مج 11 فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)
85 - باب ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى
الْمَيِّتِ
1367 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا
فَقَالَ وَجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا
وَجَبَتْ قَالَ هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ
86 - باب مَا جَاءَ فِي عَذَابِ
الْقَبْرِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى[الأنعام 93]: {إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ
وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} هُوَ الْهَوَانُ. وَالْهَوْنُ. الرِّفْقُ وَقَوْلُهُ
جَلَّ ذِكْرُهُ [التوبة 101]: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ
إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}
وَقَوْلُهُ تَعَالَى [غافر 45]: { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}
1369 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ
عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أُقْعِدَ
الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ {يُثَبِّتُ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
بِهَذَا وَزَادَ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ
[الحديث 1369 – طرفه في: 4699]
1370 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قَالَ "اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ فَقَالَ وَجَدْتُمْ مَا
وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَقِيلَ لَهُ تَدْعُو أَمْوَاتًا فَقَالَ مَا أَنْتُمْ
بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لاَ يُجِيبُونَ"
[الحديث 1370 – طرفاه في: 3980, 4026
1371 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ "إِنَّمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّهُمْ
لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى}
[الحديث 1371 – طرفاه في: 3979, 3981]
1372 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْتُ الأَشْعَثَ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ
يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ فَقَالَتْ لَهَا
أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ نَعَمْ عَذَابُ
الْقَبْرِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ صَلَّى صَلاَةً إِلاَّ
تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" زَادَ غُنْدَر:ٌ" عَذَابُ الْقَبْرِ
حَقٌّ"
1373 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ
أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ
أَنَّهُ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَقُولُ
" قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا
فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِي يَفْتَتِنُ فِيهَا الْمَرْءُ فَلَمَّا ذَكَرَ
ذَلِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً"
1374 - حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى
عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ
فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولاَنِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ
أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ
النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا"
قَالَ قَتَادَةُ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ ثُمَّ رَجَعَ
إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ " وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ
لَهُ:
(3/232)
مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا
الرَّجُلِ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ
لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً
فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ"
قوله: "باب ما جاء في عذاب القبر" لم يتعرض المصنف في الترجمة لكون عذاب
القبر يقع على الروح فقط أو عليها وعلى الجسد، وفيه خلاف شهير عند المتكلمين،
وكأنه تركه لأن الأدلة التي يرضاها ليست قاطعة في أحد الأمرين فلم يتقلد الحكم في
ذلك واكتفى بإثبات وجوده، خلافا لمن نفاه مطلقا من الخوارج وبعض المعتزلة كضرار بن
عمرو وبشر المريسي ومن وافقهما، وخالفهم في ذلك أكثر المعتزلة وجميع أهل السنة
وغيرهم وأكثروا من الاحتجاج له. وذهب بعض المعتزلة كالجياني إلى أنه يقع على
الكفار دون المؤمنين، وبعض الأحاديث الآتية ترد عليهم أيضا. قوله: "وقوله
تعالى" بالجر عطفا على عذاب القبر، أي ما ورد في تفسير الآيات المذكورة. وكأن
المصنف قدم ذكر هذه الآيات لينبه على ثبوت ذكره في القرآن، خلافا لمن رده وزعم أنه
لم يرد ذكره إلا من أخبار الآحاد. فأما الآية التي في الأنعام فروى الطبراني وابن
أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ
الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ}
قال: هذا عند الموت، والبسط الضرب يضربون وجوههم وأدبارهم انتهى. ويشهد له قوله
تعالى في سورة القتال {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} وهذا وإن كان قبل الدفن فهو من جملة العذاب الواقع
قبل يوم القيامة، وإنما أضيف العذاب إلى القبر لكون معظمه يقع فيه، ولكون الغالب
على الموتى أن يقبروا، إلا فالكافر ومن شاء الله تعذيبه من العصاة يعذب بعد موته
ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق إلا من شاء الله. قوله: "وقوله جل
ذكره. {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} " وروى الطبري وابن أبي حاتم والطبراني
في الأوسط أيضا من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: "خطب رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقال: اخرج يا فلان فإنك منافق " فذكر الحديث،
وفيه: "ففضح الله المنافقين" فهذا العذاب الأول، والعذاب الثاني عذاب
القبر. وريا أيضا من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة نحوه، ومن طريق محمد بن ثور
عن معمر عن الحسن " {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} عذاب الدنيا وعذاب القبر
"وعن محمد بن إسحاق قال: "بلغني" فذكر نحوه. وقال الطبري بعد أن
ذكر اختلافا عن غير هؤلاء: والأغلب أن إحدى المرتين عذاب القبر، والأخرى تحتمل أحد
ما تقدم ذكره من الجوع أو السبي أو القتل أو الإذلال أو غير ذلك. قوله:
"وقوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ} الآية" روى الطبري من طريق
الثوري عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل قال: أرواح آل فرعون في طيور سود تغدو وتروح
على النار فذلك عرضها. ووصله ابن أبي حاتم من طريق ليث عن أبي قيس فذكر عبد الله
بن مسعود فيه، وليث ضعيف، وسيأتي بعد بابين في الكلام على حديث ابن عمر بيان أن
هذا العرض يكون في الدنيا قبل يوم القيامة. قال القرطبي: الجمهور على أن هذا العرض
يكون في البرزخ، وهو حجة في تثبيت عذاب القبر. وقال غيره: وقع ذكر عذاب الدارين في
هذه الآية مفسرا مبينا، لكنه حجة على من أنكر عذاب القبر مطلقا لا على من خصه
بالكفار. واستدل بها على أن الأرواح باقية بعد فراق الأجساد، وهو قول أهل السنة
كما سيأتي. واحتج بالآية الأولى على أن النفس والروح شيء واحد لقوله تعالى:
{أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} والمراد الأرواح، وهي مسألة مشهورة فيها أقوال كثيرة
وستأتي الإشارة إلى شيء منها في التفسير عند قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ
الرُّوحِ} الآية. ثم أورد المصنف في الباب ستة أحاديث. حديث
(3/233)
البراء في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} وقد أورد المصنف في التفسير عن أبي الوليد الطيالسي عن شعبة، وصرح فيه بالإخبار بين شعبة وعلقمة، وبالسماع بين علقمة وسعد بن عبيدة. قوله: "إذا أقعد المؤمن في قبره أتي ثم شهد" في رواية الحموي والمستملي: "ثم يشهد" هكذا ساقه المصنف بهذا اللفظ، وقد أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن حفص بن عمر شيخ البخاري فيه بلفظ أبين من لفظه قال: "أن المؤمن إذا شهد أن لا إله إلا الله وعرف محمدا في قبره فذلك قوله إلخ" وأخرجه ابن مردويه من هذا الوجه وغيره بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عذاب القبر فقال: إن المسلم إذا شهد أن لا إله إلا الله وعرف أن محمدا رسول الله" الحديث. قوله في الطريق الثانية "بهذا وزاد { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} نزلت في عذاب القبر" يوهم أن لفظ غندر كلفظ حفص وزيادة، وليس كذلك، وإنما هو بالمعنى، فقد أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه، والقدر الذي ذكره هو أول الحديث، وبقيته عندهم "يقال له من ربك؟ فيقول: ربي الله ونبيي محمد" ، والقدر المذكور أيضا أخرجه مسلم والنسائي من طريق خيثمة عن البراء، وقد اختصر سعد وخيثمة هذا الحديث جدا، لكن أخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن خيثمة فزاد فيه: "إن كان صالحا وفق، وإن كان لا خير فيه وجد أبله" وفيه اختصار أيضا وقد رواه زاذان أبو عمر عن البراء مطولا مبينا أخرجه أصحاب السنن وصححه أبو عوانة وغيره وفيه من الزيادة في أوله "استعيذوا بالله من عذاب القبر" وفيه: "فترد روحه في جسده "وفيه: " فيأتيه ملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له. ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما يدريك؟ فيقول: قرأت القرآن كتاب الله فآمنت به وصدقت. فذلك قوله تعالى : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} " وفيه: " وأن الكافر تعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول هاه هاه لا أدري " الحديث. وسيأتي نحو هذا في حديث أنس سادس أحاديث الباب، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. قال الكرماني: ليس في الآية ذكر عذاب القبر، فلعله سمى أحوال العبد في قبره عذاب القبر تغليبا لفتنة الكافر على فتنة المؤمن لأجل التخويف، ولأن القبر مقام الهول والوحشة، ولأن ملاقاة الملائكة مما يهاب منه ابن آدم في العادة. ثانيها حديث ابن عمر في قصة أصحاب القليب قليب بدر وفيه قوله صلى الله عليه وسلم ما أنتم بأسمع لما أقول منهم "أورده هنا مختصرا، وسيأتي مطولا في المغازي. وصالح المذكور في الإسناد هو ابن كيسان. ثالثها حديث عائشة قالت: "إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنهم ليعلمون الآن ما أن كنت أقول لهم حق" وهذا مصير من عائشة إلى رد رواية بن عمر المذكورة. وقد خالفها الجمهور في ذلك وقبلوا حديث ابن عمر لموافقة من رواه غيره عليه. وأما استدلالها بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فقالوا معناها لا تسمعهم سماعا ينفعهم، أو لا تسمعهم إلا أن يشاء الله. وقال السهيلي: عائشة لم تحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم فغيرها ممن حضر أحفظ للفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا له "يا رسول الله أتخاطب قوما قد جيفوا؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال عالمين جاز أن يكونوا سامعين إما بآذان رءوسهم كما هو قول الجمهور، أو بآذان الروح على رأي من يوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد. قال: وأما الآية فإنها كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} أي إن الله هو الذي يسمع ويهدي انتهى. وقوله: إنها لم تحضر صحيح، لكن لا يقدح ذلك في روايتها لأنه مرسل صحابي وهو محمول على أنها سمعت
(3/234)
ذلك ممن حضره أو من النبي صلى الله
عليه وسلم بعد، ولو كان ذلك قادحا في روايتها لقدح في رواية ابن عمر فإنه لم يحضر
أيضا، ولا مانع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال اللفظين معا فإنه لا تعارض
بينهما. وقال ابن التين. لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية لأن الموتى لا يسمعون
بلا شك، لكن إذا أراد الله إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع كقوله تعالى:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} الآية، وقوله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ
ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} الآية. وسيأتي في المغازي قول قتادة: إن الله
أحياهم حتى سمعوا كلام نبيه توبيخا ونقمة انتهى. وقد أخذ ابن جرير وجماعة من
الكرامية من هذه القصة أن السؤال في القبر يقع على البدن فقط، وأن الله يخلق فيه
إدراكا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم. وذهب ابن حزم وابن هبيرة إلى أن السؤال يقع
على الروح فقط من غير عود إلى الجسد، وخالفهم الجمهور فقالوا: تعاد الروح إلى
الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث، ولو كان على الروح فقط لم يكن للبدن بذلك
اختصاص، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تتفرق أجزاؤه، لأن الله قادر أن يعيد الحياة
إلى جزء من الجسد ويقع عليه السؤال، كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه. والحامل
للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط أن الميت قد يشاهد في قبره حال المسألة لا
أثر فيه من إقعاد ولا غيره، ولا ضيق في قبره ولا سعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب.
وجوابهم أن ذلك غير ممتنع في القدرة، بل له نظير في العادة وهو النائم فإنه يجد
لذة وألما لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألما أو لذة لما يسمعه أو يفكر فيه
ولا يدرك ذلك جليسه، وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد وأحوال ما بعد
الموت على ما قبله، والظاهر أن الله تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة
ذلك وستره عنهم إبقاء عليهم لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك
أمور الملكوت إلا من شاء الله. وقد ثبتت الأحاديث بما ذهب إليه الجمهور كقوله:
"أنه ليسمع خفق نعالهم " وقوله: "تختلف أضلاعه لضمة القبر "
وقوله: "يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق" وقوله: "يضرب بين
أذنيه" وقوله: "فيقعدانه" وكل ذلك من صفات الأجساد. وذهب أبو
الهذيل ومن تبعه إلى أن الميت لا يشعر بالتعذيب ولا بغيره إلا بين النفختين، قالوا
وحاله كحال النائم والمغشي عليه لا يحس بالضرب ولا بغيره إلا بعد الإفاقة،
والأحاديث الثابتة في السؤال حالة تولي أصحاب الميت عنه ترد عليهم.
" تنبيه ": وجه إدخال حديث ابن عمر وما عارضه من حديث عائشة في ترجمة
عذاب القبر أنه لما ثبت من سماع أهل القليب وتوبيخه لهم دل إدراكهم الكلام بحاسة
السمع على جواز إدراكهم ألم العذاب ببقية الحواس بل بالذات إذ الجامع بينهما وبين
بقية الأحاديث أن المصنف أشار إلى طريق من طرق الجمع بين حديثي ابن عمر وعائشة
بحمل حديث ابن عمر على أن مخاطبة أهل القليب وقعت وقت المسألة وحينئذ كانت الروح
قد أعيدت إلى الجسد، وقد تبين من الأحاديث الأخرى أن الكافر المسئول يعذب، وأما
إنكار عائشة فمحمول على غير وقت المسألة فيتفق الخبران. ويظهر من هذا التقرير وجه
إدخال حديث ابن عمر في هذه الترجمة والله أعلم. قوله: "سمعت الأشعث" هو
ابن أبي الشعثاء سليم بن الأسود المحاربي. قوله: "أن يهودية دخلت عليها فذكرت
عذاب القبر" وقع في رواية أبي وائل عن مسروق عند المصنف في الدعوات
"دخلت عجوزان من عجز يهود المدينة فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في
قبورهم" وهو محمول على أن إحداهما تكلمت وأقرتها الأخرى على ذلك فنسبت القول
إليهما مجازا، والإفراد يحمل على المتكلمة. ولم أقف على اسم واحدة منهما. وزاد في
رواية أبي وائل "فكذبتهما" ووقع عند مسلم من طريق ابن شهاب عن عروة عن
عائشة قالت: "دخلت علي امرأة من اليهود وهي
(3/235)
تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور.
قال: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنما يفتن يهود. قالت عائشة:
فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل شعرت أنه أوحي إلى أنكم
تفتنون في القبور. قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من عذاب
القبر" وبين هاتين الروايتين مخالفة، لأن في هذه أنه صلى الله عليه وسلم أنكر
على اليهودية، وفي الأولى أنه أقرها. قال النووي تبعا للطحاوي وغيره: هما قصتان،
فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قول اليهودية في القصة الأولى، ثم أعلم النبي صلى
الله عليه وسلم بذلك ولم يعلم عائشة، فجاءت اليهودية مرة فذكرت لها ذلك فأنكرت
عليها مستندة إلى الإنكار الأول، فأعلمها النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوحي نزل
بإثباته انتهى. وقال الكرماني: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ سرا فلما
رأى استغراب عائشة حين سمعت ذلك من اليهودية أعلن به انتهى. وكأنه لم يقف على
رواية الزهري عن عروة التي ذكرناها عن صحيح مسلم، وقد تقدم في "باب التعوذ من
عذاب القبر" في الكسوف من طريق عمرة عن عائشة "أن يهودية جاءت تسألها
فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتعذب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذا بالله من ذلك. ثم
ركب ذات غداة مركبا فخسفت الشمس" فذكر الحديث، وفي آخره: "ثم أمرهم أن
يتعوذوا من عذاب القبر" وفي هذه موافقة لرواية الزهري وأنه صلى الله عليه
وسلم لم يكن علم بذلك. وأصرح منه ما رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري عن سعيد بن
عمرو بن سعيد الأموي عن عائشة "أن يهودية كانت تخدمها، فلا تصنع عائشة إليها
شيئا من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاك الله عذاب القبر. قالت: فقلت: يا
رسول الله هل للقبر عذاب؟ قال: كذبت يهود، لا عذاب دون يوم القيامة. ثم مكث بعد
ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار وهو ينادي بأعلى صوته: أيها
الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حق" وفي هذا كله أنه صلى
الله عليه وسلم إنما علم بحكم عذاب القير إذ هو بالمدينة في آخر الأمر كما تقدم
تاريخ صلاة الكسوف في موضعه. وقد استشكل ذلك بأن الآية المتقدمة مكية وهي قوله
تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} وكذلك الآية الأخرى المتقدمة وهي
قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} والجواب أن
عذاب القبر إنما يؤخذ من الأولى بطريق المفهوم من حق من لم يتصف بالإيمان، وكذلك
بالمنطوق في الأخرى في حق آل فرعون وإن التحق بهم من كان له حكمهم من الكفار،
فالذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين، ثم
أعلم صلى الله عليه وسلم أن ذلك قد يقع على من يشاء الله منهم فجزم به وحذر منه
وبالغ في الاستعاذة منه تعليما لأمته وإرشادا، فانتفى التعارض بحمد الله تعالى.
وفيه دلالة على أن عذاب القبر ليس بخاص بهذه الأمة بخلاف المسألة ففيها اختلاف
سيأتي ذكره آخر الباب. قوله: "قال نعم عذاب القبر" كذا للأكثر، زاد في
رواية الحموي والمستملي: "حق" وليس بجيد لأن المصنف قال عقب هذه الطريق:
زاد غندر "عذاب القبر حق" فتبين أن لفظ: "حق" ليست في رواية
عبدان عن أبيه عن شعبة، وأنها ثابتة في رواية غندر عن شعبة وهو كذلك. وقد أخرج
طريق غندر النسائي والإسماعيلي كذلك وكذلك أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن
شعبة.
" تنبيه ": وقع قوله: "زاد غندر إلخ" في رواية أبي ذر وحده،
ووقع ذلك في بعض النسخ عقب حديث أسماء بنت أبي بكر وهو غلط. أورده مختصرا جدا
بلفظ: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فذكر فتنة القبر التي يفتتن
فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة" وهو مختصر، وقد ساقه النسائي
والإسماعيلي من الوجه الذي أخرجه منه البخاري فزاد بعد قوله ضجة "حالت بيني
وبين أن أفهم آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سكت
(3/236)
ضجيجهم قلت لرجل قريب مني: أي بارك الله فيك، ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر كلامه؟ قال قال: قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا من فتنة الدجال" انتهى. وقد تقدم هذا الحديث في كتاب العلم وفي الكسوف من طريق فاطمة بنت المنذر عن أسماء بتمامه، وفيه من الزيادة "يؤتى أحدكم فيقال له: ما علمك بهذا الرجل" الحديث، فلم يبين فيه ما بين في هذه الرواية من تفهيم الرجل المذكور لأسماء فيه. وأخرجه في كتاب الجمعة من طريق فاطمة أيضا وفيه أنه "لما قال أما بعد لغط نسوة من الأنصار، وأنها ذهبت لتسكتهن فاستفهمت عائشة عما قال" فيجمع بين مختلف هذه الروايات أنها احتاجت إلى الاستفهام مرتين، وأنه لما حدثت فاطمة لم تبين لها الاستفهام الثاني. ولم أقف على اسم الرجل الذي استفهمت منه عن ذلك إلى الآن. ولأحمد من طريق محمد بن المنكدر عن أسماء مرفوعا: "إذا دخل الإنسان قبره فإن كان مؤمنا احتف به عمله فيأتيه الملك فترده الصلاة والصيام، فيناديه الملك: اجلس، فيجلس فيقول: ما تقول في هذا الرجل محمد؟ قال: أشهد أنه رسول الله. قال: على ذلك عشت وعليه مت وعليه تبعث" الحديث. وسيأتي الكلام عليه مستوفى في الحديث الذي يليه. وقد تقدم الكلام على بقية فوائد حديث أسماء في كتاب العلم، ووقع في بعض النسخ هنا "زاد غندر عذاب القبر" وهو غلط لأن هذا إنما هو في آخر حديث عائشة الذي قبله، وأما حديث أسماء فلا رواية لغندر فيه. حديث أنس قد تقدم بهذا الإسناد في "باب خفق النعال" وعبد الأعلى المذكور فيه هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة البصري، وسعيد هو ابن أبي عروبة. قوله: "إن العبد إذا وضع في قبره" كذا وقع عنده مختصرا، وأوله عند أبي داود من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد بهذا السند "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دخل نخلا لبني النجار، فسمع صوتا ففزع فقال: من أصحاب هذه القبور؟ قالوا: يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية. فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر ومن فتنة الدجال. قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: إن العبد" فذكر الحديث، فأفاد بيان سبب الحديث قوله: "وإنه ليسمع قرع نعالهم" زاد مسلم: "إذا انصرفوا" وفي رواية له "يأتيه ملكان" زاد ابن حبان والترمذي من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة "أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير" وفي رواية ابن حبان: "يقال لهما منكر ونكير" زاد الطبراني في الأوسط من طريق أخرى عن أبي هريرة "أعينهما مثل قدور النحاس، وأنيابهما مثل صياصي البقر، وأصواتهما مثل الرعد" ونحوه لعبد الرزاق من مرسل عمرو بن دينار وزاد: "يحفران بأنيابهما ويطآن في أشعارهما، معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها "وأورد ابن الجوزي في "الموضوعات" حديثا فيه: "أن فيهم رومان وهو كبيرهم" وذكر بعض الفقهاء أن اسم اللذين يسألان المذنب منكر ونكير، وأن اسم اللذين يسألان المطيع مبشر وبشير. قوله: "فيقعدانه" زاد في حديث البراء فتعاد روحه في جسده كما تقدم في أول أحاديث الباب، وزاد ابن حبان من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة "فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عن يمينه، والصوم عن شماله، وفعل المعروف من قبل رجليه. فيقال له: اجلس، فيجلس وقد مثلت له الشمس عند الغروب" زاد ابن ماجه من حديث جابر "فيجلس فيمسح عينيه ويقول: دعوني أصلي". قوله: "فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد" زاد أبو داود في أوله "ما كنت تعبد؟ فإن هداه الله قال: كنت أعبد الله. فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل" ولأحمد من حديث عائشة "ما هذا الرجل الذي كان فيكم" وله من حديث أبي سعيد "فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
(3/237)
فيقال له: صدقت" زاد أبو داود
"فلا يسأل عن شيء غيرهما" وفي حديث أسماء بنت أبي بكر المتقدم في العلم
والطهارة وغيرهما: "فأما المؤمن أو الموقن فيقول: محمد رسول الله، جاءنا بالبينات
والهدى، فأجبنا وآمنا واتبعنا. فيقال له: نم صالحا" وفي حديث أبي سعيد عند
سعيد بن منصور "فيقال له: نم نومة العروس، فيكون في أحلى نومة نامها أحد حتى
يبعث" وللترمذي في حديث أبي هريرة "ويقال له: نم، فينام نومة العروس
الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك" ولابن حبان
وابن ماجه من حديث أبي هريرة وأحمد من حديث عائشة "ويقال له: على اليقين كنت
وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله". قوله: "فيقال له: انظر إلى مقعدك من
النار" في رواية أبي داود "فيقال له: هذا بيتك كان في النار، ولكن الله
عز وجل عصمك ورحمك فأبدلك الله به بيتا في الجنة. فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر
أهلي، فيقال له: اسكت" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد "كان هذا منزلك لو
كفرت بربك" ولابن ماجه من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح "فيقال له: هل
رأيت الله؟ فيقول ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فتفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها
يحطم بعضها بعضا فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله "وسيأتي في أواخر الرقاق من
وجه آخر عن أبي هريرة" لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء
ليزداد شكرا" وذكر عكسه. قوله: "قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في
قبره" زاد مسلم من طريق شيبان عن قتادة "سبعون ذراعا، ويملأ خضرا إلى
يوم يبعثون" ولم أقف على هذه الزيادة موصولة من حديث قتادة. وفي حديث أبي
سعيد من وجه آخر عند أحمد "ويفسح له في قبره" وللترمذي وابن حبان من
حديث أبي هريرة "فيفسح له في قبره سبعين ذراعا" زاد ابن حبان: "في
سبعين ذراعا". وله من وجه آخر عن أبي هريرة "ويرحب له في قبره سبعون
ذراعا، وينور له كالقمر ليلة البدر" وفي حديث البراء الطويل "فينادي
مناد من السماء: إن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وافتحوا له بابا في الجنة وألبسوه
من الجنة. قال فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له فيها مد بصره" زاد ابن حبان
من وجه آخر عن أبي هريرة "فيزداد غبطة وسرورا، فيعاد الجلد إلى ما بدأ منه
وتجعل روحه في نسم طائر يعلق في شجر الجنة"1. قوله: "وأما المنافق
والكافر" كذا في هذه الطريق بواو العطف، وتقدم في "باب خفق النعال"
بها "وأما الكافر أو المنافق" بالشك. وفي رواية أبي داود "وأن
الكافر إذا وضع" وكذا لابن حبان من حديث أبي هريرة، وكذا في حديث البراء
الطويل، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد "وإن كان كافرا أو منافقا" بالشك،
وله في حديث أسماء "فإن كان فاجرا أو كافرا" وفي الصحيحين من حديثها
"وأما المنافق أو المرتاب" وفي حديث جابر عند عبد الرزاق وحديث أبي
هريرة عند الترمذي "وأما المنافق" وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي هريرة
عند ابن ماجه: "وأما الرجل السوء" وللطبراني من حديث أبي هريرة
"وإن كان من أهل الشك" فاختلفت هذه الروايات لفظا وهي مجتمعة على أن كلا
من الكافر والمنافق يسأل، ففيه تعقب على من زعم أن السؤال إنما يقع على من يدعي
الإيمان إن محقا وإن مبطلا، ومستندهم في ذلك ما رواه
ـــــــ
1 خرج الإمام أحمد عن كعب بن مالك أن النبيصلى الله عليه وسلم قال "نسمة
المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" قال
الحافظ ابن كثير في اسناد هذا الحديث: إنه إسناد صحيح عزيز عظيم. قال: ومعنى
"يعلق" أي يأكل .وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا "أرواح الشهداء
في جوف طير العهد في خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت, ثم تأوي
إلى تلك القناديل" الحديث. والله أعلم
(3/238)
عبد الرزاق من طريق عبيد بن عمير أحد كبار التابعين قال: "إنما يفتن رجلان: مؤمن ومنافق، وأما الكافر فلا يسأل عن محمد ولا يعرفه" وهذا موقوف. والأحاديث الناصة على أن الكافر يسأل مرفوعة مع كثرة طرقها الصحيحة فهي أولى بالقبول، وجزم الترمذي الحكيم بأن الكافر يسأل، واختلف في الطفل غير المميز فحزم القرطبي في التذكرة بأنه يسأل، وهو منقول عن الحنفية، وجزم غير واحد من الشافعية بأنه لا يسأل، ومن ثم قالوا: لا يستحب أن يلقن. واختلف أيضا في النبي هل يسأل، وأما الملك فلا أعرف أحدا ذكره، والذي يظهر أنه لا يسأل لأن السؤال يختص بمن شأنه أن يفتن، وقد مال ابن عبد البر إلى الأول وقال. الآثار تدل على أن الفتنة لمن كان منسوبا إلى أهل القبلة، وأما الكافر الجاحد فلا يسأل عن دينه. وتعقبه ابن القيم في "كتاب الروح" وقال: في الكتاب والسنة دليل على أن السؤال للكافر والمسلم، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} وفي حديث أنس في البخاري "وأما المنافق والكافر" بواو العطف، وفي حديث أبي سعيد "فإن كان مؤمنا -فذكره وفيه- وإن كان كافرا" وفي حديث البراء "وإن الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا - فذكره وفيه - فيأتيه منكر ونكير" الحديث أخرجه أحمد هكذا، قال: وأما قول أبي عمر: فأما الكافر الجاحد فليس ممن يسأل عن دينه، فجوابه أنه نفي بلا دليل. بل في الكتاب العزيز الدلالة على أن الكافر يسأل عن دينه، قال الله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} لكن للنافي أن يقول إن هذا السؤال يكون يوم القيامة. قوله: "فيقول لا أدري" في رواية أبي داود المذكورة " وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره فيقول له: ما كنت تعبد" وفي أكثر الأحاديث "فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل" وفي حديث البراء "فيقولان له من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري" وهو أتم الأحاديث سياقا. قوله: " كنت أقول ما يقول الناس" في حديث أسماء "سمعت الناس يقولون شيئا فقلته" وكذا في أكثر الأحاديث. قوله: "لا دريت ولا تليت" كذا في أكثر الروايات بمثناة مفتوحة بعدها لام مفتوحة وتحتانية ساكنة، قال ثعلب: قوله: "تليت "أصله تلوت، أي لا فهمت ولا قرأت القرآن، والمعنى لا دريت ولا اتبعت من يدري، وإنما قاله بالياء لمؤاخاة دريت. وقال ابن السكيت: قوله: "تليت" إتباع ولا معنى لها، وقيل صوابه ولا ائتليت بزيادة همزتين قيل المثناة بوزن افتعلت من قولهم ما ألوت أي ما استطعت، حكي ذلك عن الأصمعي، وبه جزم الخطابي. وقال الفراء: أي قصرت كأنه قيل له لا دريت ولا قصرت في طلب الدارية ثم أنت لا تدري. وقال الأزهري. الألو يكون بمعنى الجهد وبمعنى التقصير وبمعنى الاستطاعة. وحكى ابن قتيبة عن يونس بن حبيب أن صواب الرواية: "لا دريت ولا أتليت" بزيادة ألف وتسكين المثناة كأنه يدعو عليه بأن لا يكون له من يتبعه، وهو من الإتلاء يقال ما أتلت إبله أي لم تلد أولادا يتبعونها. وقال: قول الأصمعي أشبه بالمعنى، أي لا دريت ولا استطعت أن تدري. ووقع عند أحمد من حديث أبي سعيد "لا دريت ولا اهتديت "وفي مرسل عبيد بن عمير عند عبد الرزاق "لا دريت ولا أفلحت". قوله: "بمطارق من حديد ضربة" تقدم في "باب خفق النعال" بلفظ: "بمطرقة" على الإفراد، وكذا هو في معظم الأحاديث. قال الكرماني: الجمع مؤذن بأن كل جزء من أجزاء تلك المطرقة مطرقة برأسها مبالغة اه. وفي حديث البراء "لو ضرب بها جبل لصار
(3/239)
ترابا" وفي حديث أسماء "ويسلط عليه دابة في قبره معها سوط ثمرته جمرة مثل غرب البعير تضربه ما شاء الله صماء لا تسمع صوته فترحمه" وزاد في أحاديث أبي سعيد وأبي هريرة وعائشة التي أشرنا إليها "ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك هذا، ويفتح له باب إلى النار" زاد في حديث أبي هريرة "فيزداد حسرة وثبورا، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه" ، في حديث البراء " فينادي مناد من السماء: أفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها" . قوله: "من يليه" قال المهلب: المراد الملائكة الذين يلون فتنته، كذا قال، ولا وجه لتخصيصه بالملائكة فقد ثبت أن البهائم تسمعه. وفي حديث البراء "يسمعه من بين المشرق والمغرب" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد "يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين" وهذا يدخل فيه الحيوان والجماد، لكن يمكن أن يخص منه الجماد. ويؤيده أن في حديث أبي هريرة عند البزار "يسمعه كل دابة إلا الثقلين" والمراد بالثقلين الإنس والجن، قيل لهم ذلك لأنهم كالثقل على وجه الأرض. قال المهلب: الحكمة في أن الله يسمع الجن قول الميت قدموني ولا يسمعهم صوته إذا عذب بأن كلامه قبل الدفن متعلق بأحكام الدنيا وصوته إذا عذب في القبر متعلق بأحكام الآخرة، وقد أخفى الله على المكلفين أحوال الآخرة إلا من شاء الله إبقاء عليهم كما تقدم. وقد جاء في عذاب القبر غير هذه الأحاديث: منها عن أبي هريرة وابن عباس وأبي أيوب وسعد وزيد بن أرقم وأم خالد في الصحيحين أو أحدهما، وعن جابر عند ابن ماجه، وأبي سعيد عند ابن مردويه، وعمر وعبد الرحمن بن حسنة وعبد الله بن عمرو عند أبي داود، وابن مسعود عند الطحاوي، وأبي بكرة وأسماء بنت يزيد عند النسائي، وأم مبشر عند ابن أبي شيبة، وعن غيرهم. وفي أحاديث الباب من الفوائد: إثبات عذاب القبر، وأنه واقع على الكفار ومن شاء الله من الموحدين. والمسألة وهل هي واقعة على كل واحد؟ تقدم تقرير ذلك، وهل تختص بهذه الأمة أم وقعت على الأمم قبلها؟ ظاهر الأحاديث الأول وبه جزم الحكيم الترمذي وقال: كانت الأمم قبل هذه الأمة تأتيهم الرسل فإن أطاعوا فذاك وإن أبوا اعتزلوهم وعوجلوا بالعذاب، فلما أرسل الله محمدا رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب، وقبل الإسلام ممن أظهره سواء أسر الكفر أو لا، فلما ماتوا قيض الله لهم فتاني القبر ليستخرج سرهم بالسؤال وليميز الله الخبيث من الطيب ويثبت الله الذين آمنوا ويضل الله الظالمين انتهى. ويؤيده حديث زيد بن ثابت مرفوعا: "أن هذه الأمة تبتلى في قبورها" الحديث أخرجه مسلم، ومثله عند أحمد عن أبي سعيد في أثناء حديث، ويؤيده أيضا قول الملكين "ما تقول في هذا الرجل محمد" وحديث عائشة عند أحمد أيضا بلفظ: "وأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون" وجنح ابن القيم إلى الثاني وقال: ليس في الأحاديث ما ينفي المسألة عمن تقدم من الأمم، وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بكيفية امتحانهم في القبور لا أنه نفى ذلك عن غيرهم، قال: والذي يظهر أن كل نبي مع أمته كذلك، فتعذب كفارهم في قبورهم بعد سؤالهم وإقامة الحجة عليهم كما يعذبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة. وحكي في مسألة الأطفال احتمالا، والظاهر أن ذلك لا يمتنع في حق المميز دون غيره. وفيه ذم التقليد في الاعتقادات لمعاقبة من قال: كنت أسمع الناس يقولون شيئا فقلته، وفيه أن الميت يحيا في قبره للمسألة خلافا لمن رده واحتج بقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} الآية قال: فلو كان يحيا في قبره للزم أن يحيا ثلاث مرات ويموت ثلاثا وهو خلاف النص، والجواب بأن المراد بالحياة في القبر للمسألة ليست الحياة المستقرة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبيره وتصرفه
(3/240)
وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، بل هي مجرد إعادة لفائدة الامتحان الذي وردت به الأحاديث الصحيحة، فهي إعادة عارضة، كما حيي خلق لكثير من الأنبياء لمسألتهم لهم عن أشياء ثم عادوا موتى. وفي حديث عائشة جواز التحديث عن أهل الكتاب بما وافق الحق.
(3/241)
87 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ
الْقَبْرِ
1375 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ
" خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَجَبَتْ
الشَّمْسُ فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا"
وَقَالَ النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَوْنٌ سَمِعْتُ أَبِي
سَمِعْتُ الْبَرَاءَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1376 - حَدَّثَنَا مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ
حَدَّثَتْنِي ابْنَةُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ " أَنَّهَا
سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ
عَذَابِ الْقَبْر"
[الحديث 1376 – طرفه في: 6364]
1377 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا
يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو
وَيَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ
النَّارِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ
الدَّجَّالِ"
قوله: "باب التعوذ من عذاب القبر" قال الزين بن المنير: أحاديث هذا
الباب تدخل في الباب الذي قبله، وإنما أفردها عنها لأن الباب الأول معقود لثبوته
ردا على من أنكره. والثاني لبيان ما ينبغي اعتماده في مدة الحياة من التوسل إلى
الله بالنجاة منه والابتهال إليه في الصرف عنه. قوله: "أخبرنا يحيي" هو
ابن سعيد القطان. قوله: "عن أبي أيوب" هو الأنصاري. وفي هذا الإسناد
ثلاثة من الصحابة في نسق أولهم أبو جحيفة. قوله: "وجبت الشمس" أي سقطت،
والمراد غروبها. قوله: "فسمع صوتا" قيل يحتمل أن يكون سمع صوت ملائكة
العذاب أو صوت اليهود المعذبين أو صوت وقع العذاب. قلت: وقد وقع عند الطبراني من
طريق عبد الجبار بن العباس عن عون بهذا السند مفسرا ولفظه: "خرجت مع النبي
صلى الله عليه وسلم حين غربت الشمس ومعي كوز من ماء، فانطلق لحاجته حتى جاء فوضأته
فقال: أتسمع ما اسمع؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أسمع أصوات اليهود يعذبون في
قبورهم" . قوله: "يهود تعذب في قبورها" هو خبر مبتدأ أي هذه يهود،
أو هو مبتدأ خبره محذوف. قال الجوهري: اليهود قبيلة والأصل اليهوديون فحذفت ياء
الإضافة مثل زنج وزنجي ثم عرف على هذا الحد فجمع على قياس شعير وشعيرة ثم عرف
الجمع بالألف واللام ولولا ذلك لم يجز دخول الألف واللام لأنه معرفة مؤنث فجرى
مجرى القبيلة وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، وهو موافق لقوله فيما تقدم من حديث
عائشة "إنما تعذب اليهود" وإذا ثبت أن اليهود تعذب بيهوديتهم ثبت تعذيب
غيرهم من المشركين لأن كفرهم بالشرك أشد من كفر اليهود. قوله: "وقال النضر
(3/241)
إلخ" ساق هذه الطريق لتصريح عون فيها بسماعه له من أبيه وسماع أبيه له من البراء، وقد وصلها الإسماعيلي من طريق أحمد بن منصور عن النضر ولم يسق المتن، وساقه إسحاق بن راهويه في مسنده عن النضر بلفظ: "فقال: هذه يهود تعذب في قبورها" قال ابن رشد: لم يجر للتعوذ من عذاب القبر في هذا الحديث ذكر، فلهذا قال بعض الشارحين: إنه من بقية الباب الذي قبله، وإنما أدخله في هذا الباب بعض من نسخ الكتاب ولم يميز، قال: ويحتمل أن يكون المصنف أراد أن يعلم بأن حديث أم خالد ثاني أحاديث هذا الباب محمول على أنه صلى الله عليه وسلم نعوذ من عذاب القبر حين سمع أصوات يهود، لما علم من حاله أنه كان يتعوذ ويأمر بالتعوذ مع عدم سماع العذاب فكيف مع سماعه. قال: وهذا جار على ما عرف من عادة المصنف في الإغماض. وقال الكرماني: العادة قاضية بأن كل من سمع مثل ذلك الصوت يتعوذ من مثله. قوله: "حدثنا معلى" هو ابن أسد، وبنت خالد اسمها أمة وتكنى أم خالد، وقد أورده المصنف في الدعوات من وجه آخر "عن موسى بن عقبة سمعت أم خالد بنت خالد ولم أسمع أحدا سمع من النبي غيرها" فذكره. ووقع في الطبراني من وجه آخر عن موسى بلفظ: "استجيروا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق ". قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو" زاد الكشميهني: "ويقول" وقد تقدم الكلام على فوائد هذا الحديث في آخر صفة الصلاة قبيل كتاب الجمعة.
(3/242)
88 - باب عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ
الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ
1378 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ
عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " مَرَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ
إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ ثُمَّ قَالَ بَلَى
أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ
لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ قَالَ ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ
بِاثْنَتَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ ثُمَّ قَالَ
لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا"
قوله: "باب عذاب القبر من الغيبة والبول" قال الزين بن المنير: المراد
بتخصيص هذين الأمرين بالذكر تعظيم أمرهما. لا نفي الحكم عما عداهما، فعلى هذا لا
يلزم من ذكرهما حصر عذاب القبر فيهما، لكن الظاهر من الاقتصار على ذكرهما أنهما
أمكن في ذلك من غيرهما، وقد روى أصحاب السنن من حديث أبي هريرة "استنزهوا من
البول، فإن عامة عذاب القبر منه" . حديث ابن عباس أورده المصنف في قصة
القبرين، وليس فيه للغيبة ذكر، وإنما ورد بلفظ النميمة، وقد تقدم الكلام عليه
مستوفى في الطهارة. وقيل مراد المصنف أن الغيبة تلازم النميمة لأن النميمة مشتملة
على ضربين: نقل كلام المغتاب إلى الذي اغتابه، والحديث عن المنقول عنه بما لا
يريده. قال بن رشيد: لكن لا يلزم من الوعيد على النميمة ثبوته على الغيبة وحدها،
لأن مفسدة النميمة أعظم، وإذا لم تساوها لم يصح الإلحاق إذ لا يلزم من التعذيب على
الأشد التعذيب على الأخف، لكن يجوز أن يكون ورد على معنى التوقع والحذر فيكون قصد
التحذير من المغتاب لئلا يكون له في ذلك نصيب انتهى. وقد وقع في بعض طرق هذا
الحديث بلفظ الغيبة كما بيناه في الطهارة، فالظاهر أن البخاري جرى على عادته في
الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث والله أعلم.
(3/242)
89 - باب الْمَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ
مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
1379 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ
عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ
أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ"
[الحديث 1379 – طرفاه في: 3240, 6515]
قوله: "باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي" أورد فيه حديث ابن
عمر "أن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي" قال ابن التين:
يحتمل أن يريد بالغداة والعشي غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيها. ومعنى
قوله: "حتى يبعثك الله" أي لا تصل إليه إلى يوم البعث. ويحتمل أن يريد
كل غداة وكل عشي، وهو محمول على أنه يحيا منه جزء ليدرك ذلك فغير ممتنع أن تعاد
الحياة إلى جزء من الميت أو أجزاء وتصح مخاطبته والعرض عليه انتهى. والأول موافق
للأحاديث المتقدمة قبل بابين في سياق المسألة وعرض المقعدين على كل أحد. وقال
القرطبي: يجوز أن يكون هذا العرض على الروح فقط، ويجوز أن يكون عليه مع جزء من
البدن. قال: والمراد بالغداة والعشي وقتهما وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء.
قال: وهذا في حق المؤمن والكافر واضح، فأما المؤمن المخلط فمحتمل في حقه أيضا،
لأنه يدخل الجنة في الجملة، ثم هو مخصوص بغير الشهداء لأنهم أحياء وأرواحهم تسرح
في الجنة. ويحتمل أن يقال: إن فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في
الجنة مقترنة بأجسادها، فإن فيه قدرا زائدا على ما هي فيه الآن. قوله: "إن
كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة" اتحد فيه الشرط والجزاء لفظا ولا بد فيه من
تقدير، قال التوربشتي: التقدير إن كان من أهل الجنة فمقعده من مقاعد أهل الجنة
يعرض عليه. وقال الطيبي: الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظا دل على الفخامة، والمراد
أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد انتهى. ووقع عند مسلم بلفظ:
"إن كان من أهل الجنة فالجنة" أي فالمعروض الجنة. وفي هذا الحديث إثبات
عذاب القبر، وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد لأن العرض لا يقع إلا على حي. وقال ابن
عبد البر: استدل به على أن الأرواح على أفنية القبور1. قال: والمعنى عندي أنها قد
تكون على أفنية قبورها لا أنها لا تفارق الأفنية، بل هي كما قال مالك إنه بلغه أن الأرواح
تسرح حيث شاءت. قوله: "حتى يبعثك الله يوم القيامة" في رواية مسلم عن
يحيى بن مالك " حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة " وحكى ابن عبد البر
فيه الاختلاف بين أصحاب مالك، وأن الأكثر رووه كرواية البخاري وأن ابن القاسم رواه
كرواية مسلم، قال. والمعنى حتى يبعثك الله إلى ذلك المقعد. ويحتمل أن يعود الضمير
إلى الله. فإلى الله ترجع الأمور، والأول
ـــــــ
1 ما قاله اين عبد البر ومالك في الأرواح ضعيف مخالف لظاهر القرآن الكريم, وقد دل
ظاهر القرآان على أن الأرواح ممسكة عند الله سبحانه وينالها من العذب والنعيم ما
شاء الله من ذلك, ولا مانع من عرض العذاب والنعيم عليها وإحساس البدن أو ما بقي
منه بما شاء الله من ذلك كما هو قول أهل السنة, والدليل المشار إليه قوله تعالى
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى
إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} . وقد دلت الأحاديث على إعادتها إلى الجسد بعد الدفن عند
السؤال, ولا مانع من إعادتها إليه فيما يشاء الله من الأوقات كوقت السلام عليه.
وثبت في الحديث الصحيح أن أرواح المؤمنين في شكل طيور تعلق بشجرة الجنة, وأرواح
الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت..الحديث. والله أعلم
(3/243)
أظهر اهـ. ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ: "ثم يقال: هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة " أخرجه مسلم. وقد أخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن لفظه كلفظ البخاري.
(3/244)
باب كلام الميت في الجنازة
...
90 - باب كَلاَمِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَنَازَةِ
1380 - حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه أنه سمع أبا سعيد
الخدري رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضعت
الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قدموني قدموني وإن كانت
غير صالحة قالت يا ويلها أين يذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها
الإنسان لصعق"
قوله: "باب كلام الميت على الجنازة" أي بعد حملها، أورد فيه حديث أبي
سعيد، وقد تقدم الكلام عليه قبل بضعة وثلاثين بابا، وترجم له "قول الميت وهو
على الجنازة قدموني" قال ابن رشيد: الحكمة في هذا التكرير أن الترجمة الأولى
مناسبة للترجمة التي قبلها وهي "باب السرعة بالجنازة" لاشتمال الحديث
على بيان موجب الإسراع، وكذلك هذه الترجمة مناسبة للتي قبلها كأنه أراد أن يبين أن
ابتداء العرض إنما يكون عند حمل الجنازة لأنها حينئذ يظهر لها ما تؤول إليه فتقول
ما تقول.
