوله: "زاد يزيد بن هارون ومحمد بن عبيد وسهل بن يوسف
عن العوام" هو ابن حوشب "عن مجاهد قلت لابن عباس فقال: نبيكم صلى الله
عليه وسلم ممن أمر أن يقتدي بهم" حاصله أن الزيادة لفظية، وإلا فالكلام
(8/294)
المذكور داخل في قوله في الرواية الأولى "هو منهم" أي داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به في قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وطريق يزيد بن هارون المذكورة وصلها الإسماعيلي، وطريق محمد بن عبيد وصلها المصنف في تفسير "ص" . وطريق سهل بن يوسف وصلها المصنف في أحاديث الأنبياء. وقد اختلف: هل كان عليه الصلاة والسلام متعبدا بشرع من قبله حتى نزل عليه ناسخه؟ فقيل: نعم، وحجتهم هذه الآية ونحوها. وقيل لا، وأجابوا عن الآية بأن المراد اتباعهم فيما أنزل عليه وفاقه ولو على طريق الإجمال فيتبعهم في التفصيل، وهذا هو الأصح عند كثير من الشافعية، واختاره إمام الحرمين ومن تبعه، واختار الأول ابن الحاجب، والله أعلم.
(8/295)
باب {وعلى الذين
هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها}
...
6- باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} الآيَةَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الْبَعِيرُ وَالنَّعَامَةُ الْحَوَايَا الْمَبْعَرُ وَقَالَ
غَيْرُهُ هَادُوا صَارُوا يَهُودًا وَأَمَّا قَوْلُهُ هُدْنَا تُبْنَا هَائِدٌ
تَائِبٌ
4633- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي حَبِيبٍ قَالَ عَطَاءٌ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا
جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوهَا" وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْحَمِيدِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ كَتَبَ إِلَيَّ عَطَاءٌ سَمِعْتُ جَابِرًا
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَه"
قوله: "باب {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} زاد أبو
ذر في روايته:"إلى قوله: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} . قوله: "كل ذي ظفر
البعير والنعامة" وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثله،
وروي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله، وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال: "كل ذي ظفر هو الذي ليس بمنفرج الأصابع، يعني ليس بمشقوق
الأصابع، منها الإبل والنعام، وإسناده حسن. وأخرجه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير
مثله مفرقا وليس فيها ابن عباس، ومن طريق قتادة قال: البعير والنعامة وأشباهه من
الطير والحيوانات والحيتان. قوله: "الحوايا المبعر" في رواية أبي الوقت
المباعر، وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: الحوايا هو
المبعر، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. وقال سعيد بن جبير الحوايا
المباعر أخرجه ابن جرير وقال: الحوايا جمع حوية وهي ما تحوى واجتمع واستدار من
البطن وهي نبات اللبن وهي المباعر وفيها الأمعاء. قال: ومعنى الكلام إلا ما حملت
ظهورهما وإلا ما حملت الحوايا، أي فهو حلال لهم.
" تنبيه " : المبعر بفتح الميم ويجوز كسرها. ثم ذكر المصنف حديث جابر
"قاتل الله اليهود حرمت عليهم شحومها" الحديث، وقد تقدم شرحه في أواخر
كتاب البيوع، وقد تقدم أيضا بيان من وصل رواية أبي عاصم المذكور هنا، ونبه ابن
التين على أنه وقع في الرواية هنا "لحومها" قال: والصواب شحومها. قوله: "هادوا
تابوا، هدنا تبنا، هائد تائب" هو كلام أبي عبيدة وقد تقدم في أوائل الهجرة.
(8/295)
7- باب {وَلاَ
تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}
4634- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي
وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
(8/295)
8- باب وَكِيلٌ
حَفِيظٌ وَمُحِيطٌ بِهِ. قُبُلاً جَمْعُ قَبِيلٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ ضُرُوبٌ
لِلْعَذَابِ كُلُّ ضَرْبٍ مِنْهَا قَبِيلٌ زُخْرُفَ الْقَوْلِ كُلُّ شَيْءٍ
حَسَّنْتَهُ وَوَشَّيْتَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ فَهُوَ زُخْرُفٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ
حَرَامٌ وَكُلُّ مَمْنُوعٍ فَهْوَ حِجْرٌ مَحْجُورٌ وَالْحِجْرُ كُلُّ بِنَاءٍ
بَنَيْتَهُ وَيُقَالُ لِلأُنْثَى مِنْ الْخَيْلِ حِجْرٌ وَيُقَالُ لِلْعَقْلِ
حِجْرٌ وَحِجًى وَأَمَّا الْحِجْرُ فَمَوْضِعُ ثَمُودَ وَمَا حَجَّرْتَ عَلَيْهِ
مِنْ الأَرْضِ فَهُوَ حِجْرٌ وَمِنْهُ سُمِّيَ حَطِيمُ الْبَيْتِ حِجْرًا كَأَنَّه
مُشْتَقٌّ مِنْ مَحْطُومٍ مِثْلُ قَتِيلٍ مِنْ مَقْتُولٍ وَأَمَّا حَجْرُ
الْيَمَامَةِ فَهْوَ مَنْزِل"
قوله: "وكيل حفيظ محيط به" قال أبو عبيدة في قوله: {وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي حفيظ محيط. قوله: "قبلا جمع قبيل، والمعنى أنه ضروب
للعذاب كل ضرب منها قبيل" انتهى. هو من كلام أبي عبيدة أيضا لكن بمعناه، قال
في قوله تعالى: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} قال فمعنى حشرنا
جمعنا وقبلا جمع قبيل أي صنف. وروى ابن جرير عن مجاهد قال: قبلا أي أفواجا قال ابن
جرير: أي حشرنا عليهم كل شيء قبيلة قبيلة صنفا صنفا وجماعة جماعة، فيكون القبل جمع
قبيل الذي جمع قبيلة، فيكون القبل جمع الجمع. قال أبو عبيدة: ومن قرأها قبلا أي
بكسر القاف فإنه يقول معناها عيانا انتهى. ويجوز أن يكون بمعنى ناحية يقول: لي قبل
فلان كذا، أي من جهته، فهو نصب على الظرفية. وقال آخرون: قبلا أي مقابلا انتهى.
وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله:
{كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} أي معاينة، فكأنه قرأها بكسر القاف وهي قراءة أهل المدينة
وابن عامر، مع أنه يجوز أن يكون بالضم ومعناه المعاينة يقول: رأيته قبلا لا دبرا
إذا أتيته من قبل وجهه وتستوي على هذا القراءتان. قال ابن جرير: ويحتمل أن يكون
القبل جمع قبيل وهو الضمين والكفيل، أي وحشرنا عليهم كل شيء كفيلا يكفلون لهم أن
الذي نعدهم حق، وهو بمعنى قوله في الآية الأخرى {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ
وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} انتهى، ولم أر من فسر بأصناف العذاب، فليحرر هذا.
" تنبيه " : ثبت هذا والذي بعده لأبي ذر عن المستملي والكشميهني حسب.
قوله: "زخرف القول كل شيء حسنته، وزينته وهو باطل فهو زخرف" هو كلام أبي
عبيدة، وزاد: يقال زخرف فلان كلامه وشهادته. وقيل أصل الزخرف في اللغة التزيين
والتحسين، ولذلك سموا الذهب زخرفا. قوله: "وحرث حجر حرام إلخ" تقدم
الكلام عليه في قصة ثمود من أحاديث الأنبياء مستوفى، وسقط هنا من رواية أبي ذر
والنسفي وهو أولى.
(8/296)
9- باب {هَلُمَّ
شُهَدَاءَكُمُ} لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ هَلُمَّ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ
وَالْجَمِيعِ
4635- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا عمارة حدثنا أبو زرعة حدثنا
أبو هريرة
(8/296)
10- باب {لاَ
يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا}
4636- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ
مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ
وَذَلِكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ثُمَّ قَرَأَ الآيَةَ"
قوله: "باب {لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} ذكر فيه حديث أبي هريرة في
طلوع الشمس من المغرب، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.
وإسحاق في الطريق الأخرى جزم خلف بأنه ابن نصر، وأبو مسعود بأنه ابن منصور، وقول
خلف أقوى. والله أعلم.
(8/297)
7- سورة
الأَعْرَافِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرِيَاشًا الْمَالُ {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
فِي الدُّعَاءِ وَفِي غَيْرِهِ عَفَوْا كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ
الْفَتَّاحُ الْقَاضِي {افْتَحْ بَيْنَنَا} اقْضِ بَيْنَنَا {نَتَقْنَا الْجَبَلَ}
رَفَعْنَا {انْبَجَسَتْ} انْفَجَرَتْ {مُتَبَّرٌ} {خُسْرَانٌ} آسَى أَحْزَنُ
تَأْسَ تَحْزَنْ وَقَالَ غَيْرُهُ {مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَ تَسْجُدَ} يَقُولُ مَا
مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ {يَخْصِفَانِ} أَخَذَا الْخِصَافَ {مِنْ وَرَقِ
الْجَنَّةِ} يُؤَلِّفَانِ الْوَرَقَ يَخْصِفَانِ الْوَرَقَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ
{سَوْآتِهِمَا} كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجَيْهِمَا {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} هُوَ هَا
هُنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْحِينُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى
مَالاَ يُحْصَى عَدَدُهُ الرِّيَاشُ وَالرِّيشُ وَاحِدٌ وَهْوَ مَا ظَهَرَ مِنْ
اللِّبَاسِ {قَبِيلُهُ} جِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ {ادَّارَكُوا} اجْتَمَعُوا
وَمَشَاقُّ الإِنْسَانِ وَالدَّابَّةِ كُلُّهَا يُسَمَّى سُمُومًا وَاحِدُهَا
سَمٌّ وَهِيَ عَيْنَاهُ وَمَنْخِرَاهُ وَفَمُهُ وَأُذُنَاهُ وَدُبُرُهُ
وَإِحْلِيلُهُ {غَوَاشٍ} مَا غُشُّوا بِهِ نُشُرًا مُتَفَرِّقَةً {نَكِدًا}
قَلِيلاً {يَغْنَوْا} يَعِيشُوا {حَقِيقٌ} حَقٌّ {اسْتَرْهَبُوهُمْ} مِنْ
الرَّهْبَةِ {تَلَقَّفُ} تَلْقَمُ {طَائِرُهُمْ} حَظُّهُمْ {طُوفَانٌ} مِنْ
السَّيْلِ وَيُقَالُ لِلْمَوْتِ الْكَثِيرِ الطُّوفَانُ {الْقُمَّلُ} الْحُمْنَانُ
يُشْبِهُ صِغَارَ الْحَلَمِ {عُرُوشٌ} وَعَرِيشٌ بِنَاءٌ سُقِطَ كُلُّ مَنْ نَدِمَ
فَقَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ {الأَسْبَاطُ} قَبَائِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ {يَعْدُونَ
فِي السَّبْتِ} يَتَعَدَّوْنَ لَهُ يُجَاوِزُونَ تَجَاوُزٌ بَعْدَ تَجَاوُزٍ
تَعْدُ تُجَاوِزْ {شُرَّعًا} شَوَارِعَ {بَئِيسٍ} شَدِيدٍ {أَخْلَدَ} قَعَدَ
(8/297)
باب {إنما حرم ربي
الفواحش ما ظهر منها وما بطن}
...
1- باب {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ}
4637- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ
مُرَّةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
قُلْتُ أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ وَرَفَعَهُ قَالَ:
"لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ فَلِذَلِكَ حَرَّمَ
(8/301)
الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنْ
اللَّهِ فَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَه"
قوله: "باب قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ذكر فيه حديث ابن مسعود "لا أحد أغير من
الله فلذلك حرم الفواحش" وسيأتي شرحه في كتاب التوحيد، وقد حكى ابن جرير أن
أهل التأويل اختلفوا في المراد بالفواحش، فمنهم من حملها على العموم وساق ذلك عن
قتادة قال: المراد سر الفواحش وعلانيتها، ومنهم من حملها على نوع خاص وساق عن ابن
عباس قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأسا في السر ويستقبحونه في العلانية،
فحرم الله الزنا في السر والعلانية. ومن طريق سعيد بن جبير ومجاهد: ما ظهر نكاح
الأمهات، وما بطن الزنا. ثم اختار ابن جرير القول الأول قال: وليس ما روي عن ابن
عباس وغيره بمدفوع، ولكن الأولى الحمل على العموم، والله أعلم.
(8/302)
2- باب {وَلَمَّا
جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ
إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ
مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ
دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ
إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَرِنِي أَعْطِنِي
4638- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ
يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ
رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِكَ مِنْ الأَنْصَارِ لَطَمَ فِي وَجْهِي قَالَ ادْعُوهُ
فَدَعَوْهُ قَالَ لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي
مَرَرْتُ بِالْيَهُودِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى
الْبَشَرِ فَقُلْتُ وَعَلَى مُحَمَّدٍ وَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ قَالَ
لاَ تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ
بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلاَ أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُزِيَ
بِصَعْقَةِ الطُّورِ"
قوله: "باب {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ
رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} الآية. قال ابن عباس: أرني أعطني" . وصله
ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ
إِلَيْكَ} قال أعطني. وأخرج من طريق السدي قال: لما كلم الله موسى أحب أن ينظر
إليه قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} . "تكملة" : تعلق بقوله
تعالى: {لَنْ تَرَانِي} نفاه رؤية الله تعالى مطلقا من المعتزلة فقالوا لن لتأكيد
النفي الذي يدل عليه لا فيكون النفي على التأييد. وأجاب أهل السنة بأن التعميم في
الوقت مختلف فيه، سلمنا لكن خص بحالة الدنيا التي وقع فيها الخطاب، وجاز في الآخرة
لأن أبصار المؤمنين فيها باقية فلا استحالة أن يرى الباقي بالباقي. بخلاف حالة
الدنيا فإن أبصارهم فيها فانية فلا يرى الباقي بالفاني، وتواترت الأخبار النبوية
بوقوع هذه الرؤية للمؤمنين في الآخرة وبإكرامهم بها في الجنة، ولا استحالة فيها
فوجب الإيمان بها، وبالله التوفيق. وسيأتي مزيد لهذا في كتاب التوحيد حيث ترجم
المصنف {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . قوله:
"جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه" الحديث
تقدم شرحه مستوفى في أحاديث الأنبياء، وقوله فيه: "أم جزي" كذا للأكثر
ولأبي ذر
(8/302)
عن الحموي
والمستملي: "جوزي" وهو المشهور في غير هذا الموضع.
الْمَنَّ وَالسَّلْوَى 4639- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ
وَمَاؤُهَا شِفَاءُ الْعَيْن"
ذكر فيه حديث سعيد بن زيد في الكمأة، وسيأتي شرحه في الطب، وقوله: "شفاء من
العين" أي وجع العين. وفي رواية الكشميهني: "شفاء للعين" تقدم شرح
المن والسلوى في تفسير البقرة، وهو المشهور في غير هذه. وقوله في أول الإسناد
"حدثنا مسلم:"وقع لأبي ذر غير منسوب، وعند غيره مسلم ابن إبراهيم
(8/303)
3- باب {قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ
مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
4640- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالاَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلاَءِ بْنِ زَبْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ قَالَ
سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
مُحَاوَرَةٌ فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا
فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ
حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ
عِنْدَهُ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا
فَقَدْ غَامَرَ" قَالَ وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَأَقْبَلَ
حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ قَالَ أَبُو
الدَّرْدَاءِ وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَنَا كُنْتُ
أَظْلَمَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ
لِي صَاحِبِي هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ غَامَرَ سَبَقَ بِالْخَيْر"
قوله: "باب {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعًا} ذكر فيه حديث أبي الدرداء فيما كان بين أبي بكر وعمر، وقد تقدم شرحه
مستوفى في مناقب أبي بكر، وقوله في أول الإسناد" حدثني عبد الله "كذا
وقع غير منسوب عند الأكثر، ووقع عند ابن السكن عن الفربري عن البخاري" حدثني
عبد الله بن حماد "وبذلك جزم الكلاباذي وطائفة وعبد الله بن حماد هذا هو
الآملي بالمد وضم الميم الخفيفة يكنى أبا عبد الرحمن قال الأصيلي: هو من تلامذة
البخاري، وكان يورق بين يديه. قلت: وقد شاركه في كثير من شيوخه، وكان من الحفاظ،
مات قبل السبعين، أو بعدها فقال غنجار في" تاريخ بخاري "مات ستة تسع
وستين وقيل سنة ثلاث وسبعين. وسليمان بن عبد الرحمن هو الدمشقي من شيوخ البخاري،
وأما موسى بن هارون فهو البني بضم الموحدة وتشديد النون. والبردي وهو بضم الموحدة
وسكون الراء، كوفي قدم مصر ثم سكن الفيوم ومات بها سنة أربع وعشرين ومائتين، وما
له في
(8/303)
البخاري سوى هذا الموضع. قوله: "قال أبو عبد الله: غامر سبق بالخير" تقدم شرحه أيضا في مناقب أبي بكر.
(8/304)
4- بَاب {وَقُولُوا
حِطَّةٌ}
4641- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قِيلَ لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطَايَاكُمْ فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا
حَبَّةٌ فِي شَعَرَة"
"حدثني إسحاق" هو ابن إبراهيم الحنظلي ابن راهويه. قوله: "قيل لبني
إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة" قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في
قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} قال الحسن: أي احطط عنا خطايانا، وهذا يليق بقراءة من
قرأ حطة بالنصب، وهي قراءة إبراهيم بن أبي عبلة، وقرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر
لمبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة، وقيل أمروا أن يقولوا على هذه الكيفية، فالرفع على
الحكاية، وهي في محل نصب بالقول، وإنما منع النصب حركة الحكاية، وقيل رفعت لتعطي
معنى الثبات كقوله سلام، واختلف في معنى هذه الكلمة فقيل: هي اسم للهيئة من الحط
كالجلسة، وقيل هي التوبة كما قال الشاعر:
فاز بالحطة التي صير اللـ ... ـه بها ذنب عبده مغفورا
وقيل لا يدري معناها، وإنما تعبدوا بها. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس وغيره قال:
قيل لهم قولوا مغفرة. قوله: "فبدلوا" أي غيروا، وقوله سبحانه وتعالى:
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} التقدير فبدل
الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولا غير الذي قيل لهم، ويحتمل أن يكون ضمن بدل معنى
قال. قوله: "فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعرة" كذا
للأكثر، وكذا في رواية الحسن المذكورة بفتحتين، وللكشميهني: "في شعيرة"
يكسر المهملة وزيادة تحتانية بعدها. والحاصل أنهم خالفوا ما أمروا به من الفعل
والقول فإنهم أمروا بالسجود عند انتهائهم شكرا لله تعالى وبقولهم حطة، فبدلوا
السجود بالزحف وقالوا حنطة بدل حطة، أو قالوا حطة وزادوا فيها حبة في شعيرة. وروى
الحاكم من طريق السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: "قالوا هطى سمقا" وهي
بالعربية حنطة حمراء قوية فيها شعيرة سوداء، ويستنبط منه أن الأقوال المنصوصة إذا
تعبد بلفظها لا يجوز تغييرها ولو وافق المعنى. وليست هذه مسألة الرواية بالمعنى بل
هي متفرعة منها، وينبغي أن يكون ذلك قيدا في الجواز، أعني يزاد في الشرط أن لا يقع
التعبد بلفظه ولا بد منه، ومن أطلق فكلامه محمول عليه.
(8/304)
5- باب {خُذْ
الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} الْعُرْفُ
الْمَعْرُوفُ
قوله باب {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ}
العرف: المعروف" وصله عبد الرزاق من طريق هشام بن عروة عن أبيه بهذا، وكذا
أخرجه الطبري من طريق السدي وقتادة.
4642- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ
حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ وَكَانَ مِنْ
النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ
عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا فَقَالَ عُيَيْنَةُ
لابْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ
لِي عَلَيْهِ قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
فَاسْتَأْذَنَ
(8/304)
سورة الأنفال: باب
{يسألونك عن الأنفال ...}
...
8- سورة الأَنْفَالِ
1- باب قَوْلُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ الأَنْفَالُ الْمَغَانِمُ قَالَ قَتَادَةُ رِيحُكُمْ الْحَرْبُ يُقَالُ
نَافِلَةٌ عَطِيَّةٌ
4645- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ
سُلَيْمَانَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُورَةُ
الأَنْفَالِ قَالَ نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ الشَّوْكَةُ الْحَدُّ مُرْدَفِينَ فَوْجًا
بَعْدَ فَوْجٍ رَدِفَنِي وَأَرْدَفَنِي جَاءَ بَعْدِي ذُوقُوا بَاشِرُوا
وَجَرِّبُوا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَوْقِ الْفَمِ فَيَرْكُمَهُ يَجْمَعَهُ شَرِّدْ
فَرِّقْ وَإِنْ جَنَحُوا طَلَبُوا السِّلْمُ وَالسَّلْمُ وَالسَّلاَمُ وَاحِدٌ
يُثْخِنَ يَغْلِبَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ مُكَاءً إِدْخَالُ أَصَابِعِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ
وَتَصْدِيَةً الصَّفِيرُ لِيُثْبِتُوكَ لِيَحْبِسُوك"
قوله: "سورة الأنفال - بسم الله الرحمن الرحيم" سقطت البسملة لغير أبي
ذر. قوله: "قال ابن عباس الأنفال المغانم" وصله ابن أبي حاتم من طريق
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "الأنفال المغانم، كانت لرسول الله صلى
الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد فيها شيء" وروى أبو داود والنسائي وابن حبان
من طريق دواد بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لما كان يوم بدر قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صنع كذا فله كذا ، الحديث فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ
عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ} قوله: "نافلة عطية" قال في رواية
النسفي "يقال:"فذكره. وقد قال أبو عبيدة في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أي غنيمة. قوله: "وإن جنحوا طلبوا"
قال أبو عبيدة في قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} أي رجعوا إلى المسالمة وطلبوا
الصلح. قوله: "السلم والسلم والسلام واحد" ثبت هذا لأبي ذر وحده، وقد
تقدم في تفسير سورة النساء. قوله: "يثخن" أي يغلب. قال أبو عبيدة في
قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الأَرْضِ} يثخن أي يبالغ ويغلب. قوله: "وقال مجاهد: مكاء إدخالهم أصابعهم في
أفواههم" وصله عبد ابن حميد والفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد. قوله:
"وتصدية الصفير" وصله عبد بن حميد أيضا كذلك.
" تنبيه " : وقع هذا في رواية أبي ذر متراخيا عن الذي قبله، وعند غيره
بعقبه وهو أولى، وقد قال الفريابي "حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في
قوله: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً} قال: إدخالهم
أصابعهم في أفواههم وتصدية الصفير، يخلطون على محمد صلاته" وقال أبو عبيدة:
المكاء الصفير والتصدية صفق الأكف
(8/306)
ووصله ابن مردويه من حديث ابن عمر مثله من قوله. قوله: "وقال قتادة ريحكم الحرب" تقدم في الجهاد. قوله: "الشوكة الحد" ثبت لغير أبي ذر، قال أبو عبيدة في قوله: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} مجاز الشوكة الحد، يقال ما أشد شوكة بني فلان أي حدهم. قوله: "مردفين فوجا بعد فوج، يقال ردفني وأردفني جاء بعدي" وقال أبو عبيدة في قوله: {مُرْدِفِينَ} بكسر الدال فاعلين من أردفوا أي جاءوا بعد قوم قبلهم، وبعضهم يقول ردفني جاء بعدي وهما لغتان، ومن قرأ بفتح الدال فهو من أردفهم الله من بعد من قبلهم انتهى. وقراءة الجمهور بكسر الدال ونافع بفتحها. وقال الأخفش: بنو فلان يردفوننا أي يجيئون بعدنا. قوله: "فيركمه يجمعه" قال أبو عبيدة في قوله: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} أي فيجمعه بعضه فوق بعض. قوله: "شرد فرق" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "ليثبتوك يحبسوك" وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عنه، وروى أحمد والطبراني من حديث ابن عباس قال: "تشاورت قريش فقال بعضهم: إذا أصبح محمد فأثبتوه بالوثاق" الحديث. قوله: "ذوقوا باشروا وجربوا، وليس هذا من ذوق الفم" هو قول أبي عبيدة أيضا، ونظيره قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} . قوله: "حدثني محمد بن عبد الرحيم" كذا ثبت هذا الحديث في آخر هذه التفاسير عند أبي ذر، وثبت عند غيره في أثنائها والخطب فيه سهل. والحديث المذكور سيأتي بأتم من هذا في تفسير سورة الحشر، ويأتي شرحه هناك، وقد تقدم طرف منه أيضا في المغازي.
(8/307)
باب {إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}
4646- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا ورقاء عن بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس {إِنَّ
شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}
قال: هم نفر من بني عبد الدار"
قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ} ذكر فيه حديث مجاهد عن ابن عباس قال: هم نفر من
بني عبد الدار. وفي رواية الإسماعيلي: "نزلت في نفر" زاد ابن جرير من
طريق شبل بن عباد عن ابن أبي نجيح "لا يتبعون الحق" ثم أورد من طريق
ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "لا يعقلون" : لا يتبعون الحق،
قال مجاهد قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدار.
(8/307)
2- باب {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ
لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} اسْتَجِيبُوا: أَجِيبُوا لِمَا يُحْيِيكُمْ
يُصْلِحُكُمْ
4647- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي
سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي فَمَرَّ
بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ
حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَ
أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ثُمَّ قَالَ لاَعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي
الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ فَذَكَرْتُ لَهُ" وَقَالَ مُعَاذٌ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعَ حَفْصًا سَمِعَ أَبَا
سَعِيدٍ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ
(8/307)
باب {وإذ قالوا
اللهم إن كان هذا الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء...}
...
3- باب {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَطَرًا فِي الْقُرْآنِ
إِلاَّ عَذَابًا وَتُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْغَيْثَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{يُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا}
4648- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا
أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ هُوَ ابْنُ كُرْدِيدٍ صَاحِبُ
الزِّيَادِيِّ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَبُو جَهْلٍ:
{ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فَنَزَلَتْ {وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ
اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآيَةَ
[الحديث 4648- طرفه في: 4649]
قوله: "باب قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية. قوله:
"قال ابن عيينة إلخ" كذا في تفسير ابن عيينة رواية سعيد بن عبد الرحمن
المخزومي عنه قال: ويقول ناس ما سمى الله المطر في القرآن إلا عذابا، ولكن تسميه
العرب الغيث يريد قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} كذا وقع في
تفسير حم عسق، وقد تعقب كلام ابن عيينة بورود المطر بمعنى الغيث في القرآن في قوله
تعالى : {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} فالمراد به هنا الغيث قطعا، معنى
التأذي به البلل الحاصل منه للثوب والرجل وغير ذلك. وقال أبو عبيدة: إن كان من
العذاب فهو أمطرت، وإن كان من الرحمة فهو مطرت. وفيه مطرت. وفيه نظر أيضا. قوله:
"حدثني أحمد" كذا في جميع الروايات غير منسوب، وجزم الحاكمان أبو أحمد
وأبو عبد الله أنه ابن النضر بن عبد الوهاب النيسابوري، وقد روى البخاري الحديث
المذكور بعينه عقب هذا عن محمد بن النضر أخي أحمد هذا، قال الحاكم: بلغني أن
البخاري كان ينزل عليهما ويكثر الكمون عندهما إذا قدم نيسابور. قلت: وهما من طبقة
مسلم وغيره من تلامذة البخاري وإن شاركوه في بعض شيوخه. وقد أخرج مسلم هذا الحديث
بعينه عن شيخهما عبيد الله بن معاذ نفسه، وعبيد الله بن معاذ المذكور من الطبقة
الوسطى من شيوخ البخاري، فنزل في هذا الإسناد درجتين لأن عنده الكثير عن أصحاب
شعبة بواسطة واحدة بينه وبين شعبة، قال الحاكم: أحمد بن النضر يكنى أبا
(8/308)
الفضل وكان من أركان الحديث انتهى. وليس له في البخاري ولا لأخيه سوى هذا الموضع. وقد روى البخاري عن أحمد في التاريخ الصغير ونسبه. قوله: "عن عبد الحميد صاحب الزيادي" هو عبد الحميد بن دينار تابعي صغير، ويقال له ابن كرديد بضم الكاف وسكون الراء وكسر الدال المهملة ثم تحتانية ساكنة ثم دال أخرى، ووقع كذلك في بعض النسخ، والزيادي الذي نسب إليه من ولد زياد الذي يقال له ابن أبي سفيان. قوله: "قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا إلخ" ظاهر في أنه القائل ذلك، وإن كان هذا القول نسب إلى جماعة فعله بدأ به ورضي الباقون فنسب إليهم، وقد روى الطبراني من طريق ابن عباس أن القائل ذلك هو النضر بن الحارث قال: فأنزل الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} وكذا قال مجاهد وعطاء والسدي، ولا ينافي ذلك ما في الصحيح لاحتمال أن يكونا قالاه، ولكن نسبته إلى أبي جهل. وعن قتادة قال: قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها. وروى ابن جرير من طريق يزيد بن رومان أنهم قالوا ذلك ثم لما أمسوا ندموا فقالوا غفرانك اللهم، فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن معنى قوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي من سبق له من الله أنه سيؤمن، وقيل المراد من كان بين أظهرهم حينئذ من المؤمنين، قاله الضحاك وأبو مالك ويؤيده ما أخرجه الطبري من طريق ابن أبزى قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} ثم خرج إلى المدينة فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وكان من بقي من المسلمين بمكة يستغفرون، فلما خرجوا أنزل الله {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية، فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم الله تعالى. وروى الترمذي من حديث أبي موسى رفعه قال: "أنزل الله على أمتي أمانين" فذكر هذه الآية. قال: "فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار" ، وهو يقوي القول الأول والحمل عليه أولى، وأن العذاب حل بهم لما تركوا الندم على ما وقع منهم وبالغوا في معاندة المسلمين ومحاربتهم وصدهم عن المسجد الحرام، والله أعلم.
(8/309)
4- باب {وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
4649- حدثنا محمد بن النضر حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن عبد
الحميد صاحب الزيادي سمع أنس بن مالك قال قال أبو جهل: {اللهم إن كان هذا هو الحق
من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فنزلت {وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ومَا لَهُمْ أنْ لا يُعَذِبَهُمُ الله وهُم يَصُدّونَ عن
المَسْجِدِ الحَرَامِ} الآية
قوله: "باب قوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}
تقدم شرحه في الذي قبله.
(8/309)
باب {وقاتلوهم حتى
لا تكون فتنة ويكون الدين لله}
...
5- باب {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ
لِلَّهِ}
4650- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا حَيْوَةُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ
نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً جَاءَهُ
فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلاَ تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ
(8/309)
6- باب {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ
يَفْقَهُونَ}
4652- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا نَزَلَتْ {إِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فَكُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ
لاَ يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ فَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ لاَ
يَفِرَّ عِشْرُونَ مِنْ مِائَتَيْنِ ثُمَّ نَزَلَتْ {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنْكُمْ} الآيَةَ فَكَتَبَ أَنْ لاَ يَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ وَزَادَ
سُفْيَانُ مَرَّةً نَزَلَتْ {حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَأُرَى
الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ مِثْلَ هَذَا"
[الحديث 4652- طرفه في: 4653]
قوله: "باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
الْقِتَالِ} الآية" ساق غير أبي ذر الآية إلى {يَفْقَهُونَ} وسقط عندهم
"باب" . قوله: "عن عمرو" هو ابن دينار. قوله: "فكتب
عليهم أن لا يفر" أي فرض عليهم، والسياق وإن كان بلفظ الخبر لكن المراد منه
الأمر لأمرين: أحدهما أنه لو كان خبرا محضا للزم وقوع خلاف المخبر به وهو محال فدل
على أنه أمر، والثاني لقرينة التخفيف فإنه لا يقع إلا بعد تكليف، والمراد بالتخفيف
هنا التكليف بالأخف لا رفع الحكم أصلا. قوله: "أن لا يفر واحد من عشرة، فقال
سفيان غير مرة أن لا يفر عشرون من مائتين" أي أن سفيان كان يرويه بالمعنى،
فتارة يقول باللفظ الذي وقع في القرآن محافظة على التلاوة وهو الأكثر، وتارة يرويه
بالمعنى
(8/311)
وهو أن لا يفر واحد من العشرة، ويحتمل أن يكون سمعه باللفظين ويكون التأويل من غيره، ويؤيده الطريق التي بعد هذه فإن ذلك ظاهر في أنه من تصرف ابن عباس. وقد روى الطبري من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: "جعل على الرجل عشرة من الكفار، ثم خفف عنهم فجعل على الرجل رجلان" وروى أيضا الطبري من طريق علي بن أبي طلحة ومن طريق العوفي وغيرهما عن ابن عباس نحوه مطولا ومختصرا. قوله: "وزاد سفيان" كأنه حدث مرة بالزيادة ومرة بدونها. وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: "كان الرجل لا ينبغي له أن يفر من عشرة، ثم أنزل الله {الآنَ خَفْفَ اللهُ عَنْكُم} الآية فجعل الرجل منهم لا ينبغي له أن يفر من اثنين" وهذا يؤيد ما قلناه أنه من تصرف ابن عباس لا ابن عيينة، فكأنه سمعه من عمرو بن دينار باللفظين، وسأذكر ما فيه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. قوله: "قال سفيان وقال ابن شبرمة" هو عبد الله قاضي الكوفة وهو موصول، ووهم من زعم أنه معلق فإن في رواية ابن أبي عمر عن سفيان عند أبي نعيم في المستخرج" قال سفيان فذكرته لابن شبرمة فذكر مثله" . قوله: "وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا" أي أنه عنده في حكم الجهاد، لجامع ما بينهما من إعلاء كلمة الحق وإخماد كلمة الباطل
(8/312)
7- باب {الآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا} الآيَةَ إِلَى
قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
4653- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ أَخْبَرَنِي
الزُّبَيْرُ بْنُ خِرِّيتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ
عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ فَجَاءَ التَّخْفِيفُ فَقَالَ
{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ فَلَمَّا خَفَّفَ
اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنْ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خُفِّفَ
عَنْهُم"
قوله باب {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا} الآية
"زاد غير أبي ذر" إلى قوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . قوله:
"أخبرني الزبير بن الخريت" بكسر المعجمة وتشديد الراء بعدها تحتانية ساكنة
ثم مثناة فوقانية بصري ثقة من صغار التابعين، وقد تقدم ذكره في كتاب المظالم.
ولجرير بن حازم راوي هذا الحديث عن الزبير بن الخريت شيخ آخر أخرجه ابن مردويه من
طريق إسحاق بن إبراهيم بن راهويه في تفسيره عن وهب ابن جرير بن حازم عن أبيه عن
محمد بن إسحاق" حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس" وقد
أخرجه الإسماعيلي من طريق زياد بن أيوب عن وهب بن جرير عن أبيه عن الزبير، وهو مما
يؤيد أن لجرير فيه طريقين، ولفظ رواية عطاء "افترض الله عليهم أن يقاتل
الواحد عشرة، فشق عليهم، فوضع الله عنهم إلى أن يقاتل الواحد الرجلين" ثم ذكر
الآية وزاد بعدها "ثم قال لولا كتاب من الله سبق" فذكر تفسيرها ثم قال:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى} فذكر قول
العباس في العشرين وفي قوله: "فأعطاني عشرين عبدا كلهم قد تاجر بمالي مع ما أرجوه
من مغفرة الله تعالى". قلت: وفي سند طريق عطاء محمد بن إسحاق، وليست هذه
القصة عنده مسندة بل معضلة، وصنيع ابن إسحاق - وتبعه الطبراني وابن مردويه - يقتضي
أنها موصولة، والعلم عند الله تعالى.
قوله:
(8/312)
"شق ذلك على المسلمين" زاد الإسماعيلي من طريق سفيان بن أبي شيبة عن جرير "جهد الناس ذلك وشق عليهم" . قوله: "فجاء التخفيف" في رواية الإسماعيلي:"فنزلت الآية الأخرى - وزاد - ففرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين ولا قوم من مثلهم" واستدل بهذا الحديث على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار وتحريم الفرار عليه منهما، سواء طلبه أو طلبهما، سواء وقع ذلك وهو واقف في الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر، وهذا هو ظاهر تفسير ابن عباس ورجحه ابن الصباغ من الشافعية وهو المعتمد لوجود نص الشافعي عليه في الرسالة الجديدة رواية الربيع ولفظه ومن نسخة عليها خط الربيع نقلت قال بعد أن ذكر للآية آيات في كتابه أنه وضع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة وأثبت عليهم أن يقوم الواحد بقتال الاثنين، ثم ذكر حديث ابن عباس المذكور في الباب وساق الكلام عليه، لكن المنفرد لو طلباه وهو على غير أهبة جاز له التولي عنهما جزما، وإن طلبهما فهل يحرم؟ وجهان أصحهما عند المتأخرين لا، لكن ظاهر هذه الآثار المتضافرة عن ابن عباس يأباه وهو ترجمان القرآن وأعرف الناس بالمراد، لكن يحتمل أن يكون ما أطلقه إنما هو في صورة ما إذا قاوم الواحد المسلم من جملة الصف في عسكر المسلمين اثنين من الكفار، أما المنفرد وحده بغير العسكر فلا، لأن الجهاد إنما عهد بالجماعة دون الشخص المنفرد، وهذا فيه نظر، فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه سرية وحده. وقد استوعب الطبري وابن مردويه طرق هذا الحديث عن ابن عباس وفي غالبها التصريح بمنع تولي الواحد عن الاثنين، واستدل ابن عباس في بعضها بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} وبقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} . قوله: "فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر" كذا في رواية ابن المبارك. وفي رواية وهب بن جرير عن أبيه عند الإسماعيلي: "نقص من النصر" وهذا قاله ابن عباس توقيفا على ما يظهر، ويحتمل أن يكون قاله بطريق الاستقراء.
