الجمعة، 6 مايو 2022

مج 14. فتح الباري أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 

 مج 14. فتح الباري  أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ)

 إلى قومي من أسلم فقال: مر قومك أن يصوموا هذا اليوم يوم عاشوراء، فمن وجدته منهم قد أكل في أول يومه فليصم آخره:" وروى أحمد أيضا من طريق عبد الرحمن بن حرملة عن يحيى بن هند قال: وكان هند من أصحاب الحديبية وأخوه الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر قومه بالصيام يوم عاشوراء، قال: "فحدثني يحيى بن هند عن أسماء ابن حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه فقال: مر قومك بصيام هذا اليوم. قال أرأيت إن وجدتهم قد طعموا؟ قال: فليتموا آخر يومهم" قلت: فيحتمل أن يكون كل من أسماء وولده هند أرسلا بذلك، ويحتمل أن يكون أطلق في الرواية الأولى على الجد اسم الأب فيكون الحديث من رواية حبيب بن هند عن جده أسماء فتتحد الروايتان، والله أعلم. واستدل بحديث سلمة هذا على صحة الصيام لمن لم ينوه من الليل سواء كان رمضان أو غيره لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم في أثناء النهار فدل على أن النية لا تشترط من الليل، وأجيب بأن ذلك يتوقف على أن صيام عاشوراء كان واجبا، والذي يترجح من أقوال العلماء أنه لم يكن فرضا، وعلى تقدير أنه كان فرضا فقد نسخ بلا ريب، فنسخ حكمه وشرائطه، بدليل قوله: "ومن أكل فليتم" ومن لا يشترط النية من الليل لا يجيز صيام من أكل من النهار، وصرح ابن حبيب من المالكية بأن ترك التبييت لصوم عاشوراء من خصائص عاشوراء، وعلى تقدير أن حكمه باق فالأمر بالإمساك لا يستلزم الإجزاء فيحتمل أن يكون أمر بالإمساك لحرمة الوقت كما يؤمر من قدم من سفر في رمضان نهارا وكما يؤمر من أفطر يوم الشك ثم رأى الهلال، وكل ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء، بل ورد ذلك صريحا في حديث أخرجه أبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه أن أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا. قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه " وعلى تقدير أن لا يثبت هذا الحديث في الأمر بالقضاء فلا يتعين ترك القضاء، لأن من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه القضاء كمن بلغ أو أسلم في أثناء النهار. واحتج الجمهور لاشتراط النية في الصوم من الليل بما أخرجه أصحاب السنن من حديث عبد الله بن عمر عن أخته حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له" لفظ النسائي، ولأبي داود والترمذي " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" واختلف في رفعه ووقفه، ورجح الترمذي والنسائي الموقوف بعد أن أطنب النسائي في تخريج طرقه، وحكى الترمذي في "العلل" عن البخاري ترجيح وقفه. وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة فصححوا الحديث المذكور، منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن حزم، وروى له الدار قطني طريقا آخر وقال رجالها ثقات، وأبعد من خصه من الحنفية بصيام القضاء والنذر، وأبعد من ذلك تفرقة الطحاوي بين صوم الفرض إذا كان في يوم بعينه كعاشوراء فتجزئ النية في النهار، أو لا في يوم بعينه كرمضان فلا يجزئ إلا بنية من الليل، وبين صوم التطوع فيجزئ في الليل وفي النهار. وقد تعقبه إمام الحرمين بأنه كلام غث لا أصل له. وقال ابن قدامة: تعتبر النية في رمضان لكل يوم في قول الجمهور، وعن أحمد أنه يجزئه نية واحدة لجميع الشهر؛ وهو كقول مالك وإسحاق. وقال زفر1 يصح صوم رمضان في حق المقيم الصحيح بغير نية وبه قال عطاء ومجاهد، واحتج زفر بأنه لا يصح فيه غير صوم رمضان لتعينه فلا يفتقر إلى نية لأن الزمن معيار له فلا يتصور في يوم واحد إلا صوم واحد. وقال أبو بكر الرازي: يلزم قائل هذا أن يصحح صوم المغمى عليه في رمضان إذا لم يأكل ولم يشرب لوجود الإمساك بغير نية، قال: فإن التزمه كان مستشنعا. وقال غيره: يلزمه أن من أخر الصلاة حتى لم يبق من وقتها إلا قدرها فصلى حينئذ تطوعا أنه يجزئه عن الفرض. واستدل ابن حزم
ـــــــ
1 في طبعة بولا: بهامش بعض النسخ " والذي قاله الكرخي كما في شرح هداية خلافه فإنه نقل أن مذهب زفر مثل مالك "