(3/244)
91 - باب مَا قِيلَ فِي أَوْلاَدِ
الْمُسْلِمِينَ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانَ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ أَوْ دَخَلَ
الْجَنَّةَ"
1381 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ النَّاسِ
مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلاَّ
أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ"
1382 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ
ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ
لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ"
[الحديث 1382 – طرفاه في: 3255, 6195]
قوله: "باب ما قيل في أولاد المسلمين" أي غير البالغين. قال الزين بن
المنير: تقدم في أوائل الجنائز ترجمة "من مات له ولد فاحتسب" وفيها
الحديث المصدر به، وإنما ترجم بهذه لمعرفة مآل الأولاد، ووجه انتزاع ذلك أن من
يكون سببا في حجب النار عن أبويه أولى بأن يحجب هو لأنه أصل الرحمة وسببها. وقال
النووي: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو
من أهل الجنة. وتوقف فيه بعضهم لحديث عائشة، يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ:
"توفي صبي من الأنصار فقلت: طوبى له لم يعلم سوءا ولم يدركه. فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا" الحديث. قال
والجواب عنه أنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل، أو قال ذلك قبل أن
يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى. وقال القرطبي: نفى بعضهم
(3/244)
92 - باب مَا قِيلَ فِي أَوْلاَدِ
الْمُشْرِكِينَ
1383 - حَدَّثَنِي حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ
أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ قَالَ "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ أَوْلاَدِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا
كَانُوا عَامِلِينَ"
[الحديث 1383 – طرفه في: 6597]
1384 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ " سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا
عَامِلِينَ"
[الحديث 1384 – طرفاه في: 6598, 660]
1385 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
(3/245)
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ
يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ
تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ"
قوله: "باب ما قيل في أولاد المشركين" هذه الترجمة تشعر أيضا بأنه كان
متوقفا في ذلك، وقد جزم بعد هذا في تفسير سورة الروم بما يدل على اختيار القول
الصائر إلى أنهم في الجنة كما سيأتي تحريره، وقد رتب أيضا أحاديث هذا الباب ترتيبا
يشير إلى المذهب المختار، فإنه صدره بالحديث الدال على التوقف، ثم ثنى بالحديث
المرجح لكونهم في الجنة، ثم ثلث بالحديث المصرح بذلك فإن قوله في سياقه "وأما
الصبيان حوله فأولاد الناس" قد أخرجه في التعبير بلفظ: "وأما الولدان
الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة. فقال بعض المسلمين: وأولاد المشركين؟ فقال:
وأولاد المشركين" ويؤيده ما رواه أبو يعلى من حديث أنس مرفوعا: "سألت
ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم" إسناده حسن. وورد تفسير
"اللاهين" بأنهم الأطفال من حديث ابن عباس مرفوعا أخرجه البزار، وروى
أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن صريم عن عمتها قالت: " قلت يا رسول الله من
في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة" إسناده
حسن. واختلف العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة على أقوال: أحدها أنهم في مشيئة
الله تعالى، وهو منقول عن الحمادين وابن المبارك وإسحاق، ونقله البيهقي في
"الاعتقاد" عن الشافعي في حق أولاد الكفار خاصة، قال ابن عبد البر: وهو
مقتضى صنيع مالك، وليس عنده في هذه المسألة شيء منصوص، إلا أن أصحابه صرحوا بأن أطفال
المسلمين في الجنة وأطفال الكفار خاصة في المشيئة، والحجة فيه حديث: "الله
أعلم بما كانوا عاملين" . ثانيها أنهم تبع لآبائهم، فأولاد المسلمين في الجنة
وأولاد الكفار في النار، وحكاه ابن حزم عن الأزارقة من الخوارج، واحتجوا بقوله
تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ
دَيَّاراً} وتعقبه بأن المراد قوم نوح خاصة، وإنما دعا بذلك لما أوحى الله إليه
{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} وأما حديث:
"هم من آبائهم أو منهم " فذاك ورد في حكم الحربي، وروى أحمد من حديث
عائشة "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين، قال: في الجنة.
وعن أولاد المشركين، قال: في النار فقلت يا رسول الله لم يدركوا الأعمال، قال: ربك
أعلم بما كانوا عاملين، لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار" وهو حديث ضعيف جدا
لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك. ثالثها أنهم يكونون في برزخ بين
الجنة والنار، لأنهم لم يعملوا حسنات يدخلون بها الجنة، ولا سيئات يدخلون بها
النار. رابعها خدم أهل الجنة، وفيه حديث عن أنس ضعيف أخرجه أبو داود الطيالسي وأبو
يعلى، وللطبراني والبزار من حديث سمرة مرفوعا: "أولاد المشركين خدم أهل
الجنة" وإسناده ضعيف. خامسها أنهم يصيرون ترابا، روي عن ثمامة بن أشرس.
سادسها هم في النار حكاه عياض عن أحمد، وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا
يحفظ عن الإمام أصلا. سابعها أنهم يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار، فمن دخلها
كانت عليه بردا وسلاما، ومن أبى عذب، أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد، وأخرجه
الطبراني من حديث معاذ بن جبل. وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في
الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في "كتاب الاعتقاد" أنه المذهب
الصحيح، وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء، وأجيب بأن ذلك
بعد أن يقع الاستقرار في الجنة أو النار، وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك،
وقد قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا
(3/246)
يَسْتَطِيعُونَ} وفي الصحيحين "
أن الناس يؤمرون بالسجود، فيصير ظهر المنافق طبقا، فلا يستطيع أن يسجد" .
ثامنها أنهم في الجنة، وقد تقدم القول فيه في "باب فضل من مات له ولد"
قال النووي: وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون، لقوله تعالى:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وإذا كان لا يعذب العاقل
لكونه لم تبلغه الدعوة فلأن لا يعذب غير العاقل من باب الأولى، ولحديث سمرة
المذكور في هذا الباب، ولحديث عمة خنساء المتقدم، ولحديث عائشة الآتي قريبا.
تاسعها الوقف. عاشرها الإمساك. وفي الفرق بينهما دقة. ثم أورد المصنف في الباب
ثلاثة أحاديث: أحدها حديث ابن عباس وأبي هريرة "سئل عن أولاد
المشركين"وفي رواية ابن عباس "ذراري المشركين" ولم أقف في شيء من
الطرق على تسمية هذا السائل، لكن عند أحمد وأبي داود عن عائشة ما يحتمل أن تكون هي
السائلة، فأخرجا من طريق عبد الله بن أبي قيس عنها قالت: "قلت: يا رسول الله
ذراري المسلمين؟ قال: مع آبائهم. قلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما
كانوا عاملين" الحديث. وروى عبد الرزاق من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة
عن عائشة قالت: " سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين،
فقال: هم مع آبائهم، ثم سألته بعد ذلك فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته
بعدما استحكم الإسلام فنزل : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال: هم على
الفطرة، أو قال: في الجنة" وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف، ولو صح هذا
لكان قاطعا للنزاع رافعا لكثير من الإشكال المتقدم. "تنبيه": لم يسمع
ابن عباس هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، بين ذلك أحمد من طريق عمار بن
أبي عمار عن ابن عباس قال: كنت أقول في أولاد المشركين: هم منهم، حتى حدثني رجل عن
رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيته فحدثني عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "ربهم أعلم بهم، هو خلقهم وهو أعلم بما كانوا عاملين"
فأمسكت عن قولي انتهى. وهذا أيضا يدفع القول الأول الذي حكيناه. قوله: "الله
أعلم" قال ابن قتيبة: معنى قوله: "بما كانوا عاملين" أي لو أبقاهم،
فلا تحكموا عليهم بشيء. وقال غيره: أي علم أنهم لا يعملون شيئا ولا يرجعون فيعملون
أو أخبر بعلم1 شيء لو وجد كيف يكون، مثل قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} ولكن لم
يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل.
" تنبيه " وأما حديث أبي هريرة فهو طرف من ثاني أحاديث الباب كما سيأتي
في القدر من طريق همام عن أبي هريرة، ففي آخره: "قالوا: يا رسول الله، أفرأيت
من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين" وكذا أخرجه مسلم من طريق
أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "فقال رجل: يا رسول الله أرأيت لو مات قبل
ذلك" ولأبي داود من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة نحو
رواية همام. وأخرج أبو داود عقبه عن ابن وهب سمعت مالكا وقيل له إن أهل الأهواء
يحتجون علينا بهذا الحديث يعني قوله: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه" فقال
مالك: احتج عليهم بآخره: "الله أعلم بما كانوا عاملين" . ووجه ذلك أن
أهل القدر استدلوا على أن الله فطر العباد على الإسلام وأنه لا يضل أحدا وإنما يضل
الكافر أبواه، فأشار مالك إلى الرد عليهم بقوله: "الله أعلم" فهو دال
على أنه يعلم بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة، فهو دليل على تقدم العلم
الذي ينكره غلاتهم، ومن ثم قال الشافعي: أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا. قوله:
"عن أبي سلمة" هكذا رواه ابن أبي ذئب عن الزهري، وتابعه يونس كما تقدم
قبل أبواب من طريق عبد الله بن المبارك عنه، وأخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن يونس،
ـــــــ
1 في نسخة "بعلم الشيء"
(3/247)
وخالفهما الزبيدي ومعمر فروياه عن الزهري عن سعيد بن المسيب بدل أبي سلمة، وأخرجه الذهلي في "الزهريات" من طريق الأوزاعي عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وقد تقدم أيضا من طريق شعيب عن الزهري عن أبي هريرة من غير ذكر واسطة. وصنيع البخاري يقتضي ترجيح طريق أبي سلمة، وصنيع مسلم يقتضي تصحيح القولين عن الزهري، وبذلك جزم الذهلي. قوله: " كل مولود " أي من بني آدم، وصرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "كل بني آدم يولد على الفطرة" وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج ذكرها ابن عبد البر، واستشكل هذا التركيب بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهويد وغيره مما ذكر، والفرض أن بعضهم يستمر مسلما ولا يقع له شيء، والجواب أن المراد من التركيب أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه، بل إنما حصل بسبب خارجي، فإن سلم من ذلك السبب استمر على الحق. وهذا يقوي المذهب الصحيح في تأويل الفطرة كما سيأتي. قوله: "يولد على الفطرة" ظاهره تعميم الوصف المذكور في جميع المولودين، وأصرح منه رواية يونس المتقدمة بلفظ: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة"، ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: " ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه". وفي رواية له من هذا الوجه " ما من مولود إلا وهو على الملة" . وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم، وإنما المراد أن كل من ولد على الفطرة وكان له أبوان على غير الإسلام نقلاه إلى دينهما، فتقدير الخبر على هذا: كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلا فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه. ويكفي في الرد عليهم رواية أبي صالح المتقدمة. وأصرح منها رواية جعفر بن ربيعة بلفظ: "كل بني آدم يولد على الفطرة" وقد اختلف السلف في المراد بالفطرة في هذا الحديث على أقوال كثيرة، وحكى أبو عبيد أنه سأل محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة عن ذلك فقال: كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، وقبل الأمر بالجهاد. قال أبو عبيد: كأنه عني أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلا لم يرثاه. والواقع في الحكم أنهما يرثانه فدل على تغير الحكم. وقد تعقبه ابن عبد البر وغيره. وسبب الاشتباه أنه حمله على أحكام الدنيا، فلذلك ادعى فيه النسخ، والحق أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر، ولم يرد به إثبات أحكام الدنيا. وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام، قال ابن عبد البر: وهو المعروف عند عامة السلف. وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة في آخر حديث الباب: اقرؤوا إن شئتم {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وبحديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم" الحديث. وقد رواه غيره فزاد فيه: "حنفاء مسلمين "ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى :{فِطْرَتَ اللَّهِ} لأنها إضافة مدح، وقد أمر نبيه بلزومها، فعلم أنها الإسلام. وقال ابن جرير: قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أي سدد لطاعته {حَنِيفاً} أي مستقيما {فِطْرَتَ اللَّهِ} أي صبغة الله، وهو منصوب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول، أو منصوب بفعل مقدر، أي ألزم. وقد سبق قبل أبواب قول الزهري في الصلاة على المولود: من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام، وسيأتي في تفسير سورة الروم جزم المصنف بأن الفطرة الإسلام، وقد قال أحمد: من مات أبواه وهما كافران حكم بإسلامه. واستدل بحديث الباب فدل على أنه فسر الفطرة بالإسلام. وتعقبه بعضهم بأنه كان يلزم أن لا يصح استرقاقه، ولا يحكم
(3/248)
بإسلامه إذا أسلم أحد أبويه. والحق أن الحديث سيق لبيان ما هو في نفس الأمر، لا لبيان الأحكام في الدنيا. وحكى محمد بن نصر أن آخر قولي أحمد أن المراد بالفطرة الإسلام. قال ابن القيم: وقد جاء عن أحمد أجوبة كثيرة يحتج فيها بهذا الحديث على أن الطفل إنما يحكم بكفره بأبويه، فإذا لم يكن بين أبوين كافرين فهو مسلم. وروى أبو داود عن حماد بن سلمة أنه قال: المراد أن ذلك حيث أخذ الله عليهم العهد حيث قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} قالوا بلى" ونقله ابن عبد البر عن الأوزاعي وعن سحنون، ونقله أبو يعلى بن الفراء عن إحدى الروايتين عن أحمد، وهو ما حكاه الميموني عنه وذكره ابن بطة، وقد سبق في "باب إسلام الصبي" في آخر حديث الباب من طريق يونس ثم يقول: { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} - إلى قوله - القيم" وظاهره أنه من الحديث المرفوع، وليس كذلك بل هو من كلام أبي هريرة أدرج في الخبر، بينه مسلم من طريق الزبيدي عن الزهري ولفظه: "ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم" قال الطيبي: ذكر هذه الآية عقب هذا الحديث يقوي ما أوله حماد بن سلمة من أوجه: أحدها أن التعريف في قوله: "على الفطرة" إشارة إلى معهود وهو قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ} ومعنى المأمور في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أي اثبت على العهد القديم. ثانيها ورود الرواية بلفظ: "الملة" بدل الفطرة و "الدين" في قوله: "للدين حنيفا" هو عين الملة، قال تعالى: { دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} ويؤيده حديث عياض المتقدم. ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس، قال. والمراد تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة، والتهيؤ لقبول الدين، فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى. وإلى هذا مال القرطبي في "المفهم "فقال: المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق، ودين الإسلام هو الدين الحق، وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث حيث قال: "كما تنتج البهيمة" يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئا من العيب، لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلا فخرج عن الأصل، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح والله أعلم. وقال ابن القيم: ليس المراد بقوله: "يولد على الفطرة" أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين، لأن الله يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة، وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك، لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلا بحيث يخرجان الفطرة عن القبول، وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية، فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف، ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا. والله أعلم. وفي المسألة أقوال أخر ذكرها ابن عبد البر وغيره: منها قول ابن المبارك أن المراد أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة، فمن علم الله أنه يصير مسلما ولد على الإسلام، ومن علم الله أنه يصير كافرا ولد على الكفر، فكأنه أول الفطرة بالعلم. وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله: "فأبواه يهودانه إلخ "معنى لأنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي في التمثيل بحال البهيمة. ومنها أن المراد أن الله خلق فيهم المعرفة والإنكار، فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعا {بَلَى} أما أهل السعادة فقالوها طوعا، وأما أهل الشقاوة فقالوها كرها. وقال محمد بن نصر: سمعت إسحاق ابن راهويه يذهب إلى هذا المعنى ويرجحه،
(3/249)
وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح، فأنه
لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده، وكأنه أخذه من
الإسرائيليات، حكاه ابن القيم عن شيخه. ومنها أن المراد بالفطرة الخلقة أي يولد
سالما لا يعرف كفرا ولا إيمانا، ثم يعتقد إذا بلغ التكليف، ورجحه ابن عبد البر
وقال: إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله:
{حَنِيفاً} أي على استقامة، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على
ملل الكفر دون ملة الإسلام، ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى. ومنها قول
بعضهم: أن اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه، وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله.
ويؤيد المذهب الصحيح أن قوله: "فأبواه يهودانه إلخ "ليس فيه لوجود
الفطرة شرط بل ذكر ما يمنع موجبها كحصول اليهودية مثلا متوقف على أشياء خارجة عن
الفطرة، بخلاف الإسلام. وقال ابن القيم: سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا
الحديث أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ
الناس إحداثه، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى
الإسلام، ولا حاجة لذلك، لأن الآثار المنقولة عن السلف تدل على أنهم لم يفهموا من
لفظ الفطرة إلا الإسلام، ولا يلزم من حملها على ذلك موافقة مذهب القدرية، لأن
قوله: " فأبواه يهودانه إلخ" محمول على أن ذلك يقع بتقدير الله تعالى،
ومن ثم احتج عليهم مالك بقوله في آخر الحديث: "الله أعلم بما كانوا
عاملين" . قوله: "فأبواه" أي المولود، قال الطيبي: الفاء أما
للتعقيب أو السببية أو جزاء شرط مقدر، أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه
إما بتعليمهما إياه أو بترغيبهما فيه، وكونه تبعا لهما في الدين يقتضي أن يكون
حكمه حكمهما. وخص الأبوان بالذكر للغالب، فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي
يموت أبواه كافرين كما هو قول أحمد، فقد استمر عمل الصحابة ومن بعدهم على عدم
التعرض لأطفال أهل الذمة. قوله: "كمثل البهيمة تنتج البهيمة" أي تلدها
فالبهيمة الثانية بالنصب على المفعولية وقد تقدم بلفظ: " كما تنتج البهيمة
بهيمة "، قال الطيبي: قوله: "كما" حال من الضمير المنصوب في
"يهودانه" أي يهودان المولود بعد أن خلق على الفطرة تشبيها بالبهيمة
التي جدعت بعد أن خلقت سليمة، أو هو صفة مصدر محذوف أي يغيرانه تغييرا مثل تغييرهم
البهيمة السليمة، قال: وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في "كما" على
التقديرين. قوله: "تنتج" بضم أوله وسكون النون وفتح المثناة بعدها جيم،
قال أهل اللغة: نتجت الناقة على صيغة ما لم يسم فاعله تنتج بفتح المثناة وأنتج
الرجل ناقته ينتجها إنتاجا، زاد في الرواية المتقدمة "بهيمة جمعاء" أي
لم يذهب من بدنها شيء، سميت بذلك لاجتماع أعضائها. قوله: "هل ترى فيها
جدعاء"؟ قال الطيبي: هو في موضع الحال أي سليمة مقولا في حقها ذلك، وفيه نوع
التأكيد أي إن كل من نظر إليها قال ذلك لظهور سلامتها. والجدعاء المقطوعة الأذن،
ففيه إيماء إلى أن تصميمهم على الكفر كان بسبب صممهم عن الحق. ووقع في الرواية
المتقدمة بلفظ: " هل تحسون فيها من جدعاء" وهو من الإحساس والمراد به
العلم بالشيء، يريد أنها تولد لا جدع فيها وإنما يجدعها أهلها بعد ذلك. وسيأتي في تفسير
سورة الروم أن معنى قوله: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي لدين الله وتوجيه
ذلك.
" تنبيه ": ذكر ابن هشام في "المغني" عن ابن هشام الخضراوي
أنه جعل هذا الحديث شاهدا لورود "حتى" للاستثناء، فذكره بلفظ: "كل
مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه" وقال:
ولك أن تخرجه على أن فيه حذفا أي يولد على الفطرة ويستمر على ذلك حتى يكون، يعني
فتكون للغاية على بابها انتهى. ومال صاحب "المغني" في موضع آخر إلى أنه
ضمن "يولد" معنى
(3/250)
ينشأ مثلا، وقد وجدت الحديث في تفسير ابن مردويه من طريق الأسود بن سريع بلفظ: " ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها" الحديث. وهو يؤيد الاحتمال المذكور. واللفظ الذي ساقه الخضراوي لم أره في الصحيحين ولا غيرهما، إلا عند مسلم كما تقدم في رواية: " حتى يعرب عنه لسانه" ثم وجدت أبا نعيم في مستخرجه على مسلم أورد الحديث من طريق كثير بن عبيد عن محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري بلفظ: " ما من مولود يولد في بني آدم إلا يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يهودانه" الحديث. وكذا أخرجه ابن مردويه من هذا الوجه، وهو عند مسلم عن حاجب بن الوليد عن محمد بن حرب بلفظ: " ما من مولود إلا يولد على الفطرة، أبواه يهودانه" الحديث.
(3/251)
93 – باب - 1386 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا قُلْنَا لاَ قَالَ لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ قُلْتُ مَا هَذَا قَالاَ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلاَ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالاَ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالاَ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ قَالَ يَزِيدُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ فَقُلْتُ مَا هَذَا قَالاَ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنْ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ وَأَدْخَلاَنِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ قُلْتُ طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ قَالاَ نَعَمْ أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ
(3/251)
يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ
اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ
بِالنَّهَارِ يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي
الثَّقْبِ فَهُمْ الزُّنَاةُ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُو الرِّبَا
وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم
وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلاَدُ النَّاسِ وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ
خَازِنُ النَّارِ وَالدَّارُ الأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ
الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ وَأَنَا جِبْرِيلُ
وَهَذَا مِيكَائِيلُ فَارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِي
مِثْلُ السَّحَابِ قَالاَ ذَاكَ مَنْزِلُكَ قُلْتُ دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي
قَالاَ إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوْ اسْتَكْمَلْتَ
أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ"
قوله "باب" كذا ثبت جميعهم إلا لأبي ذر وهو كالفصل من الباب الذي قبله
وتعلق الحديث به ظاهر من قوله في حديث سمرة في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله
أولاد الناس وقد تقدم التنبيه على أنه أورده بزيادة قالوا وأولاد المشركين فقال
وأولاد المشركين وسيأتي الكلام على بقية الحديث مستوفى في إن شاء الله تعالى قوله
في هذه الطريق فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده قال بعض أصحابنا عن موسى كلوب من حديد
في شدقه كذا في رواية أبي ذر وهو سياق مستقيم ووقع في رواية غيره بخلاف ذلك والبعض
المبهم لم أعرف المراد به إلا أن الطبراني أخرجه في المعجم الكبير عن العباس بن
الفضل الإسقاطي عن موسى بن إسماعيل فذكر الحديث بطوله مثل حديث قبله وفيه بيده
كلاب من حديد قوله فيه حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم على وسط النهر قال
يزيد ووهب بن جرير عن جرير بن حازم وعلى شط النهر رجل وهذا التعليق عن هذين ثبت في
رواية أبي ذر أيضا فأما حديث يزيد وهو بن هارون فوصله أحمد عنه فساق الحديث بطوله
وفيه فإذا نهر من دم فيه رجل وعلى شط النهر رجل وأما حديث وهب بن جرير فوصله أبو
عوانة في صحيحه من طريقه فساق الحديث بطوله وفيه حتى ينتهى إلى نهر من دم ورجل
قائم في وسطه ورجل قائم على شاطئ النهر الحديث وأصل الحديث ثم مسلم من طريق وهب
لكن باختصار وقوله فيه إذا ارتفعوا كذا فيه بالفاء فتكون المهملة ووقع في جمع
الحميدي ارتقوا بالقاف فقط من الإرتقاء وهو الصعود
(3/252)
94 - باب مَوْتِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ
1387 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ "دَخَلْتُ عَلَى
أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ فِي كَمْ كَفَّنْتُمْ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ
سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ وَقَالَ لَهَا فِي أَيِّ
يَوْمٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ قَالَ فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالَتْ يَوْمُ الاثْنَيْنِ قَالَ
أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ
يُمَرَّضُ فِيهِ بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ اغْسِلُوا ثَوْبِي هَذَا
وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ فَكَفِّنُونِي فِيهَا قُلْتُ إِنَّ هَذَا خَلَقٌ
قَالَ إِنَّ الْحَيَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ إِنَّمَا هُوَ
لِلْمُهْلَةِ فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلاَثَاءِ
وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ"
(3/252)
قوله: "باب موت يوم الاثنين"
قال الزين بن المنير: تعين وقت الموت ليس لأحد فيه اختيار، لكن في التسبب في حصوله
مدخل كالرغبة إلى الله لقصد التبرك فمن لم تحصل له الإجابة أثيب على اعتقاده. وكأن
الخبر الذي ورد في فضل الموت يوم الجمعة لم يصح عند البخاري فاقتصر على ما وافق
شرطه، وأشار إلى ترجيحه على غيره، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي من حديث
عبد الله بن عمرو مرفوعا: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا
وقاه الله فتنة القبر" وفي إسناده ضعف، وأخرجه أبو يعلى من حديث أنس نحوه
وإسناده أضعف. قوله: "قالت عائشة: دخلت على أبي بكر" تعني أباها، زاد
أبو نعيم في "المستخرج" من هذا الوجه "فرأيت به الموت، فقلت هيج
هيج
من لا يزال دمعه مقنعا ... فإنه في مرة مدفوق
فقال: لا تقولي هذا، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} الآية
- ثم قال - في أي يوم" الحديث. وهذه الزيادة أخرجها ابن سعد مفردة عن أبي
سامة عن هشام. وقولها "هيج" بالجيم حكاية بكائها. قوله: "في كم
كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم" أي كم ثوبا كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم
فيه؟ وقوله: "في كم" معمول مقدم لكفنتم، قيل: ذكر لها أبو بكر ذلك بصيغة
الاستفهام توطئة لها للصبر على فقده، واستنطاقا لها بما يعلم أنه يعظم عليها ذكره،
لما في بداءته لها بذلك من إدخال الغم العظيم عليها، لأنه يبعد أن يكون أبو بكر
نسي ما سأل عنه مع قرب العهد، ويحتمل أن يكون السؤال عن قدر الكفن على حقيقته،
لأنه لم يحضر ذلك لاشتغاله بأمر البيعة. وأما تعيين اليوم فنسيانه أيضا محتمل لأنه
صلى الله عليه وسلم دفن ليلة الأربعاء، فيمكن أن يحصل التردد هل مات يوم الاثنين
أو الثلاثاء. وقد تقدم الكلام على الكفن في موضعه. قوله: "قلت يوم
الاثنين" بالنصب أي في يوم الاثنين، وقولها بعد ذلك "قلت يوم
الاثنين" بالرفع أي هذا يوم الاثنين. قوله: "أرجو فيما بيني وبين الليل"
في رواية المستملي: "الليلة" ولابن سعد من طريق الزهري عن عروة عن عائشة
"أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان
يوما باردا، فحم خمسة عشر يوما، ومات مساء ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى
الآخرة سنة ثلاث عشرة" وأشار الزين بن المنير إلى أن الحكمة في تأخر وفاته عن
يوم الاثنين مع أنه كان يحب ذلك ويرغب فيه لكونه قام في الأمر بعد النبي صلى الله
عليه وسلم فناسب أن تكون وفاته متأخرة عن الوقت الذي قبض فيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم. قوله: "به ردع" بسكون المهملة بعدها عين مهملة أي لطخ لم يعمه
كله. قوله: "وزيدوا عليه ثوبين" زاد ابن سعد عن أبي معاوية عن هشام
"جديدين". قوله: "فكفنوني فيهما" أي المزيد والمزيد عليه. وفي
رواية غير أبي ذر "فيها" أي الثلاثة. قوله: "خلق" بفتح
المعجمة واللام أي غير جديد. وفي رواية أبي معاوية عند ابن سعد "ألا نجعلها
جددا كلها؟ قال: لا،"، وظاهره أن أبا بكر كان يرى عدم المغالاة في الأكفان.
ويؤيده قوله بعد ذلك "إنما هو للمهلة" وروى أبو داود من حديث علي
مرفوعا: "لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعا" ولا يعارضه حديث جابر في
الأمر بتحسين الكفن أخرجه مسلم، فإنه يجمع بينهما بحمل التحسين على الصفة وحمل
المغالاة على الثمن. وقيل التحسين حق الميت، فإذا أوصى بتركه اتبع كما فعل الصديق،
ويحتمل أن يكون اختار ذلك الثوب بعينه لمعنى فيه من التبرك به لكونه صار إليه من
النبي صلى الله عليه وسلم، أو لكونه كان جاهد فيه أو تعبد فيه. ويؤيده ما رواه ابن
سعد من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: قال أبو بكر "كفنوني في ثوبي
اللذين كنت أصلي فيهما".
(3/253)
قوله: "إنما هو" أي الكفن.
قوله: "للمهلة" قال عياض: روي بضم الميم وفتحها وكسرها. قلت: جزم به
الخليل. وقال ابن حبيب: هو بالكسر الصديد، وبالفتح التمهل، وبالضم عكر الزيت.
والمراد هنا الصديد. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "إنما هو" أي الجديد،
وأن يكون المراد "بالمهلة "على هذا التمهل أي إن الجديد لمن يريد
البقاء، والأول أظهر. ويؤيده قول القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: "كفن أبو
بكر في ريطة بيضاء وريطة ممصرة وقال: إنما هو لما يخرج من أنفه وفيه" أخرجه
ابن سعد. وله عنه من وجه آخر "إنما هو للمهل والتراب" وضبط الأصمعي هذه
بالفتح. وفي هذا الحديث استحباب التكفين في الثياب البيض وتثليث الكفن وطلب
الموافقة فيما وقع للأكابر تبركا بذلك1. وفيه جواز التكفين في الثياب المغسولة،
وإيثار الحي بالجديد، والدفن بالليل، وفضل أبي بكر وصحة فراسته وثباته عند وفاته.
وفيه أخذ المرء العلم عمن دونه. وقال أبو عمر: فيه أن التكفين في الثوب الجديد
والخلق سواء. وتعقب بما تقدم من احتمال أن يكون أبو بكر اختاره لمعنى فيه، وعلى
تقدير أن لا يكون كذلك فلا دليل فيه على المساواة.
ـــــــ
1 هذا فيه نظر. والصواب أن ذلك غير مشروع إلا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم, لأن الله سبحانه شرع لنا التأسي به, وأما غيره فيخطيء ويصيب. وسبق في هذا
المعنى حواشي في المجلد الأول والثاني وأوائل هذا الجزء, فراجعها إن شئت. والله
أعلم
(3/254)
95 - باب مَوْتِ الْفجاءةِ الْبَغْتَةِ
1388 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ
تَصَدَّقَتْ فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا قَالَ:
"نَعَمْ"
[الحديث 1388 – طرفه في: 2760]
قوله: "باب موت الفجاءة، البغتة" قال ابن رشيد: هو مضبوط بالكسر على
البدل، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي البغتة، ووقع في رواية
الكشميهني: "بغتة". والفجاءة بضم الفاء وبعد الجيم مد ثم همز، ويروى
بفتح ثم سكون بغير مد، وهي الهجوم على من لم يشعر به. وموت الفجأة وقوعه بغير سبب
من مرض وغيره، قال ابن رشيد: مقصود المصنف والله أعلم الإشارة إلى أنه ليس بمكروه،
لأنه لم يظهر منه كراهيته لما أخبره الرجل بأن أمه افتلتت نفسها، وأشار إلى ما
رواه أبو داود بلفظ: "موت الفجأة أخذة أسف" وفي إسناده مقال، فجرى على
عادته في الترجمة بما لم يوافق شرطه، وإدخال ما يومئ إلى ذلك ولو من طرف خفي
انتهى. والحديث المذكور أخرجه أبو داود من حديث عبيد بن خالد السلمي ورجاله ثقات،
إلا أن راويه رفعه مرة ووقفه أخرى. وقوله: "أسف" أي غضب وزنا ومعنى،
وروي بوزن فاعل أي غضبان، ولأحمد من حديث أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه
وسلم مر بجدار مائل فأسرع وقال: أكره موت الفوات" قال ابن بطال: وكان ذلك -
والله أعلم - لما في موت الفجأة من خوف حرمان الوصية، وترك الاستعداد للمعاد
بالتوبة وغيرها من الأعمال الصالحة. وقد روى ابن أبي الدنيا في "كتاب
الموت" من حديث أنس نحو حديث عبيد بن خالد وزاد فيه: "المحروم من حرم
وصيته" انتهى. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن عائشة وابن مسعود
"موت الفجأة راحة للمؤمن وأسف على الفاجر"
(3/254)
وقال ابن المنير لعل البخاري أراد بهذه الترجمة أن من مات فجأة فليستدرك ولده من أعمال البر ما أمكنه مما يقبل النيابة، كما وقع في حديث الباب. وقد نقل عن أحمد وبعض الشافعية كراهة موت الفجأة، ونقل النووي عن بعض القدماء أن جماعة من الأنبياء والصالحين ماتوا كذلك، قال النووي: وهو محبوب للمراقبين. قلت: وبذلك يجتمع القولان. قوله: "حدثنا محمد بن جعفر" أي ابن أبي كثير المدني. قوله: "أن رجلا" هو سعد بن عبادة، واسم أمه عمرة، وسيأتي حديثه والكلام عليه في الوصايا إن شاء الله تعالى. قوله: "افتلتت" بضم المثناة وكسر اللام أي سلبت، على ما لم يسم فاعله، يقال افتلت فلان أي مات فجأة وافتلتت نفسه كذلك، وضبطه بعضهم بفتح السين إما على التمييز، وإما على أنه مفعول ثان، والفلتة والافتلات ما وقع بغتة من غير روية، وذكره ابن قتيبة بالقاف وتقديم المثناة وقال: هي كلمة تقال لمن فتله الحب ولمن مات فجأة، والمشهور في الرواية بالفاء. والله أعلم.
(3/255)
96 - باب مَا جَاءَ فِي قَبْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا
{فَأَقْبَرَهُ} أَقْبَرْتُ الرَّجُلَ أُقْبِرُهُ إِذَا جَعَلْتَ لَهُ قَبْرًا
وَقَبَرْتُهُ دَفَنْتُهُ
{كِفَاتًا} يَكُونُونَ فِيهَا أَحْيَاءً وَيُدْفَنُونَ فِيهَا أَمْوَاتًا
1389 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ هِشَامٍ و حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي
زَكَرِيَّاءَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ "إِنْ كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَتَعَذَّرُ فِي مَرَضِهِ
أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ أَيْنَ أَنَا غَدًا اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ
فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وَدُفِنَ فِي
بَيْتِي"
1390 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ
هِلاَلٍ هُوَ الْوَزَّانُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ
يَقُمْ مِنْهُ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ
خَشِيَ أَوْ خُشِيَ أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا"
وَعَنْ هِلاَلٍ قَالَ كَنَّانِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يُولَدْ لِي
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ
رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا
حَدَّثَنَا: فَرْوَةُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمْ الْحَائِطُ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذُوا فِي بِنَائِهِ فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ فَفَزِعُوا
وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا
وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ لاَ وَاللَّهِ مَا
هِيَ قَدَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هِيَ إِلاَّ قَدَمُ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
1391 - وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّهَا أَوْصَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لاَ
تَدْفِنِّي مَعَهُمْ وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ لاَ أُزَكَّى بِهِ
أَبَدًا
[الحديث 1391 – طرفه في: 7327]
(3/255)
1392 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ
حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ قَالَ "رَأَيْتُ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ
اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْ
يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلاَمَ ثُمَّ سَلْهَا أَنْ
أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ قَالَتْ كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي فَلأوثِرَنَّهُ
الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ مَا لَدَيْكَ قَالَ
أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ
مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي ثُمَّ سَلِّمُوا ثُمَّ
قُلْ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَادْفِنُونِي
وَإِلاَ فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ إِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا
أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ فَمَنْ
اسْتَخْلَفُوا بَعْدِي فَهُوَ الْخَلِيفَةُ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا فَسَمَّى
عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ
وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَوَلَجَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ
أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ كَانَ لَكَ مِنْ الْقَدَمِ
فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ ثُمَّ
الشَّهَادَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَقَالَ لَيْتَنِي يَا ابْنَ أَخِي وَذَلِكَ
كَفَافًا لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي
بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ خَيْرًا أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ وَأَنْ
يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيُعْفَى
عَنْ مُسِيئِهِمْ وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتَلَ
مِنْ وَرَائِهِمْ وَأَنْ لاَ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ"
[الحديث 1392 – أطرافه في: 3052, 3162, 3700, 4888, 7207]
قوله: "باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر" قال
ابن رشيد: قال بعضهم مراده بقوله: "قبر النبي صلى الله عليه وسلم:
"المصدر من قبرته قبرا، والأظهر عندي أنه أراد الاسم، ومقصوده بيان صفته من
كونه مسنما أو غير مسنم وغير ذلك مما يتعلق بعضه ببعض. قوله: "قول الله عز
وجل: {فَأَقْبَرَهُ} يريد تفسير الآية: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي جعله
ممن يقبر لا ممن يلقى حتى تأكله الكلاب مثلا. وقال أبو عبيدة في
"المجاز" أقبره أمر بأن يقبر. قوله: "أقبرت الرجل إذا جعلت له قبرا
وقبرته دفنته" قال يحيى الفراء في المعاني: يقال أقبره جعله مقبورا وقبره
دفنه. قوله: "كفاتا إلخ" روى عبد بن حميد من طريق مجاهد قال في قوله:
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} قال: يكونون فيها
ما أرادوا ثم يدفنون فيها. ثم أورد المصنف في الباب أحاديث: قوله: "إن كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعذر في مرضه" وقد ضبط في روايتنا بالعين
المهملة والذال المعجمة أي يتمنع، وحكى ابن التين أنه في رواية القابسي بالقاف
والدال المهملة أي يسأل عن قدر ما بقي إلى يومها، لأن المريض يجد عند بعض أهله من
الأنس ما لا يجد عند بعض. وسيأتي الكلام على فوائد هذا الحديث والذي بعده في
"باب الوفاة النبوية" آخر المغازي إن شاء الله تعالى. والمقصود من
إيرادهما هنا بيان أنه صلى الله عليه وسلم دفن في بيت عائشة. تقدم في "باب ما
يكره من اتخاذ القبور على المساجد" من طريق هلال المذكور، وفي "باب بناء
المسجد على القبر "من وجه آخر، وفي أبواب المساجد أيضا. قوله: "وعن
هلال" يعني بالإسناد المذكور إليه. قوله: "كناني عروة بن الزبير"
أي الذي
(3/256)
روى عنه ذلك الحديث. واختلف في كنية هلال: فالمشهور أنه أبو عمرو، وقيل أبو أمية، وقيل أبو الجهم. قوله: "عن سفيان التمار" هو ابن دينار على الصحيح، وقيل ابن زياد، والصواب أنه غيره، وكل منهما عصفري كوفي. وهو من كبار أتباع التابعين، وقد لحق عصر الصحابة، ولم أر له رواية عن صحابي. قوله: "مسنما" أي مرتفعا، زاد أبو نعيم في المستخرج "وقبر أبي بكر وعمر كذلك" واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير من الشافعية، وادعى القاضي حسين اتفاق الأصحاب عليه، وتعقب بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نص عليه الشافعي وبه جزم الماوردي وآخرون. وقول سفيان التمار لا حجة فيه كما قال البيهقي لاحتمال أن قبره صلى الله عليه وسلم لم يكن في الأول مسنما، فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: "دخلت على عائشة فقلت: يا أمة اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء" زاد الحاكم "فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدما، وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم" وهذا كان في خلافة معاوية، فكأنها كانت في الأول مسطحة، ثم لما بني جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك صيروها مرتفعة. وقد روى أبو بكر الآجري في "كتاب صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم" من طريق إسحاق بن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند عن غنيم بن بسطام المديني قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعا نحوا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه. ثم الاختلاف في ذلك في أيهما أفضل لا في أصل الجواز، ورجح المزني التسنيم من حيث المعنى بأن المسطح يشبه ما يصنع للجلوس بخلاف المسنم، ورجحه ابن قدامة بأنه يشبه أبنية أهل الدنيا وهو من شعار أهل البدع فكان التسنيم أولى. ويرجح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوي، ثم قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها". قوله: "حدثنا فروة" هو ابن أبي المغراء، وعلي هو ابن مسهر، وثبت ذلك في رواية أبي ذر. قوله: "لما سقط عليهم الحائط" أي حائط حجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية الحموي عنهم: والسبب في ذلك ما رواه أبو بكر الآجري من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي قال: "كان الناس يصلون إلى القبر فأمر به عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلي إليه أحد، فلما هدم بدت قدم بساق وركبة ففزع عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال: هذا ساق عمر وركبته، فسري عن عمر بن عبد العزيز" وروى الآجري من طريق مالك بن مغول عن رجاء بن حيوة قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز -وكان قد اشترى حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم- أن اهدمها ووسع بها المسجد، فقعد عمر في ناحية، ثم أمر بهدمها، فما رأيته باكيا أكثر من يومئذ. ثم بناه كما أراد. فلما أن بنى البيت على القبر وهدم البيت الأول ظهرت القبور الثلاثة وكان الرمل الذي عليها قد انهار، ففزع عمر بن عبد العزيز وأراد أن يقوم فيسويها بنفسه، فقلت له: أصلحك الله، إنك إن قمت قام الناس معك، فلو أمرت رجلا أن يصلحها، ورجوت أنه يأمرني بذلك، فقال: يا مزاحم -يعني مولاه- قم فأصلحها. قال رجاء: وكان قبر أبي بكر عند وسط النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر خلف أبي بكر رأسه عند وسطه. وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم، فإن أمكن الجمع وإلا فحديث القاسم أصح. وأما ما أخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن عائشة "أبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره "فسنده ضعيف، ويمكن تأويله. والله أعلم.
(3/257)
قوله: "وعن هشام" هو بالإسناد المذكور، وقد أخرجه المصنف في الاعتصام من وجه آخر عن هشام وأخرجه الإسماعيلي من طريق عبدة عن هشام وزاد فيه: "وكان في بيتها موضع قبر". قوله: "لا أزكى" بضم أوله وفتح الكاف على البناء للمجهول، أي لا يثنى علي بسببه ويجعل لي بذلك مزية وفضل وأنا في نفس الأمر يحتمل أن لا أكون كذلك، وهذا منها على سبيل التواضع وهضم النفس بخلاف قولها لعمر كنت أريده لنفسي فكأن اجتهادها في ذلك تغير أو لما قالت ذلك لعمر كان قبل أن يقع لها ما وقع في قصة الجمل فاستحيت بعد ذلك أن تدفن هناك وقد قال عنها عمار بن ياسر وهو أحد من حاربها يومئذ: إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وسيأتي ذلك مبسوطا في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى، وهو كما قال رضي الله تعالى عنهم أجمعين. قوله: "رأيت عمر بن الخطاب قال يا عبد الله بن عمر" هذا طرف من حديث طويل سيأتي في مناقب عثمان وزاد فيه: "وقل يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين" وفي أوله قدر ورقة في سياق مقتله وفي آخره قدر صفحة في قصة بيعة عثمان. قال ابن التين. قول عائشة في قصة عمر "كنت أريده لنفسي" يدل على أنه لم يبق ما يسع إلا موضع قبر واحد، فهو يغاير قولها عند وفاتها لا تدفني عندهم فإنه يشعر بأنه بقي من البيت موضع للدفن. والجمع بينهما أنها كانت أولا تظن أنه لا يسع إلا قبرا واحدا فلما دفن ظهر لها أن هناك وسعا لقبر آخر، وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: إنما استأذنها عمر لأن الموضع كان بيتها وكان لها فيه حق، وكان لها أن تؤثر به على نفسها فآثرت عمر. وفيه الحرص على مجاورة الصالحين في القبور طمعا في إصابة الرحمة إذا نزلت عليهم وفي دعاء من يزورهم من أهل الخير. وفي قول عمر "قل يستأذن عمر فإن أذنت" أن من وعد عدة جاز له الرجوع فيها ولا يلزم بالوفاء. وفيه أن من بعث رسولا في حاجة مهمة أن له أن يسأل الرسول قبل وصوله إليه ولا يعد ذلك من قلة الصبر بل من الحرص على الخير. والله أعلم.
(3/258)
باب ما ينهى عن سب الأموات
...
97 - باب مَا يُنْهَى مِنْ سَبِّ الأَمْوَاتِ
1393 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا
قَدَّمُوا" وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَنْ
الأَعْمَشِ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ الأَعْمَشِ تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ
الْجَعْدِ وَابْنُ عَرْعَرَةَ وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ
[الحديث 1393 – طرفه في: 6516]
قوله: "باب ما ينهى من سب الأموات" قال الزين بن المنير: لفظ الترجمة
يشعر بانقسام السب إلى منهي وغير منهي، ولفظ الخبر مضمونه النهي عن السب مطلقا.
والجواب أن عمومه مخصوص بحديث أنس السابق حيث قال صلى الله عليه وسلم عند ثنائهم
بالخير وبالشر "وجبت، وأنتم شهداء الله في الأرض" ولم ينكر عليهم.
ويحتمل أن اللام في الأموات عهدية والمراد به المسلمون، لأن الكفار مما يتقرب إلى
الله بسبهم. وقال القرطبي في الكلام على حديث: "وجبت" يحتمل أجوبة،
الأول أن الذي كان يحدث عنه بالشر كان مستظهرا به فيكون من باب لا غيبة لفاسق، أو
كان منافقا. ثانيها يحمل النهي على ما بعد الدفن، والجواز على ما قبله ليتعظ به من
يسمعه. ثالثها يكون النهي العام متأخرا فيكون ناسخا، وهذا ضعيف. وقال ابن رشيد ما
محصله: أن السب ينقسم في حق الكفار وفي حق
(3/258)
المسلمين، أما الكافر فيمنع إذا تأذى به الحي المسلم، وأما المسلم فحيث تدعو الضرورة إلى ذلك كأن يصير من قبيل الشهادة، وقد يجب في بعض المواضع، وقد يكون فيه مصلحة للميت، كمن علم أنه أخذ ماله بشهادة زور ومات الشاهد فإن ذكر ذلك ينفع الميت إن علم أن ذلك المال يرد إلى صاحبه. قال: ولأجل الغفلة عن هذا التفضيل ظن بعضهم أن البخاري سها عن حديث الثناء بالخير والشر، وإنما قصد البخاري أن يبين أن ذلك الجائز كان على معنى الشهادة، وهذا الممنوع هو على معنى السب، ولما كان المتن قد يشعر بالعموم أتبعه بالترجمة التي بعده. وتأول بعضهم الترجمة الأولى على المسلمين خاصة. والوجه عندي حمله على العموم إلا ما خصصه الدليل. بل لقائل أن يمنع أن ما كان على جهة الشهادة وقصد التحذير يسمى سبا في اللغة. وقال ابن بطال: سب الأموات يجري مجرى الغيبة، فإن كان أغلب أحوال المرء الخير -وقد تكون منه الفلتة- فالاغتياب له ممنوع، وإن كان فاسقا معلنا فلا غيبة له، فكذلك الميت. ويحتمل أن يكون النهي على عمومه فيما بعد الدفن، والمباح ذكر الرجل بما فيه قبل الدفن ليتعظ بذلك فساق الأحياء، فإذا صار إلى قبره أمسك عنه لإفضائه إلى ما قدم. وقد عملت عائشة راوية هذا الحديث بذلك في حق من استحق عندها اللعن فكانت تلعنه وهو حي، فلما مات تركت ذلك ونهت عن لعنه كما سأذكره. قوله: "أفضوا" أي وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر، واستدل به على منع سب الأموات مطلقا، وقد تقدم أن عمومه مخصوص، وأصح ما قيل في ذلك أن أموات الكفار والفساق يجوز ذكر مساويهم للتحذير منهم والتنفير عنهم. وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتا. قوله: "ورواه عبد الله بن عبد القدوس ومحمد بن أنس عن الأعمش" أي متابعين لشعبة، وأنس والد محمد كالجادة، وهو كوفي سكن الدينور، وثقه أبو زرعة وغيره، وروى عنه من شيوخ البخاري إبراهيم بن موسى الرازي. وأما ابن عبد القدوس فذكره البخاري في التاريخ فقال: إنه صدوق إلا أنه يروي عن قوم ضعفاء. واختلف كلام غيره فيه، وليس له في الصحيح غير هذا الموضع الواحد. ووقع لنا أيضا من رواية محمد بن فضيل عن الأعمش بزيادة فيه، أخرجه عمر بن شبة في "كتاب أخبار البصرة "عن محمد بن يزيد الرفاعي عنه بهذا السند إلى مجاهد" إن عائشة قالت: ما فعل يزيد الأرجي لعنه الله؟ قالوا: مات. قالت: أستغفر الله. قالوا: ما هذا؟ فذكرت الحديث: "وأخرجه من طريق مسروق "إن عليا بعث يزيد بن قيس الأرجي في أيام الجمل برسالة فلم ترد عليه جوابا، فبلغها أنه عاب عليها ذلك فكانت تلعنه، ثم لما بلغها موته نهت عن لعنه وقالت: إن رسول الله نهانا عن سب الأموات" وصححه ابن حبان من وجه آخر عن الأعمش عن مجاهد بالقصة. قوله: "تابعه علي بن الجعد" وصله المصنف في الرقاق عنه. قوله: "ومحمد بن عرعرة وابن أبي عدي" لم أره من طريق محمد بن عرعرة موصولا، وطريق ابن أبي عدي ذكرها الإسماعيلي. ووصله أيضا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة، وهو عند أحمد عنه.