(8/313)
9- سورة بَرَاءَةَ
{وَلِيجَةً} كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ {الشُّقَّةُ} السَّفَرُ
الْخَبَالُ الْفَسَادُ وَالْخَبَالُ الْمَوْتُ وَلاَ تَفْتِنِّي لاَ تُوَبِّخْنِي
كَرْهًا وَ كُرْهًا وَاحِدٌ مُدَّخَلًا يُدْخَلُونَ فِيهِ يَجْمَحُونَ يُسْرِعُونَ
وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ائْتَفَكَتْ انْقَلَبَتْ بِهَا الأَرْضُ أَهْوَى أَلْقَاهُ فِي
هُوَّةٍ عَدْنٍ خُلْدٍ عَدَنْتُ بِأَرْضٍ أَيْ أَقَمْتُ وَمِنْهُ مَعْدِنٌ وَيُقَالُ
فِي مَعْدِنِ صِدْقٍ فِي مَنْبَتِ صِدْقٍ الْخَوَالِفُ الْخَالِفُ الَّذِي
خَلَفَنِي فَقَعَدَ بَعْدِي وَمِنْهُ يَخْلُفُهُ فِي الْغَابِرِينَ وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ النِّسَاءُ مِنْ الْخَالِفَةِ وَإِنْ كَانَ جَمْعَ الذُّكُورِ فَإِنَّهُ
لَمْ يُوجَدْ عَلَى تَقْدِيرِ جَمْعِهِ إِلاَّ حَرْفَانِ فَارِسٌ وَفَوَارِسُ
وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ الْخَيْرَاتُ وَاحِدُهَا خَيْرَةٌ وَهِيَ الْفَوَاضِلُ
مُرْجَئُونَ مُؤَخَّرُونَ الشَّفَا شَفِيرٌ وَهُوَ حَدُّهُ وَالْجُرُفُ مَا
تَجَرَّفَ مِنْ السُّيُولِ وَالأَوْدِيَةِ هَارٍ هَائِرٍ يُقَالُ تَهَوَّرَتْ
الْبِئْرُ إِذَا انْهَدَمَتْ وَانْهَارَ مِثْلُهُ لاَوَّاهٌ شَفَقًا وَفَرَقًا
وَقَالَ:
إِذَا ما قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ
(8/313)
قوله: "سورة براءة" هي سورة التوبة وهي أشهر أسمائها، ولها أسماء أخرى تزيد على العشرة، واختلف في ترك البسملة أولها فقيل لأنها نزلت بالسيف والبسملة أمان، وقيل لأنهم لما جمعوا القرآن شكوا هل هي والأنفال واحدة أو ثنتان ففصلوا بينهما بسطر لا كتابة فيه ولم يكتبوا فيه البسملة. وروى ذلك ابن عباس عن عثمان وهو المعتمد، وأخرجه أحمد والحاكم وبعض أصحاب السنن. قوله: "مرصد طريق" كذا في بعض النسخ، وسقط للأكثر وهو قول أبو عبيدة قال في قوله تعالى: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي كل طريق، والمراصد الطرق. قوله: "إلا: الإل القرابة والذمة والعهد" تقدم في الجزية. قوله: "وليجة: كل شيء أدخلته في شيء" تقدم في بدء الخلق وسقط هو والذي قبله لأبي ذر. قوله: "الشقة السفر" هو كلام أبي عبيدة وزاد: "البعيد" وقيل الشقة الأرض التي يشق سلوكها. قوله: "الخبال الفساد" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: { مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} : الخبال الفساد. قوله: "والخبال الموت" كذا لهم والصواب الموتة بضم الميم وزيادة هاء في آخره وهو ضرب من الجنون. قوله: "ولا تفتني لا توبخني" كذا للأكثر بالموحدة والخاء المعجمة من التوبيخ، وللمستملي والجرجاني "توهني" بالهاء وتشديد النون من الوهن وهو الضعف، ولابن السكن "تؤثمني" بمثلثة ثقيلة وميم ساكنة من الإثم، قال عياض وهو الصواب، وهي الثابتة في كلام أبي عبيدة الذي يكثر المصنف النقل عنه، وأخرجه الطبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: "ولا تفتني" قال: لا تؤثمني {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} ألا في الإثم سقطوا. قوله: "كرها وكرها واحد" أي بالضم والفتح وهو كلام أبي عبيدة أيضا، وسقط لأبي ذر، وبالضم قرأ الكوفيون حمزة والأعمش ويحيى بن وثاب والكسائي والباقون بالفتح. قوله: "مدخلا يدخلون فيه" قال أبو عبيدة في قوله: "ملجأ يلجئون إليه أو مغارات أو مدخلا" يدخلون فيه ويتغيبون انتهى، وأصل مدخلا مدتخلا فأدغم وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر بتشديد الخاء أيضا، وعن ابن كثير في رواية مدخلا بفتحتين بينهما سكون "يجمحون" يسرعون هو قول أبي عبيدة وزاد: لا يرد وجوههم شيء، ومنه فرس جموح. قوله: "والمؤتفكات ائتفكت انقلبت بها الأرض" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} هم قوم لوط ائتفكت بهم الأرض أي انقلبت بهم. قوله: "أهوى ألقاه في هوة" هذه اللفظة لم تقع في سورة براءة وإنما هي في سورة النجم، ذكرها المصنف هنا استطرادا من قوله: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} . قوله: "عدن خلد إلخ" واقتصر أبو ذر على ما هنا، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي خلد يقال: عدن فلان بأرض كذا أي أقام، ومنه المعدن، عدنت بأرض أقمت، ويقال في معدن صدق. قوله: "الخوالف الخالف الذي خلفني فقعد بعدي، ومنه يخلفه في الغابرين" قال أبو عبيدة في قوله: {مَعَ الْخَالِفِينَ} الخالف الذي خلف بعد شاخص فقعد في رحله، وهو من تخلف عن القوم، ومنه اللهم اخلفني في ولدي. وأشار بقوله: "ومنه يخلفه في الغابرين" إلى حديث عوف بن مالك في الصلاة على الجنازة. قوله: "ويجوز أن يكون النساء من الخالفة، وإن كان جمع الذكور فإنه لم يوجد على تقدير جمعه إلا حرفان فارس وفوارس وهالك وهوالك" قال أبو عبيدة في قوله: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} يجوز أن يكون الخوالف هاهنا النساء، ولا يكادون يجمعون الرجال على فواعل، غير أنهم قد قالوا فارس وفوارس وهالك وهوالك انتهى. وقد استدرك عليه ابن مالك شاهق وشواهق وناكس ونواكس وداجن ودواجن، وهذه الثلاثة مع الاثنين جمع فاعل وهو شاذ، والمشهور في فواعل جمع فاعلة، فإن كان من صفة النساء فواضح وقد تحذف الهاء في صفة المفرد
(8/314)
من النساء وإن كان
من صفة الرجال فالهاء للمبالغة يقال رجل خالفة لا خير فيه: والأصلي في جمعه
بالنون. واستدرك بعض الشراح على الخمسة المتقدمة كأهل وكواهل وجائح وجوائح وغارب
وغوارب وغاش وغواش، ولا يرد شيء منها لأن الأولين ليسا من صفات الآدميين، والآخران
جمع غارب وغاشية والهاء للمبالغة إن وصف بها المذكر، وقد قال المبرد في الكامل في
قول الفرزدق:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأذقان
احتاج الفرزدق لضرورة الشعر فأجرى نواكس على أصله، ولا يكون مثل هذا أبدا إلا في
ضرورة، ولا تجمع النجاة ما كان من فاعل نعتا على فواعل لئلا يلتبس بالمؤنث، ولم
يأت ذا إلا في حرفين فارس وفوارس، وهالك وهوالك، أما الأول فإنه لا يستعمل في
الفرد فأمن فيه اللبس، وأما الثاني فلأنه جرى مجرى المثل يقولون هالك في الهوالك
فأجروه على أصله لكثرة الاستعمال. قلت: فظهر أن الضابط في هذا أن يؤمن اللبس أو
يكثر الاستعمال أو تكون الهاء للمبالغة أو يكون في ضرورة الشعر والله أعلم. وقال
ابن قتيبة: الخوالف النساء ويقال خساس النساء ورذالتهم، ويقال فلان خالفه أهله إذا
كان دينا فيهم. والمراد بالخوالف في الآية النساء والرجال العاجزون والصبيان فجمع
جمع المؤنث تغليبا لكونهن أكثر في ذلك من غيرهن. وأما قوله: {مَعَ الْخَالِفِينَ} فجمع
جمع الذكور تغليبا لأنه الأصل. قوله: "الخيرات واحدها خيرة وهي الفواضل"
قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} جمع خيرة ومعناها
الفاضلة من كل شيء. قوله: "مرجون مؤخرون" سقط هذا لأبي ذر. قوله:
"الشفا الشفير وهو حده" في رواية الكشميهني وهو حرفه. قوله:
"والجرف ما تجرف من السيول والأودية" قال أبو عبيدة في قوله تعالى:
{شَفَا جُرُفٍ} الشفا الشفير، والجرف ما لم بين من الركايا، قال: والآية على
التمثيل لأن الذي يبني على الكفر فهو على شفا جرف وهو ما تجرف من السيول والأودية
ولا يثبت البناء عليه. قوله: "هار هائر، تهورت البئر إذا انهدمت، وانهار
مثله" قال أبو عبيدة في قوله تعالى :{هَارٍ} أي هائر: والعرب تنزع الياء التي
في الفاعل، وقيل لا قلب فيه وإنما هو بمعنى ساقط، وقد تقدم شيء من هذا في آل عمران
قوله: "لأواه شفقا وفرقا، قال الشاعر:
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} : هو فعاله من
التأوه ومعناه متضرع شفقا وفرقا لطاعة ربه قال الشاعر فذكره. وقوله:
"أرحلها" هو بفتح الهمزة والحاء المهملة، وقوله: "آهة" بالمد
للأكثر وفي رواية الأصيلي بتشديد الهاء بلا مد. "تنبيه" هذا الشعر
للمثقب العبدي واسمه جحاش بن عائذ، وقيل ابن نهار وهو من جملة قصيدة أولها:
أفاطم قبل بينك متعيني ... ومنعك ما سألت كأن تبيني
ولا تعدي مواعد كاذبات ... تمر بها رياح الصيف دوني
فإني لو تخالفني شمالي ... لما أتبعتها أبدا يميني
ويقول فيها:
فأما أن تكون أخي بحق ... فأعرف منك غثي من سميني
(8/315)
وإلا فاطرحني
واتخذني ... عدوا أتقيك وتتقيني
وهي كثيرة الحكم والأمثال. وكان أبو محمد بن العلاء يقول: لو كان الشعر مثلها وجب
على الناس أن يتعلموه.
(8/316)
1- باب {بَرَاءَةٌ
مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ}
أَذَانٌ إِعْلاَمٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أُذُنٌ يُصَدِّقُ تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَنَحْوُهَا كَثِيرٌ وَالزَّكَاةُ الطَّاعَةُ وَالإِخْلاَصُ
لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ لاَ يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
يُضَاهُونَ يُشَبِّهُون"
قوله: "باب قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} - إلى – {الَّذِينَ
عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . أذان إعلام" قال أبو عبيدة في قوله
تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال علم من الله، وهو مصدر من قولك
أذنتهم أي أعلمتهم. قوله: "وقال ابن عباس: أذن يصدق" وصله ابن أبي حاتم
من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "ويقولون هو أذن" يعني
أنه يسمع من كل أحد، قال الله {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ}
يعني يصدق بالله، وظهر أن يصدق تفسير يؤمن لا تفسير أذن كما يفهمه صنيع المصنف حيث
اختصره. قوله: "تطهرهم وتزكيهم بها ونحوها كثير" وفي بعض النسخ
"ومثل هذا كثير" أي في القرآن، ويقال التزكية "والزكاة الطاعة
والإخلاص" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله:
{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} قال: الزكاة طاعة الله والإخلاص. قوله: "لا
يؤتون الزكاة لا يشهدون أن لا إله إلا الله" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي
بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا
يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} قال: هم الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله. وهذه الآية من
تفسير فصلت ذكرها هنا استطرادا. وفي تفسير ابن عباس الزكاة بالطاعة والتوحيد دفع
لاحتجاج من احتج بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. قوله: "يضاهون
يشبهون" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله
تعالى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي يشبهون. وقال أبو عبيدة:
المضاهاة التشبيه. ثم ذكر حديث البراء في آخر آية نزلت وآخر سورة نزلت، فأما الآية
فتقدم حديث ابن عباس في سورة البقرة وأن آخر آية نزلت آية الربا، ويجمع بأنهما لم
ينقلاه وإنما ذكراه عن استقراء بحسب ما اطلعا عليه، وأولى من ذلك أن كلا منهما
أراد آخرية مخصوصة، وأما السورة فالمراد بعضها أو معظمها وإلا ففيها آيات كثيرة
نزلت قبل سنة الوفاة النبوية، وأوضح من ذلك أن أول براءة نزل عقب فتح مكة في سنة
تسع عام حج أبي بكر وقد نزل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وهي في
المائدة في حجة الوداع سنة عشر، فالظاهر أن المراد. معظمها، ولا شك أن غالبها نزل
في غزوة تبوك وهي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في تفسير {إِذَا
جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} أنها آخر سورة نزلت وأذكر الجمع هناك إن شاء الله تعالى.
وقد قيل في آخرية نزول براءة أن المراد بعضها، فقيل قوله: {فَإِنْ تَابُوا
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} الآية وقيل {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}
وأصح
(8/316)
الأقوال في آخرية الآية قوله تعالى: {واتْقُوا يَومَاً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللهِ} كما تقدم في البقرة، ونقل ابن عبد السلام "آخر آية نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما ثم نزلت آية البقرة" والله أعلم.
(8/317)
باب {فسيحوا في
الأرض أربعة أشهرا...}
...
2- باب {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ
مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} سِيحُوا: سِيرُوا
4655- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ
حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَنِي أَبُو
بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ
يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ
بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ أَرْدَفَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَذَّنَ مَعَنَا
عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ فِي أَهْلِ مِنًى بِبَرَاءَةَ وَأَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ
الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَان"
قوله: "باب {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ساق إلى
"الكافرين" . "فسيحوا سيروا" هو كلام أبي عبيدة بزيادة قال في
قوله تعالى:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} قال: سيروا وأقبلوا وأدبروا. قوله:
"حدثني الليث عن عقيل" في الرواية التي بعدها "حدثني الليث حدثني
عقيل" ولليث فيه شيخ آخر تقدم في كتاب الحج عن يحيى بن بكير عن الليث عن
يونس. قوله: "عن ابن شهاب وأخبرني حميد" قال الكرماني: بواو العطف
إشعارا بأنه أخبره أيضا بغير ذلك، وقيل فهو عطف على مقدر. قلت: لم أر في طرق حديث
أبي هريرة عن أبي بكر الصديق زيادة إلا ما وقع في رواية شعيب عن الزهري، فإن فيه:
"كان المشركون يوافون بالتجارة فينتفع بها المسلمون، فلما حرم الله على
المشركين أن يقربوا المسجد الحرام وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عنهم من
التجارة، فنزلت: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} الآية ثم أحل في الآية الأخرى
الجزية" الحديث أخرجه الطبراني وابن مردويه مطولا من طريق شعيب، وهو عند
المصنف في كتاب الجزية من هذا الوجه. قوله: "أن أبا هريرة رضي الله عنه قال:
بعثني" في رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب في الباب الذي يليه "أن أبا
هريرة أخبره" .
(8/317)
3- باب {وَأَذَانٌ
مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ
اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ
وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} آذَنَهُمْ أَعْلَمَهُمْ
4656- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي
عُقَيْلٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي
تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي الْمُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ
بِمِنًى أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ
عُرْيَانٌ قَالَ حُمَيْدٌ ثُمَّ أَرْدَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
(8/317)
4- بَاب {إِلاَّ
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ}
4657- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ
فِي النَّاسِ أَنْ لاَ يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ
بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ فَكَانَ حُمَيْدٌ يَقُولُ يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ
الأَكْبَرِ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة"
قوله: "حدثني إسحاق" هو ابن منصور كما جزم به المزي ويعقوب بن إبراهيم
أي ابن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وصالح هو ابن كيسان، وقد تقدم في
أوائل الصلاة من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن
(8/320)
ابن أخي ابن شهاب عن عمه، فله فيه طريقان، وسياقه عن ابن أخي ابن شهاب موافق لسياق عقيل، وأما رواية صالح فوقع في آخرها "فكان حميد يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة" وهذه الزيادة قد أدرجها شعيب عن الزهري كما تقدم في الجزية ولفظه عن أبي هريرة "بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم مشرك" انتهى وقوله: "ويوم الحج الأكبر يوم النحر" هو قول حميد بن عبد الرحمن استنبطه من قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} ومن مناداة أبي هريرة بذلك بأمر أبي بكر يوم النحر، فدل على أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم النحر، وسياق رواية شعيب يوهم أن ذلك مما نادى به أبو بكر، وليس كذلك فقد تضافرت الروايات عن أبي هريرة بأن الذي كان ينادي به هو ومن معه من قبل أبي بكر شيئان: منع حج المشركين، ومنع طواف العريان، وأن عليا أيضا كان ينادي بهما، وكان يزيد: من كان له عهد فعهده إلى مدته، وأن لا يدخل الجنة إلا مسلم. وكأن هذه الأخيرة كالتوطئة لأن لا يحج البيت مشرك، وأما التي قبلها فهي التي اختص علي بتبليغها، ولهذا قال العلماء: إن الحكمة في إرسال علي بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده أو من هو منه بسبيل من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم، ولهذا قال: "لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي" وروى أحمد والنسائي من طريق محرر بن أبي هريرة عن أبيه قال كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ببراءة، فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله أربعة أشهر فإذا مضت فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج بعد العام مشرك. فكنت أنادي حتى صحل صوتي "وقوله وإنما قيل الأكبر إلخ في حديث ابن عمر عند أبي داود وأصله في هذا الصحيح رفعه:"أي يوم هذا؟ قالوا: هذا يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر" واختلف في المراد بالحج الأصغر فالجمهور على أنه العمرة، وصل ذلك عبد الرزاق من طريق عبد الله بن شداد أحد كبار التابعين، ووصله الطبري عن جماعة منهم عطاء والشعبي، وعن مجاهد: الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد. وقيل يوم الحج الأصغر يوم عرفة ويوم الحج الأكبر يوم النحر لأن فيه تتكمل بقية المناسك. وعن الثوري: أيام الحج تسمى يوم الحج الأكبر كما يقال يوم الفتح. وأيده السهيلي بأن عليا أمر بذلك في الأيام كلها. وقيل لأن أهل الجاهلية كانوا يقفون بعرفة وكانت قريش تقف بالمزدلفة، فإذا كانت صبيحة النحر وقف الجميع بالمزدلفة فقيل له الأكبر لاجتماع الكل فيه، وعن الحسن: سمي بذلك لاتفاق حج جميع الملل فيه: وروى الطبري من طريق أبي جحيفة وغيره: أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة. ومن طريق سعيد بن جبير أنه النحر. واحتج بأن اليوم التاسع وهو يوم عرفة إذا انسلخ قبل الوقوف لم يفت الحج بخلاف العاشر فإن الليل إذا انسلخ قبل الوقوف فات. وفي رواية الترمذي من حديث علي مرفوعا وموقوفا "يوم الحج الأكبر يوم النحر" ورجح الموقوف، وقوله: "فنبذ أبو بكر إلخ" وهو أيضا مرسل من قول حميد بن عبد الرحمن، والمراد أن أبا بكر أفصح لهم بذلك، وقيل إنما لم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أبي بكر عنه ببراءة لأنها تضمنت مدح أبي بكر، فأراد أن يسمعوها من غير أبي بكر، وهذه غفلة من قائله حمله عليها ظنة أن المراد تبليغ براءة كلها، وليس الأمر كذلك
(8/321)
لما قدمناه، وإنما أمر بتبليغه منها أوائلها فقط، وقد قدمت حديث جابر وفيه: "أن عليا قرأها حتى ختمها" وطريق الجمع فيه، واستدل به علي أن حجة أبي بكر كانت في ذي الحجة على خلاف المنقول عن مجاهد وعكرمة بن خالد، وقد قدمت النقل عنهما بذلك في المغازي، ووجه الدلالة أن أبا هريرة قال: "بعثني أبو بكر في تلك الحجة يوم النحر" وهذا لا حجة فيه لأن قول مجاهد إن ثبت فالمراد بيوم النحر الذي هو صبيحة يوم الوقوف سواء كان الوقوف وقع في ذي القعدة أو في ذي الحجة. نعم روى ابن مردويه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "كانوا يجعلون عاما شهرا وعاما شهرين" يعنى يحجون في شهر واحد مرتين في سنتين ثم يحجون في الثالث في شهر آخر غيره، قال: فلا يقع الحج في أيام الحج إلا في كل خمسة وعشرين سنة، فلما كان حج أبي بكر وافق ذلك العام شهر الحج فسماه الله الحج الأكبر. "تنبيه" : اتفقت الروايات على أن حجة أبي بكر كانت سنة تسع، ووقع في حديث لعبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال: "لما كان زمن خيبر اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة. ثم أمر أبا بكر الصديق على تلك الحجة. قال الزهري: وكان أبو هريرة يحدث أن أبا بكر أمره أن يؤذن ببراءة، ثم أتبع النبي صلى الله عليه وسلم عليا، الحديث. قال الشيخ عماد الدين بن كثير: هذا فيه غرابة من جهة أن الأمير في سنة عمرة الجعرانة كان عتاب بن أسيد، وأما حجة أبي بكر فكانت سنة تسع. قلت: يمكن رفع الإشكال بأن المراد بقوله: "ثم أمر أبا بكر" يعني بعد أن رجع إلى المدينة وطوى ذلك من ولي الحج سنة ثمان. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من العمرة إلى الجعرانة فأصبح بها توجه هو ومن معه إلى المدينة، إلى أن جاء أوان الحج فأمر أبا بكر وذلك سنة تسع. وليس المراد أنه أمر أبا بكر أن يحج في السنة التي كانت فيها عمرة الجعرانة. وقوله: "على تلك الحجة" يريد الآتية بعد رجوعهم إلى المدينة.
(8/322)
5- باب
{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ}
4658- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ
مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الآيَةِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ وَلاَ مِنْ
الْمُنَافِقِينَ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ إِنَّكُمْ أَصْحَابَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُخْبِرُونَا فَلاَ نَدْرِي فَمَا
بَالُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ بُيُوتَنَا وَيَسْرِقُونَ أَعْلاَقَنَا
قَالَ أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ أَجَلْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ
أَحَدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَوْ شَرِبَ الْمَاءَ الْبَارِدَ لَمَا وَجَدَ
بَرْدَه"
(8/322)
6- باب
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
4659- حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ
حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَكُونُ كَنْزُ
أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَع"
4660- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ
زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ مَرَرْتُ عَلَى أَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ فَقُلْتُ مَا
أَنْزَلَكَ بِهَذِهِ الأَرْضِ قَالَ كُنَّا بِالشَّأْمِ فَقَرَأْتُ {وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
(8/322)
7- باب {يَوْمَ
يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ
تَكْنِزُونَ}
4661- وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ
عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا
أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلأَمْوَالِ
قوله: "باب قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}
الآية" . قوله: "يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع" كذا أورده
مختصرا، وهو عند أبي نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن أبي اليمان وزاد:
"يفر منه صاحبه ويطلبه، أنا كنزك، فلا يزال به حتى يلقمه إصبعه" وكذا
أخرجه النسائي من طريق علي بن عياش عن شعيب، وقد تقدم من وجه آخر عن أبي هريرة في كتاب
الزكاة مع شرح حديث أبي ذر في قصته مع معاوية في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه} وقد
تقدم في الزكاة أيضا مع شرحه. قوله باب قوله عز وجل: { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا
فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا} الآية" قوله: "وقال أحمد بن
شبيب" كذا أورده مختصرا، وتقدم بأتم منه في كتاب الزكاة مع شرحه.
(8/324)
8- باب {إِنَّ
عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ
يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ} هُوَ الْقَائِمُ
4662- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ
بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي
بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ
الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثٌ
مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ
الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان"
قوله: "باب قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ
شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} أي إن الله
سبحانه وتعالى لما ابتدأ خلق السموات والأرض جعل السنة اثني عشر شهرا. قوله:
"منها أربعة حرم" قد ذكر تفسيرها في حديث الباب. قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ} قال أبو عبيدة في قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} مجازة القائم أي
المستقيم، فخرج مخرج سيد، من ساد يسود كقام يقوم. قوله: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ} أي في الأربعة باستحلال القتال، وقيل بارتكاب المعاصي. قوله:
"إن الزمان قد استدار كهيئته" تقدم الكلام عليه في أوائل بدء الخلق، وأن
المراد بالزمان السنة. وقوله: "كهيئته" أي استدار استدارة مثل حالته.
ولفظ: "الزمان" يطلق على قليل الوقت وكثيره، والمراد باستدارته وقوع
تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل والنهار.
ووقع في حديث ابن عمر عند ابن مردويه "أن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته
يوم خلق الله السموات والأرض" . قوله: "السنة اثنا عشر شهرا" أي
السنة العربية الهلالية،
(8/324)
9- باب {ثَانِيَ
اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ
اللَّهَ مَعَنَا}
أَيْ نَاصِرُنَا السَّكِينَةُ فَعِيلَةٌ مِنْ السُّكُونِ
4663- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا
هَمَّامٌ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا قَالَ مَا ظَنُّكَ
بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا"
(8/325)
4664- حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ
عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُ قَالَ حِينَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ قُلْتُ أَبُوهُ
الزُّبَيْرُ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ وَجَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ
وَجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ فَقُلْتُ لِسُفْيَانَ إِسْنَادُهُ فَقَالَ حَدَّثَنَا
فَشَغَلَهُ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَقُلْ ابْنُ جُرَيْج"
[الحديث 4664- طرفه في: 4665، 4666]
4665- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ
مَعِينٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ
وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فَغَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ أَتُرِيدُ
أَنْ تُقَاتِلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَتُحِلَّ حَرَمَ اللَّهِ فَقَالَ مَعَاذَ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَبَنِي أُمَيَّةَ مُحِلِّينَ
وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُحِلُّهُ أَبَدًا قَالَ قَالَ النَّاسُ بَايِعْ لابْنِ
الزُّبَيْرِ فَقُلْتُ وَأَيْنَ بِهَذَا الأَمْرِ عَنْهُ أَمَّا أَبُوهُ
فَحَوَارِيُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الزُّبَيْرَ
وَأَمَّا جَدُّهُ فَصَاحِبُ الْغَارِ يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ وَأُمُّهُ فَذَاتُ
النِّطَاقِ يُرِيدُ أَسْمَاءَ وَأَمَّا خَالَتُهُ فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ
عَائِشَةَ وَأَمَّا عَمَّتُهُ فَزَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُرِيدُ خَدِيجَةَ وَأَمَّا عَمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَجَدَّتُهُ يُرِيدُ صَفِيَّةَ ثُمَّ عَفِيفٌ فِي الإِسْلاَمِ قَارِئٌ
لِلْقُرْآنِ وَاللَّهِ إِنْ وَصَلُونِي وَصَلُونِي مِنْ قَرِيبٍ وَإِنْ رَبُّونِي
رَبُّونِي أَكْفَاءٌ كِرَامٌ فَآثَرَ التُّوَيْتَاتِ وَالأُسَامَاتِ
وَالْحُمَيْدَاتِ يُرِيدُ أَبْطُنًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ بَنِي تُوَيْتٍ وَبَنِي
أُسَامَةَ وَبَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ أَبِي الْعَاصِ بَرَزَ يَمْشِي
الْقُدَمِيَّةَ يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَإِنَّهُ لَوَّى
ذَنَبَهُ يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْر"
4666- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ
يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ
دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ أَلاَ تَعْجَبُونَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ
قَامَ فِي أَمْرِهِ هَذَا فَقُلْتُ لاَحَاسِبَنَّ نَفْسِي لَهُ مَا حَاسَبْتُهَا
لِأَبِي بَكْرٍ وَلاَ لِعُمَرَ وَلَهُمَا كَانَا أَوْلَى بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْهُ
وَقُلْتُ ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ
الزُّبَيْرِ وَابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ وَابْنُ أُخْتِ
عَائِشَةَ فَإِذَا هُوَ يَتَعَلَّى عَنِّي وَلاَ يُرِيدُ ذَلِكَ فَقُلْتُ مَا
كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أَعْرِضُ هَذَا مِنْ نَفْسِي فَيَدَعُهُ وَمَا أُرَاهُ
يُرِيدُ خَيْرًا وَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ لاَنْ يَرُبَّنِي بَنُو عَمِّي أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي غَيْرُهُم"
قوله: "باب قوله: {ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أي ناصرنا" قال أبو عبيدة في
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أي ناصرنا وحافظنا. قوله: "السكينة
فعيلة من السكون" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "حدثنا عبد الله بن
محمد" هو الجعفي وهو المذكور في جميع أحاديث الباب إلا الطريق الأخير، وفي
شيوخه عبد الله بن محمد جماعة منهم أبو بكر بن أبي شيبة، ولكن حيث يطلق ذلك
فالمراد به الجعفي لاختصاصه به وإكثاره عنه. وحبان بفتح أوله ثم الموحدة الثقيلة
هو ابن هلال، وقد تقدم الحديث مع شرحه في مناقب أبي بكر. قوله: "حين وقع بينه
وبين ابن الزبير" أي بسبب البيعة، وذلك أن ابن الزبير حين مات معاوية امتنع
من البيعة
(8/326)
ليزيد بن معاوية وأصر على ذلك حتى أغرى يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة بالمدينة فكانت وقعة الحرة، ثم توجه الجيش إلى مكة فمات أميرهم مسلم بن عقبة وقام بأمر الجيش الشامي حصين بن نمير فحصر ابن الزبير بمكة، ورموا الكعبة بالمنجنيق حتى احترقت. ففجأهم الخبر بموت يزيد بن معاوية فرجعوا إلى الشام، وقام ابن الزبير في بناء الكعبة، ثم دعا إلى نفسه فبويع بالخلافة وأطاعه أهل الحجاز ومصر والعراق وخراسان وكثير من أهل الشام، ثم غلب مروان على الشام وقتل الضحاك بن قيس الأمير من قبل ابن الزبير بمرج راهط، ومضى مروان إلى مصر وغلب عليها، وذلك كله في سنة أربع وستين، وكمل بناء الكعبة في سنة خمس، ثم مات مروان في سنة خمس وستين وقام عبد الملك ابنه مقامه، وغلب المختار بن أبي عبيد على الكوفة ففر منه من كان من قبل ابن الزبير، وكان محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية وعبد الله بن عباس مقيمين بمكة منذ قتل الحسين، فدعاهما ابن الزبير إلى البيعة له فامتنعا وقالا: لا نبايع حتى يجتمع الناس على خليفة، وتبعهما جماعة على ذلك، فشدد عليهم ابن الزبير وحصرهم، فبلغ المختار فجهز إليهم جيشا فأخرجوهما واستأذنوهما في قتال ابن الزبير فامتنعا، وخرجا إلى الطائف فأقاما بها حتى مات ابن عباس سنة ثمان وستين، ورحل ابن الحنفية بعده إلى جهة رضوى جبل بينبع فأقام هناك، ثم أراد دخول الشام فتوجه إلى نحو أيلة فمات في آخر سنة ثلاث أو أول سنة أربع وسبعين، وذلك عقب قتل ابن الزبير على الصحيح، وقيل عاش إلى سنة ثمانين أو بعد ذلك، وعند الواقدي أنه مات بالمدينة سنة إحدى وثمانين، وزعمت الكيسانية أنه حي لم يمت وأنه المهدي وأنه لا يموت حتى يملك الأرض، في خرافات لهم كثيرة ليس هذا موضعها. وإنما لخصت ما ذكرته من طبقات ابن سعد وتاريخ الطبري وغيره لبيان المراد بقول ابن أبي مليكة" حين وقع بينه وبين ابن الزبير" ، ولقوله في الطريق الأخرى" فغدوت على ابن عباس فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير؟ وقول ابن عباس: قال الناس بايع لابن الزبير، فقلت: وأين بهذا الأمر عنه" أي أنه مستحق لذلك لما له من المناقب المذكورة، ولكن امتنع ابن عباس من المبايعة له لما ذكرناه. وروى الفاكهي من طريق سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال:"كان ابن عباس وابن الحنفية بالمدينة ثم سكنا مكة، وطلب منهما ابن الزبير البيعة فأبيا حتى يجتمع الناس على رجل، فضيق عليهما فبعث رسولا إلى العراق فخرج إليهما جيش في أربعة آلاف فوجدوهما محصورين، وقد أحضر الحطب فجعل على الباب يخوفهما بذلك، فأخرجوهما إلى الطائف" وذكر ابن سعد أن هذه القصة وقعت بين ابن الزبير وابن عباس في سنة ست وستين. قوله:"وأمه أسماء" أي بنت أبي بكر الصديق، وقوله:"وجدته صفية" أي بنت عبد المطلب، وقوله في الرواية الثانية" وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم يريد خديجة أطلق عليها عمته تجوزا وإنما هي عمة أبيه لأنها خديجة بنت خويلد أي ابن أسد، والزبير هو ابن العوام بن خويلد بن أسد، وكذا تجوز في الرواية الثالثة حيث قال: "ابن أبي بكر" وإنما هو ابن بنته، وحيث قال: "ابن أخي خديجة" وإنما هو ابن ابن أخيها العوام. قوله: "فقلت لسفيان إسناده" بالنصب أي اذكر إسناده، أو بالرفع أي ما إسناده. فقال: "حدثنا فشغله إنسان ولم يقل ابن جريج" ظاهر هذا أنه صرح له بالتحديث لكن لما يقل ابن جريج احتمل أن يكون أراد أن يدخل بينهما واسطة، واحتمل عدم الواسطة، ولذلك استظهر البخاري بإخراج الحديث من وجه آخر عن ابن جريج، ثم من وجه آخر عن شيخه. قوله في الطريق الثانية "حجاج" هو ابن محمد المصيصي. قوله: "قال ابن أبي مليكة وكان بينهما شيء" كذا أعاد الضمير بالتثنية على غير مذكور اختصارا
(8/327)
ومراده ابن عباس
وابن الزبير، وهو صريح في الرواية الأولى حيث قال قال ابن عباس حين وقع بينه وبين
ابن الزبير. قوله: "فتحل ما حرم الله" أي من القتال في الحرم. قوله:
"كتب" أي قدر. قوله: "محلين" أي أنهم كانوا يبيحون القتال في
الحرم، وإنما نسب ابن الزبير إلى ذلك وإن كان بنو أمية هم الذين ابتدءوه بالقتال
وحصروه وإنما بدأ منه أولا دفعهم عن نفسه لأنه بعد أن ردهم الله عنه حصر بني هاشم
ليبايعوه، فشرع فيما يؤذن بإباحته القتال في الحرم، وكان بعض الناس يسمى ابن
الزبير "المحل" لذلك، قال الشاعر يتغزل في أخته رملة:
ألا من لقلب معنى غزل ... بحب المحلة أخت المحل
وقوله لا أحله أبدا أي لا أبيح القتال فيه، وهذا مذهب ابن عباس أنه لا يقاتل في
الحرم ولو قوتل فيه. قوله: "قال قال الناس" القائل هو ابن عباس وناقل
ذلك عنه ابن أبي مليكة فهو متصل، والمراد بالناس من كان من جهة ابن الزبير وقوله:
"بايع" بصيغة الأمر وقوله: "وأين بهذا الأمر" أي الخلافة أي
ليست بعيدة عنه لما له من الشرف بأسلافه الذين ذكرهم ثم صفته التي أشار إليها
بقوله عفيف في الإسلام قارئ للقرآن. وفي رواية ابن قتيبة من طريق محمد بن الحكم عن
عوانة ومن طريق يحيى بن سعد عن الأعمش قال: "قال ابن عباس لما قيل له بايع
لابن الزبير: أين المذهب عن ابن الزبير وسيأتي الكلام على قوله في الرواية الثانية
ابن أبي بكر في تفسير الحجرات. قوله: "والله إن وصلوني وصلوني من قريب"
أي بسبب القرابة. قوله: "وإن ربوني" بفتح الراء وضم الموحدة الثقيلة من
التربية. قوله: "ربوني" في رواية الكشميهني ربني بالإفراد، وقوله:
"أكفاء" أي أمثال واحدها كفء، وقوله: "كرام" أي في أحسابهم،
وظاهر هذا أن مراد ابن عباس بالمذكورين بنو أسد رهط ابن الزبير وكلام أبي مخنف
الإخباري يدل على أنه أراد بني أمية، فإنه ذكر من طريق أخرى أن ابن عباس لما حضرته
الوفاة بالطائف جمع بنيه فقال: "يا بني إن ابن الزبير لما خرج بمكة شددت أزره
ودعوت الناس إلى بيعته وتركت بني عمنا من بني أمية الذين إن قبلونا قبلونا أكفاء،
وإن ربونا ربونا كراما. فلما أصاب ما أصاب جفاني" ويؤيد هذا ما في آخر
الرواية الثالثة حيث قال: "وإن كان لا بد لأن يربني بنو عمي أحب إلي من أن
يربني غيرهم" فإن بني عمه هم بنو أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف لأنهم من بني
عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف فعبد المطلب جد عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن
عم أمية جد مروان بن الحكم بن أبي العاص، وكان هاشم وعبد شمس شقيقين، قال الشاعر:
عبد شمس كان يتلو هاشما ... وهما بعد لأم ولأب
وأصرح من ذلك ما في خبر أبي مخنف فإن في آخره: "أن ابن عباس قال لبنيه: فإذا
دفنتموني فالحقوا ببني عمكم بني أمية" ثم رأيت بيان ذلك واضحا فيما أخرجه ابن
أبي خيثمة في تاريخه في الحديث المذكور فإنه قال بعد قوله ثم عفيف في الإسلام قارئ
للقرآن "وتركت بني عمي إن وصلوني وصلوني عن قريب" أي أذعنت له وتركت بني
عمي فآثر على غيري، وبهذا يستقيم الكلام، وأصرح من ذلك في رواية ابن قتيبة
المذكورة أن ابن عباس قال لابنه علي "الحق بابن عمك، فإن أنفك منك وإن كان
أجدع، فلحق علي بعبد الملك فكان آثر الناس عنده" . قوله: "فآثر
علي" بصيغة الفعل الماضي من الأثرة، ووقع في رواية الكشميهني فأين بتحتانية
ساكنة ثم نون وهو
(8/328)
تصحيف. وفي رواية
ابن قتيبة المذكورة "فشددت على عضده فآثر علي فلم أرض بالهوان" . قوله:
"التويتات والأسامات والحميدات يريد أبطنا من بني أسد" أما التويتات
فنسبة إلى بني تويت بن أسد ويقال تويت بن الحارث بن عبد العزى بن قصي، وأما
الأسامات فنسبة إلى بني أسامة بن أسد بن عبد العزي، وأما الحميدات فنسبة إلى بني
حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، قال الفاكهي: حدثنا الزبير بن بكار
عن محمد بن الضحاك في آخرين أن زهير بن الحارث دفن في الحجر. قال وحدثنا الزبير
قال: كان حميد بن زهير أول من بنى بمكة بيتا مربعا، وكانت قريش تكره ذلك لمضاهاة
الكعبة، فلما بنى حميد بيته قال قائلهم:
اليوم يبني لحميد بيته ... إما حياته وإما موته
فلما لم يصبه شيء تابعوه على ذلك. وتجتمع هذه الأبطن مع خويلد بن أسد جد ابن
الزبير، قال الأزرقي: كان ابن الزبير إذا دعا الناس في الإذن بدأ ببني أسد على بني
هاشم وبني عبد شمس وغيرهم، فهذا معنى قول ابن عباس "فآثر على التويتات
إلخ" قال: فلما ولي عبد الملك بن مروان قدم بني عبد شمس ثم بني هاشم وبني
المطلب وبني نوفل ثم أعطى بني الحارث بن فهر قبل بني أسد وقال: لأقدمن عليهم أبعد
بطن من قريش، فكان يصنع ذلك مبالغة منه في مخالفة ابن الزبير. وجمع ابن عباس
البطون المذكورة جمع القلة تحقيرا لهم. قوله: "يريد أبطنا من بني أسد بن
تويت" كذا وقع وصوابه يريد أبطنا من بني تويت بن أسد إلخ نبه على ذلك عياض.