(4/142)


بحديث سلمة على أن من ثبت له هلال رمضان بالنهار جاز له استدراك النية حينئذ ويجزئه وبناه على أن عاشوراء كان فرضا أولا، وقد أمروا أن يمسكوا في أثناء النهار. قال: وحكم الفرض لا يتغير، ولا يخفى ما يرد عليه مما قدمناه، وألحق بذلك من نسى أن ينوي من الليل لاستواء حكم الجاهل والناسي.

(4/143)


22 - باب الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبًا
1925- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ المُغِيرَةِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَأَبِي حِينَ دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَح
1926- و حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ أَنَّ عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ وَقَالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقَرِّعَنَّ بِهَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَكَانَتْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ هُنَالِكَ أَرْضٌ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ إِنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا وَلَوْلاَ مَرْوَانُ أَقْسَمَ عَلَيَّ فِيهِ لَمْ أَذْكُرْهُ لَكَ فَذَكَرَ قَوْلَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ كَذَلِكَ حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَهُنَّ أَعْلَمُ وَقَالَ هَمَّامٌ وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالْفِطْرِ وَالأَوَّلُ أَسْنَدُ
[الحديث 1925- طرفاه في 1930، 1931]
[الحديث 1926- طرفه في : 1932]
قوله: "باب الصائم يصبح جنبا" أي هل يصح صومه أو لا؟ وهل يفرق بين العامد والناسي أو بين الفرض والتطوع؟ وفي كل ذلك خلاف للسلف، والجمهور على الجواز مطلقا، والله أعلم. قوله: "كنت أنا وأبي حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة" كذا أورده البخاري من رواية مالك مختصرا، وعقبه بطريق الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن فأوهم أن سياقهما واحد، لكنه ساق لفظ مالك بعد بابين وليس فيه ذكر مروان ولا قصة أبي هريرة، نعم قد أخرجه مالك في "الموطأ" عن سمي مطولا، ولمالك فيه شيخ آخر أخرجه في الموطأ عن عبد ربه بن سعيد عن أبي بكر بن عبد الرحمن مختصرا، وأخرجه مسلم من هذا الوجه أيضا، وأخرجه مسلم أيضا من رواية ابن جريج عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه أتم منه، وله طرق أخرى كثيرة أطنب النسائي في تخريجها وفي بيان اختلاف نقلتها، وسأذكر محصل فوائدها إن شاء الله تعالى. قوله في رواية شعيب "أن أباه عبد الرحمن أخبر مروان" أي ابن الحكم، وإخبار عبد الرحمن بما ذكر لمروان كان بعد أن أرسله مروان إلى عائشة وأم سلمة، بين ذلك في "الموطأ" وهو عند مسلم أيضا من طريقه ولفظه: "كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم، فقال مروان: أقسمت عليك يا عبد الرحمن لتذهبن إلى أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة فلتسألنهما عن ذلك. قال أبو بكر: فذهب عبد الرحمن وذهبت معه

(4/143)