(3/259)
98 - باب ذِكْرِ شِرَارِ الْمَوْتَى
1394 - حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثني عمرو بن مرة عن سعيد بن
جبير عن بن عباس رضي الله عنهما قال قال أبو لهب عليه لعنة الله للنبي صلى الله
عليه وسلم تبا لك سائر اليوم فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}
[الحديث 1394 – أطرافه في: 3525, 3526, 4770, 4801, 4971, 4972, 4973]
(3/259)
قوله: "باب ذكر شرار الموتى"
تقدم في الباب قبله من شرح ذلك ما فيه كفاية. وحديث الباب أورده هنا مختصرا، وسيأتي
مطولا مع الكلام عليه في تفسير الشعراء إن شاء الله تعالى.
" خاتمة ": اشتمل كتاب الجنائز من الأحاديث المرفوعة على مائتي حديث
وعشرة أحاديث، المعلق من ذلك والمتابعة ستة وخمسون حديثا، والبقية موصولة. المكرر
من ذلك فيه وفيما مضى مائة حديث وتسعة أحاديث، والخالص مائة حديث وحديث. وافقه
مسلم على تخريجها سوى أربعة وعشرين حديثا وهي: حديث عائشة "أقبل أبو بكر على
فرسه"، وحديث أم العلاء في قصة عثمان ابن مظعون، وحديث أنس "أخذ الراية
زيد فأصيب"، وحديثه "ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاثة"، وحديث
عبد الرحمن بن عوف "قتل مصعب بن عمير"، وحديث سهل بن سعد "أن امرأة
جاءت ببردة منسوجة"، وحديث أنس "شهدنا بنتا للنبي صلى الله عليه
وسلم"، وحديث أبي سعيد "إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال"، وحديث
ابن عباس في القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب، وحديث جابر في قصة قتلى أحد
"زملوهم بدمائهم"، وحديثه في قصة استشهاد أبيه ودفنه، وحديث صفية بنت
شيبة في تحريم مكة، وحديث أنس في قصة الغلام اليهودي، وحديث ابن عباس "كنت
أنا وأمي من المستضعفين" وقد وهم المزي تبعا لأبي مسعود في جعله من المتفق،
وقد تعقبه الحميدي على أبي مسعود فأجاد، وحديث أبي هريرة الذي يخنق نفسه كما
أوضحته فيما مضى، وحديث عمر "أيما مسلم شهد له أربعة بخير"، وحديث بنت
خالد بن سعيد في التعوذ، وحديث البراء لما توفي إبراهيم، وحديث سمرة في الرؤيا
بطوله لكن عند مسلم طرف يسير من أوله، وحديث عائشة "توفي رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم الاثنين"، وحديثها في وصيتها أن لا تدفن معهم، وحديث عمر في
قصة وصيته عند قتله، وحديث عائشة "لا تسبوا الأموات"، وحديث ابن عباس في
قول أبي لهب. وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة ومن بعدهم ثمانية وأربعون أثرا،
منها ستة موصولة، والبقية معلقة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
(3/260)
كتاب الزكاة
باب وجوب الزكاة
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
22 - كتاب الزكاة
1 - باب وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة 43, 83, 110] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَ حَدِيثَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "يَأْمُرُنَا
بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ"
1395 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ زَكَرِيَّاءَ
بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي
مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى
الْيَمَنِ فَقَالَ: "ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ
أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ
افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ
وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ"
[الحديث 1395 – أطرافه في: 1458, 1496, 2448, 4347, 7372]
1396 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ
أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ
قَالَ مَا لَهُ مَا لَهُ وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: أَرَبٌ مَا لَهُ
تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِي
الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ"
وَقَالَ بَهْزٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ
وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ مَحْفُوظٍ
إِنَّمَا هُوَ عَمْرٌو
[الحديث 1396 – طرفاه في: 5982, 5983]
1397 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ
مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ أَبِي
زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أَعْرَابِيًّا
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى
عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَالَ تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ
بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ
الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ
عَلَى هَذَا فَلَمَّا وَلَّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّهُ
أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى
هَذَا"
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو
زُرْعَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا
1398 - حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو
جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
(3/261)
يَقُولُ قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ قَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ
كُفَّارُ مُضَرَ وَلَسْنَا نَخْلُصُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ
فَمُرْنَا بِشَيْءٍ نَأْخُذُهُ عَنْكَ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا قَالَ
آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ الإِيمَانِ بِاللَّهِ
وَشَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَعَقَدَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَإِقَامِ
الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ
وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ
وَقَالَ سُلَيْمَانُ وَأَبُو النُّعْمَانِ عَنْ حَمَّادٍ الإِيمَانِ بِاللَّهِ
شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ"
1399 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ
بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ "لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى
يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي
مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ"
[الحديث 1399 – أطرافه في: 1457, 6924, 7284]
1400 – "فَقَالَ وَاللَّهِ لاَقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ
وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي
عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ"
[الحديث 1400 – أطرافه في: 1456, 6925, 7285]
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الزكاة" البسملة ثابتة في الأصل
ولأكثر الرواة "باب" بدل كتاب، وسقط ذلك لأبي ذر فلم يقل باب ولا كتاب،
وفي بعض النسخ "كتاب الزكاة - باب وجوب الزكاة". والزكاة في اللغة
النماء، يقال زكا الزرع إذا نما، وترد أيضا في المال، وترد أيضا بمعنى التطهير.
وشرعا بالاعتبارين معا: أما بالأول فلأن إخراجها سبب للنماء في المال، أو بمعنى أن
الأجر بسببها يكثر، أو بمعنى أن متعلقها الأموال ذات النماء كالتجارة والزراعة.
ودليل الأول "ما نقص مال من صدقة" ولأنها يضاعف ثوابها كما جاء "أن
الله يربي الصدقة". وأما بالثاني فلأنها طهرة للنفس من رذيلة البخل، وتطهير
من الذنوب. وهي الركن الثالث من الأركان التي بني الإسلام عليها كما تقدم في كتاب
الإيمان. وقال ابن العربي: تطلق الزكاة على الصدقة الواجبة والمندوبة والنفقة
والحق والعفو. وتعريفها في الشرع. إعطاء جزء من النصاب الحولي إلى فقير ونحوه غير
هاشمي ولا مطلبي. ثم لها ركن وهو الإخلاص، وشرط هو السبب وهو ملك النصاب الحولي،
وشرط من تجب عليه وهو العقل والبلوغ والحرية. ولها حكم وهو سقوط الواجب في الدنيا
وحصول الثواب في الأخرى. وحكمة وهي التطهير من الأدناس ورفع الدرجة واسترقاق
الأحرار انتهى. وهو جيد لكن في شرط من تجب عليه اختلاف. والزكاة أمر مقطوع به في
الشرع يستغني عن تكلف الاحتجاج له، وإنما وقع الاختلاف في فروعه، وأما أصل فرضية
الزكاة فمن جحدها كفر. وإنما ترجم المصنف بذلك على عادته في إيراد الأدلة الشرعية
المتفق عليها والمختلف
(3/262)
فيها. قوله: "وقول الله" هو بالرفع. قال الزين بن المنير. مبتدأ وخبره محذوف أي هو دليل على ما قلناه من الوجوب. ثم أورد المصنف في الباب ستة أحاديث: أولها حديث أبي سفيان هو ابن حرب، الطويل في قصة هرقل، أورده هنا معلقا واقتصر منه على قوله: "يأمر بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف"، ودلالته على الوجوب ظاهرة. وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في بدء الوحي. حديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن، ودلالته على وجوب الزكاة أوضح من الذي قبله. وسيأتي الكلام عليه في أواخر كتاب الزكاة قبل أبواب صدقة الفطر بستة أبواب، وقوله في أوله "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال ادعهم" هكذا أورده في التوحيد مختصرا في أوله واختصر أيضا من آخره، وأورده في التوحيد عن أبي عاصم مثله لكنه قرنه برواية غيره، وقد أخرجه الدارمي في مسنده عن أبي عاصم ولفظه في أوله "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فادعهم " وفي آخره بعد قوله فقرائهم " فإن هم أطاعوا لك في ذلك فإياك وكرائم أموالهم، وإياك ودعوة المظلوم فإنها ليس لها من دون الله حجاب" وكذا قال في المواضع كلها "فإن أطاعوا لك في ذلك" والذي عند البخاري هنا " فإن هم أطاعوا لذلك" وستأتي هذه الزيادة من وجه آخر مع شرحها إن شاء الله تعالى. حديث أبي أيوب في سؤال الرجل عن العمل الذي يدخل به الجنة، وأجيب عنه بأن " تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم" ، وفي دلالته على الوجوب غموض. وقد أجيب عنه بأجوبة: أحدها أن سؤاله عن العمل الذي يدخل الجنة يقتضي أن لا يجاب بالنوافل قبل الفرائض فتحمل على الزكاة الواجبة. ثاني الأجوبة أن الزكاة قرينة الصلاة كما سيأتي في الباب من قول أبي بكر الصديق، وقد قرن بينهما في الذكر هنا. ثالثها أنه وقف دخول الجنة على أعمال من جملتها أداء الزكاة، فيلزم أن من لم يعملها لم يدخل، ومن لم يدخل الجنة دخل النار، وذلك يقتضي الوجوب. رابعها أنه أشار إلى أن القصة التي في حديث أبي أيوب والقصة التي في حديث أبي هريرة الذي يعقبه واحدة، فأراد أن يفسر الأول بالثاني لقوله فيه: "وتؤدي الزكاة المفروضة" وهذا أحسن الأجوبة. وقد أكثر المصنف من استعمال هذه الطريقة. وأما حديث أبي أيوب فقوله فيه: "عن ابن عثمان" الإبهام فيه من الراوي عن شعبة، وذلك أن اسم هذا الرجل عمرو، وكان شعبة يسميه محمدا، وكان الحذاق من أصحابه يهمونه كما وقع في رواية حفص بن عمرو كما سيأتي في الأدب عن أبي الوليد عن شعبة، وكان بعضهم يقول محمد كما قال شعبة، وبيان ذلك في طريق بهز التي علقها المصنف هنا ووصله في كتاب الأدب الآتي عن عبد الرحمن بن بشير عن بهز بن أسد، وكذا أخرجه مسلم والنسائي من طريق بهز. قوله: "عن موسى بن طلحة عن أبي أيوب" هو الأنصاري. ووقع في رواية مسلم الآتي ذكرها "حدثنا موسى بن طلحة حدثني أبو أيوب". قوله: "أن رجلا" هذا الرجل حكى ابن قتيبة في "غريب الحديث: "له أنه أبو أيوب الراوي، وغلطه بعضهم في ذلك فقال. إنما هو راوي الحديث. وفي التغليط نظر، إذ لا مانع أن يبهم الراوي نفسه لغرض له، ولا يقال يبعد، لوصفه في رواية أبي هريرة التي بعد هذه بكونه أعرابيا، لأنا نقول: لا مانع من تعدد القصة فيكون السائل في حديث أبي أيوب هو نفسه لقوله إن رجلا، والسائل في حديث أبي هريرة
(3/263)
أعرابي آخر قد سمي فيما رواه البغوي وابن السكن والطبراني في الكبير أبو مسلم الكجي في السنن من طريق محمد بن جحادة وغيره عن المغيرة بن عبد الله اليشكري أن أباه حدثه قال: "انطلقت إلى الكوفة فدخلت المسجد، فإذا رجل من قيس يقال له ابن المنتفق وهو يقول: وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبته فلقيته بعرفات، فزاحمت عليه، فقيل لي إليك عنه، فقال. دعوا الرجل، أرب ما له. قال فزاحمت عليه حتى خلصت إليه فأخذت بخطام راحلته فما غير علي، قال شيئين أسألك عنهما: ما ينجيني من النار، وما يدخلني الجنة؟ قال فنظر إلى السماء ثم أقبل علي بوجهه الكريم فقال: لئن كنت أوجزت المسألة لقد أعظمت وطولت فاعقل علي، اعبد الله لا تشرك به شيئا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأد الزكاة المفروضة، وصم رمضان" . وأخرجه البخاري في "التاريخ" من طريق يونس بن أبي إسحاق عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن أبيه قال: "غدوت فإذا رجل يحدثهم". قال وقال جرير عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن المغيرة بن عبد الله قال: "سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم" ثم ذكر الاختلاف فيه عن الأعمش وأن بعضهم قال فيه عن المغيرة بن سعد بن الأخرم عن أبيه والصواب المغيرة بن عبد الله اليشكري. وزعم الصيرفي أن اسم ابن المنتفق هذا لقيط بن صبرة وافد بني المنتفق، فالله أعلم. وقد يؤخذ من هذه الرواية أن السائل في حديث أبي هريرة هو السائل في حديث أبي أيوب لأن سياقه شبيه بالقصة التي ذكرها أبو هريرة لكن قوله في هذه الرواية: "أرب ما له" في رواية أبي أيوب دون أبي هريرة، وكذا حديث أبي أيوب وقع عند مسلم من رواية عبد الله بن نمير عن عمرو بن عثمان بلفظ: "أن أعرابيا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر، فأخذ بخطام ناقته ثم قال: يا رسول الله، أخبرني" فذكره. وهذا شبيه بقصة سؤال ابن المنتفق. وأيضا فأبو أيوب لا يقول عن نفسه "أن أعرابيا" والله أعلم. وقد وقع نحو هذا السؤال لصخر بن القعقاع الباهلي، ففي حديث الطبراني أيضا من طريق قزعة بن سويد الباهلي "حدثني أبي حدثني خالي واسمه صخر بن القعقاع قال: لقيت النبي صلى الله عليه وسلم بين عرفة ومزدلفة، فأخذت بخطام ناقته فقلت: يا رسول الله ما يقربني من الجنة ويباعدني من النار" فذكر الحديث وإسناده حصن. قوله: "قال ما له ما له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرب ما له" كذا في هذه الرواية لم يذكر فاعل قال ما له ما له. وفي رواية بهز المعلقة هنا الموصولة في كتاب الأدب" قال القوم ما له ما له "قال ابن بطال: هو استفهام والتكرار للتأكيد. وقوله: "أرب" بفتح الهمزة والراء منونا أي حاجة، وهو مبتدأ وخبره محذوف، استفهم أولا ثم رجع إلى نفسه فقال: "له أرب" انتهى، وهذا بناء على أن فاعل قال النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك لما بيناه، بل المستفهم الصحابة والمجيب النبي صلى الله عليه وسلم. وما زائدة كأنه قال: له حاجة ما. وقال ابن الجوزي: المعنى له حاجة مهمة مفيدة جاءت به لأنه قد علم بالسؤال أن له حاجة. وروي بكسر الراء وفتح الموحدة بلفظ الفعل الماضي، وظاهره الدعاء والمعنى التعجب من السائل. وقال النضر بن شميل: يقال أرب الرجل في الأمر إذا بلغ فيه جهده. وقال الأصمعي: أرب في الشيء صار ماهرا فيه فهو أريب، وكأنه تعجب من حسن فطنته والتهدي إلى موضع حاجته. ويؤيده قوله في رواية مسلم المشار إليها "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد وفق، ولقد هدي" وقال ابن قتيبة: قوله: "أرب" من الآراب وهي الأعضاء، أي سقطت أعضاؤه وأصيب بها كما يقال تربت يمينك وهو مما جاء بصيغة الدعاء ولا يراد حقيقته. وقيل: لما رأى الرجل يزاحمه دعا عليه، لكن دعاءه على المؤمن طهر له كما ثبت في الصحيح. وروى بفتح أوله وكسر الراء والتنوين أي هو أرب أي حاذق فطن. ولم أقف على صحة هذه الرواية. وجزم الكرماني بأنها ليست محفوظة. وحكى القاضي عن
(3/264)
رواية لأبي ذر أرب بفتح الجميع وقال: لا وجه له، قلت: وقعت في الأدب من طريق الكشميهني وحده. وقوله: "يدخلني الجنة" بضم اللام والجملة في موضع جر صفة لقوله: "بعمل" ويجوز الجزم جوابا للأمر. ورده بعض شراح "المصابيح "لأن قوله بعمل يصير غير موصوف مع أنه نكرة فلا يفيد. وأجيب بأنه موصوف تقديرا لأن التنكير للتعظيم فأفاد ولأن جزاء الشرط محذوف والتقدير إن عملته يدخلني. قوله: "وتصل الرحم" أي تواسي ذوي القرابة في الخيرات. وقال النووي: معناه أن تحسن إلى أقاربك ذوي رحمك بما تيسر على حسب حالك وحالهم من إنفاق أو سلام أو زيارة أو طاعة أو غير ذلك. وخص هذه الخصلة من بين خلاله الخير نظرا إلى حال السائل، كأنه كان لا يصل رحمه فأمره به لأنه المهم بالنسبة إليه. ويؤخذ منه تخصيص بعض الأعمال بالحض عليها بحسب حال المخاطب وافتقاره للتنبيه عليها أكثر مما سواها إما لمشقتها عليه وإما لتسهيله في أمرها. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف. قوله: "أخشى أن يكون محمد غير محفوظ، إنما هو عمرو" وجزم في "التاريخ" بذلك، وكذا قال مسلم في شيوخ شعبة، والدارقطني في "العلل" وآخرون: المحفوظ عمرو بن عثمان. وقال النووي: اتفقوا على أنه وهم من شعبة، وأن الصواب عمرو والله أعلم. حديث أبي هريرة قد تقدم الكلام عليه في كون الأعرابي السائل فيه هل هو السائل في حديث أبي أيوب أو لا، والأعرابي بفتح الهمزة من سكن البادية كما تقدم. قوله: "عن يحيى بن سعيد بن حيان عن أبي زرعة" قال أبو علي: وقع عند الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني هنا عن يحيى بن سعيد بن أبي حيان أو عن يحيى بن سعيد عن أبي حيان، وهو خطأ إنما هو يحيى بن سعيد بن حيان كما لغيره من الرواة. قوله: " وتقيم الصلاة المكتوية وتؤدي الزكاة المفروضة" قيل. فرق بين القيدين كراهية لتكرير اللفظ الواحد، وقيل: عبر في الزكاة بالمفروضة للاحتراز عن صدقة التطوع فإنها زكاة لغوية، وقيل: احترز من الزكاة المعجلة قبل الحول فإنها زكاة وليست مفروضة. قوله فيه "وتصوم رمضان" لم يذكر الحج لأنه كان حينئذ حاجا ولعله ذكره له فاختصره. قوله: "قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا" زاد مسلم عن أبي بكر بن إسحاق عن عفان بهذا السند "شيئا أبدا، ولا أنقض منه" وباقي الحديث مثله. وظاهر قوله: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" إما أن يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك فأخبر به، أو في الكلام حذف تقديره إن دام على فعل ذلك الذي أمر به. ويؤيده قوله في حديث أبي أيوب عند مسلم أيضا: " إن تمسك بما أمر به دخل الجنة "قال القرطبي: في هذا الحديث -وكذا حديث طلحة في قصة الأعرابي وغيرهما- دلالة على جواز ترك التطوعات، لكن من داوم على ترك السنن كان نقصا في دينه، فإن كان تركها تهاونا بها ورغبة عنها كان ذلك فسقا، يعني لورود الوعيد عليه حيث قال صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني" وقد كان صدر الصحابة ومن تبعهم يواظبون على السنن مواظبتهم على الفرائض، ولا يفرقون بينهما في اغتنام ثوابهما. وإنما احتاج الفقهاء إلى التفرقة لما يترتب عليه من وجوب الإعادة وتركها ووجوب العقاب على الترك ونفيه، ولعل أصحاب هذه القصص كانوا حديثي عهد بالإسلام فاكتفى منهم بفعل ما وجب عليهم في تلك الحال لئلا يثقل ذلك عليهم فيملوا، حتى إذا انشرحت صدورهم للفهم عنه والحرص على تحصيل ثواب المندوبات سهلت عليهم انتهى. وقد تقدم الكلام على شيء من هذا في شرح حديث طلحة في كتاب الإيمان. قوله: "حدثنا مسدد عن يحيى" هو القطان. قوله: "عن أبي حيان" هو يحيى بن سعيد بن حيان المذكور في الإسناد الذي قبله. وأفادت هذه الرواية تصريح أبي حيان بسماعه
(3/265)
له من أبي زرعة، وبطل التردد وقع عند الجرجاني، لكن لم يذكر يحيى القطان في هذا الإسناد أبا هريرة كما هو في رواية أبي ذر وغيرها من الروايات المعتمدة، وثبت ذكره في بعض الروايات، وهو خطأ فقد ذكر الدارقطني في "التتبع "أن رواية القطان مرسلة كما تقدم ذلك في المقدمة. حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس فقد تقدم الكلام عليه مستوفى في أواخر كتاب الإيمان. وحجاج شيخ البخاري هنا هو ابن منهال. قوله: "وقال سليمان وأبو النعمان عن حماد" يعني ابن زيد بالإسناد المذكور في طريق حجاج "الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله" أي وافقا حجاجا على سياقه إلا في إثبات الواو في قوله: "وشهادة أن لا إله إلا الله "فحذفاها وهو أصوب، فأما سليمان فهو ابن حرب، وقد وصل المصنف حديثه هذا عنه في المغازي. وأما أبو النعمان فهو محمد بن الفضل. وقد وصل المصنف حديثه هذا عنه في الخمس. حديث أبي هريرة في قصة أبي بكر في قتال مانعي الزكاة، واحتجاجه في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن عصمة النفس والمال تتوقف على أداء الحق، وحق المال الزكاة". حديث أبي هريرة في قصة أبي بكر في قتال مانعي الزكاة فقد تقدم الكلام عليه في شرح حديث ابن عمر في باب قوله: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة" ويأتي الكلام على بقية ما يختص به في كتاب أحكام المرتدين إن شاء الله. قوله في هذه الرواية: "لما توفي رسوله الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر" "كان" تامة بمعنى حصل والمراد به قام مقامه. "تكميل": اختلف في أول وقت فرض الزكاة، فذهب الأكثر إلى أنه وقع بعد الهجرة، فقيل كان في السنة الثانية قبل فرض رمضان أشار إليه النووي في باب السير من الروضة، وجزم ابن الأثير في التاريخ بأن ذلك كان في التاسعة، وفيه نظر فقد تقدم في حديث ضمام بن ثعلبة وفي حديث وفد عبد القيس وفي عدة أحاديث ذكر الزكاة، وكذا مخاطبة أبي سفيان مع هرقل وكانت في أول السابعة وقال فيهما "يأمرنا بالزكاة "لكن يمكن تأويل كل ذلك كما سيأتي في آخر الكلام. وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ففيها "لا أنزلت آية الصدقة بعث النبي صلى الله عليه وسلم عاملا فقال ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية". والجزية إنما وجبت في التاسعة فتكون الزكاة في التاسعة، لكنه حديث ضعيف لا يحتج به. وادعى ابن خزيمة في صحيحه أن فرضها كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصة هجرتهم إلى الحبشة وفيها أن جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي في جملة ما أخبره به عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام" انتهى، وفي استدلاله بذلك نظر، لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد، ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشي، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها ما ذكر من قصة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفرا فقال: "يأمرنا" بمعنى يأمر به أمته، وهو بعيد جدا، وأولى ما حمل عليه حديث أم سلمة هذا -إن سلم من قدح في إسناده- أن المراد بقوله: "يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام" أي في الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس ولا بالصيام صيام رمضان ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول والله أعلم. ومما يدل على أن فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث أنس المتقدم في العلم في قصة ضمام بن ثعلبة وقوله: "أنشدك الله. آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا" وكان قدوم ضمام سنة خمس كما تقدم. وإنما الذي وقع في التاسعة بعث العمال لأخذ الصدقات، وذلك يستدعي تقدم فريضة الزكاة قبل ذلك. ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام رمضان إنما فرض بعد الهجرة، لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خلاف، وثبت عند أحمد وابن خزيمة أيضا والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت فريضة
(3/266)
الزكاة فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله" إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح إلا أبا عمار الراوي له عن قيس بن سعد وهو كوفي اسمه عريب بالمهملة المفتوحة ابن حميد وقد وثقه أحمد وابن معين، وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان وذلك بعد الهجرة وهو المطلوب. ووقع في "تاريخ الإسلام": في السنة الأولى فرضت الزكاة، وقد أخرج البيهقي في الدلائل حديث أم سلمة المذكور من طريق "المغازي لابن إسحاق" من رواية يونس بن بكير عنه وليس فيه ذكر الزكاة، وابن خزيمة أخرجه من حديث ابن إسحاق لكن من طريق سلمة بن الفضل عنه، وفي سلمة مقال. والله أعلم.
(3/267)
2 - باب الْبَيْعَةِ عَلَى إِيتَاءِ
الزَّكَاةِ
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي
الدِّينِ} [11 التوبة]
1401 - حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ
عَنْ قَيْسٍ قَالَ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " بَايَعْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"
قوله: "باب البيعة على إيتاء الزكاة" قال الزين بن المنير: هذه الترجمة
أخص من التي قبلها، لتضمنها أن بيعة الإسلام لا تتم إلا بالتزام إيتاء الزكاة وأن
مانعها ناقض لعهده مبطل لبيعته فهو أخص من الإيجاب لأن كل ما تضمنته بيعة النبي
صلى الله عليه وسلم واجب وليس كل واجب تضمنته بيعته، وموضع التخصيص الاهتمام
والاعتناء بالذكر حال البيعة. قال: وأتبع المصنف الترجمة بالآية معتضدا بحكمها
لأنها تضمنت أنه لا يدخل في التوبة من الكفر وينال أخوة المؤمنين في الدين إلا من
أقام الصلاة وآتى الزكاة انتهى. تقدم الكلام على حديث جرير مستوفى في آخر كتاب
الإيمان.
(3/267)
3 - باب إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [34-35 التوبة] {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا
جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ
فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}
1402 - حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ
سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال النبي صلى الله عليه
وسلم: "تَأْتِي الإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إِذَا
هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَأْتِي الْغَنَمُ
عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إِذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا
تَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَقَالَ وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ
تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ قَالَ وَلاَ يَأْتِي أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارٌ فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ
فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُ وَلاَ يَأْتِي بِبَعِيرٍ
يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ لاَ
أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُ"
[الحديث 1402 – أطرافه في: 2378, 3073, 9658]
(3/267)
4 - باب مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ
فَلَيْسَ بِكَنْزٍ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيْسَ فِيمَا
دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ"
1404 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ
يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ
أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ إِنَّمَا كَانَ
هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ
طُهْرًا لِلأَمْوَالِ"
[الحديث 1404 – طرفه في: 4661]
1405 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ
أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ عَمْرَو
بْنَ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ
أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ
وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ
صَدَقَةٌ"
[الحديث 1405 – أطرافه في: 1447, 1459, 1484]
1406 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ سَمِعَ هُشَيْمًا أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ عَنْ زَيْدِ
بْنِ وَهْبٍ قَالَ "مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ لَهُ مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا قَالَ كُنْتُ
بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ
مُعَاوِيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُلْتُ نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ
فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَشْكُونِي فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ اقْدَمْ الْمَدِينَةَ
فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي
قَبْلَ ذَلِكَ فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ لِي إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ
فَكُنْتَ قَرِيبًا فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ وَلَوْ
أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ"
[الحديث 1406 – طرفه في: 466]
1407 - حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ
عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ عَنْ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ جَلَسْتُ ح و حَدَّثَنِي
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي
حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَلاَءِ بْنُ الشِّخِّيرِ أَنَّ
الأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ "جَلَسْتُ إِلَى مَلإ مِنْ
قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ
(3/271)
وَالْهَيْئَةِ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ
فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ
جَهَنَّمَ ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ
نُغْضِ كَتِفِهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ
ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ وَتَبِعْتُهُ
وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا لاَ أَدْرِي مَنْ هُوَ فَقُلْتُ لَهُ لاَ أُرَى
الْقَوْمَ إِلاَّ قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ قَالَ إِنَّهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
شَيْئًا"
1408 - قَالَ لِي خَلِيلِي قَالَ قُلْتُ مَنْ خَلِيلُكَ قال النبي صلى الله عليه
وسلم: "يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا قَالَ فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ
مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ مَا أُحِبُّ
أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلاَّ ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ"
وَإِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يَعْقِلُونَ إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا لاَ وَاللَّهِ
لاَ أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا وَلاَ أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى
اللَّهَ"
قوله: "باب ما أدي زكاته فليس بكنز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"ليس فيما دون خمس أواق صدقة" قال ابن بطال وغيره: وجه استدلال البخاري
بهذا الحديث للترجمة أن الكنز المنفي هو المتوعد عليه الموجب لصاحبه النار لا مطلق
الكنز الذي هو أعم من ذلك، وإذا تقرر ذلك فحديث: "لا صدقة فيما دون خمس
أواق" مفهومه أن ما زاد على الخمس ففيه الصدقة، ومقتضاه أن كل مال أخرجت منه
الصدقة فلا وعيد على صاحبه فلا يسمى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزا. وقال ابن
رشيد: وجه التمسك به أن ما دون الخمس وهو الذي لا تجب فيه الزكاة قد عفي عن الحق
فيه فليس بكنز قطعا، والله قد أثنى على فاعل الزكاة، ومن أثني عليه في واجب حق
المال لم يلحقه ذم من جهة ما أثني عليه فيه وهو المال. انتهى. ويتلخص أن يقال: ما
لم تجب فيه الصدقة لا يسمى كنزا لأنه معفو عنه، فليكن ما أخرجت منه الزكاة كذلك
لأنه عفي عنه بإخراج ما وجب عنه فلا يسمى كنزا. ثم إن لفظ الترجمة لفظ حديث روي
مرفوعا وموقوفا عن ابن عمر أخرجه مالك عن عبد الله بن دينار عنه موقوفا، وكذا
أخرجه الشافعي عنه، ووصله البيهقي والطبراني من طريق الثوري عن عبد الله بن دينار
وقال: إنه ليس بمحفوظ. وأخرجه البيهقي أيضا من رواية عبد الله بن نمير عن عبيد
الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "كل ما أديت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين
فليس بكنز، وكل ما لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا على وجه الأرض" أورده
مرفوعا ثم قال: ليس بمحفوظ، والمشهور وقفه. وهذا يؤيد ما تقدم من أن المراد بالكنز
معناه الشرعي. وفي الباب عن جابر أخرجه الحاكم بلفظ: "إذا أديت زكاة مالك فقد
أذهبت عنك شره" ورجح أبو زرعة والبيهقي وغيرهما وقفه كما عند البزار. وعن أبي
هريرة أخرجه الترمذي بلفظ: "إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك" وقال:
حسن غريب، وصححه الحاكم، وهو على شرط ابن حبان. وعن أم سلمة عند الحاكم وصححه ابن
القطان أيضا وأخرجه أبو داود. وقال ابن عبد البر: في سنده مقال. وذكر شيخنا1 في
"شرح الترمذي" أن سنده جيد.
ـــــــ
1 هو الحافظ العراقي. ولفظه عند أبي داود "عن أم سلمة أنها كانت تلبس أوضاحا
من ذهب فقالت: يارسول الله, أكنز هو؟ فقال: ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي, فليس
بكنز". اهـ وسنده جيد كما قال العراقي. وهوحجة ظاهرة على أن الكنز المتوعد
عليه بالعذاب هو المال الذي لا تؤدى زكاته. والله أعلم
(3/272)
وعن ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة
موقوفا بلفظ الترجمة، وأخرجه أبو داود مرفوعا بلفظ: "أن الله لم يفرض الزكاة
إلا ليطيب ما بقي من أموالكم" وفيه قصة. قال ابن عبد البر: والجمهور على أن
الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته. ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعا: "إذا أديت
زكاة مالك فقد قضيت ما عليك" فذكر بعض ما تقدم من الطرق ثم قال: ولم يخالف في
ذلك إلا طائفة من أهل الزهد كأبي ذر، وسيأتي شرح ما ذهب إليه من ذلك في هذا الباب.
قوله: "وقال أحمد بن شبيب" كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر "حدثنا
أحمد" وقد وصله أبو داود في "كتاب الناسخ والمنسوخ" عن محمد بن
يحيى وهو الذهلي، عن أحمد بن شبيب بإسناده. ووقع لنا بعلو في جزء الذهلي وسياقه
أتم مما في البخاري وزاد فيه سؤال الأعرابي "أترث العمة؟ قال ابن عمر: لا
أدري. فلما أدبر قبل ابن عمر يديه1 ثم قال: نعم ما قال أبو عبد الرحمن - يعني نفسه
- سئل عما لا يدري فقال: لا أدري. وزاد في آخره - بعد قوله: طهرة للأموال - ثم
التفت إلي فقال: ما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل فيه بطاعة
الله تعالى" وهو عند ابن ماجه من طريق عقيل عن الزهري. قوله: "من كنزها
فلم يؤد زكاتها" أفرد الضمير إما على سبيل تأويل الأموال، أو عودا إلى الفضة
لأن الانتفاع بها أكثر أو كان وجودها في زمنهم أكثر من الذهب، أو على الاكتفاء
ببيان حالها عن بيان حال الذهب، والحامل على ذلك رعاية لفظ القرآن حيث قال:
{يُنْفِقُونَهَا} قال صاحب الكشاف: أفرد ذهابا إلى المعنى دون اللفظ، لأن كل واحد
منهما جملة وافية. وقيل: المعنى ولا ينفقونها، والذهب كذلك، وهو كقول الشاعر وإني
وقيار بها لغريب أي وقيار كذلك. قوله: "إنما كان هذا قبل أن تنزل
الزكاة" هذا مشعر بأن الوعيد على الاكتناز -وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن
المواساة به- كان في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة لما فتح الله الفتوح
وقدرت نصب الزكاة، فعلى هذا المراد بنزول الزكاة بيان نصبها ومقاديرها لا إنزال
أصلها. والله أعلم. وقال ابن عمر "لا أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا"
كأنه يشير إلى قول أبي ذر الآتي آخر الباب. والجمع بين كلام ابن عمر وحديث أبي ذر
أن يحمل حديث أبي ذر على مال تحت يد الشخص لغيره فلا يجب أن يحبسه عنه، أو يكون له
لكنه ممن يرجى فضله وتطلب عائدته كالإمام الأعظم فلا يجب أن يدخر عن المحتاجين من
رعيته شيئا، ويحمل حديث ابن عمر على مال يملكه قد أدى زكاته فهو يحب أن يكون عنده
ليصل به قرابته ويستغني به عن مسألة الناس، وكان أبو ذر يحمل الحديث على إطلاقه
فلا يرى بادخار شيء أصلا. قال ابن عبد البر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على
أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله،
وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم وحملوا الوعيد على
مانعي الزكاة، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي حيث قال:
"هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع" انتهى. والظاهر أن ذلك كان في أول
الأمر كما تقدم عن ابن عمر، وقد استدل له ابن بطال بقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ
مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} أي ما فضل عن الكفاية، فكان ذلك واجبا في أول
الأمر ثم نسخ. والله أعلم. وفي المسند من طريق يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه قال:
"كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ثم يخرج
إلى قومه، ثم يرخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع الرخصة ويتعلق بالأمر
الأول" ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: أحدها حديث أبي سعيد في تقدير
نصب زكاة الورق
ـــــــ
1 في المخطوطة "يده"
(3/273)
وغيره. قوله: "أخبرني يحيى بن أبي كثير" تعقبه الدارقطني وأبو مسعود بأن عبد الوهاب بن نجدة خالف إسحاق بن يزيد شيخ البخاري فيه فقال: "عن شعيب عن الأوزاعي حدثني يحيى بن سعيد وحماد" ورواه داود بن رشيد وهشام بن خالد جميعا عن شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي عن يحيى غير منسوب وقال: "الوليد بن مسلم رواه عن الأوزاعي عن عبد الرحمن بن اليمان عن يحيى بن سعيد. وقال الإسماعيلي: هذا الحديث مشهور عن يحيى بن سعيد رواه عنه الخلق، وقد رواه داود بن رشيد عن شعيب فقال: "عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد" انتهى. وقد تابع إسحاق بن يزيد سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي عن شعيب بن إسحاق أخرجه أبو عوانة والإسماعيلي من طريقه، وذلك دال على أنه عند شعيب عن الأوزاعي على الوجهين، لكن دلت رواية الوليد بن مسلم على أن رواية الأوزاعي عن يحيى بن سعيد بغير واسطة موهومة أو مدلسة، ولذلك عدل عنها البخاري واقتصر على طريق يحيى بن أبي كثير. والله أعلم. قوله: "عن أبيه يحيى بن عمارة" في رواية يحيى بن سعيد عن عمرو أنه سمع أباه، وسيأتي الكلام عليه مستوفى بعد بضعة وعشرين بابا. ثانيها حديث أبي ذر مع معاوية. قوله: "حدثنا علي سمع هشيما" كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر عن مشايخه "حدثنا علي بن أبي هاشم" وهو المعروف بابن طبراخ بكسر المهملة وسكون الموحدة وآخره معجمة، ووقع في "أطراف المزي" عن علي بن عبد الله المديني وهو خطأ. قوله: "عن زيد بن وهب" هو التابعي الكبير الكوفي أحد المخضرمين. قوله: "بالربذة" بفتح الراء والموحدة والمعجمة مكان معروف بين مكة والمدينة، نزل به أبو ذر في عهد عثمان ومات به، وقد ذكر في هذا الحديث سبب نزوله، وإنما سأله زيد بن وهب عن ذلك لأن مبغضي عثمان كانوا يشنعون عليه أنه نفى أبا ذر، وقد بين أبو ذر أن نزوله في ذلك المكان كان باختياره. نعم أمره عثمان بالتنحي عن المدينة لدفع المفسدة التي خافها على غيره من مذهبه المذكور فاختار الربذة، وقد كان يغدو إليها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أصحاب السنن من وجه آخر عنه، وفيه قصة له في التيمم. وروينا في فوائد أبي الحسن بن جذلم بإسناده إلى عبد الله بن الصامت قال: "دخلت مع أبي ذر على عثمان، فحسر عن رأسه فقال: والله ما أنا منهم يعني الخوارج. فقال. إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة. فقال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي بالربذة. قال: نعم". ورواه أبو داود الطيالسي من هذا الوجه دون آخره وقال بعد قوله ما أنا منهم "ولا أدركهم، سيماهم التحليق، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، والله لو أمرتني أن أقوم ما قعدت" وفي "طبقات ابن سعد" من وجه آخر "أن ناسا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة: إن هذا الرجل فعل بك وفعل، هل أنت ناصب لنا راية - يعني فنقاتله - فقال: لا، لو أن عثمان سيرني من المشرق إلى المغرب لسمعت وأطعت". قوله: "كنت بالشام" يعني بدمشق، ومعاوية إذ ذاك عامل عثمان عليها. وقد بين السبب في سكناه الشام ما أخرجه أبو يعلى من طريق أخرى عن زيد بن وهب "حدثني أبو ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ البناء - أي بالمدينة سلعا ترتحل إلى الشام. فلما بلغ البناء سلعا قدمت الشام فسكنت بها" فذكر الحديث نحوه. وعنده أيضا بإسناد فيه ضعف عن ابن عباس قال: "استأذن أبو ذر على عثمان فقال. إنه يؤذينا، فلما دخل قال له عثمان: أنت الذي تزعم أنك خير من أبي بكر وعمر؟ قال. لا، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أحبكم إلي وأقربكم مني من بقي على العهد الذي عاهدته عليه، وأنا باق على عهده" . قال فأمر أن يلحق بالشام. وكان يحدثهم ويقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم، فكتب معاوية إلى عثمان:
(3/274)
إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي
ذر. فكتب إليه عثمان أن اقدم علي، فقدم. قوله: "في والذين يكنزون الذهب
والفضة" سيأتي في تفسير براءة من طريق جرير عن حصين بلفظ: "فقرأت والذين
يكنزون الذهب والفضة" إلى آخر الآية. قوله: "نزلت في أهل الكتاب"
في رواية جرير "ما هذه فينا". قوله: "فكثر علي الناس حتى كأنهم لم
يروني" في رواية الطبري. أنهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام، قال
فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام. قوله: "إن شئت
تنحيت" في رواية الطبري "فقال له تنح قربيا. وقال: والله لن أدع ما كنت
أقوله" وكذا لابن مردويه من طريق ورقاء عن حصين بلفظ: "والله لا أدع ما
قلت". قوله: "حبشيا" في رواية ورقاء "عبدا حبشيا "ولأحمد
وأبي يعلى من طريق أبي حرب بن أبي الأسود عن عمه عن أبي ذر " أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال له: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ أي المسجد النبوي، قال: آتي
الشام. قال: كيف تصنع إذا أخرجت منها؟ قال. أعود إليه. أي المسجد. قال: كيف تصنع
إذا أخرجت منه؟ قال: أضرب بسيفي. قال: أدلك1 على ما هو خير لك من ذلك وأقرب رشدا،
قال: تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك". وعند أحمد أيضا من طريق شهر بن حوشب
عن أسماء بنت يزيد عن أبي ذر نحوه، والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين
الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه. وتعقبه النووي بالإبطال. لأن
السلاطين حينئذ كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان، وهؤلاء لم يخونوا. قلت. لقوله
محمل. وهو أنه أراد من يفعل ذلك وإن لم يوجد حينئذ من يفعله. وفي الحديث من
الفوائد غير ما تقدم أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لاتفاق أبي ذر ومعاوية على
أن الآية نزلت في أهل الكتاب. وفيه ملاطفة الأئمة للعلماء، فإن معاوية لم يجسر على
الإنكار عليه حتى كاتب من هو أعلى منه في أمره، وعثمان لم يحنق على أبي ذر مع كونه
كان مخالفا له في تأويله. وفيه التحذير من الشقاق والخروج على الأئمة، والترغيب في
الطاعة لأولي الأمر وأمر الأفضل بطاعة المفضول خشية المفسدة، وجواز الاختلاف في
الاجتهاد، والأخذ بالشدة في الأمر بالمعروف وإن أدى ذلك إلى فراق الوطن، وتقديم
دفع المفسدة على جلب المصلحة لأن في بقاء أبي ذر بالمدينة مصلحة كبيرة من بث علمه
في طالب العلم، ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقع من المفسدة من الأخذ بمذهبه
الشديد في هذه المسألة، ولم يأمره بعد ذلك بالرجوع عنه لأن كلا منهما كان مجتهدا.
قوله: "حدثنا عياش" هو ابن الوليد الرقام، وعبد الأعلى هو ابن عبد
الأعلى، والجريري بضم الجيم هو سعيد، وأبو العلاء هو يزيد بن عبد الله بن الشخير.
وأردف المصنف هذا الإسناد بالإسناد الذي بعده وإن كان أنزل منه لتصريح عبد الصمد
وهو ابن عبد الوارث فيه بتحديث أبي العلاء للجريري، والأحنف لأبي العلاء. وقد روى
الأسود بن شيبان عن أبي العلاء يزيد المذكور عن أخيه مطرف عن أبي ذر طرفا من آخر
هذا الحديث أيضا، وأخرجه أحمد، وليس ذلك بعلة لحديث الأحنف لأن حديث الأحنف أتم
سياقا وأكثر فوائد، ولا مانع أن يكون ليزيد فيه شيخان. قوله: "جلست إلى
ملأ" في رواية مسلم والإسماعيلي من طريق إسماعيل بن علية عن الجريري
"قدمت المدينة، فبينما أنا في حلقة من قريش". قوله: "خشن الشعر
إلخ" كذا للأكثر بمعجمتين من الخشونة، وللقابسي بمهملتين من الحسن، والأول
أصح. ووقع في رواية مسلم: "أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه فقام
عليهم" وليعقوب بن سفيان من طريق حميد بن هلال عن الأحنف "قدمت
ـــــــ
1 في المخطوطة "ألا أدلك"
(3/275)
المدينة فدخلت مسجدها إذ دخل رجل آدم طوال أبيض الرأس واللحية يشبه بعضه بعضا فقالوا. هذا أبو ذر". قوله: "بشر الكانزين" في رواية الإسماعيلي: "بشر الكنازين". قوله: "برضف" بفتح الراء وسكون المعجمة بعدها فاء هي الحجارة المحماة واحدها رضفة. قوله: "نغض" بضم النون وسكون المعجمة بعدها ضاد معجمة: العظم الدقيق الذي على طرف الكتف أو على أعلى الكتف، قال الخطابي: هو الشاخص منه، وأصل النغض الحركة فسمي ذلك الموضع نغضا لأنه يتحرك بحركة الإنسان. قوله: "يتزلزل" أي يضطرب ويتحرك، في رواية الإسماعيلي: "فيتجلجل" بجيمين، وزاد إسماعيل في هذه الرواية: "فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا. قال: فأدبر، فاتبعته حتى جلس إلى سارية". قوله: "وأنا لا أدري من هو" زاد مسلم من طريق خليد العصري عن الأحنف "فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر، فقمت إليه فقلت: ما شيء سمعتك تقوله؟ قال: ما قلت إلا شيئا سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم". وفي هذه الزيادة رد لقول من قال إنه موقوف على أبي ذر فلا يكون حجة على غيره. ولأحمد من طريق يزيد الباهلي عن الأحنف "كنت بالمدينة، فإذا أنا برجل يفر منه الناس حين يرونه، قلت: من أنت؟ قال: أبو ذر. قلت: ما نفر الناس عنك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز التي كان ينهاهم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "إنهم لا يعقلون شيئا" بين وجه ذلك في آخر الحديث حيث قال: "إنما يجمعون الدنيا". وقوله: "لا أسألهم دنيا" في رواية إسماعيل المذكورة "فقلت: ما لك ولإخوانك من قريش، لا تعتريهم ولا تصيب منهم؟ قال: وربك لا أسألهم دنيا إلخ". قوله: "قلت: ومن خليلك؟ قال: النبي صلى الله عليه وسلم" فاعل قال هو أبو ذر والنبي صلى الله عليه وسلم خبر المبتدأ كأنه قال: خليلي النبي صلى الله عليه وسلم وسقط بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم أو قال فقط، وكأن بعض الرواة ظنها مكررة فحذفها ولا بد من إثباتها. قوله: " يا أبا ذر أتبصر أحدا" وهو حديث مستقل سيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب الرقاق. وعلى ما وقع في هذه الرواية من قوله: "إلا ثلاثة دنانير " إن شاء الله تعالى. وإنما أورده أبو ذر للأحنف لتقوية ما ذهب إليه من ذم اكتناز المال، وهو ظاهر في ذلك إلا أنه ليس على الوجوب، ومن ثم عقبه المصنف بالترجمة التي تليه. قوله: "وإن هؤلاء لا يعقلون" هو من كلام أبي ذر كرره تأكيدا لكلامه ولربط ما بعده عليه.