قلت: وكذا وقع في مستخرج أبي نعيم على الصواب. وفي رواية أبي مخنف المذكورة أفخاذا
صغارا من بني أسد بن عبد العزى، وهذا صواب. قوله: "أن ابن أبي العاص"
يعني عبد المطلب بن مروان بن الحكم بن أبي العاص. قوله: "برز: أي ظهر. قوله:
"يمشي القدمية" يضم القاف وفتح الدال وقد تضم أيضا وقد تسكن وكسر الميم
وتشديد التحتانية، قال الخطابي وغيره: معناها التبختر، وهو مثل يريد أنه برز يطلب
معالي الأمور. قال ابن الأثير: الذي في البخاري "القدمية" وهي التقدمة
في الشرف والفضل، والذي في كتب الغريب "اليقدمية" بزيادة تحتانية في
أوله ومعناها التقدمة في الشرف، وقيل التقدم بالهمة والفعل. قلت: وفي رواية أبي
مخنف مثل ما وقع في الصحيح. قوله: "وإنه لوى ذنبه" يعني ابن الزبير، لوى
بتشديد الواو وبتخفيفها أي ثناه، وكني بذلك عن تأخره وتخلفه عن معالي الأمور، وقيل
كني به عن الجبن وإيثار الدعة كما تفعل السباع إذا أرادت النوم، والأول أولى، وفي
مثله قال الشاعر:
مشى ابن الزبير القهقرى وتقدمت ... أمية حتى أحرزوا القصبات
وقال الداودي: المعنى أنه وقف فلم يتقدم ولم يتأخر، ولا وضع مواضعها فأدنى الناصح
وأقصى الكاشح. وقال ابن التين، معنى "لوى ذنبه" لم يتم له ما أراده. وفي
رواية أبي مخنف المذكورة "وإن ابن الزبير يمشي القهقرى" وهو المناسب
لقوله في عبد الملك، يمشي القدمية، وكان الأمر كما قال ابن عباس، فإن عبد الملك لم
يزل في تقدم من أمره إلى أن استنقذ العراق من ابن الزبير وقتل أخاه مصعبا، ثم جهز
العساكر إلى ابن الزبير بمكة فكان من الأمر ما كان، ولم يزل أمر ابن الزبير في
تأخر إلى أن قتل رحمه الله تعالى. قوله في الرواية الثالثة "عن عمر بن
سعيد" أي ابن أبي حسين المكي، وقوله: "لأحاسبن نفسي" أي لأناقشنها
في معونته ونصحه، قاله الخطابي. وقال الداودي: معناه لأذكرن من مناقبه ما لم أذكر
من مناقبهما، وإنما صنع ابن عباس ذلك لاشتراك
(8/329)
الناس في معرفة مناقب أبي بكر وعمر، بخلاف ابن الزبير فما كانت مناقبه في الشهرة كمناقبهما فأظهر ذلك ابن عباس وبينه للناس إنصافا منه له، فلما لم ينصفه هو رجع عنه. قوله: "فإذا هو يتعلى عني" أي يترفع علي متنحيا عني. قوله: "ولا يريد ذلك" أي لا يريد أن أكون من خاصته. وقوله: "ما كنت أظن أني أغرض هذا من نفسي" أي أبدؤه بالخضوع له ولا يرضى مني بذلك، وقوله: "وما أراه يريد خيرا" أي لا يريد أن يصنع بي خيرا. وفي رواية الكشميهني: "وإنما أراه يريد خيرا" وهو تصحيف، ويوضحه ما تقدم. وقوله: "لأن يربني" أي يكون علي ربا أي أميرا، أو ربه بمعنى رباه وقام بأمره وملك تدبيره، قال التيمي: معناه لأن أكون في طاعة بني أمية أحب إلي من أن أكون في طاعة بني أسد، لأن بني أمية أقرب إلى بني هاشم من بني أسد كما تقدم، والله أعلم
(8/330)
10- باب
{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} قَالَ مُجَاهِدٌ يَتَأَلَّفُهُمْ
بِالْعَطِيَّةِ
4667- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
ابْنِ أَبِي نُعْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بُعِثَ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ
أَرْبَعَةٍ وَقَالَ: "أَتَأَلَّفُهُمْ فَقَالَ رَجُلٌ مَا عَدَلْتَ فَقَالَ:
"يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّين"
قوله باب قوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} قال مجاهد
يتألفهم بالعطية" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وسقط
قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} من غير رواية أبي ذر وهو أوجه، إذ لم يذكر ما يتعلق
بالرقاب. حديث سعيد إلى "بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فقسمه بين أربعة
وقال أتألفهم، فقال رجل ما عدلت" أورده مختصرا جدا وأبهم الباعث والمبعوث
وتسمية الأربعة والرجل القائل، وقد تقدم بيان جميع ذلك في غزوة حنين من المغازي.
(8/330)
11- باب {الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}
يَلْمِزُونَ يَعِيبُونَ وَ جُهْدَهُمْ وَجَهْدَهُمْ طَاقَتَهُمْ
4668- حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ
قَالَ لَمَّا أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ كُنَّا نَتَحَامَلُ فَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ
بِنِصْفِ صَاعٍ وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ
إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا وَمَا فَعَلَ هَذَا الآخَرُ إِلاَّ
رِئَاءً فَنَزَلَتْ {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} الآيَة"
4669- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ
أَحَدَّثَكُمْ زَائِدَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ
الأَنْصَارِيِّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَأْمُرُ بِالصَّدَقَةِ فَيَحْتَالُ أَحَدُنَا حَتَّى يَجِيءَ بِالْمُدِّ وَإِنَّ
لأَحَدِهِمْ الْيَوْمَ مِائَةَ أَلْفٍ كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِنَفْسِه"
(8/330)
باب {استغفر لهم أو
لا تسغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}
...
12- باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}
4670- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا
تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ
يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ
يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ
عَلَيْهِ فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ
نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وَسَأَزِيدُهُ
عَلَى السَّبْعِينَ قَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلاَ تُصَلِّ
عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}
4671- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ و
قَالَ غَيْرُهُ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا قَالَ
أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ
قَالَ" إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى
السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا" قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ
يَمْكُثْ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ {وَلاَ
تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إِلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ فَاسِقُونَ}
قَالَ فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ
(8/333)
وَرَسُولُهُ
أَعْلَم"
قوله: "باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} كذا لأبي
ذر ورواية غيره مختصرة. قوله: "عن عبيد الله" هو ابن عمر. قوله:
"لما توفي عبد الله بن أبي" ذكر الواقدي ثم الحاكم في
"الإكليل" أنه مات بعد منصرفهم من تبوك وذلك في ذي القعدة سنة تسع،
وكانت مدة مرضه عشرين يوما ابتداؤها من ليال بقيت من شوال، قالوا: وكان قد تخلف هو
ومن تبعه من غزوة تبوك، وفيهم نزلت: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ
خَبَالاً} وهذا يدفع قول ابن التين أن هذه القصة كانت في أول الإسلام قبل تقرير
الأحكام. قوله: "جاء ابنه عبد الله بن عبد الله" وقع في رواية الطبري من
طريق الشعبي: لما اختصر عبد الله جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا نبي الله إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه، قال: ما اسمك؟ قال:
الحباب - يعني بضم المهملة وموحدتين مخففا - قال: بل أنت عبد الله الحباب اسم
الشيطان . وكان عبد الله بن عبد الله بن أبي هذا من فضلاء الصحابة وشهد بدرا وما
بعدها واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق، ومن مناقبه أنه بلغه بعض
مقالات أبيه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله، قال: " بل
أحسن صحبته" ، أخرجه ابن منده من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وفي الطبراني من
طريق عروة بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن أبي أنه استأذن نحوه، وهذا منقطع
لأن عروة لم يدركه وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام فلذلك التمس من النبي
صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده ويصلي عليه، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل
ذلك بعهد من أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والطبري من طريق سعيد
كلاهما عن قتادة قال: "أرسل عبد الله ابن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
فلما دخل عليه قال: أهلكك حب يهود ، فقال: يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر
لي ولم أرسل إليك لتوبخني. ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه فأجابه" وهذا
مرسل مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن
ابن عباس قال: "لما مرض عبد الله بن أبي جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه
فقال: قد فهمت ما تقول، فامنن علي فكفني في قميصك وصل علي ففعل" وكأن عبد
الله بن أبي أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته فأظهر الرغبة في صلاة
النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله إلى أن كشف
الله الغطاء عن ذلك كما سيأتي، وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلق بهذه القصة. قوله:
"فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول
الله صلى الله عليه وسلم" في حديث ابن عباس عن عمر ثاني حديث الباب:
"فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي حديث الترمذي من هذا
الوجه "فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه وثبت إليه فقلت: يا رسول
الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله: "يشير بذلك
إلى مثل قوله: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى
يَنْفَضُّوا} وإلى مثل قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} وسيأتي
بيانه في تفسير المنافقين. قوله: "فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك
ربك أن تصلي عليه" كذا في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، وقد استشكل جدا
حتى أقدم بعضهم فقال: هذا وهم من بعض رواته، وعاكسه غيره فزعم أن عمر اطلع على نهي
خاص في ذلك. وقال القرطبي: لعل ذلك وقع في خاطر عمر فيكون من قبيل الإلهام، ويحتمل
أن يكون فهم ذلك من قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} . قلت: الثاني يعني ما قاله القرطبي أقرب من
الأول، لأنه لم يتقدم النهي عن الصلاة على المنافقين، بدليل أنه قال في آخر هذا
الحديث:
(8/334)
"قال فأنزل الله {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} والذي يظهر أن في رواية الباب تجوزا بينته الرواية التي في الباب بعده من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ: "فقال تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر لهم" وروى عبد بن حميد والطبري من طريق الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال: "أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذت بثوبه فقلت: والله ما أمرك الله بهذا، لقد قال: { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} " ووقع عند ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس "فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ قال: أين؟ قال قال: {استغفر لهم} " الآية، وهذا مثل رواية الباب، فكأن عمر قد فهم من الآية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب من أن "أو" ليست للتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف المذكور أي أن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار سواء، وهو كقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} لكن الثانية أصرح، ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصة كما سأذكره، وفهم عمر أيضا من قوله: {سَبْعِينَ مَرَّةً} أنها للمبالغة وأن العدد المعين لا مفهوم له، بل المراد نفي المغفرة لهم ولو كثر الاستغفار، فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار فأطلقه، وفهم أيضا أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت طلب المغفرة للميت والشفاعة له فلذلك استلزم عنده النهي عن الاستغفار ترك الصلاة، فلذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أبي. هذا تقرير ما صدر عن عمر مع ما عرف من شدة صلابته في الدين وكثرة بغضه للكفار والمنافقين، وهو القائل في حق حاطب بن أبي بلتعة مع ما كان له من الفضل كشهوده بدرا وغير ذلك لكونه كاتب قريشا قبل الفتح "دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق" فلذلك أقدم على كلامه للنبي صلى الله عليه وسلم بما قال، ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره لما غلب عليه من الصلابة المذكورة. قال الزبير بن المنير: وإنما قال ذلك عمر حرصا على النبي صلى الله عليه وسلم ومشورة لا إلزاما، وله عوائد بذلك، ولا يبعد أن يكون النبي كان أذن له في مثل ذلك فلا يستلزم ما وقع من عمر أنه اجتهد مع وجود النص كما تمسك به قوم في جواز ذلك، وإنما أشار بالذي ظهر له فقط، ولهذا احتمل منه النبي صلى الله عليه وسلم أخذه بثوبه ومخاطبته له في مثل ذلك المقام، حتى التفت إليه متبسما كما في حديث ابن عباس بذلك في هذا الباب. قوله: "إنما خيرني الله فقال {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة}، وسأزيده على السبعين" في حديث ابن عباس عن عمر من الزيادة "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت" أي خيرت بين الاستغفار وعدمه، وقد بين ذلك حديث ابن عمر حيث ذكر الآية المذكورة. وقوله في حديث ابن عباس عن عمر "لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها" وحديث ابن عمر جازم بقصة الزيادة، وآكد منه ما روى عبد بن حميد من طريق قتادة قال: "لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد خيرني ربي، فوالله لأزيدن على السبعين" وأخرجه الطبري من طريق مجاهد مثله، والطبري أيضا وابن أبي حاتم من طريق هشام بن عروة عن أبيه مثله، وهذه طرق وإن كانت مراسيل فإن بعضها يعضد بعضا. وقد خفيت هذه اللفظة على من خرج أحاديث المختصر والبيضاوي واقتصروا على ما وقع في حديثي الباب، ودل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم أطال في حال الصلاة عليه من الاستغفار له، وقد ورد ما يدل على ذلك، فذكر الواقدي أن مجمع بن جارية قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازة قط ما أطال على جنازة عبد الله بن أبي من الوقوف" وروى الطبري من طريق مغيرة عن الشعبي قال:
(8/335)
"قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فأنا أستغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين" وقد تمسك بهذه القصة من جعل مفهوم العدد حجة، وكذا مفهوم الصفة من باب الأولى. ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم فهم أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين فقال: "سأزيد على السبعين" ، وأجاب من أنكر القول بالمفهوم بما وقع في بقية القصة، وليس ذلك بدافع للحجة، لأنه لو لم يقم الدليل على أن المقصود بالسبعين المبالغة لكان الاستدلال بالمفهوم باقيا. قوله: "قال إنه منافق فصلى عليه" أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله: وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وصلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره، واستصحابا لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح، ثم أمر بقتال المشركين فاستمر صفحه وعفوه عما يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه، ولذلك قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام وقل أهل الكفر وذلوا أمر بمجاهرة المنافقين وحملهم على حكم مر الحق، ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم، وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى. قال الخطابي: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة على ابنه وعارا على قومه، فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهى فانتهى. وتبعه ابن بطال وعبر بقوله: ورجا أن يكون معتقدا لبعض ما كان يظهر في الإسلام. وتعقبه وابن المنير بأن الإيمان لا يتبعض. وهو كما قال، لكن مراد ابن بطال أن إيمانه كان ضعيفا. قلت: وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد الله بن أبي لكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وذهل عن الوارد من الآيات والأحاديث المصرحة في حقه بما ينافي ذلك، ولم يقف على جواب شاف في ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة. وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال، وإطباقهم على ترك ذكره في كتب الصحابة مع شهرته وذكر من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة. وقد أخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة في هذه القصة قال: فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} قال: فذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: وما يغنى عنه قميصي من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه" . قوله: "فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} زاد عن مسدد في حديثه عن يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر في آخره: "فترك الصلاة عليهم" أخرجه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسدد وحماد بن زاذان عن يحيى، وقد أخرجه البخاري في الجنائز عن مسدد بدون هذه الزيادة، وفي حديث ابن عباس "فصلى عليه ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت" زاد ابن إسحاق في المغازي قال حدثني الزهري بسنده في ثاني حديثي الباب قال :"فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله" ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبي حاتم، وأخرجه الطبري من وجه آخر عن ابن إسحاق فزاد فيه: "ولا قام على قبره" وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: "لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدن على السبعين ، فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ
(8/336)
لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ورجاله ثقات مع إرساله، ويحتمل أن تكون الآيتان معا نزلتا في ذلك. قوله: "حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل. وقال غيره حدثني الليث حدثني عقيل" كذا وقع هنا، والغير المذكور هو أبو صالح كاتب الليث واسمه عبد الله بن صالح أخرجه الطبري عن المثنى بن معاذ عنه عن الليث قال حدثني عقيل. قوله: "لما مات عبد الله بن أبي بن سلول" بفتح المهملة وضم اللام وسكون الواو بعدها لام هو اسم امرأة، وهي والدة عبد الله المذكور وهي خزاعية، وأما هو فمن الخزرج أحد قبيلتي الأنصار، وابن سلول يقرأ بالرفع لأنه صفة عبد الله لا صفة أبيه. قوله: "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني" أي كلامك، واستشكل الداودي تبسمه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة مع ما ثبت أن ضحكه صلى الله عليه وسلم كان تبسما ولم يكن عند شهود الجنائز يستعمل ذلك، وجوابه أنه عبر عن طلاقة وجهه بذلك تأنيسا لعمر وتطبيقا لقلبه كالمعتذر عن ترك قبول كلامه ومشورته. قوله: "إن زدت على السبعين يغفر له" كذا للأكثر يغفر بسكون الراء جوابا للشرط. وفي رواية الكشميهني فغفر له بفاء وبلفظ الفعل الماضي وضم أوله والراء مفتوحة، والأول أوجه. قوله: "فعجبت بعد" بضم الدال "من جرأتي" بضم الجيم وسكون الراء بعدها همزة أي إقدامي عليه، وقد بينا توجيه ذلك. قوله: "والله ورسوله أعلم" ظاهره أنه قول عمر، ويحتمل أن يكون قول ابن عباس، وقد روى الطبري من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس في نحو هذه القصة" قال ابن عباس فالله أعلم أي صلاة كانت، وما خادع محمد أحدا قط" وقال بعض الشراح يحتمل أن يكون عمر ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم حين تقدم للصلاة على عبد الله بن أبي كان ناسيا لما صدر من عبد الله بن أبي وتعقب بما في السياق من تكرير المراجعة فهي دافعة لاحتمال النسيان، وقد صرح في حديث الباب بقوله: "فلما أكثرت عليه قال: "فدل على أنه كان ذاكرا.
(8/337)
13- باب {وَلاَ تُصَلِّ
عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}
4672- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِيهِ ثُمَّ قَامَ
يُصَلِّي عَلَيْهِ فَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِثَوْبِهِ فَقَالَ تُصَلِّي
عَلَيْهِ وَهُوَ مُنَافِقٌ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ
قَالَ: إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَنِي اللَّهُ فَقَالَ
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فَقَالَ: "سَأَزِيدُهُ
عَلَى سَبْعِينَ" قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ {وَلاَ
تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ
إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} "
قوله: "باب {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ
عَلَى قَبْرِهِ} ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين. لكن ورد ما يدل على أنها
نزلت في عدد معين منهم، قال الواقدي "أنبأنا معمر عن الزهري قال: قال حذيفة
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني مسر إليك سرا فلا تذكره لأحد، إني نهيت
أن أصلي على فلان وفلان رهط ذوي عدد من
(8/337)
المنافقين" ؛ قال فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة، فإن مشى معه وإلا لم يصل عليه" ومن طريق أخرى عن جبير بن مطعم أنهم اثنى عشر رجلا، وقد تقدم حديث حذيفة قريبا أنه لم يبق منهم غير رجل واحد. ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك أن الله علم أنهم يموتون على الكفر، بخلاف من سواهم فإنهم تابوا. ثم أورد المصنف حديث ابن عمر المذكور في الباب قبله من وجه آخر، وقوله فيه: " إنما خيرني الله أو أخبرني الله" كذا وقع بالشك، والأول بمعجمة مفتوحة وتحتانية ثقيلة من التخيير والثاني بموحدة من الإخبار، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن أبي ضمرة الذي أخرجه البخاري من طريقه بلفظ: "إنما خيرني الله" بغير شك، وكذا في أكثر الروايات بلفظ التخيير أي بين الاستغفار وعدمه كما تقدم، واستشكل فهم التخيير من الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلة الاطلاع على طرقه، قال ابن المنير: مفهوم الآية زلت فيه الأقدام، حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث وقال: لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصح أن الرسول قاله انتهى. ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاني في "التقريب" : هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها. وقال إمام الحرمين في "مختصره" : هذا الحديث غير مخرج في الصحيح. وقال في "البرهان" : لا يصححه أهل الحديث. وقال الغزالي في "المستصفى": الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح. وقال الداودي الشارح: هذا الحديث غير محفوظ. والسبب في إنكارهم صحته ما تقرر عندهم مما قدمناه، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه من حمل "أو" على التسوية لما يقتضيه سياق القصة، وحمل السبعين على المبالغة. قال ابن المنير: ليس عند أهل البيان تردد أن التخصيص بالعدد في هذا السياق غير مراد انتهى. وأيضا فشرط القول بمفهوم الصفة وكذا العدد عندهم مماثلة المنطوق للمسكوت وعدم فائدة أخرى وهنا للمبالغة فائدة واضحة، فأشكل قوله سأزيد على السبعين مع أن حكم ما زاد عليها حكمها. وقد أجاب بعض المتأخرين عن ذلك بأنه إنما قال: "سأزيد على السبعين" استمالة لقلوب عشيرته. لا أنه أراد إن زاد على السبعين يغفر له، ويؤيده تردده في ثاني حديثي الباب حيث قال: "لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت" لكن قدمنا أن الرواية ثبتت بقوله: "سأزيد" ووعده صادق، ولا سيما وقد ثبت قوله: "لأزيدن" بصيغة المبالغة في التأكيد. وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون فعل ذلك استصحابا للحال، لأن جواز المغفرة بالزيادة كان ثابتا قبل مجيء الآية فجاز أن يكون باقيا على أصله في الجواز، وهذا جواب حسن، وحاصله أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان، فكأنه جوز أن المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين لا أنه جازم بذلك، ولا يخفى ما فيه. وقيل إن الاستغفار يتنزل منزلة الدعاء، والعبد إذا سأل ربه حاجة فسؤاله إياه يتنزل منزلة الذكر لكنه من حيث طلب تعجيل حصول المطلوب ليس عبادة، فإذا كان كذلك والمغفرة في نفسها ممكنة، وتعلق العلم بعدم نفعها لا بغير ذلك، فيكون طلبها لا لغرض حصولها بل لتعظيم المدعو فإذا تعذرت المغفرة عوض الداعي عنها ما يليق به من الثواب أو دفع السوء كما ثبت في الخبر، وقد يحصل بذلك عن المدعو لهم تخفيف كما في قصة أبي طالب. هذا معنى ما قاله ابن المنير وفيه نطر لأنه يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل المغفرة له شرعا وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ووقع في أصل هذه القصة إشكال آخر وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أطلق أنه خير بين الاستغفار لهم وعدمه بقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا
(8/338)
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وأخذ بمفهوم العدد من السبعين فقال: "سأزيد عليها" مع أنه قد سبق قبل ذلك بمدة طويلة نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} فإن هذه الآية كما سيأتي في تفسير هذه السورة قريبا نزلت في قصة أبي طالب حين قال صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فنزلت، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقا وقصة عبد الله بن أبي هذه في السنة التاسعة من الهجرة كما تقدم، فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع الجزم بكفرهم في نفس الآية؟ وقد وقفت على جواب لبعضهم عن هذا حاصله أن المنهي عنه استغفار ترجى إجابته حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم كما في قصة أبي طالب، بخلاف الاستغفار لمثل عبد الله بن أبي فإنه استغفار لقصد تطييب قلوب من بقي منهم، وهذا الجواب ليس بمرضي عندي. ونحوه قول الزمخشري فإنه قال: فإن قلت كيف خفي على أفصح الخلق وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار ولو كثر لا يجدي، ولا سيما وقد تلاه قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم؟ قلت: لم يخف عليه ذلك، ولكنه فعل ما فعل وقال ما قال إظهارا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، وهو كقول إبراهيم عليه السلام {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة المذكورة لطف بأمته، وباعث على رحمة بعضهم بعضا انتهى. وقد تعقبه ابن المنير وغيره وقالوا لا يجوز نسبة ما قاله إلى الرسول، لأن الله أخبر أنه لا يغفر للكفار، وإذا كان لا يغفر لهم فطلب المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركا لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرا للإسلام، لاحتمال أن يكون معتقده صحيحا. وهذا جواب جيد، وقد قدمت البحث في هذه الآية في كتاب الجنائز. والترجيح أن نزولها كان متراخيا عن قصة أبي طالب جدا، وأن الذي نزل في قصته {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وحررت دليل ذلك هناك، إلا أن في بقية هذه الآية من التصريح بأنهم كفروا بالله ورسوله ما يدل على أن نزول ذلك وقع متراخيا عن القصة، ولعل الذي نزل أولا وتمسك النبي صلى الله عليه وسلم به قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} إلى هنا خاصة، ولذلك اقتصر في جواب عمر على التخيير وعلى ذكر السبعين، فلما وقعت القصة المذكورة كشف الله عنهم الغطاء، وفضحهم على رءوس الملأ، ونادى عليهم بأنهم كفروا بالله ورسوله. ولعل هذا هو السر في اقتصار البخاري في الترجمة من هذه الآية على هذا القدر إلى قوله: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ولم يقع في شيء من نسخ كتابه تكميل الآية كما جرت به العادة من اختلاف الرواة عنه في ذلك. وإذا تأمل المتأمل المنصف وجد الحامل على من رد الحديث أو تعسف في التأويل ظنه بأن قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} نزل مع قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي نزلت الآية كاملة، لأنه لو فرض نزلها كاملة لاقترن بالنهي العلة وهي صريحة في أن قليل الاستغفار وكثيره لا يجدي، وإلا فإذا فرض ما حررته أن هذا القدر نزل متراخيا عن صدر الآية ارتفع الإشكال، وإذا كان الأمر كذلك فحجة المتمسك من القصة بمفهوم العدد صحيح، وكون ذلك وقع من النبي صلى الله عليه وسلم متمسكا بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك لا إشكال فيه، فلله الحمد على ما ألهم وعلم. وقد وقفت لأبي نعيم الحافظ صاحب "حلية الأولياء" على جزء جمع فيه طرق هذا الحديث وتكلم على معانيه فلخصته، فمن ذلك أنه قال: وقع في رواية أبي أسامة وغيره عن عبيد الله العمري في قول عمر "أتصلي عليه وقد نهاك الله عن
(8/339)
الصلاة على المنافقين" ولم يبين محل النهي، فوقع بيانه في رواية أبي ضمرة عن العمري، وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم ولفظه: "وقد نهاك الله أن تستغفر لهم" قال وفي قول ابن عمر "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا معه" أن عمر ترك رأي نفسه وتابع النبي صلى الله عليه وسلم، ونبه على أن ابن عمر حمل هذه القصة عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، بخلاف ابن عباس فإنه إنما حملها عن عمر إذ لم يشهدها. قال: وفيه جواز الشهادة على المرء بما كان عليه حيا وميتا، لقول عمر "إن عبد الله منافق" ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قوله. ويؤخذ أن المنهي عنه من سب الأموات ما قصد به الشتم لا التعريف، وأن المنافق تجرى عليه أحكام الإسلام الظاهرة، وأن الإعلام بوفاة الميت مجردا لا يدخل في النعي المنهي عنه. وفيه جواز سؤال الموسر من المال من ترجى بركته شيئا من ماله لضرورة دينية. وفيه رعاية الحي المطيع بالإحسان إلى الميت العاصي. وفيه التكفين بالمخيط، وجواز تأخير البيان عن وقت النزول إلى وقت الحاجة، والعمل بالظاهر إذا كان النص محتملا. وفيه جواز تنبيه المفضول للفاضل على ما يظن أنه سها عنه، وتنبيه الفاضل المفضول على ما يشكل عليه، وجواز استفسار السائل المسئول وعكسه عما يحتمل ما دار بينهما، وفيه جواز التبسم في حضور الجنازة عند وجود ما يقتضيه. وقد استحب أهل العلم عدم التبسم من أجل تمام الخشوع، فيستثنى منه ما تدعو إليه الحاجة، وبالله التوفيق
(8/340)
باب {سيحلفون بالله
إذا أنقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ...}
...
14- باب {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ
لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
4673- حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ
بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ
وَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ بَعْدَ إِذْ هَدَانِي
أَعْظَمَ مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ
أُنْزِلَ الْوَحْيُ {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ
إِلَيْهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ {الْفَاسِقِينَ}
قوله: "باب قوله: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ
إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} الآية" سقط {لَكُمْ} من رواية الأصيلي
والصواب إثباتها. ثم ذكر فيه طرفا من حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته يتعلق
بالترجمة، وقوله فيه: "ما أنعم الله علي من نعمة" كذا للأكثر وللمستملي
وحده "على عبد نعمة" والأول هو الصواب، وقد سبق شرح الحديث بطوله في
كتاب المغازي.
(8/340)
باب {يَحْلِفُونَ
لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} إلى قوله {الْفَاسِقِينَ}
قوله باب قوله {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا
عَنْهُمْ} إلى قوله {الْفَاسِقِينَ} كذا ثبت لأبي ذر وحده الترجمة بغير حديث وسقطت
لللباقين وقد أخرج بن أبي حاتم من طريق بن أبي نجيح عن مجاهد أنها نزلت في
المنافقين.
(8/340)
15- باب
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ
سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
4674- حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ هُوَ ابْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ حَدَّثَنَا سَمُرَةُ
بْنُ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لَنَا: " أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فَابْتَعَثَانِي فَانْتَهَيْنَا
إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ فَتَلَقَّانَا
رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ
مَا أَنْتَ رَاءٍ قَالاَ لَهُمْ اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ
فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ
فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ قَالاَ لِي هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ
قَالاَ أَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ
مِنْهُمْ قَبِيحٌ فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا
تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُم"
قوله: "باب قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} الآية كذا لأبي ذر،
وساق غيره الآية إلى {رَحِيمٌ} وذكر فيه طرفا من حديث سمرة بن جندب في المنام
الطويل، وسيأتي بتمامه مع شرحه في التعبير. قوله: "حدثنا مؤمل" زاد في
رواية الأصيلي وغيره: "هو ابن هشام" وإسماعيل بن إبراهيم هو المعروف
بابن علية. وقوله فيه: "كانوا شطر منهم حسن" قيل الصواب
"حسنا" لأنه خبر كان، وخرجوه على أن كان تامة وشطر وحسن مبتدأ وخبره.
(8/341)
16- بَاب {مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}
4675- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ
أَبِيهِ قَالَ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيْ عَمِّ
قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ" فَقَالَ
أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ
عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَسْتَغْفِرَنَّ
لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ" فَنَزَلَتْ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
قوله بَاب {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ} ذكر فيه حديث سعيد بن المسيب عن أبيه في قصة وفاة أبي طالب، وقد
سبق شرحه في كتاب الجنائز، ويأتي الإلمام بشيء منه في تفسير القصص إن شاء الله
تعالى.
(8/341)
17- باب {لَقَدْ
تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ تَزِيغُ قُلُوبُ
فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
4676- حدثنا أحمد بن صالح قال حدثني بن وهب قال أخبرني يونس قال أحمد وحدثنا
(8/341)
18- باب {وَعَلَى
الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا
رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ
اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
4677- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا
مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ أَنَّ الزُّهْرِيَّ
حَدَّثَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ
بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ
أَحَدُ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ
غَيْرَ غَزْوَتَيْنِ غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ وَغَزْوَةِ بَدْرٍ قَالَ فَأَجْمَعْتُ
صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى وَكَانَ
قَلَّمَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ سَافَرَهُ إِلاَّ ضُحًى وَكَانَ يَبْدَأُ
بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلاَمِي وَكَلاَمِ صَاحِبَيَّ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ
كَلاَمِ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَخَلِّفِينَ غَيْرِنَا فَاجْتَنَبَ النَّاسُ كَلاَمَنَا
فَلَبِثْتُ كَذَلِكَ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ الأَمْرُ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ
إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فَلاَ يُصَلِّي عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَمُوتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَكُونَ مِنْ النَّاسِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ فَلاَ يُكَلِّمُنِي
أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلاَ يُصَلِّي وَلاَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَقِيَ
الثُّلُثُ الْآخِرُ مِنْ اللَّيْلِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً فِي شَأْنِي
مَعْنِيَّةً فِي أَمْرِي فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أُمَّ
(8/342)
سَلَمَةَ تِيبَ
عَلَى كَعْبٍ قَالَتْ أَفَلاَ أُرْسِلُ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرَهُ قَالَ إِذًا
يَحْطِمَكُمْ النَّاسُ فَيَمْنَعُونَكُمْ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ"
حَتَّى إِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ
الْفَجْرِ آذَنَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَكَانَ إِذَا اسْتَبْشَرَ
اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ الْقَمَرِ وَكُنَّا أَيُّهَا
الثَّلاَثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا عَنْ الأَمْرِ الَّذِي قُبِلَ مِنْ هَؤُلاَءِ
الَّذِينَ اعْتَذَرُوا حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ لَنَا التَّوْبَةَ فَلَمَّا ذُكِرَ
الَّذِينَ كَذَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
الْمُتَخَلِّفِينَ وَاعْتَذَرُوا بِالْبَاطِلِ ذُكِرُوا بِشَرِّ مَا ذُكِرَ بِهِ
أَحَدٌ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ
إِلَيْهِمْ قُلْ لاَ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ
مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} الآيَةَ
قوله: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ
الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} الآية" كذا لأبي ذر، ساق غيره إلى
"الرحيم" . قوله: "حدثني محمد حدثنا أحمد بن أبي شعيب" كذا
للأكثر، وسقط محمد من رواية ابن السكن فصار للبخاري عن أحمد بن أبي شعيب بلا
واسطة، وعلى قول الأكثر فاختلف في محمد فقال الحاكم هو محمد بن النضر النيسابوري،
يعني الذي تقدم ذكره في تفسير الأنفال. وقال مرة هو محمد بن إبراهيم البوشنجي لأن
هذا الحديث وقع له من طريقه. وقال أبو علي الغساني: هو الذهلي، وأيد ذلك أن الحديث
في "علل حديث الزهري للذهلي" عن أحمد بن أبي شعيب، والبخاري يستمد منه
كثيرا، وهو يهمل نسبه غالبا. وأما أحمد بن أبي شعيب فهو الحراني نسبه المؤلف إلى
جده، واسم أبيه عبد الله بن مسلم وأبو شعيب كنية مسلم لا كنية عبد الله وكنية أحمد
أبو الحسن، وهو ثقة باتفاق وليس له في البخاري سوى هذا الموضع. ثم ذكر المصنف قطعا
من قصة توبة كعب بن مالك، وقد تقدم شرحه مستوفى في المغازي. وقوله: "فلا
يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي" في رواية الكشميهني: "ولا يسلم"
وحكى عياض أنه وقع لبعض الرواة "فلا يكلمني أحد منهم ولا يسلمني"
واستبعده لأن المعروف أن السلام إنما يتعدى بحرف جر، وقد يوجه بأن يكون اتباعا، أو
يرجع إلى قول من فسر السلام بأن معناه أنت مسلم مني. وقوله: "وكانت أم سلمة
معنية في أمري" كذا للأكثر بفتح الميم وسكون المهملة وكسر النون بعدها
تحتانية ثقيلة من الاعتناء. وفي رواية الكشميهني: "معينة" بضم الميم
وكسر العين وسكون التحتانية بعدها نون من العون. والأول أنسب. وقوله:
"يحطمكم" في رواية أبي ذر عن الكشميهني والمستملي: "يخطفكم"
(8/343)
19- باب {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
4678- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبِ
بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ
قِصَّةِ تَبُوكَ فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَبْلاَهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ
الْحَدِيثِ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِي مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالأَنْصَارِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} "
(8/343)
قوله: "باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ذكر فيه طرفا مختصرا من قصة توبة كعب أيضا.