حتى دخلنا على عائشة" فساق القصة. وبين النسائي في رواية له أن عبد الرحمن بن الحارث إنما سمعه من ذكوان مولى عائشة عنها ومن نافع مولى أم سلمة عنها، فأخرج من طريق عبد ربه بن سعيد عن أبي الحديث عياض عن عبد الرحمن بن الحارث قال: "أرسلني مروان إلى عائشة، فأتيتها فلقيت غلامها ذكوان فأرسلته إليها، فسألها عن ذلك فقالت: "فذكر الحديث مرفوعا قال: "فأتيت مروان فحدثته بذلك فأرسلني إلى أم سلمة، فأتيتها فلقيت غلامها نافعا فأرسلته إليها فسألها عن ذلك" فذكر مثله. وفي إسناده نظر، لأن أبا عياض مجهول، فإن كان محفوظا فيجمع بأن كلا من الغلامين كان واسطة بين عبد الرحمن وبين كل منهما في السؤال كما في هذه الرواية، وسمع عبد الرحمن وابنه أبو بكر كلاهما من وراء الحجاب كما في رواية المصنف وغيره، وسأذكره من رواية أبي حازم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه عند النسائي ففيه: "أن عبد الرحمن جاء إلى عائشة فسلم على الباب فقالت عائشة: يا عبد الرحمن" الحديث. قوله: "كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم" في رواية مالك المشار إليها "كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام" وفي رواية يونس عن ابن شهاب عن عروة وأبي بكر بن عبد الرحمن عن عائشة "كان يدركه الفجر في رمضان جنبا من غير حلم" وستأتي بعد بابين، وللنسائي من طريق عبد الملك ابن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه عنهما "كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم" وله من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "قال مروان لعبد الرحمن بن الحارث: اذهب إلى أم سلمة فسلها، فقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا مني فيصوم ويأمرني بالصيام". قال القرطبي: في هذا فائدتان، إحداهما أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز. الثاني أن ذلك كان من جماع لا من احتلام لأنه كان لا يحتلم إذ الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه. وقال غيره: في قولها "من غير احتلام" إشارة إلى جواز الاحتلام عليه، وإلا لما كان للاستثناء معنى، ورد بأن الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه، وأجيب بأن الاحتلام يطلق على الإنزال وقد وقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام، وأرادت بالتقييد بالجماع المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدا يفطر، وإذا كان فاعل ذلك عمدا لا يفطر فالذي ينسى. الاغتسال أو ينام عنه أولى بذلك. قال ابن دقيق العيد: لما كان الاحتلام يأتي للمرء على غير اختياره فقد يتمسك به من يرخص لغير المتعمد الجماع، فبين في هذا الحديث أن ذلك كان من جماع لإزالة هذا الاحتمال. قوله: "وقال مروان لعبد الرحمن بن الحارث أقسم بالله" في رواية النسائي من طريق عكرمة ابن خالد عن أبي بكر بن عبد الرحمن "فقال مروان لعبد الرحمن: الق أبا هريرة فحدثه بهذا، فقال: إنه لجاري، وإنه لأكره أن أستقبله بما يكره. فقال: أعزم عليك لتلقينه" ومن طريق عمر بن أبي بكر ابن عبد الرحمن عن أبيه "فقال عبد الرحمن لمروان: غفر الله لك، إنه لي صديق، ولا أحب أن أرد عليه قوله: "وبين ابن جريج في روايته عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه سبب ذلك ففيه: "عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: سمعت أبا هريرة يقول في قصصه: ومن أدركه الفجر جنبا فلا يصم. قال فذكرته لعبد الرحمن، فانطلق وانطلقت معه حتى دخلنا على مروان "فذكر القصة، أخرجه عبد الرزاق عنه ومن طريقه مسلم والنسائي وغيرهما. وفي رواية مالك عن سمي عن أبي بكر "أن أبا هريرة قال: من أصبح جنبا أفطر ذلك يوم" وللنسائي من طريق المقبري "كان أبو هريرة يفتي الناس أنه أصبح جنبا فلا يصوم ذلك اليوم" وله من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أنه سمع أبا هريرة يقول: "من احتلم من الليل أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم"، ومن طريق أبي قلابة عن