(3/276)
5 - باب إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي
حَقِّهِ
1409 - حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى عن إسماعيل قال حدثني قيس عن بن مسعود رضي
الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لا حسد لا في اثنتين رجل
آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها
ويعلمها"
" باب إنفاق المال في حقه"، وأورد فيه الحديث الدال على الترغيب في ذلك،
وهو من أدل دليل على أن أحاديث الوعيد محمولة على من لا يؤدي الزكاة، وأما حديث:
"ما أحب أن لي أحدا ذهبا" فمحمول على الأولوية، لأن جمع المال وإن كان
مباحا لكن الجامع مسؤول عنه، وفي المحاسبة خطر وإن كان الترك أسلم، وما ورد من
الترغيب في تحصيله وإنفاقه في حقه فمحمول على من وثق بأنه يجمعه من الحلال الذي
يأمن خطر المحاسبة عليه، فإنه إذا أنفقه حصل له ثواب ذلك النفع المتعدي، ولا يتأتى
ذلك لمن لم يحصل شيئا كما تقدم شاهده في حديث: "ذهب أهل الدثور بالأجور"
والله أعلم. وقد تقدم الكلام على حديث الباب مستوفى في أوائل كتاب العلم، قال
الزين بن
(3/276)
المنير: في هذا الحديث حجة على جواز إنفاق جميع المال وبذله في الصحة والخروج عنه بالكلية في وجوه البر، ما لم يؤد إلى حرمان الوارث ونحو ذلك مما منع منه الشرع. قوله وان هؤلاء لا يعقلون هو من كلام أبي ذر كرره تأكيدا لكلامه ولربط ما بعده عليه قوله "وان هؤلاء لا يعقلون هو من كلام أبي ذر كرره تأكيدا لكلامه ولربط ما بعده عليه
(3/277)
6 - باب الرِّيَاءِ فِي الصَّدَقَةِ
لِقَوْلِهِ [264 البقرة]:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالأَذَى} - إلى قوله - {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {صَلْدًا} لَيْسَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ {وَابِلٌ} مَطَرٌ شَدِيدٌ وَالطَّلُّ النَّدَى
قوله: "باب الرياء في الصدقة" قال الزين بن المنير: يحتمل أن يكون مراده
إبطال الرياء للصدقة فيحمل على ما تمحض منها لحب المحمدة والثناء من الخلق بحيث
لولا ذلك لم يتصدق بها. قوله: "لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} - إلى قوله: {وَاللَّهُ لاَ
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} " قال الزين بن المنير: وجه الاستدلال من
الآية أن الله تعالى شبه مقارنة المن والأذى للصدقة أو اتباعها بإنفاق الكافر
المرائي الذي لا يجد بين يديه شيئا منه، ومقارنة الرياء من المسلم لصدقته أقبح من
مقارنة الإيذاء، وأولى أن يشبه بإنفاق الكافر المرائي في إبطال إنفاقه اه. وقال
ابن رشيد: اقتصر البخاري في هذه الترجمة على الآية، ومراده أن المشبه بالشيء يكون
أخفى من المشبه به، لأن الخفي ربما شبه بالظاهر ليخرج من حيز الخفاء إلى الظهور.
ولما كان الإنفاق رياء من غير المؤمن ظاهرا في إبطال الصدقة شبه به الإبطال بالمن
والأذى، أي حالة هؤلاء في الإبطال كحالة هؤلاء، هذا من حيث الجملة، ولا يبعد أن
يراعى حال التفضيل أيضا لأن حال المان شبيه بحال المرائي، لأنه لما من ظهر أنه لم
يقصد وجه الله، وحال المؤذي يشبه حال الفاقد للإيمان من المنافقين لأن من يعلم أن
للمؤذي ناصرا ينصره لم يؤذه، فعلم بهذا أن حالة المرائي أشد من حالة المان والمؤذي
انتهى. ويتلخص أن يقال: لما كان المشبه به أقوى من المشبه، وإبطال الصدقة بالمن
والأذى قد شبه بإبطالها بالرياء فيها كان أمر الرياء أشد. قوله: "وقاله ابن
عباس: صلدا ليس عليه شيء" وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
هكذا في قوله: "فتركه صلدا" أي ليس عليه شيء. وروى الطبري من طريق سعيد
عن قتادة في هذه الآية قال: "هذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة
يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ كما ترك هذا المطر الصفا نقيا ليس عليه
شيء"، ومن طريق أسباط عن السدي نحوه.
(3/277)
باب لايقبل الله صدقة من غلول ولا يفبل
إلا من كسب طيب
...
7 - باب لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ وَلاَ يَقْبَلُ إِلاَّ مِنْ
كَسْبٍ طَيِّبٍ لِقَوْلِهِ [البقرة 263]:
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ
غَنِيٌّ حَلِيمٌ}
(3/277)
8 - باب الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ لِقَوْلِهِ[البقرة 276-277]:
(3/277)
باب اصدقة قبل الرد
...
9 - باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّدِّ
1411 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ
قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ
زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا يَقُولُ
الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأَمْسِ لَقَبِلْتُهَا فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلاَ
حَاجَةَ لِي بِهَا"
[الحديث 1411 – طرفاه في: 1424,7120]
1412 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ
فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ
صَدَقَتَهُ وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ لاَ أَرَبَ
لِي"
1413 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ
النَّبِيلُ أَخْبَرَنَا سَعْدَانُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُجَاهِدٍ
حَدَّثَنَا مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ الطَّائِيُّ قَالَ سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ
حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا يَشْكُو
الْعَيْلَةَ وَالآخَرُ يَشْكُو قَطْعَ السَّبِيلِ فَقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "أَمَّا قَطْعُ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكَ إِلاَّ
قَلِيلٌ حَتَّى تَخْرُجَ الْعِيرُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ وَأَمَّا
الْعَيْلَةُ فَإِنَّ السَّاعَةَ لاَ تَقُومُ حَتَّى يَطُوفَ أَحَدُكُمْ
بِصَدَقَتِهِ لاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ
بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلاَ تَرْجُمَانٌ
يُتَرْجِمُ لَهُ ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا فَلَيَقُولَنَّ
بَلَى ثُمَّ لَيَقُولَنَّ أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولاً فَلَيَقُولَنَّ بَلَى
فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ
شِمَالِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمْ النَّارَ
وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"
[الحديث 1413 – أطرافه في: 1417, 3595, 6023, 6540, 6563, 7443, 7512]
1414 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ
بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى
النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنْ الذَّهَبِ ثُمَّ لاَ
يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ
امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ"
(3/281)
قوله: "باب الصدقة قبل الرد" قال الزين بن المنير ما ملخصه: مقصوده بهذه الترجمة الحث على التحذير من التسويف بالصدقة، لما في المسارعة إليها من تحصيل النمو المذكور. قيل لأن التسويف بها قد يكون ذريعة إلى عدم القابل لها إذ لا يتم مقصود الصدقة إلا بمصادفة المحتاج إليها، وقد أخبر الصادق أنه سيقع فقد الفقراء المحتاجين إلى الصدقة بأن يخرج الغني صدقته فلا يجد من يقبلها. فإن قيل إن من أخرج صدقته مثاب على نيته ولو لم يجد من يقبلها، فالجواب أن الواجد يثاب ثواب المجازاة والفضل، والناوي يثاب ثواب الفضل فقط والأول أربح والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث في كل منها الإنذار بوقوع فقدان من يقبل الصدقة. حارثة بن وهب هو الخزاعي. قوله: " فإنه يأتي عليكم زمان " سيأتي بعد سبعة أبواب - من وجه آخر - بلفظ: "فسيأتي". قوله: "يقول الرجل" أي الذي يريد المتصدق أن يعطيه إياها. قوله: "فأما اليوم فلا حاجة لي بها" في رواية الكشميهني: "فيها"، والظاهر أن ذلك يقع في زمن كثرة المال وفيضه قرب الساعة كما قال ابن بطال، ومن ثم أورده المصنف في كتاب الفتن كما سيأتي. حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب، وقد ساقه في الفتن بالإسناد المذكور هنا مطولا، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. وقوله: "حتى يهم" بفتح أوله وضم الهاء، و "رب المال" منصوب على المفعولية وفاعله قوله: " من يقبله" يقال همه الشيء أحزنه. ويروى بضم أوله يقال أهمه الأمر أقلقه. وقال النووي في شرح مسلم: ضبطوه بوجهين أشهرهما بضم أوله وكسر الهاء ورب المال مفعول والفاعل من يقبل أي يحزنه، والثاني بفتح أوله وضم الهاء ورب المال فاعل ومن مفعول أي يقصد. والله أعلم. قوله: "لا أرب لي" زاد في الفتن "به" أي لا حاجة لي به لاستغنائي عنه. حديث عدي بن حاتم، وقد أورده المصنف بأتم من هذا السياق، ويأتي الكلام عليه مستوفى. وشاهده هنا قوله فيه "فإن الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها منه" وهو موافق لحديث أبي هريرة الذي قبله ومشعر بأن ذلك يكون في آخر الزمان. وحديث أبي موسى الآتي بعده مشعر بذلك أيضا، وقد أشار عدي بن حاتم - كما سيأتي في علامات النبوة - إلى أن ذلك لم يقع في زمانه وكانت وفاته في خلافة معاوية بعد استقرار أمر الفتوح، فانتفى قول من زعم أن ذلك وقع في ذلك الزمان. قال ابن التين: إنما يقع ذلك بعد نزول عيسى حين تخرج الأرض بركاتها حتى تشبع الرمانة أهل البيت ولا يبقى في الأرض كافر. ويأتي الكلام على اتقاء النار ولو بشق تمرة في الباب الذي يليه. قوله: "من الذهب" خصه بالذكر مبالغة في عدم من يقبل الصدقة، وكذا قوله يطوف ثم لا يجد من يقبلها وقوله: "ويرى الرجل إلخ" تقدم الكلام عليه مستوفى في "باب رفع العلم" من كتاب العلم.
(3/282)
10 - باب اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ
بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَالْقَلِيلِ مِنْ الصَّدَقَةِ
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ
وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ - إلى قوله: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}
1415 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ
الْحَكَمُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
"لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ فَجَاءَ رَجُلٌ
فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ فَقَالُوا مُرَائِي وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ
بِصَاعٍ فَقَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا فَنَزَلَتْ {الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ
لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} الْآيَةَ"
(3/282)
[الحديث 1415 – أطرافه في: 1416, 2273,
4668, 4669]
1416 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ
عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرَنَا
بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ فَيُحَامِلُ فَيُصِيبُ الْمُدَّ
وَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ"
1417 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ سَمِعْتُ عَدِيَّ
بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ
تَمْرَةٍ"
1418 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ "دَخَلَتْ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ فَلَمْ
تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا
بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ:
" مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ
النَّارِ"
[الحديث 1418 – طرفه في: 5995]
قوله: "باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة، {وَمَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ - إلى قوله - فِيهَا مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ} " قال الزين بن المنير وغيره: جمع المصنف بين لفظ الخبر والآية
لاشتمال ذلك كله على الحث على الصدقة قليلها وكثيرها، فإن قوله تعالى:
{أَمْوَالَهُمْ} يشمل قليل النفقة وكثيرها، ويشهد له قوله: "لا يحل مال امرئ
مسلم إلا عن طيب نفس"، فإنه يتناول القليل والكثير، إذ لا قائل بحل القليل
دون الكثير. وقوله: "اتقوا النار ولو بشق تمرة "يتناول الكثير والقليل
أيضا، والآية أيضا مشتملة على قليل الصدقة وغيرها من جهة التمثيل المذكور فيها
بالطل والوابل، فشبهت الصدقة بالقليل بإصابة الطل والصدقة بالكثير بإصابة الوابل.
وأما ذكر القليل من الصدقة بعد ذكر شق التمرة فهو من عطف العام على الخاص، ولهذا
أورد في الباب حديث أبي مسعود الذي كان سببا لنزول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا
يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} . وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: تقدير الآية
مثل تضعيف أجور الذين ينفقون كمثل تضعيف ثمار الجنة بالمطر، إن قليلا فقليل، وإن
كثيرا فكثير. وكأن البخاري أتبع الآية الأولى التي ضربت مثلا بالربوة بالآية
الثانية التي تضمنت ضرب المثل لمن عمل عملا يفقده أحوج ما كان إليه للإشارة إلى
اجتناب الرياء في الصدقة، ولأن قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
يشعر بالوعيد بعد الوعد، فأوضحه بذكر الآية الثانية، وكأن هذا هو السر في اقتصاره
على بعضها اختصارا. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث. حديث أبي مسعود ورد من
وجهين تاما ومختصرا. قوله: "عن سليمان" هو الأعمش، وأبو مسعود هو
الأنصاري البدري. قوله: "لما نزلت آية الصدقة" كأنه يشير إلى قوله
تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية. قوله: "كنا نحامل" أي
نحمل على ظهورنا بالأجرة، يقال حاملت بمعنى حملت كسافرت. وقال الخطابي: يريد نتكلف
الحمل بالأجرة لنكتسب ما نتصدق به، ويؤيده قوله في الرواية الثانية التي بعد هذه
حيث قال: "انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل" أي يطلب الحمل بالأجرة. قوله:
"فجاء رجل فتصدق بشيء كثير"
(3/283)
هو عبد الرحمن بن عوف كما سيأتي في التفسير، والشيء المذكور كان ثمانية آلاف أو أربعة آلاف. قوله: "وجاء رجل" هو أبو عقيل بفتح العين كما سيأتي في التفسير، ونذكر هناك إن شاء الله تعالى الاختلاف في اسمه واسم أبيه ومن وقع له ذلك أيضا من الصحابة كأبي خيثمة، وأن الصاع إنما حصل لأبي عقيل لكونه أجر نفسه على النزح من البئر بالحبل. قوله: "فقالوا" سمي من اللامزين في "مغازي الواقدي "معتب بن قشير وعبد الرحمن بن نبتل بنون ومثناة مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة ثم لام. قوله: "يلمزون" أي يعيبون، وشاهد الترجمة قوله: { وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} . قوله: "سعيد بن يحيى" أي ابن سعيد الأموي. قوله: "فيحامل" بضم التحتانية واللام مضمومة بلفظ المضارع من المفاعلة. ويروي بفتح المثناة وفتح اللام أيضا، ويؤيده قوله في رواية زائدة الآتية في التفسير "فيحتال أحدنا حتى يجيء بالمد". قوله: "فيصيب المد" أي في مقابلة أجرته فيتصدق به. قوله: "وإن لبعضهم اليوم لمائة ألف" زاد في التفسير "كأنه يعرض بنفسه" وأشار بذلك إلى ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من قلة الشيء، وإلى ما صاروا إليه بعده من التوسع لكثرة الفتوح، ومع ذلك فكانوا في العهد الأول يتصدقون بما يجدون ولو جهدوا، والذين أشار إليهم آخرا بخلاف ذلك. "تنبيه": وقع بخط مغلطاي في شرحه "وإن لبعضهم اليوم ثمانية آلاف" وهو تصحيف. عدي بن حاتم وهو بلفظ الترجمة، وهو طرف من حديثه المذكور في الباب الذي قبله، و "بشق" بكسر المعجمة نصفها أو جانبها، أي ولو كان الاتقاء بالتصدق بشق تمرة واحدة فإنه يفيد. وفي الطبراني من حديث فضالة بن عبيد مرفوعا: " اجعلوا بينكم وبين النار حجابا ولو بشق تمرة" ولأحمد من حديث ابن مسعود مرفوعا بإسناد صحيح "ليتق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة" ، وله من حديث عائشة بإسناد حسن "يا عائشة، استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان" ، ولأبي يعلى من حديث أبي بكر الصديق نحوه وأتم منه بلفظ: "تقع من الجائع موقعها من الشبعان" وكأن الجامع بينهما في ذلك حلاوتها. وفي الحديث الحث على الصدقة بما قل وما جل، وأن لا يحتقر ما يتصدق به، وأن اليسير من الصدقة يستر المتصدق من النار. حديث عائشة، وسيأتي في الأدب من وجه آخر عن الزهري بسنده، وفيه التقييد بالإحسان ولفظه: "من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار" وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. ومناسبته للترجمة من جهة أن الأم المذكورة لما قسمت التمرة بين ابنتيها صار لكل واحدة منهما شق تمرة، وقد دخلت في عموم خبر الصادق أنها ممن ستر من النار لأنها ممن ابتلي بشيء من البنات فأحسن. ومناسبة فعل عائشة للترجمة من قوله: "والقليل من الصدقة" وللآية من قوله: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} لقولها في الحديث: "فلم تجد عندي غير تمرة" وفيه شدة حرص عائشة على الصدقة امتثالا لوصيته صلى الله عليه وسلم لها حيث قال: "لا يرجع من عندك سائل ولو بشق تمرة" رواه البزار من حديث أبي هريرة.
(3/284)
11 - باب فَضْلِ صَدَقَةِ الشَّحِيحِ
الصَّحِيحِ
لِقَوْلِه [10 المنافقون]: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية
وقوله [254 البقرة]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعَ فِيهِ}
1419 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا
(3/284)
أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا قَالَ أَنْ
تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلاَ
تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ
كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ"
[الحديث 1419 – طرفه في: 2748]
قوله: "باب فضل صدقة الشحيح الصحيح" كذا لأبي ذر، ولغيره: "أي
الصدقة أفضل، وصدقة الشحيح الصحيح، لقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا
رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية", فعلى
الأول المراد فضل من كان كذلك على غيره وهو واضح، وعلى الثاني كأنه تردد في إطلاق
أفضلية من كان كذلك, فأورد الترجمة بصيغة الاستفهام. قال الزين بن المنير ما
ملخصه: مناسبة الآية للترجمة أن معنى الآية التحذير من التسويف بالإنفاق استبعادا
لحلول الأجل واشتغالا بطول الأمل، والترغيب في المبادرة بالصدقة قبل هجوم المنية
وفوات الأمنية. والمراد بالصحة في الحديث من لم يدخل في مرض مخوف فيتصدق عند
انقطاع أمله من الحياة كما أشار إليه في آخره بقوله: "ولا تمهل حتى إذا بلغت
الحلقوم" ، ولما كانت مجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام مانع الشح دالا
على صحة القصد وقوة الرغبة في القربة كان ذلك أفضل من غيره، وليس المراد أن نفس
الشح هو السبب في هذه الأفضلية. والله أعلم.
" تنبيه ": وقع في رواية غير أبي ذر تقديم آية المنافقين على آية
البقرة. وفي رواية أبي ذر بالعكس. قوله: "حدثنا عبد الواحد" هو ابن
زياد. قوله: "جاء رجل" لم أقف على تسميته، ويحتمل أن يكون أبا ذر، ففي
مسند أحمد عنه أنه سأل أي الصدقة أفضل، لكن في الجواب "جهد من مقل أوسر إلى
فقير" وكذا روى الطبراني من حديث أبي أمامة أن أبا ذر سأل فأجيب. قوله:
"أي الصدقة أعظم أجرا" في الوصايا من وجه آخر عن عمارة بن القعقاع
"أي الصدقة أفضل". قوله: "أن تصدق" بتشديد الصاد وأصله تتصدق
فأدغمت إحدى التاءين. قوله: " وأنت صحيح شحيح" في الوصايا " وأنت
صحيح حريص" قال صاحب المنتهى: الشح بخل مع حرص. وقال صاحب المحكم: الشح مثلث
الشين والضم أعلى. وقال صاحب الجامع: كأن الفتح في المصدر والضم في الاسم. وقال
الخطابي: فيه أن المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه، وأن سخاوته بالمال في مرضه لا
تمحو عنه سيمة البخل، فلذلك شرط صحة البدن في الشح بالمال لأنه في الحالتين يجد
للمال وقعا في قلبه لما يأمله من البقاء فيحذر معه الفقر، وأحد الأمرين للموصي
والثالث للوارث لأنه إذا شاء أبطله. قال الكرماني: ويحتمل أن يكون الثالث للموصي
أيضا لخروجه عن الاستقلال بالتصرف فيما يشاء فلذلك نقص ثوابه عن حال الصحة. قال
ابن بطال وغيره: لما كان الشح غالبا في الصحة فالسماح فيه بالصدقة أصدق في النية
وأعظم للأجر، بخلاف من يئس من الحياة ورأى مصير المال لغيره. قوله:
"وتأمل" بضم الميم أي تطمع. قوله: "إذا بلغت" أي الروح،
والمراد قاربت بلوغه إذ لو بلغته حقيقة لم يصح شيء من تصرفاته. ولم يجر للروح ذكر
اغتناء بدلالة السياق. والحلقوم مجرى النفس قاله أبو عبيدة، وقد تقدم في أواخر
كتاب العلم، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الوصايا إن شاء الله
تعالى.
(3/285)
1420 – باب: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ
(3/285)
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
"أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ
لُحُوقًا قَالَ: "أَطْوَلُكُنَّ يَدًا" فَأَخَذُوا قَصَبَةً
يَذْرَعُونَهَا فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا فَعَلِمْنَا بَعْدُ
أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ
وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ"
قوله: "باب" كذا للأكثر وبه جزم الإسماعيلي، وسقط لأبي ذر، فعلى روايته
هو من ترجمة فضل صدقة الصحيح، وعلى رواية غيره فهو بمنزلة الفصل منه وأورد فيه
المصنف قصة سؤال أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منه أيتهن أسرع لحوقا به، وفيه
قوله لهن "أطولكن يدا" الحديث. ووجه تعلقه بما قبله أن هذا الحديث تضمن
أن الإيثار والاستكثار من الصدقة في زمن القدرة على العمل سبب للحاق بالنبي صلى الله
عليه وسلم، وذلك الغاية في الفضيلة، أشار إلى هذا الزين بن المنير قال ابن رشيد:
وجه المناسبة أنه تبين في الحديث أن المراد بطول اليد المقتضي للحاق به الطول1،
وذلك إنما يتأتى للصحيح لأنه إنما يحصل بالمداومة في حال الصحة وبذلك يتم المراد.
والله أعلم. قوله: "أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" لم أقف على
تعيين السائلة منهن عن ذلك، إلا عند ابن حبان من طريق يحيى بن حماد عن أبي عوانة
بهذا الإسناد "قالت فقلت" بالمثناة، وقد أخرجه النسائي من هذا الوجه
بلفظ: "فقلن" بالنون فالله أعلم. قوله: "أسرع بك لحوقا" منصوب
على التمييز، وكذا قوله يدا، وأطولكن مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله:
"فأخذوا قصبة يذرعونها" أي يقدرونها بذراع كل واحدة منهن، وإنما ذكره
بلفظ جمع المذكر بالنظر إلى لفظ الجمع لا بلفظ جماعة النساء، وقد قيل في قول
الشاعر وإن شئت حرمت النساء سواكم أنه ذكره بلفظ جمع المذكر تعظيما. وقوله:
"أطولكن" يناسب ذلك، وإلا لقال طولاكن. قوله: "فكانت سودة"
زاد ابن سعد عن عفان عن أبي عوانة بهذا الإسناد "بنت زمعة بن قيس".
قوله: "أطولهن يدا" في رواية عفان "ذراعا "وهي تعين أنهن فهمن
من لفظ اليد الجارحة. قوله: "فعلمنا بعد" أي لما ماتت أول نسائه به
لحوقا. قوله: "إنما" بالفتح، والصدقة بالرفع، وطوله يدها بالنصب لأنه
الخبر. قوله: "وكانت أسرعنا" كذا وقع في الصحيح بغير تعيين، ووقع في
"التاريخ الصغير "للمصنف عن موسى بن إسماعيل بهذا الإسناد "فكانت
سودة أسرعنا إلخ" وكذا أخرجه البيهقي في "الدلائل" وابن حبان في
صحيحه من طريق العباس الدوري عن موسى، وكذا في رواية عفان عند أحمد وابن سعد عنه
"قال ابن سعد: قال لنا محمد بن عمر -يعني الواقدي- هذا الحديث وهل في سودة،
وإنما هو في زينب بنت جحش، فهي أول نسائه به لحوقا وتوفيت في خلافة عمر وبقيت سودة
إلى أن توفيت في خلافة معاوية في شوال سنة أربع وخمسين" قال ابن بطال: هذا
الحديث سقط منه ذكر زينب لاتفاق أهل السير على أن زينب أول من مات من أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم، يعني أن الصواب: وكانت زينب أسرعنا إلخ، ولكن يعكر على هذا
التأويل تلك الروايات المتقدمة المصرح فيها بأن الضمير لسودة. وقرأت بخط الحافظ
أبي علي الصدفي: ظاهر هذا اللفظ أن سودة كانت أسرع وهو خلاف المعروف عند أهل العلم
أن زينب أول من مات من الأزواج، ثم نقله عن مالك من روايته عن الواقدي، قال:
ويقويه رواية عائشة بنت طلحة. وقال ابن الجوزي. هذا الحديث غلط من بعض الرواة،
والعجب من البخاري كيف لم ينبه عليه ولا أصحاب التعاليق ولا علم بفساد
ـــــــ
1 هو بفتح الطاء أي الجود وسعة العطاء. والله أعلم
(3/286)
ذلك الخطابي فإنه فسره وقال: لحوق سودة به من أعلام النبوة. وكل ذلك وهم، وإنما هي زينب، فإنها كانت أطولهن يدا بالعطاء كما رواه مسلم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة بلفظ: "فكانت أطولنا يدا زينب لأنها كانت تعمل وتتصدق" انتهى. وتلقى مغلطاي كلام ابن الجوزي فجزم به ولم ينسبه له. وقد جمع بعضهم بين الروايتين فقال الطيبي: يمكن أن يقال فيما رواه البخاري المراد الحاضرات من أزواجه دون زينب، وكانت سودة أولهن موتا. قلت: وقد وقع نحوه في كلام مغلطاي، لكن يعكر على هذا أن في رواية يحيى بن حماد عند ابن حبان أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعن عنده لم تغادر منهن واحدة، ثم هو مع ذلك إنما يتأتى على أحد القولين في وفاة سودة، فقد روى البخاري في تاريخه بإسناد صحيح إلى سعيد بن هلال أنه قال: ماتت سودة في خلافة عمر، وجزم الذهبي في "التاريخ الكبير" بأنها ماتت في آخر خلافة عمر. وقال ابن سيد الناس: أنه المشهور. وهذا يخالف ما أطلقه الشيخ محيي الدين حيث قال: أجمع أهل السير على أن زينب أول من مات من أزواجه. وسبقه إلى نقل الاتفاق ابن بطال كما تقدم. ويمكن الجواب بأن النقل مقيد بأهل السير، فلا يرد نقل قول من خالفهم من أهل النقل ممن لا يدخل في زمرة أهل السير. وأما على قول الواقدي الذي تقدم فلا يصح. وقد تقدم عن ابن بطال أن الضمير في قوله: "فكانت" لزينب وذكرت ما يعكر عليه، لكن يمكن أن يكون تفسيره بسودة من بعض الرواة لكون غيرها لم يتقدم له ذكر، فلما لم يطلع على قصة زينب وكونها أول الأزواج لحوقا به جعل الضمائر كلها لسودة، وهذا عندي من أبي عوانة، فقد خالفه في ذلك ابن عيينة عن فراس كما قرأت بخط ابن رشيد أنه قرأه بخط أبي القاسم بن الورد، ولم أقف إلى الآن على رواية ابن عيينة هذه، لكن روى يونس بن بكير في "زيادات المغازي "والبيهقي في "الدلائل" بإسناده عنه عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي التصريح بأن ذلك لزينب، لكن قصر زكريا في إسناده فلم يذكر مسروقا ولا عائشة، ولفظه: "قلن النسوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: أطولكن يدا، فأخذن يتذارعن أيتهن أطول يدا، فلما توفيت زينب علمن أنها كانت أطولهن يدا في الخير والصدقة " ويؤيده أيضا ما روى الحاكم في المناقب من مستدركه من طريق يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأزواجه: "أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا" قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش -وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا- فعرفنا حينئذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقة، وكانت زينب امرأة صناعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتصدق في سبيل الله" قال الحاكم على شرط مسلم انتهى. وهي رواية مفسرة مبينة مرجحة لرواية عائشة بنت طلحة في أمر زينب، قال ابن رشيد: والدليل على أن عائشة لا تعني سودة قولها: "فعلمنا بعد" إذ قد أخبرت عن سودة بالطول الحقيقي ولم تذكر سبب الرجوع عن الحقيقة إلى المجاز إلا الموت، فإذا طلب السامع سبب العدول لم يجد إلا الإضمار مع أنه يصلح أن يكون المعنى فعلمنا بعد أن المخبر عنها إنما هي الموصوفة بالصدقة لموتها قبل الباقيات، فينظر السامع ويبحث فلا يجد إلا زينب، فيتعين الحمل عليه، وهو من باب إضمار ما لا يصلح غيره كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} قال الزين بن المنير: وجه الجمع أن قولها "فعلمنا بعد" يشعر إشعارا قويا أنهن حملن طول اليد على ظاهره، ثم علمن بعد ذلك خلافه وأنه كناية عن كثرة الصدقة، والذي علمنه آخرا خلاف ما اعتقدنه أولا، وقد انحصر الثاني في زينب للاتفاق على أنها أولهن
(3/287)
موتا فتعين أن تكون هي المرادة. وكذلك بقية الضمائر بعد قوله: "فكانت" واستغنى عن تسميتها لشهرتها بذلك انتهى. وقال الكرماني: يحتمل أن يقال إن في الحديث اختصارا أو اكتفاء بشهرة القصة لزينب، ويؤول الكلام بأن الضمير رجع إلى المرأة التي علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أول من يلحق به، وكانت كثيرة الصدقة. قلت: الأول هو المعتمد، وكأن هذا هو السر في كون البخاري حذف لفظ سودة من سياق الحديث لما أخرجه في الصحيح لعلمه بالوهم فيه، وأنه لما ساقه في التاريخ بإثبات ذكرها ذكر ما يرد عليه من طريق الشعبي أيضا عن عبد الرحمن بن أبزي قال: "صليت مع عمر على أم المؤمنين زينب بنت جحش، وكانت أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم لحوقا به" وقد تقدم الكلام على تاريخ وفاتها في كتاب الجنائز، وأنه سنة عشرين. وروى ابن سعد من طريق برزة بنت رافع قالت: "لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها، فتعجبت وسترته بثوب وأمرت بتفرقته، إلى أن كشف الثوب فوجدت تحته خمسة وثمانين درهما ثم قالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا، فماتت فكانت أول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لحوقا به" وروى ابن أبي خيثمة من طريق القاسم بن معن قال: كانت زينب أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم لحوقا به فهذه روايات يعضد بعضها بعضا ويحصل من مجموعها أن في رواية أبي عوانة وهما. وقد ساقه يحيى بن حماد عنه مختصرا ولفظه: "فأخذن قصبة يتذارعنها، فماتت سودة بنت زمعة وكانت كثيرة الصدقة فعلمنا أنه قال أطولكن بدا بالصدقة "هذا لفظه عند ابن حبان من طريق الحسن بن مدرك عنه، ولفظه عند النسائي عن أبي داود وهو الحراني عنه "فأخذن قصبة فجعلن يذرعنها فكانت سودة أسرعهن به لحوقا، وكانت أطولهن يدا، وكأن ذلك من كثرة الصدقة". وهذا السياق لا يحتمل التأويل، إلا أنه محمول على ما تقدم ذكره من دخول الوهم على الراوي في التسمية خاصة والله أعلم. وفي الحديث علم من أعلام النبوة ظاهر، وفيه جواز إطلاق اللفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة وهو لفظ: "أطولكن" إذا لم يكن محذور. قال الزين بن المنير: لما كان السؤال عن آجال مقدرة لا تعلم إلا بالوحي أجابهن بلفظ غير صريح وأحالهن على ما لا يتبين إلا بآخر. وساغ ذلك لكونه ليس من الأحكام التكليفية. وفيه أن من حمل الكلام على ظاهره وحقيقته لم يلم وإن كان مراد المتكلم مجازه، لأن نسوة النبي صلى الله عليه وسلم حملن طول اليد على الحقيقة فلم ينكر عليهن. وأما ما رواه الطبراني في الأوسط من طريق يزيد بن الأصم عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهن: ليس ذلك أعني إنما أعني أصنعكن يدا، فهو ضعيف جدا، ولو كان ثابتا لم يحتجن بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذرع أيديهن كما تقدم في رواية عمرة عن عائشة. وقال المهلب: في الحديث دلالة على أن الحكم للمعاني لا للألفاظ لأن النسوة فهمن من طول اليد الجارحة، وإنما المراد بالطول كثرة الصدقة، وما قاله لا يمكن إطراده في جميع الأحوال. والله أعلم.
(3/288)
12 - باب صَدَقَةِ الْعَلاَنِيَةِ.
وقوله عزوجل [274 البقرة]
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا
وَعَلاَنِيَةً -إلى قوله- وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
(3/288)
13 - باب صَدَقَةِ السِّرِّ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ
تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ" وَقَوْلِهِ تعالى: [271]:
{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآيَةَ
(3/288)
14 - باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى
غَنِيٍّ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ
1421 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قَالَ رَجُلٌ
لاَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ
فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ
الْحَمْدُ لاَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي
يَدَيْ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى
زَانِيَةٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ لاَتَصَدَّقَنَّ
بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِيٍّ فَأَصْبَحُوا
يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى
سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ أَمَّا
صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ وَأَمَّا
الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا وَأَمَّا الْغَنِيُّ
فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ"
قوله: "باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم" أي فصدقته مقبولة. قوله:
"عن الأعرج عن أبي هريرة" في رواية مالك في "الغرائب
للدارقطني" عن أبي الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز أخبره أنه سمع أبا هريرة.
قوله: "قال رجل" لم أقف على اسمه، ووقع عند أحمد من طريق ابن لهيعة عن
الأعرج في هذا الحديث أنه كان من بني إسرائيل. قوله: "لأتصدقن بصدقة" في
رواية أبي عوانة عن أبي أمية عن أبي اليمان بهذا الإسناد "لأتصدقن الليلة
"وكرر كذلك في المواضع الثلاثة. وكذا أخرجه أحمد من طريق ورقاء ومسلم من طريق
موسى بن عقبة والدارقطني في "غرائب مالك" كلهم عن أبي الزناد. وقوله:
"لأتصدقن" من باب الالتزام كالنذر مثلا، والقسم فيه مقدر كأنه قال: والله
لأتصدقن. قوله: " فوضعها في يد سارق " أي وهو لا يعلم أنه سارق. قوله:
"فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق" في رواية أبي أمية "تصدق الليلة
على سارق" وفي رواية ابن لهيعة "تصدق الليلة على فلان السارق" ولم
أر في شيء من الطرق تسمية أحد من الثلاثة المتصدق عليهم. وقوله: "تصدق"
بضم أوله على البناء للمفعول. قوله: " فقال اللهم لك الحمد" أي لا لي
لأن صدقتي وقعت بيد من لا يستحقها فلك الحمد حيث كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي، فإن
إرادة الله كلها جميلة. قال الطيبي: لما عزم على أن يتصدق على مستحق فوضعها بيد
زانية حمد الله على أنه لم يقدر أن يتصدق على من هو أسوأ حالا منها، أو أجرى الحمد
مجرى التسبيح في استعماله عند مشاهدة ما يتعجب منه تعظيما لله، فلما تعجبوا من
فعله تعجب هو أيضا فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، أي التي تصدقت عليها فهو
متعلق بمحذوف انتهى. ولا يخفى بعد هذا الوجه، وأما الذي قبله فأبعد منه. والذي
يظهر الأول وأنه سلم وفوض ورضي بقضاء الله فحمد الله على تلك الحال، لأنه المحمود
على جميع الحال، لا يحمد على المكروه سواه، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا رأى ما لا يعجبه قال: "اللهم لك الحمد على كل حال" . قوله:
"فأتي فقيل له" في رواية الطبراني في "مسند الشاميين" عن أحمد
بن عبد الوهاب عن أبي اليمان بهذا الإسناد "فساءه ذلك فأتى في منامه"
وأخرجه أبو نعيم في المستخرج عنه، وكذا الإسماعيلي من طريق علي بن عياش عن شعيب
وفيه تعيين أحد الاحتمالات التي ذكرها ابن التين وغيره قال الكرماني: قوله:
"أتي" أي أري في المنام أو سمع هاتفا ملكا أو غيره أو أخبره نبي أو
أفتاه عالم. وقال غيره: أو أتاه ملك فكلمه، فقد كانت الملائكة تكلم
(3/290)
بعضهم في بعض الأمور. وقد ظهر بالنقل الصحيح أنها كلها لم تقع إلا النقل الأول. قوله: " أما صدقتك على سارق " زاد أبو أمية "فقد قبلت" وفي رواية موسى بن عقبة وابن لهيعة "أما صدقتك فقد قبلت" وفي رواية الطبراني "إن الله قد قبل صدقتك" وفي الحديث دلالة على أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير، ولهذا تعجبوا من الصدقة على الأصناف الثلاثة. وفيه أن نية المتصدق إذا كانت صالحة قبلت صدقته ولو لم تقع الموقع. واختلف الفقهاء في الإجزاء إذا كان ذلك في زكاة الفرض، ولا دلالة في الحديث على الإجزاء ولا على المنع، ومن ثم أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام ولم يجزم بالحكم. فإن قيل إن الخبر إنما تضمن قصة خاصة وقع الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية فمن أين يقع تعميم الحكم؟ فالجواب أن التنصيص في هذا الخير على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب. وقيه فضل صدقة السر، وفضل الإخلاص، واستحباب إعادة الصدقة إذا لم تقع الموقع، وأن الحكم للظاهر حتى يتبين سواه، وبركة التسليم والرضا، وذم التضجر بالقضاء كما قال بعض السلف. لا تقطع الخدمة ولو ظهر لك عدم القبول.
(3/291)
15 - باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى
ابْنِهِ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ
1422 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ حَدَّثَنَا
أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ
قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَبِي
وَجَدِّي وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبِي
يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي
الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ وَاللَّهِ مَا
إِيَّاكَ أَرَدْتُ فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: "لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا
مَعْنُ"
قوله: "باب إذا تصدق" أي الشخص "على ابنه وهو لا يشعر" قال
الزين بن المنير: لم يذكر جواب الشرط اختصارا، وتقديره جاز، لأنه يصير لعدم شعوره
كالأجنبي. ومناسبة الترجمة للخبر من جهة أن يزيد أعطى من يتصدق عنه ولم يحجر عليه،
وكان هو السبب في وقوع الصدقة في يد ولده قال: وعبر في هذه الترجمة بنفي الشعور
وفي التي قبلها بنفي العلم لأن المتصدق في السابقة بذل وسعه في طلب إعطاء الفقير
فأخطأ اجتهاده فناسب أن ينفي عنه العلم، وأما هذا فباشر التصدق غيره فناسب أن ينفى
عن صاحب الصدقة الشعور. قوله: "حدثنا محمد بن يوسف" هو الفريابي، وأبو
الجويرية بالجيم مصغرا اسمه حطان بكسر المهملة وكان سماعه عن معن ومعن أمير على
غزاة بالروم في خلافة معاوية كما رواه أبو داود من طريق أبي الجويرية. قوله:
"أنا وأبي وجدي" اسم جده الأخنس بن حبيب السلمي كما جزم به ابن حبان
وغير واحد، ووقع في الصحابة لمطين وتبعه البارودي والطبراني وابن منده وأبو نعيم
أن اسم جد معن بن يزيد ثور فترجموا في كتبهم بثور وساقوا حديث الباب من طريق
الجراح والد وكيع عن أبي الجويرية عن معن بن يزيد بن ثور السلمي أخرجه مطين عن
سفيان بن وكيع عن أبيه عن جده، ورواه البارودي والطبراني عن مطين، ورواه ابن منده
عن البارودي، وأبو نعيم عن الطبراني، وجمهور الرواة عن أبي الجويرية لم يسموا جد
معن بل تفرد سفيان بن وكيع بذلك وهو ضعيف، وأظنه كان فيه عن معن بن يزيد أبي ثور
السلمي فتصحفت أداة الكنية بابن، فإن معنا كان يكنى أبا ثور، فقد ذكر خليفة بن
خياط في تاريخه أن معن بن يزيد وابنه ثورا قتلا يوم مرج راهط مع الضحاك بن قيس.
وجمع ابن حبان بين القولين بوجه آخر فقال في
(3/291)
"الصحابة": ثور السلمي جد معن بن يزيد بن الأخنس السلمي لأمه. فإن كان ضبطه فقد زال الإشكال والله أعلم. وروي عن يزيد بن أبي حبيب أن معن بن يزيد شهد بدرا هو وأبوه وجده ولم يتابع على ذلك. فقد روى أحمد والطبراني من طريق صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن يزيد بن الأخنس السلمي أنه أسلم فأسلم معه جميع أهله إلا امرأة واحدة أبت أن تسلم فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" فهذا دال على أن إسلامه كان متأخرا لأن الآية متأخرة الإنزال عن بدر قطعا. وقد فرق البغوي وغيره في الصحابة بين يزيد بن الأخنس وبين يزيد والد معن، والجمهور على أنه هو. قوله: "وخطب علي فأنكحني" أي طلب لي النكاح فأجيب، يقال خطب المرأة إلى وليها إذا أرادها الخاطب لنفسه، وعلى فلان إذا أرادها لغيره، والفاعل النبي صلى الله عليه وسلم لأن مقصود الراوي بيان أنواع علاقاته به من المبايعة وغيرها. ولم أقف على اسم المخطوبة، ولو ورد أنها ولدت منه لضاهى بيت الصديق في الصحبة من جهة كونهم أربعة في نسق، وقد وقع ذلك لأسامة بن زيد بن حارثة فروى الحاكم في "المستدرك" أن حارثة قدم فأسلم، وذكر الواقدي في المغازي أن أسامة ولد له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تتبعت نظائر لذلك أكثرها فيه مقال ذكرتها في "النكت على علوم الحديث لابن الصلاح". قوله: "وكان أبي يزيد" بالرفع على البدلية. قوله: "فوضعها عند رجل" لم أقف على اسمه، وفي السياق حذف تقديره وأذن له أن يتصدق بها على محتاج إليها إذنا مطلقا. قوله: "فجئت فأخذتها" أي من المأذون له في التصدق بها بإذنه لا بطريق الاعتداء، ووقع عند البيهقي من طريق أبي حمزة السكري عن أبي الجويرية في هذا الحديث: "قلت ما كانت خصومتك؟ قال: كان رجل يغشى المسجد فيتصدق على رجال يعرفهم، فظن أني بعض من يعرف" فذكر الحديث. قوله: "فأتيته" الضمير لأبيه أي فأتيت أبي بالدنانير المذكورة. قوله: "والله ما إياك أردت" يعني لو أردت أنك تأخذها لناولتها لك ولم أوكل فيها، أو كأنه كان يرى أن الصدقة على الولد لا تجزئ، أو يرى أن الصدقة على الأجنبي أفضل. قوله: "فخاصمته" تفسير لقوله أولا "وخاصمت إليه". قوله: "لك ما نويت" أي إنك نويت أن تتصدق بها على من يحتاج إليها وابنك يحتاج إليها فوقعت الموقع، وإن كان لم يخطر ببالك أنه يأخذها. قوله: "ولك ما أخذت يا معن" أي لأنك أخذتها محتاجا إليها. قال ابن رشيد: الظاهر أنه لم يرد بقوله: "والله ما إياك أردت" أي إني أخرجتك بنيتي، وإنما أطلقت لمن تجزئ عني الصدقة عليه ولم تخطر أنت ببالي، فأمضى النبي صلى الله عليه وسلم الإطلاق لأنه فوض للوكيل بلفظ مطلق فنفذ فعله. وفيه دليل على العمل بالمطلقات على إطلاقها وإن احتمل أن المطلق لو خطر بباله فرد من الأفراد لقيد اللفظ به والله أعلم. واستدل به على جواز دفع الصدقة إلى كل أصل وفرع ولو كان ممن تلزمه نفقته، 0 ولا حجة فيه لأنها واقعة حال فاحتمل أن يكون معن كان مستقلا لا يلزم أباه يزيد نفقته، وسيأتي الكلام على هذه المسألة مبسوطا في "باب الزكاة على الزوج" بعد ثلاثين بابا إن شاء الله تعالى. وفيه جواز الافتخار بالمواهب الربانية والتحدث بنعم الله. وفيه جواز التحاكم بين الأب والابن وأن ذلك بمجرده لا يكون عقوقا. وجواز الاستخلاف في الصدقة ولا سيما صدقة التطوع لأن فيه نوع إسرار. وفيه أن للتصدق أجر ما نواه سواء صادف المستحق أو لا. وأن الأب لا رجوع له في الصدقة على ولده بخلاف الهبة. والله أعلم.
(3/292)
16 - باب الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ
1423 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ
حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ
(3/292)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَبْعَةٌ
يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ
إِمَامٌ عَدْلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ
مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا
عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ
وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ
فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ
ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"
1424 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي
مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ " تَصَدَّقُوا فَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ
بِصَدَقَتِهِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأَمْسِ لقَبِلْتُهَا
مِنْكَ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلاَ حَاجَةَ لِي فِيهَا"
قوله: "باب الصدقة باليمين" أي حكم، أو "باب" بالتنوين والتقدير
أي فاضلة أو يرغب فيها. حديث أبي هريرة "سبعة يظلهم الله في ظله "وفي
قوله: " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " وقد تقدم الكلام عليه مستوفى
كما بينته قريبا. حديث حارثة بن وهب تقدم في "باب الصدقة قبل الرد"
وفيه: "يمشي الرجل بصدقته فيقول الرجل: لو جئت بها أمس لقبلتها منك" قال
ابن رشيد: مطابقة الحديث للترجمة من جهة أنه اشترك مع الذي قبله في كون كل منهما
حاملا لصدقته، لأنه إذا كان حاملا لها بنفسه كان أخفى لها، فكان في معنى " لا
تعلم شماله ما تنفق يمينه" .
ويحمل المطلق في هذا على المقيد في هذا أي المناولة باليمين، قال: ويقوي أن ذلك
مقصده إتباعه بالترجمة التي بعدها حيث قال: "من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول
بنفسه" وكأنه قصد في هذا من حملها بنفسه.
(3/293)
17 - باب مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ
بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ"
1425 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن شقيق عن مسروق عن عائشة
رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أنفقت المرأة من
طعام مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص
بعضهم أجر بعض شيئا"
[الحديث 1425 – أطرافه في: 1439, 1440, 1441, 2065]
قوله: "باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه" قال الزين بن المنير:
فائدة قوله: "ولم يناول نفسه" التنبيه على أن ذلك مما يغتفر، وأن قوله
في الباب قبله "الصدقة باليمين" لا يلزم منه المنع من إعطائها بيد الغير
وإن كانت المباشرة أولى. قوله: "وقال أبو موسى" هو الأشعري قوله:
"هو أحد المتصدقين " ضبط في جميع روايات الصحيحين بفتح القاف على
التثنية، قال القرطبي: ويجوز الكسر على الجمع أي هو متصدق من المتصدقين. وهذا
التعليق طرف من حديث وصله بعد ستة أبواب بلفظ: "الخازن" والخازن خادم
المالك في الخزن وإن لم يكن خادمه
(3/293)
حقيقة. ثم أورد المصنف هنا حديث عائشة "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها" الحديث. قال ابن رشيد: نبه بالترجمة على أن هذا الحديث مفسر بها، لأن كلا من الخازن والخادم والمرأة أمين ليس له أن يتصرف إلا بإذن المالك نصا أو عرفا إجمالا أو تفضيلا انتهى. وسيأتي البحث في ذلك بعد سبعة أبواب.