(8/344)
20- باب {لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} مِنْ الرَّأْفَةِ
46779- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو
بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ
الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ
بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ إِلاَّ أَنْ
تَجْمَعُوهُ وَإِنِّي لاَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ
لِعُمَرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي
فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ
قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ كُنْتَ تَكْتُبُ
الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ
الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ
الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ
الْقُرْآنِ قُلْتُ كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ
أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ
صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ
الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ
سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا
مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إِلَى آخِرِهِمَا وَكَانَتْ الصُّحُفُ
الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ
ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ
عُمَرَ تَابَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَاللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ وَقَالَ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ وَقَالَ مُوسَى عَنْ
إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ وَتَابَعَهُ يَعْقُوبُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ أَبُو ثَابِتٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
وَقَالَ مَعَ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِي خُزَيْمَة"
قوله: "باب قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} الآية" كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى {رَءُوفٌ
رَحِيمٌ} . قوله: "من الرأفة" ثبت هذا لغير أبي ذر، وهو كلام أبي عبيد،
قال في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} هو فعول من
الرأفة، وهي أشد الرحمة قوله: "أخبرني ابن السباق" بمهملة وتشديد
الموحدة، اسمه عبيد، وسيأتي شرح الحديث مستوفى في فضائل القرآن، وتقدم في أوائل
الجهاد التنبيه على اختلاف عبيد بن السباق وخارجة بن زيد في تعيين الآية. قوله:
"تابعه عثمان بن عمر والليث بن سعد عن
(8/344)
يونس عن ابن شهاب" أما متابعة عثمان بن عمر فوصلها أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه، وأما متابعة الليث عن يونس فوصلها المؤلف في فضائل القرآن وفي التوحيد. قوله: "وقال الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب وقال: مع أبي خزيمة" يريد أن الليث فيه شيخا آخر عن ابن شهاب، وأنه رواه عنه بإسناده المذكور لكن خالف في قوله: "مع خزيمة الأنصاري" فقال: "مع أبي خزيمة:"ورواية الليث هذه وصلها أبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة" من طريق أبي صالح كاتب الليث عنه به. قوله: "وقال موسى عن إبراهيم حدثنا ابن شهاب وقال مع أبي خزيمة، وتابعه يعقوب بن إبراهيم عن أبيه" أما موسى فهو ابن إسماعيل، وأما إبراهيم فهو ابن سعد، ويعقوب هو ولده، ومتابعة موسى وصلها المؤلف في فضائل القرآن. وقال في آية التوبة "مع أبي خزيمة:"وفي آية الأحزاب "مع خزيمة بن ثابت الأنصاري" ومما ننبه عليه أن آية التوبة وجدها زيد بن ثابت لما جمع القرآن في عهد أبي بكر، وآية الأحزاب وجدها لما نسخ المصاحف في عهد عثمان، وسيأتي بيان ذلك واضحا في فضائل القرآن. وأما رواية يعقوب بن إبراهيم فوصلها أبو بكر بن أبي داود في "كتاب المصاحف" من طريقه، وكذا أخرجها أبو يعلى من هذا الوجه لكن باختصار، ورواها الذهلي في "الزهريات" عنه لكن قال: "مع خزيمة:"وكذا أخرجه الجوزقي من طريقه. قوله: "وقال أبو ثابت حدثنا إبراهيم وقال: مع خزيمة أو أبي خزيمة" فأما أبو ثابت فهو محمد بن عبيد الله المدني، وأما إبراهيم فهو ابن سعد، ومراده أن أصحاب إبراهيم بن سعد اختلفوا فقال بعضهم "مع أبي خزيمة:"وقال بعضهم "مع خزيمة:"وشك بعضهم والتحقيق ما قدمناه عن موسى بن إسماعيل أن آية التوبة مع أبي خزيمة آية الأحزاب مع خزيمة وستكون لنا عودة إلى تحقيق هذا في تفسير سورة الأحزاب إن شاء الله تعالى. ورواية أبي ثابت المذكورة وصلها المؤلف في الأحكام بالشك كما قال.
(8/345)
10- سورة يُونُسَ
1- باب وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فَاخْتَلَطَ} بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَنَبَتَ
بِالْمَاءِ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ
هُوَ الْغَنِيُّ} وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ}
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ خَيْرٌ يُقَالُ
تِلْكَ آيَاتُ يَعْنِي هَذِهِ أَعْلاَمُ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ {حَتَّى إِذَا
كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} الْمَعْنَى بِكُمْ {دَعْوَاهُمْ}
دُعَاؤُهُمْ {أُحِيطَ بِهِمْ} دَنَوْا مِنْ الْهَلَكَةِ {أَحَاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ} فَاتَّبَعَهُمْ وَأَتْبَعَهُمْ وَاحِدٌ {عَدْوًا} مِنْ الْعُدْوَانِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ
بِالْخَيْرِ} قَوْلُ الإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ اللَّهُمَّ
لاَ تُبَارِكْ فِيهِ وَالْعَنْهُ {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} لاَهْلِكُ مَنْ
دُعِيَ عَلَيْهِ وَلاَمَاتَهُ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} مِثْلُهَا
حُسْنَى {وَزِيَادَةٌ} مَغْفِرَةٌ وَرِضْوَانٌ وَقَالَ غَيْرُهُ النَّظَرُ إِلَى
وَجْهِهِ {الْكِبْرِيَاءُ} الْمُلْكُ
قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سورة يونس" أخر أبو ذر
البسملة. قوله: "وقال ابن عباس فاختلط فنبت بالماء من كل لون" وصله ابن
جرير من طريق آخر عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الأَرْضِ} قال: اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس
(8/345)
كالحنطة والشعير
وسائر حبوب الأرض. قوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ
الْغَنِيُّ} كذا ثبت هذا لغير أبي ذر ترجمة خالية من الحديث، ولم أر في هذه الآية
حديثا مسندا، ولعله أراد أن يخرج فيها طريقا للحديث الذي في التوحيد مما يتعلق بذم
من زعم ذلك فبيض له. قوله: "وقال زيد بن أسلم {نَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ
عِنْدَ رَبِّهِمْ} محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد خير" أما قول زيد بن
أسلم فوصله ابن جرير من طريق ابن عيينة عنه بهذا الحديث، وهو في تفسير ابن عيينة
"أخبرت عن زيد بن أسلم" وأخرج الطبري من طريق الحسن وقتادة قال:
"محمد صلى الله عليه وسلم شفيع لهم" وهذا وصله ابن مردويه من حديث علي
ومن حديث أبي سعيد بإسنادين ضعيفين، وأما قول مجاهد فوصله الفريابي من طريق ابن أبي
نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ
صِدْقٍ} قال: خير. وروى ابن جرير من وجه عن مجاهد في قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ} قال:
صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم، ولا تنافي بين القولين. ومن طريق الربيع بن أنس
{قَدَمَ صِدْقٍ} أي ثواب صدق. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله
تعالى: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} قال سبقت لهم السعادة في الذكر الأول، ورجح
ابن جرير قول مجاهد ومن تبعه العرب لفلان قدم صدق في كذا أي قدم فيه خير، أو قدم
سوء في كذا أي قدم فيه شر. وجزم أبو عبيدة بأن المراد بالقدم السابقة. وروى الحاكم
من طريق أنس عن أبي بن كعب في قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ} قال سلف صدق، وإسناده حسن.
"تنبيه" : ذكر عياض أنه وقع في رواية أبي ذر "وقال مجاهد بن
جبير" قال وهو خطأ. قلت لم أره في النسخة التي وقعت لنا من رواية أبي ذر إلا
على الصواب كما قدمته، ذكر ابن التين أنها وقعت كذلك في رواية الشيخ أبي الحسن
يعني القابسي، ومجاهد بن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة، لكن المراد هنا أنه فسر
القدم بالخير ولو كان وقع بزيادة ابن مع التصحيف لكان عاريا عن ذكر القول المنسوب
لمجاهد في تفسير القدم. قوله: "يقال تلك آيات يعني هذه أعلام القرآن ومثله
{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} المعنى بكم" هذا
وقع لغير أبي ذر، وسيأتي للجميع في التوحيد. وقائل ذلك هو أبو عبيدة بن المثنى،
وفي تفسير السدي آيات الكتاب الأعلام، والجامع بينهما أن في كل منهما صرف الخطاب
عن الغيبة إلى الحضور وعكسه. قوله: {دَعْوَاهُمْ} دعاؤهم "هو قول أبي عبيدة،
قاله في معنى قوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} وروى الطبري من
طريق الثوري قال في قوله: "دعواهم فيها قال: إذا أرادوا الشيء قالوا اللهم
فيأتيهم ما دعوا به، ومن طريق ابن جريج قال: أخبرت، فذكر نحوه وسياقه أتم، وكل هذا
يؤيد أن معنى {دَعْوَاهُمْ} دعاؤهم لأن اللهم معناها يا الله أو معنى الدعوى
العبادة أي كلامهم في الجنة هذا اللفظ بعينه. قوله: "أحيط بهم دنوا من
الهلكة، أحاطت به خطيئته" قال أبو عبيدة في قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ
بِهِمْ} أي دنوا للهلكة، يقال قد أحيط به أي أنه لهالك انتهى. وكأنه من إحاطة
العدو بالقوم، فإن ذلك يكون سببا للهلاك غالبا لجعل كناية عنه، ولها أردفه المصنف
بقوله: {أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} إشارة إلى ذلك. قوله: "وقال مجاهد
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} قوله
الإنسان لولده وماله إذا غضب: اللهم لا تبارك فيه والعنه" وقوله: {قُضِيَ
إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي لأهلك من دعى عليه ولأماته" هكذا وصله الفريابي
وعبد بن حميد وغيرهما من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير هذه الآية، ورواه
الطبري بلفظ مختصر قال: فلو يعجل الله لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب في الخير
لأهلكهم.
ومن طريق قتادة قال: هو دعاء الإنسان على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له،
انتهى. وقد ورد في النهي عن
(8/346)
ذلك حديث مرفوع أخرجه مسلم في أثناء حديث طويل وأفرده أبو داود من طريق عبادة بن الوليد عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم" . قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} مثلها حسنى وزيادة مغفرة ورضوان" هو قول مجاهد، وصله الفريابي وعبد وغيرهما من طريق ابن أبي نجيح عنه. قوله: "وقال غيره النظر إلى وجهه" ثبت هذا لأبي ذر وأبي الوقت خاصة، والمراد بالغير هنا فيما أظن قتادة، فقد أخرج الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه قال: الحسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن، وعند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة. الحسنى الجنة، والزيادة فيما بلغنا النظر إلى وجه الله. ولسعيد ابن منصور من طريق عبد الرحمن بن سابط مثله موقوفا أيضا. ولعبد بن حميد عن الحسن مثله. وله عن عكرمة قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} قالوا لا إله إلا الله، الحسنى الجنة، وزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وقد ورد ذلك في حديث مرفوع أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا إن لكم عند الله وعدا فيقولون ألم يبيض وجوهنا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة؟ قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم منه" ثم قرأ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال الترمذي: إنما أسنده حماد ابن سلمة ورواه سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. قلت: وكذا قال معمر، أخرجه عبد الرزاق عنه، وحماد بن زيد عن ثابت أخرجه الطبري، وأخرجه أيضا من طريق أبي موسى الأشعري نحوه موقوفا عليه، ومن طريق كعب بن عجرة مرفوعا قال: الزيادة النظر إلى وجه الرب، ولكن في إسناده ضعف، ومن تحديث حذيفة موقوفا مثله، ومن طريق أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن أبي سعد عن أبي بكر الصديق مثله وصله قيس بن الربيع وإسرائيل عنه، ووقفه سفيان وشعبة وشريك على عامر بن سعد. وجاء في تفسير الزيادة أقوال أخر: منها قول علقمة والحسن إن الزيادة التضعيف، ومنها قول علي: إن الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب أخرج جميع ذلك الطبري. وأخرج عبد بن حميد رواية حذيفة ورواية أبي بكر من طريق إسرائيل أيضا، وأشار الطبري إلى أنه لا تعارض بين هذه الأقوال لأن الزيادة تحتمل كلا منها، والله أعلم. قوله: "الكبرياء الملك" هو قول مجاهد وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عنه. وقال الفراء "قوله {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} لأن النبي إذا صدق صارت مقاليد أمته وملكهم إليه. قوله: "فاتبعهم وأتبعهم واحد" يعني بهمزة القطع والتشديد، وبالثاني قرأ الحسن. وقال أبو عبيدة: فأتبعهم مثل تبعهم بمعنى واحد، وهو كردفته وأردفته بمعنى، وعن الأصمعي: المهموز بمعنى أدرك، وغير المهموز بمعنى مضى وراءه أدركه أو لم يدركه، وقيل اتبعه بالتشديد في الأمر اقتدى به وأتبعه بالهمز تلاه. قوله: "عدوا من العدوان" هو قول أبي عبيدة أيضا، وهو وما قبله نعتان منصوبان على أنهما مصدران أو على الحال أي باغين متعدين، ويجوز أن يكونا مفعولين أي لأجل البغي والعدوان، وقرأ الحسن بتشديد الواو وضم أوله.
(8/347)
2- باب {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ}
(8/347)
{نُنَجِّيكَ}
نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنْ الأَرْضِ وَهُوَ النَّشَزُ الْمَكَانُ
الْمُرْتَفِعُ
4680- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ
تَصُومُ عَاشُورَاءَ فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى
فِرْعَوْنَ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأَصْحَابِهِ أَنْتُمْ أَحَقُّ
بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوا"
قوله: "باب {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} سقط للأكثر
"باب" وساقوا الآية إلى {مِنْ الْمُسْلِمِينَ} . قوله: {نُنَجِّيكَ}
نلقيك على نجوة من الأرض، وهو النشز، المكان المرتفع" قال أبو عبيدة في قوله
تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي نلقيك على نجوة أي ارتفاع ا هـ،
والنجوة هي الربوة المرتفعة وجمعها نجا بكسر النون والقصر، وليس قوله ننجيك من
النجاة بمعنى السلامة، وقد قيل هو بمعناها والمراد مما وقع فيه قومك من قعر البحر،
وقيل هو 1 وقد قرأ ابن مسعود وابن السميفع وغيرهما {نُنَجِّيكَ} بالتشديد والحاء
المهملة أي نلقيك بناحية، وورد سبب ذلك فيما أخرجه عبد الرزاق عن ابن التيمي عن
أبيه عن أبي السليل عن قيس بن عباد أو غيره قال: قلا بنو إسرائيل لم يمت فرعون
فأخرجه الله إليهم ينظرون إليه كالثور الأحمر، وهذا موقوف رجاله ثقات. وعن معمر عن
قتادة قال: لما أغرق الله فرعون لم يصدق طائفة من الناس بذلك فأخرجه الله ليكون
لهم عظة وآية. وروى ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: فلما خرج موسى
وأصحابه قال من تخلف من قوم فرعون: ما غرق فرعون وقومه، ولكنهم في جزائر البحر
يتصيدون. فأوحى الله إلى البحر أن لفظ فرعون عريانا، فلفظه عريانا أصلع أخنس
قصيرا، فهو قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} ومن طريق ابن أبي نجيح عن
مجاهد {بِبَدَنِكَ} قال بجسدك. ومن طريق أبي صخر المدني قال: البدن الدرع الذي كان
عليه. ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس في صيام عاشوراء وقد تقدم شرحه في الصيام،
ومناسبته للترجمة قوله في بعض طرقه: ذاك يوم نجى فيه موسى وأغرق فرعون. ثم ذكر
المصنف حديث ابن عباس في صيام عاشوراء وقد تقدم شرحه في الصيام، ومناسبته للترجمة
قوله في بعض طرقه: ذاك يوم نجى فيه موسى وأغرق فرعون.
ـــــــ
(1) بيااض بالأصل
(8/348)
11- سورة هُودٍ
وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ الأَوَّاهُ الرَّحِيمُ بِالْحَبَشِيَّةِ وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ {بَادِئَ الرَّأْيِ} مَا ظَهَرَ لَنَا وَقَالَ مُجَاهِدٌ {الْجُودِيُّ}
جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ {إِنَّكَ لاَنْتَ الْحَلِيمُ}
يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَقْلِعِي} أَمْسِكِي {عَصِيبٌ}
شَدِيدٌ {لاَ جَرَمَ} بَلَى {وَفَارَ التَّنُّورُ} نَبَعَ الْمَاءُ وَقَالَ
عِكْرِمَةُ وَجْهُ الأَرْضِ
قوله سورة هود {بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قوله: "قال ابن عباس:
عصيب شديد" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال في
قوله: {قَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} قال: شديد. وأخرجه الطبري من طرق عن مجاهد وقتادة
وغيرهما مثله. وقال: ومنه قول الراجز "يوم عصيب يعصب الأبطالا" ويقولون:
عصب يومنا يعصب عصبا أي اشتد. قوله: "لا جرم بلى" وصله ابن أبي حاتم من
طريق
(8/348)
علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس في قوله: {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ} قال أي بلى إن الله يعلم. وقال الطبري
معنى جرم أي كسب الذنب ثم كثر استعماله في موضع لا بد كقولهم لا جرم أنك ذاهب، وفي
موضع حقا كقولك لا جرم لتقومن. قوله: "وقال غيره وحاق نزل يحيق ينزل"
قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَحَاقَ بِهِمْ} أي نزل بهم وأصابهم. قوله:
"يئوس فعول من يئست" هو قول أبي عبيدة أيضا، قال في قوله تعالى:
{يَؤُوسٌ كَفُورٌ} هو فعول من يئست. قوله: "وقال مجاهد تبتئس تحزن" وصله
الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا قال في قوله: {فَلا تَبْتَئِسْ} قال:
لا تحزن، ومن طريق قتادة وغير واحد نحوه. قوله: "يثنون صدورهم شك وامتراء في
الحق ليستخفوا منه من الله إن استطاعوا" وهو قول مجاهد أيضا قال في قوله:
{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} قال شك وامتراء في الحق ليستخفوا من الله
إن استطاعوا، وصله الطبري من طرق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه، ومن طريق معمر عن
قتادة قال: أخفى ما يكون الإنسان إذا أسر في نفسه شيئا بثوبه، والله مع ذلك يعلم
ما يسرون وما يعلنون. ومن طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: {يَثْنُونَ
صُدُورَهُمْ} الشك في الله وعمل السيئات يستغشي بثيابه ويستكن من الله، والله يراه
ويعلم ما يسر وما يعلن. والثني يعبر به عن الشك في الحق والإعراض عنه. ومن طريق
عبد الله بن شداد أنها نزلت في المنافقين، كان أحدهم إذا مر برسول الله صلى الله
عليه وسلم ثنى صدره وطأطأ رأسه وتغشى بثوبه لئلا يراه، أسنده الطبري من طرق عنه،
وهو بعيد فإن الآية مكية، وسيأتي عن ابن عباس ما يخالف القول الأول، لكن الجمع
بينهما ممكن.
" تنبيه " : قدمت هذه التفاسير من أول السورة إلى هنا في رواية أبي ذر،
وهي عند الباقين مؤخرة عما سيأتي إلى قوله: "أقلعي أمسكي" . قوله:
"وقال أبو ميسرة: الأواه الرحيم بالحبشية" تقدم في ترجمة إبراهيم من
أحاديث الأنبياء، وسقط هنا من رواية أبي ذر. قوله: "وقال ابن عباس: بادئ
الرأي ما ظهر لنا. وقال مجاهد: الجودي جبل بالجزيرة. وقال الحسن {إِنَّكَ لأَنْتَ
الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} يستهزئون به. وقال ابن عباس: أقلعي أمسكي، وفار التنور نبع
الماء. وقال عكرمة وجه الأرض" تقدم جميع ذلك في أحاديث الأنبياء وسقط هنا لأبي
ذر.
(8/349)
1- باب {أَلاَ
إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ
ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ} وَقَالَ غَيْرُهُ وَحَاقَ نَزَلَ يَحِيقُ يَنْزِلُ يَئُوسٌ فَعُولٌ
مِنْ يَئِسْتُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ تَبْتَئِسْ تَحْزَنْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ شَكٌّ
وَامْتِرَاءٌ فِي الْحَقِّ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ مِنْ اللَّهِ إِنْ
اسْتَطَاعُوا"
4681- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ
قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ
أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ (أَلاَ إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي
صُدُورُهُمْ) قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ أُنَاسٌ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ
أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ
فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ فَنَزَلَ ذَلِكَ فِيهِم"
[الحديث 4681- طرفاه في: 4682، 4683]
4682- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ
جُرَيْجٍ وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ قَرَأَ (أَلاَ إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) قُلْتُ يَا أَبَا
الْعَبَّاسِ مَا تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ قَالَ كَانَ الرَّجُلُ يُجَامِعُ
(8/349)
امْرَأَتَهُ
فَيَسْتَحِي أَوْ يَتَخَلَّى فَيَسْتَحِي فَنَزَلَتْ {أَلاَ إِنَّهُمْ يثنون
صُدُورُهُمْ} "
4683- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ
قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ { أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا
مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} و قَالَ غَيْرُهُ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ يَسْتَغْشُونَ يُغَطُّونَ رُءُوسَهُمْ سِيءَ بِهِمْ سَاءَ ظَنُّهُ
بِقَوْمِهِ وَضَاقَ بِهِمْ بِأَضْيَافِهِ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ بِسَوَادٍ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ إِلَيْهِ أُنِيبُ أَرْجِع"
قوله: "أخبرني محمد بن عباد بن جعفر" هكذا رواه هشام بن يوسف عن ابن
جريج، وتابعه حجاج عند أحمد. وقال أبو أسامة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن
عباس أخرجه الطبري. قوله: "أنه سمع ابن عباس يقرأ {أَلاَ إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ} يعني بفتح أوله بتحتانية وفي رواية بفوقانية وسكون المثلثة وفتح النون
وسكون الواو وكسر النون بعدها ياء على وزن تفعوعل، وهو بناء مبالغة كأعشوشب، لكن
جعل الفعل للصدور، وأنشد الفراء لعنترة:
وقولك للشيء الذي لا تناله ... إذا ما هو احلولي ألا ليت ذا ليا
وحكى أهل القراآت عن ابن عباس في هذه الكلمة قراآت أخرى وهي يثنون بفتح أوله وسكون
المثلثة وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون من الثني بالمثلثة والنون وهو ما هش
وضعف من النبات، وقراءة ثالثة عنه أيضا بوزن يرعوي. وقال أبو حاتم السجستاني: في
هذه القراءة غلط إذ لا يقال ثنوته فانثوى كرعوته فارعوى. قلت: وفي الشواذ قراآت
أخرى ليس هذا موضع بسطها. قوله: "أناس كانوا يستخفون أن يتخلوا" أي أن
يقضوا الحاجة في الخلاء وهم عراة، وحكى ابن التين أنه روى يتحلوا بالمهملة. وقال
الشيخ أبو الحسن يعني القابسي أنه أحسن أي يرقد على حلاوة قفاه. قلت: والأول أولى.
وفي رواية أبي أسامة: كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم
كراهة أن يفضوا بفروجهم إلى السماء. قوله: "في رواية عمرو "هو ابن
دينار" قال قرأ ابن عباس ألا إنهم يثنون صدورهم" ضبط أوله بالياء
التحتانية وبنون آخره وصدورهم بالنصب على المفعولية وهي قراءة الجمهور، كذا للأكثر
ولأبي ذر كالذي قبله، ولسعيد بن منصور عن ابن عيينة يثنوني أوله تحتانية وآخره تحتانية
أيضا، وزاد وعن حميد الأعرج عن مجاهد أنه كان يقرؤها كذلك. قوله: "وقال
غيره" أي عن ابن عباس "يستغشون يغطون رءوسهم" الضمير في غيره يعود
على عمرو بن دينار، وقد وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وتفسير
التغشي بالتغطية متفق عليه. وتخصيص ذلك بالرأس يحتاج إلى توقيف، وهذا مقبول من مثل
ابن عباس، يقال منه استغشى بثوبه وتغشاه. وقال الشاعر "وتارة أتغشى فضل
أطماري" . قوله: "سيء بهم ساء ظنه بقومه وضاق بهم بأضيافه" هو
تفسير ابن عباس، وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه في هذه الآية {لَمَّا
جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً} ساء ظنا بقومه وضاق زرعا بأضيافه، ويلزم منه اختلاف
الضميرين، وأكثر المفسرين على اتحادهما. وصله ابن أبي حاتم من طريق الضحاك قال:
ساءه مكانهم لما رأى بهم من الجمال. قوله: {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} بسواد"
وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة معناه
ببعض من الليل. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بطائفة من الليل. قوله:
"وقال مجاهد إليه أنيب أرجع"
(8/350)
كذا للأكثر، وسقط
لأبي ذر نسبته إلى مجاهد فأوهم أنه عن ابن عباس كما قبله، وقد وصله عبد بن حميد من
طريق ابن نجيح عن مجاهد بهذا، ووقع للأكثر قبيل قوله: "باب وكان عرشه على
الماء" . قوله سجيل الشديد الكبير سجيل وسجين واحد بن واللام والنون أختان
وقال تميم بن مقبل:
ورجلة يضربون البيض ضاحية ... ضربا تواصى به الأبطال سجينا
هو كلام أبي قال في قوله تعالى {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} هو الشديد من الحجارة
الصلب ومن الضرب أيضا قال بن مقبل فذكره قال وقوله سجيلا أي شديدا وبعضهم يحول
اللام نونا وقال في موضع آخر السجيل الشديد الكثير وقد تعقبه بن قتيبة بأنه لو كان
معنى السجيل الشديد لما دخلت عليه من وكان يقول حجارة سجيلا لأنه لا يقال حجارة من
شديد ويمكن أن يكون الموصوف حذف أبي عبيدة البيت المذكور فأبدل قوله ضاحية بقوله
عن عرض وهو بضمتين وضاد معجمة وسيأتي قول بن عباس ومن تبعه إن الكلمة فارسية في
تفسير سورة الفيل وقد قال الأزهري أن ثبت أنها فارسية فقد تكلمت بها العرب فصارت
وقيل هو اسم لسماء الدنيا وقيل بحر معلق بين السماء والأرض نزلت منه الحجارة وقيل
هي جبال في السماء تنبيه تميم بن مقبل هو بن خبيب بن عوف بن قتيبة بن العجلان بن
كعب بن عامر بن صعصعة العامري ثم العجلاني شاعر مخضرم أدرك في الجاهلية والإسلام
وكان أعرابيا جافيا وله قصة مع عمر ذكره المرزباني ورجله بفتح الراء ويجوز كسرها
على تقدير ذوي رجلة والجيم ساكنة وحكى بن التين في هذه الحاء المهملة والبيض بفتح
الموحدة جمع بيضة وهي الخوذة أو بكسرها جمع أبيض وهو السيف فعلى الأول المراد
مواضع البيض وهي الرءوس وعلى الثاني المراد يضربون بالبيص على نزع الخافض والأول
أوجه وضاحية أي ظاهرة أو المراد في وقت الضحوة وتواصى أصله تتواصى فحذفت إحدى
التاءين وروى تواصت بمثناة بدل التحتانية في آخره وقوله سجينا بكسر المهملة وتشديد
الجيم قال الحسن بن المظفر هو فعيل من السجن كأنه يثبت من وقع فيه فلا يبرح مكانه وعن
بن الأعرابي أنه رواه بالخاء المعجمة بدل الجيم أي ضربا حارا قوله استعمركم جعلكم
عمارا أعمرته الدار فهي عمري سقط هذا لغير أبي ذر وقد تقدم شرحه في كتاب الهبة
قوله نكرهم وأنكرهم واستنكرهم واحد هو قول أبي عبيدة وأنشد وأنكرتني وما كان الذي
نكرت قوله حميد مجيد كأنه فعيل من ماجد محمود من حمد كذا وقع هنا والذي في كلام
أبي عبيدة حميد مجيد أي محمود وهذا هو الصواب والحميد فعيل من حمد فهو حامد أي
يحمد من يطيعه أو هو حميد بمعنى محمود والمجيد فعيل من مجد بضم الجيم يمجد كشرف
يشرف وأصله الرفعة قوله اجرامى مصدر أجرمت وبعضهم يقول جرمت هو كلام أبي عبيدة
وأنشد:
طريد عشيرة ورهين ذنب ... بما جرمت يدي وجنى لساني
وجرمت بمعنى كسبت وقد تقدم قريبا قوله الفلك والفلك واحد والسفن كذا وقع لبعضهم
بضم الفاء فيهما وسكون اللام في الأولى وفتحها في الثانية ولآخرين بفتحتين في
الأولى وبضم ثم سكون في الثانية ورجحه بن التين وقال الأول واحد والثاني جمع مثل
أسد وأسد قال عياض: ولبعضهم بضم ثم سكون فيهما
(8/351)
جميعا وهو الصواب والمراد أن الجمع والواحد بلفظ واحد وقد ورد ذلك في القرآن فقد قال في الواحد في الفلك المشحون وقال في الجمع {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} والذي في كلام أبي عبيدة الفلك واحد وجمع والسفن وهذا أوضح في المراد قوله مجراها مدفعها وهو مصدر أجريت وأرسيت حبست ويقرأ مجراها من جرت هي ومرسيها من رست ومجريها ومرسيها من فعل به قال أبو عبيدة في قوله تعالى بسم الله مجراها أي مسيرها وهي من جرت بهم ومن قرأها بالضم فهو من أجريتها أنا ومرساها أي وقفها وهو مصدر أي ارسيتها أنا انتهى ووقع في بعض الشروح مجراها موقفها بواو وقاف وفاء وهو تصحيف لم أره في شيء من النسخ ثم وجدت بن التين حكاها عن رواية الشيخ أبي الحسن يعني القابسي قال وليس بصحيح لأنه فاسد المعنى والصواب ما في الأصل بدال ثم فاء ثم عين تنبيه الذي قرأ بضم الميم في مجراها الجمهور وقرأ الكوفيون حمزة روينا وحفص عن عاصم بالفتح وأبو بكر عن عاصم كالجمهور وقرءوا كلهم في المشهور بالضم في مرساها وعن بن مسعود فتحها أيضا رواه سعيد بن منصور بإسناد حسن وفي قراءة يحيى بن وثاب مجريها ومرسيها بضم أولهما وكسر الراء والسين أي الله فاعل ذلك قوله {رَاسِيَاتٍ} ثابتات قال أبو عبيدة في قوله تعالى {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} أي ثقال ثابتات عظام وكأن المصنف ذكرها استطرادا لما ذكر مرساها قوله ثم وعنود وعاند واحد هو تأكيد التجبر هو قول أبي لكن قال وهو العادل عن الحق وقال بن قتيبة المعارض المخالف قوله ويقول الأشهاد واحدة شاهد مثل صاحب وأصحاب هو كلام أبي عبيدة أيضا واختلف في المراد بهم هنا فقيل الأنبياء وقيل الملائكة أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد وعن زيد بن أسلم الأنبياء والملائكة والمؤمنون وهذا أعم وعن قتادة فيما أخرجه عبد الرزاق الخلائق وهذا أعم من الجميع.
(8/352)
2- باب {وَكَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}
4684- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ وَقَالَ يَدُ اللَّهِ مَلأَى لاَ
تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَقَالَ أَرَأَيْتُمْ مَا
أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي
يَدِهِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ
وَيَرْفَعُ" اعْتَرَاكَ افْتَعَلَكَ مِنْ عَرَوْتُهُ أَيْ أَصَبْتُهُ
وَمِنْهُ يَعْرُوهُ وَاعْتَرَانِي آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أَيْ فِي مِلْكِهِ
وَسُلْطَانِهِ عَنِيدٌ وَعَنُودٌ وَعَانِدٌ وَاحِدٌ هُوَ تَأْكِيدُ التَّجَبُّرِ
اسْتَعْمَرَكُمْ جَعَلَكُمْ عُمَّارًا أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهِيَ عُمْرَى
جَعَلْتُهَا لَهُ نَكِرَهُمْ وَأَنْكَرَهُمْ وَاسْتَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ حَمِيدٌ
مَجِيدٌ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ مَحْمُودٌ مِنْ حَمِدَ سِجِّيلٌ
الشَّدِيدُ الْكَبِيرُ سِجِّيلٌ وَسِجِّينٌ وَاللاَمُ وَالنُّونُ أُخْتَانِ
وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ مُقْبِلٍ:
وَرَجْلَةٍ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً ... ضَرْبًا تَوَاصَى بِهِ الأَبْطَالُ
سِجِّينَا
[الحديث 4684- أطرافه في: 5352، 7411، 7419، 7496]
(8/352)
قوله:"باب قوله {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} "ذكر فيه حديث أبي هريرة، وفيه قوله: "وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع" وسيأتي شرحه في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى، وقوله: "لا يغيضها" بالغين المعجمة والضاد المعجمة الساقطة أي لا ينقصها، وسحاء بمهملتين مثقلا ممدود أي دائمة، ويروي سحا بالتنوين فكأنها لشدة امتلائها تغيض أبدا، والليل والنهار بالنصب على الظرفية، والميزان كناية عن العدل.
(8/353)
3- باب {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} أَيْ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ لأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ وَمِثْلُهُ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ وَاسْأَلْ الْعِيرَ يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَصْحَابَ الْعِيرِ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا يَقُولُ لَمْ تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَيُقَالُ إِذَا لَمْ يَقْضِ الرَّجُلُ حَاجَتَهُ ظَهَرْتَ بِحَاجَتِي وَجَعَلْتَنِي ظِهْرِيًّا وَالظِّهْرِيُّ هَا هُنَا أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً أَوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ أَرَاذِلُنَا سُقَّاطُنَا إِجْرَامِي هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ أَجْرَمْتُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ جَرَمْتُ الْفُلْكُ وَالْفَلَكُ وَاحِدٌ وَهْيَ السَّفِينَةُ وَالسُّفُنُ مُجْرَاهَا مَدْفَعُهَا وَهُوَ مَصْدَرُ أَجْرَيْتُ وَأَرْسَيْتُ حَبَسْتُ وَيُقْرَأُ مَرْسَاهَا مِنْ رَسَتْ هِيَ وَمَجْرَاهَا مِنْ جَرَتْ هِيَ وَمُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا مِنْ فُعِلَ بِهَا رَاسِيَاتٌ ثَابِتَات"
(8/353)
4- باب {وَيَقُولُ
الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ}
واحد الأَشْهَادُ شَاهِدٌ مِثْلُ صَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ
4685- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ
وَهِشَامٌ قَالاَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ
بَيْنَا ابْنُ عُمَرَ يَطُوفُ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَوْ قَالَ يَا ابْنَ عُمَرَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْوَى فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُدْنَى الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ- وَقَالَ
هِشَامٌ- يَدْنُو الْمُؤْمِنُ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ
بِذُنُوبِهِ تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا يَقُولُ أَعْرِفُ يَقُولُ رَبِّ أَعْرِفُ
مَرَّتَيْنِ فَيَقُولُ سَتَرْتُهَا فِي الدُّنْيَا وَأَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ
ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْآخَرُونَ أَوْ الْكُفَّارُ
فَيُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الأَشْهَادِ {هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى
رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} " وَقَالَ شَيْبَانُ
عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا صَفْوَان"
قوله: "باب قوله تعالى: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ
كَذَبُوا} الآية" ذكر فيه حديث ابن عمر في النجوى يوم القيامة، وسيأتي شرحه
في كتاب الأدب. حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع لمسدد فيه إسناد آخر يأتي في الأدب
وفي التوحيد وهو أعلى من هذا رواه عنه مسدد عن أبي عوانة عن قتادة وقوله في
الإسناد حدثنا سعيد وهشام أما سعيد فهو بن أبي عروبة وأما هشام فهو بن عبد الله
الدستوائي وصفوان بن محرز بالحاء المهملة والراء ثم الزاي قوله وقال شيبان عن
قتادة حدثنا صفوان وصله بن مردويه من طريق شيبان وسيأتي بيان ذلك في كتاب التوحيد
إن شاء الله تعالى. قوله: "اعتراك افتعلك من عروته أي أصبته، ومنه يعروه
واعتراني" هو كلام أبي عبيدة، وقد تقدم شرحه في فرض الخمس، وثبت هنا للكشميهني
وحده، ووقع في بعض
(8/353)
5- باب {وَكَذَلِكَ
أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ
شَدِيدٌ} {الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} الْعَوْنُ الْمُعِينُ رَفَدْتُهُ أَعَنْتُهُ
تَرْكَنُوا تَمِيلُوا فَلَوْلاَ كَانَ فَهَلاَ كَانَ أُتْرِفُوا أُهْلِكُوا
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ شَدِيدٌ وَصَوْتٌ ضَعِيفٌ
4686- حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ
حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ
اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ
قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ
أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
قوله باب قوله {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ
إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} الكاف في ذلك لتشبيه الأخذ المستقبل بالأخذ
الماضي وأتى باللفظ الماضي موضع المضارعة على قراءة طلحة بن مصرف وأخذ بفتحتين في
الأول كالثاني مبالغة في تحققه قوله الرفد المرفود العون المعين رفدته أعنته كذا
وقع فيه وقال أبو عبيدة الرفد المرفود العون المعين يقال رفدته ثم الأمير أي أعنته
قال الكرماني وقع في النسخة التي عندنا العون المعين والذي يدل عليه التفسير
المعان فأما أن يكون الفاعل بمعنى المفعول أو المعنى ذو إعانة قوله تركنوا تميلوا
قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} لا
تعدلوا إليهم ولا تميلوا يقال ركنت إلى قولك أي أردته وقبلته وروى عبد بن حميد من
طريق الربيع بن أنس لا تركنوا إلى الذين ظلموا لا ترضوا أعمالهم قوله: {فَلَوْلا
كَانَ} فهلا كان سقط هذا والذي قبله من رواية أبي ذر وهو قول أبي عبيدة قال في
قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ}
مجازه فهلا كان من القرون وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: فلولا قال في
حرف بن مسعود فهلا قوله أترفوا أهلكوا هو تفسير باللازم أي كان الترف سببا
لاهلاكهم وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا
أُتْرِفُوا فِيهِ} أي ما تجبروا وتكبروا
(8/354)
عن أمر الله وصدوا عنه قوله: "زفير وشهيق إلخ" تقدم في بدء الخلق. قوله: "أنبأنا بريد بن أبي بردة عن أبيه" كذا وقع لأبي ذر ووقع لغيره: "عن أبي بردة" بدل عن أبيه وهو أصوب لأن بريد هو ابن عبد الله بن أبي بردة فأبو بردة جده لا أبوه، لكن يجوز إطلاق الأب عليه مجازا. قوله: "إن الله ليملي للظالم" أي بمهملة، ووقع في رواية الترمذي عن أبي كريب عن أبي معاوية "إن الله يملي" وربما قال: "يمهل" ورواه عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن يزيد قال: "يملي" ولم يشك. قلت: قد رواه مسلم وابن ماجه والنسائي من طرق عن أبي معاوية "يملي" ولم يشك. قوله: "حتى إذا أخذه لم يفلته" بضم أوله من الرباعي أي لم يخلصه، أي إذا أهلكه لم يرفع عنه الهلاك، وهذا على تفسير الظلم بالشرك على إطلاقه، وإن فسر بما هو أعم فيحمل كل على ما يليق به، وقيل معنى لم يفلته لم يؤخره، وفيه نظر لأنه يتبادر منه أن الظالم إذا صرف عن منصبه وأهين لا يعود إلى عزه، والمشاهد في بعضهم بخلاف ذلك، فالأولى حمله على ما قدمته. والله أعلم.