(3/294)
18 - باب لاَ صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ
ظَهْرِ غِنًى. وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ أَوْ
عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ
وَالْهِبَةِ وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ
إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ" إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا
بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ كَفِعْلِ
أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَكَذَلِكَ آثَرَ
الأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ
النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ
مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ
فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ "
1426 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى
وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ"
[الحديث 1426 – أطرافه في: 1428, 5355, 5356]
1427 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا
هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْيَدُ الْعُلْيَا
خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ
عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ
يُغْنِهِ اللَّهُ"
1428 - وَعَنْ وُهَيْبٍ قَالَ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِهَذَا
1429 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ
وَالْمَسْأَلَةَ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى فَالْيَدُ
الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ"
قوله: "باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى" أورد في الباب حديث أبي هريرة بلفظ:
"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وهو مشعر بأن النفي في اللفظ الأول
للكمال لا للحقيقة، فالحقيقة لا صدقة كاملة إلا عن ظهر غنى، وقد أورده أحمد من
طريق أبي صالح بلفظ: "إنما الصدقة ما كان عن ظهر غنى "وهو أقرب إلى لفظ
الترجمة.
وأخرجه أيضا من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة بلفظ الترجمة قال:
"لا صدقة إلا عن ظهر غنى" الحديث.
(3/294)
وكذا ذكره المصنف تعليقا في الوصايا، وساقه مغلطا بإسناد له إلى أبي هريرة بلفظه، وليس هو باللفظ المذكور في الكتاب الذي ساقه منه، فلا يغتر به ولا بمن تبعه على ذلك. قوله: "ومن تصدق وهو محتاج إلى آخر الترجمة" كأنه أراد تفسير الحديث المذكور بأن شرط المتصدق أن لا يكون محتاجا لنفسه أو لمن تلزمه نفقته. ويلتحق بالتصدق سائر التبرعات. وأما قوله: "فهو رد عليه" فمقتضاه أن ذا الدين المستغرق لا يصح منه التبرع، لكن محل هذا عند الفقهاء إذا حجر عليه الحاكم بالفلس، وقد نقل فيه صاحب "المغني" وغيره الإجماع، فيحمل إطلاق المصنف عليه. واستدل له المصنف بالأحاديث التي علقها. وأما قوله: "إلا أن يكون معروفا بالصبر" فهو من كلام المصنف، وكلام ابن التين يوهم أنه بقية الحديث فلا يغتر به، وكأن المصنف أراد أن يخص به عموم الحديث الأول. والظاهر أنه يختص بالمحتاج، ويحتمل أن يكون عاما ويكون التقدير إلا أن يكون كل من المحتاج أو من تلزمه النفقة أو صاحب الدين معروفا بالصبر. ويقوي الأول التمثيل الذي مثل به من فعل أبي بكر والأنصار، قال ابن بطال: أجمعوا على أن المديان لا يجوز له أن يتصدق بماله ويترك قضاء الدين، فتعين حمل ذلك على المحتاج. وحكى ابن رشيد عن بعضهم أنه يتصور في المديان فيما إذا عامله الغرماء على أن يأكل من المال فلو آثر بقوته وكان صبورا جاز له ذلك وإلا كان إيثاره سببا في أن يرجع لاحتياجه فيأكل فيتلف أموالهم فيمنع. وإذا تقرر ذلك فقد اشتملت الترجمة على خمسة أحاديث معلقة، وفي الباب أربعة أحاديث موصولة. فأما المعلقة فأولها قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أخذ أموال الناس" وهو طرف من حديث لأبي هريرة موصول عنده في الاستقراض. ثانيها قوله: "كفعل أبي بكر حين تصدق بماله" هذا مشهور في السير، وورد في حديث مرفوع أخرجه أبو داود وصححه الترمذي والحاكم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه سمعت عمر يقول: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله" الحديث تفرد به هشام بن سعد عن زيد، وهشام صدوق فيه مقال من جهة حفظه. قال الطبري وغيره: قال الجمهور من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دين عليه وكان صبورا على الإضاقة ولا عيال له أو له عيال يصبرون أيضا فهو جائز، فإن فقد شيء من هذه الشروط كره. وقال بعضهم: هو مردود. وروي عن عمر حيث رد على غيلان الثقفي قسمة ماله. ويمكن أن يحتج له بقصة المدبر الآتي ذكره، فإنه صلى الله عليه وسلم باعه وأرسل ثمنه إلى الذي دبره لكونه كان محتاجا. وقال آخرون: يجوز من الثلث ويرد عليه الثلثان، وهو قول الأوزاعي ومكحول. وعن مكحول أيضا يرد ما زاد على النصف. قال الطبري: والصواب عندنا الأول من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث جمعا بين قصة أبي بكر وحديث كعب والله أعلم. ثالثها قوله: "وكذلك آثر الأنصار المهاجرين" هو مشهور أيضا في السير، وفيه أحاديث مرفوعة: منها حديث أنس "قدم المهاجرون المدينة وليس بأيديهم شيء، فقاسمهم الأنصار". وسيأتي موصولا في الهبة. وحديث أبي هريرة في قصة الأنصاري الذي آثر ضيفه بعشائه وعشاء أهله، وسيأتي موصولا في تفسير سورة الحشر. رابعها قوله: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال" هو طرف من حديث المغيرة، وقد تقدم بتمامه في آخر صفة الصلاة. خامسها قوله: "وقال كعب" يعني ابن مالك إلخ، وهو طرف من حديثه الطويل في قصة توبته وسيأتي بتمامه في تفسير سورة التوبة. حديث أبي هريرة "خير
(3/295)
الصدقة ما كان عن ظهر غنى" فعبد
الله المذكور في الإسناد هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد. ومعنى الحديث أفضل
الصدقة ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه أو لمن تلزمه نفقته. قال
الخطابي: لفظ الظهر يرد في مثل هذا إشباعا للكلام، والمعنى أفضل الصدقة ما أخرجه
الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده وابدأ بمن تعول.
وقال البغوي: المراد غني يستظهر به على النوائب التي تنوبه. ونحوه قولهم ركب متن
السلامة. والتنكير في قوله: "غنى" للتعظيم، هذا هو المعتمد في معنى الحديث.
وقيل: المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة، وقيل "عن"
للسببية والظهر زائد، أي خير الصدقة ما كان سببها غنى في المتصدق. وقال النووي:
مذهبنا أن التصدق بجميع المال مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون، ويكون
هو ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم يجمع هذه الشروط فهو مكروه. وقال القرطبي
في "المفهم" : يرد على تأويل الخطابي بالآيات والأحاديث الواردة في فضل
المؤثرين على أنفسهم، ومنها حديث أبي ذر "فضل الصدقة جهد من مقل"
والمختار أن معنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال بحيث
لا يصير المتصدق محتاجا بعد صدقته إلى أحد، فمعنى الغنى في هذا الحديث حصول ما
تدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة،
والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله فلا يجوز الإيثار به بل
يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره به أدى إلى إهلاك نفسه أو الإضرار بها أو كشف عورته،
فمراعاة حقه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار وكانت صدقته هي
الأفضل لأجل ما يتحمل من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع التعارض بين الأدلة إن
شاء الله. قوله: "وابدأ بمن تعول" فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها
منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم، وسيأتي شرحه في النفقات إن شاء الله تعالى. حديث
حكيم بن حزام " اليد العليا خير من اليد السفلى" الحديث، وشاهد الترجمة
منه قوله فيه: "وخير الصدقة عن ظهر غنى" وهشام المذكور في الإسناد هو ابن
عروة بن الزبير، وقوله فيه: "ومن يستعف يعفه الله" يأتي الكلام عليه في
حديث أبي سعيد بعد أبواب. ثالثها حديث أبي هريرة قال: "بهذا "أي بحديث
حكيم، أورده معطوفا على إسناد حديث حكيم بلفظ: "وعن وهيب" والظاهر أنه
حمله عن موسى بن إسماعيل عنه بالطريقين معا، وكأن هشاما حدث به وهيبا تارة عن أبيه
عن حكيم وتارة عن أبيه عن أبي هريرة، أو حدثه به عنهما مجموعا ففرقه وهيب أو
الراوي عنه. وقد وصل حديث أبي هريرة من طريق وهيب الإسماعيلي قال: "أخبرني
ابن ياسين حدثنا محمد بن سفيان حدثنا حبان - هو ابن هلال - حدثنا وهيب حدثنا هشام
بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة قال" مثل حديث حكيم. حديث ابن عمر من وجهين في
ذكر اليد العليا، وإنما أورده ليفسر به ما أجمل في حديث حكيم، قال ابن رشيد: والذي
يظهر أن حديث حكيم بن حزام لما اشتمل على شيئين: حديث: "اليد العليا"
وحديث: " لا صدقة إلا عن ظهر غنى" ذكر معه حديث ابن عمر المشتمل على
الشيء الأول تكثيرا لطرقه. ويحتمل أن يكون مناسبة حديث: "اليد العليا"
للترجمة من جهة أن إطلاق كون اليد العليا هي المنفقة، محله ما إذا كان الإنفاق لا
يمنع منه بالشرع كالمديان المحجور عليه، فعمومه مخصوص بقوله: "لا صدقة إلا عن
ظهر غنى" والله أعلم.
" تنبيه ": لم يسق البخاري متن طريق حماد عن أيوب، وعطف عليه طريق مالك،
فربما أوهم أنهما سواء، وليس كذلك لما سنذكره عن أبي داود. وقال ابن عبد البر في
"التمهيد": لم تختلف الرواة عن مالك أي في سياقه، كذا قال وفيه
(3/296)
نظر كما سيأتي. وقال القرطبي: وقع تفسير اليد العليا والسفلى في حديث ابن عمر هذا، وهو نص يرفع الخلاف ويدفع تعسف من تعسف في تأويله ذلك انتهى. لكن ادعى أبو العباس الداني في "أطراف الموطأ "أن التفسير المذكور مدرج في الحديث، ولم يذكر مستندا لذلك. ثم وجدت في "كتاب العسكري في الصحابة" بإسناد له فيه انقطاع عن ابن عمر أنه كتب إلى بشر بن مروان "إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اليد العليا خير من اليد السفلى" ، ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة، ولا العليا إلا المعطية "فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "كنا نتحدث أن العليا هي المنفقة". قوله: "وذكر الصدقة والتعفف والمسألة" كذا للبخاري بالواو قبل المسألة. وفي رواية مسلم عن قتيبة عن مالك "والتعفف عن المسألة" ولأبي داود "والتعفف منها" أي من أخذ الصدقة، والمعنى أنه كان يحض الغني على الصدقة والفقير على التعفف عن المسألة أو يحضه على التعفف ويذم المسألة. قوله: "فاليد العليا هي المنفقة" قال أبو داود قال الأكثر عن حماد بن زيد: المنفقة. وقال واحد عنه: المتعففة، وكذا قال عبد الوارث عن أيوب انتهى. فأما الذي قال عن حماد المتعففة بالعين وفاءين فهو مسدد، كذلك رويناه عنه في مسنده رواية معاذ بن المثنى عنه، ومن طريقه أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"، وقد تابعه على ذلك أبو الربيع الزهراني كما رويناه في "كتاب الزكاة ليوسف بن يعقوب القاضي "حدثنا أبو الربيع. وأما رواية عبد الوارث فلم أقف عليها موصولة. وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق سليمان بن حرب عن حماد بلفظ: "واليد العليا يد المعطي" وهذا يدل على أن من رواه عن نافع بلفظ: "المتعففة" فقد صحف. قال ابن عبد البر: ورواه موسى بن عقبة عن نافع فاختلف عليه أيضا، فقال حفص بن ميسرة عنه "المنفقة" كما قال مالك. قلت: وكذلك قال فضيل بن سليمان عنه أخرجه ابن حبان من طريقه قال: ورواه إبراهيم بن طهمان عن موسى فقال: "المنفقة" قال ابن عبد البر: رواية مالك أولى وأشبه بالأصول. ويؤيده حديث طارق المحاربي عند النسائي قال: "قدمنا المدينة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: " يد المعطي العليا" انتهى. ولابن أبي شيبة والبزار من طريق ثعلبة بن زهدم مثله، وللطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن حزام مرفوعا: "يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي" وللطبراني من حديث عدي الجذامي مرفوعا مثله، ولأبي داود وابن خزيمة من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك عن أبيه مرفوعا: "الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى" ولأحمد والبزار من حديث عطية السعدي "اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى" فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور. وقيل اليد السفلى الآخذة سواء كان بسؤال أم بغير سؤال، وهذا أباه قوم واستندوا إلى أن الصدقة تقع في يد الله قبل يد المتصدق عليه. قال ابن العربي: التحقيق أن السفلى يد السائل، وأما يد الآخذ فلا، لأن يد الله هي المعطية ويد الله هي الآخذة وكلتاهما عليا وكلتاهما يمين انتهى. وفيه نظر لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين، وأما يد الله تعالى فباعتبار كونه مالك كل شيء نسبت يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ ويده العليا على كل حال، وأما يد الآدمي فهي أربعة: يد المعطي، وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا. ثانيها يد السائل، وقد تضافرت بأنها سفلى سواء أخذت أم لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالبا وللمقابلة بين العلو والسفل المشتق منهما. ثالثها يد
(3/297)
المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلا، وهذه توصف بكونها عليا علوا معنويا. رابعها يد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختلف فيها فذهب جمع إلى أنها سفلى، وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، وأما المعنوي فلا يطرد فقد تكون عليا في بعض الصور، وعليه يحمل كلام من أطلق كونها عليا. قال ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة لا الآخذة بغير سؤال، إذ محال أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل باستعماله، دون من فرض عليه إتيان شيء فأتى به أو تقرب إلى ربه متنفلا، فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل وأورع من الذي يعطي انتهى. وعن الحسن البصري: اليد العليا المعطية والسفلى المانعة ولم يوافق عليه. وأطلق آخرون من المتصوفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقا، وقد حكى ابن قتيبة في "غريب الحديث": ذلك عن قوم ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قوما استطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى من فوق هو الذي كان رقيقا فأعتق والمولى من أسفل هو السيد الذي أعتقه انتهى. وقرأت في "مطلع الفوائد" للعلامة جمال الدين بن نباتة في تأويل الحديث المذكور معنى آخر فقال: اليد هنا هي النعمة، وكأن المعنى أن العطية الجزيلة خير من العطية القليلة. قال: وهذا حث على المكارم بأوجز لفظ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله: "ما أبقت غنى" أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله كمن أراد أن يتصدق بألف فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى، بخلاف ما لو أعطاها لرجل واحد. قال: وهو أولى من حمل اليد على الجارحة، لأن ذلك لا يستمر إذ فيمن يأخذ من هو خير عند الله ممن يعطي. قلت: التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق. وقد روى إسحاق في مسنده من طريق عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير "أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله، ما اليد العليا؟ قال: التي تعطي ولا تأخذ" فقوله: "ولا تأخذ" صريح في أن الآخذة ليست بعليا والله أعلم. وكل هذه التأويلات المتعسفة تضمحل عند الأحاديث المتقدمة المصرحة بالمراد، فأولى ما فسر الحديث بالحديث، ومحصل ما في الآثار المتقدمة أن أعلى الأيدي المنفقة، ثم المتعففة عن الآخذ، ثم الآخذة بغير سؤال. وأسفل الأيدي السائلة والمانعة والله أعلم. قال ابن عبد البر: وفي الحديث إباحة الكلام للخطيب بكل ما يصلح من موعظة وعلم وقربة. وفيه الحث على الإنفاق في وجوه الطاعة. وفيه تفضيل الغنى مع القيام بحقوقه على الفقر، لأن العطاء إنما يكون مع الغنى، وقد تقدم الخلاف في ذلك في حديث: "ذهب أهل الدثور" في أواخر صفة الصلاة. وفيه كراهة السؤال والتنفير عنه، ومحله إذا لم تدع إليه ضرورة من خوف هلاك ونحوه. وقد روى الطبراني من حديث ابن عمر بإسناد فيه مقال مرفوعا: "ما المعطي من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجا" وسيأتي حديث حكيم مطولا في "باب الاستعفاف عن المسألة" وفيه بيان سببه إن شاء الله تعالى.
(3/298)
19 - باب الْمَنَّانِ بِمَا أَعْطَى
لِقَوْلِهِ: [262 البقرة]
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ
مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى} الآيَةَ
قوله: "باب المنان بما أعطى، لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً
وَلا أَذىً} الآية" هذه الترجمة ثبتت في رواية الكشميهني وحده بغير حديث،
وكأنه أشار إلى ما رواه مسلم من حديث أبي ذر مرفوعا: "ثلاثة لا يكلمهم الله
يوم القيامة المنان الذي لا يعطي شيئا إلا من به" الحديث، ولما لم يكن على
شرطه
(3/298)
اقتصر على الإشارة إليه. ومناسبة الآية للترجمة واضحة من جهة أن النفقة في سبيل الله لما كان المان بها مذموما كان ذم المعطي في غيرها من باب الأولى. قال القرطبي: المن غالبا يقع من البخيل والمعجب، فالبخيل تعظم في نفسه العطية وإن كانت حقيرة في نفسها، والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة وأنه منعم بماله على المعطي وإن كان أفضل منه في نفس الأمر، وموجب ذلك كله الجهل ونسيان نعمة الله فيما أنعم به عليه، ولو نظر مصيره لعلم أن المنة للآخذ لما يترتب له من الفوائد.
(3/299)
20 - باب مَنْ أَحَبَّ تَعْجِيلَ
الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا
1430 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ
" صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ
فَأَسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فَقُلْتُ أَوْ
قِيلَ لَهُ فَقَالَ كُنْتُ خَلَّفْتُ فِي الْبَيْتِ تِبْرًا مِنْ الصَّدَقَةِ
فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ"
قوله: "باب من أحب تعجيل الصدقة من يومها" ذكر فيه حديث عقبة بن الحارث
"صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع، ثم دخل البيت" الحديث
وفيه: "كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة فكرهت أن أبيته فقسمته" قال
ابن بطال: فيه أن الخير ينبغي أن يبادر به، فإن الآفات تعرض والموانع تمنع والموت
لا يؤمن والتسويف غير محمود، زاد غيره: وهو أخلص للذمة وأنفى للحاجة وأبعد من
المطل المذموم وأرضى للرب وأمحى للذنب. وقد تقدمت بقية فوائده في أواخر صفة
الصلاة. وقال الزين بن المنير: ترجم المصنف بالاستحباب وكان يمكن أن يقول كراهة
تبييت الصدقة لأن الكراهة صريحة في الخبر، واستحباب التعجيل مستنبط من قرائن سياق
الخبر حيث أسرع في الدخول والقسمة، فجرى على عادته في إيثار الأخفى على الأجلى.
قوله: "أن أبيته" أي أتركه حتى يدخل عليه الليل، يقال بات الرجل دخل في
الليل، وبيته تركه حتى دخل الليل.
(3/299)
21 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى
الصَّدَقَةِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا
1431 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَدِيٌّ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ "خَرَجَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ
لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ ثُمَّ مَالَ عَلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلاَلٌ
فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي
الْقُلْبَ وَالْخُرْصَ"
1432 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ حَدَّثَنَا
أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَهُ
السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي
اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ"
[الحديث 1432 – أطرافه في: 6027, 6028, 7476]
1433 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ
عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
(3/299)
22 - باب الصَّدَقَةِ فِيمَا
اسْتَطَاعَ
1434 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ:
أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ " لاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ ارْضَخِي مَا
اسْتَطَعْتِ"
قوله: "باب الصدقة فيما استطاع" أورد فيه حديث أسماء المذكور من وجه آخر
عنها من وجهين، وساقه هنا على لفظ حجاج بن محمد لخلو طريق أبي عاصم من التقييد
بالاستطاعة، وسيأتي في الهبة بلفظ أبي عاصم وسياقه أتم. قوله: "ارضخي"
بكسر الهمزة من الرضخ بمعجمتين وهو العطاء اليسير، فالمعنى أنفقي بغير إجحاف ما
دمت قادرة مستطيعة.
(3/301)
23 - باب الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ
الْخَطِيئَةَ
1435 - حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه قال
"قال عمر رضي الله عنه ثم أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الفتنة قال قلت أنا أحفظه كما قال: قال إنك عليه لجريء فكيف قال قلت " فتنة
الرجل في أهله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والمعروف" - قال سليمان قد
كان يقول الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - قال: ليس هذه أريد
ولكني أريد التي تموج كموج البحر. قال: قلت ليس عليك بها يا أمير المؤمنين بأس
بينك وبينها باب مغلق قال: فيكسر الباب أو يفتح قال قلت: لا, بل يكسر قال: فإنه
إذا كسر لم يغلق أبدا قال قلت: أجل فهبنا أن نسأله من الباب فقلنا لمسروق سله قال
فسأله فقال: عمر رضي الله عنه قال قلنا: فعلم عمر من تعني قال نعم كما أن دون غد
ليلة وذلك أني حدثته حديثا ليس بالأغاليط"
قوله: "باب الصدقة تكفر الخطيئة" أورد فيه حديث حذيفة "فتنة الرجل
في أهله وولده تكفرها الصلاة والصدقة" الحديث، وقد تقدم في باب الصلاة،
وسيأتي الكلام عليه مبسوطا في علامات النبوة إن شاء الله تعالى.
(3/301)
24 - باب مَنْ تَصَدَّقَ فِي الشِّرْكِ
ثُمَّ أَسْلَمَ
1436 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ
كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ
وَصِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسلمتَ
على ما سَلفَ مِن خيرٍ"
[الحديث 1436 – أطرافه في: 2220, 2538, 5992]
قوله: "باب من تصدق في الشرك ثم أسلم" أي هل يعتد له بثواب ذلك أو لا؟
قال الزين بن المنير: لم يبت الحكم
(3/301)
26 - باب أَجْرِ الْخَادِمِ إِذَا
تَصَدَّقَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ غَيْرَ مُفْسِدٍ
1437 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَعْمَشِ
عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِذَا تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ
مِنْ طَعَامِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلِزَوْجِهَا
بِمَا كَسَبَ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِك"
1438 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ
بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَازِنُ
الْمُسْلِمُ الأَمِينُ الَّذِي يُنْفِذُ وَرُبَّمَا قَالَ يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ
كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبًا بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ
لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ"
[الحديث 1439 – طرفاه في: 2260, 2319]
(3/302)
قوله: "باب أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد" قال ابن العربي: اختلف السلف فيما إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها، فمنهم من أجازه لكن في الشيء اليسير الذي لا يؤبه له ولا يظهر به النقصان. ومنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج ولو بطريق الإجمال، وهو اختيار البخاري، ولذلك قيد الترجمة بالأمر به. ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على العادة، وأما التقييد بغير الإفساد فمتفق عليه. ومنهم من قال: المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه، وليس ذلك بأن يفتئتوا على رب البيت بالإنفاق على الفقراء بغير إذن، ومنهم من فرق بين المرأة والخادم فقال: المرأة لها حق في مال الزوج والنظر في بيتها فجاز لها أن تتصدق، بخلاف الخادم فليس له تصرف في متاع مولاه فيشترط الإذن فيه. وهو متعقب بأن المرأة إذا استوفت حقها فتصدقت منه فقد تخصصت به، وإن تصدقت من غير حقها رجعت المسألة كما كانت والله أعلم. حديث عائشة وسيأتي في الباب الذي بعده. حديث أبي موسى، وقد قيد الخازن فيه بكونه مسلما فأخرج الكافر لأنه لا نية له، وبكونه أمينا فأخرج الخائن لأنه مأزور. ورتب الأجر على إعطائه ما يؤمر به غير ناقص لكونه خائنا أيضا، وبكون نفسه بذلك طيبة لئلا يعدم النية فيفقد الأجر وهي قيود لا بد منها. قوله: "الذي ينفذ" بفاء مكسورة مثقلة ومخففة.
(3/303)
26 - باب أَجْرِ الْمَرْأَةِ إِذَا
تَصَدَّقَتْ أَوْ أَطْعَمَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ
1439 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ وَالأَعْمَشُ
عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْنِي إِذَا تَصَدَّقَتْ
الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا
1440 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ
عَنْ شَقِيقٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَطْعَمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ
زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلَهُ مِثْلُهُ وَلِلْخَازِنِ
مِثْلُ ذَلِكَ, لَهُ بِمَا اكْتَسَبَ وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ"
1441 - حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا جرير عن منصور عن شقيق عن مسروق عن عائشة رضي
الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أنفقت المرأة من طعام مفسدة
فلها أجرها وللزوج بما اكتسب وللخازن مثل ذلك"
قوله: "باب أجر المرأة إذا تصدقت أو أطعمت من بيت زوجها غير مفسدة" قد
تقدمت مباحثه في الذي قبله، ولم يقيده بالأمر كما قيد الذي قبله فقيل: إنه فرق بين
المراة والخادم بأن المرأة لها أن تتصرف في بيت زوجها بما ليس فيه إفساد للرضا
بذلك في الغالب، بخلاف الخادم الخازن. ويدل على ذلك ما رواه المصنف من حديث همام
عن أبي هريرة بلفظ: "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فلها نصف أجره"
وسيأتي في البيوع وأورد فيه المصنف حديث عائشة المذكور من ثلاثة طرق تدور على أبي
وائل شقيق بن سلمة عن مسروق عنها: أولها شعبة عن منصور والأعمش عنه ولم يسق لفظه
بتمامه، ثانيها حفص بن غياث عن الأعمش وحده. ثالثها
(3/303)
جرير عن منصور وحده، ولفظ الأعمش " إذا أطعمت المرأة من بيت زوجها" ولفظ منصور " إذا أنفقت من طعام بيتها " وقد أورده الإسماعيلي من حديث شعبة ولفظه: "إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها كتب لها أجر ولزوجها مثل ذلك وللخازن مثل ذلك لا ينقص كل واحد منهم من أجر صاحبه شيئا، للزوج بما اكتسب ولها بما أنفقت غير مفسدة" ولشعبة فيه إسناد آخر أورده الإسماعيلي أيضا من روايته عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن عائشة ليس فيه مسروق وقد أخرجه الترمذي بالإسنادين وقال: إن رواية منصور والأعمش بذكر مسروق فيه أصح. قوله: "وله مثله" أي مثل أجرها "وللخازن مثل ذلك" أي بالشروط المذكورة في حديث أبي موسى، وظاهره يقتضي تساويهم في الأجر، ويحتمل أن يكون المراد بالمثل حصول الأجر في الجملة وإن كان أجر الكاسب أوفر، لكن التعبير في حديث أبي هريرة الذي ذكرته بقوله: " فلها نصف أجره" يشعر بالتساوي، وقد سبق قبل بستة أبواب من طريق جرير أيضا وزاد في آخره: "لا ينقص بعضهم أجر بعض" والمراد عدم المساهمة والمزاحمة في الأجر، ويحتمل أن يراد مساواة بعضهم بعضا والله أعلم. وفي الحديث فضل الأمانة، وسخاوة النفس، وطيب النفس في فعل الخير، والإعانة على فعل الخير.
(3/304)
27 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [5
الليل]: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرَى}
اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقَ مَالٍ خَلَفًا
1442 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ
مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ عَنْ أَبِي الْحُبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
" مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ
فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ
اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"
قوله: "باب قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية"
قال الزين بن المنير: أدخل هذه الترجمة بين أبواب الترغيب في الصدقة ليفهم أن
المقصود الخاص بها الترغيب في الإنفاق في وجوه البر، وإن ذلك موعود عليه بالخلف في
العاجل زيادة على الثواب الأجل. قوله: "اللهم أعط منفق مال خلفا" قال
الكرماني: هو معطوف على الآية وحذف أداة العطف كثير، وهو مذكور على سبيل البيان
للحسنى، أي تيسير الحسنى له إعطاء الخلف. قلت: قد أخرج الطبري من طرق متعددة عن
ابن عباس في هذه الآية قال: أعطى مما عنده واتقى ربه وصدق بالخلف من الله تعالى.
ثم حكى عن غيره أقوالا أخرى قال: وأشبهها بالصواب قول ابن عباس. والذي يظهر لي أن
البخاري أشار بذلك إلى سبب نزول الآية المذكورة، وهو بين فيما أخرجه ابن أبي حاتم
من طريق قتادة "حدثني خالد العصري عن أبي الدرداء مرفوعا" نحو حديث أبي
هريرة المذكور في الباب، وزاد في آخره: فأنزل الله في ذلك {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى
وَاتَّقَى - إلى قوله – لِلْعُسْرَى} وهو عند أحمد من هذا الوجه، لكن ليس فيه آخره.
قوله: "منفق مال" بالإضافة ولبعضهم "منفقا مالا خلفا" ومالا
مفعول منفق بدليل رواية الإضافة ولولاها احتمل أن يكون مفعول أعطى، والأول أولى من
جهة أخرى وهي أن سياق الحديث للحض على إنفاق المال فناسب أن
(3/304)
يكون مفعول منفق، وأما الخلف فإبهامه أولى ليتناول المال والثواب: وغيرهما، وكم من متق مات قبل أن يقع له الخلف المالي فيكون خلفة الثواب المعد له في الآخرة، أو يدفع عنه من السوء ما يقابل ذلك. قوله: "حدثنا إسماعيل حدثني أخي" هو أبو بكر بن أبي أويس، وسليمان هو ابن بلال، وأبو الحباب بضم المهملة وموحدتين الأولى خفيفة وسماه مسلم في روايته سعيد بن يسار وهو عم معاوية الراوي عنه، ومزرد بضم الميم وفتح الزاي وتشديد الراء الثقيلة واسم أبي مزرد عبد الرحمن، وهذا الإسناد كله مدنيون. قوله: "ما من يوم" في حديث أبي الدرداء "م ا من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم، إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا غربت شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان" فذكر مثل حديث أبي هريرة. قوله: "إلا ملكا" في حديث أبي الدرداء "إلا وبجنبتيها ملكان" والجنبة بسكون النون الناحية، وقوله: "خلفا" أي عوضا. قوله: "أعط ممسكا تلفا" التعبير بالعطية في هذه للمشاكلة، لأن التلف ليس بعطية. وأفاد حديث أبي هريرة أن الكلام المذكور موزع بينهما، فنسب إليهما في حديث أبي الدرداء نسبة المجموع إلى المجموع، وتضمنت الآية الوعد بالتيسير لمن ينفق في وجوه البر، والوعيد بالتعسير لعكسه. والتيسير المذكور أعم من أن يكون لأحوال الدنيا أو لأحوال الآخرة، وكذا دعاء الملك بالخلف يحتمل الأمرين، وأما الدعاء بالتلف فيحتمل تلف ذلك المال بعينه أو تلف نفس صاحب المال، والمراد به فوات أعمال البر بالتشاغل بغيرها. قال النووي: الإنفاق الممدوح ما كان في الطاعات وعلى العيال والضيفان والتطوعات. وقال القرطبي: وهو يعم الواجبات والمندوبات، لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق هذا الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في قوله في حديث أبي موسى "طيبة بها نفسه" والله أعلم.
(3/305)
28 - باب مَثَلِ الْمُتَصَدِّقِ
وَالْبَخِيلِ
1443 - حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال: النبي صلى الله
عليه وسلم " مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ
عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ"
و حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ
أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: " مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا
جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا فَأَمَّا
الْمُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ إِلاَّ سَبَغَتْ أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى
تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلاَ يُرِيدُ أَنْ
يُنْفِقَ شَيْئًا إِلاَّ لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهُوَ يُوَسِّعُهَا
وَلاَ تَتَّسِعُ"
تَابَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ فِي الْجُبَّتَيْنِ
[الحديث 1443 - أطرافه في: 1444, 2917, 5299, 5797]
1444 - وَقَالَ حَنْظَلَةُ عَنْ طَاوُسٍ "جُنَّتَانِ"
وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ عَنْ ابْنِ هُرْمُزَ سَمِعْتُ أَبَا
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "جُنَّتَانِ"
(3/305)
قوله: "باب مثل المتصدق والبخيل" قال الزين بن المنير: قام التمثيل في خبر الباب مقام الدليل على تفضيل المتصدق على البخيل، فاكتفى المصنف بذلك عن أن يضمن الترجمة مقاصد الخبر على التفصيل. قوله: "حدثنا موسى" هو ابن إسماعيل التبوذكي، وابن طاوس اسمه عبد الله. ولم يسق المتن من هذه الطريق الأولى هنا، وقد أورده في الجهاد عن موسى بهذا الإسناد فساقه بتمامه. قوله: "أن عبد الرحمن" هو ابن هرمز الأعرج. قوله: "مثل البخيل والمنفق" وقع عند مسلم من طريق سفيان عن أبي الزناد "مثل المنفق والمتصدق "قال عياض: وهو وهم، ويمكن أن يكون حذف مقابله لدلالة السياق عليه. قلت قد رواه الحميدي وأحمد وابن أبي عمر وغيرهم في مسانيدهم عن ابن عيينة فقالوا في روايتهم "مثل المنفق والبخيل "كما في رواية شعيب عن أبي الزناد وهو الصواب، ووقع في رواية الحسن بن مسلم عن طاوس "ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق" أخرجها المصنف في اللباس. قوله: " عليهما جبتان من حديد" كذا في هذه الرواية بضم الجيم بعدها موحدة، ومن رواه فيها بالنون فقد صحف، وكذا رواية الحسن بن مسلم، ورواه حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن طاوس بالنون ورجحت لقوله: "من حديد" والجنة في الأصل الحصن، وسميت بها الدرع لأنها تجن صاحبها أي تحصنه، والجبة بالموحدة ثوب مخصوص، ولا مانع من إطلاقه على الدرع. واختلف في رواية الأعرج والأكثر على أنها بالموحدة أيضا. قوله: "من ثديهما" بضم المثلثة جمع ثدي، و "تراقيهم" بمثناة وقاف جمع ترقوة. قوله: "سبغت" أي امتدت وغطت. قوله: "أو وفرت" شك من الراوي، وهو بتخفيف الفاء من الوفور، ووقع في رواية الحسن بن مسلم: "انبسطت" وفي رواية الأعرج "اتسعت عليه" وكلها متقاربة. قوله: "حتى تخفي بنانه" أي تستر أصابعه. وفي رواية الحميدي "حتى تجن" بكسر الجيم وتشديد النون وهي بمعنى تخفي، وذكرها الخطابي في شرحه للبخاري كرواية الحميدي، وبنانه بفتح الموحدة ونونين الأولى خفيفة: الإصبع، ورواه بعضهم "ثيابه" بمثلثة وبعد الألف موحدة وهو تصحيف. وقد وقع في رواية الحسن بن مسلم: "حتى تغشي - بمعجمتين - أنامله". قوله: "وتعفو أثره" بالنصب أي تستر أثره، يقال عفا الشيء وعفوته أنا لازم ومتعد، ويقال عفت الدار إذا غطاها التراب، والمعنى أن الصدقة تستر خطاياه كما يغطي الثوب الذي يجر على الأرض أثر صاحبه إذا مشى بمرور الذيل عليه. قوله: "لزقت" في رواية مسلم: "انقبضت "وفي رواية همام "غاصت كل حلقة مكانها" وفي رواية سفيان عند مسلم: "قلصت" وكذا في رواية الحسن بن مسلم عند المصنف، والمفاد واحد لكن الأولى نظر فيها إلى صورة الضيق والأخيرة نظر فيها إلى سبب الضيق. وزعم ابن التين أن فيه إشارة إلى أن البخيل يكوى بالنار يوم القيامة، قال الخطابي وغيره: وهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للبخيل والمتصدق، فشبههما برجلين أراد كل واحد منهما أن يلبس درعا يستتر به من سلاح عدوه، فصبها على رأسه ليلبسها، والدروع أول ما تقع على الصدر والثديين إلى أن يدخل الإنسان يديه في كميها، فجعل المنفق كمن لبس درعا سابغة فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وهو معنى قوله: "حتى تعفو أثره" أي تستر جميع بدنه. وجعل البخيل كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه، كلما أراد لبسها اجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته، وهو معني قوله: "قلصت" أي تضامنت واجتمعت، والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسح لها صدره وطابت نفسه فتوسعت في الإنفاق، والبخيل إذا حدث نفسه بالصدقة شحت نفسه فضاق صدره وانقبضت يداه {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وقال المهلب: المراد أن الله يستر المنفق في الدنيا والآخرة، بخلاف البخيل فإنه
(3/306)
يفضحه. ومعنى تعفو أثره تمحو خطاياه. وتعقبه عياض بأن الخبر جاء على التمثيل لا على الإخبار عن كائن. قال: وقيل هو تمثيل لنماء المال بالصدقة، والبخل بضده. وقيل تمثيل لكثرة الجود والبخل، وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء وتعود ذلك، وإذا أمسك صار ذلك عادة. وقال الطيبي: قيد المشبه به بالحديد إعلاما بأن القبض والشدة من جبلة الإنسان، وأوقع المتصدق موقع السخي لكونه جعله في مقابلة البخيل إشعارا بأن السخاء هو ما أمر به الشارع وندب إليه من الإنفاق لا ما يتعاناه المسرفون. قوله: "فهو يوسعها ولا تتسع" ، وقع في رواية سفيان عند مسلم: "قال أبو هريرة فهو يوسعها ولا تتسع" وهذا يوهم أن يكون مدرجا وليس كذلك، وقد وقع التصريح برفع هذه الجملة في طريق طاوس عن أبي هريرة: ففي رواية ابن طاوس عند المصنف في الجهاد "فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فيجتهد أن يوسعها ولا تتسع" وفي رواية مسلم: "فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكره. وفي رواية الحسن بن مسلم عندهما "فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه هكذا في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا تتسع" ووقع عند أحمد من طريق ابن إسحاق عن أبي الزناد في الحديث: "وأما البخيل فإنها لا تزداد عليه إلا استحكاما" وهذا بالمعنى. قوله: "تابعه الحسن بن مسلم عن طاوس" وصله المصنف في اللباس من طريقه. قوله: "وقال حنظلة عن طاوس" ذكره في اللباس أيضا تعليقا بلفظ: "وقال حنظلة سمعت طاوسا سمعت أبا هريرة" وقد وصله الإسماعيلي من طريق إسحاق الأزرق عن حنظلة. قوله: "وقال الليث حدثني جعفر" هو ابن ربيعة، وابن هرمز هو عبد الرحمن الأعرج، ولم تقع في رواية الليث موصولة إلى الآن، وقد رأيته عنه بإسناد آخر أخرجه ابن حبان من طريق عيسى ابن حماد عن الليث عن ابن عجلان عن أبي الزناد بسنده.
(3/307)
29 - باب صَدَقَةِ الْكَسْبِ
وَالتِّجَارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى [267 البقرة]:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ - إلى
قوله: أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
قوله: "باب صدقة الكسب والتجارة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الآية إلى قوله {حَمِيدٌ}
هكذا أورد هذه الترجمة مقتصرا على الآية بغير حديث، وكأنه أشار إلى ما رواه شعبة
عن الحكم عن مجاهد في هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قال: من التجارة الحلال أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من
طريق آدم عنه، وأخرجه الطبري من طريق هشيم عن شعبة ولفظه {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
كَسَبْتُمْ} قال: من التجارة، {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} قال:
من الثمار. ومن طريق أبي بكر الهذلي عن محمد بن سيرين عن عبيدة ابن عمرو عن علي
قال في قوله: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} قال: يعني من الحب
والتمر كل شيء عليه زكاة. قال الزين بن المنير لم يقيد الكسب في الترجمة بالطيب
كما في الآية استغناء عن ذلك بما قدم في ترجمة "باب الصدقة من كسب طيب".
(3/307)
30 - باب عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ
صَدَقَةٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ
1445 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ فَقَالُوا
يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ
نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ
(3/307)
31 - باب قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنْ
الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَنْ أَعْطَى شَاةً
1446 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ خَالِدٍ
الْحَذَّاءِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قَالَتْ "بُعِثَ إِلَى نُسَيْبَةَ الأَنْصَارِيَّةِ بِشَاةٍ
فَأَرْسَلَتْ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْهَا, فَقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَقُلْتُ لاَ إِلاَّ مَا أَرْسَلَتْ بِهِ
نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ فَقَالَ هَاتِ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا"
[الحديث 1446 – طرفاه في: 1494, 2579]
قوله: "باب قدر كم يعطي من الزكاة والصدقة، ومن أعطى شاة" أورد فيه حديث
أم عطية في إهدائها الشاة التي تصدق بها عليها. قال الزين بن المنير: عطف الصدقة
على الزكاة من عطف العام على الخاص، إذ لو اقتصر على الزكاة لأفهم أن غيرها
بخلافها، وحذف مفعول يعطي اختصارا لكونهم ثمانية أصناف، وأشار بذلك إلى الرد على
من كره أن يدفع إلى شخص واحد قدر النصاب، وهو محكي عن أبي حنيفة. وقال محمد بن
الحسن: لا بأس به انتهى.
وقال غيره: لفظ الصدقة يعم الفرض والنفل، والزكاة كذلك لكنها لا تطلق غالبا إلا
على المفروض دون التطوع فهي أخص من الصدقة من هذا الوجه، ولفظ الصدقة من حيث
الإطلاق على الفرض مرادف الزكاة لا من حيث الإطلاق على النفل، وقد تكرر في
الأحاديث لفظ الصدقة على المفروضة ولكن الأغلب التفرقة. والله أعلم.
(3/309)
قوله: "بعث إلى نسيبة الأنصارية" هي أم عطية كذا وقع في رواية ابن السكن عن الفربري عن البخاري في آخر هذا الحديث، وكان السياق يقتضي أن يقول: "بعث إلي" بلفظ ضمير المتكلم المجرور كما وقع عند مسلم من طريق ابن علية عن خالد، لكنه في هذا السياق وضع الظاهر موضع المضمر إما تجريدا وإما التفاتا، وسيأتي الكلام على بقية فوائد هذا الحديث في "باب إذا حولت الصدقة" في أواخر كتاب الزكاة إن شاء الله تعالى.
(3/310)
32 - باب زَكَاةِ الْوَرِقِ
1447 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو
بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ
الْخُدْرِيَّ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ
خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ مِنْ الإِبِلِ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ
صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ"
1448 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ
قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو سَمِعَ أَبَاهُ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا
قوله: "باب زكاة الورق" أي الفضة، يقال: "ورق" بفتح الواو
وبكسرها وبكسر الراء وسكونها، قال ابن المنير: لما كانت الفضة هي المال الذي يكثر
دورانه في أيدي الناس ويروج بكل مكان كان أولى بأن يقدم على ذكر تفاصيل الأموال
الزكوية. قوله: "عن عمرو بن يحيى المازني" في موطأ ابن وهب "عن
مالك أن عمرو بن يحيى حدثه".
قوله: "عن أبيه" في مسند الحميدي عن سفيان "سألت عمرو بن يحيى بن
عمارة بن أبي الحسن المازني فحدثني عن أبيه" وفي رواية يحيى بن سعيد وهو
الأنصاري التي ذكرها المصنف عقب هذا الإسناد التصريح بسماع عمرو وهو ابن يحيى
المذكور له من أبيه، وهذا هو السر في إيراده للإسناد خاصة، وقد حكى ابن عبد البر
عن بعض أهل العلم أن حديث الباب لم يأت إلا من حديث أبي سعيد الخدري، قال: وهذا هو
الأغلب، إلا أنني وجدته من رواية سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، ومن طريق محمد بن
مسلم1 عن عمرو بن دينار عن جابر انتهى. ورواية سهيل في "الأموال لأبي
عبيد" ورواية مسلم في "المستدرك" وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن
جابر، وجاء أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة وأبي رافع ومحمد بن عبد
الله بن جحش أخرج أحاديث الأربعة الدارقطني، ومن حديث ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة
وأبو عبيد أيضا. قوله: "خمس ذود" بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة
وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد. قوله: "خمس أواق" زاد مالك عن محمد بن
عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد "خمس أواق من الورق صدقة"
وهو مطابق للفظ الترجمة، وكأن المصنف أراد أن يبين بالترجمة ما أبهم في لفظ الحديث
اعتمادا على الطريق الأخرى. و "أواق" بالتنوين وبإثبات التحتانية مشددا
ومخففا جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد التحتانية، وحكى اللحياني "وقية"
بحذف الألف وفتح الواو. ومقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهما بالاتفاق،
والمراد بالدرهم الخالص من الفضة سواء كان مضروبا أو غير مضروب، قال عياض قال أبو
عبيد: إن الدرهم لم يكن معلوم القدر حتى جاء عبد الملك بن
ـــــــ
1 كذا في المخطوطة وطبعة بولاق. والصواب "ورواية ابن مسلم" كما يعلم من
السياق. والله أعلم
(3/310)
مروان فجمع العلماء فجعلوا كل عشرة
دراهم سبعة مثاقيل، قال: وهذا يلزم منه أن يكون صلى الله عليه وسلم أحال بنصاب
الزكاة على أمر مجهول وهو مشكل، والصواب أن معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن شيء
منها من ضرب الإسلام وكانت مختلفة في الوزن بالنسبة إلى العدد، فعشرة مثلا وزن
عشرة وعشرة وزن ثمانية، فاتفق الرأي على أن تنقش بكتابة عربية ويصير وزنها وزنا
واحدا. وقال غيره: لم يتغير المثقال في جاهلية ولا إسلام، وأما الدرهم فأجمعوا على
أن كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم، ولم يخالف في أن نصاب الزكاة مائتا درهم يبلغ مائة
وأربعين مثقالا من الفضة الخالصة إلا ابن حبيب الأندلسي فإنه انفرد بقوله: إن كل
أهل بلد يتعاملون بدراهمهم. وذكر ابن عبد البر اختلافا في الوزن بالنسبة إلى دراهم
الأندلس وغيرها من دراهم البلاد، وكذا خرق المريسي الإجماع فاعتبر النصاب بالعدد
لا الوزن، وانفرد السرخسي من الشافعية بحكاية وجه في المذهب أن الدراهم المغشوشة
إذا بلغت قدرا لو ضم إليه قيمة الغش من نحاس مثلا لبلغ نصابا فإن الزكاة تجب فيه
كما نقل عن أبي حنيفة، واستدل بهذا الحديث على عدم الوجوب فيما إذا نقص من النصاب
ولو حبة واحدة، خلافا لمن سامح بنقص يسير كما نقل عن بعض المالكية. قوله:
"أوسق" جمع وسق بفتح الواو ويجوز كسرها كما حكاه صاحب "المحكم"
وجمعه حينئذ أوساق كحمل وأحمال، وقد وقع كذلك في رواية لمسلم، وهو ستون صاعا
بالاتفاق، ووقع في رواية ابن ماجه من طريق أبي البختري عن أبي سعيد نحو هذا الحديث
وفيه: "والوسق ستون صاعا"، وأخرجها أبو داود أيضا لكن قال: "ستون
مختوما"1 والدارقطني من حديث عائشة أيضا والوسق ستون صاعا، ولم يقع في الحديث
بيان المكيل بالأوسق لكن في رواية مسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا
حب صدقة" وفي رواية له "ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة
أوسق" ولفظ: "دون" في المواضع الثلاثة بمعنى أقل لا أنه نفى عن غير
الخمس الصدقة كما زعم بعض من لا يعتد بقوله. واستدل بهذا الحديث على وجوب الزكاة
في الأمور الثلاثة، واستدل به على أن الزروع لا زكاة فيها حتى تبلغ خمسة أوسق، وعن
أبي حنيفة تجب في قليله وكثيره لقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء
العشر" وسيأتي البحث في ذلك في باب مفرد إن شاء الله تعالى. ولم يتعرض الحديث
للقدر الزائد على المحدود، وقد أجمعوا في الأوساق على أنه لا وقص فيها، وأما الفضة
فقال الجمهور هو كذلك، وعن أبي حنيفة لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى يبلغ
النصاب وهو أربعون فجعل لها وقصا كالماشية، واحتج عليه الطبراني بالقياس على
الثمار والحبوب، والجامع كون الذهب والفضة مستخرجين من الأرض بكلفة ومؤونة، وقد
أجمعوا على ذلك في خمسة أوسق فما زاد.