(8/355)
باب {أقم الصلاة
طرفي النهار وزلفا من الليل...}
...
6- باب {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} وَزُلَفًا
سَاعَاتٍ بَعْدَ سَاعَاتٍ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْمُزْدَلِفَةُ الزُّلَفُ
مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ وَأَمَّا زُلْفَى فَمَصْدَرٌ مِنْ الْقُرْبَى
ازْدَلَفُوا اجْتَمَعُوا أَزْلَفْنَا جَمَعْنَا
4687- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأُنْزِلَتْ
عَلَيْهِ {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}
قَالَ الرَّجُلُ أَلِيَ هَذِهِ قَالَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي"
قوله: "باب {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ
اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية" كذا لأبي ذر،
وأكمل غيره الآية. واختلف في المراد بطرفي النهار فقيل الصبح والمغرب، وقيل الصبح
والعصر، وعن مالك وابن حبيب الصبح طرف والظهر والعصر طرف. قوله: "وزلفا ساعات
بعد ساعات، ومنه سميت المزدلفة، الزلف منزلة بعد منزلة وأما زلفى فمصدر من القربى،
ازدلفوا اجتمعوا، أزلفنا جمعنا" انتهى. قال أبو عبيدة في قوله: {وَزُلَفًا
مِنْ اللَّيْلِ} : ساعات واحدتها زلفة أي ساعة ومنزلة وقربة، ومنها سميت المزدلفة،
قال العجاج:
ناج طواه مما وجفا ... طي الليالي زلفا فزلفا
وقال في قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي قربت وأدنيت،
وله عندي زلفى أي قربى. وفي قوله: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} أي جمعنا،
ومنه ليلة المزدلفة، واختلف في المراد بالزلف فعن مالك المغرب والعشاء، واستنبط
منه بعض الحنفية وجوب الوتر لأن زلفا جمع أقلة ثلاثة فيضاف إلى المغرب والعشاء
الوتر، ولا يخفى ما فيه. وفي رواية معمر المقدم ذكرها قال قتادة: طرفي النهار
الصبح والعصر، وزلفا من الليل المغرب والعشاء. قوله: "حدثنا مسدد حدثنا يزيد
بن زريع عن سليمان التيمي" كذا وقع فيه، وأخرجه الطبراني عن معاذ بن المثنى
(8/355)
عن مسدد عن سلام بن أبي مطيع عن سليمان التيمي، وكان لمسدد فيه شيخان قوله: "عن أبي عثمان" هو النهدي، في رواية للإسماعيلي وأبي نعيم "حدثنا أبو عثمان" . قوله: "إن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له" في رواية معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عند مسلم والإسماعيلي فذكر أنه أصاب من امرأة قبلة أو مسا بيد أو شيئا، كأنه يسأل عن كفارة ذلك. وعند عبد الرزاق عن معمر عن سليمان التيمي بإسناده "ضرب رجل على كفل امرأة" الحديث. وفي رواية مسلم وأصحاب السنن من طريق سماك بن حرب عن إبراهيم النخعي عن علقمة والأسود عن ابن مسعود "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، فافعل بي ما شئت" الحديث. وللطبري من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: "جاء فلان بن معتب الأنصاري فقال: يا رسول الله دخلت على امرأة فنلت منها ما ينال الرجل من أهله إلا أني لم أجامعها" الحديث، وأخرجه ابن أبي خيثمة لكن قال: "إن رجلا من الأنصار يقال له معتب" وقد جاء أن اسمه كعب بن عمرو وهو أبو اليسر بفتح التحتانية والمهملة الأنصاري أخرجه الترمذي والنسائي والبزار من طريق موسى بن طلحة عن أبي اليسر بن عمرو أنه أتته امرأة وزوجها قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث، فقالت له: بعني تمرا بدرهم، قال فقلت لها وأعجبتني إن في البيت تمرا أطيب من هذا، فانطلق بها معه فغمزها وقبلها ثم فرغ، فخرج فلقي أبا بكر فأخبره، فقال تب ولا تعد. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، وفي روايته أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر فنزلت. وفي رواية ابن مردويه من طريق أبي بريدة عن أبيه "جاءت امرأة من الأنصار إلى رجل يبيع التمر بالمدينة وكانت حسناء جميلة فلما نظر إليها أعجبته" فذكر نحوه، ولم يسم الرجل ولا المرأة ولا زوجها، وذكر بعض الشراح في اسم هذا الرجل بيهان التمار، وقيل عمرو بن غزية وقيل أبو عمرو زيد بن عمرو بن غزية وقيل عامر بن قيس وقيل عباد. قلت: وقصة نبهان التمار ذكرها عبد الغني بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء في تفسيره عن ابن عباس، وأخرجه الثعلبي وغيره من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس "أن نبهانا التمار أتته امرأة حسناء جميلة تبتاع منه تمرا فضرب على عجيزتها ثم ندم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إياك أن تكون امرأة غاز في سبيل الله" ، فذهب يبكي ويصوم ويقوم، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} الآية فأخبره، فحمد الله وقال: يا رسول الله هذه توبتي قبلت، فكيف لي بأن يتقبل شكري؟ فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الآية" ، قلت: وهذا إن ثبت حمل على واقعة أخرى، لما بين السياقين من المغايرة. وأما قصة ابن غزية فأخرجها ابن منده من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} قال: نزلت في عمرو بن غزية وكان يبيع التمر، فأتته امرأة تبتاع تمرا فأعجبته. الحديث. والكلبي ضعيف. فإن ثبت حمل أيضا على التعدد. وظن الزمخشري أن عمرو بن غزية اسم أبي اليسر فجزم به فوهم. وأما ما أخرجه أحمد وعبد بن حميد وغيرهما من حديث أبي أمامة قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إني أصبت حدا فأقمه علي فسكت عنه ثلاثا فأقيمت الصلاة فدعا الرجل فقال: أرأيت حين خرجت من بيتك ألست قد توضأت فأحسنت الوضوء؟ قال: بلى، قال: ثم شهدت الصلاة معنا؟ قال: نعم. قال: فإن الله قد غفر لك" . وتلا هذه الآية. فهي قصة أخرى ظاهر سياقها أنها متأخرة عن نزول الآية، ولعل الرجل ظن أن كل خطيئة فيها حد، فأطلق على ما فعل حدا، والله أعلم. وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. وأما قصة عامر بن قيس
(8/356)
فذكرها مقاتل بن
سليمان في تفسيره. وأما قصة عباد فحكاها القرطبي ولم يعزها، وعباد اسم جد أبي
اليسر فلعله نسب ثم سقط شيء. وأقوى الجميع أنه أبو اليسر والله أعلم. قوله:
"فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية عبد الرزاق أنه أتى أبا
بكر وعمر أيضا. وقال فيها "فكل من سأله عن كفارة ذلك قال: أمعزبة هي؟ قال
نعم. قال: لا أدري. حتى أنزل. فذكر بقية الحديث. وهذه الزيادة وقعت في حديث يوسف
بن مهران عن ابن عباس عند أحمد بمعناه دون قوله لا أدري. قوله: "قال الرجل
ألي هذه"؟ أي الآية يعني خاصة بي بأن صلاتي مذهبة لمعصيتي. وظاهر هذا أن صاحب
القصة هو السائل عن ذلك. ولأحمد والطبراني من حديث ابن عباس "قال يا رسول
الله ألي خاصة أم للناس عامة؟ فضرب عمر صدره وقال: لا ولا نعمة عين، بل للناس
عامة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق عمر" وفي حديث أبي اليسر
"فقال إنسان: يا رسول الله له خاصة" وفي رواية إبراهيم النخعي عند مسلم:
"فقال معاذ يا رسول الله أله وحده أم للناس كافة" وللدار قطني مثله من
حديث معاذ نفسه، ويحمل على تعدد السائلين عن ذلك. وقوله: "ألي" بفتح
الهمزة استفهاما، وقوله: "هذا" مبتدأ تقدم خبره عليه، وفائدته التخصيص.
قوله: "قال: لمن عمل بها من أمتي" تقدم في الصلاة من هذا الوجه بلفظ:
"قال: لجميع أمتي كلهم" وتمسك بظاهر قوله تعالى: {إنَّ الْحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} المرجئة وقالوا: إن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة كانت أو
صغيرة، وحمل الجمهور هذا المطلق على المقيد في الحديث الصحيح " إن الصلاة إلى
الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر" فقال طائفة: إن اجتنبت الكبائر
كانت الحسنات كفارة لما عدا الكبائر من الذنوب، وإن لم تجتنب الكبائر لم تحط
الحسنات شيئا. وقال آخرون: إن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئا منها وتحط
الصغائر. وقيل: المراد أن الحسنات تكون سببا في ترك السيئات كقوله تعالى: { إِنَّ
الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} لا أنها تكفر شيئا حقيقة،
وهذا قول بعض المعتزلة. وقال ابن عبد البر: ذهب بعض أهل العصر إلى أن الحسنات تكفر
الذنوب، واستدل بهذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث الظاهرة في ذلك. قال: ويرد
الحث على التوبة في أي كبيرة، فلو كانت الحسنات تكفر جميع السيئات لما احتاج إلى
التوبة. واستدل بهذا الحديث على عدم وجوب الحد في القبلة واللمس ونحوهما، وعلى
سقوط التعزيز عمن أتى شيئا منها وجاء تائبا نادما. واستنبط منه ابن المنذر أنه لا
حد على من وجد مع امرأة أجنبية في ثوب واحد.
(8/357)
12- سورة يُوسُفَ
وَقَالَ فُضَيْلٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {مُتَّكَأً} الأُتْرُجُّ قَالَ
فُضَيْلٌ الأُتْرُجُّ بِالْحَبَشِيَّةِ مُتْكًا وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ
رَجُلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مُتْكًا قَالَ كُلُّ شَيْءٍ قُطِعَ بِالسِّكِّينِ وَقَالَ
قَتَادَةُ {لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} عَامِلٌ بِمَا عَلِمَ وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {صُوَاعَ الْمَلِكِ} مَكُّوكُ الْفَارِسِيِّ الَّذِي
يَلْتَقِي طَرَفَاهُ كَانَتْ تَشْرَبُ بِهِ الأَعَاجِمُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
{تُفَنِّدُونِ} تُجَهِّلُونِ وَقَالَ غَيْرُهُ {غَيَابَةٌ} كُلُّ شَيْءٍ غَيَّبَ
عَنْكَ شَيْئًا فَهُوَ غَيَابَةٌ {وَالْجُبُّ} الرَّكِيَّةُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ
{بِمُؤْمِنٍ لَنَا} بِمُصَدِّقٍ أَشُدَّهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي النُّقْصَانِ
يُقَالُ {بَلَغَ أَشُدَّهُ} وَبَلَغُوا أَشُدَّهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَاحِدُهَا
شَدٌّ وَالْمُتَّكَأُ مَا اتَّكَأْتَ عَلَيْهِ لِشَرَابٍ أَوْ لِحَدِيثٍ أَوْ
لِطَعَامٍ وَأَبْطَلَ الَّذِي قَالَ الأُتْرُجُّ وَلَيْسَ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ
(8/357)
الأُتْرُجُّ
فَلَمَّا احْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ الْمُتَّكَأُ مِنْ نَمَارِقَ فَرُّوا
إِلَى شَرٍّ مِنْهُ فَقَالُوا إِنَّمَا هُوَ الْمُتْكُ سَاكِنَةَ التَّاءِ
وَإِنَّمَا الْمُتْكُ طَرَفُ الْبَظْرِ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لَهَا مَتْكَاءُ
وَابْنُ الْمَتْكَاءِ فَإِنْ كَانَ ثَمَّ أُتْرُجٌّ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْمُتَّكَإِ
شَغَفَهَا يُقَالُ بَلَغَ شِغَافَهَا وَهُوَ غِلاَفُ قَلْبِهَا وَأَمَّا شَعَفَهَا
فَمِنْ الْمَشْعُوفِ أَصْبُ أَمِيلُ صَبَا مَالَ {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} مَا لاَ
تَأْوِيلَ لَهُ وَالضِّغْثُ مِلْءُ الْيَدِ مِنْ حَشِيشٍ وَمَا أَشْبَهَهُ
وَمِنْهُ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} لاَ مِنْ قَوْلِهِ {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ}
وَاحِدُهَا ضِغْثٌ نَمِيرُ مِنْ الْمِيرَةِ {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} مَا
يَحْمِلُ بَعِيرٌ أَوَى إِلَيْهِ ضَمَّ إِلَيْهِ السِّقَايَةُ مِكْيَالٌ
{تَفْتَأُ} لاَ تَزَالُ. {اسْتَيْأَسُوا} يَئِسُوا {لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ
اللَّهِ} مَعْنَاهُ الرَّجَاءُ {خَلَصُوا نَجِيًّا} اعْتَزَلُوا نَجِيًّا
وَالْجَمِيعُ أَنْجِيَةٌ يَتَنَاجَوْنَ الْوَاحِدُ نَجِيٌّ وَالاثْنَانِ
وَالْجَمِيعُ نَجِيٌّ وَأَنْجِيَةٌ {حَرَضًا} مُحْرَضًا يُذِيبُكَ الْهَمُّ
{تَحَسَّسُوا} تَخَبَّرُوا {مُزْجَاةٍ} قَلِيلَةٍ {غَاشِيَةٌ} مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ عَامَّةٌ مُجَلِّلَةٌ.
قوله: "سورة يوسف {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير
أبي ذر. قوله: "وقال فضيل عن حصين عن مجاهد متكأ الأترج بالحبشية متكا"
كذا لأبي ذر، ولغيره: متكا الأترج. قال فضيل: الأترج بالحبشية متكا. وهذا وصله ابن
أبي حاتم من طريق يحيى بن يمان عن فضيل بن عياض. وأما روايته عن حصين فرويناه في
مسند مسدد رواية معاذ بن المثنى عنه عن فضيل عن حصين عن مجاهد في قوله تعالى:
{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} قال: أترج. ورويناه في تفسير ابن مردويه من هذا
الوجه فزاد فيه عن مجاهد عن ابن عباس، ومن طريقه أخرجه الحافظ الضياء في المختارة،
وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وأعتدت لهن متكا} قال: طعاما.
قوله: "وقال ابن عيينة: عن رجل عن مجاهد متكا كل شيء قطع بالسكين" هكذا
رويناه في "تفسير ابن عيينة" رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه بهذا.
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد: المتكأ بالتثقيل الطعام وبالتخفيف
الأترج، والرواية الأولى عنه أعم. قوله: "يقال بلغ أشده قبل أن يأخذ في
النقصان. ويقال بلغوا أشدهم. وقال بعضهم واحدها شد. والمتكا ما اتكأت عليه لشراب
أو لحديث أو لطعام وأبطل الذي قال الأترج، وليس في كلام العرب الأترج، فلما احتج
عليهم بأن المتكا من نمارق فروا إلى شر منه وقالوا إنما هو المتك ساكنة التاء،
وإنما المتك طرف البظر ومن ذلك قيل لها متكاء وابن المتكاء، فإن كان ثم أترج فإنه
بعد المتكا" قلت: وقع هذا متراخيا عما قبله عند الأكثر، والصواب إيراده تلوه،
فأما الكلام على الأشد فقال أبو عبيدة هو جمع لا واحد له من لفظه، وحكى الطبري أنه
واحد لا نظير له في الآحاد. وقال سيبويه واحده شدة، وكذا قال الكسائي لكن بلا هاء.
واختلف النقلة في قدر الأشد الذي بلغه يوسف فالأكثر أنه الحلم، وعن سعيد بن جبير
ثمان عشرة وقيل سبع عشرة وقيل عشرون وقيل خمسة وعشرون وقيل ما بين ثمان عشرة إلى
ثلاثين، وفي غيره قيل الأكثر أربعون وقيل ثلاثون وقيل ثلاثة وثلاثون وقيل خمسة
وثلاثون وقيل ثمانية وأربعون وقيل ستون. وقال ابن التين: الأظهر أنه أربعون لقوله
تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً} وكان النبي لا
ينبأ حتى يبلغ أربعين، وتعقب بأن عيسى عليه السلام نبئ لدون أربعين ويحيى كذلك
لقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} وسليمان لقوله تعالى:
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} إلى غير ذلك. والحق أن المراد بالأشد بلوغ سن الحلم.
(8/358)
ففي حق يوسف عليه
السلام ظاهر ولهذا جاء بعده {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} وفي حق
موسى عليه السلام لعله بعد ذلك كبلوغ الأربعين ولهذا جاء بعده {وَاسْتَوَى} ووقع
في قوله: {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} في الموضعين فدل على أن الأربعين ليست
حدا لذلك. وأما المتكأ فقال أبو عبيدة أعتدت أفعلت من العتاد ومعناه أعتدت لهن
متكأ أي نمرقا يتكأ عليه، وزعم قوم أنه الترنج وهذا أبطل باطل في الأرض، ولكن عسى
أن يكون مع المتكأ ترنج يأكلونه، ويقال ألقى له متكأ يجلس عليه انتهى. وقوله:
"ليس في كلام العرب الأترج" يريد أنه ليس في كلام العرب تفسير المتكأ
بالأترج، قال صاحب "المطالع" وفي الأترج ثلاث لغات ثانيها بالنون
وثالثها مثلها بحذف الهمزة وفي المفرد كذلك، وعند بعض المفسرين أعتدت لهن البطيخ
والموز، وقيل كان مع الأترج عسل، وقيل كان للطعام المذكور بزماورد، لكن ما نفاه
المؤلف رحمه الله تبعا لأبي عبيدة قد أثبته غيره. قد روى عبد بن حميد من طريق عوف
الأعرابي حديث ابن عباس أنه كان يقرأها متكا مخففة ويقال هو الأترج، وقد حكاها
الفراء وتبعه الأخفش وأبو حنيفة الدينوري والقالي وابن فارس وغيرهم كصاحب
"المحكم" و "الجامع" و "الصحاح" ، وفي الجامع أيضا:
أهل عمان يسمون السوسن المتكأ، وقيل بضم أوله الأترج وبفتحه السوسن. وقال الجوهري:
المتكأ ما تبقيه الخاتنة بعد الختان من المرأة، والمتكاء التي لم تختن، وعن الأخفش
المتكأ الأترج.
" تنبيه " : متكا بضم أوله وسكون ثانيه وبالتنوين على المفعولية هو الذي
فسره مجاهد وغيره بالأترج أو غيره وهي قراءة، وأما القراءة المشهورة فهو ما يتكأ
عليه من وسادة وغيرها كما جرت به عادة الأكابر عند الضيافة. وبهذا التقرير لا يكون
بين النقلين تعارض. وقد روى عبد بن حميد عن طريق منصور عن مجاهد قال: من قرأها مثقلة
قال الطعام، ومن قرأها مخففة قال الأترج، ثم لا مانع أن يكون المتكأ مشتركا بين
الأترج وطرف البظر، والبظر بفتح الموحدة وسكون الظاء المشالة موضع الختان من
المرأة، وقيل البظراء التي لا تحبس بولها. قال الكرماني: أراد البخاري أن المتكأ
في قوله: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} اسم مفعول من الاتكاء، وليس هو متكأ
بمعنى الأترج ولا بمعنى طرف البظر، فجاء فيها بعبارات معجرفة. كذا قال فوقع في أشد
مما أنكره فإنها إساءة على مثل هذا الإمام الذي لا يليق لمن يتصدى لشرح كلامه، وقد
ذكر جماعة من أهل اللغة أن البظر في الأصل يطلق على ما له طرف من الجسد كالثدي.
قوله: "وقال قتادة {لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} عامل بما علم"
وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن عيينة عن سعيد بن أبي عروبة عنه بهذا. قوله:
"وقال سعيد بن جبير "صواع الملك" مكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه،
كانت تشرب الأعاجم به" وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن
سعيد بن جبير مثله، ورواه ابن منده في "غرائب شعبة" وابن مردويه من طريق
عمرو بن مرزوق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {صُوَاعَ
الْمَلِكِ} قال كان كهيئة المكوك من فضة يشربون فيه، وقد كان للعباس مثله في
الجاهلية. وكذا أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن محمد بن جعفر عن شعبة وإسناده صحيح.
والمكوك بفتح الميم وكافين الأولى مضمومة ثقيلة بينهما واو ساكنة هو مكيال معروف
لأهل العراق. "تنبيه" : قراءة الجمهور "صواع" ، وعن أبي هريرة
أنه قرأ: {صاع الملك "عن أبي رجاء" وصوع الملك" بسكون الواو، وعن
يحيى بن يعمر مثله لكن بغين معجمة حكاها الطبري. قوله: "وقال ابن عباس
{تُفَنِّدُونِ} تجهلون" وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي سنان عن عبد الله بن
أبي الهذيل عن ابن عباس في قوله: {لَوْلا أَنْ
(8/359)
تُفَنِّدُونِ} أي
تسفهون، كذا قال أبو عبيدة وكذا أخرجه عبد الرزاق. وأخرج أيضا عن معمر عن قتادة
مثله، وأخرجه ابن مردويه من طريق ابن أبي الهذيل أيضا أتم منه قال في قوله:
{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} قال لما خرجت العير هاجت ريح فأتت يعقوب بريح يوسف
فقال: {نِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} قال لولا أن
تسفهون، قال فوجد ريحه من مسيرة ثلاثة أيام، وقوله: {تُفَنِّدُونِ} مأخوذ من الفند
محركا وهو الهرم. قوله: "غيابة الجب كل شيء غيب عنك فهو غيابة، والجب الركية
التي لم تطو" كذا وقع لأبي ذر فأوهم أنه من كلام ابن عباس لعطفه عليه، وليس
كذلك وإنما هو كلام أبي عبيدة كما هو سأذكره. ووقع في رواية غير أبي ذر "وقال
غيره غيابة إلخ" وهذا هو الصواب. قوله: {بِمُؤْمِنٍ لَنَا} بمصدق قال أبو
عبيدة في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} : أي بمصدق. قوله:
{شَغَفَهَا حُبّاً} يقال بلغ شغفاها وهو غلاف قلبها، وأما شعفها يعني بالعين
المهملة فمن الشعوف" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {شَغَفَهَا حُبّاً} أي وصل
الحب إلى شغاف قلبها وهو غلافه، قال ويقرأه قوم "شعفها" أي بالعين
المهملة وهو من الشعوف انتهى. والذي قرأها بالمهملة أبو رجاء والأعرج وعوف رواه
الطبري، ورويت عن علي والجمهور بالمعجمة، يقال مشغوف بفلان إذا بلغ الحب أقصى
المذاهب، وشعاف الجبال أعلاها، والشغاف بالمعجمة حبة القلب، وقيل علقة سوداء في
صميمه. وروى عبد بن حميد من طريق قرة عن الحسن قال: الشغف - يعني بالمعجمة - أن
يكون قذف في بطنها حبه، والشعف يعني بالمهملة أن يكون مشعوفا بها. وحكى الطبري عن
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن الشعف بالعين المهملة البغض وبالمعجمة الحب، وغلطه
الطبري وقال: إن الشعف بالعين المهملة بمعنى عموم الحب أشهر من أن يجهله ذو علم
بكلامهم. قوله: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أميل إليهن حبا قال أبو عبيدة في قوله تعالى:
{ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي أهواهن وأميل
إليهن، قال الشاعر:
إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبى
أي يمال. قوله: " {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} ما لا تأويل له، الضغث ملء اليد من
حشيش وما أشبهه، ومنه {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} لا من قوله أضغاث أحلام واحدها
ضغث" كذا وقع لأبي ذر، وتوجيهه أنه أراد أن ضغثا في قوله تعالى: {وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثاً} بمعنى ملء الكف من الحشيش لا بمعنى ما لا تأويل له، ووقع عند
أبي عبيدة في قوله تعالى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} : واحدها ضغث بالكسر وهي
ما لا تأويل له من الرؤيا، وأراه جماعات تجمع من الرؤيا كما يجمع الحشيش فيقول ضغث
أي ملء كف منه، وفي آية أخرى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ} وروى عبد
الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "أضغاث أحلام" قال: أخلاط أحلام،
ولأبي يعلى من حديث ابن عباس في قوله: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} قال: هي الأحلام
الكاذبة. قوله: "نمير من الميرة، ونزداد كيل بعير ما يحمل بعير" قال أبو
عبيدة في قوله تعالى: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} : من مرت تمير ميرا وهي الميرة نأتيهم
ونشتري لهم الطعام، و قوله: {كَيْلَ بَعِيرٍ} أي حمل بعير يكال له ما حمل بعيره.
وروى الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله: {كَيْلَ بَعِيرٍ} أي كيل حمار.
وقال ابن خالويه في كتاب "ليس" : هذا حرف نادر، ذكر مقاتل عن الزبور
البعير كل ما يحمل بالعبرانية، ويؤيد ذلك أن إخوة يوسف كانوا من أرض كنعان وليس
بها إبل. كذا
(8/360)
قال. قوله: {آوَى إِلَيْهِ} ضم" قال أبو عبيدة في قوله: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أي ضمه، آواه فهو يؤوى إليه إيواء. قوله: "السقاية مكيال" هي الإناء الذي كان يشرب به، قيل جعله يوسف عليه السلام مكيالا لئلا يكتالوا بغيره فيظلموا، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {جَعَلَ السِّقَايَةَ} قال إناء الملك الذي يشرب به. قوله: "تفتأ لا تزال" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي لا تزال تذكره، وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد {تَفْتَأُ} أي لا تفتر عن حبه. وقيل معنى {تَفْتَأُ} تزال فحذف حرف النفي. قوله: "تحسسوا تخبروا" قال أبو عبيدة في قوله تعالى:{اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} يقول تخيروا والتمسوا في المظان. قوله: "مزجاة قليلة" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أي يسيرة قليلة، قيل فاسدة. وروى عبد الرزاق عن قتادة {مُزْجَاةٍ} قال: يسيرة، ولسعيد بن منصور عن عكرمة في قوله: {مُزْجَاةٍ} قال: قليلة. واختلف في بضاعتهم فقيل: كانت من صوف ونحوه، وقيل دراهم رديئة، وروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن ابن عباس وسئل عن قوله: {بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} قال: رثة الحبل والغرارة والشن. قوله: "غاشية من عذاب الله عامة مجللة" بالجيم، وهو تأكيد لقوله عامة. وقال أبو عبيدة "غاشية من عذاب الله" مجللة، وهي الجيم وتشديد اللام أي تعمهم، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ} أي وقيعة تغشاهم. قوله: "حرضا محرضا يذيبك الهم" قال أبو عبيدة في قوله تعالى:{حَتَّى تَكُونَ}: الحرض الذي أذابه الحزن أو الحب، وهو موضع محرض، قال الشاعر "إني امرؤ لج بي حزن فأحرضني" أي أذابني. قوله: "استيأسوا يئسوا {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} معناه الرجاء" ثبت هذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، وسقط لغيرهما، وقد تقدم في ترجمة يوسف من أحاديث الأنبياء. قوله: {خَلَصُوا نَجِيّاً} أي اعتزلوا نجيا والجمع أنجية يتناجون الواحد نجي والاثنان والجمع نجي وأنجية" ثبت هذا لأبي ذر عن المستملي والكشميهني، ووقع في رواية المستملي: "اعترفوا" بدل اعتزلوا والصواب الأول، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {خَلَصُوا نَجِيّاً}: أي اعتزلوا نجيا يتناجون، والنجي يقع لفظه على الواحد والجمع أيضا، وقد يجمع فيقال أنجية.
(8/361)
1- باب {وَيُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ
مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ}
4688- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ
ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيم"
قوله باب قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ}
الآية" ذكر فيه حديث ابن عمر "الكريم ابن الكريم" الحديث. وأخرج
الحاكم مثله من حديث أبي هريرة، وهو دال على فضيلة خاصة وقعت ليوسف عليه السلام لم
يشركه فيها أحد، ومعنى قوله أكرم الناس أي من جهة النسب، ولا يلزم من ذلك أن يكون أفضل
من غيره مطلقا. وقوله في أول الإسناد "حدثنا عبد الله بن محمد" هو
الجعفي شيخه المشهور، ووقع في "أطراف خلف" هنا: وقال عبد الله بن محمد،
والأول أولى.
(8/361)
2- باب {لَقَدْ
كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}
4689- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّ النَّاسِ
أَكْرَمُ قَالَ أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَنْ
هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ
نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ
هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي قَالُوا نَعَمْ
قَالَ فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا
فَقِهُوا" تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّه"
قوله: "باب {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}
ذكر ابن جرير وغيره أسماء إخوة يوسف وهم: روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وريالون ويشجر
ودان ونيال وجاد واشر وبنيامين، وأكبرهم أولهم. ثم ذكر المصنف في حديث أبي هريرة
"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم" الحديث، وقد تقدم
شرحه مستوفى في أحاديث الأنبياء. ومحمد في أول الإسناد هو ابن سلام كما تقدم مصرحا
به في أحاديث الأنبياء، وعبده هو ابن سليمان، وعبيد الله هو العمري. وفي الجمع بين
قول يعقوب {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} وبين قوله: {وَأَخَافُ أَنْ
يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} غموض، لأنه جزم بالاجتباء، وظاهره فيما يستقبل، فكيف يخاف
عليه أن يهلك قبل ذلك؟ وأجيب بأجوبة: لا يلزم من جواز أكل الذئب له أكل جميعه بحيث
يموت. ثانيها أراد بذلك دفع إخوته عن التوجه به فخاطبهم بما جرت عادتهم لا على ما
هو في معتقده. ثالثها أن قوله: {يَجْتَبِيكَ} لفظه خبر ومعناه الدعاء كما يقال
فلان يرحمه الله فلا ينافي وقوع هلاكه قبل ذلك. رابعها أن الاجتباء الذي ذكر يعقوب
أنه سيحصل له كان حصل قبل أن يسأل إخوته أباهم أن يوجهه معهم، بدليل قوله بعد أن
ألقوه في الجب {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ولا بعد في أن يؤتى النبوة في ذلك السن فقد قال في قصة يحيى
{وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} ولا اختصاص لذلك بيحيى فقد قال عيسى وهو في
المهد {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} وإذا حصل
الاجتباء الموعود به لم يمتنع عليه الهلاك. خامسها أن يعقوب أخبر بالاجتباء مستندا
إلى ما أوحى إليه به، والخبر يجوز أن يدخله النسخ عند قوم فيكون هذا من أمثلته،
وإنما قال: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} تجويزا لا وقوعا، وقريب منه أنه
صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأشياء من علامات الساعة كالدجال ونزول عيسى وطلوع
الشمس من المغرب، ومع ذلك فإنه لما كسفت الشمس يجر رداءه فزعا يخشى أن تكون
الساعة، وقوله: "تابعه أبو أسامة عن عبيد الله" وصله المؤلف في أحاديث
الأنبياء.
(8/362)
باب {قل بل سولت
لكم أنفسكم أمرا فصبرا جميل}
...
3- باب {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}
سَوَّلَتْ زَيَّنَتْ
4690- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن بن شهاب قال
وحدثنا الحجاج حدثنا عبد الله بن عمر النميري حدثنا يونس بن يزيد الأيلي قال سمعت
الزهري سمعت عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد
الله عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال
(8/362)
لها أهل الإفك ما
قالوا فبرأها الله كل حدثني طائفة من الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت
بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه" قلت اني
والله لا أجد مثلا إلا أبا يوسف {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} وأنزل
الله {إن الذين جاءوا بالإفك} العشر الآيات"
4691- حدثنا موسى حدثنا أبو عوانة عن حصين عن أبي وائل قال حدثني مسروق بن الأجدع
قال حدثتني أم رومان وهي أم عائشة قالت: بينا أنا وعائشة أخذتها الحمى فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "لعل في حديث تحدث" قالت نعم وقعدت عائشة قالت مثلي
ومثلكم كيعقوب وبنيه {والله المستعان على ما تصفون} ".
قوله باب قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ} سَوَّلَتْ زَيَّنَت" قال أبو عبيدة في قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} : أي زينت وحسنت. ثم ذكر المصنف طرفا من حديث الإفك، وسيأتي
شرحه بتمامه في تفسير سورة النور. وذكر أيضا من طريق مسروق حدثتني أم رومان
"وهي أم عائشة فذكر أيضا من حديث الإفك طرفا، وقد تقدم بأتم سياقا من هذا في
ترجمة يوسف من أحاديث الأنبياء، وتقدم شرح ما قيل في الإسناد المذكور من الانقطاع
والجواب عنه مستوفى، ويأتي التنبيه على ما فيه من فائدة في تفسير سورة النور إن
شاء الله تعالى.
(8/363)
4- باب
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ
وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ هَيْتَ لَكَ} بِالْحَوْرَانِيَّةِ
هَلُمَّ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ تَعَالَهْ
4692- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ هَيْتَ لَكَ قَالَ وَإِنَّمَا نَقْرَؤُهَا كَمَا عُلِّمْنَاهَا مَثْوَاهُ
مُقَامُهُ وَأَلْفَيَا وَجَدَا أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ أَلْفَيْنَا وَعَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ}
4693- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ
مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
قُرَيْشًا لَمَّا أَبْطَئُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالإِسْلاَمِ قَالَ: "اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ
يُوسُفَ" فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا
الْعِظَامَ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا مِثْلَ الدُّخَانِ قَالَ اللَّهُ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} قَالَ اللَّهُ: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ
قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَْ} أَفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَقَدْ مَضَى الدُّخَانُ وَمَضَتْ الْبَطْشَة"
قوله: "باب {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} اسم
هذه المرأة في المشهور زليخا، وقيل راعيل، واسم سيدها العزيز قطفير بكسر أوله،
وقيل بهمزة بدل القاف. قوله: {وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} .
وقال عكرمة
(8/363)
{هَيْتَ}
بالحورانية هلم. وقال ابن جبير: تعاله" أما قول عكرمة فوصله عبد بن حميد من
طريقه. وأخرج من وجه آخر عن عكرمة قال: {هَيْتَ لَكَ} يعني بضم الهاء وتشديد
التحتانية بعدها أخرى مهموزة. وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق عن عبد الله قال:
"أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم هيت لك يعني هلم لك" وعند عبد
الرزاق من وجه آخر عن عكرمة قال: معناها تهيأت لك. وعن قتادة قال: يقول بعضهم هلم
لك. وأما قول سعيد بن جبير فوصله الطبري وأبو الشيخ من طريقه. وقال أبو عبيدة في
قوله: "وقالت هيت لك" أي هلم، وأنشدني أبو عمرو بن العلاء:
إن العراق وأهله ... عنق إليك فهيت هيتا
قال ولفظ: "هيت" للواحد والاثنين والجمع من الذكر والأنثى سواء، إلا أن
العدد فيما بعد، تقول هيت لك وهيت لكما. قال وشهدت أبا عمرو بن العلاء وسأله رجل
عمن قرأ هئت لك أي بكسر الهاء وضم المثناة مهموزا. فقال: باطل، لا يعرف هذا أحد من
العرب، انتهى. وقد أثبت ذلك الفراء، وساقه من طريق الشعبي عن ابن مسعود، وسيأتي
تحرير النقل عن ابن مسعود في ذلك قريبا. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش.
قوله: "عن عبد الله بن مسعود "قالت هيت لك" وقال إنما نقرؤها كما
علمناها" هكذا أورده مختصرا، وأخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش بلفظ:
إني سمعت الفراء فسمعهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم وإياكم والتنطع والاختلاف،
فإنما هو كقول الرجل: هلم وتعال، ثم قرأ: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} فقلت: إن ناسا
يقرءونها {هَيْتَ لَكَ} قال: لا، لأن أقرأها كما علمت أحب إلى وكذا أخرجه ابن
مردويه من طريق شيبان وزائدة عن الأعمش نحوه، ومن طريق طلحة بن مصرف عن أبي وائل
أن ابن مسعود قرأها "هيت لك بالفتح، ومن طريق سليمان التيمي عن الأعمش.