" فائدة ": أجمع العلماء على اشتراط الحول في الماشية والنقد دون
المعشرات. والله أعلم.
ـــــــ
1 ثم روى أبو داود بعد ما ذكر اللفظ المذكور عن إبراهيم النخعي ما نصه قال: الوسق
ستون صاعا مختوما بالحجاجي. وبما قاله إبراهيم المذكورين يعرف معنى قوله
"مختوما" في الرواية التي ذكرها الشارح. والله أعلم
(3/311)
33 - باب الْعَرْضِ فِي الزَّكَاةِ
وَقَالَ طَاوُسٌ قَالَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لأَهْلِ الْيَمَنِ ائْتُونِي
بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ
وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ
أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
(3/311)
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ" فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ
الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا
وَلَمْ يَخُصَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ الْعُرُوضِ
1449 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ
حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ
مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ
مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ
فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ"
[الحديث 1448 – أطرافه في: 1450, 1451, 1452, 1453, 1454, 6487, 3106, 5878, 6955]
1449 - حدثنا مؤمل حدثنا إسماعيل عن أيوب عن عطاء بن أبي رباح قال قال بن عباس رضي
الله عنهما ثم أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم "لصلى قبل الخطبة فرأى
أنه لم يسمع النساء فأتاهن ومعه بلال ناشر ثوبه فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن فجعلت
المرأة تلقي وأشار أيوب إلى أذنه وإلى حلقه"
قوله: "باب العرض في الزكاة" أي جواز أخذ العرض، وهو بفتح المهملة وسكون
الراء بعدها معجمة، والمراد به ما عدا النقدين. قال ابن رشيد: وافق البخاري في هذه
المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم، لكن قاده إلى ذلك الدليل. وقد أجاب الجمهور
عن قصة معاذ وعن الأحاديث كما سيأتي عقب كل منها. قوله: "وقال طاوس: قال معاذ
لأهل اليمن" هذا التعليق صحيح الإسناد إلى طاوس، لكن طاوس لم يسمع من معاذ
فهو منقطع، فلا يغتر بقول من قال ذكره البخاري بالتعليق الجازم فهو صحيح عنده لأن
ذلك لا يفيد إلا الصحة إلى من علق عنه، وأما باقي الإسناد فلا، إلا أن إيراده له
في معرض الاحتجاج به يقتضي قوته عنده، وكأنه عضده عنده الأحاديث التي ذكرها في
الباب. وقد روينا أثر طاوس المذكور في "كتاب الخراج ليحيى بن آدم" من
رواية ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة وعمرو بن دينار فرقهما كلاهما عن طاوس.
وقوله: "خميص" قال الداودي والجوهري وغيرهما: ثوب خميس بسين مهملة هو
ثوب طوله خمسة أذرع، وقيل سمي بذلك لأن أول من عمله الخميس ملك من ملوك اليمن.
وقال عياض: ذكره البخاري بالصاد، وأما أبو عبيدة فذكره بالسين، قال أبو عبيدة: كأن
معاذا عنى الصفيق من الثياب. وقال عياض: قد يكون المراد ثوب خميص أي خميصة، لكن
ذكره على إرادة الثوب. وقوله: "لبيس" أي ملبوس فعيل بمعنى مفعول. وقوله:
"في الصدقة" يرد قول من قال إن ذلك كان في الخراج، وحكى البيهقي أن
بعضهم قال فيه: "من الجزية" بدل الصدقة، فإن ثبت ذلك سقط الاستدلال، لكن
المشهور الأول، وقد رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري عن إبراهيم بن ميسرة عن
طاوس "أن معاذا كان يأخذ العروض في الصدقة "وأجاب الإسماعيلي باحتمال أن
يكون المعنى ائتوني به آخذه منكم مكان الشعير والذرة الذي آخذه شراء بما آخذه
فيكون بقبضه قد بلغ محله، ثم يأخذ مكانه ما يشتريه مما هو أوسع عندهم وأنفع للآخذ.
قال: ويؤيده أنها لو كانت من الزكاة لم تكن مردودة على الصحابة، وقد أمره النبي
صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم فيردها
(3/312)
على فقرائهم. وأجيب بأنه لا مانع من
أنه كان يحمل الزكاة إلى الإمام ليتولى قسمتها. وقد احتج به من يجيز نقل الزكاة من
بلد إلى بلد، وهي مسألة خلافية أيضا. وقيل في الجواب عن قصة معاذ إنها اجتهاد منه
فلا حجة فيها، وفيه نظر لأنه كان أعلم الناس بالحلال والحرام، وقد بين له النبي
صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن ما يصنع. وقيل كانت تلك واقعة حال لا
دلالة فيها لاحتمال أن يكون علم بأهل المدينة حاجة لذلك وقد قام الدليل على خلاف
عمله ذلك. وقال القاضي عبد الوهاب المالكي: كانوا يطلقون على الجزية اسم الصدقة
فلعل هذا منها. وتعقب بقوله: "مكان الشعير والذرة" وما كانت الجزية
حينئذ من أولئك من شعير ولا ذرة إلا من النقدين. وقوله: "أهون عليكم"
أراد معنى تسلط السهولة عليهم فلم يقل أهون لكم. وقوله: "وخير لأصحاب
محمد" أي أرفق بهم لأن مؤونة النقل ثقيلة فرأى الأخف في ذلك خيرا من الأثقل.
قوله: "وقاله النبي صلى الله عليه وسلم وأما خالد" هو طرف من حديث لأبي
هريرة أوله "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة، فقيل منع ابن جميل"
الحديث وسيأتي موصولا في "باب قول الله وفي الرقاب" مع بقية الكلام عليه
إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدقن ولو
من حليكن" فلم يستثن صدقة الفرض من غيرها، فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها،
ولم يخص الذهب والفضة من العروض" أما الحديث فطرف من حديث لابن عباس أخرجه
المصنف بمعناه وقد تقدم في العيدين، وهو عند مسلم بلفظه من طريق عدي بن ثابت عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس وأوله "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو
أضحى" الحديث وفيه: "فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها" والخرص بضم
المعجمة وسكون الراء بعدها مهملة الحلقة التي تجعل في الأذن، وقد ذكره المصنف
موصولا في آخر الباب لكن لفظه: "فجعلت المرأة تلقي، وأشار أيوب إلى أذنه
وحلقه" وقد وقع تفسير ذلك بما ذكره في الترجمة من قوله: "تلقي خرصها
وسخابها" لأن الخرص من الأذن والسخاب من الحلق، والسخاب بكسر المهملة بعدها
معجمة وآخره موحدة القلادة. وقوله: "فلم يستثن" وقوله: "فلم
يخص" كل من الكلامين للبخاري ذكرهما بيانا لكيفية الاستدلال على أداء العرض
في الزكاة، وهو مصير منه إلى أن مصارف الصدقة الواجبة كمصارف صدقة التطوع بجامع ما
فيهما من قصد القربة، والمصروف إليهم بجامع الفقر والاحتياج، إلا ما استثناه
الدليل. وأما من وجهه فقال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بالصدقة في
ذلك اليوم وأمره على الوجوب صارت صدقة واجبة، ففيه نظر لأنه لو كان للإيجاب هنا
لكان مقدرا وكانت المجازفة فيه وقبول ما تيسر غير جائز. ويمكن أن يكون تمسك بقوله:
"تصدقن" فإنه مطلق يصلح لجميع أنواع الصدقات واجبها ونفلها وجميع أنواع
المتصدق به عينا وعرضا، ويكون قوله: "ولو من حليكن" للمبالغة أي ولو لم
تجدن إلا ذلك. وموضع الاستدلال منه للعرض قوله: "وسخابها" لأنه قلادة
تتخذ من مسك وقرنفل ونحوهما تجعل في العنق، والبخاري فيما عرف بالاستقراء من
طريقته يتمسك بالمطلقات تمسك غيره بالعمومات.ثم ذكر المصنف في هذا الباب حديث أنس
أن أبا بكر كتب له، وسيأتي معظمه في "باب زكاة الغنم" وموضع الدلالة منه
قبول ما هو أنفس مما يجب على المتصدق وإعطاؤه التفاوت من جنس غير الجنس الواجب، وكذا
العكس، لكن أجاب الجمهور عن ذلك بأنه لو كان كذلك لكان ينظر إلى ما بين الشيئين في
القيمة، فكان العرض1 يزيد تارة وينقص أخرى لاختلاف ذلك في الأمكنة والأزمنة، فلما
قدر الشارع التفاوت بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص كان ذلك هو الواجب في
ـــــــ
1 كذا في النسخ, ولعله"فإن العرض"
(3/313)
الأصل في مثل ذلك، ولولا تقدير الشارع بذلك لتعينت بنت المخاض مثلا ولم يجز أن تبدل بنت لبون مع التفاوت. والله أعلم
(3/314)
34 - باب لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ
مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ
وَيُذْكَرُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ
1450 - حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا أبي حدثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس
أن أنسا حدثه أن أبا بكر كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه
وسلم " ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة"
قوله: "باب لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع" في رواية الكشميهني:
"متفرق" بتقديم التاء وتشديد الراء، قال الزين بن المنير: لم يقيد
المصنف الترجمة بقوله خشية الصدقة لاختلاف نظر العلماء في المراد بذلك كما سيأتي.
قوله: "ويذكر عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله" أي
مثل لفظ هذه الترجمة، وهو طرف من حديث أخرجه أبو داود وأحمد والترمذي والحاكم
وغيرهم من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عنه موصولا، وسفيان بن حسين ضعيف في
الزهري، وقد خالفه من هو أحفظ منه في الزهري فأخرجه الحاكم من طريق يونس بن يزيد
عن الزهري وقال: إن فيه تقوية لرواية سفيان بن حسين لأنه قال عن الزهري "قال
أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها" فذكر الحديث ولم يقل إن
ابن عمر حدثه به، ولهذه العلة لم يجزم به البخاري، لكن أورده شاهدا لحديث أنس الذي
وصله البخاري في الباب ولفظه: "ولا يجمع بين متفرق" بتقديم التاء أيضا
وزاد: "خشية الصدقة" واختلف في المراد بالخشية كما سنذكره، وفي الباب عن
علي عند أصحاب السنن وعن سويد بن غفلة قال: "أتانا مصدق النبي صلى الله عليه
وسلم فقرأت في عهده" فذكر مثله أخرجه النسائي، وعن سعد بن أبي وقاص أخرجه
البيهقي. قال مالك في الموطأ: معنى هذا الحديث أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد
منهم أربعون شاة وجبت فيها الزكاة فيجمعونها حتى لا تجب عليهم كلهم فيها إلا شاة
واحدة، أو يكون للخليطين مائتا شاة وشاتان فيكون عليهما فيها ثلاث شياه فيفرقونها
حتى لا يكون على كل واحد إلا شاة واحدة. وقال الشافعي: هو خطاب لرب المال من جهة
وللساعي من جهة، فأمر كل واحد منهم أن لا يحدث شيئا من الجمع والتفريق خشية
الصدقة، فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة فيجمع أو يفرق لتقل، والساعي يخشى أن تقل الصدقة
فيجمع أو يفرق لتكثر، فمعنى قوله خشية الصدقة أي خشية أن تكثر الصدقة أو خشية أن
تقل الصدقة، فلما كان محتملا للأمرين لم يكن الحمل على أحدهما بأولى من الآخر،
فحمل عليهما معا، لكن الذي يظهر أن حمله على المالك أظهر والله أعلم. واستدل به
على أن من كان عنده دون النصاب من الفضة ودون النصاب من الذهب مثلا أنه لا يجب ضم
بعضه إلى بعض حتى يصير نصابا كاملا فتجب فيه الزكاة خلافا لمن قال يضم على الأجزاء
كالمالكية أو على القيم كالحنفية، واستدل به لأحمد على أن من كان له ماشية ببلد لا
تبلغ النصاب كعشرين شاة مثلا بالكوفة ومثلها بالبصرة أنها لا تضم باعتبار كونها
ملك رجل واحد وتؤخذ منها الزكاة لبلوغها النصاب قاله ابن المنذر، وخالفه الجمهور
فقالوا: يجمع على صاحب المال أمواله
(3/314)
ولو كانت في بلدان شتى ويخرج منها الزكاة. واستدل به على إبطال الحيل والعمل على المقاصد المدلول عليها بالقرائن، وأن زكاة العين لا تسقط بالهبة مثلا. والله أعلم.
(3/315)
باب ما كان خليطين فإنهما يتراجعان
بينهما بالسوية
...
35 - باب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا
بِالسَّوِيَّةِ
وَقَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ إِذَا عَلِمَ الْخَلِيطَانِ أَمْوَالَهُمَا فَلاَ
يُجْمَعُ مَالُهُمَا
وَقَالَ سُفْيَانُ لاَ يَجِبُ حَتَّى يَتِمَّ لِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً وَلِهَذَا
أَرْبَعُونَ شَاةً
1451 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ
حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ كَتَبَ لَهُ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا
بِالسَّوِيَّةِ
قوله: "باب وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" اختلف في
المراد بالخليط كما سيأتي، فعند أبي حنيفة أنه الشريك قال: ولا يجب على أحد منهم
فيما يملك إلا مثل الذي كان يحب عليه لو لم يكن خلط، وتعقبه ابن جرير بأنه لو كان
تفريقها مثل جمعها في الحكم لبطلت فائدة الحديث. وإنما نهى عن أمر لو فعله كانت
فيه فائدة قبل النهي، ولو كان كما قال لما كان لتراجع الخليطين بينهما بالسوية
معنى. قوله: "يتراجعان" قال الخطابي: معناه أن يكون بينهما أربعون شاة
مثلا لكل واحد منهما عشرون قد عرف كل منهما عين ماله فيأخذ المصدق من أحدهما شاة
فيرجع المأخوذ من ماله على خليطه بقيمة نصف شاة، وهذه تسمى خلطة الجوار. قوله:
"وقال طاوس وعطاء إلخ" هذا التعليق وصله أبو عبيد في "كتاب
الأموال" قال: "حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار عن طاوس
قال: إذا كان الخليطان يعلمان أموالهما لم يجمع مالهما في الصدقة، قال -يعني ابن
جريج- فذكرته لعطاء فقال: ما أراه إلا حقا وهكذا رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن
شيخه. وقال أيضا عن ابن جريج "قلت لعطاء: ناس "خلطاء لهم أربعون شاة؟
قال: عليهم شاة. قلت: فلواحد تسعة وثلاثون شاة ولآخر شاة؟ قال: عليهما شاة".
قوله: "وقال سفيان لا تجب حتى يتم لهذا أربعون شاة ولهذا أربعون شاة"
قال عبد الرزاق عن الثوري "قولنا لا يجب على الخليطين شيء إلا أن يتم لهذا
أربعون ولهذا أربعون" انتهى، وبهذا قال مالك. وقال الشافعي وأحمد وأصحاب
الحديث: إذا بلغت ماشيتهما النصاب زكيا، والخلطة عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت
والحوض والفحل، والشركة أخص منها. وفي "جامع سفيان الثوري" عن عبيد الله
بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر "ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان
بالسوية". قلت لعبيد الله: ما يعني بالخليطين؟ قال: إذا كان المراح واحدا
والراعي واحدا والدلو واحدا. ثم أورد المصنف طرفا من حديث أنس المذكور وفيه لفظ
الترجمة.
واختلف في المراد بالخليط، فقال أبو حنيفة هو الشريك، واعترض عليه بأن الشريك قد
لا يعرف عين ماله وقد قال إنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ومما يدل على أن الخليط
لا يستلزم أن يكون شريكا قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ} وقد
بينه قبل ذلك بقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ
نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} واعتذر بعضهم عن الحنفية بأنهم لم يبلغهم هذا الحديث، أو رأوا
أن الأصل قوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" وحكم الخلطة بغير هذا الأصل
فلم يقولوا به.
(3/315)
36 - باب زَكَاةِ الإِبِلِ. ذَكَرَهُ
أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1452 - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي قال حدثني بن
شهاب عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه " أن أعرابيا سأل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال ويحك إن شأنها شديد فهل لك من إبل تؤدي
صدقتها قال نعم قال فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا"
[الحديث 1452 – أطرافه: 2633, 3923, 6165]
قوله: "باب زكاة الإبل" سقط لفظ: "باب" من رواية الكشميهني
والحموي. قوله: "ذكره أبو بكر وأبو ذر وأبو هريرة رضي الله عنهم عن النبي صلى
الله عليه وسلم" أما حديث أبي بكر فقد ذكره مطولا كما سيأتي بعد باب من رواية
أنس عنه، ولأبي بكر حديث آخر تقدم أيضا فيما يتعلق بقتال مانعي الزكاة. وأما حديث
أبي ذر فسيأتي بعد ستة أبواب من رواية المعرور بن سويد عنه في وعيد من لا يؤدي
زكاة أبله وغيرها ويأتي منه حديث أبي هريرة أيضا في ذلك إن شاء الله تعالى. ثم ذكر
المصنف حديث الأعرابي الذي سأل عن شأن الهجرة، وموضع الحاجة منه قوله: "فهل
لك من إبل تؤدي صدقتها؟ قال. نعم" وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الهجرة
إن شاء الله تعالى. قال الزين بن المنير: في هذه الأحاديث أحكام متعددة تتعلق بهذه
الترجمة، منها إيجاب الزكاة، والتسوية بينها وبين الصلاة في قتال مانعيها حتى لو
منعوا عقالا وهو الذي تربط به الإبل، وتسميتها فريضة وذلك أعلى الواجبات وتوعد من
لم يؤدها بالعقوبة في الدار الآخرة كما في حديثي أبي ذر وأبي هريرة. وفي حديث أبي
سعيد فضل أداء زكاة الإبل، ومعادلة إخراج حق الله منها لفضل الهجرة، فإن في الحديث
إشارة إلى أن استقراره بوطنه إذا أدى زكاة إبله يقوم له مقام ثواب هجرته وإقامته
بالمدينة.
(3/316)
باب من بلغت عنده الصدقة بنت مخاض
وليست عنده
...
37 - باب مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ
1453 - حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني ثمامة أن أنسا رضي الله
عنه حدثه ثم أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له فريضة الصدقة التي أمر الله رسوله صلى
الله عليه وسلم " من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة ليست عنده جذعة وعنده
حقة فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما ومن
بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة إنها تقبل منه الجذعة يعطيه
المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون
فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطي شاتين أو عشرين درهما ومن بلغت صدقته بنت لبون
وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت
صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض ويعطي معها
عشرين درهما أو شاتين"
(3/316)
قوله: "باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده" أورد فيه طرفا من حديث أنس المذكور، وليس فيه ما ترجم به، وقد أورد الحكم الذي ترجم به في "باب العرض في الزكاة" وحذفه هنا، فقال ابن بطال: هذه غفلة منه. وتعقبه ابن رشيد وقال: بل هي غفلة ممن ظن به الغفلة، وإنما مقصده أن يستدل على من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده هي ولا ابن لبون لكن عنده مثلا حقة وهي أرفع من بنت مخاض لأن بينهما بنت لبون، وقد تقرر أن بين بنت اللبون وبنت المخاض عشرين درهما أو شاتين، وكذلك سائر ما وقع ذكره في الحديث من سن يزيد أو ينقص إنما ذكر فيه ما يليها لا ما يقع بينهما بتفاوت درجة، فأشار البخاري إلى أنه يستنبط من الزائد والناقص والمنفصل ما يكون منفصلا بحساب ذلك. فعلى هذا من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده إلا حقة أن يرد عليه المصدق أربعين درهما أو أربع شياه جبرانا أو بالعكس، فلو ذكر اللفظ الذي ترجم به لما أفهم هذا الغرض، فتدبره انتهى. قال الزين بن المنير: من أمعن النظر في تراجم هذا الكتاب وما أودعه فيها من أسرار المقاصد استبعد أن يغفل أو يهمل أو يضع لفظا بغير معنى أو يرسم في الباب خبرا يكون غيره به أقعد وأولى، وإنما قصد بذكر ما لم يترجم به أن يقرر أن المفقود إذا وجد الأكمل منه أو الأنقص شرع الجبران كما شرع ذلك فيما تضمنه هذا الخبر من ذكر الأسنان فإنه لا فرق بين فقد بنت المخاض ووجود الأكمل منها. قال: ولو جعل العمدة في هذا الباب الخبر المشتمل على ذكر فقد بنت المخاض لكان نصا في الترجمة ظاهرا، فلما تركه واستدل بنظيره أفهم ما ذكرناه من الإلحاق بنفي الفرق وتسويته بين فقد بنت المخاض ووجود الأكمل منها وبين فقد الحقة ووجود الأكمل منها. والله أعلم.
(3/317)
38 - باب زَكَاةِ الْغَنَمِ
1454 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى الأَنْصَارِيُّ
قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَنَسٍ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ
لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ " بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالَّتِي
أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطِ فِي أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ
إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ
مَخَاضٍ أُنْثَى فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاَثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ
فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى
سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً
وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ يَعْنِي
سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ فَإِذَا بَلَغَتْ
إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا
الْجَمَلِ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ
أَرْبَعٌ مِنْ الإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا
فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنْ الإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ
فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ
فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ فَإِذَا
زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلاَثِ مِائَةٍ فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ
فَإِذَا زَادَتْ
(3/317)
عَلَى ثَلاَثِ مِائَةٍ فَفِي كُلِّ
مِائَةٍ شَاةٌ فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ
شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا وَفِي
الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً
فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا"
قوله: "باب زكاة الغنم" قال الزين بن المنير: حذف وصف الغنم بالسائمة
وهو ثابت في الخبر، إما لأنه لم يعتبر هذا المفهوم أو لتردده من جهة تعارض وجوه النظر
فيه عنده، وهي مسألة خلافية شهيرة، والراجح في مفهوم الصفة أنها إن كانت تناسب
الحكم مناسبة العلة لمعلولها اعتبرت وإلا فلا، ولا شك أن السوم يشعر بخفة المؤونة
ودرء المشقة بخلاف العلف فالراجح اعتباره هنا والله أعلم. قوله: "حدثني
ثمامة" هو عم الراوي عنه لأنه عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن
مالك، وهذا الإسناد مسلسل بالبصريين من آل أنس بن مالك. وعبد الله بن المثنى اختلف
فيه قول ابن معين فقال مرة: صالح، ومرة: ليس بشيء. وقواه أبو زرعة وأبو حاتم
والعجلي. وأما النسائي فقال: ليس بالقوي. وقال العقيلي: لا يتابع في أكثر حديثه
انتهى. وقد تابعه على حديثه هذا حماد بن سلمة فرواه عن ثمامة أنه أعطاه كتابا زعم
أن أبا بكر كتبه لأنس وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه مصدقا
فذكر الحديث، هكذا أخرجه أبو داود عن أبي سلمة عنه، ورواه أحمد في مسنده قال:
"حدثنا أبو كامل حدثنا حماد قال أخذت هذا الكتاب من ثمامة بن عبد الله بن أنس
عن أنس أن أبا بكر" فذكره. وقال إسحاق بن راهويه في مسنده "أخبرنا النضر
بن شميل حدثنا حماد بن سلمة أخذنا هذا الكتاب من ثمامة يحدثه عن أنس عن النبي صلى
الله عليه وسلم" فذكره. فوضح أن حمادا سمعه من ثمامة وأقرأه الكتاب فانتفى
تعليل من أعله بكونه مكاتبة، وانتفى تعليل من أعله بكون عبد الله بن المثنى لم
يتابع عليه. قوله: "أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى
البحرين" أي عاملا عليها، وهي اسم لإقليم مشهور يشتمل على مدن معروفة قاعدتها
هجر، وهكذا ينطق به بلفظ التثنية والنسبة إليه بحراني. قوله: "بسم الله
الرحمن الرحيم هذه" قال الماوردي يستدل به على إثبات البسملة في ابتداء الكتب
وعلى أن الابتداء بالحمد ليس بشرط. قوله: "هذه فريضة الصدقة" أي نسخة
فريضة فحذف المضاف للعلم به، وفيه أن اسم الصدقة يقع على الزكاة خلافا لمن منع ذلك
من الحنفية. قوله: "التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على
المسلمين" ظاهر في رفع الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ليس موقوفا
على أبي بكر، وقد صرح برفعه في رواية إسحاق المقدم ذكرها. ومعنى "فرض"
هنا أوجب أو شرع يعني يأمر الله تعالى، وقيل معناه قدر لأن إيجابها ثابت في الكتاب
ففرض النبي صلى الله عليه وسلم لها بيانه للمجمل من الكتاب بتقدير الأنواع
والأجناس. وأصل الفرض قطع الشيء الصلب ثم استعمل في التقدير لكونه مقتطعا من الشيء
الذي يقدر منه، ويرد بمعنى البيان كقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وبمعنى الإنزال كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} وبمعنى الحل كقوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ
حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} وكل ذلك لا يخرج من معنى التقدير. ووقع
استعمال الفرض بمعنى اللزوم حتى كاد يغلب عليه وهو لا يخرج أيضا عن معنى التقدير،
وقد قال الراغب: كل شيء ورد في القرآن فرض على فلان فهو بمعنى الإلزام، وكل شيء
فرض له فهو بمعنى لم يحرمه عليه. وذكر أن معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أي أوجب عليك العمل به، وهذا يؤيد قول الجمهور إن الفرض
مرادف للوجوب. وتفريق الحنفية بين الفرض والواجب باعتبار ما يثبتان به لا مشاحة
فيه، وإنما النزع في حمل ما ورد من الأحاديث الصحيحة على ذلك لأن اللفظ السابق لا
يحمل على الاصطلاح الحادث والله أعلم.
قوله: "على المسلمين" استدل به على أن
(3/318)
الكافر ليس مخاطبا بذلك، وتعقب بأن
المراد بذلك كونها لا تصح منه، لا أنه لا يعاقب عليها وهو محل النزاع. قوله:
"والتي أمر الله بها رسوله" كذا في كثير من نسخ البخاري، ووقع في كثير
منها بحذف "بها" وأنكرها النووي في شرح المهذب، ووقع في رواية أبي داود
المقدم ذكرها "التي أمر" بغير واو على أنها بدل من الأولى. قوله:
"فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها" أي على هذه الكيفية المبينة
في هذا الحديث. وفيه دلالة على دفع الأموال الظاهرة إلى الإمام. قوله: "ومن
سئل فوقها فلا يعط" أي من سئل زائدا على ذلك في سن أو عدد فله المنع. ونقل
الرافعي الاتفاق على ترجيحه. وقيل معناه فليمنع الساعي وليتول هو إخراجه بنفسه أو
بساع آخر فإن الساعي الذي، طلب الزيادة يكون بذلك متعديا وشرطه أن يكون أمينا، لكن
محل هذا إذا طلب الزيادة بغير تأويل. قوله: "في كل أربع وعشرين من الإبل فما
دونها" أي إلى خمس. قوله: "من الغنم" كذا للأكثر. وفي رواية ابن
السكن بإسقاط "من" وصوبها بعضهم. وقال عياض: من أثبتها فمعناه زكاتها أي
الإبل من الغنم، و "من" للبيان لا للتبعيض. ومن حذفها فالغنم مبتدأ
والخبر مضمر في قوله: "في كل أربع وعشرين" وما بعده، وإنما قدم الخبر
لأن الغرض بيان المقادير التي تجب فيها الزكاة، والزكاة إنما تجب بعد وجود النصاب
فحسن التقديم، واستدل به على تعين إخراج الغنم في مثل ذلك وهو قول مالك وأحمد، فلو
أخرج بعيرا عن الأربع والعشرين لم يجزه. وقال الشافعي والجمهور: يجزئه لأنه يجزئ
عن خمس وعشرين، فما دونها أولى. ولأن الأصل أن يجب من جنس المال، وإنما عدل عنه
رفقا بالمالك، فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه، فإن كانت قيمة البعير مثلا دون
قيمة أربع شياه ففيه خلاف عند الشافعية وغيرهم، والأقيس أنه لا يجزئ، واستدل
بقوله: "في كل أربع وعشرين" على أن الأربع مأخوذة عن الجمع وإن كانت
الأربع الزائدة على العشرين وقصا وهو قول الشافعي في البويطي. وقال في غيره: إنه
عفو. ويظهر أثر الخلاف فيمن له مثلا تسع من الإبل فتلف منها أربعة بعد الحول وقبل
التمكن حيث قلنا إنه شرط في الوجوب وجبت عليه شاة بلا خلاف، وكذا إن قلنا التمكن
شرط في الضمان وقلنا الوقص عفو، وإن قلنا يتعلق به الفرض وجب خمسة أتساع شاة،
والأول قول الجمهور كما نقله ابن المنذر، وعن مالك رواية كالأول.
"تنبيه": الوقص بفتح الواو والقاف ويجوز إسكانها وبالسين المهملة بدل
الصاد: هو ما بين الفرضين عند الجمهور، واستعمله الشافعي فيما دون النصاب الأول
أيضا والله أعلم. قوله: "فإذا بلغت خمسا وعشرين" فيه أن في هذا القدر
بنت مخاض، وهو قول الجمهور إلا ما جاء عن علي أن في خمس وعشرين خمس شياه فإذا صارت
ستا وعشرين كان فيها بنت مخاض أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه موقوفا ومرفوعا وإسناد
المرفوع ضعيف. قوله: "إلى خمس وثلاثين" استدل به على أنه لا يجب فيما
بين العددين شيء غير بنت مخاض، خلافا لمن قال كالحنفية تستأنف الفريضة فيجب في كل
خمس من الإبل شاة مضافة إلى بنت المخاض. قوله: "ففيها بنت مخاض أنثى"
زاد حماد بن سلمة في روايته فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر، وقوله أنثى وكذا
قوله ذكر للتأكيد أو لتنبيه رب المال ليطيب نفسا بالزيادة، وقيل احترز بذلك من
الخنثى وفيه بعد. وبنت المخاض بفتح الميم والمعجمة الخفيفة وآخره معجمة هي التي
أتى عليها حول ودخلت في الثاني وحملت أمها، والماخض الحامل، أي دخل وقت حملها وإن
لم تحمل. وابن اللبون الذي دخل في ثالث سنة فصارت أمه لبونا بوضع الحمل.
قوله: "إلى خمس وأربعين" إلى الغاية وهو يقتضي أن ما قبل الغاية يشتمل
عليه الحكم المقصود بيانه بخلاف ما بعدها فلا يدخل إلا بدليل، وقد
(3/319)
دخلت هنا بدليل قوله بعد ذلك
"فإذا بلغت ستا وأربعين" فعلم أن حكمها حكم ما قبلها. قوله: "حقة
طروقة الجمل" حقة بكسر المهملة وتشديد القاف والجمع حقاق بالكسر والتخفيف،
وطروقة بفتح أوله أي مطروقة وهي فعولة بمعنى مفعولة كحلوبة بمعنى محلوبة، والمراد
أنها بلغت أن يطرقها الفحل، وهي التي أتت عليها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة. قوله:
"جذعة" بفتح الجيم والمعجمة وهي التي أتت عليها أربع ودخلت في الخامسة.
قوله: "فإذا بلغت يعني ستا وسبعين" كذا في الأصل بزيادة يعني، وكأن
العدد حذف من الأصل اكتفاء بدلالة الكلام عليه فذكره بعض رواته وأتى بلفظ يعني
لينبه على أنه مزيد، أو شك أحد رواته فيه. وقد ثبت بغير لفظ: "يعني" في
رواية الإسماعيلي من طريق أخرى عن الأنصاري شيخ البخاري فيه فيحتمل أن يكون الشك
فيه من البخاري، وقد وقع في رواية حماد بن سلمة بإثباته أيضا. قوله: "فإذا زادت
على عشرين ومائة" أي واحدة فصاعدا، وهذا قول الجمهور. وعن الإصطخري من
الشافعية تجب ثلاث بنات لبون لزيادة بعض واحدة لصدق الزيادة، وتتصور المسألة في
الشركة، ويرده ما في كتاب عمر المذكور "إذا كان إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث
بنات لبون حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة" ومقتضاه أن ما زاد على ذلك فزكاته
بالإبل خاصة، وعن أبي حنيفة إذا زادت على عشرين ومائة رجعت إلى فريضة الغنم فيكون
في خمس وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون وشاة. قوله: "فإذا بلغت خمسا من الإبل
ففيها شاة وفي صدقة الغنم إلخ". "تنبيه": اقتطع البخاري من بين
هاتين الجملتين قوله: "ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة. إلى آخر ما ذكره
في الباب الذي قبله وقد ذكر آخره في "باب العرض في الزكاة" وزاد بعد
قوله فيه: يقبل منه بنت مخاض ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين "فإن لم يكن
عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء" وهذا
الحكم متفق عليه، فلو لم يجد واحدا منهما فله أن يشتري أيهما شاء على الأصح عند
الشافعية، وقيل يتعين شراء بنت مخاض وهو قول مالك وأحمد، وقوله: "ويعطي معها
عشرين درهما أو شاتين" هو قول الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث. وعن الثوري
"عشرة" وهي رواية عن إسحاق، وعن مالك يلزم رب المال بشراء ذلك السن بغير
جبران، قال الخطابي: يشبه أن يكون الشارع جعل الشاتين أو العشرين درهما تقديرا في
الجبران لئلا يكل الأمر إلى اجتهاد الساعي لأنه يأخذها على المياه حيث لا حاكم ولا
مقوم غالبا، فضبطه بشيء يرفع التنازع كالصاع في المصراة والغرة في الجنين والله
أعلم.وبين هاتين الجملتين قوله: "وفي صدقة الغنم" وسيأتي التنبيه على ما
حذفه منه أيضا في موضع آخر قريبا. قوله: "إذا كانت" في رواية الكشميهني:
"إذا بلغت".
قوله: "فإذا زادت على عشرين ومائة" في كتاب عمر "فإذا كانت إحدى
وعشرين حتى تبلغ مائتين ففيها شاتان" وقد تقدم قول الإصطخري في ذلك والتعقيب
عليه. قوله: "فإذا زادت على ثلثمائة ففي كل مائة شاة" مقتضاه أنه لا تجب
الشاة الرابعة حتى توفي أربعمائة وهو قول الجمهور، قالوا فائدة ذكر الثلثمائة
لبيان النصاب الذي بعده لكون ما قبله مختلفا، وعن بعض الكوفيين كالحسن بن صالح
ورواية عن أحمد إذا زادت على الثلثمائة واحدة وجب الأربع.
قوله: "ففي كل مائة شاة شاة فإذا كانت سائمة الرجل".
" تنبيه ": اقتطع البخاري أيضا من بين هاتين الجملتين قوله: "ولا
يخرج في الصدقة هرمة" إلى آخر ما ذكره في الباب الذي يليه، واقتطع منه أيضا
قوله: "ولا يجمع بين متفرق" إلى آخر ما ذكره في بابه، وكذا قوله:
"ومن كان من خليطين" إلى آخر ما ذكره في بابه، ويلي هذا قوله هنا
"فإذا كانت سائمة الرجل"إلخ. وهذا حديث واحد يشتمل على هذه الأحكام التي
فرقها
(3/320)
المصنف في هذه الأبواب غير مراع للترتيب فيها بل بحسب ما ظهر له من مناسبة إيراد التراجم المذكورة. قوله: "وفي الرقة" بكسر الراء وتخفيف القاف الفضة الخالصة سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة، قيل أصلها الورق فحذفت الواو وعوضت الهاء، وقيل يطلق على الذهب والفضة بخلاف الورق فعلى هذا فقيل أن الأصل في زكاة النقدين نصاب الفضة، فإذا بلغ الذهب ما قيمته مائتا درهم فضة خالصة وجبت فيه الزكاة وهو ربع العشر، وهذا قول الزهري وخالفه الجمهور. قوله: "فإن لم تكن" أي الفضة "إلا تسعين ومائة" يوهم أنها إذا زادت على التسعين ومائة قبل بلوغ المائتين أن فيها صدقة، وليس كذلك، وإنما ذكر التسعين لأنه آخر عقد قبل المائة، والحساب إذا جاوز الآحاد كان تركيبه بالعقود كالعشرات والمئين والألوف، فذكر التسعين ليدل على أن لا صدقة فيما نقص عن المائتين، ويدل عليه قوله الماضي "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" قوله: "إلا أن يشاء ربها في المواضع الثلاثة" أي إلا أن يتبرع متطوعا.
(3/321)
39 - باب لاَ تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ
هَرِمَةٌ وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ وَلاَ تَيْسٌ إِلاَّ مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ
1455 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ
حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ الصَّدَقَةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ
رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلاَ يُخْرَجُ فِي
الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ وَلاَ تَيْسٌ إِلاَّ مَا شَاءَ
الْمُصَدِّقُ"
قوله: "باب لا يؤخذ في الصدقة هرمة - إلى قوله - ما شاء المصدق" اختلف
في ضبطه فالأكثر على أنه بالتشديد والمراد المالك، وهذا اختيار أبي عبيد، وتقدير
الحديث لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب أصلا، ولا يؤخذ التيس وهو فحل الغنم إلا برضا
المالك لكونه يحتاج إليه، ففي أخذه بغير اختياره إضرار به والله أعلم. وعلى هذا
فالاستثناء مختص بالثالث، ومنهم من ضبطه بتخفيف الصاد وهو الساعي وكأنه يشير بذلك
إلى التقويض إليه في اجتهاده لكونه يجري مجرى الوكيل فلا يتصرف بغير المصلحة
فيتقيد بما تقتضيه القواعد، وهذا قول الشافعي في البويطي ولفظه: ولا تؤخذ ذات عوار
ولا تيس ولا هرمة إلا أن يرى المصدق أن ذلك أفضل للمساكين فيأخذه على النظر انتهى.
وهذا أشبه بقاعدة الشافعي في تناول الاستثناء جميع ما ذكر قبله، فلو كانت الغنم
كلها معيبة مثلا أو تيوسا أجزأه أن يخرج منها، وعن المالكية يلزم المالك أن يشتري
شاه مجزئة تمسكا بظاهر هذا الحديث. وفي رواية أخرى عندهم كالأول. قوله:
"هرمة" بفتح الهاء وكسر الراء: الكبيرة التي سقطت أسنانها. قوله:
"ذات عوار" بفتح العين المهملة وبضمها أي معيبة، وقيل بالفتح العيب
وبالضم العور، واختلف في ضبطها فالأكثر على أنه ما يثبت به الرد في البيع، وقيل ما
يمنع الإجزاء في الأضحية، ويدخل في المعيب المريض والذكورة بالنسبة إلى الأنوثة
والصغير سنا بالنسبة إلى سن أكبر منه.
(3/321)
40 - باب أَخْذِ الْعَنَاقِ فِي
الصَّدَقَةِ
1456 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح
وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
(3/321)
41 - باب لاَ تُؤْخَذُ كَرَائِمُ
أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الصَّدَقَةِ
1458 - حدثنا أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن إسماعيل بن
أمية عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن بن عباس رضي الله عنهما أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه على اليمن قال: " إنك
تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله
فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن
الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق
كرائم أموال الناس"
قوله: "لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة" هذه الترجمة مقيدة لمطلق
الحديث لأن فيه: "وتوق كرائم أموال الناس" بغير تقييد بالصدقة، وأموال
الناس يستوي التوقي لها بين الكرائم وغيرها فقيدها في الترجمة بالصدقة وهو بين من
سياق الحديث لأنه ورد في شأن الصدقة، والكرائم جمع كريمة يقال ناقة كريمة أي غزيرة
اللبن، والمراد نفائس الأموال من أي صنف كان، وقيل له نفيس لأن نفس صاحبه تتعلق به
وأصل الكريمة كثيرة الخير، وقيل للمال النفيس كريم لكثرة منفعته. وسيأتي الكلام
على بقية الحديث قبيل أبواب زكاة الفطر إن شاء الله تعالى.
(3/322)
42 - باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ
ذَوْدٍ صَدَقَةٌ
1459 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ
خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ
(3/322)
43 - باب زَكَاةِ الْبَقَرِ. وَقَالَ
أَبُو حُمَيْدٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ
اللَّهَ رَجُلٌ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ" وَيُقَالُ جُؤَارٌ تَجْأَرُونَ
تَرْفَعُونَ أَصْوَاتَكُمْ كَمَا تَجْأَرُ الْبَقَرَةُ
1460 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا
الأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ "انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ -أَوْ وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ
أَوْ كَمَا حَلَفَ- مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ
لاَ يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلاَّ أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا
تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا كُلَّمَا
جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ
النَّاسِ" رَوَاهُ بُكَيْرٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
[الحديث 1460 – طرفه في: 6638]َ
قوله: "باب زكاة البقر" البقر اسم جنس يكون للمذكر والمؤنث، اشتق من
بقرت الشيء إذا شققته لأنها تبقر
(3/323)
الأرض بالحراثة. قال الزين بن المنير:
أخر زكاة البقر لأنها أقل النعم وجودا ونصبا، ولم يذكر في الباب شيئا مما يتعلق
بنصابها لكون ذلك لم يقع على شرطه، فتقدير الترجمة إيجاب زكاة البقر، لأن جملة ما
ذكره في الباب يدل على ذلك من جهة الوعيد على تركها، إذ لا يتوعد على ترك غير
الواجب. قال ابن رشيد: وهذا الدليل يحتاج إلى مقدمة، وهو أنه ليس في البقر حق واجب
سوى الزكاة، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل الزكاة حيث قال: "باب إثم
مانع الزكاة" وذكر فيه حديث أبي هريرة لكن ليس فيه ذكر البقر، ومن ثم أورد في
هذا الباب حديث أبي ذر، وأشار إلى أن ذكر البقر وقع أيضا في طريق أخرى في حديث أبي
هريرة والله أعلم. وزعم ابن بطال أن حديث معاذ المرفوع "إن في كل ثلاثين بقرة
تبيعا وفي كل أربعين مسنة "متصل صحيح وأن مثله في كتاب الصدقات لأبي بكر
وعمر، وفي كلامه نظر: أما حديث معاذ فأخرجه أصحاب السنن وقال الترمذي حسن وأخرجه
الحاكم في المستدرك، وفي الحكم بصحته نظر لأن مسروقا لم يلق معاذا وإنما حسنه
الترمذي لشواهده، ففي الموطأ من طريق طاوس عن معاذ نحوه، وطاوس عن معاذ منقطع
أيضا، وفي الباب عن علي عند أبي داود، وأما قوله إن مثله في كتاب الصدقة لأبي بكر
فوهم منه لأن ذكر البقر لم يقع في شيء من طرق حديث أبي بكر، نعم هو في كتاب عمر
والله أعلم. قوله: "وقال أبو حميد" هو الساعدي، وهذا طرف من حديث أورده
المصنف موصولا من طرق، وهذا القدر وقع عنده موصولا في كتاب ترك الحيل في أثناء
الحديث المذكور. قوله: "لأعرفن" أي لأعرفنكم غدا هذه الحالة. وفي رواية
الكشميهني: "لا أعرفن" بحرف النفي أي ما ينبغي أن تكونوا على هذه الحال
فأعرفكم بها. قوله: "ما جاء الله رجل" ما مصدرية أي مجيء رجل إلى الله.
قوله: "لها خوار" بضم المعجمة وتخفيف الواو: صوت البقر. قوله:
"ويقال جؤار" هذا كلام البخاري، يريد بذلك أن هذا الحرف جاء بالخاء
المعجمة وتخفيف الواو وبالجيم والواو المهموزة، ثم فسره فقال: تجأرون ترفعون
أصواتكم، وهذه عادة البخاري إذا مرت به لفظة غريبة توافق كلمة في القرآن نقل تفسير
تلك الكلمة التي من القرآن، والتفسير المذكور رواه ابن أبي حاتم عن السدي، وروي من
طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: "يجأرون" قال: يستغيثون.
وقال القزاز: الخوار بالمعجمة والجؤار بالجيم بمعنى واحد في البقر. وقال ابن سيده:
خار الرجل رفع صوته بتضرع. قوله: "عن المعرور بن سويد" هو بالعين
المهملة. قوله: "قال انتهيت إليه" هو مقول المعرور والضمير يعود على أبي
ذر وهو الحالف، و قوله: "أو كما حلف" يشير بذلك إلى أنه لم يضبط اللفظ
الذي حلف به. وقوله: "أعظم" بالنصب على الحال و "أسمنه" عطفه
عليه. و قوله: "جازت" أي مرت، و "ردت" أي أعيدت. قوله:
"لا يؤدي حقها" في رواية مسلم من طريق وكيع وأبي معاوية كلاهما عن
الأعمش لا يؤدي زكاتها، وهو أصرح في مقصود الترجمة. وقد تقدم الكلام على بقية
المتن في أوائل الزكاة، واستدل بقوله: "يكون له إبل أو بقر" ففي مستواه
زكاة البقر والإبل في النصاب، ولا دلالة فيه لأنه قرن معه الغنم وليس نصابها مثل
نصاب الإبل اتفاقا.
" تنبيه ": أخرج مسلم في أول هذا الحديث قصة فيها "هم الأكثرون
أموالا إلا من قال هكذا وهكذا "وقد أفرد البخاري هذه القطعة فأخرجها في كتاب
الأيمان والنذور بهذا الإسناد ولم يذكر هناك القدر الذي ذكره هنا. قوله:
"رواه بكير" يعني ابن عبد الله بن الأشج، ومراد البخاري بذلك موافقة هذه
الرواية لحديث أبي ذر في ذكر البقر لأن الحديثين مستويان في جميع ما وردا فيه، وقد
أخرجه مسلم موصولا من طريق بكير بهذا الإسناد مطولا.
(3/324)
44 - باب الزَّكَاةِ عَلَى
الأَقَارِبِ. وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ
الْقَرَابَةِ وَالصَّدَقَةِ"
1461 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ
الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ
بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ
قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ
لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ
وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ
أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي
عَمِّهِ"
تَابَعَهُ رَوْحٌ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ مَالِكٍ
"رَايِحٌ"
[الحديث 1461 – أطرافه في: 2718, 2758, 27582769, 4555, 5611]
1462 - حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " خَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى
الْمُصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ
فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ تَصَدَّقُوا فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ يَا
مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ
فَقُلْنَ وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ
وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ
لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ثُمَّ
انْصَرَفَ فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ
مَسْعُودٍ تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ زَيْنَبُ
فَقَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ فَقِيلَ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ نَعَمْ
ائْذَنُوا لَهَا فَأُذِنَ لَهَا قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّكَ أَمَرْتَ
الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ
بِهِ فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ
عَلَيْهِمْ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ
زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ"
قوله: "باب الزكاة على الأقارب" قال الزين بن المنير: ووجه استدلاله
لذلك بأحاديث الباب أن صدقة التطوع على الأقارب لما لم ينقص أجرها بوقوعها موقع الصدقة
والصلة معا كانت صدقة الواجب كذلك، لكن لا يلزم من جواز صدقة التطوع على من يلزم
المرء نفقته أن تكون الصدقة الواجبة كذلك. وقد اعترضه الإسماعيلي بأن الذي في
الأحاديث التي ذكرها مطلق الصدقة لا الصدقة الواجبة فلا يتم استدلاله إلا إن أراد
الاستدلال على أن الأقارب في الزكاة أحق بها إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم صرف
الصدقة المتطوع بها إلى الأقارب أفضل فلذلك حينئذ له وجه. قال ابن
(3/325)
رشيد: قد يؤخذ ما اختاره المصنف من حديث أبي طلحة فيما فهمه من الآية، وذلك أن النفقة في قوله: {حَتَّى تُنْفِقُوا} أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا، فعمل بها أبو طلحة في فرد من أفراده، فيجوز أن يعمل بها في بقية مفرداته، ولا يعارضها قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية لأنها تدل على حصر الصدقة الواجبة في المذكورين. وأما صنيع أبي طلحة فبدل على تقديم ذوي القربى إذا اتصفوا بصفة من صفات أهل الصدقة على غيرهم، وسيأتي ذكر من يستثنى من الأقارب في الصدقة الواجبة بعد بابين. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: له أجران أجر القرابة وأجر الصدقة" هذا طرف من حديث فيه قصة لامرأة ابن مسعود، وسيأتي موصولا بعد ثلاثة أبواب. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين: حديث أنس في تصدق أبي طلحة بأرضه، وحديث أبي سعيد في قصة امرأة ابن مسعود وغير ذلك. فأما حديث أنس فسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الوقف. قوله: "بيرحاء" بفتح الموحدة وسكون التحتانية وفتح الراء وبالمهملة والمد، وجاء في ضبطه أوجه كثيرة جمعها ابن الأثير في النهاية فقال: يروى بفتح الباء وبكسرها وبفتح الراء وضمها وبالمد والقصر فهذه ثمان لغات. وفي رواية حماد بن سلمة "بريحا" بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية، وفي سنن أبي داود "باريحا" مثله لكن بزيادة ألف. وقال الباجي: أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور، وكذا جزم به الصغاني وقال: إنه فيعلى من البراح، قال: ومن ذكره بكسر الموحدة وظن أنها بئر من آبار المدينة فقد صحف. قوله: "تابعه روح" يعني عن مالك في قوله: "رابح" بالموحدة وسيأتي من طريقه موصولا في البيوع. قوله: "وقال يحيى بن يحيى وإسماعيل عن مالك زايح" يعني بالتحتانية، أما رواية يحيى فستأتي موصولة في الوكالة وعزاها مغلطاي لتخريج الدارقطني فأبعد، وأما رواية إسماعيل وهو ابن أبي أويس فوصلها المصنف في التفسير، وقد وهم صاحب "المطالع" فقال: رواية يحيى بن يحيى بالموحدة، وكأنه اشتبه عليه الأندلسي بالنيسابوري، فالذي عناه هو الأندلسي والذي عناه البخاري النيسابوري، قال الداني في أطرافه: رواه يحيى بن يحيى الأندلسي بالموحدة وتابعه جماعة، ورواه يحيى بن يحيى النيسابوري بالمثناة وتابعه إسماعيل وابن وهب، ورواه القعنبي بالشك اهـ. ورواية القعنبي وصلها البخاري في الأشربة بالشك كما قال والرواية الأولى واضحة من الربح أي ذو ربح، وقيل هو فاعل بمعنى مفعول أي هو مال مربوح فيه، وأما الثانية فمعناها رائح عليه أجره، قال ابن بطال: والمعنى أن مسافته قريبة وذلك أنفس الأموال، وقيل معناه يروح بالأجر ويغدو به واكتفى بالرواح عن الغدو. وادعى الإسماعيلي أن من رواها بالتحتانية فقد صحف والله أعلم. حديث أبي سعيد تقدم الكلام على صدره مستوفي في كتاب الحيض، وبقية ما فيه من قصة امرأة ابن مسعود يأتي الكلام عليه بعد بابين مستوفي إن شاء الله تعالى. وقوله فيه: "فقيل يا رسول الله هذه زينب" القائل هو بلال كما سيأتي، وقوله: "ائذنوا لها فأذن لها فقالت يا رسول الله إلخ" لم يبين أبو سعيد ممن سمع ذلك، فإن يكن حاضرا عند النبي صلى الله عليه وسلم حال المراجعة المذكورة فهو من مسنده وإلا فيحتمل أن يكون حمله عن زينب صاحبه القصة. والله أعلم.
(3/326)
45 - باب لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي
فَرَسِهِ صَدَقَةٌ
1463 - حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا عبد الله بن دينار قال سمعت سليمان بن يسار عن
عراك بن
(3/326)
مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة"
(3/327)
46 - باب لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي
عَبْدِهِ صَدَقَةٌ
1464 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن خثيم بن عراك قال حدثني أبي عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس على المسلم صدقة في عبده
ولا في فرسه"
قوله: "باب ليس على المسلم في فرسه صدقة" وقال في الذي يليه "ليس
على المسلم في عبده صدقة" ثم أورد حديث أبي هريرة بلفظ الترجمتين مجموعا من
طريقين، لكن في الأولى بلفظ: "غلامه" بدل عبده، قال ابن رشيد: أراد بذلك
الجنس في الفرس والعبد لا الفرد الواحد، إذ لا خلاف في ذلك في العبد المتصرف
والفرس المعد للركوب، ولا خلاف أيضا أنها لا تؤخذ من الرقاب، وإنما قال بعض
الكوفيين يؤخذ منها بالقيمة. ولعل البخاري أشار إلى حديث علي مرفوعا: "قد
عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة" الحديث أخرجه أبو داود وغيره
وإسناده حسن، والخلاف في ذلك عن أبي حنيفة إذا كانت الخيل ذكرانا وإناثا نظرا إلى
النسل، فإذا انفردت فعنه روايتان، ثم عنده أن المالك يتخير بين أن يخرج عن كل فرس
دينارا أو يقوم ويخرج ربع العشر، واستدل عليه بهذا الحديث. وأجيب بحمل النفي فيه
على الرقبة لا على القيمة، واستدل به من قال من أهل الظاهر بعدم وجوب الزكاة فيهما
مطلقا ولو كانا للتجارة، وأجيبوا بأن زكاة التجارة ثابتة بالإجماع كما نقله ابن
المنذر وغيره فيخص به عموم هذا الحديث. والله أعلم.
(3/327)
47 - باب الصَّدَقَةِ عَلَى
الْيَتَامَى
1465 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ
هِلاَلِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ
أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ "أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى
الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ إِنِّي مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ
بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا فَقَالَ
رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَسَكَتَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يُكَلِّمُكَ فَرَأَيْنَا
أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَ فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ أَيْنَ
السَّائِلُ وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ فَقَالَ إِنَّهُ لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ
وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ
الْخَضْرَاءِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ
عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ
خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ
وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ أَوْ كَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ
يَشْبَعُ وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
قوله: "باب الصدقة على اليتامى" قال الزين بن المنير: عبر بالصدقة دون
الزكاة لتردد الخبر بين صدقه الفرض والتطوع، لكون ذكر اليتيم جاء متوسطا بين
المسكين وابن السبيل وهما من مصارف الزكاة.
وقال ابن رشيد: لما
(3/327)
49 - باب الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ
وَالأَيْتَامِ فِي الْحَجْرِ. قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1466 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ
قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ
عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ ح
فَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ
عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بِمِثْلِهِ سَوَاءً قَالَتْ "كُنْتُ
فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ" وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ
عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا قَالَ فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ
سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ
أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ سَلِي
أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ
الأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلاَلٌ
فَقُلْنَا سَلْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي
أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي وَقُلْنَا لاَ تُخْبِرْ
بِنَا فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: "مَنْ هُمَا قَالَ زَيْنَبُ قَالَ أَيُّ
الزَّيَانِبِ قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ
الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ"
1467 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ
هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ
قَالَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي
أَبِي سَلَمَةَ؟ إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ. فَقَالَ أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ فَلَكِ
أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ"
[الحديث 1466 – طرفه في: 5369]
قوله: "باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، قاله أبو سعيد عن النبي صلى
الله عليه وسلم" يشير إلى حديثه السابق موصولا في "باب الزكاة على
الأقارب" وستذكر ما فيه في هذا الحديث. قال ابن رشيد. أعاد الأيتام في هذه
الترجمة لعموم الأولى وخصوص الثانية، ومحمل الحديثين في وجه الاستدلال بهما على
العموم لأن الإعطاء أعم من كونه واجبا أو مندوبا. قوله: "عن عمرو بن
الحارث" هو ابن أبي ضرار بكسر المعجمة الخزاعي ثم المصطلقي أخو جويرية بنت
الحارث روج النبي صلى الله عليه وسلم له صحبة، وروى هنا عن صحابية، ففي الإسناد
تابعي عن تابعي الأعمش عن شقيق، وصحابي عن صحابي عمرو عن زينب وهي بنت معاوية
-ويقال بنت عبد الله بن معاوية- ابن عتاب الثقفية ويقال لها أيضا رائطة، وقع ذلك
في "صحيح ابن حبان": في نحو هذه القصة، ويقال هما ثنتان عند الأكثر وممن
جزم به ابن سعد. وقال الكلاباذي رائطة هي المعروفة بزينب، وبهذا جزم الطحاوي فقال
رائطة هي زينب لا يعلم
(3/328)
أن لعبد الله امرأة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرها، ووقع عند الترمذي عن هناد عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن الحارث بن المصطلق عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله عن امرأة عبد الله فزاد في الإسناد رجلا، والموصوف بكونه ابن أخي زينب هو عمرو بن الحارث نفسه، وكان أباه كان أخا زينب لأمها لأنها ثقفية وهو خزاعي. ووقع عند الترمذي أيضا من طريق شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن عمرو بن الحارث ابن أخي زينب امرأة عبد الله عن زينب، فجعله عبد الله بن عمرو، هكذا جزم به المزي وعقد لعبد الله بن عمرو في "الأطراف" ترجمة لم يزد فيها على ما في هذا الحديث، ولم أقف على ذلك في الترمذي بل وقفت على عدة نسخ منه ليس فيها إلا عمرو بن الحارث، وقد حكى ابن القطان الخلاف فيه على أبي معاوية وشعبة، وخالف الترمذي في ترجيح رواية شعبة في قوله: "عن عمرو بن الحارث عن ابن أخي زينب" لانفراد أبي معاوية بذلك. قال ابن القطان: لا يضره الانفراد لأنه حافظ، وقد وافقه حفص بن غياث في رواية عنه وقد زاد في الإسناد رجلا، لكن يلزم من ذلك أن يتوقف في صحة الإسناد لأن ابن أخي زينب حينئذ لا يعرف حاله. وقد حكى الترمذي في "العلل المفردات" أنه سأل البخاري عنه فحكم على رواية أبي معاوية بالوهم وأن الصواب رواية الجماعة عن الأعمش عن شقيق عن عمرو بن الحارث ابن أخي زينب. قلت: ووافقه منصور عن شقيق أخرجه أحمد، فإن كان محفوظا فلعل أبا وائل حمله عن الأب والابن، وإلا فالمحفوظ عن عمرو بن الحارث، وقد أخرجه النسائي من طريق شعبة على الصواب فقال: "عمرو بن الحارث". قوله: "قال فذكرته لإبراهيم" القائل هو الأعمش، وإبراهيم هو ابن يزيد النخعي، وأبو عبيدة هو ابن عبد الله بن مسعود، ففي هذه الطريق ثلاثة من التابعين، ورجال الطريقين كلهم كوفيون. قوله: "كنت في المسجد فرأيت إلخ" في هذا زيادة على ما في حديث أبي سعيد المتقدم، وبيان السبب في سؤالها ذلك. ولم أقف على تسمية الأيتام الذين كانوا في حجرها. قوله: "فوجدت امرأة من الأنصار" في رواية الطيالسي المذكورة "فإذا امرأة من الأنصار يقال لها زينب" وكذا أخرجه النسائي من طريق أبي معاوية عن الأعمش، وزاد من وجه آخر عن علقمة عن عبد الله قال: "انطلقت امرأة عبد الله يعني ابن مسعود وامرأة أبي مسعود يعني عقبه بن عمرو الأنصاري". قلت: لم يذكر ابن سعد لأبي مسعود امرأة أنصارية سوى هزيلة بنت ثابت بن ثعلبة الخزرجية فلعل لها اسمين، أو وهم من سماها زينب انتقالا من اسم امرأة عبد الله إلى اسمها. قوله: "وأيتام لي في حجري" في رواية النسائي المذكورة "على أزواجنا وأيتام في حجورنا" وفي رواية الطيالسي المذكورة أنهم بنو أخيها وبنو أختها. وللنسائي من طريق علقمة "لإحداهما فضل مال وفي حجرها بنو أخ لها أيتام، وللأخرى فضل مال وزوج خفيف ذات اليد" وهذا القول كناية عن الفقر. قوله: " ولها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة" أي أجر صلة الرحم وأجر منفعة الصدقة، وهذا ظاهره أنها لم تشافهه بالسؤال ولا شافهها بالجواب، وحديث أبي سعيد السابق ببابين يدل على أنها شافهته وشافهها لقولها فيه: "يا نبي الله إنك أمرت" وقوله فيه: "صدق زوجك" فيحتمل أن يكونا قصتين، ويحتمل في الجمع بينهما أن يقال تحمل هذه المراجعة على المجاز، وإنما كانت على لسان بلال والله أعلم. واستدل بهذا الحديث على جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها، وهو قول الشافعي والثوري وصاحبي أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وعن أحمد كذا أطلق بعضهم ورواية المنع عنه مقيدة بالوارث وعبارة الجوزقي: ولا لمن تلزمه مؤونته، فشرحه ابن قدامة بما قيدته قال: والأظهر الجواز مطلقا
(3/329)
إلا للأبوين والولد، وحملوا الصدقة في
الحديث على الواجبة لقولها "أتجزئ عني" وبه جزم المازري، وتعقبه عياض
بأن قوله: "ولو من حليكن" وكون صدقتها كانت من صناعتها يدلان على
التطوع، وبه جزم النووي وتأولوا لقوله: "أتجزئ عني" أي في الوقاية من
النار كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا تحصل لها المقصود. وما أشار إليه من
الصناعة احتج به الطحاوي لقول أبي حنيفة، فأخرج من طريق رائطة امرأة ابن مسعود
أنها كانت امرأة صنعاء اليدين فكانت تنفق عليه وعلى ولده، قال: فهذا يدل على أنها
صدقة تطوع، وأما الحلي فإنما يحتج به على من لا يوجب فيه الزكاة، وأما من يوجب
فلا. وقد روى الثوري عن حماد عن إبراهيم عن علقمة قال: قال ابن مسعود لامرأته في
حليها "إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة" فكيف يحتج على الطحاوي بما لا
يقول به، لكن تمسك الطحاوي بقولها في حديث أبي سعيد السابق "وكان عندي حلي لي
فأردت أن أتصدق به" لأن الحلي ولو قيل بوجوب الزكاة فيه إلا أنها لا تجب في
جميعه، كذا قال وهو متعقب، لأنها وإن لم تجب في عينه فقد تجب فيه بمعنى أنه قدر
النصاب الذي وجب عليها إخراجه، واحتجوا أيضا بأن ظاهر قوله في حديث أبي سعيد
المذكور "زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم" دال على أنها صدقة تطوع،
لأن الولد لا يعطى من الزكاة الواجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره، وفي هذا
الاحتجاج نظر لأن الذي يمتنع إعطاؤه من الصدقة الواجبة من يلزم المعطي نفقته والأم
لا يلزمها نفقة ولدها مع وجود أبيه. وقال ابن التيمي: قوله: "وولدك
"محمول على أن الإضافة للتربية لا للولادة فكأنه ولده من غيرها. وقال ابن
المنير: اعتل من منعها من إعطائها زكاتها لزوجها بأنها تعود إليها في النفقة
فكأنها ما خرجت عنها، وجوابه أن احتمال رجوع الصدقة إليها واقع في التطوع أيضا،
ويؤيد المذهب الأول أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم، فلما ذكرت الصدقة ولم
يستفصلها عن تطوع ولا واجب فكأنه قال: تجزئ عنك فرضا كان أو تطوعا. وأما ولدها
فليس في الحديث تصريح بأنها تعطي ولدها من زكاتها، بل معناه أنها إذا أعطت زوجها
فأنفقه على ولدها كانوا أحق من الأجانب، فالإجزاء يقع بالإعطاء للزوج والوصول إلى
الولد بعد بلوغ الزكاة محلها. والذي يظهر لي أنهما قضيتان: إحداهما في سؤالها عن
تصدقها بحليها على زوجها وولده، والأخرى في سؤالها عن النفقة والله أعلم. وفي
الحديث الحث على الصدقة على الأقارب، وهو محمول في الواجبة على من لا يلزم المعطي نفقته
منهم، واختلف في علة المنع فقيل لأن أخذهم لها يصيرهم أغنياء فيسقط بذلك نفقتهم عن
المعطي، أو لأنهم أغنياء بإنفاقه عليهم، والزكاة لا تصرف لغني، وعن الحسن وطاوس لا
يعطي قرابته من الزكاة شيئا وهو رواية عن مالك. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن
الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة لأن نفقتها واجبة عليه فتستغني بها عن الزكاة، وأما
إعطاؤها للزوج فاختلف فيه كما سبق. وفيه الحث على صلة الرحم وجواز تبرع المرأة
بمالها بغير إذن زوجها. وفيه عظة النساء، وترغيب ولي الأمر في أفعال الخير للرجال
والنساء، والتحدث مع النساء الأجانب عند أمن الفتنة، والتخويف من المؤاخذة بالذنوب
وما يتوقع بسببها من العذاب. وفيه فتيا العالم مع وجود من هو أعلم منه، وطلب
الترقي في تحمل العلم. قال القرطبي: ليس إخبار بلال باسم المرأتين بعد أن
استكتمتاه بإذاعة سر ولا كشف أمانة لوجهين: أحدهما أنهما لم تلزماه بذلك وإنما علم
أنهما رأتا أن لا ضرورة1 تحوج إلى كتمانهما. ثانيهما أنه أخبر بذلك جوابا لسؤال
النبي صلى الله عليه وسلم لكون
ـــــــ
1 كذا في الأصلين اللذين بأيدينا, وفيه إشكال, ولعل الصواب "وإنما علم أن لا
ضرورة"والله أعلم
(3/330)
إجابته أوجب من التمسك بما أمرتاه به من الكتمان، وهذا كله بناء على أنه التزم لهما بذلك. ويحتمل أن تكونا سألتاه، ولا يجب إسعاف كل سائل. قوله: "حدثنا عبدة" هو ابن سليمان، وهشام هو ابن عروة. وفي الإسناد تابعي عن تابعي: هشام عن أبيه، وصحابية عن صحابية: زينب عن أمها. قوله: "على بني أبي سلمة" أي ابن عبد الأسد، وكان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم فتزوجها النبي ولها من أبي سلمة عمرو ومحمد وزينب ودرة، وليس في حديث أم سلمة تصريح بأن الذي كانت تنفقه عليهم من الزكاة، فكان القدر المشترك من الحديث حصول الإنفاق على الأيتام والله أعلم. قوله: "فلك أجر ما أنفقت عليهم" رواه الأكثر بالإضافة على أن تكون "ما" موصولة، وجوز أبو جعفر الغرناطي نزيل حلب تنوين "أجر" على أن تكون "ما" ظرفية، ذكر ذلك لنا عنه الشيخ برهان الدين المحدث بحلب.
(3/331)
49 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
[التوبة 60]: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}
وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ
مَالِهِ وَيُعْطِي فِي الْحَجِّ
وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنْ الزَّكَاةِ جَازَ وَيُعْطِي فِي
الْمُجَاهِدِينَ وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ
ثُمَّ تَلاَ [التوبة 60]: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ فِي
أَيِّهَا أَعْطَيْتَ أَجْزَأَتْ
وَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ"
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي لاَسٍ "حَمَلَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ"
1468 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
"أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ,
فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ, فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلاَّ
أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ, وَأَمَّا خَالِدٌ
فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا قَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ, وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا
مَعَهَا "
تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ
أَبِي الزِّنَادِ "هِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا مَعَهَا"
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ حُدِّثْتُ عَنِ الأَعْرَجِ بِمِثْلِهِ
قوله: "باب قول الله تعالى وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله" قال
الزين بن المنير: اقتطع البخاري هذه الآية من التفسير للاحتياج إليها في بيان
مصاريف الزكاة. قوله: "ويذكر عن ابن عباس يعتق من زكاة ماله ويعطي في
الحج" وصله أبو عبيد في "كتاب الأموال" من طريق حسان بن أبي الأشرس
عن مجاهد عنه أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق
منه الرقبة أخرجه عن أبي معاوية عن الأعمش عنه. وأخرج عن أبي بكر بن عياش عن
الأعمش عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: "أعتق من زكاة مالك"،
وتابع أبا معاوية عبدة بن سليمان رويناه في "فوائد يحيى بن معين" رواية
أبي بكر بن علي المروزي عنه عن عبدة عن الأعمش عن ابن أبي الأشرس ولفظه: "كان
يخرج زكاته ثم يقول جهزوا منها إلى الحج" وقال الميموني: قلت لأبي عبد الله
(3/331)
يشتري الرجل من زكاة ماله الرقاب فيعتق ويجعل في ابن السبيل؟ قال: نعم، ابن عباس يقول ذلك ولا أعلم شيئا يدفعه. وقال الخلال: أخبرنا أحمد بن هاشم قال قال أحمد: كنت أرى أن يعتق من الزكاة، ثم كففت عن ذلك لأني لم أره يصح. قال حرب: فاحتج عليه بحديث ابن عباس، فقال: هو مضطرب انتهى. وإنما وصفه بالاضطراب للاختلاف في إسناده على الأعمش كما ترى، ولهذا لم يجزم به البخاري. وقد اختلف السلف في تفسير قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} فقيل: المراد شراء الرقبة لتعتق، وهو رواية ابن القاسم عن مالك واختيار أبي عبيد وأبي ثور وقول إسحاق وإليه مال البخاري وابن المنذر. وقال أبو عبيد: أعلى ما جاء فيه قول ابن عباس وهو أولى بالاتباع وأعلم بالتأويل. وروى ابن وهب عن مالك أنها في المكاتب وهو قول الشافعي والليث والكوفيين وأكثر أهل العلم، ورجحه الطبري. وفيه قول ثالث أن سهم الرقاب يجعل نصفين: نصف لكل مكاتب يدعي الإسلام، ونصف يشتري بها رقاب ممن صلى وصام، أخرجه ابن أبي حاتم وأبو عبيد في الأموال بإسناد صحيح عن الزهري أنه كتب ذلك لعمر بن عبد العزيز، واحتج للأول بأنها لو اختصت بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين لأنه غارم، وبأن شراء الرقيق ليعتق أولى من إعانة المكاتب لأنه قد يعان ولا يعتق، ولأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم والزكاة لا تصرف للعبد، ولأن الشراء يتيسر في كل وقت بخلاف الكتابة، ولأن ولاءه يرجع للسيد فيأخذ المال والولاء بخلاف ذلك فإن عتقه يتنجز ويصير ولاؤه للمسلمين، وهذا الأخير على طريقة مالك في ذلك. وقال أحمد وإسحاق: يرد ولاؤه في شراء الرقاب للعتق أيضا. وعن مالك: الولاء للمعتق تمسكا بالعموم. وقال عبيد الله العنبري: يجعل في بيت المال. وأما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو فقيرا إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج. وعن أحمد وإسحاق الحج من سبيل الله، وقد تقدم أثر ابن عباس. وقال ابن عمر "أما أن الحج من سبيل الله" أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح عنه. وقال ابن المنذر: إن ثبت حديث أبي لاس -يعني الآتي في هذا الباب- قلت بذلك. وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة. ولم يتملكوها. قوله: "وقال الحسن إلخ" هذا صحيح عنه أخرج أوله ابن أبي شيبة من طريقه وهو مصير منه إلى القول بالمسألتين معا الإعتاق من الزكاة والصرف منها في الحج، إلا أن تنصيصه على شراء الأب لم يوافقه عليه الباقون لأنه يعتق عليه ولا يصير ولاؤه للمسلمين فيستعيد المنفعة ويوفر ما كان يخرجه من خالص ماله لدفع عار استرقاق أبيه. وقوله: "في أيها أعطيت جزت" كذا في الأصل بغير همز أي قضت، وفيه مصير منه إلى أن اللام في قوله: "للفقراء" لبيان المصرف لا للتمليك، فلو صرف الزكاة في صنف واحد كفى. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم" إن خالدا إلخ" سيأتي موصولا في هذا الباب. قوله: "ويذكر عن أبي لاس" بسين مهملة، خزاعي اختلف في اسمه فقيل زياد، وقيل عبد الله بن عنمة بمهملة ونون مفتوحتين، وقيل غير ذلك. له صحبة وحديثان هذا أحدهما. وقد وصله أحمد وابن خزيمة والحاكم وغيرهم من طريقه، ولفظ أحمد "على إبل من إبل الصدقة ضعاف للحج، فقلنا: يا رسول الله ما نرى أن تحمل هذه. فقال: إنما يحمل الله" الحديث ورجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته. قوله: "عن الأعرج" في رواية النسائي من طريق علي بن عياش عن شعيب مما حدثه عبد الرحمن الأعرج مما ذكر أنه سمع أبا هريرة يقول قال قال عمر فذكره، صرح بالتحديث في الإسناد وزاد فيه عمر، والمحفوظ أنه من مسند أبي هريرة وإنما جرى لعمر فيه ذكر فقط. قوله: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة" في رواية مسلم من طريق ورقاء عن أبي
(3/332)
الزناد "بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم عمر ساعيا على الصدقة" وهو مشعر بأنها صدقة الفرض، لأن صدقة التطوع
لا يبعث عليها السعاة. وقال ابن القصار المالكي: الأليق أنها صدقة التطوع لأنه لا
يظن بهؤلاء الصحابة أنهم منعوا الفرض. وتعقب بأنهم ما منعوه كلهم جحدا ولا عنادا،
أما ابن جميل فقد قيل: إنه كان منافقا ثم تاب بعد ذلك، كذا حكاه المهلب، وجزم
القاضي حسين في تعليقه أن فيه نزلت: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية
انتهى.
والمشهور أنها نزلت في ثعلبة، وأما خالد فكان متأولا بإجزاء ما حبسه عن الزكاة،
وكذلك العباس لاعتقاده ما سيأتي التصريح به، ولهذا عذر النبي صلى الله عليه وسلم
خالدا والعباس ولم يعذر ابن جميل. قوله: "فقيل منع ابن جميل" قائل ذلك
عمر كما سيأتي في حديث ابن عباس في الكلام على قصة العباس، ووقع في رواية ابن أبي
الزناد عند أبي عبيد "فقال بعض من يلمز" أي يعيب. وابن جميل لم أقف على
اسمه في كتب الحديث، لكن وقع في تعليق القاضي الحسين المروزي الشافعي وتبعه
الروياني أن اسمه عبد الله، ووقع في شرح الشيخ سراج الدين بن الملقن أن ابن بزيزة
سماه حميدا، ولم أر ذلك في كتاب ابن بزيزة. ووقع في رواية ابن جريج أبو جهم بن
حذيفة بدل ابن جميل، وهو خطأ لإطباق الجميع على ابن جميل، وقول الأكثر أنه كان
أنصاريا، وأما أبو جهم ابن حذيفة فهو قرشي فافترقا، وذكر بعض المتأخرين أن أبا
عبيد البكري ذكر في شرح الأمثال له أنه أبو جهم بن جميل. قوله:
"والعباس" زاد ابن أبي الزناد عن أبيه عند أبي عبيد "أن يعطوا
الصدقة" قال فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذب عن اثنين العباس وخالد.
قوله: "ما ينقم" بكسر القاف أي ما ينكر أو يكره، وقوله: "فأغناه
الله ورسوله" إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه لأنه كان سببا
لدخوله في الإسلام فأصبح غنيا بعد فقره بما أفاء الله على رسوله وأباح لأمته من
الغنائم، وهذا السياق من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم لأنه إذا لم يكن له عذر
إلا ما ذكر من أن الله أغناه فلا عذر له، وفيه التعريض بكفران النعم وتقريع بسوء
الصنيع في مقابلة الإحسان. قوله: "احتبس" أي حبس. قوله:
"وأعتده" بضم المثناة جمع عتد بفتحتين، ووقع في رواية مسلم:
"أعتاده" وهو جمعه أيضا، قبل هو ما يعده الرجل من الدواب والسلاح، وقيل
الخيل خاصة، يقال فرس عتيد أي صلب أو معد للركوب أو سريع الوثوب أقوال، وقيل إن
لبعض رواة البخاري "وأعبده "بالموحدة جمع عبد حكاه عياض، والأول هو
المشهور. قوله: "فهي عليه صدقة ومثلها معها" كذا في رواية شعيب، ولم يقل
ورقاء ولا موسى بن عقبة "صدقة" فعلى الرواية الأولى يكون صلى الله عليه
وسلم ألزمه بتضعيف صدقته1 ليكون أرفع لقدره وأنبه لذكره وأنفى للذم عنه، فالمعنى
فهو صدقة ثابتة عليه سيصدق بها ويضيف إليها مثلها كرما، ودلت رواية مسلم على أنه
صلى الله عليه وسلم التزم بإخراج ذلك عنه لقوله: "فهي علي" وفيه تنبيه على
سبب ذلك وهو قوله: "إن العم صنو الأب" تفضيلا له وتشريفا، ويحتمل أن
يكون تحمل عنه بها فيستفاد منه أن الزكاة تتعلق بالذمة كما هو أحد قولي الشافعي،
وجمع بعضهم بين رواية: "علي" ورواية: "عليه" بأن الأصل رواية:
"علي" ورواية: "عليه" مثلها إلا أن فيها زيادة هاه السكت حكاه
ابن الجوزي عن ابن ناصر، وقيل معنى قوله: "علي" أي هي عندي قرض لأنني
استسلفت منه صدقة عامين، وقد ورد ذلك صريحا فيما أخرجه الترمذي وغيره من حديث علي
وفي إسناده مقال، وفي الدارقطني من طريق موسى بن طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "إنا كنا احتجنا فتعجلنا من
ـــــــ
1 هذا فيه نظر, وظاهر الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم تركها له وتحملها عنه
وسمى ذلك صدقه تجوزا وتسامحا في اللفظ, ويدل على ذلك رواية مسلم فهي "علي
ومثلها" فتأمل
(3/333)
العباس صدقة ماله سنتين" وهذا مرسل، وروى الدارقطني أيضا موصولا بذكر طلحة فيه وإسناد المرسل أصح، وفي الدارقطني أيضا من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعيا، فأتى العباس فأغلظ له، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله العام، والعام المقبل" وفي إسناده ضعف، وأخرجه أيضا هو والطبراني من حديث أبي رافع نحو هذا وإسناده ضعيف أيضا، ومن حديث ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقته سنتين "وفي إسناده محمد بن ذكوان وهو ضعيف، ولو ثبت لكان رافعا للإشكال ولرجح به سياق رواية مسلم على بقية الروايات، وفيه رد لقول من قال: إن قصة التعجيل إنما وردت في وقت غير الوقت الذي بعث فيه عمر لأخذ الصدقة، وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق والله أعلم. وقيل: المعنى استسلف منه قدر صدقة عامين؛ فأمر أن يقاص به من ذلك، واستبعد ذلك بأنه لو كان وقع لكان صلى الله عليه وسلم أعلم عمر بأنه لا يطالب العباس، وليس ببعيد. ومعنى "عليه" على التأويل الأول أي لازمة "له" وليس معناه أنه يقبضها لأن الصدقة عليه حرام لكونه من بني هاشم، ومنهم من حمل رواية الباب على ظاهرها فقال: كان ذلك قبل تحريم الصدقة على بني هاشم، ويؤيده رواية موسى بن عقبة عن أبي الزناد عند ابن خزيمة بلفظ: "فهي له" بدل "عليه" وقال الببيهقي: اللام هنا بمعنى على لتتفق الروايات، وهذا أولى لأن المخرج واحد، وإليه مال ابن حبان. وقيل: معناها فهي له أي القدر الذي كان يراد منه أن يخرجه لأنني التزمت عنه بإخراجه، وقيل إنه أخرها عنه ذلك العام إلى عام قابل فيكون عليه صدقة عامين قاله أبو عبيد، وقيل إنه كان استدان حين فادى عقيلا وغيره فصار من جملة الغارمين فساغ له أخذ الزكاة بهذا الاعتبار. وأبعد الأقوال كلها قول من قال: كان هذا في الوقت الذي كان فيه التأديب بالمال، فألزم العباس بامتناعه من أداء الزكاة بأن يؤدي ضعف ما وجب عليه لعظمة قدره وجلالته كما في قوله تعالى في نساء النبي صلى الله عليه وسلم: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} الآية، وقد تقدم بعضه في أول الكلام، واستدل بقصة خالد على جواز إخراج مال الزكاة في شراء السلاح وغيره من آلات الحرب والإعانة بها في سبيل الله، بناء على أنه عليه الصلاة والسلام أجاز لخالد أن يحاسب نفسه بما حبسه فيما يجب عليه كما سبق، وهي طريقة البخاري. وأجاب الجمهور بأجوبة: أحدها أن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل أخبار من أخبره بمنع خالد حملا على أنه لم يصرح بالمنع، وإنما نقلوه عنه بناء على ما فهموه، ويكون قوله: "تظلمونه" أي بنسبتكم إياه إلى المنع وهو لا يمنع، وكيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه وخيله؟ ثانيها أنهم ظنوا أنها للتجارة فطالبو بزكاة قيمتها فأعلمهم عليه الصلاة والسلام بأنه لا زكاة عليه فيما حبس، وهذا يحتاج لنقل خاص فيكون فيه حجة لمن أسقط الزكاة عن الأموال المحبسة، ولمن أوجبها في عروض التجارة. ثالثها أنه كان نوى بإخراجها عن ملكه الزكاة عن ماله لأن أحد الأصناف سبيل الله وهم المجاهدون، وهذا يقوله من يجير إخراج القيم في الزكاة كالحنفية ومن يجز التعجيل كالشافعية، وقد تقدم استدلال البخاري به على إخراج العروض في الزكاة. واستدل بقصة خالد على مشروعية تحبيس الحيوان والسلاح، وأن الوقف يجوز بقاؤه تحت يد محتبسه، وعلى جواز إخراج العروض في الزكاة وقد سبق ما فيه، وعلى صرف الزكاة إلى صنف واحد من الثمانية. وتعقب ابن دقيق العيد جميع ذلك بأن القصة واقعة عين. محتملة لما ذكر ولغيره، فلا ينهض الاستدلال بها على شيء مما ذكر، قال: ويحتمل أن يكون تحبيس خالد إرصادا وعدم تصرف، ولا يبعد أن يطلق على ذلك التحبيس فلا يتعين الاستدلال بذلك
(3/334)
لما ذكر. وفي الحديث بعث الإمام العمال لجباية الزكاة، وتنبيه الغافل على ما أنعم الله به من نعمة الغنى بعد الفقر ليقوم بحق الله عليه، والعتب على من منع الواجب، وجواز ذكره في غيبته بذلك، وتحمل الإمام عن بعض رعيته ما يجب عليه، والاعتذار عن بعض الرعية بما يسوغ الاعتذار به. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
(3/335)
50 - باب الِاسْتِعْفَافِ عَنْ
الْمَسْأَلَةِ
1469 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "إِنَّ نَاسًا مِنْ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ
فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ
مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ
يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ
يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ
الصَّبْرِ"
[الحديث 1469 – طرفه في: 6470]
1470 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لاَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ
لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ"
[الحديث 1470 – أطرفاه في:1480, 2074, 2374]
1471 - حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لاَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ
فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ
بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ
مَنَعُوهُ"
[الحديث 1471 – طرفاه في:2075, 2373]
1472 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ
حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي
ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ
خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ
أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ
يَشْبَعُ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى قَالَ حَكِيمٌ
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا
بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا" فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ
مِنْهُ ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى
أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا
الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ
النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
تُوُفِّيَ"
[الحديث 1472 – أطرافه في:2750]
(3/335)
قوله: "باب الاستعفاف عن المسألة" أي في شيء من غير المصالح الدينية. قوله: "إن ناسا من الأنصار" لم يتعين لي أسماؤهم، إلا أن النسائي روى من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ما يدل على أن أبا سعيد راوي هذا الحديث خوطب بشيء من ذلك ولفظه ففي حديثه "سرحتني أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة، فأتيته وقعدت، فاستقبلني فقال: من استغنى أغناه الله" الحديث وزاد فيه: "ومن سأل وله أوقية فقد ألحف" . فقلت: ناقتي خير من أوقية، فرجعت ولم أسأله" وعند الطبراني من حديث حكيم بن حزام أنه ممن خوطب ببعض ذلك، ولكنه ليس أنصاريا إلا بالمعنى الأعم. قوله: "حتى نفد" بكسر الفاء أي فرغ. قوله: "فلن أدخره عنكم " أي أحبسه وأخبؤه وأمنعكم إياه منفردا به عنكم، وفيه ما كان عليه من السخاء وإنفاذ أمر الله، وفيه إعطاء السائل مرتين، والاعتذار إلى السائل، والحض على التعفف. وفيه جواز السؤال للحاجة وإن كان الأولى تركه والصبر حتى يأتيه رزقه بغير مسألة، وقوله: "ومن يستعفف" في رواية الكشميهني: "يستعف". حديث أبي هريرة والزبير بن العوام بمعناه. وفي رواية الزبير زيادة "فيبيعها فيكف الله بها وجهه" وذلك مراد في حديث أبي هريرة وحذف لدلالة السياق عليه. وفي رواية أبي هريرة "يأتي رجلا" وفي حديث الزبير "يسأل الناس" والمعنى واحد. وزاد في أول حديث أبي هريرة قوله: "والذي نفسي بيده" ففيه القسم على الشيء المقطوع بصدقه لتأكيده في نفس السامع، وفيه الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعط ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل، وأما قوله: "خير له" فليست بمعنى أفعل التفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، والأصح عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرام، ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل وتسميته الذي يعطاه خيرا وهو في الحقيقة شر، والله أعلم. حديث أبي هريرة والزبير بن العوام بمعناه. وفي رواية الزبير زيادة "فيبيعها فيكف الله بها وجهه" وذلك مراد في حديث أبي هريرة وحذف لدلالة السياق عليه. وفي رواية أبي هريرة "يأتي رجلا" وفي حديث الزبير "يسأل الناس" والمعنى واحد. وزاد في أول حديث أبي هريرة قوله: "والذي نفسي بيده" ففيه القسم على الشيء المقطوع بصدقه لتأكيده في نفس السامع، وفيه الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعط ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل، وأما قوله: "خير له" فليست بمعنى أفعل التفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، والأصح عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرام، ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل وتسميته الذي يعطاه خيرا وهو في الحقيقة شر، والله أعلم. قوله: "إن هذا المال خضرة" أنث الخبر لأن المراد الدنيا. قوله: "خضرة حلوة" شبهه بالرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلذة فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده بالنسبة إلى اليابس، والحلو مرغوب فيه على انفراده بالنسبة للحامض، فالإعجاب بهما إذا اجتمعا أشد. قوله: "بسخاوة نفس" أي بغير شره ولا إلحاح أي من أخذه بغير سؤال، وهذا بالنسبة إلى الأخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المعطي أي بسخاوة نفس المعطي أي انشراحه بما يعطيه. قوله: "كالذي يأكل ولا يشبع" أي الذي يسمى جوعه كذابا لأنه من علة به وسقم، فكلما أكل ازداد سقما ولم يجد شبعا. قوله: "اليد العليا" تقدم الكلام عليه مستوفي في "باب لا صدقة إلا عن ظهر غني". قوله: "لا أرزأ" بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الزاي بعدها همزة أي لا أنقص ماله بالطلب منه. وفي رواية لإسحاق "قلت فوالله لا تكون يدي بعدك تحت يد من أيدي العرب" وإنما امتنع حكيم من أخذ العطاء مع أنه حقه لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئا فيعتاد الأخذ فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده ففطمها عن ذلك وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، وإنما أشهد عليه عمر لأنه أراد أن لا ينسبه أحد لم يعرف باطن الأمر إلى منع حكيم من حقه. قوله: "حتى توفي" زاد إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق عمر بن عبد الله بن عروة مرسلا أنه ما أخذ من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا معاوية ديوانا ولا غيره حتى مات لعشر سنين مع إمارة معاوية. قال ابن أبي جمرة: في حديث حكيم فوائد، منها أنه قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها، تقول سخت بكذا أي جادت وسخت عن كذا أي لم
(3/336)
تلتفت إليه. ومنها أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق، فتبين أن الزهد يحصل خيري الدنيا والآخرة. وفيه ضرب المثل لما لا يعقله السامع من الأمثلة، لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير فبين بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون، فالأكل إنما يأكل ليشبع فإذا أكل ولم يشبع كان عناء في حقه بغير فائدة، وكذلك المال ليست الفائدة في عينه وإنما هي لما يتحصل به من المنافع، فإذا كثر عند المرء بغير تحصيل منفعة كان وجوده كالعدم. وفيه أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء حاجته لتقع موعظته له الموقع، لئلا يتخيل أن ذلك سبب لمنعه من حاجته. وفيه جواز تكرار السؤال ثلاثا، وجواز المنع في الرابعة والله أعلم، وفي الحديث أيضا أن سؤال الأعلى ليس بعار، وأن رد السائل بعد ثلاث ليس بمكروه، وأن الإجمال في الطلب مقرون بالبركة. وقد زاد إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق معمر عن الزهري في آخره: "فمات حين مات وإنه لمن أكثر قريش مالا". وفيه أيضا سبب ذلك وهو "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى حكيم بن حزام دون ما أعطى أصحابه فقال حكيم: يا رسول الله ما كنت أظن أن تقصر بي دون أحد من الناس، فزاده، ثم استزاده حتى رضي" فذكر نحو الحديث.
(3/337)
باب من أعطاه الله سيئا من غير مسألة
ولا إشراف نفس
...
51 - باب مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلاَ إِشْرَافِ
نَفْسٍ
{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[19 الذريات]
1473 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ
أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ
شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لاَ فَلاَ
تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ"
[الحديث 1473 – طرفاه في: 7163, 7164]
قوله: "باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس. وفي أموالهم حق
للسائل والمحروم" في رواية المستملي تقديم الآية، وسقطت للأكثر، ومطابقتها
لحديث الباب من جهة دلالتها على مدح من يعطي السائل وغير السائل، وإذا كان المعطي
ممدوحا فعطيته مقبولة وآخذها غير ملوم. وقد اختلف أهل العلم بالتفسير في المراد
بالمحروم: فروى الطبري من طريق ابن شهاب أنه المتعفف الذي لا يسأل. وأخرجه ابن أبي
حاتم من وجه آخر عن ابن شهاب أنه بلغه، فذكر مثله، وأخرجه الطبري عن قتادة مثله.
وأخرج فيه أقوالا أخر، وعلى التفسير المذكور تنطبق الترجمة. والأشراف بالمعجمة
التعرض للشيء والحرص عليه، من قولهم أشرف على كذا إذا تطاول له، وقيل للمكان المرتفع
شرف لذلك. وتقدير جواب الشرط فليقبل، أي من أعطاه الله مع انتفاء القيدين
المذكورين فليقبل. وإنما حذفه للعلم به. وأوردها بلفظ العموم وإن كان الخبر ورد في
الإعطاء من بيت المال لأن الصدقة للفقير في معنى العطاء للغني إذا انتفى الشرطان.
قال أبو داود سألت أحمد عن إشراف النفس فقال: بالقلب. وقال يعقوب بن محمد سألت
أحمد عنه فقال: هو أن يقول مع نفسه يبعث إلي فلان بكذا. وقال الأثرم يضيق عليه أن
يرده إذا كان كذلك. قوله: "فأقول أعطه من هو أفقر إليه مني" زاد في
رواية شعيب عن الزهري الآتية في الأحكام "حتى أعطاني مرة مالا فقلت: أعطه من
هو أفقر إليه مني، فقال: خذه فتموله وتصدق به" وذكر
(3/337)
شعيب فيه عن الزهري إسنادا آخر قال: أخبرني السائب بن يزيد أن حويطب بن عبد العزى أخبره أن عبد الله بن السعدي أخبره أنه قدم على عمر في خلافته فذكر قصة فيها هذا الحديث. والسائب فمن فوقه صحابة؛ ففيه أربعة من الصحابة في نسق. وقد أخرجه مسلم من رواية عمرو بن الحارث عن الزهري بالإسنادين، لكن قال فيه: "عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر" فذكره، جعله من مسند ابن عمر. وأخرجه مسلم أيضا من وجه آخر عن ابن السعدي عن عمر، لكن قال فيه ابن الساعدي وزاد فيه: "أن عطية النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بسبب العمالة" ولهذا قال الطحاوي: ليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام، وليست هي من جهة الفقر ولكن من الحقوق، فلما قال عمر أعطه من هو أفقر إليه مني لم يرض بذلك لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر قال: ويؤيده قوله في رواية شعيب "خذه فتموله" فدل ذلك على أنه ليس من الصدقات. وقال الطبري: اختلفوا في قوله فخذه بعد إجماعهم على أنه أمر ندب، فقيل هو ندب لكل من أعطي عطية أبى قبولها كائنا من كان، وهذا هو الراجح يعني بالشرطين المتقدمين. وقيل هو مخصوص بالسلطان، ويؤيده حديث سمرة في السنن "إلا أن يسأل ذا سلطان" وكان بعضهم يقول: يحرم قبول العطية من السلطان، وبعضهم يقول يكره، وهو محمول على ما إذا كانت العطية من السلطان الجائر، والكراهة محمولة على الورع وهو المشهور من تصرف السلف والله أعلم. والتحقيق في المسألة أن من علم كون ماله حلالا فلا ترد عطيته، ومن علم كون ماله حراما فتحرم عطيته، ومن شك فيه فالاحتياط رده وهو الورع، ومن أباحه أخذ بالأصل. قال ابن المنذر: واحتج من رخص فيه بأن الله تعالى قال في اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وقد رهن الشارع درعه عند يهودي مع علمه بذلك، وكذلك أخذ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير والمعاملات الفاسدة. وفي حديث الباب أن للإمام أن يعطي بعض رعيته إذا رأى لذلك وجها وإن كان غيره أحوج إليه منه، وأن رد عطية الإمام ليس من الأدب ولا سيما من الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية.