بإسناده لكن قال بالضم، وروى عبد بن حميد من طريق أبي وائل قال: قرأها عبد الله
بالفتح، قلت له إن الناس يقرءونها بالضم فذكره. وهذا أقوى. قلت: وقراءة ابن مسعود
بكسر الهاء وبالضم وبالفتح بغير همز، وروى عبد بن حميد عن أبي وائل أنه كان يقرؤها
كذلك، لكن بالهمز، وقد تقدم إنكار أبي عمرو ذلك، لكن ثبت ما أنكره في قراءة هشام
في السبعة، وجاء عنه الضم والفتح أيضا، وقرأ ابن كثير بفتح الهاء وبالضم، وقرأ
نافع وابن ذكوان بكسر أوله وفتح آخره، وقرأ الجمهور بفتحهما، وقرأ ابن محصين بفتح
أوله وكسر آخره وهي عن ابن عباس أيضا والحسن، وقرأ ابن أبي إسحاق أحد مشايخ النحو
بالبصرة بكسر أوله وضم آخره، وحكى النحاس أنه قرأ بكسرهما. وأما ما نقل عن عكرمة
أنها بالحورانية فقد وافقه عليه الكسائي والفراء وغيرهما كما تقدم، وعن السدي أنها
لغة قبطية معناها هلم لك، وعن الحسن أنها بالسريانية كذلك. وقال أبو زيد الأنصاري
هي بالعبرانية وأصلها هيت لج أي تعاله فعربت. وقال الجمهور هي عربية معناها الحث
على الإقبال، والله أعلم. قوله: "مثواه مقامه" ثبت هذا لأبي ذر وحده
وكذا الذي بعده، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي مقامه
الذي ثواه، ويقال لمن نزل عليه الشخص ضيفا: أبو مثواه. قوله: "وألفيا وجدا
ألفوا آباءهم وألفى1" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا
لَدَى الْبَابِ} أي وجداه. وفي قوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ} أي
ـــــــ
(1) الذي في المتن "وألفينا"
(8/364)
وجدوا. وفي قوله: "ألفى" أي وجد. قوله: "وعن ابن مسعود بل عجبت ويسخرون" هكذا وقع في هذا الموضع معطوفا على الإسناد الذي قبله وصله الحاكم في "المستدرك" من طريق جرير عن الأعمش بهذا، وقد أشكلت مناسبة إيراد هذه الآية في هذا الموضع فإنها من سورة والصافات، وليس في هذه السورة من معناها شيء. لكن أورد البخاري في الباب حديث عبد الله وهو ابن مسعود "أن قريشا لما أبطئوا على النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أكفنيهم بسبع كسبع يوسف" الحديث ولا تظهر مناسبته أيضا للترجمة المذكورة وهي قوله: "باب قوله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه" وقد تكلف لها أبو الإصبع عيسى بن سهل في شرحه فيما نقلته من رحلة أبي عبد الله بن رشيد عنه ما ملخصه: ترجم البخاري "باب قوله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه" وأدخل حديث ابن مسعود "أن قريشا لما أبطئوا" الحديث وأورد قبل ذلك في الترجمة عن ابن مسعود {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} قال فانتهى إلى موضع الفائدة ولم يذكرها وهو قوله: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} قال: ويؤخذ من ذلك مناسبة التبويب المذكورة، ووجهه أنه شبه ما عرض ليوسف عليه السلام مع إخوته ومع امرأة العزيز بما عرض لمحمد صلى الله عليه وسلم مع قومه حين أخرجوه من وطنه كما أخرج يوسف إخوته وباعوه لمن استعبده فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم قومه لما فتح مكة كما لم يعنف يوسف إخوته حين قالوا له {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر لما سأله أبو سفيان أن يستسقى لهم كما دعا يوسف لإخوته لما جاءوه نادمين فقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} قال: فمعنى الآية بل عجبت من حلمي عنهم مع سخريتهم بك وتماديهم على غيهم، وعلى قراءة ابن مسعود بالضم بل عجبت من حلمك عن قومك إذ أتوك متوسلين بك فدعوت فكشف عنهم، وذلك كحلم يوسف عن إخوته إذ أتوه محتاجين، وكحلمه عن امرأة العزيز حيث أغرت به سيدها وكذبت عليه ثم سجنته ثم عفا عنها بعد ذلك ولم يؤاخذها. قال: فظهر تناسب هاتين الآيتين في المعنى مع بعد الظاهر بينهما. قال: ومثل هذا كثير في كتابه - مما عابه به من لم يفتح الله عليه - والله المستعان. ومن تمام ذلك أن يقال: تظهر المناسبة أيضا بين القصتين من قوله في الصافات: وإذا رأوا آية يستسخرون، فإن فيها إشارة إلى تماديهم على كفرهم وغيهم، ومن قوله في قصة يوسف "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين" . وقول البخاري "وعن ابن مسعود" هو موصول بالإسناد الذي قبله، وقد روى الطبري وابن أبي حاتم من طريق الأعمش عن أبي وائل عن شريح أنه أنكر قراءة "عجبت" بالضم ويقول إن الله لا يعجب وإنما يعجب من لا يعلم، قال فذكرته لإبراهيم النخعي فقال: إن شريحا كان معجبا برأيه، وإن ابن مسعود كان يقرؤها بالضم وهو أعلم منه. قال الكرماني: أورد البخاري هذه الكلمة وإن كانت في الصافات هنا إشارة إلى أن ابن مسعود كان يقرؤها بالضم كما يقرأ هيت بالضم انتهى. وهي مناسبة لا بأس بها إلا أن الذي تقدم عن ابن سهل أدق والله أعلم. وقرأ بالضم أيضا سعيد بن جبير وحمزة والكسائي، والباقون بالفتح، وهو ظاهر وهو ضمير الرسول، وبه صرح قتادة. ويحتمل أن يراد به كل من يصح منه، وأما الضم فحكاية شريح تدل على أنه حمله على الله، وليس لإنكاره معنى لأنه إذا ثبت حمل على ما يليق به سبحانه وتعالى. ويحتمل أن يكون مصروفا للسامع أي قل بل عجبت ويسخرون، والأول هو المعتمد، وقد أقره إبراهيم النخعي وجزم بذلك سعيد بن جبير فيما رواه ابن أبي حاتم قال في قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} الله عجب، ومن طريق أخرى عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه قرأ: {بَلْ عَجِبْتَ} بالرفع ويقول نظيرها {وَإِنْ
(8/365)
تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} ومن طريق الضحاك عن ابن عباس قال سبحان الله عجب. ونقل ابن أبي حاتم في "كتاب الرد على الجهمية" عن محمد بن عبد الرحمن المقري ولقبه مت قال وكان يفضل على الكسائي في القراءة أنه قال: يعجبني أن أقرأ: {بَلْ عَجِبْتَ} بالضم خلافا للجهمية. قوله: "حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن الأعمش عن مسلم" وهو ابن صبيح بالتصغير وهو أبو الضحى وهو بكنيته أشهر، ووقع في "مسند الحميدي" عن سفيان" أخبرني الأعمش - أو أخبرت عنه - عن مسلم: "كذا عنده بالشك، وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريقه، وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن أبي عمر عن سفيان قال: "سمعت من الأعمش أو أخبرته عنه عن مسلم بن صبيح" وهذا الشك لا يقدح في صحة الحديث فإنه قد تقدم في الاستسقاء من طريق أخرى عن الأعمش من غير رواية ابن عيينة، فتكون هذه معدودة في المتابعات، والله أعلم.
(8/366)
5- باب {فَلَمَّا
جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ
النِّسْوَةِ اللاَتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ
لِلَّهِ} وَحَاشَ وَحَاشَى تَنْزِيهٌ وَاسْتِثْنَاءٌ حَصْحَصَ وَضَحَ
4694- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
الْقَاسِمِ عَنْ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ يُونُسَ
بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ
يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ
لاَجَبْتُ الدَّاعِيَ وَنَحْنُ أَحَقُّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لَهُ
{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
قوله: "باب قوله {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ}
- إلى قوله: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} كذا لأبي ذر، وكأن الترجمة انقضت عند قوله
ربك، ثم فسر قوله حاش لله. وساق غيره من أول الآية إلى قوله: {عَنْ نَفْسِهِ
قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} . قوله: "حاش وحاشا تنزيه واستثناء" قال أبو
عبيدة في قوله: {حَاشَ لِلَّهِ} الشين مفتوحة بغير ياء، وبعضهم يدخلها في آخره
كقول الشاعر "حاشى أبي ثوبان إن به" ومعناه التنزيه والاستثناء عن الشر،
تقول حاشيته أي استثنيته، وقد قرأ الجمهور بحذف الألف بعد الشين وأبو عمرو
بإثباتها في الوصل، وفي حذف الألف بعد الحاء لغة وقرأ بها الأعمش، واختلف في أنها
حرف أو اسم أو فعل وشرح ذلك يطول، والذي يظهر أن من حذفها رجح فعليتها بخلاف من
نفاها، ويؤيد فعليتها قول النابغة "ولا أحاشي من الأقوام من أحد" فإن
تصرف الكلمة من الماضي إلى المستقبل دليل فعليتها، واقتضى كلامه أن إثبات الألف
وحذفها سواء لغة، وقيل إن حذف الألف الأخيرة لغة أهل الحجاز دون غيرهم.
" تنبيه " : قوله: "تنزيه" في رواية الأكثر بفتح أوله وسكون
النون بعدها زاي مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم هاء وفي رواية حكاها عياض موحدة ساكنة
بعد أوله وكسر الراء بعدها تحتانية مفتوحة مهموزة ثم تاء تأنيث. قوله: "حصحص
وضح" قال أبو عبيدة في قوله: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي الساعة وضح الحق
وتبين. وقال الخليل: معناه تبين وظهر بعد خفاء، ثم قيل هو مأخوذ من الحصة أي ظهرت
حصة الحق
(8/366)
من حصة الباطل، وقيل من حصة إذا قطعه، ومنه أحص الشعر وحص وحصحص مثل كف وكفكف. قوله: "حدثنا سعيد بن تليد" بفتح المثناة وكسر اللام بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة هو سعيد بن عيسى بن تليد، مصري يكنى أبا عثمان، تقدم ذكره في بدء الخلق، نسبه البخاري إلى جده. قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن القاسم" هو العتقي بضم المهملة وفتح المثناة بعدها قاف المصري الفقيه المشهور صاحب مالك وراوي المدونة من علم مالك، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع. والإسناد مسلسل بالمصريين إلى يونس بن يزيد والباقون مدنيون، وفيه رواية الأقران لأن عمرو بن الحارث المصري الفقيه المشهور من أقران يونس بن يزيد، وقد تقدم شرح حديث الباب في ترجمتي إبراهيم ولوط من أحاديث الأنبياء.
(8/367)
6- باب {حَتَّى
إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}
4695- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَهُ وَهُوَ
يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}
قَالَ قُلْتُ أَكُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا قَالَتْ عَائِشَةُ كُذِّبُوا قُلْتُ
فَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ
قَالَتْ أَجَلْ لَعَمْرِي لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ فَقُلْتُ لَهَا وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ الرُّسُلُ تَظُنُّ
ذَلِكَ بِرَبِّهَا قُلْتُ فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ
الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْبَلاَءُ
وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ النَّصْرُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ
كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنَّتْ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ
كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِك"
4696- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ فَقُلْتُ لَعَلَّهَا كُذِبُوا مُخَفَّفَةً قَالَتْ مَعَاذَ
اللَّهِ نَحْوَه"
قوله: "باب قوله {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} استيأس استفعل من
اليأس ضد الرجاء، قال أبو عبيدة في قوله: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ}
استفعلوا من يئست، ومثله في هذه الآية، وليس مراده باستفعل إلا الوزن خاصة وإلا
فالسين والتاء زائدتان، واستيأس بمعنى يئس كاستعجب وعجب وفرق بينهما الزمخشري بأن
الزيادة تقع في مثل هذا للتنبيه على المبالغة في ذلك الفعل، واختلف فيما تعلقت به
الغاية من قوله: "حتى" فاتفقوا على أنه محذوف، فقيل التقدير {مَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} فتراخى النصر عنهم
"حتى إذا" وقيل التقدير فلم تعاقب أممهم حتى إذا، وقيل فدعوا قومهم
فكذبوهم فطال ذلك حتى إذا. قوله: "عن صالح" هو ابن كيسان. قوله:
"عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله عز وجل" في رواية عقيل عن ابن
شهاب في أحاديث الأنبياء "أخبرني عروة أنه سأل عائشة عن قوله تعالى"
فذكره. قوله: "قلت كذبوا أم كذبوا" أي مثقلة أو مخففة؟ ووقع ذلك صريحا
في رواية الإسماعيلي من طريق صالح ابن كيسان هذه. قوله: "قالت عائشة
كذبوا" أي بالتثقيل في رواية الإسماعيلي مثقلة. قوله:"فما هو بالظن؟
قالت أجل" زاد الإسماعيلي: "قلت فهي مخففة، قالت معاذ الله" وهذا
ظاهر في أنها
(8/367)
أنكرت القراءة بالتخفيف بناء على أن الضمير للرسل، وليس الضمير للرسل على ما بينته ولا لإنكار القراءة بذلك معنى بعد ثبوتها. ولعلها لم يبلغها ممن يرجع إليه في ذلك. وقد قرأها بالتخفيف أئمة الكوفة من القراء عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، ووافقهم من الحجازيين أبو جعفر بن القعقاع، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي في آخرين. وقال الكرماني: لم تنكر عائشة القراءة، وإنما أنكرت تأويل ابن عباس. كذا قال، وهو خلاف الظاهر، وظاهر السياق أن عروة كان يوافق ابن عباس في ذلك قبل أن يسأل عائشة، ثم لا يدري رجع إليها أم لا. روى ابن أبي حاتم من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري قال: جاء رجل إلى القاسم بن محمد فقال له إن محمد بن كعب القرظي يقرأ: {كذبوا" بالتخفيف فقال: أخبره عني أني سمعت عائشة تقول "كذبوا" مثقلة أي كذبتهم أتباعهم. وقد تقدم في تفسير البقرة من طريق ابن أبي مليكة قال: "قال ابن عباس { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} خفيفة قال ذهب بها هنالك" وفي رواية الأصيلي: "بما هنالك" بميم بدل الهاء وهو تصحيف. وقد أخرجه النسائي والإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: "ذهب هاهنا - وأشار إلى السماء - وتلا حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب" وزاد الإسماعيلي في روايته: "ثم قال ابن عباس كانوا بشرا ضعفوا وأيسوا وظنوا أنهم قد كذبوا" وهذا ظاهره أن ابن عباس كان يذهب إلى أن قوله: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} مقول الرسول، وإليه ذهب طائفة. ثم اختلفوا فقيل الجميع مقول الجميع، وقيل الجملة الأولى مقول الجميع والأخيرة من كلام الله. وقال آخرون الجملة الأولى وهي {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} مقول الذين آمنوا معه. والجملة الأخيرة وهي {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} مقول الرسول، وقدم الرسول في الذكر لشرفه وهذا أولى، وعلى الأول فليس قول الرسول {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} شكا بل استبطاء للنصر وطلبا له، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم يوم بدر "اللهم أنجز لي ما وعدتني" قال الخطابي: لا شك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تكذب بالوحي، ولا يشك في صدق المخبر، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهما لطول البلاء عليهم وإبطاء النصر وشدة استنجاز من وعدوه به توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان حسبانا من أنفسهم، وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من ذلك، فيكون الذي بنى له الفعل أنفسهم لا الآتي بالوحي، والمراد بالكذب الغلط لا حقيقة الكذب كما يقول القائل كذبتك نفسك. قلت: ويؤيده قراءة مجاهد {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} بفتح أوله مع التخفيف أي غلطوا، ويكون فاعل "وظنوا" الرسل، ويحتمل أن يكون أتباعهم. ويؤيده ما رواه الطبري بأسانيد متنوعة من طريق عمران بن الحارث وسعيد بن جبير وأبي الضحى وعلي بن أبي طلحة والعوفي كلهم عن ابن عباس في هذه الآية قال: أيس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل كذبوا. وقال الزمخشري: إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في النفس من الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأما الظن وهو ترجيح أحد الطرفين فلا يظن بالمسلم فضلا عن الرسول. وقال أبو نصر القشيري ولا يبعد أن المراد خطر بقلب الرسل فصرفوه عن أنفسهم، أو المعنى قربوا من الظن كما يقال بلغت المنزل إذا قربت منه. وقال الترمذي الحكيم: وجهه أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر أن يتخلف النصر، لا من تهمة بوعد الله بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال واشتد البلاء عليهم دخلهم الظن من هذه الجهة. قلت: ولا يظن بابن عباس أنه يجوز على الرسول أن نفسه تحدثه بأن الله
(8/368)
يخلف وعده، بل الذي يظن بابن عباس أنه أراد بقوله: "كانوا بشرا" إلى آخر كلامه من آمن من أتباع الرسل لا نفس الرسل، وقول الراوي عنه "ذهب بها هناك" أي إلى السماء معناه أن أتباع الرسل ظنوا أن ما وعدهم به الرسل على لسان الملك تخلف، ولا مانع أن يقع ذلك في خواطر بعض الأتباع. وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح. ثم الزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس، فإنه صح عنه، لكن لم يأت عنه التصريح بأن الرسل هم الذين ظنوا ذلك، ولا يلزم ذلك من قراءة التخفيف، بل الضمير في {وَظَنُّوا} عائد على المرسل إليهم، وفي "وكذبوا" عائد على الرسل أي وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا، أو الضمائر للرسل والمعنى يئس الرسل من النصر وتوهموا أن أنفسهم كذبتهم حين حدثتهم بقرب النصر، أو كذبهم رجاؤهم. أو الضمائر كلها للمرسل إليهم أي يئس الرسل من إيمان من أرسلوا إليه، وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوهم في جميع ما ادعوه من النبوة والوعد بالنصر لمن أطاعهم والوعيد بالعذاب لمن لم يجبهم، وإذا كان ذلك محتملا وجب تنزيه ابن عباس عن تجويزه ذلك على الرسل، ويحمل إنكار عائشة على ظاهر مساقهم من إطلاق المنقول عنه. وقد روى الطبري أن سعيد ابن جبير سئل عن هذه الآية فقال: يئس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا. فقال الضحاك بن مزاحم لما سمعه: لو رحلت إلى اليمن في هذه الكلمة لكان قليلا. فهذا سعيد بن جبير وهو من أكابر أصحاب ابن عباس العارفين بكلامه حمل الآية على الاحتمال الأخير الذي ذكرته. وعن مسلم بن يسار أنه سأل سعيد بن جبير فقال له: آية بلغت مني كل مبلغ، فقرأ هذه الآية بالتخفيف، قال في هذا ألوت أن تظن الرسل ذلك، فأجابه بنحو ذلك، فقال: فرجت عني فرج الله عنك، وقام إليه فاعتنقه. وجاء ذلك من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس نفسه، فعند النسائي من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {قَدْ كُذِبُوا} قال: استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم. وإسناده حسن. فليكن هو المعتمد في تأويل ما جاء عن ابن عباس في ذلك، وهو أعلم بمراد نفسه من غيره. ولا يرد على ذلك ما روى الطبري من طريق ابن جريج في قوله: {قَدْ كُذِبُوا} خفيفة أي أخلفوا، ألا إنا إذا قررنا أن الضمير للمرسل إليهم لم يضر تفسير كذبوا بأخلفوا، أي ظن المرسل إليهم أن الرسل أخلفوا ما وعدوا به، والله أعلم. وروى الطبري من طريق تميم بن حذلم. سمعت ابن مسعود يقول في هذه الآية: استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أن الرسل كذبوهم. ومن طريق عبد الله بن الحارث: استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن القوم أنهم قد كذبوا فيما جاءوهم به. وقد جاء عن ابن مسعود شيء موهم كما جاء عن ابن عباس، فروى الطبري من طريق صحيح عن مسروق عن ابن مسعود أنه قرأ: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مخففة قال أبو عبد الله: هو الذي يكره. وليس في هذا أيضا ما يقطع به على أن ابن مسعود أراد أن الضمير للرسل، بل يحتمل أن يكون الضمير عنده لمن أمن من أتباع الرسل، فإن صدور ذلك ممن أمن مما يكره سماعه، فلم يتعين أنه أراد الرسل. قال الطبري: لو جاز أن يرتاب الرسل بوعد الله ويشكوا في حقيقة خبره لكان المرسل إليهم أولى بجواز ذلك عليهم. وقد اختار الطبري قراءة التخفيف ووجهها بما تقدم ثم قال: وإنما اخترت هذا لأن الآية وقعت عقب قوله: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فكان في ذلك إشارة إلى أن يأس الرسل كان من إيمان قومهم الذين كذبوهم فهلكوا، أو أن المضمر في قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} إنما هو للذين من قبلهم من الأمم
(8/369)
الهالكة. ويزيد ذلك وضوحا أن في بقية الآية الخبر عن الرسل ومن آمن بهم بقوله تعالى:{فننجي من نشاء} أي الذين هلكوا هم الذين ظنوا أن الرسل قد كذبوا فكذبوهم، والرسل ومن اتبعهم هم الذين نجوا، انتهى كلامه، ولا يخلو من نظر. قوله :"قالت أجل" أي نعم. ووقع في رواية عقيل في أحاديث الأنبياء في هذا الموضع "فقالت يا عرية" وهو بالتصغير وأصله عريوة فاجتمع حرفا علة فأبدلت الواو ياء ثم أدغمت في الأخرى. قوله: "لعمري لقد استيقنوا بذلك" فيه إشعار بحمل عروة الظن على حقيقته وهو رجحان أحد الطرفين، ووافقته عائشة. لكن روى الطبري من طريق سعيد عن قتادة أن المراد بالظن هنا اليقين. ونقله نفطويه هنا عن أكثر أهل اللغة وقال: هو كقوله في آية أخرى {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} وأنكر ذلك الطبري وقال: إن الظن لا تستعمله العرب في موضع العلم إلا فيما كان طريقه غير المعاينة، فأما ما كان طريقه المشاهدة فلا، فإنها لا تقول أظنني إنسانا ولا أظنني حيا بمعنى إنسانا أو حيا. قوله في الطريق الثانية عن الزهري "أخبرني عروة فقلت لعلها كذبوا مخففة قالت معاذ الله. نحوه" هكذا أورده مختصرا، وقد ساقه أبو نعيم في "المستخرج" بتمامه ولفظه عن عروة أنه سأل عائشة فذكر نحو حديث صالح بن كيسان. "فائدة" : قوله تعالى في بقية الآية "فننجي من نشاء" قرأ الجمهور بنونين الثانية ساكنة والجيم خفيفة وسكون آخره مضارع أنجي، وقرأ عاصم وابن عامر بنون واحدة وجيم مشددة وفتح آخره على أنه فعل ماض مبني للمفعول ومن قائمة مقام الفاعل، وفيها قراءات أخرى. قال الطبري كل من قرأ بذلك فهو منفرد بقراءته والحجة في قراءة غيره، والله أعلم.
(8/370)
13- سورة الرَّعْدِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} مَثَلُ الْمُشْرِكِ الَّذِي عَبَدَ
مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ غَيْرَهُ كَمَثَلِ الْعَطْشَانِ الَّذِي يَنْظُرُ
إِلَى ظِلِّ خَيَالِهِ فِي الْمَاءِ مِنْ بَعِيدٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ
يَتَنَاوَلَهُ وَلاَ يَقْدِرُ وَقَالَ غَيْرُهُ سَخَّرَ ذَلَّلَ {مُتَجَاوِرَاتٌ}
مُتَدَانِيَاتٌ وَقَالَ غَيْرُهُ {الْمَثُلاَتُ} وَاحِدُهَا مَثُلَةٌ وَهِيَ
الأَشْبَاهُ وَالأَمْثَالُ وَقَالَ { إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا}
{بِمِقْدَارٍ} بِقَدَرٍ يُقَالُ {مُعَقِّبَاتٌ} مَلاَئِكَةٌ حَفَظَةٌ تُعَقِّبُ
الأُولَى مِنْهَا الأُخْرَى وَمِنْهُ قِيلَ الْعَقِيبُ أَيْ عَقَّبْتُ فِي
إِثْرِهِ {الْمِحَالِ} الْعُقُوبَةُ {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ}
لِيَقْبِضَ عَلَى الْمَاءِ {رَابِيًا} مِنْ رَبَا يَرْبُو أَوْ {مَتَاعٍ زَبَدٌ}
الْمَتَاعُ مَا تَمَتَّعْتَ بِهِ {جُفَاءً} يُقَالُ أَجْفَأَتْ الْقِدْرُ إِذَا
غَلَتْ فَعَلاَهَا الزَّبَدُ ثُمَّ تَسْكُنُ فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ بِلاَ
مَنْفَعَةٍ فَكَذَلِكَ يُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ {الْمِهَادُ}
الْفِرَاشُ {يَدْرَءُونَ} يَدْفَعُونَ دَرَأْتُهُ عَنِّي دَفَعْتُهُ {سَلاَمٌ
عَلَيْكُمْ} أَيْ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} تَوْبَتِي
{أَفَلَمْ يَيْئَسْ} أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ {قَارِعَةٌ} دَاهِيَةٌ {فَأَمْلَيْتُ}
أَطَلْتُ مِنْ الْمَلِيِّ وَالْمِلاَوَةِ وَمِنْهُ {مَلِيًّا} وَيُقَالُ
لِلْوَاسِعِ الطَّوِيلِ مِنْ الأَرْضِ مَلًى مِنْ الأَرْضِ {أَشَقُّ} أَشَدُّ مِنْ
الْمَشَقَّةِ {مُعَقِّبَ} مُغَيِّرٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مُتَجَاوِرَاتٌ} طَيِّبُهَا
وَخَبِيثُهَا السِّبَاخُ {صِنْوَانٌ} النَّخْلَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِي أَصْلٍ
وَاحِدٍ {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} وَحْدَهَا {بِمَاءٍ وَاحِدٍ} كَصَالِحِ بَنِي آدَمَ
(8/370)
وَخَبِيثِهِمْ
أَبُوهُمْ وَاحِدٌ {السَّحَابُ الثِّقَالُ} الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ {كَبَاسِطِ
كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} يَدْعُو الْمَاءَ بِلِسَانِهِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ
بِيَدِهِ فَلاَ يَأْتِيهِ أَبَدًا {َسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} تَمْلاَ
بَطْنَ كُلِّ وَادٍ {زَبَدًا رَابِيًا} الزَّبَدُ زَبَدُ السَّيْلِ {زَبَدٌ
مِثْلُهُ} خَبَثُ الْحَدِيدِ وَالْحِلْيَةِ
قوله: "سورة الرعد {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثبت البسملة لأبي
ذر وحده. قوله :"قال ابن عباس {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} مثل المشرك الذي عبد مع
الله إلها آخر غيره كمثل العطشان الذي ينظر إلى ظل خياله في الماء من بعيد وهو
يريد أن يناوله ولا يقدر" وصله ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس في قوله: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ}
الآية، فذكر مثله وقال في آخره: ولا يقدر عليه.
" تنبيه " : وقع في رواية الأكثر "فلا يقدر" بالراء وهو
الصواب، وحكى عياض أن في رواية غير القابسي "يقدم" بالميم وهو تصحيف وإن
كان له وجه من جهة المعنى. وروى الطبري أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس في هذه
الآية قال: "مثل الأوثان التي تعبد من دون الله كمثل رجل قد بلغه العطش حتى
كربه الموت وكفاه في الماء قد وضعهما لا يبلغان فاه، يقول الله لا يستجيب له
الأوثان ولا تنفعه حتى تبلغ كفا هذا فاء وما هما ببالغتين فاه أبدا. ومن طريق أبي
أيوب عن علي قال: كالرجل العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو
بمرتفع. ومن طريق سعيد عن قتادة: الذي يدعو من دون الله إلها لا يستجيب له بشيء
أبدا من نفع أو ضر حتى يأتيه الموت، مثله كمثل الذي بسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه
ولا يصل ذلك إليه فيموت عطشا. ومن طريق معمر عن قتادة نحوه ولكن قال: وليس الماء
ببالغ فاه ما دام باسطا كفيه لا يقبضهما، وسيأتي قول مجاهد في ذلك فيما بعد. قوله:
"وقال غيره: متجاورات متداينات. وقال غيره: المثلات واحدها مثلة وهي الأمثال
والأشباه. وقال: إلا مثل أيام الذين خلوا" هكذا وقع في رواية أبي ذر، ولغيره:
وقال غيره سخر ذلل، متجاورات متدانيات، المثلات واحدها مثلة إلى آخره، فجعل الكل
لقاتل واحد. وقوله: "وسخر" هو بفتح المهملة وتشديد الخاء المعجمة. وذلل
بالذال المعجمة وتشديد اللام تفسير سخر، وكل هذا كلام أبي عبيدة قال في قوله:
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي ذللهما فانطاعا، قال: والتنوين في كل بدل من
الضمير للشمس والقمر، وهو مرفوع على الاستئناف فلم يعمل فيه وسخر. وقال في قوله:
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} أي متدانيات متقاربات. وقال في قوله:
{وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} قال: الأمثال والأشباه والنظير. وروى
الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {الْمَثُلاتُ} قال: الأمثال. ومن
طريق معمر عن قتادة قال: المثلات العقوبات. ومن طريق زيد بن أسلم: المثلات ما مثل
الله به من الأمم من العذاب، وهو جمع مثلة كقطع الأذن والأنف.
" تنبيه " : المثلات والمثلة كلاهما بفتح الميم وضم المثلثة مثل سمرة
وسمرات، وسكن يحيى بن وثاب المثلثة في قراءته وضم الميم، وكذا طلحة بن مصرف لكن
فتح أوله، وقرأ الأعمش بفتحهما. وفي رواية أبي بكر بن عياش بضمهما، وبهما قرأ عيسى
بن عمر. قوله: "بمقدار بقدر" هو كلام أبي عبيدة أيضا وزاد: مفعال من
القدر، وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة: أي جعل لهم أجلا معلوما. قوله:
"يقال معقبات ملائكة حفظة تعقب الأولى منها الأخرى ومنه قيل العقيب أي عقبت
في أثره" سقط لفظ: "يقال: "من رواية غير أبي ذر وهو أولى فإنه كلام
أبي عبيدة أيضا قال في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} أي
ملائكة تعقب بعد ملائكة،
(8/371)
حفظة بالليل تعقب
بعد حفظة النهار وحفظة النهار تعقب بعد حفظة الليل، ومنه قولهم فلان عقبني وقولهم
عقبت في أثره. وروى الطبري بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَهُ
مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} قال: ملائكة يحفظونه من بين
يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدره خلوا عنه. ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في
قوله: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يقول بإذن الله، فالمعقبات هن من أمر الله وهي
الملائكة. ومن طريق سعيد بن جبير قال: حفظهم إياه بأمر الله. ومن طريق إبراهيم
النخعي قال: يحفظونه من الجن. ومن طريق كعب الأحبار قال: لولا أن الله وكل بكم
ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتم. وأخرج الطبري من طريق
كنانة العدوي أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد الملائكة الموكلة
بالآدمي فقال: لكل آدمي عشرة بالليل وعشرة بالنهار، واحد عن يمينه وآخر عن شماله
واثنان من بين يديه ومن خلفه واثنان على جنبيه وآخر قابض على ناصيته فإن تواضع
رفعه وإن تكبر وضعه واثنان على شفتيه ليس يحفظان عليه إلا الصلاة على محمد والعاشر
يحرسه من الحية أن تدخل فاه يعني إذا نام. وجاء في تأويل قول آخر رجحه ابن جرير
فأخرج بإسناد صحيح عن ابن عباس في قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} قال: ذلك ملك من ملوك
الدنيا له حرس ومن دونه حرس. ومن طريق عكرمة في قوله: {مُعَقِّبَاتٌ} قال:
المراكب. "تنبيه" : عقبت يجوز فيه تخفيف القاف وتشديدها، وحكى ابن التين
عن رواية بعضهم كسر القاف مع التخفيف فيكشف عن ذلك لاحتمال أن يكون لغة. قوله:
"المحال العقوبة" هو قول أبي عبيدة أيضا، وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن
أبي نجيح عن مجاهد في قوله: "شديد المحال" قال شديد القوة، ومثله عن
قتادة ونحوه عن السدي. وفي رواية عن مجاهد: شديد الانتقام، وأصل المحال بكسر الميم
القوة، وقيل أصله المحل وهو المكر، وقيل الحيلة والميم مزيدة وغلطوا قائله، ويؤيد
التأويل الأول قوله في الآية {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ
يَشَاءُ} ، وروى النسائي في سبب نزولها من طريق علي بن أبي سارة عن ثابت عن أنس
قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من فراعنة العرب يدعوه - الحديث
وفيه - فأرسل الله صاعقة فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله هذه الآية" وأخرجه
البزار من طريق أخرى عن ثابت والطبراني من حديث ابن عباس مطولا. قوله: "كباسط
كفيه إلى الماء ليقبض على الماء" هو كلام أبي عبيدة أيضا قال في قوله:
{إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} أي أن الذي يبسط
كفيه ليقبض على الماء حتى يؤديه إلى فمه لا يتم له ذلك ولا تجمعه أنامله، قال صابئ
بن الحارث:
وإني وإياكم وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تسقه أنامله
تسقه بكسر المهملة وسكون القاف أي لم تجمعه. قوله: "رابيا من ربا يربو"
قال أبو عبيدة في قوله: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} من ربا يربو أي
ينتفخ، وسيأتي تفسير قتادة قريبا. قوله: {أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} ، المتاع
ما تمتعت به" هو قول أبي عبيدة أيضا، وسيأتي تفسير مجاهد لذلك قريبا. قوله:
"جفاه يقال أجفأت القدر إذا غلت فعلاها الزبد ثم تسكن فيذهب الزبد بلا منفعة
فكذلك يميز الحق من الباطل" قال أبو عبيدة في قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفَاءً} . قال أبو عمرو بن العلاء: يقال أجفأت القدر وذلك إذا غلت
وانتصب زبدها، فإذا سكنت لم يبق منه شيء. ونقل الطبري عن بعض أهل اللغة من
البصريين أن معنى قوله: {فَيَذْهَبُ جُفَاء} تنشفه
(8/372)
الأرض، يقال جفا
الوادي وأجفى في معنى نشف، وقرأ رؤبة بن العجاج "فيذهب جفالا" باللام
بدل الهمزة وهي من أجفلت الريح الغيم إذا قطعته. قوله: "المهاد الفراش"
ثبت هذا لغير أبي ذر وهو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "يدرءون يدفعون درأته عني
دفعته" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "الأغلال واحدها غل، ولا تكون إلا
في الأعناق" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي يقولون
سلام عليكم" قال أبو عبيدة في قوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ
مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ} قال: مجازه مجاز المختصر الذي فيه ضمير، تقديره يقولون
سلام عليكم. وقال الطبري: حذفت يقولون لدلالة الكلام، كما حذفت في قوله: {وَلَوْ
تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا
أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} والأولى أن المحذوف حال من فاعل يدخلون، أي يدخلون
قائلين. وقوله: {بِمَا صَبَرْتُمْ} يتعلق بما يتعلق به عليكم، وما مصدرية أي بسبب
صبركم. قوله: "والمتاب إليه توبتي" قال أبو عبيدة: المتاب مصدر تبت إليه
وتوبتي، وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح في قوله: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ}
قال: توبتي. قوله: "أفلم ييأس أفلم يتبين" قال أبو عبيدة في قوله تعالى:
{أفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي أفلم يعلم ويتبين قال سحيم اليربوعي:
"ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم" أي لم تبينوا. وقال آخر:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
ونقل الطبري عن القاسم بن معن أنه كان يقول: إنها لغة هوازن تقول: يئست كذا أي
علمته، قال: وأنكره بعض الكوفيين - يعني الفراء - لكنه سلم أنه هنا بمعنى علمت وإن
لم يكن مسموعا، ورد عليه بأن من حفظ حجه على من لم يحفظ، ووجهوه بأن اليأس إنما
استعمل بمعنى العلم، لأن الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون. وروى الطبري من طرق عن
مجاهد وقتادة وغيرهما {أفَلَمْ يَيْأَسِ} أي أفلم يعلم، وروى الطبري وعبد بن حميد
بإسناد صحيح كلهم من رجال البخاري عن ابن عباس أنه كان يقرؤها "أفلم
يتبين" ويقول: كتبها الكاتب وهو ناعس ومن طريق ابن جريج قال: زعم ابن كثير
وغيره أنها القراءة الأولى، وهذه القراءة جاءت عن علي وابن عباس وعكرمة وابن مليكة
وعلي بن بديمة وشهر بن حوشب بن الحسين وابنه زيد وحفيده جعفر بن محمد في آخر من
قرءوا كلهم "أفلم يتبين" وأما ما أسنده الطبري عن ابن عباس فقد اشتد
إنكار جماعة ممن لا علم له بالرجال صحته، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته إلى أن
قال: وهي والله فرية ما فيها مرية. وتبعه جماعة بعده، والله المستعان. وقد جاء عن
ابن عباس نحو ذلك في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ
إِيَّاهُ} قال: "ووصى" التزقت الواو في الصاد، أخرجه سعيد بن منصور
بإسناد جيد عنه. وهذه الأشياء وإن كان غيرها المعتمد، لكن تكذيب المنقول بعد صحته
ليس من دأب أهل التحصيل، فلينظر في تأويله بما يليق به. قوله: "قارعة
داهية" قال أبو عبيدة في قوله: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} أي
داهية مهلكة. تقول قرعت عظمة أي صدعته، وفسره غيره بأخص من ذلك: فأخرج الطبري
بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا
تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} قال سرية أو تحل قريبا من دارهم قال أنت يا
محمد حتى يأتي وعد الله فتح مكة، ومن طريق مجاهد وغيره نحوه. قوله: "فأمليت
أطلت، من الملي والملاوة. ومنه مليا، ويقال للواسع الطويل من الأرض ملي" كذا
فيه، والذي قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي
أطلت لهم، ومنه الملي والملاوة من الدهر، ويقال لليل والنهار الملوان لطولهما، ويقال
للخرق الواسع من الأرض ملي، قال الشاعر "ملي لا تخطاه
(8/373)
العيون رغيب"
انتهى. والملي بفتح ثم كسر تم تشديد بغير همزة. قوله: "أشق أشد من
المشقة" هو قول أبي عبيدة أيضا، ومراده أنه أفعل تفضيل. قوله: "معقب
مغير" قال أبو عبيدة في قوله: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي لا راد لحكمه ولا
مغير له عن الحق، وروى ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم في قوله: {لا مُعَقِّبَ
لِحُكْمِهِ} أي لا يتعقب أحد حكمه فيرده. قوله: "وقال مجاهد متجاورات طيبها
وخبيثها السباخ" كذا للجميع، وسقط خبر طيبها وقد وصله الفريابي من طريق ابن
أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} قال: طيها
عذبها، وخبيثها السباخ. وعند الطبري من وجه آخر عن مجاهد: القطع المتجاورات العذبة
والسبخة والمالح والطيب ومن طريق أبي سنان عن ابن عباس مثله، ومن وجه آخر منقطع عن
ابن عباس مثله وزاد: تنبت هذه وهذه إلى جنبها لا تنبت. ومن طريق أخرى متصلة عن ابن
عباس قال: تكون هذه حلوة وهذه حامضة وتسقى بماء واحد وهن متجاورات. قوله:
"صنوان النخلتان أو أكثر في أصل واحد، وغير صنوان وحدها تسقى بماء واحد كصالح
بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد مثله، لكن قال:
تسقى بماء واحد قال بماء السماء والباقي سواء. وروى الطبري من طريق سعيد بن جبير
في قوله: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} مجتمع وغير مجتمع. وعن سعيد بن منصور عن
البراء بن عازب قال: الصنوان أن يكون أصلها واحدا ورءوسها متفرقة، وغير الصنوان أن
تكون النخلة منفردة ليس عندها شيء انتهى. وأصل الصنو المثل، والمراد به هنا فرع
يجمعه وفرعا آخر أو أكثر أصل واحد، ومنه عم الرجل صنوا أبيه لأنهما يجمعهما أصل
واحد. قوله: "السحاب الثقال الذي فيه الماء" وصله الفريابي أيضا عن
مجاهد مثله. قوله: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} يدعو الماء بلسانه ويشير
إليه بيده فلا يأتيه أبدا" وصله الفريابي والطبري من طرق عن مجاهد أيضا، وقد
تقدم قول غيره في أول السورة. قوله: "فسالت أودية بقدرها، تملأ بطن كل واد
زيدا رابيا.