(3/338)
52 - باب مَنْ سَأَلَ النَّاسَ
تَكَثُّرًا
1474 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ
حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ"
1474 - وَقَالَ " إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى
يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ
ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي
جَعْفَرٍ فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ
بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا
يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ وَقَالَ مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ
النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ أَخِي الزُّهْرِيِّ
عَنْ حَمْزَةَ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَة
[الحديث1475 – طرفه في: 4718]
(3/338)
قوله: "باب من سأل الناس تكثرا" أي فهو مذموم، قال ابن رشيد: حديث المغيرة في النهي عن كثرة السؤال الذي أورده في الباب الذي يليه أصرح في مقصود الترجمة من حديث الباب، وإنما آثره عليه لأن من عادته أن يترجم بالأخفى، أو لاحتمال أن يكون المراد بالسؤال في حديث المغيرة النهي عن المسائل المشكلة كالأغلوطات، أو السؤال عما لا يغني، أو عما لم يقع مما يكره وقوعه، قال: وأشار مع ذلك إلى حديث ليس على شرطه، وهو ما أخرجه الترمذي من طريق حبشي ابن جنادة في أثناء حديث مرفوع وفيه: "ومن سأل الناس ليثري ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة، فمن شاء فليقل ومن شاء فليكثر" انتهى. وفي صحيح مسلم من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة ما هو مطابق للفظ الترجمة، فاحتمال كونه أشار إليه أولى ولفظه: "من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا" الحديث، والمعنى أنه يسأل ليجمع الكثير من غير احتياج إليه. قوله: "عن عبيد الله بن أبي جعفر" في رواية أبي صالح الآتية "حدثنا عبيد الله". قوله: "مزعة لحم" مزعة بضم الميم وحكي كسرها وسكون الزاي بعدها مهملة أي قطعة. وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح الميم والزاي، والذي أحفظه عن المحدثين الضم، قال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد أنه يأتي ساقطا لا قدر له ولا جاه، أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء لكونه أذل وجهه بالسؤال، أو أنه يبعث ووجهه عظم كله فيكون ذلك شعاره الذي يعرف به انتهى. والأول صرف للحديث عن ظاهره، وقد يؤيده ما أخرجه الطبراني والبزار من حديث مسعود بن عمرو مرفوعا: "لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه فلا يكون له عند الله وجه" وقال ابن أبي جمرة: معناه أنه ليس في وجهه من الحسن شيء، لأن حسن الوجه هو بما فيه من اللحم. ومال المهلب إلى حمله على ظاهره، وإلى أن السر فيه أن الشمس تدنو يوم القيامة، فإذا جاء لا لحم بوجهه كانت أذية الشمس له أكثر من غيره، قال: والمراد به من سأل تكثرا وهو غني لا تحل له الصدقة، وأما من سأل وهو مضطر فذلك مباح له فلا يعاقب عليه انتهى. وبهذا تظهر مناسبة إيراد هذا الطرف من حديث الشفاعة عقب هذا الحديث، قال ابن المنير في الحاشية: لفظ الحديث دال على ذم تكثير السؤال، والترجمة لمن سأل تكثرا، والفرق بينهما ظاهر، لكن لما كان المتوعد عليه على ما تشهد به القواعد هو السائل عن غني وأن سؤال ذي الحاجة مباح نزل البخاري الحديث على من يسأل ليكثر ماله. "بآدم ثم بموسى" هذا فيه اختصار، وسيأتي في الرقاق في حديث الشفاعة الطويل ذكر من يقصدونه بين آدم وموسى وبين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وكذا الكلام على بقية ما في حديث الشفاعة مما يحتاج إلى الشرح. قوله: "وزاد عبد الله بن صالح" كذا عند أبي ذر، وسقط قوله: "ابن صالح" من رواية الأكثر، ولهذا جزم خلف وأبو نعيم بأنه ابن صالح، وقد رويناه في "الإيمان" لابن منده من طريق أبي زرعة الرازي عن يحيى بن بكير وعبد الله بن صالح جميعا عن الليث، وساقه بلفظ: "عبد الله بن صالح" وقد رواه موصولا من طريق عبد الله بن صالح وحده البزار عن محمد بن إسحاق الصغاني والطبراني في الأوسط عن مطلب بن شعيب وابن منده في "كتاب الإيمان" من طريق يحيى بن عثمان ثلاثتهم عن عبد الله بن صالح فذكره وزاد بعد قوله: "استغاثوا بآدم: فيقول لست بصاحب ذلك" وتابع عبد الله بن صالح على هذه الزيادة عبد الله بن عبد الحكم عن الليث أخرجه ابن منده أيضا. قوله: "بحلقة الباب" أي باب الجنة، أو هو مجاز عن القرب إلى الله تعالى، والمقام المحمود هو الشفاعة العظمى التي اختص بها وهي إراحة أهل الموقف من أهوال القضاء بينهم والفراغ من حسابهم، والمراد بأهل الجمع أهل الحشر
(3/339)
لأنه يوم يجمع فيه الناس كلهم. وسيأتي بقية الكلام على المقام المحمود في تفسير سورة سبحان إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال معلى" بضم الميم وفتح المهملة وتشديد اللام المفتوحة، وهو ابن أسد، وقد وصله يعقوب بن سفيان في تاريخه عنه، ومن طريق البيهقي، وآخر حديثه "مزعة لحم" وفيه قصة لحمزة بن عبد الله بن عمر مع أبيه في ذلك، ولهذا قيده المصنف بقوله: "في المسألة" أي في الشق الأول من الحديث دون الزيادة، ورويناه أيضا في "معجم أبي سعيد بن الأعرابي" قال حدثنا حمدان بن علي عن معلى بن أسد به، وفي هذا الحديث أن هذا الوعيد يختص بمن أكثر السؤال لا من ندر ذلك منه، ويؤخذ منه جواز سؤال غير المسلم لأن لفظ: "الناس" يعم قاله ابن أبي جمرة، وحكي عن بعض الصالحين أنه كان إذا احتاج سأل ذميا لئلا يعاقب المسلم بسببه لو رده.
(3/340)
باب قول الله تعالى: {لا يسألون الناس
إلحافا}
...
53 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [273 البقرة] {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ
إِلْحَافًا}
وَكَمْ الْغِنَى وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"وَلاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ"
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ - إلى قوله - فَإِنَّ
اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [273 البقرة]
1476 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ
الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الأُكْلَةَ وَالأُكْلَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ
الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِي أَوْ لاَ يَسْأَلُ النَّاسَ
إِلْحَافًا"
[الحديث 1476 – طرفاه في: 1479, 4539]
1477 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ ابْنِ أَشْوَعَ عَنْ الشَّعْبِيِّ
حَدَّثَنِي كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنْ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ
كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ
السُّؤَالِ"
1478 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَعْطَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ قَالَ
فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ رَجُلاً
لَمْ يُعْطِهِ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ
وَاللَّهِ إِنِّي لاَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ مُسْلِمًا قَالَ فَسَكَتُّ
قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
لَكَ عَنْ فُلاَنٍ وَاللَّهِ إِنِّي لاَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ مُسْلِمًا
قَالَ فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ وَاللَّهِ إِنِّي لاَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ
مُسْلِمًا يَعْنِي فَقَالَ إِنِّي لاَعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ" وَعَنْ أَبِيهِ
عَنْ صَالِحٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي
(3/340)
يُحَدِّثُ بِهَذَا فَقَالَ فِي
حَدِيثِهِ فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ
فَجَمَعَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي ثُمَّ قَالَ "أَقْبِلْ أَيْ سَعْدُ إِنِّي
لاَعْطِي الرَّجُلَ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ {فَكُبْكِبُوا} قُلِبُوا
{مُكِبًّا} أَكَبَّ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى أَحَدٍ
فَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ قُلْتَ كَبَّهُ اللَّهُ لِوَجْهِهِ وَكَبَبْتُهُ أَنَا
1479 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ
عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ
وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي
لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلاَ يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلاَ
يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ"
1480 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا
الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ
حَبْلَهُ ثُمَّ يَغْدُوَ أَحْسِبُهُ قَالَ إِلَى الْجَبَلِ فَيَحْتَطِبَ فَيَبِيعَ
فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ " قَالَ
أَبُو عَبْد اللَّهِ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ أَكْبَرُ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ
قَدْ أَدْرَكَ ابْنَ عُمَرَ
قوله: "باب قول الله عز وجل: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} وكم الغني؟
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجد غني يغنيه" لقول الله عز وجل:
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا} الآية" هذه اللام التي في قوله:
"لقول الله" لام التعليل لأنه أورد الآية تفسيرا لقوله في الترجمة
"وكم الغني" وكأنه يقول: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا يجد
غني يغنيه" مبين لقدر الغني لأن الله تعالى جعل الصدقة للفقراء الموصوفين
بهذه الصفة، أي من كان كذلك فليس بغني ومن كان بخلافها فهو غني، فحاصله أن شرط
السؤال عدم وجدان الغني لوصف الله الفقراء بقوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي
الْأَرْضِ} إذ من استطاع ضربا فيها فهو واجد لنوع من الغنى، والمراد بالذين أحصروا
الذين حصرهم الجهاد أي منعهم الاشتغال به من الضرب في الأرض -أي التجارة-
لاشتغالهم به عن التكسب، قال ابن علية: كل محيط يحصر بفتح أوله وضم الصاد،
والأعذار المانعة تحصر بضم المثناة وكثر الصاد أي تجعل المرء كالمحاط به، وللفقراء
يتعلق بمحذوف تقديره الإنفاق المقدم ذكره لهؤلاء انتهى. وأما قول المصنف في
الترجمة "وكم الغني "فلم يذكر فيه حديثا صريحا فيحتمل أنه أشار إلى أنه
لم يرد فيه شيء على شرطه، ويحتمل أن يستفاد المراد من قوله في حديث أبي هريرة
"الذي لا يجد غني يغنيه" فإن معناه لا يجد شيئا يقع موقعا من حاجته، فمن
وجد ذلك كان غنيا. وقد ورد فيه ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود مرفوعا:
"من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش. قيل يا
رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما أوقيمتها من الذهب" وفي إسناده حكيم
بن جبير وهو ضعيف وقد تكلم فيه شعبة من أحل هذا الحديث، وحدث به سفيان الثوري عن
حكيم فقيل له: إن شعبة لا يحدث عنه، قال: لقد حدثني به زبيد أبو عبد الرحمن عن
محمد بن عبد الرحمن بن يزيد يعني شيخ حكيم أخرجه الترمذي أيضا، ونص أحمد في
"علل الخلال" وغيرها على أن رواية زبيد موقوفة، وقد تقدم حديث أبي سعيد
قريبا من عند النسائي في "باب الاستعفاف" وفيه: "من سأل وله أوقية
فقد ألح "وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه بلفظ: "فهو ملحف" وفي الباب
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي بلفظ: "فهو الملحف" وعن
عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد له صحبة في أثناء حديث مرفوع قال فيه: "من
سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا"
(3/341)
أخرجه أبو داود، وعن سهل ابن الحنظلية
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من
النار. فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال قدر ما يغديه ويعشيه" أخرجه أبو
داود أيضا وصححه ابن حبان، قال الترمذي في حديث ابن مسعود: والعمل على هذا عند بعض
أصحابنا كالثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. قال: ووسع قوم في ذلك فقالوا: إذا كان
عنده خمسون درهما أو أكثر وهو محتاج فله أن يأخذ من الزكاة، وهو قول الشافعي وغيره
من أهل العلم انتهى وقال الشافعي: قد يكون الرجل غنيا بالدرهم مع الكسب ولا يغنيه
الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله. وفي المسألة مذاهب أخرى: أحدها قول أبي حنيفة:
إن الغني من ملك نصابا فيحرم عليه أخذ الزكاة، واحتج بحديث ابن عباس في بعث معاذ
إلى اليمن وقول النبي صلى الله عليه وسلم له "تؤخذ من أغنيائهم فترد على
فقرائهم" فوصف من تؤخذ الزكاة منه بالغنى وقد قال: "لا تحل الصدقة
لغني" . ثانيها أن حده " من وجد ما يغديه ويعشيه" على ظاهر حديث
سهل ابن الحنظلية حكاه الخطابي عن بعضهم، ومنهم من قال: وجهه من لا يجد غداء ولا
عشاء على دائم الأوقات. ثالثها أن حده أربعون درهما، وهو قول أبي عبيد بن سلام على
ظاهر حديث أبي سعيد، وهو الظاهر من تصرف البخاري لأنه أتبع ذلك قوله: {لا
يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} وقد تضمن الحديث المذكور أن من سأل وعنده هذا
القدر فقد سأل إلحافا. حديث أبي هريرة في ذكر المسكين أورده من طريقين، والمسكين
مفعيل من السكون قاله القرطبي قال فكأنه من قلة المال سكنت حركاته ولذا قال تعالى:
{أوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} أي لاصق بالتراب. قوله: "الأكلة
والأكلتان" بالضم فيهما، ويؤيده ما في رواية الأعرج الآتية آخر الباب:
"اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان "وزاد فيه: "الذي يطوف على
الناس" قال أهل اللغة الأكلة بالضم اللقمة وبالفتح المرة من الغداء والعشاء.
قوله: "ليس له غنى" زاد في رواية الأعرج غنى يغنيه، وهذه صفة زائدة على
اليسار المنفي، إذ لا يلزم من حصول اليسار للمرء أن يغني به بحيث لا يحتاج إلى شيء
آخر، وكأن المعنى نفي اليسار المفيد بأنه يغنيه مع وجود أصل اليسار، وهذا كقوله
تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} . قوله: "يَسْتَحْيِي" زاد
في رواية الأعرج "ولا يفطن به" وفي رواية الكشميهني: " له فيتصدق
عليه، ولا يقوم فيسأل الناس" وهو بنصب يتصدق ويسأل، وموضع الترجمة منه قوله:
" ليس له غنى" وقد أورده المصنف في التفسير من طريق أخرى عن أبي هريرة
يظهر تعلقها بهذه الترجمة أكثر من هذه الطريق، ولفظه هناك "إنما المسكين الذي
يتعفف، اقرؤوا إن شئتم يعني قوله: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} كذا وقع
فيه بزيادة يعني، وقد أخرجه مسلم وأحمد من هذا الوجه بدونها، وكذلك وقع فيه1
بزيادة ابن أبي حاتم في تفسيره. ثانيها: حديث المغيرة وابن أشوع بالشين المعجمة
وزاد أحمد في رواية الكشميهني ابن الأشوع، وهو سعيد بن عمرو بن الأشوع نسب لجده
وكاتب المغيرة هو وراد. قوله: "وإضاعة الأموال" في رواية الكشميهني
"المال" وموضع الترجمة منه قوله "وكثرة السؤال" قال ابن
التين: فهم منه البخاري سؤال الناس، ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن المشكلات، أو
عما لا حاجة للسائل به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "ذروني ما تركتكم"
قلت: وحمله على المعنى الأعم أولى ويستقيم مراد البخاري مع ذلك. وقد مضى بعض شرحه
في كتاب الصلاة، ويأتي في كتاب الأدب وفي الرقاق مستوفى إن شاء الله تعالى.
ثالثها: حديث سعد بن أبي وقاص أورده بإسنادين، وموضع الترجمة منه قوله في
ـــــــ
1 كذا في الأصلين اللذين بأيدينا, وفي الكلام نقص وتحريف, فليتأمل وليحرر
(3/342)
الرواية الثانية "فجمع بين عنقي
وكتفي ثم قال: أقبل أي سعد" وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الإيمان،
وأنه أمر بالإقبال أو بالقبول، ووقع عند مسلم "إقبالا أي سعد" على أنه
مصدر أي أتقابلني قبالا بهذه المعارضة؟ وسياقه يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كره
منه إلحاحه عليه في المسألة، ويحتمل أن يكون من جهة أن المشفوع له ترك السؤال
فمدح. قوله: "وعن أبيه عن صالح" هو معطوف على الإسناد الأول، وكذا أخرجه
مسلم عن الحسن الحلواني عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد. قوله: "أبو عبد
الله" هو المصنف.قوله: "فكبكبوا إلخ" تقدمت الإشارة إليه في
الإيمان، وجرى المصنف على عادته في إيراد تفسر اللفظة الغريبة إذا وافق ما في
الحديث ما في القرآن. و قوله: "غير واقع" أي لازما و "إذا
وقع" أي إذا كان متعديا، والغرض أن هذه الكلمة من النوادر حيث كان الثلاثي
متعديا والمزيد فيه لازما عكس القاعدة التصريفية، قيل ويجوز أن يكون ألف أكب
للصيرورة. قوله: "صالح بن كيسان" يعني المذكور في الإسنادين. قوله:
"أكبر من الزهري" يعني في السن، ومثل هذا جاء عن أحمد وابن معين. وقال
علي بن المديني: كان أسن من الزهري، فإن مولده سنة خمسين وقيل بعدها ومات سنة ثلاث
وعشرين ومائة وقيل سنه أربع، وأما صالح بن كيسان فمات سنة أربعين ومائة وقيل
قبلها. وذكر الحاكم في مقدار عمره سنا1 تعقبوه عليه. وقوله: "أدرك ابن
عمر" يعني أدرك السماع منه، وأما الزهري فمختلف في لقيه له والصحيح أنه لم
يلقه وإنما يروي عن ابنه سالم عنه، والحديثان اللذان وقع في رواية معمر عنه أنه
سمعهما عن ابن عمر ثبت ذكر سالم بينهما في رواية غيره والله أعلم. رابعها: حديث
أبي هريرة الدال على ذم السؤال ومدح الاكتساب، وقد تقدم الكلام عليه مستوفي في
"باب الاستعفاف عن المسألة". وفي الحديث الأول أن المسكنة إنما تحمد مع
العفة عن السؤال والصبر على الحاجة، وفيه استحباب الحياء في كل الأحوال، وحسن
الإرشاد لوضع الصدقة، وأن يتحرى وضعها فيمن صفته التعفف دون الإلحاح، وفيه دلالة
لمن يقول: إن الفقير أسوأ حالا من المسكين، وأن المسكين الذي له شيء لكنه لا
يكفيه، والفقير الذي لا شيء له كما تقدم توجيهه، ويؤيده قوله تعالى: {أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} فسماهم مساكين مع
أن لهم سفينة يعملون فيها، وهذا قول الشافعي وجمهور أهل الحديث والفقه، وعكس آخرون
فقالوا: المسكين أسوأ حالا من الفقير. وقال آخرون: هما سواء، وهذا قول ابن القاسم
وأصحاب مالك، وقيل الفقير الذي يسأل والمسكين الذي لا يسأل حكاه ابن بطال، وظاهره
أيضا أن المسكين من اتصف بالتعفف وعدم الإلحاف في السؤال، ولكن قال ابن بطال:
معناه المسكين الكامل وليس المراد نفي أصل المسكنة عن الطواف، بل هي كقوله: "
أتدرون من المفلس " الحديث، وقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ} الآية، وكذا قرره
القرطبي وغير واحد. والله أعلم.
ـــــــ
1 في مخطوطة الرياض"شيئا"
(3/343)
باب خرص التمر
...
54 - باب خَرْصِ الثَّمَرِ
1481 - حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ
يَحْيَى عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعِدِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ
غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ
فَلَمَّا جَاءَ وَادِيَ الْقُرَى إِذَا امْرَأَةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَهَا فَقال النبي
صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: "اخْرُصُوا وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ فَقَالَ لَهَا أَحْصِي مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ
(3/343)
قَالَ أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ
اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلاَ يَقُومَنَّ أَحَدٌ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ
فَلْيَعْقِلْهُ فَعَقَلْنَاهَا وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ رَجُلٌ
فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَيِّءٍ وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ
بِبَحْرِهِمْ فَلَمَّا أَتَى وَادِيَ الْقُرَى قَالَ لِلْمَرْأَةِ كَمْ جَاءَ
حَدِيقَتُكِ قَالَتْ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي مُتَعَجِّلٌ
إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي
فَلْيَتَعَجَّلْ" فَلَمَّا قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ كَلِمَةً مَعْنَاهَا
أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: "هَذِهِ طَابَةُ فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا
قَالَ هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ
الأَنْصَارِ قَالُوا بَلَى قَالَ دُورُ بَنِي النَّجَّارِ ثُمَّ دُورُ بَنِي
عَبْدِ الأَشْهَلِ ثُمَّ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ أَوْ دُورُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ
الْخَزْرَجِ وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ يَعْنِي خَيْرًا"
[الحديث 1481 – أطرافه في: 1872, 3161, 3791, 4422]
1482 - وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ حَدَّثَنِي عَمْرٌو ثُمَّ دَارُ بَنِي
الْحَارِثِ ثُمَّ بَنِي سَاعِدَةَ
وَقَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ عَنْ
عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ" قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ
كُلُّ بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حَائِطٌ فَهُوَ حَدِيقَةٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ
حَائِطٌ لَمْ يُقَلْ حَدِيقَةٌ
قوله: "باب خرص التمر" أي مشروعيته، والخرص بفتح المعجمة وحكي كسرها
وبسكون الراء بعدها مهملة هو حزر ما على النخل من الرطب تمرا، حكى الترمذي عن بعض
أهل العلم أن تفسيره أن الثمار إذا أدركت من الرطب والعنب مما تجب فيه الزكاة بعث
السلطان خارصا ينظر فيقول: يخرج من هذا كذا وكذا زبيبا وكذا وكذا تمرا فيحصيه
وينظر مبلغ العشر فيثبته عليهم ويخلي بينهم وبين الثمار، فإذا جاء وقت الجذاذ أخذ
منهم العشر انتهى. وفائدة الخرص التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها والبيع
من زهوها وإيثار الأهل والجيران والفقراء، لأن في منعهم منها تضييقا لا يخفى. وقال
الخطابي: أنكر أصحاب الرأي الخرص. وقال بعضهم: إنما كان يفعل تخويفا للمزارعين
لئلا يخونوا إلا ليلزم به الحكم لأنه تخمين وغرور، أو كان يجوز قبل تحريم الربا
والقمار. وتعقبه الخطابي بأن تحريم الربا والميسر متقدم، والخرص عمل به في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم أبو بكر وعمر فمن بعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم ولا
من التابعين تركه إلا عن الشعبي، قال: وأما قولهم إنه تخمين وغرور فليس كذلك، بل
هو اجتهاد في معرفة مقدار التمر وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير. وحكى أبو
عبيد عن قوم منهم أن الخرص كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يوفق من
الصواب ما لا يوفق له غيره، وتعقبه بأنه لا يلزم من كون غيره لا يسدد لما كان يسدد
له سواء أن تثبت بذلك الخصوصية ولو كان المرء لا يجب عليه الاتباع إلا فيما يعلم
أنه يسدد فيه كتسديد الأنبياء لسقط الاتباع، وترد هذه الحجة أيضا بإرسال النبي صلى
الله عليه وسلم الخراص في زمانه والله أعلم، واعتل الطحاوي بأنه يجوز أن يحصل
للثمرة آفة فتتلفها فيكون ما يؤخذ من صاحبها مأخوذا بدلا مما لم يسلم له، وأجيب
بأن القائلين به لا يضمنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص، قال ابن المنذر: أجمع
من يحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ فلا ضمان قوله:
"عن عمرو بن يحيى" هو المازني، ولمسلم من وجه آخر عن وهيب حدثنا عمرو بن
يحيى.قوله: "عن عباس الساعدي" هو ابن سهل بن سعد، ووقع في رواية أبي داود
(3/344)
عن سهل بن بكار شيخ البخاري فيه عن العباس الساعدي يعني ابن سهل بن مسعد. وفي رواية الإسماعيلي من وجه آخر عن وهيب حدثنا عمرو بن يحيى حدثنا عباس بن سهل الساعدي. قوله: "غزوة تبوك" سيأتي شرحها في المغازي. قوله: "فلما جاء وادي القرى" هي مدينة قديمة بين المدينة والشام سيأتي ذكرها في البيوع، وأغرب ابن قرقول فقال: إنها من أعمال المدينة. قوله: "إذا امرأة في حديقة لها" استدل به على جواز الابتداء بالنكرة لكن بشرط الإفادة، قال ابن مالك: لا يمتنع الابتداء بالنكرة المحضة على الإطلاق، بل إذا لم تحصل فائدة، فلو اقترن بالنكرة المحضة قرينة يتحصل بها الفائدة جاز الابتداء بها نحو انطلقت فإذا سبع في الطريق إلخ. ووقع في رواية سليمان بن بلال عن عمرو بن يحيى عند مسلم: "فآتينا على حديقة امرأة" ولم أقف على اسمها في شيء من الطرق. قوله: " اخرصوا" بضم الراء، زاد سليمان "فخرصنا" ولم أقف على أسماء من خرص منهم. قوله: "وخرص" في رواية سليمان "وخرصها". قوله: "أحصي " أي احفظي عدد كيلها. وفي رواية سليمان "أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله تعالى" وأصل الإحصاء العدد بالحصى لأنهم كانوا لا يحسنون الكتابة فكانوا يضبطون العدد بالحصى. قوله: "ستهب الليلة" زاد سليمان "عليكم". قوله: "فلا يقومن أحد " في رواية سليمان "فلا يقم فيها أحد منكم ". قوله: "فليعقله" أي يشده بالعقال وهو الحبل. وفي رواية سليمان "فليشد عقاله" وفي رواية ابن إسحاق في المغازي عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عباس بن سهل "ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له" . قوله: "فقام رجل فألقته بجبل طيء" في رواية الكشميهني: "بجبلي طي" وفي رواية الإسماعيلي من طريق عفان عن وهيب "ولم يقم فيها أحد غير رجلين ألقتهما بجبل طي" وفيه نظر بينته رواية ابن إسحاق ولفظه: "ففعل الناس ما أمرهم إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج آخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبل طي، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له. ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم من تبوك" والمراد بجبلي طي المكان الذي كانت القبيلة المذكورة تنزله، واسم الجبلين المذكورين "أجأ" بهمزة وجيم مفتوحتين بعدهما همزة بوزن قمر وقد لا تهمز فيكون بوزن عصا و "سلمى "وهما مشهوران، ويقال إنهما سميا باسم رجل وامرأة من العماليق. ولم أقف على اسم الرجلين المذكورين وأظن ترك ذكرهما وقع عمدا، فقد وقع في آخر حديث ابن إسحاق أن عبد الله بن أبي بكر حدثه أن العباس بن سهل سمى الرجلين ولكنه استكتمني إياهما قال: وأبى عبد الله أن يسميهما لنا. قوله: "وأهدى ملك أيلة" بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام مفتوحة بلدة قديمة بساحل البحر تقدم ذكرها في "باب الجمعة في القرى والمدن"، ووقع في رواية سليمان عند مسلم: "وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب وأهدى له بغلة بيضاء" وفي مغازي ابن إسحاق" ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يوحنا بن روبة صاحب أيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية" وكذا رواه إبراهيم الحربي في الهدايا من حديث علي، فاستفيد من ذلك اسمه واسم أبيه، فلعل العلماء اسم أمه، ويوحنا بضم التحتانية وفتح المهملة وتشديد النون، وروبة بضم الراء وسكون الواو بعدها موحدة، واسم البغلة المذكورة دلدل هكذا جزم به النووي، ونقل عن العلماء أنه لا يعرف له بغلة سواها، وتعقب بأن الحاكم أخرج في "المستدرك" عن ابن عباس "أن كسرى أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه" الحديث،
(3/345)
وهذه غير دلدل. ويقال إن النجاشي أهدى له بغلة، وأن صاحب دومة الجندل أهدى له بغلة، وأن دلدل إنما أهداها له المقوقس. وذكر السهيلي أن التي كانت تحته يوم حنين تسمى فضة وكانت شهباء، ووقع عند مسلم في هذه البغلة أن فروة أهداها له. قوله: "وكتب له ببحرهم" أي ببلدهم، أو المراد بأهل بحرهم لأنهم كانوا سكانا بساحل البحر أي أنه أقره عليهم بما التزموه من الجزية، وفي بعض الروايات "ببحرتهم" أي بلدتهم، وقيل البحرة الأرض. وذكر ابن إسحاق الكتاب، وهو بعد البسملة: "هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنا بن روبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله ومحمد النبي" وساق بقية الكتاب. قوله: "كم جاء حديقتك" أي تمر حديقتك. وفي رواية مسلم: "فسأل المرأة عن حديقتها كما بلغ ثمرها" وقوله: "عشرة" بالنصب على نزع الخافض أو على الحال، وقوله: "خرص" بالنصب أيضا إما بدلا وإما بيانا، ويجوز الرفع فيهما وتقديره الحاصل عشرة أوسق وهو خرص رسول الله. قوله: "فلما قال ابن بكار كلمة معناها أشرف على المدينة" ابن بكار هو سهل شيخ البخاري، فكأن البخاري شك في هذه اللفظة فقال هذا، وقد رواه أبو نعيم في "المستخرج" عن فاروق عن أبي مسلم وغيره عن سهل فذكرها بهذا اللفظ سواء، وسيأتي الكلام على بقية الحديث وما يتعلق بالمدينة في فضل المدينة، وما يتعلق بالأنصار في مناقب الأنصار، فإنه ساق ذلك هناك أتم مما هنا. وقوله: "طابة" هو من أسماء المدينة كطيبة. قوله: "وقال سليمان بن بلال حدثني عمرو" يعني ابن يحيى بالإسناد المذكور، وهذه الطريق موصولة في فضائل الأنصار. قوله: "وقال سليمان" هو ابن بلال المذكور، وسعد بن سعيد هو الأنصاري أخو يحيى بن سعيد، وعباس هو ابن سهل بن سعد، وهي موصولة في "فوائد علي بن خزيمة" قال: "حدثنا أبو إسماعيل الترمذي حدثنا أيوب بن سليمان أي ابن بلال حدثني أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال" فذكره وأوله "أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من المدينة أخذ طريق غراب لأنها أقرب إلى المدينة وترك الأخرى" فساق الحديث ولم يذكر أوله، واستفيد منه بيان قوله: "إني متعجل إلى المدينة، فمن أحب فليتعجل معي" أي إني سالك الطريق القريبة فمن أراد فليأت معي يعني ممن له اقتدار على ذلك دون بقية الجيش. وظهر أن عمارة بن غزية خالف عمرو بن يحيى في إسناد الحديث فقال عمرو "عن عباس عن أبي حميد" وقال عمارة "عن عباس عن أبيه". فيحتمل أن يسلك طريق الجمع بأن يكون عباس أخذ القدر المذكور وهو "أحد جبل يحبنا ونحبه" عن أبيه وعن أبي حميد معا، أو حمل الحديث عنهما معا، أو كله عن أبي حميد ومعظمه عن أبيه وكان يحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، ولذلك كان لا يجمعهما. وقد وقع في رواية ابن إسحاق المذكورة "عباس بن سهل بن سعد أو عباس عن سهل" فتردد فيه هل هو مرسل أو رواه عن أبيه فيوافق قول عمارة، لكن سياق عمرو بن يحيى أتم من سياق غيره، والله أعلم. وفي هذا الحديث مشروعية الخرص، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه أول الباب، واختلف القائلون به هل هو وأجب أو مستحب، فحكى الصيمري من الشافعية وجها بوجوبه. وقال الجمهور هو مستحب إلا إن تعلق به حق لمحجور مثلا أو كان شركاؤه غير مؤتمنين فيجب لحفظ مال الغير، واختلف أيضا هل يختص بالنخل أو يلحق به العنب أو يعم كل ما ينتفع به رطبا وجافا؟ وبالأول قال شريح القاضي وبعض أهل الظاهر، والثاني قول الجمهور، وإلى الثالث نحا البخاري. وهل يمضي قول الخارص أو يرجع إلى ما آل إليه الحال بعد الجفاف؟ الأول قول مالك وطائفة، والثاني قول الشافعي ومن تبعه. وهل يكفي خارص واحد عارف ثقة أو لا بد من
(3/346)
اثنين؟ وهما قولان للشافعي، والجمهور
على الأول. واختلف أيضا هل هو اعتبار أو تضمين؟ وهما قولان للشافعي أظهرهما
الثاني، وفائدته جواز التصرف في جميع الثمرة ولو أتلف المالك الثمرة بعد الخرص
أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص. وفيه أشياء من أعلام النبوة كالإخبار عن الريح وما
ذكر في تلك القصة، وفيه تدريب الاتباع وتعليمهم، وأخذ الحذر مما يتوقع الخوف منه.
وفضل المدينة والأنصار، ومشروعية المفاضلة بين الفضلاء بالإجمال والتعيين،
ومشروعية الهدية والمكافأة عليها.
" تكميل ": في السنن وصحيح ابن حبان من حديث سهل ابن أبي حثمة مرفوعا:
"إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" . وقال
بظاهره الليث وأحمد وإسحاق وغيرهم، وفهم منه أبو عبيد في "كتاب الأموال"
أنه القدر الذي يأكلونه بحسب احتياجهم إليه فقال: يترك قدر احتياجهم. وقال مالك
وسفيان: لا يترك لهم شيء، وهو المشهور عن الشافعي، قال ابن العربي: والمتحصل من
صحيح النظر أن يعمل بالحديث وهو قدر المؤونة، ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب
مما يؤكل رطبا. قوله: "قال أبو عبيد1" هو القاسم بن سلام الإمام المشهور
صاحب "الغريب" وكلامه هذا في غريب الحديث له. وقال صاحب
"المحكم": هو من الرياض كل أرض استدارت، وقيل كل أرض ذات شجر مثمر ونخل،
وقيل كل حفرة تكون في الوادي يحتبس فيها الماء، فإذا لم يكن فيه ماء فهو حديقة،
ويقال الحديقة أعمق من الغدير والحديقة القطعة من الزرع يعني أنه من المشترك.
ـــــــ
1 كذا في نسخة الشارح وفي نسخة أخرى "قال عبد الله" يعني البخاري, قاله القسطلاني.
فتنبه
(3/347)
55 - باب الْعُشْرِ فِيمَا يُسْقَى
مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَبِالْمَاءِ الْجَارِي
وَلَمْ يَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الْعَسَلِ شَيْئًا
1483 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ
أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ"
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ هَذَا تَفْسِيرُ الأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ
فِي الأَوَّلِ يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَفِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ
وَبَيَّنَ فِي هَذَا وَوَقَّتَ وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ وَالْمُفَسَّرُ يَقْضِي
عَلَى الْمُبْهَمِ إِذَا رَوَاهُ أَهْلُ الثَّبَتِ كَمَا رَوَى الْفَضْلُ بْنُ
عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ فِي
الْكَعْبَةِ وَقَالَ بِلاَلٌ قَدْ صَلَّى فَأُخِذَ بِقَوْلِ بِلاَلٍ وَتُرِكَ
قَوْلُ الْفَضْلِ
قوله: "باب العشر فيما يسقى من ماء السماء والماء الجاري" قال الزين بن
المنير: عدل من لفظ العيون الواقع في الخبر إلى الماء الجاري ليجريه مجرى التفسير
للمقصود من ماء العيون وأنه الماء الذي يجري بنفسه من غير نضح وليبين أن الذي يجري
بنفسه من نهر أو غدير حكمه حكم ما يجري من العيون انتهى، وكأنه أشار إلى ما في بعض
طرقه، فعند أبي داود "فيما سقت السماء والأنهار والعيون" الحديث. قوله:
"ولم ير عمر بن عبد العزيز في العسل شيئا" أي زكاة، وصله مالك في
"الموطأ" عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: جاء كتاب من عمر بن عبد
العزيز
(3/347)
إلى أبي وهو بمنى أن لا تأخذ من الخيل
ولا من العسل صدقة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بإسناد صحيح إلى نافع مولى ابن
عمر قال: "بعثني عمر بن عبد العزيز على اليمن فأردت أن آخذ من العسل العشر،
فقال مغيرة بن حكيم الصنعاني: ليس فيه شيء، فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز فقال:
صدق، هو عدل رضا، ليس فيه شيء" وجاء عن عمر بن عبد العزيز ما يخالفه أخرجه
عبد الرزاق عن ابن جريج عن كتاب إبراهيم بن ميسرة قال: "ذكر لي بعض من لا
أتهم من أهلي أنه تذاكر هو وعروة بن محمد السعدي فزعم عروة أنه كتب إلى عمر بن عبد
العزيز يسأله عن صدقة العسل، فزعم عروة أنه كتب إليه: إنا قد وجدنا بيان صدقة
العسل بأرض الطائف فخذ منه العشر انتهى" وهذا إسناد ضعيف لجهالة الواسطة،
والأول أثبت، وكأن البخاري أشار إلى تضعيف ما روي "أن في العسل العشر"
وهو ما أخرجه عبد الرزاق بسنده عن أبي هريرة قال: " كتب رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى أهل اليمن أن يؤخذ من العسل العشر" وفي إسناده عبد الله بن
محرر وهو بمهملات وزن محمد قال البخاري في تاريخه: عبد الله متروك، ولا يصح في
زكاه العسل شيء. قال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء. قال الشافعي في القديم:
حديث أن في العسل العشر ضعيف، وفي أن لا يؤخذ منه العشر ضعيف، إلا عن عمر بن عبد
العزيز انتهى. وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة من طريق طاوس "أن معاذا لما أتى
اليمن قال: لم أؤمر فيهما بشيء" يعني العسل وأوقاص البقر، وهذا منقطع، وأما
ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "جاء
هلال أحد بني متعان - أي بضم الميم وسكون المثناة بعدها مهملة - إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي له واديا فحماه له، فلما ولي عمر
كتب إلى عامله: إن أدى إليك عشور نحله فاحم له سلبه وإلا فلا" وإسناده صحيح
إلى عمرو1 وترجمة عمرو قوية على المختار لكن حيث لا تعارض، وقد ورد ما يدل على أن
هلالا أعطى ذلك تطوعا، فعند عبد الرزاق عن صالح بن دينار "أن عمر بن عبد
العزيز كتب إلى عثمان بن محمد ينهاه أن يأخذ من العسل صدقة إلا إن كان النبي صلى
الله عليه وسلم أخذها فجمع عثمان أهل العسل فشهدوا أن هلال بن سعد قدم على النبي
صلى الله عليه وسلم بعسل فقال: ما هذا؟ قال: صدقة فأمر برفعها ولم يذكر
عشورا" لكن الإسناد الأول أقوى، إلا أنه محمول على أنه في مقابلة الحمى كما
يدل عليه كتاب عمر بن الخطاب. وقال ابن المنذر: ليس في العسل خبر يثبت ولا إجماع
فلا زكاة فيه، وهو قول الجمهور وعن أبي حنيفة وأحمد وإسحاق يحب العشر فيما أخذ من
غير أرض الخراج. وما نقله عن الجمهور مقابله قول الترمذي بعد أن أخرج حديث ابن عمر
فيه، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم. وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شيء،
وأشار شيخنا في شرحه إلى أن الذي نقله ابن المنذر أقوى، قال ابن المنير: مناسبة
أثر عمر في العسل للترجمة من جهة أن الحديث يدل على أن لا عشر فيه لأنه خص العشر
أو نصفه بما يسقى، فأفهم أن ما لا يسقى لا يعشر، زاد ابن رشيد فإن قيل المفهوم
إنما ينفي العشر أو نصفه لا مطلق الزكاة، فالجواب أن الناس قائلان: مثبت للعشر
وناف للزكاة أصلا فتم المراد، قال: ووجه إدخاله العسل أيضا للتنبيه على الخلاف فيه
وأنه لا يرى فيه زكاة وإن كانت النحل تتغذى مما يسقى من السماء لكن المتولد
بالمباشرة كالزرع ليس كالمتولد بواسطة حيوان كاللبن فإنه متولد عن الرعي ولا زكاة
فيه.
ـــــــ
1 مراده أن إسناد هذا الحديث إلى عمرو بن شعيب صحيح وأما رواية عمرو عن أبيه عن
جده فمختلف فيها بين أهل الحديث, والصواب أنها حجة ما لم يخالفها ما هو أقوى منها,
كما أشار إليه الشارح, وقد ذكر ذلك غيره من أهل العلم, وصرح به العلامة ابن القيم
في بعض كتبه. والله أعلم
(3/348)
قوله: "عثريا" بفتح المهملة والمثلثة وكسر الراء وتشديد التحتانية، وحكي عن ابن الأعرابي تشديد المثلثة ورده ثعلب وحكى ابن عديس في المثلث فيه ضم أوله وإسكان ثانيه قال الخطابي: هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي، زاد ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى: وهو المستنقع في بركة ونحوها يصب إليه من ماء المطر في سواق تشق له قال: واشتقاقه من العاثور وهي الساقية التي يجري فيها الماء لأن الماشي يعثر فيها.قال ومنه الذي يشرب من الأنهار بغير مؤونة، أو يشرب بعروقه كأن يغرس في أرض يكون الماء قريبا من وجهها فيصل إليه عروق الشجر فيستغني عن السقي، وهذا التفسير أولى من إطلاق أبي عبيد أن العثري ما سقته السماء، لأن سياق الحديث يدل على المغايرة، وكذا قول من فسر العثري بأنه الذي لا حمل له لأنه لا زكاة فيه، قال ابن قدامة: لا نعلم في هذه التفرقة التي ذكرناها خلافا قوله: "بالنضح" بفتح النون وسكون المعجمة بعدها مهملة أي بالسانية، وهي رواية مسلم والمراد بها الإبل التي يستقى عليها، وذكر الإبل كالمثال وإلا فالبقر وغيرها كذلك في الحكم. قوله: "قال أبو عبد الله: هذا تفسير الأول إلخ" هكذا وقع في رواية أبي ذر هذا الكلام عقب حديث ابن عمر في العثري، ووقع في رواية غيره عقب حديث أبي سعيد المذكور في الباب الذي بعده، وهو الذي وقع عند الإسماعيلي أيضا، وجزم أبو علي الصدفي بأن ذكره عقب حديث ابن عمر من قبل بعض نساخ الكتاب انتهى ولم يقف الصغاني على اختلاف الروايات فجزم بأنه وقع هنا في جميعها قال وحقه أن يذكر في الباب الذي يليه، قلت: ولذكره عقب كل من الحديثين وجه، لكن تعبيره بالأول يرجح كونه بعد حديث أبي سعيد لأنه هو المفسر الذي قبله وهو حديث ابن عمر، فحديث ابن عمر بعمومه ظاهر في عدم اشتراط النصاب وفي إيجاب الزكاة في كل ما يسقى بمؤونة وبغير مؤونة، ولكنه عند الجمهور مختص بالمعنى الذي سيق لأجله وهو التمييز بين ما يجب فيه العشر أو نصف العشر بخلاف حديث أبي سعيد فإنه مساق لبيان جنس المخرج منه وقدره فأخذ به الجمهور عملا بالدليلين كما سيأتي بسط القول فيه بعد إن شاء الله تعالى. وقد جزم الإسماعيلي بأن كلام البخاري وقع عقب حديث أبي سعيد ودل حديث الباب على التفرقة في القدر المخرج الذي يسقى بنضح أو بغير نضح، فإن وجد ما يسقى بهما فظاهره أنه يجب فيه ثلاثة أرباع العشر إذا تساوى ذلك وهو قول أهل العلم، قال ابن قدامة لا نعلم فيه خلافا، وإن كان أحدهما أكثر كان حكم الأقل تبعا للأكثر نص عليه أحمد، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، والثاني يؤخذ بالقسط، ويحتمل أن يقال إن أمكن فصل كل واحد منهما أخذ بحسابه، وعن ابن القاسم صاحب مالك العبرة بما تم به الزرع وانتهى ولو كان أقل قاله ابن التين عن حكاية أبي محمد بن أبي زيد عنه والله أعلم. "تنبيه": قال النسائي عقب تخريج هذا الحديث: رواه نافع عن ابن عمر عن عمر، قال وسالم أجل من نافع وقول نافع أولى بالصواب. وقوله بعده "هذا تفسير الأول لأنه لم يوقت في الأول" أي لم يذكر حدا للنصاب، و قوله: "وبين في هذا" يعني في حديث أبي سعيد. قوله: "والزيادة مقبولة" أي من الحافظ، والثبت بتحريك الموحدة الثبات والحجة. قوله: "والمفسر يقضي على المبهم": أي الخاص يقضي على العام لأن "فيما سقت" عام يشمل النصاب ودونه، و "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " خاص بقدر النصاب وأجاب بعض الحنفية بأن محل ذلك ما إذا كان البيان وفق المبين لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه، أما إذا انتفى شيء من أفراد العام مثلا فيمكن التمسك به كحديث أبي سعيد هذا فإنه دل على النصاب فيما يقبل التوسيق، وسكت عما لا يقبل التوسيق فيمكن التمسك بعموم قوله فيما سقت السماء العشر أي مما لا يمكن التوسيق فيه عملا بالدليلين، وأجاب الجمهور
(3/349)
بما روي مرفوعا: "لا زكاة في الخضراوات"رواه الدارقطني من طريق علي وطلحة ومعاذ مرفوعا وقال الترمذي لا يصح فيه شيء إلا مرسل موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو دال على أن الزكاة إنما هي فيما يكال مما يدخر للاقتيات في حال الاختيار. وهذا قول مالك والشافعي. وعن أحمد يخرج من جميع ذلك ولو كان لا يقتات وهو قول محمد وأبي يوسف وحكى ابن المنذر الإجماع على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق مما أخرجت الأرض، إلا أن أبا حنيفة قال تجب في جميع ما يقصد بزراعته نماء الأرض إلا الحطب والقصب والحشيش والشجر الذي ليس له ثمر انتهى. وحكى عياض عن داود أن كل ما يدخل فيه الكيل يراعى فيه النصاب، وما لا يدخل فيه الكيل ففي قليله وكثيره الزكاة، وهو نوع من الجمع بين الحديثين المذكورين والله أعلم. وقال ابن العربي أقوى المذاهب وأحوطها للمساكين قول أبي حنيفة، وهو التمسك بالعموم قال: وقد زعم الجويني أن الحديث إنما جاء لتفصيل ما تقل مما تكثر مؤونته، قال ابن العربي: لا مانع أن يكون الحديث يقتضي الوجهين والله أعلم. قوله: "كما روى إلخ" أي كما أن المثبت مقدم على النافي في حديثي الفضل وبلال، وحديث الفضل أخرجه أحمد وغيره، وحديث بلال سيأتي موصولا في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. "تكميل": اختلف في هذا النصاب هل هو تحديد أو تقريب؟ وبالأول جزم أحمد، وهو أصح الوجهين للشافعية، إلا إن كان نقصا يسيرا جدا مما لا ينضبط فلا يضر قاله ابن دقيق العيد، وصحح النووي في شرح مسلم أنه تقريب، واتفقوا على وجوب الزكاة فيما زاد على الخمسة أوسق بحسابه ولا وقص فيها.
(3/350)
56 - باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ
أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ
1484 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا مالك قال حدثني محمد بن عبد الله بن عبد
الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال ثم "ليس فيما أقل من خمسة أوسق صدقة ولا في أقل من خمسة من
الإبل الذود صدقة ولا في أقل من خمس أواق من الورق صدقة"
قال أبو عبد الله: هذا تفسير الأول إذا قال ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ويؤخذ
أبدا في العلم بما زاد أهل الثبت أو بينوا
قوله: "باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" أورد فيه حديث أبي سعيد وقد
تقدم ذكره في "باب زكاة الورق" وذكر فيه قدر الوسق وقوله هنا "ليس
فيما أقل" ما زائدة وأقل في موضع جر بقي وقد ذكره بعده بلفظ وليس في أقل.
(3/350)
57 - باب أَخْذِ صَدَقَةِ الت&