الزبد السيل، زبد مثله خبث الحديد والحلية" وصله الفريابي أيضا عن مجاهد في
قوله: {زَبَداً رَابِياً} قال الزبد السيل. وفي قوله: {زَبَدٌ مِثْلُهُ} قال خبث
الحلية والحديد وأخرجه الطبري من وجهين عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله:
{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} قال: بملئها {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً
رَابِياً} قال: الزبد السيل" ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع
زبد مثله" قال: خبث الحديث والحلية {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً}
قال جمودا في الأرض {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} قال
الماء، وهما مثلان للحق والباطل. وأخرجه من طريقين عن ابن عباس نحوه، ووجه
المماثلة في قوله: {زَبَدٌ مِثْلُهُ} أن كلا من الزبدين ناشئ عن الأكدار. ومن طريق
سعيد عن قتادة في قوله: {بِقَدَرِهَا} قال: الصغير بصغره والكبير بكبره. وفي قوله:
{رَابِياً} أي عاليا. وفي قوله: {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} الذهب والفضة. وفي قوله: أو
متاع الحديد والصفر الذي ينتفع به. والجفاء ما يتعلق بالشجر، وهي ثلاثة أمثال
ضربها الله في مثل واحد يقول: كما اضمحل هذا الزبد فصار لا ينتفع به كذلك يضمحل
الباطل عن أهله، وكما مكث هذا الماء في الأرض فأمرعت وأخرجت نباتها كذلك يبقى الحق
لأهله. ونظيره بقاء خالص الذهب والفضة إذا دخل النار وذهب خبثه وبقي صفوه، كذلك
يبقى الحق لأهله ويذهب الباطل.
" تنبيه " : وقع للأكثر "يملأ بطن واد" وفي رواية الأصيلي:
"يملأ كل واحد" وهو أشبه، ويروي ماء بطن واد
(8/374)
1- باب {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} غِيضَ نُقِصَ
(8/374)
4697- حَدَّثَنِي
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَفَاتِحُ
الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ
إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ
يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ
اللَّه"
قوله: "باب قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا
تَغِيضُ الأَرْحَامُ} غيض نقص" قال أبو عبيدة في قوله: "وغيض
الماء" أي ذهب وقل. وهذا تفسير سورة هود. وإنما ذكره هنا لتفسير قوله، تغيض
الأرحام، فإنها من هذه المادة. وروى عبد بن حميد من طريق أبي بشر عن مجاهد في
قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ
وَمَا تَزْدَادُ} قال: إذا حاضت المرأة وهي حامل كان نقصانا من الولد، فإن زادت
على تسعة أشهر كان تماما لما نقص من ولدها. ثم روى من طريق منصور عن الحسن قال:
الغيض ما دون تسعة أشهر، والزيادة ما زادت عليها يعني في الوضع. ثم ذكر المصنف
حديث ابن عمر في مفاتح الغيب وقد تقدم في سورة الأنعام، ويأتي له تفسير سورة لقمان
ويشرح هناك إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثني إبراهيم بن المنذر حدثنا معن عن
مالك" قال أبو مسعود: تفرد به إبراهيم بن المنذر، وهو غرب عن مالك. قلت: قد
أخرجه الدار قطني رواية عبد الله بن جعفر البرمكي عن معن، ورواه أيضا من طريق
القعنبي عن مالك لكنه اختصره. قلت: وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن القاسم عن
مالك قال الدار قطني: ورواه أحمد بن أبي طيبة عن مالك عن نافع عن ابن عمر فوهم فيه
إسنادا ومتنا.
(8/375)
14- سورة
إِبْرَاهِيمَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {هَادٍ} دَاعٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {صَدِيدٌ} قَيْحٌ وَدَمٌ
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أَيَادِيَ
اللَّهِ عِنْدَكُمْ وَأَيَّامَهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مِنْ كُلِّ مَا
سَأَلْتُمُوهُ} رَغِبْتُمْ إِلَيْهِ فِيهِ {تَبْغُونَهَا عِوَجًا} يَلْتَمِسُونَ
لَهَا عِوَجًا {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} أَعْلَمَكُمْ آذَنَكُمْ {رَدُّوا
أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} هَذَا مَثَلٌ كَفُّوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ
{مَقَامِي} حَيْثُ يُقِيمُهُ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ {مِنْ وَرَائِهِ} قُدَّامَهُ
جَهَنَّمُ {لَكُمْ تَبَعًا} وَاحِدُهَا تَابِعٌ مِثْلُ غَيَبٍ وَغَائِبٍ
{بِمُصْرِخِكُمْ} اسْتَصْرَخَنِي اسْتَغَاثَنِي يَسْتَصْرِخُهُ مِنْ الصُّرَاخِ
{وَلاَ خِلاَلَ} مَصْدَرُ خَالَلْتُهُ خِلاَلًا وَيَجُوزُ أَيْضًا جَمْعُ خُلَّةٍ
وَخِلاَلٍ {اجْتُثَّتْ} اسْتُؤْصِلَتْ
قوله: "سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ} سقطت البسملة لغير أبي ذر. قوله: "وقال ابن عباس: هاد داع"
كذا في جميع النسخ، وهذه الكلمة إنما وقعت في السورة التي قبلها في قوله تعالى:
{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} واختلف أهل التأويل في تفسيرها
بعد اتفاقهم على أن المراد بالمنذر محمد صلى الله عليه وسلم، فروى الطبري من طريق
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي داع، ومن طريق
قتادة مثله،
(8/375)
ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: الهادي الله، وهذا بمعنى الذي قبله كأنه لحظ قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . ومن طريق أبي العالية قال: الهادي القائد. ومن طريق مجاهد وقتادة أيضا: الهادي نبي، وهذا أخص من الذي قبله. ويحمل القوم في الآية في هذه الأقوال على العموم. ومن طريق عكرمة وأبي الضحى ومجاهد أيضا قال: الهادي محمد، وهذا أخص من الجميع، والمراد بالقوم على هذا الخصوص أي هذه الأمة. والمستغرب ما أخرجه الطبري بإسناد حسن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما نزلت هذه الآية وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: أنا المنذر، وأومأ إلى علي وقال أنت الهادي بك يهتدي المهتدون بعدي" فإن ثبت هذا فالمراد بالقوم أخص من الذي قبله أي بني هاشم مثلا. وأخرج ابن أبي حاتم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وابن مردويه من طريق السدي عن عبد خير عن علي قال: الهادي رجل من بني هاشم. قال بعض رواته: هو علي. وكأنه أخذه من الحديث الذي قبله. وفي إسناد كل منهما بعض الشيعة، ولو كان ذلك ثابتا ما تخالفت رواته. قوله: "وقال مجاهد: صديد قيح ودم" سقط هذا لأبي ذر، وصله الفريابي بسنده إليه في قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} قال: قيح ودم. قوله: "وقال ابن عيينة {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أيادي الله عندكم وأيامه" وصله الطبري من طريق الحميدي عنه، وكذا رويناه في "تفسير ابن عيينة" رواية سعيد بن عبد الرحمن عنه. وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والنسائي، وكذا ذكره ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس عن أبي بن كعب قال: إن الله أوحى إلى موسى وذكرهم بأيام الله، قال: نعم الله. وأخرجه عبد الرزاق من حديث ابن عباس بإسناد صحيح فلم يقل عن أبي بن كعب. قوله: "وقال مجاهد من كل ما سألتموه رغبتم إليه فيه" وصله الفريابي في قوله: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} قال: رغبتم إليه فيه. قوله: "تبغونها عوجا تلتمسون لها عوجا" كذا وقع هنا للأكثر، ولأبي ذر قبل الباب الذي يليه وصنيعهم أولى لأن هذا من قول مجاهد فذكره مع غيره من تفاسيره أولى، وقد وصله عبد بن حميد من طريق ابن نجيح عن مجاهد في قوله: {وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} قال تلتمسون لها الزيغ، وذكر يعقوب بن السكيت أن العوج بكسر العين في الأرض والدين، وبفتحها في العود ونحوه مما كان منتصبا. قوله: "ولا خلال مصدر خاللته خلالا، ويجوز أيضا جمع خلة وخلال" كذا وقع فيه فأوهم أنه من تفسير مجاهد، وإنما هو من كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} أي لا مخالة خليل، قال وله معنى آخر جمع خلة مثل حلة والجمع خلال وقلة والجمع قلال. وروى الطبري من طريق قتادة قال: علم الله أن في الدنيا بيوعا وخلالا يتخالون بها في الدنيا، فمن كان يخالل الله فليدم عليه وإلا فسينقطع ذلك عنه، وهذا يوافق من جعل الخلال في الآية جمع خلة. قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} : أعلمكم آذنكم "كذا للأكثر، ولأبي ذر أعلمكم ربكم، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} إذ زائدة، وتأذن تفعل من آذن أي أعلم، وهو قول أكثر أهل اللغة أن تأذن من الإيذان وهو الإعلام، ومعنى تفعل عزم عزما جازما، ولهذا أجيب بما يجاب به القسم. ونقل أبو علي الفارسي أن بعض العرب يجعل أذن وتأذن بمعنى واحد. قلت: ومثله قولهم تعلم موضع أعلم وأوعد وتوعد وقيل إن إذ زائدة فإن المعنى اذكروا حين تأذن ربكم وفيه نظر. قوله: "أيديهم في أفواههم، هذا مثل كفوا عما أمروا به" قال أبو عبيدة في قوله: " {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} مجازه مجاز المثل ومعناه كقوله عما أمروا بقبوله من الحق ولم يؤمنوا به يقال رد يده في فمه إذا أمسك ولم يجب. وقد تعقبوا كلام أبي عبيدة فقيل: لم يسمع من
(8/376)
العرب رد يده في
فيه إذا ترك الشيء الذي كان يريد أن يفعله، وقد روى عبد بن حميد من طريق أبي
الأحوص عن عبد الله قال: عضوا على أصابعهم، وصححه الحاكم وإسناده صحيح، ويؤيده
الآية الأخرى {إِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} .
وقال الشاعر "يردون في فيه غيظ الحسود" أي يغيظون الحسود حتى يعض على
أصابعه وقيل المعنى رد الكفار أيدي الرسل في أفواههم بمعنى أنهم امتنعوا من قبول
كلامهم، أو المراد بالأيدي النعم أي ردوا نعمة الرسل وهي نصائحهم عليهم لأنهم إذا
كذبوها كأنهم ردوها من حيث جاءت. قوله: "مقامي حيث يقيمه الله بين يديه"
قال أبو عبيدة في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} قال: حيث أقيمه بين يدي
للحساب. قلت: وفيه قول آخر قال الفراء أيضا إنه مصدر لكن قال إنه مضاف للفاعل أي
قيامي عليه بالحفظ. قوله: "من ورائه قدامه جهنم" قال أبو عبيدة في قوله:
{مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} مجازه قدامه وأمامه يقال: الموت من ورائك أي قدامك وهو
اسم لكل ما توارى عن الشخص، نقله ثعلب، ومنه قول الشاعر:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحتي عليها الأصابع
وقول النابغة "وليس وراء الله للمرء مذهب" أي بعد الله ونقل قطرب وغيره
أنه من الأضداد، وأنكره إبراهيم ابن عرفة نفطويه وقال: لا يقع وراء بمعنى أمام إلا
في زمان أو مكان. قوله: "لكم تبعا واحدها تابع مثل غيب وغائب" هو قول
أبي عبيدة أيضا، وغيب بفتح الغين المعجمة والتحتانية بعدها موحدة. قوله:
"بمصرخكم، استصرخني استغاثني، يستصرخه من الصراخ" سقط هذا لأبي ذر، قال
أبو عبيدة {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي ما أنا بمغيثهم، ويقال استصرخني فأصرخته
أي استغاثني فأغثته. قوله: "اجتثت استؤصلت" هو قول أبي عبيدة أيضا أي
قطعت جثثها بكمالها. وأخرجه الطبري من طريق سعيد عن قتادة مثله، ومن طريق العوفي
عن ابن عباس: ضرب الله مثل الشجرة الخبيثة بمثل الكافر، يقول: الكافر لا يقبل عمله
ولا يصعد، فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء ومن طريق الضحاك قال في
قوله ما لها من قرار أي ما لها أصل ولا فرع ولا ثمرة ولا منفعة، كذلك الكافر ليس
يعمل خيرا ولا يقول خيرا، ولم يجعل الله فيه بركة ولا منفعة
(8/377)
باب {كشجرة كجرة
طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء}
...
1- باب {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ
تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ}
4698- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا
عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "
أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ أَوْ كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ لاَ يَتَحَاتُّ
وَرَقُهَا وَلاَ وَلاَ وَلاَ تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ" قَالَ ابْنُ
عُمَرَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ
وَعُمَرَ لاَ يَتَكَلَّمَانِ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا
شَيْئًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هِيَ النَّخْلَةُ" فَلَمَّا
قُمْنَا قُلْتُ لِعُمَرَ يَا أَبَتَاهُ وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِي نَفْسِي
أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكَلَّمَ قَالَ لَمْ أَرَكُمْ
تَكَلَّمُونَ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئًا قَالَ عُمَرُ
لاَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا"
قوله: "باب قوله {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} الآية" كذا
لأبي ذر، وساق غيره إلى {حِينٍ} وسقط عندهم
(8/377)
"باب قوله:"ثم ذكر حديث ابن عمر. قوله: "تشبه أو كالرجل المسلم" شك من أحد رواته، وأخرجه الإسماعيلي من الطريق التي أخرجها منها البخاري بلفظ: "تشبه الرجل المسلم:"ولم يشك، وقد تقدم شرح الحديث مستوفي في كتاب العلم، وقد تقدم هناك البيان الواضح بأن المراد بالشجرة في هذه الآية النخلة، وفيه رد على من زعم أن المراد بها شجرة الجوز الهندي. وقد أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف في قوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قال: هي شجرة جوز الهند لا تتعطل من ثمرة تحمل كل شهر، ومعنى قوله: "طيبة" أي لذيذة الثمر أو حسنة الشكل أو نافعة، فتكون طيبة بما يئول إليه نفعها. وقوله: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي لا ينقطع، وقوله: {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أي هي نهاية في الكمال، لأنها إذا كانت مرتفعة بعدت عن عفونات الأرض. وللحاكم من حديث أنس "الشجرة الطيبة النخلة والشجرة الخبيثة الحنظلة" .
(8/378)
2- بَاب {يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}
4699- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي
عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ عَنْ الْبَرَاءِ
بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ : {يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الْآخِرَةِ} "
قوله بَاب {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} ذكر فيه
حديث البراء مختصرا، وقد تقدم في الجنائز أتم سياقا واستوفيت شرحه في ذلك الباب.
(8/378)
3- باب {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} أَلَمْ تَرَ {أَلَمْ
تَعْلَمْ}
كَقَوْلِهِ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا}
{الْبَوَارُ} الْهَلاَكُ بَارَ يَبُورُ {قَوْمًا بُورًا} هَالِكِينَ
4700- حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء سمع ابن عباس {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} قال هم كفار أهل
مكة"
قوله: "باب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
كُفْرًا} : ألم تر ألم تعلم، كقوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} زاد غير أبي ذر "ألم تر كيف" وهذا قول أبي
عبيدة بلفظه. قوله: "البوار الهلاك، بار يبور بورا، قوما بورا: هالكين"
هو كلام أبي عبيدة. ثم ذكر حديث ابن عباس فيمن نزلت فيه الآية مختصرا، وقد تقدم
مستوفي مع شرحه في غزوة بدر. وروى الطبري من طريق أخرى عن ابن عباس أنه سأل عمر عن
هذه الآية فقال: من هم قال هم الأفجران من بني مخزوم وبني أمية أخوالي وأعمامك،
فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر، وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين. ومن
طريق علي قال: هم الأفجران بنو أمية وبنو المغيرة، فأما بنو المغيرة فقطع الله
دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. وهو عند عبد الرزاق أيضا والنسائي
وصححه الحاكم. قلت: المراد بعضهم لا جميع بني أمية وبني بني مخزوم لم يستأصلوا يوم
بدر، بل المراد بعضهم كأبي جهل من بني مخزوم وأبي سفيان من بني أمية
(8/378)
15- سورة الْحِجْرِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ الْحَقُّ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ
وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} عَلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ {لَعَمْرُكَ} لَعَيْشُكَ {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أَنْكَرَهُمْ لُوطٌ
وَقَالَ غَيْرُهُ {كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أَجَلٌ {لَوْ مَا} تَأْتِينَا هَلاَ
تَأْتِينَا {شِيَعٌ} أُمَمٌ وَلِلأَوْلِيَاءِ أَيْضًا شِيَعٌ وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ {يُهْرَعُونَ} مُسْرِعِينَ {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} لِلنَّاظِرِينَ
{سُكِّرَتْ} غُشِّيَتْ {بُرُوجًا} مَنَازِلَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ {لَوَاقِحَ}
مَلاَقِحَ مُلْقَحَةً {حَمَإٍ} جَمَاعَةُ حَمْأَةٍ وَهُوَ الطِّينُ الْمُتَغَيِّرُ
وَالْمَسْنُونُ الْمَصْبُوبُ {تَوْجَلْ} تَخَفْ {دَابِرَ} آخِرَ {لَبِإِمَامٍ
مُبِينٍ} الإِمَامُ كُلُّ مَا ائْتَمَمْتَ وَاهْتَدَيْتَ بِهِ الصَّيْحَةُ
الْهَلَكَة"
قوله: "تفسير سورة الحجر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كذا لأبي
ذر عن المستملي، وله عن غيره بدون لفظ: "تفسير" وسقطت البسملة للباقين.
قوله: "وقال مجاهد صراط على مستقيم الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه"
وصله الطبري من طرق عنه مثله وزاد: "لا يعرض على شيء" ومن طريق قتادة
ومحمد بن سيرين وغيرهما أنهم قرءوا على بالتنوين على أنه صفة للصراط أي رفيع. قلت:
وهي قراءة يعقوب. قوله: "لبإمام مبين على الطريق" وروى الطبري من طرق عن
ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} قال: بطريق
معلم. ومن رواية سعيد عن قتادة قال. طريق واضح، وسيأتي له تفسير آخر.
" تنبيه " : سقط هذا والذي قبله لأبي ذر إلا عن المستملي. قوله:
"وقال ابن عباس: لعمرك لعيشك" وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس. قوله: "قوم منكرون، أنكرهم لوط" وصله ابن أبي حاتم
أيضا من الوجه المذكور.
" تنبيه " : سقط هذا والذي قبله لأبي ذر قوله: "كتاب معلوم
أجل" كذا لأبي ذر فأوهم أنه من تفسير مجاهد، ولغيره: وقال غيره كتاب معلوم
أجل، وهو تفسير أبي عبيدة قال في قوله: {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أي أجل
ومدة، معلوم أي مؤقت. قوله: "لوما هلا تأتينا" قال أبو عبيدة في قوله:
"لوما تأتينا" مجازها هلا تأتينا. قوله: "شيع أمم والأولياء أيضا
شيع" قال أبو عبيدة في قوله: {شِيَعِ الأَوَّلِينَ} أي أمم الأولين واحدتها
شيعة، والأولياء أيضا شيع أي يقال لهم شيع. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ
الأَوَّلِينَ} يقول: أمم الأولين. قال الطبري. وقال لأولياء الرجل أيضا شيعة.
قوله: "وقال ابن عباس يهرعون مسرعين" كذا أوردها هنا، وليست من هذه
السورة وإنما هي في سورة هود، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس. قوله: "للمتوسمين للناظرين" تقدم شرحه في قصة لوط من أحاديث
الأنبياء.
" تنبيه " : سقط هذا والذي قبله لأبي ذر أيضا. قوله: "سكرت
غشيت" كذا لأبي ذر فأوهم أنه من تفسير مجاهد، وغيره يوهم أنه من تفسير ابن
عباس، لكنه قول أبي عبيدة، وهو بمهملة ثم معجمة1 وذكر الطبري عن أبي عمرو بن
العلاء أنه كان يقول: هو مأخوذ من سكر الشراب، قال: ومعناه غشني أبصارنا
ـــــــ
(1) بمهملة أي في سكرت، ثم معجمة أي في غشيت. ا هـ من هامش الأصل
(8/379)
مثل السكر. ومن طريق مجاهد والضحاك قوله سكرت أبصارنا قال سدت. ومن طريق قتادة قال: سحرت. ومن وجه آخر عن قتادة قال: سكرت بالتشديد سددت وبالتخفيف سحرت انتهى. وهما قراءتان مشهورتان، فقرأها بالتشديد الجمهور، وابن كثير بالتخفيف، وعن الزهري بالتخفيف، لكن بناها للفاعل. قوله: "لعمرك لعيشك" كذا ثبت هنا لبعضهم، وسيأتي لهم في الأيمان والنذور مع شرحه. قوله: "وإنا له لحافظون قال مجاهد عندنا" وصله ابن المنذر، ومن طريق ابن أبي نجيح عنه وهو في بعض نسخ الصحيح. قوله: "بروجا منازل للشمس والقمر، لواقح ملافح، حمأ جماعة حماة وهو الطين المتغير، والمسنون المصبوب" كذا ثبت لغير أبي ذر وسقط له، وقد تقدم مع شرحه في بدء الخلق. قوله: "لا توجل لا تخف، دابر آخر" تقدم شرح الأول في قصة إبراهيم وشرح الثاني في قصة لوط من أحاديث الأنبياء. وسقط لأبي ذر هنا. قوله: "لبإمام مبين، الإمام ما ائتممت به واهتديت" هو تفسير أبي عبيدة. قوله: "الصيحة الهلكة" هو تفسير أبي عبيدة، وقد تقدمت الإشارة إليه في قصة لوط من أحاديث الأنبياء
(8/380)
1- بَاب {إِلاَّ
مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}
4701- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ
ضَرَبَتْ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلْسِلَةِ
عَلَى صَفْوَانٍ قَالَ عَلِيٌّ وَقَالَ غَيْرُهُ صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ
فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا
لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو
السَّمْعِ وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ آخَرَ - وَوَصَفَ
سُفْيَانُ بِيَدِهِ وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى نَصَبَهَا
بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ- فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ الْمُسْتَمِعَ قَبْلَ
أَنْ يَرْمِيَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ فَيُحْرِقَهُ وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْهُ
حَتَّى يَرْمِيَ بِهَا إِلَى الَّذِي يَلِيهِ إِلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ
حَتَّى يُلْقُوهَا إِلَى الأَرْضِ -وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ حَتَّى تَنْتَهِيَ
إِلَى الأَرْضِ- فَتُلْقَى عَلَى فَمْ السَّاحِرِ فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ
كَذْبَةٍ فَيُصَدَّقُ فَيَقُولُونَ أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا
يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا لِلْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنْ
السَّمَاءِ" حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا قَضَى اللَّهُ
الأَمْرَ وَزَادَ وَالْكَاهِنِ و حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ فَقَالَ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو
هُرَيْرَةَ قَالَ إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ وَقَالَ عَلَى فَمْ السَّاحِرِ
قُلْتُ لِسُفْيَانَ آنْتَ سَمِعْتَ عَمْرًا قَالَ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ قَالَ
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ لِسُفْيَانَ إِنَّ إِنْسَانًا
رَوَى عَنْكَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَرْفَعُهُ
أَنَّهُ قَرَأَ فُرِّغَ قَالَ سُفْيَانُ هَكَذَا قَرَأَ عَمْرٌو فَلاَ أَدْرِي
سَمِعَهُ هَكَذَا أَمْ لاَ قَالَ سُفْيَانُ وَهِيَ قِرَاءَتُنَا"
[الحدبث 4701- طرفه في: 4800، 7481]
قوله بَاب {إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} ذكر
فيه حديث أبي هريرة في قصة مسترقي السمع،
(8/380)
2- باب {وَلَقَدْ
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ}
4702- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ
حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال لأَصْحَابِ الْحِجْرِ : "لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ
الْقَوْمِ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ
تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُم"
قوله: "باب قوله {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} ذكر
فيه حديث ابن عمر في النهي عن الدخول على المعذبين، وقوله: "إلا أن تكونوا
باكين" ذكر ابن التين أنه عند الشيخ أبي الحسن بائين بهمزة بدل الكاف، قال:
ولا وجه له
(8/381)
3- باب {وَلَقَدْ
آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}
4703- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ
أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُصَلِّي فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ
ثُمَّ أَتَيْتُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي فَقُلْتُ كُنْتُ أُصَلِّي
فَقَالَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ثُمَّ قَالَ أَلاَ
أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ
الْمَسْجِدِ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ
مِنْ الْمَسْجِدِ فَذَكَّرْتُهُ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُه"
4704- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ
الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي
وَالْقُرْآنُ الْعَظِيم"
قوله باب قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ
الْعَظِيمَ} ثم ساقه من حديث أبي هريرة في قصة أبي بن كعب كما تقدم في تفسير
الفاتحة. ثم ذكر حديث أبي هريرة مختصرا بلفظ أم القرآن هي السبع المثاني في رواية
الترمذي من هذا الوجه الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وقد تقدم في
تفسير الفاتحة من وجه آخر عن أبي هريرة ورفعه أتم من هذا وللطبري من وجه آخر عن
سعيد المقبري عن أبي هريرة رفعه الركعة التي لا يقرأ فيها كالخداج قال فقلت لأبي
هريرة فإن لم يكن معي إلا أم القرآن قال هي حسبك هي أم الكتاب وهي أم القرآن وهي
السبع المثاني قال الخطابي وفي الحديث رد على بن سيرين حيث قال إن الفاتحة لا يقال
لها أم القرآن وإنما يقال لها فاتحة الكتاب ويقول أم الكتاب هو اللوح المحفوظ قال
وأم الشيء أصله وسميت الفاتحة أم القرآن لأنها أصل القرآن وقيل لأنها متقدمة كأنها
تؤمه قوله "هي السبع
(8/381)
المثاني والقرآن العظيم" هو معطوف على قوله أم القرآن وهو مبتدأ وخبره محذوف أو خبر مبتدأ محذوف تقديره والقرآن العظيم ما عداها، وليس هو معطوفا على قوله: "السبع المثاني" لأن الفاتحة ليست هي القرآن العظيم، وإنما جاز إطلاق القرآن عليها لأنها من القرآن لكنها ليست هي القرآن كله. ثم وجدت في تفسير ابن أبي حاتم من طريق أخرى عن أبي هريرة مثله لكن بلفظ: "والقرآن العظيم الذي أعطيتموه أي هو الذي أعطيتموه" فيكون هذا هو الخبر. وقد روى الطبري بإسنادين جيدين عن عمر ثم علي قال: "السبع المثاني فاتحة الكتاب" زاد عن عمر "تثني في كل ركعة" وبإسناد منقطع عن ابن مسعود مثله، وبإسناد حسن عن ابن عباس أنه قرأ الفاتحة ثم قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} قال: هي فاتحة الكتاب، وبسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة، ومن طريق جماعة من التابعين: السبع المثاني هي فاتحة الكتاب. ومن طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب. قلت للربيع: إنهم يقولون إنها السبع الطوال، قال: لقد أنزلت هذه الآية وما نزل من الطوال شيء. وهذا الذي أشار إليه هو قول آخر مشهور في السبع الطوال، وقد أسنده النسائي والطبري والحاكم عن ابن عباس أيضا بإسناد قوي، وفي لفظ للطبري: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، قال الراوي: ذكر السابعة فنسيتها. وفي رواية صحيحة عند ابن أبي حاتم عن مجاهد وسعيد ابن جبير أنها يونس. وعند الحاكم أنها الكهف، وزاد: قيل له ما المثاني؟ قال: تثني فيهن القصص. ومثله عن سعيد بن جبير عن سعيد بن منصور. وروى الطبري أيضا من طريق خضيف عن زياد بن أبي مريم قال في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} قال مروان وبشر وأنذر واضرب الأمثال واعدد النعم والأنباء. ورجح الطبري القول الأول لصحة الخبر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. حديث أبي هريرة في قصة أبي بن كعب كما تقدم في تفسير الفاتحة.
(8/382)
باب قوله {الذين
جعلوا القرآن عضين}
...
4- باب {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}{الْمُقْتَسِمِينَ} الَّذِينَ
حَلَفُوا وَمِنْهُ {لاَ أُقْسِمُ} أَيْ أُقْسِمُ وَتُقْرَأُ لاَقْسِمُ و
{قَاسَمَهُمَا} حَلَفَ لَهُمَا وَلَمْ يَحْلِفَا لَهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ
تَقَاسَمُوا تَحَالَفُوا.
4705- حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا
أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ قَالَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ
جَزَّءُوهُ أَجْزَاءً فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِه"
4706- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي
ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى
الْمُقْتَسِمِينَ قَالَ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى"
قوله: "باب {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} قيل إن {عِضِينَ} جمع
عضو، فروى الطبري من طريق الضحاك قال في قوله: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أي
جعلوه أعضاء كأعضاء الجزور، وقيل هي جمع عضة وأصلها عضهة فحذفت الهاء كما حذفت من
الشفة وأصلها شفهة وجمعت بعد الحذف على عضين مثل برة وبرين وكرة كرين، وروى
(8/382)
الطبري من طريق قتادة قال: عضين عضهوه وبهتوه. ومن طريق عكرمة قال: العضه السحر بلسان قريش، تقول للساحرة العاضهة، أخرجه ابن أبي حاتم. وروى ابن أبي حاتم أيضا من طريق عطاء مثل قول الضحاك ولفظه: عضوا القرآن أعضاء، فقال بعضهم ساحر وقال آخر مجنون وقال آخر كاهن، فذلك العضين. ومن طريق مجاهد مثله وزاد: وقالوا أساطير الأولين. ومن طريق السدي قال: قسموا القرآن واستهزءوا به فقالوا: ذكر محمد البعوض والذباب والنمل والعنكبوت، فقال بعضهم أنا صاحب البعوض وقال آخر أنا صاحب النمل وقال آخر أنا صاحب العنكبوت، وكان المستهزئون خمسة: الأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والعاصي بن وائل والحارث بن قيس والوليد بن المغيرة. ومن طريق عكرمة وغيره في عد المستهزئين مثله، ومن طريق الربيع بن أنس مثله وزاد بيان كيفية هلاكهم في ليلة واحدة. قوله: "المقتسمين الذين حلفوا، ومنه لا أقسم أي أقسم، وتقرأ لأقسم، وقاسها حلف لهما ولم يحلفا له. وقال مجاهد: تقاسموا تحالفوا" قلت هكذا جعل المقتسمين من القسم بمعنى الحلف والمعروف أنه من القسمة وبه جزم الطبري وغيره، وسياق الكلام يدل عليه، وقوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا} هو صفة للمقتسمين، وقد ذكرنا أن المراد أنهم قسموه وفرقوه. وقال أبو عبيدة: وقاسهما، حلف لهما. وقال أيضا أبو عبيدة الذي يكثر المصنف نقل كلامه: من المقتسمين الذين اقتسموا وفرقوا، قال: وقوله عضين أي فرقوه عضوه أعضاء. قال رؤبة "وليس دين الله بالمعضي" أي بالمفرق، وأما قوله: "ومنه لا أقسم إلخ" فليس كذلك، أي فليس هو من الاقتسام بل هو من القسم، وإنما قال ذلك بناء على ما اختاره من أن المقتسمين من القسم. وقال أبو عبيدة في قوله: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} : مجازها أقسم بيوم القيامة. واختلف المعربون في "لا" فقيل زائدة وإلى هذا يشير كلام أبي عبيدة، وتعقب بأنها لا تزاد إلا في أثناء الكلام، وأجيب بأن القرآن كله كالكلام الواحد، وقيل هو جواب شيء محذوف، وقيل نفي على بابها وجوابها محذوف والمعنى لا أقسم بكذا بل بكذا، وأما قراءة لأقسم بغير ألف فهي رواية عن ابن كثير، واختلف في اللام فقيل هي لام القسم وقيل لام التأكيد، واتفقوا على إثبات الألف في التي بعدها {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ} وعلى إثباتها في {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} اتباعا لرسم المصحف في ذلك. وأما قول مجاهد تقاسموا تحالفوا فهو كما قال، وقد أخرجه الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه في قوله: {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} قال تحالفوا على هلاكه فلم يصلوا إليه حتى هلكوا جميعا، وهذا أيضا لا يدخل في المقتسمين إلا على رأي زيد بن أسلم، فإن الطبري روى عنه أن المراد بقوله: "المقتسمين" قوم صالح الذين تقاسموا على هلاكه فلعل المصنف اعتمد على ذلك. قوله: "عن ابن عباس الذين جعلوا القرآن عضين" يعني في تفسير هذه الكلمة، وقد ذكرت ما قيل في أصل اشتقاقها أول الباب. قوله: "هم أهل الكتاب" فسره في الرواية الثانية فقال: "اليهود والنصارى" وقوله: "جزءوه أجزاء" فسره في الرواية الثانية فقال: "آمنوا ببعض وكفروا ببعض" قوله في الرواية الثانية "عن أبي ظبيان" بمعجمة ثم موحدة هو حصين بن جندب، وليس له في البخاري عن ابن عباس سوى هذا الحديث
(8/383)
5- باب {وَاعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قَالَ سَالِمٌ الْيَقِينُ الْمَوْتُ}
قوله: "باب قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قَالَ
سَالِمٌ الْيَقِينُ الْمَوْتُ} قال سالم: اليقين الموت" وصله الفريابي وعبد
بن حميد وغيرهما من طريق طارق بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجعد بهذا، وأخرجه
الطبري من طرق عن مجاهد وقتادة
(8/383)
وغيرهما مثله،
واستشهد الطبري لذلك بحديث أم العلاء في قصة عثمان بن مظعون "أما هو فقد جاءه
اليقين، وإني لأرجو له الخير" وقد تقدم في الجنائز مشروحا، وقد اعترض بعض
الشراح على البخاري لكونه لم يخرج هنا هذا الحديث وقال: كان ذكره أليق من هذا؛ قال
ولأن اليقين ليس من أسماء الموت.
قلت: لا يلزم البخاري ذلك، وقد أخرج النسائي حديث بعجة عن أبي هريرة رفعه:
"خير ما عاش الناس به رجل ممسك بعنان فرسه" الحديث، وفي آخره: "
حتى يأتيه اليقين ليس هو من الناس إلا في خير" فهذا شاهد جيد لقول سالم، ومنه
قوله تعالى: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}
وإطلاق اليقين على الموت مجاز، لأن الموت لا يشك فيه.
(8/384)
16- سورة النَّحْلِ
{رُوحُ الْقُدُسِ} جِبْرِيلُ {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} {فِي ضَيْقٍ}
يُقَالُ أَمْرٌ ضَيْقٌ وَضَيِّقٌ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ
وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ { تَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} تَتَهَيَّأُ
{سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا} لاَ يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ {فِي تَقَلُّبِهِمْ} اخْتِلاَفِهِمْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {تَمِيدُ}
تَكَفَّأُ {مُفْرَطُونَ} مَنْسِيُّونَ وَقَالَ غَيْرُهُ { فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} هَذَا مُقَدَّمٌ
وَمُؤَخَّرٌ وَذَلِكَ أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَمَعْنَاهَا
الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {تُسِيمُونَ} تَرْعَوْنَ
{شَاكِلَتِهِ} نَاحِيَتِهِ {قَصْدُ السَّبِيلِ} الْبَيَانُ الدِّفْءُ مَا
اسْتَدْفَأْتَ {تُرِيحُونَ} بِالْعَشِيِّ {وَتَسْرَحُونَ} بِالْغَدَاةِ {بِشِقِّ}
يَعْنِي الْمَشَقَّةَ {عَلَى تَخَوُّفٍ} تَنَقُّصٍ {الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً}
وَهِيَ تُؤَنَّثُ وَتُذَكَّرُ وَكَذَلِكَ النَّعَمُ {الأَنْعَامُ} جَمَاعَةُ
النَّعَمِ أَكْنَانٌ وَاحِدُهَا كِنٌّ مِثْلُ حِمْلٍ وَأَحْمَالٍ {سَرَابِيلَ}
قُمُصٌ {تَقِيكُمْ الْحَرَّ} وَأَمَّا {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}
فَإِنَّهَا الدُّرُوعُ {دَخَلًا بَيْنَكُمْ} كُلُّ شَيْءٍ لَمْ يَصِحَّ فَهُوَ
دَخَلٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {حَفَدَةً} مَنْ وَلَدَ الرَّجُلُ {السَّكَرُ} مَا
حُرِّمَ مِنْ ثَمَرَتِهَا وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَقَالَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ {أَنْكَاثًا} هِيَ خَرْقَاءُ كَانَتْ إِذَا
أَبْرَمَتْ غَزْلَهَا نَقَضَتْهُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الأُمَّةُ مُعَلِّمُ
الْخَيْرِ
قوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - سورة النحل" سقطت
البسملة لغير أبي ذر. قوله: "روح القدس جبريل، نزل به الروح الأمين" أما
قوله روح القدس جبريل فأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد رجاله ثقات عن عبد الله بن
مسعود، وروى الطبري من طريق محمد بن كعب القرظي قال: روح القدس جبريل، وكذا جزم به
أبو عبيدة وغير واحد. وأما قوله: "نزل به الروح الأمين" فذكره استشهادا
لصحة هذا التأويل، فإن المراد به جبريل اتفاقا، وكأنه أشار إلى رد ما رواه الضحاك
عن ابن عباس قال: روح القدس الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى، أخرجه ابن أبي
حاتم وإسناده ضعيف. قوله: "وقال ابن عباس: في تقلبهم في اختلافهم" وصله
الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه مثله، ومن طريق سعيد عن قتادة "في
تقلبهم" يقول في أسفارهم. قوله: "وقال مجاهد: تميد تكفا" هو بالكاف
وتشديد الفاء مهموز، وقيل بضم أوله وسكون الكاف. وقد وصله الفريابي من طريق ابن
أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ
بِكُمْ} قال: تكفأ بكم، ومعنى تكفأ تقلب. وروى
(8/384)
الطبري من حديث علي بإسناد حسن موقوفا قال: لما خلق الله الأرض قمصت، قال فأرسى الله فيها الجبال، وهو عند أحمد والترمذي من حديث أنس مرفوع. قوله: "مفرطون منسيون" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} قال: منسيون، ومن طريق سعيد بن جبير قال: مفرطون أي متروكون في النار منسيون فيها. ومن طريق سعيد عن قتادة قال: معجلون. قال الطبري: ذهب قتادة إلى أنه من قولهم أفرطنا فلانا إذا قدموه فهو مفرط ومنه "أنا فرطكم على الحوض" قلت وهذا كله على قراءة الجمهور بتخفيف الراء وفتحها وقرأها نافع بكسرها وهو من الإفراط، وقرأها أبو جعفر بن القعقاع بفتح الفاء وتشديد الراء مكسورة أي مقصرون في أداء الواجب مبالغون في الإساءة. قوله: "في ضيق يقال أمر ضيق وأمر ضيق مثل هين وهين ولين ولين وميت وميت" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ} بفتح أوله وتخفيف ضيق كميت وهين ولين فإذا خففتها قلت ميت وهين ولين فإذا كسرت أوله فهو مصدر ضيق انتهى. وقرأ ابن كثير هنا وفي النمل بالكسر والباقون بالفتح، فقيل على لغتين، وقيل المفتوح مخفف من ضيق أي في أمر ضيق. واعترضه الفارسي بأن الصفة غير خاصة بالموصوف فلا يدعى الحذف. قوله: "قال ابن عباس: تتقيأ ظلاله تتهيا" كذا فيه والصواب تتميل، وقد تقدم بيانه في كتاب الصلاة. قوله: "سبل ربك ذللا لا يتوعر عليها مكان سلكته" رواه الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله، ويتوعر بالعين المهملة، وذللا حال في السبل أي ذللها الله لها، وهو جمع ذلول قال تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً} ومن طريق قتادة من قوله تعالى: {ذُلُلاً} أي مطيعة، وعلى هذا فقوله ذللا حال من فاعل اسلكي، وانتصاب سبل على الظرفية أو على أنه مفعول به. قوله: "القانت المطيع" سيأتي في آخر السورة، قوله: "وقال غيره {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} هذا مقدم ومؤخر، وذلك أن الاستعاذة قبل القراءة" المراد بالغير أبو عبيدة، فإن هذا كلامه بعينه، وقرره غيره فقال إذا وصلة بين الكلامين، والتقدير فإذا أخذت في القراءة فاستعذ، وقيل هو على أصله لكن فيه إضمار، أي إذا أردت القراءة لأن الفعل يوجد عند القصد من غير فاصل، وقد أخذ بظاهر الآية ابن سيرين، ونقل عن أبي هريرة وعن مالك وهو مذهب حمزة الزيات فكانوا يستعيذون بعد القراءة، وبه قال داود الظاهري. قوله: "ومعناها" أي معنى الاستعاذة "الاعتصام بالله" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله: "وقال ابن عباس تسيمون ترعون" روى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} قال: ترعون فيه أنعامكم، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: تسيمون أي ترعون، ومن طريق عكرمة مولى ابن عباس مثله. وقال أبو عبيدة، أسمت الإبل رعيتها، وسامت هي رعت. قوله: "شاكلته ناحيته" كذا وقع هنا وإنما هو في السورة التي تليها، وقد أعاده فيها. ووقع في رواية أبي ذر عن الحموي "نيته" بدل ناحيته وسيأتي الكلام عليها هناك. قوله: "قصد السبيل البيان" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن أبي عباس في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} قال: البيان. ومن طريق العوفي عن ابن عباس مثله وزاد: البيان بيان الضلالة والهدى. قوله: "الدفء ما استدفأت به" قال أبو عبيدة: الدفء ما استدفأت به من أوبارها ومنافع ما سوى ذلك، وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} قال: الثياب. ومن طريق مجاهد قال: لباس ينسج. ومن طريق قتادة مثله. قوله: "تخوف تنقص" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في
(8/385)
قوله: {أَوْ
يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} قال: على تنقص. وروى بإسناد فيه مجهول عن عمر أنه
سأل عن ذلك فلم يجب. فقال عمر: ما رأى إلا أنه على ما ينتقصون من معاصي الله، قال
فخرج رجل فلقي أعرابيا فقال: ما فعل فلان؟ قال تخوفته - أي تنقصته - فرجع فأخبر
عمر، فأعجبه" وفي شعر أبي كثير الهذلي ما يشهد له. وروى ابن أبي حاتم من طريق
الضحاك عن ابن عباس {عَلَى تَخَوُّفٍ} قال: على تنقص من أعمالهم، وقيل التخوف تفعل
من الخوف. قوله: "تريحون بالعشي وتسرحون بالغداة" قال أبو عبيدة في
قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ} أي بالعشي، {وَحِينَ
تَسْرَحُونَ} أي بالغداة. قوله: "الأنعام لعبرة، هي تؤنث وتذكر، وكذلك النعم
الأنعام جماعة النعم" قال أبو عبيدة في قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} : فذكر وأنث، فقيل
الأنعام تذكر وتؤنث، وقيل المعنى على النعم فهي تذكر وتؤنث، والعرب تظهر الشيء ثم
تخبر عنه بما هو منه بسبب وإن لم يظهره كقول الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة ... وللسبع أولى من ثلاث وأطيب
أي ثلاثة أحياء، ثم قال: "من ثلاث" أي قبائل انتهى. وأنكر الفراء تأنيث
النعم وقال: إنما يقال: هذا نعم، ويجمع على نعمان بضم أوله مثل حمل وحملان. قوله:
"أكنانا واحدها كن، مثل حمل وأحمال" هو تفسير أبي عبيدة، وروى الطبري من
طريق سعيد عن قتادة في قوله: {أَكْنَاناً} قال: غيرانا من الجبال يسكن فيها. قوله:
"بشق يعني المشقة" قال أبو عبيدة في قوله: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ
إِلاَّ بِشِقِّ} أي بمشقة {الأَنْفُسِ} . وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قوله: {إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ} قال: المشقة عليكم، ومن طريق سعيد عن
قتادة {إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ} إلا بجهد الأنفس. "تنبيه" قرأ
الجمهور بكسر الشين من شق، وقرأها أبو جعفر بن القعقاع بفتحها، قال أبو عبيدة: هما
بمعنى، وأنشد.
وذو إبل تسعى ويحبسها له ... أخو نصب من شقها وذءوب
قال الأثرم صاحب أبي عبيدة: سمعته بالكسر والفتح. وقال الفراء: معناهما مختلف،
فبالكسر معناه ذابت حتى صارت على نصف ما كانت وبالفتح المشقة انتهى. وكلام أهل
التفسير يساعد الأول. قوله: "سرابيل قمص تقيكم الحر، وأما سرابيل تقيكم بأسكم
فإنها الدروع" قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}
أي قمصا {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} أي دروعا. وروى الطبري من طريق سعيد
عن قتادة في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} قال القطن والكتان
{وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} قال: دروع من حديد. قوله: "دخلا بينكم،
كل شيء لم يصح فهو دخل" هو قول أبي عبيدة أيضا، وروى ابن أبي حاتم من طريق
سعيد عن قتادة قال: "دخلا" خيانة، وقيل الدخل الداخل في الشيء ليس منه.
قوله: "وقال ابن عباس: حفدة من ولد الرجل" وصله الطبري من طريق سعيد بن
جبير عن ابن عباس في قوله: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} قال: الولد وولد الولد، وإسناده
صحيح. وفيه عن ابن عباس قول آخر أخرجه من طريق العوفي عنه قال: هم بنو امرأة
الرجل. وفيه عنه قول ثالث أخرجه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الحفدة
والأصهار. ومن طريق عكرمة عن ابن عباس قال: الأختان. وأخرج هذا الأخير عن ابن
مسعود بإسناد صحيح، ومن طريق أبي الضحى وإبراهيم وسعيد بن جبير وغيرهم مثله، وصحح
الحاكم حديث
(8/386)
ابن مسعود. وفيه قول رابع عن ابن عباس أخرجه الطبري من طريق أبي حمزة عنه قال: من أعانك فقد حفدك. ومن طريق عكرمة قال: الحفدة الخدام. ومن طريق الحسن قال: الحفدة البنون وبنو البنين، ومن أعانك من أهل أو خادم فقد حفدك. وهذا أجمع الأقوال، وبه تجتمع، وأشار إلى ذلك الطبري. وأصل الحفد مداركة الخطو والإسراع في المشي، فأطلق على من يسعى في خدمة الشخص ذلك. قوله: "السكر ما حرم من ثمرتها، والرزق الحسن ما أحل" وصله الطبري بأسانيد من طريق عمرو بن سفيان عن ابن عباس مثله وإسناده صحيح، وهو عند أبي داود في "الناسخ" وصححه الحاكم، ومن طريق سعيد بن جبير عنه قال: الرزق الحسن الحلال، والسكر الحرام، ومن طريق سعيد بن جبير ومجاهد مثله وزاد أن ذلك كان قبل تحريم الخمر، وهو كذلك لأن سورة النحل مكية. ومن طريق قتادة: السكر خمر الأعاجم. ومن طريق الشعبي وقيل له في قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} أهو هذا الذي تصنع النبط؟ قال لا، هذا خمر، وإنما السكر نقيع الزبيب، والرزق الحسن التمر والعنب. واختار الطبري هذا القول وانتصر له. قوله: "وقال ابن عيينة عن صدقة {أَنْكَاثاً} هي خرقاء كانت إذا أبرمت غزلها نقضته" وصله ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن عمر العدني، والطبري من طريق الحميدي كلاهما عن ابن عيينة عن صدقة عن السدي قال: كانت بمكة امرأة تسمى خرقاء، فذكر مثله. وفي "تفسير مقاتل" أن اسمها بطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وعند البلاذري أنها والدة أسد" بن عبد العزى بن قصي، وأنها بنت سعد بن تميم بن مرة. وفي "غرر التبيان" أنها كانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى نصف النهار ثم تأمرهن بنقض ذلك، هذا دأبها لا تكف عن الغزل ولا تبقي ما غزلت. وروى الطبري من طريق ابن جريج عن عبد الله بن كثير مثل رواية صدقة المذكور، ومن طريق سعيد عن قتادة قال: هو مثل ضربه الله تعالى لمن نكث عهده. وروى ابن مردويه بإسناد ضعيف عن ابن عباس أنها نزلت في أم زفر الآتي ذكرها في كتاب الطب، والله أعلم. وصدقة هذا لم أر من ذكره في رجال البخاري، وقد أقدم الكرماني فقال: صدقة هذا هو ابن الفضل المروزي شيخ البخاري، وهو يروي عن سفيان بن عيينة، وهنا روى عنه سفيان، ولا سلف له فيما ادعاه من ذلك، ويكفي في الرد عليه ما أخرجناه من تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم من رواية صدقة هذا عن السدي، فإن صدقة بن الفضل المروزي ما أدرك السدي ولا أصحاب السدي، وكنت أظن أن صدقة هذا هو ابن أبي عمران قاضي الأهواز لأن لابن عيينة عنه رواية، إلى أن رأيت في "تاريخ البخاري" صدقة أبو الهذيل، روى عن السدي قوله روى عنه ابن عيينة، وكذا ذكره ابن حبان في "الثقات" من غير زيادة، وكذا ابن أبي حاتم عن أبيه لكن قال: صدقة بن عبد الله بن كثير القارئ صاحب مجاهد، فظهر أنه غير ابن أبي عمران، ووضح أنه من رجال البخاري تعليقا، فيستدرك على من صنف في رجاله فإن الجميع أغفلوه، والله أعلم. قوله: "وقال ابن مسعود: الأمة معلم الخير؛ والقانت المطيع" وصله الفريابي وعبد الرزاق وأبو عبيد الله في "المواعظ" والحاكم كلهم من طريق الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: "قرئت عنده هذه الآية {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} فقال ابن مسعود: إن معاذا كان أمة قانتا لله، فسئل عن ذلك فقال: هل تدرون ما الأمة؟ الأمة الذي يعلم الناس الخير، والقانت الذي يطيع الله ورسوله" .
(8/387)
1- باب {وَمِنْكُمْ
مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}
4707- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الأَعْوَرُ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَنَسِ
(8/387)
بْنِ مَالِكٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَدْعُو "أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ وَأَرْذَلِ
الْعُمُرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا
وَالْمَمَات"
قوله: "باب قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}
ذكر فيه حديث أنس في الدعاء بالاستعاذة من ذلك وغيره، وسيأتي شرحه في الدعوات شعيب
الراوي عن أنس هو ابن الحبحاب بمهملتين وموحدتين، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي
قال: أرذل العمر هو الخرف. وروى ابن مردويه من حديث أنس أنه مائة سنة.
(8/388)
17- سُورَةُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ
1- باب 4708- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ
سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ إِنَّهُنَّ
مِنْ الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ
رُءُوسَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَهُزُّونَ وَقَالَ غَيْرُهُ نَغَضَتْ سِنُّكَ
أَيْ تَحَرَّكَت"
[الحديث 4708- طرفاه في: 4739، 4994]
قوله: "سورة بني إسرائيل - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم" ثبتت
البسملة لأبي ذر. قوله سمعت بن مسعود قال في بني إسرائيل والكهف ومريم إنهن من
العتاق بكسر المهملة وتخفيف الشاة جمع عتيق وهو القديم أو هو كل ما بلغ الغاية في
الجودة وبالثاني جزم جماعة في هذا الحديث وبالأول جزم أبو الحسين بن فارس وقوله
الأول بتخفيف الواو وقوله هن من تلادي بكسر الشاة وتخفيف اللام أي مما حفظ قديما
والتلاد قديم الملك وهو بخلاف الطارف ومراد بن مسعود أنهن من أول ما تعلم من
القرآن وأن لهن فضلا لما فيهن من القصص وأخبار الأنبياء والأمم وسيأتي الحديث في
فضائل القرآن بأتم من هذا السياق إن شاء الله تعالى قوله فسينغضون إليك رءوسهم قال
بن عباس يهزون وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن بن عباس ومن طريق العوفي عن
بن عباس قال يحركونها استهزاء ومن طريق بن جريج عن عطاء عن بن عباس نحوه ومن طريق
سعيد عن قتادة مثله قوله وقال غيره نغضت سنك أي تحركت قال أبو عبيدة في قوله:
{فسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} أي يحركونها استهزاء يقال نغضت سنة أي
تحركت وارتفعت من أصلها وقال بن قتيبة المراد أنهم يحركون رءوسهم استبعادا وروى
سعيد بن منصور من طريق محمد بن كعب في قوله {فسَيُنْغِضُونَ} قال يحركون.
(8/388)
باب {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَخْبَرْنَاهُمْ أَنَّهُمْ سَيُفْسِدُونَ وَالْقَضَاءُ عَلَى وُجُوهٍ {وَقَضَى رَبُّكَ} أَمَرَ رَبُّكَ وَمِنْهُ الْحُكْمُ {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} وَمِنْهُ الْخَلْقُ {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} خَلَقَهُنَّ {نَفِيرًا} مَنْ يَنْفِرُ مَعَهُ {وَلِيُتَبِّرُوا} يُدَمِّرُوا {مَا عَلَوْا} {حَصِيرًا} مَحْبِسًا مَحْصَرًا {حَقَّ} وَجَبَ {مَيْسُورًا} لَيِّنًا {خِطْئًا} إِثْمًا وَهُوَ اسْمٌ مِنْ خَطِئْتَ وَالْخَطَأُ مَفْتُوحٌ مَصْدَرُهُ مِنْ الإِثْمِ خَطِئْتُ بِمَعْنَى أَخْطَأْتُ {تَخْرِقَ} تَقْطَعَ {وَإِذْ هُمْ} نَجْوَى مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ {رُفَاتًا}
(8/388)
3- باب {أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
4709- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ ح و
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " أُتِيَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ
بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ
اللَّبَنَ قَالَ جِبْرِيلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ لَوْ
أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُك "
4710- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ
أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ سَمِعْتُ جَابِرَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ
فِي الْحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ
عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" زَادَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ " لَمَّا كَذَّبَتْنِي
قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.." نَحْوَهُ قَاصِفًا
رِيحٌ تَقْصِفُ كُلَّ شَيْء"
قوله: "باب قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
لم يختلف القراء في "أسرى" بخلاف قوله في قصة لوط "فأسر"
فقرئت بالوجهين، وفيه تعقب على من قال من أهل اللغة أن أسرى وسرى بمعنى واحد، قال
السهيلي: السرى من سريت إذا سرت ليلا يعني فهو لازم، والإسراء يتعدى في المعني لكن
حذف مفعوله حتى ظن من ظن أنهما بمعنى واحد، وإنما معني {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} جعل
البراق يسري به كما تقول أمضيت كذا بمعنى جعلته يمضي، لكن حسن حذف المفعول لقوة
الدلالة عليه أو الاستغناء عن ذكره، لأن المقصود بالذكر المصطفى لا الدابة التي
سارت به. وأما قصة لوط فالمعنى سر بهم على ما يتحملون عليه من دابة ونحوها، هذا
معنى القراءة بالقطع، ومعنى الوصل سر بهم ليلا، ولم يأت مثل ذلك في الإسراء لأنه
لا يجوز أن يقال سرى بعبده بوجه من
(8/391)
الوجوه انتهى. والنفي الذي جزم به إنما هو من هذه الحيثية التي قصد فيها الإشارة إلى أنه سار ليلا على البراق، وإلا فلو قال قائل: سرت بزيد بمعنى صاحبته لكان المعنى صحيحا. حديث أبي هريرة "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين" وقد تقدم شرحه في السيرة النبوية، ويأتي في الأشربة. وذكر فيه أيضا حديث جابر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما كذبتني قريش" كذا للأكثر، وللكشميهني كدبني بغير مثناة. حديث أبي هريرة "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين" وقد تقدم شرحه في السيرة النبوية، ويأتي في الأشربة. وذكر فيه أيضا حديث جابر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما كذبتني قريش" كذا للأكثر، وللكشميهني كدبني بغير مثناة. قوله فجلى الله لي بيت مقدس تقدم شرحه أيضا في السيرة النبوية والذي اقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم بيت المقدس هو المطعم بن عدي أخرجه أبو يعلى من حديث أم هانئ وأخرج النسائي من طريق بينها بن أبي أوفى عن بن عباس هذه القصة مطولة وقد ذكرت طرفا منها في أول شرح حديث الإسراء معزوا إلى أحمد والبزار ولفظ النسائي " لما كان ليلة أسرى بي ثم أصبحت بمكة قطعت بأمري وعرفت أن الناس مكذبي فقعدت معتزلا حزينا فمر بن عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزئ هل كان من شيء قال نعم قال ما هو قال إني أسرى بي الليله قال إلى أين قال الى بيت المقدس قال ثم أصبحت بين أظهرنا قال نعم قال فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد ما قال إن دعا قومه قال إن دعوت قومك لك تحدثهم قال نعم قال أبو جهل يا معشر بني كعب بن لؤي هلم قال فانقضت إليه المجالس فجاءوا حتى جلسوا إليهما قال حدث قومك بما حدثتني فحدثهم قال فمن مصفق ومن واضع يده على رأسه متعجبا وفي القوم من سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد قال فهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد قال النبي صلى الله عليه وسلم فذهبت أنعت لهم قال فما زلت أنعت حتى التبس على بعض النعت فجيء بالمسجد حتى وضع فنعته وأنا انظر إليه قال فقال القوم أما النعت فقد أصاب" قوله زاد يعقوب بن إبراهيم حدثنا بن أخي بن شهاب عن عمه لما كذبتني قريش حين أسرى إلى بيت المقدس وصله الذهلي في الزهريات عن يعقوب بهذا الإسناد وأخرجه قاسم بن ثابت في الدلائل من طريقه ولفظه جاء ناس من قريش إلى أبي بكر فقالوا هل لك في صاحبك يزعم أنه أتى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة قال أبو بكر أو قال ذلك قالوا نعم قال لقد صدق وروى الذهلي أيضا وأحمد في مسنده جميعا عن يعقوب بن إبراهيم المذكور عن أبيه عن صالح بن كيسان عن بن شهاب بسنده لما كذبتني قريش الحديث فلعله دخل إسناد في إسناد أو لما كان الحديثان في قصة واحدة أدخل ذلك
(8/392)
4- باب {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} كَرَّمْنَا وَأَكْرَمْنَا وَاحِدٌ {ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} عَذَابَ الْحَيَاةِ عَذَابَ الْمَمَاتِ خِلاَفَكَ وَخَلْفَكَ سَوَاءٌ {وَنَأَى} تَبَاعَدَ {شَاكِلَتِهِ} نَاحِيَتِهِ وَهِيَ مِنْ شَكْلِهِ {صَرَّفْنَا} وَجَّهْنَا {قَبِيلًا} مُعَايَنَةً وَمُقَابَلَةً وَقِيلَ الْقَابِلَةُ لأَنَّهَا مُقَابِلَتُهَا وَتَقْبَلُ وَلَدَهَا {خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} أَنْفَقَ الرَّجُلُ أَمْلَقَ وَنَفِقَ الشَّيْءُ ذَهَبَ {قَتُورًا} مُقَتِّرًا {لِلأَذْقَانِ} مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ وَالْوَاحِدُ ذَقَنٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ {مَوْفُورًا} وَافِرًا {تَبِيعًا} ثَائِرًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَصِيرًا {خَبَتْ} طَفِئَتْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لاَ تُبَذِّرْ} لاَ تُنْفِقْ فِي الْبَاطِلِ {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ} رِزْقٍ {مَثْبُورًا} مَلْعُونًا {لاَ تَقْفُ} لاَ تَقُلْ {فَجَاسُوا} تَيَمَّمُوا {يُزْجِي الْفُلْكَ} يُجْرِي الْفُلْكَ {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} لِلْوُجُوهِ.
(8/392)
قوله: باب قوله
تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} كرمنا وأكرمنا واحد "أي في الأصل،
وإلا فالتشديد أبلغ، قال أبو عبيد: كرمنا أي أكرمنا إلا أنها أشد مبالغة في
الكرامة انتهى. وهي من كرم بضم الراء مثل شرف وليس من الكرم الذي هو في المال.
قوله: {ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} عذاب الحياة وعذاب الممات"
قال أبو عبيدة في قوله: {ضِعْفَ الْحَيَاةِ} مختصر، والتقدير ضعف عذاب الحياة وضعف
عذاب الممات. وروى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {ضِعْفَ
الْحَيَاةِ} قال: عذابها "وضعف الممات" قال: عذاب الآخرة. ومن طريق علي
بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ضعف عذاب الدنيا والآخرة. ومن طريق سعيد عن قتادة
مثله. وتوجيه ذلك أن عذاب النار يوصف بالضعف، قال: لقوله تعالى: { عَذَاباً
ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} أي عذابا مضاعفا، فكأن الأصل لأذقناك عذابا ضعفا في الحياة
ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف؛ فهو كما لو قيل
أليم الحياة مثلا. قوله: "خلافك وخلفك سواء" قال أبو عبيدة في قوله:
{وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي بعدك قال: خلافك وخلقك
سواء، وهما لغتان بمعنى؛ وقرئ بهما. قلت: والقراءتان مشهورتان، فقرأ خلفك الجمهور،
وقرأ خلافك ابن عامر والإخوان، وهي رواية حفص عن عاصم. قوله: "ونأى
تباعد" هو قول أبي عبيدة، قال في قوله: {وَنَأَى بِجَانِبِه} أي تباعد. قوله:
"شاكلته ناحيته وهي من شكلته" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس في قوله: {عَلَى شَاكِلَتِهِ} قال: على ناحيته، ومن طريق ابن أبي نجيح عن
مجاهد قال: على طبيعته وعلى حدته، ومن طريق سعيد عن قتادة قال: يقول على ناحيته
وعلى ما ينوي. وقال أبو عبيدة: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} أي على
ناحيته وخلقته، ومنها قولهم هذا من شكل هذا. قوله: "صرفنا وجهنا" قال
أبو عبيدة في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ} أي
وجهنا وبينا. قوله: "حصيرا محبسا1"هو قول أبي عبيدة أيضا، وهو بفتح الميم
وكسر الموحدة، وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال:
"حصيرا" أي سجنا. قوله: "قبيلا معاينة ومقابلة. وقيل القابلة لأنها
مقابلتها وتقبل ولدها" قال أبو عبيدة: {وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} مجاز
مقابلة أي معاينة، قال الأعشى: "كصرخة حبلى بشرتها قبيلها" أي قابلتها.
وقال ابن التين: ضبط بعضهم تقبل ولدها بضم الموحدة وليس بشيء، وروى ابن أبي حاتم
من طريق سعيد عن قتادة "قبيلا أي جندا تعاينهم معاينة" . قوله:
"خشية الإنفاق، يقال أنفق الرجل أملق ونفق الشيء ذهب" كذا ذكره هنا،
والذي قاله أبو عبيدة في قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} أي
من ذهاب مال، يقال أملق فلان ذهب ماله. وفي قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ
خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} أي فقر، وقوله: "نفق الشيء ذهب" هو بفتح الفاء ويجوز
كسرها هو قول أبي عبيدة، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: خشية الإنفاق أي خشية
أن ينفقوا فيفتقروا. قوله: "قتورا مقترا" هو قول أبي عبيدة أيضا. قوله:
"للأذقان مجتمع اللحيين، الواحد ذقن" هو قول أبي عبيدة أيضا، وسيأتي له
تفسير آخر قريبا، واللحيين بفتح اللام ويجوز كسرها تثنية لحية. قوله: "وقال
مجاهد: موفورا وافرا" وصله الطبري من طريق ابن أبي نجيح عنه سواء. قوله:
"تبيعا ثائرا. وقال ابن عباس: نصيرا" أما قول مجاهد فوصله الطبري من
طريق ابن أبي نجيح عنه في قوله: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا
ـــــــ
(1) في هامش طبعة بولاق: تقدم ذلك وكتب عليه الشارح، وليس بالمتن الذي بأيدينا.
(8/393)
بِهِ تَبِيعاً} أي ثائرا؛ وهو اسم فاعل من الثأر، يقال لكل طالب ثأر وغيره تبيع وتابع، ومن طريق سعيد عن قتادة أي لا تخاف أن تتبع بشيء من ذلك. وأما قول ابن عباس فوصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله: {تَبِيعاً} قال: نصيرا. قوله: "لا تبذر لا تنفق في الباطل" وصله الطبري من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: "ولا تبذر" : لا تنفق في الباطل، والتبذير السرف في غير حق. ومن طريق عكرمة قال: المبذر المنفق في غير حق، ومن طرق متعددة عن أبي العبيدين - وهو بلفظ التصغير والتثنية - عن ابن مسعود مثله وزاد في بعضها "كنا أصحاب محمد نتحدث أن التبذير النفقة في غير حق" . قوله: "ابتغاء رحمة رزق" وصله الطبري من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} قال: ابتغاء رزق، ومن طريق عكرمة مثله، ولابن أبي حاتم من طريق إبراهيم النخعي في قوله: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} قال فضلا. قوله: "مثبورا ملعونا" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ومن وجه آخر عن سعيد بن جبير عنه، ومن طريق العوفي عنه قال: مغلوبا، ومن طريق الضحاك مثله، ومن طريق مجاهد قال: هالكا، ومن طريق قتادة قال: مهلكا، ومن طريق عطية قال: مغيرا مبدلا؛ ومن طريق ابن زيد بن أسلم قال: مخبولا لا عقل له. قوله: "فجاسوا تيمموا" أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} أي فمشوا. وقال أبو عبيدة: جاس يجوس أي نقب، وقيل: نزل وقيل قتل وقيل تردد وقيل هو طلب الشيء باستقصاء وهو بمعني نقب. قوله: "يزجي الفلك يجري الفلك" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه به، ومن طريق سعيد عن قتادة {يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ} أي يسيرها في البحر. قوله: "يخرون للأذقان للوجوه" وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وكذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله. وعن معمر عن الحسن للحي، وهذا يوافق قول أبي عبيدة الماضي، والأول على المجاز.
(8/394)
باب {وَإِذَا
أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} الْآيَةَ
4711- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنَا
مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ
إِذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَمِرَ بَنُو فُلاَنٍ حَدَّثَنَا
الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَقَالَ أَمَر"
قوله: "باب {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا} الآية" حديث عبد الله وهو ابن مسعود "كنا نقول للحي إذا
كثروا في الجاهلية: أمر بنو فلان" ثم ذكره عن شيخ آخر عن سفيان يعني بسنده
قال: أمر، فالأولى بكسر الميم والثانية بفتحها وكلاهما لغتان. وأنكر ابن التين فتح
الميم في أمر بمعني كثر، وغفل في ذلك ومن حفظه حجة عليه كما سأوضحه، وضبط الكرماني
أحدهما بضم الهمزة وهو غلط منه، وقراءة الجمهور بفتح الميم. وحكى أبو جعفر عن ابن
عباس أنه قرأها بكسر الميم وأثبتها أبو زيد لغة وأنكرها الفراء، وقرأ أبو رجاء في
آخرين بالمد وفتح الميم، ورويت عن أبي عمرو وابن كثير وغيرهما واختارها يعقوب
ووجهها الفراء بما ورد من تفسير ابن مسعود وزعم أنه لا يقال أمرنا بمعنى كثرنا إلا
بالمد، واعتذر عن حديث: "أفضل المال مهرة مأمورة" فإنها ذكرت للمزاوجة
لقوله فيه: "أو سكة مأبورة" وقرأ أبو عثمان النهدي كالأول لكن بتشديد
الميم بمعنى الإمارة، واستشهد الطبري بما أسنده من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس في قوله: {مَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قال: سلطنا
(8/394)
شرارها. ثم ساق عن أبي عثمان وأبي العالية ومجاهد أنهم قرءوا بالتشديد، وقيل التضعيف للتعدية والأصل أمرنا بالتخفيف أي كثرنا كما وقع في هذا الحديث الصحيح، ومنه حديث: "خير المال مهرة مأمورة" أي كثيرة النتاج أخرجه أحمد، ويقال أمر بنو فلان أي كثروا وأمرهم الله كثرهم وأمروا أي كثروا، وقد تقدم قول أبي سفيان في أول هذا الشرح في قصة هرقل حيث قال: "لقد أمر أمر ابن أبي كبشة" أي عظم، واختار الطبري قراءة الجمهور، واختار في تأويلها حملها على الظاهر وقال: المعنى أمرنا مترفيها بالطاعة فعصوا، ثم أسنده عن ابن عباس ثم سعيد بن جبير. وقد أنكر الزمخشري هذا التأويل وبالغ كعادته، وعمدة إنكاره أن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، وتعقب بأن السياق يدل عليه، وهو كقولك أمرته فعصاني أي أمرته بطاعتي فعصاني وكذا أمرته فامتثل.
(8/395)
5- باب {ذُرِّيَّةَ
مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}
4712- حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا أبو حيان التيمي عن أبي زرعة بن
عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ثم أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة ثم قال: "أنا سيد الناس
يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد
يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون
ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم
فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له أنت أبو البشر
خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا
ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما قد بلغنا فيقول آدم إن ربي قد غضب اليوم غضبا
لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي نفسي
اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى
أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه
فيقول إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه
قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى
إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع
لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب
قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات -فذكرهن أبو حيان في
الحديث- نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا
موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا
(8/395)
إلى ربك ألا ترى ما
نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله
وإني قد قتلت نفسا لم أو مر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى
عيسى فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
وكلمت الناس في المهد صبيا اشفع لنا ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد
غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبا نفسي نفسي
نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتون محمد صلى الله
عليه وسلم فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم
من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش
فأقع ساجدا لربي عز وجل ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم
يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي
فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا نجاسة عليهم من
الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال
والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما
بين مكة وبصرى"
قوله: باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}
ذكر فيه حديث أبي هريرة في الشفاعة من طريق أبي زرعة بن عمرو عنه، وسيأتي في شرحه
في الرقاق؛ وأورده هنا لقوله فيه: "يقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل
الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا" وقد مضى البحث في كونه أول الرسل في كتاب
التيمم، وقوله فيه في ذكر إبراهيم "وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات" فذكرهن
أبو حيان في الحديث، يشير إلى أن من دون أبي حيان اختصر ذلك، وأبو حيان هو الراوي
له عن أبي زرعة، وقد مضى ذلك في أحاديث الأنبياء. وفي الحديث رد على من زعم أن
الضمير في قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} لموسى عليه السلام، وقد صحح ابن
حبان من حديث سلمان الفارسي "كان نوح إذا طعم أو لبس حمد الله، فسمي عبدا
شكورا" وله شاهد عند ابن مردويه من حديث معاذ بن أنس، وآخر من حديث أبي
فاطمة. وقوله: "ينفذهم البصر" بفتح أوله وضم الفاء من الثلاثي أي يخرقهم
وبضم أوله وكسر الفاء من الرباعي أي يحيط بهم، والذال معجمة في الرواية. وقال أبو
حاتم السجستاني: أصحاب الحديث يقولونه بالمعجمة، وإنما هو بالمهملة، ومعناه يبلغ
أولهم وآخرهم. وأجيب بأن المعني يحيط بهم الرائي لا يخفى عليه منهم شيء لاستواء
الأرض، فلا يكون فيها ما يستتر به أحد من الرائي، وهذا أولى من قول أبي عبيدة
"يأتي عليهم بصر الرحمن" إذ رؤية الله تعالى محيطة بجميعهم في كل حال
سواء الصعيد المستوى وغيره، ويقال نفذه البصر إذا بلغه وجاوزه، والنفاذ الجواز
والخلوص من الشيء، ومنه نفذ السهم إذا خرق الرمية وخرج منها.
(8/396)
6- باب {وَآتَيْنَا
دَاوُدَ زَبُورًا}
4713- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خُفِّفَ
عَلَى دَاوُدَ الْقِرَاءَةُ فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَابَّتِهِ لِتُسْرَجَ فَكَانَ
يَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ يَعْنِي الْقُرْآن"
قوله: "باب قوله: وآتينا داود زبورا" حديث أبي هريرة "خفف على داود
القرآن" ووقع في رواية لأبي ذر "القراءة" والمراد بالقرآن مصدر
القراءة لا القرآن المعهود لهذه الأمة، وقد تقدم إشباع القول فيه في ترجمة داود
عليه السلام من أحاديث الأنبياء.
(8/397)
7- باب {قُلْ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ
عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}
4714- حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ {إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ} قَالَ كَانَ نَاسٌ مِنْ الإِنْسِ
يَعْبُدُونَ نَاساً مِنْ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَتَمَسَّكَ هَؤُلاَءِ بِدِينِهِمْ
زَادَ الأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الأَعْمَشِ {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ}
[الحديث 4714-طرفه في: 4717]
قوله: باب {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} الآية" كذا لأبي
ذر، وساق غيره إلى {تَحْوِيلاً} . قوله: "يحيي" هو القطان، وسفيان هو
الثوري، وسليمان هو الأعمش، وإبراهيم هو النخعي، وأبو معمر هو عبد الله الأزدي،
وعبد الله هو ابن مسعود. قوله: "عن عبد الله {إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}
قال: كان ناس" في رواية النسائي من هذا الوجه عن عبد الله في قوله:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قال:
كان ناس إلخ، والمراد بالوسيلة القربة أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، وأخرجه
الطبري من طريق أخرى عن قتادة، ومن طريق ابن عباس أيضا. قوله: "فأسلم الجن
وتمسك هؤلاء بدينهم" أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن،
والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة.
وروى الطبري من وجه آخر عن ابن مسعود فزاد فيه: "والإنس الذين كانوا يعبدونهم
لا يشعرون بإسلامهم" وهذا هو المعتمد في تفسير هذه الآية، وأما ما أخرجه
الطبري من وجه آخر عن ابن مسعود قال: "كان قبائل العرب يعبدون صنفا من
الملائكة يقال لهم الجن، ويقولون هم بنات الله، فنزلت هذه الآية" فإن