(4/144)


عبد الرحمن بن الحارث "أن أبا هريرة كان يقول: من أصبح جنبا فليفطر" فاتفقت هذه الروايات على أنه كان يفتي بذلك، وسيأتي بيان من روى ذلك عنه مرفوعا في آخر الكلام على هذا الحديث. قوله: "لتفزعن" كذا للأكثر بالفاء والزاي من الفزع وهو الخوف أي لتخيفنه بهذه القصة التي تخالف فتواه، وللكشميهني: "لتقرعن" بفتح فقاف وراء مفتوحة، أي تقرع بهذه القصة سمعه، يقال قرعت بكذا سمع فلان إذا أعلمته به إعلاما صريحا. قوله: "ومروان يومئذ على المدينة" أي أمير من جهة معاوية. قوله: "فكره ذلك عبد الرحمن" قد بينا سبب كراهته، قيل ويحتمل أن يكون كره أيضا أن يخالف مروان لكونه كان أميرا واجب الطاعة في المعروف، وبين أبو حازم عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبيه سبب تشديد مروان في ذلك، فعند النسائي من هذا الوجه قال: "كنت عند مروان مع عبد الرحمن، فذكروا قول أبي هريرة فقال: اذهب فاسأل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قال فذهبنا إلى عائشة فقالت: يا عبد الرحمن، أما لكم في رسول الله أسوة حسنة" فذكرت الحديث: "ثم أتينا أم سلمة كذلك، ثم أتينا مروان فاشتد عليه اختلافهم تخوفا أن يكون أبو هريرة يحدث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مروان لعبد الرحمن: عزمت عليك لما أتيته فحدثته". قوله: "ثم قدر لنا أن نجتمع بذي الحليفة" أي المكان المعروف وهو ميقات أهل المدينة، وقوله: "وكان لأبي هريرة هناك أرض" فيه رفع توهم من يظن أنهما اجتمعا في سفر، وظاهره أنهما اجتمعا من غير قصد، لكن في رواية مالك المذكورة" فقال مروان لعبد الرحمن: أقسمت عليك لتركبن دابتي فإنها بالباب فلتذهبن إلى أبي هريرة فإنه بأرضه بالعقيق، فلتخبرنه. قال فركب عبد الرحمن وركبت معه" فهذا ظاهر في أنه قصد أبا هريرة لذلك، فيحمل قوله: "ثم قدر لنا أن نجتمع معه" على المعنى الأعم من التقدير لا على معنى الاتفاق، ولا تخالف بين قوله: "بذي الحليفة" وبين قوله: "بأرضه بالعقيق" لاحتمال أن يكونا قصداه إلى العقيق فلم يجداه ثم وجداه بذي الحليفة وكان له أيضا بها أرض. ووقع في رواية معمر عن الزهري عن أبي بكر "فقال مروان عزمت عليكما لما ذهبتما إلى أبي هريرة، قال فلقينا أبا هريرة عند باب المسجد" والظاهر أن المراد بالمسجد هنا مسجد أبي هريرة بالعقيق لا المسجد النبوي جمعا بين الروايتين، أو يجمع بأنهما التقيا بالعقيق فذكر له عبد الرحمن القصة مجملة أو لم يذكرها بل شرع فيها ثم لم يتهيأ له ذكر تفصيلها وسماع جواب أبي هريرة إلا بعد أن رجعا إلى المدينة وأراد دخول المسجد النبوي. قوله: "إني ذاكر لك" في رواية الكشميهني: "إني أذكر" بصيغة المضارعة. قوله: "لم أذكره لك" في رواية الكشميهني: "لم أذكر ذلك" وفيه حسن الأدب مع الأكابر وتقديم الاعتذار قبل تبليغ ما يظن المبلغ أن المبلغ يكرهه. قوله: "فذكر قول عائشة وأم سلمة فقال كذلك حدثني الفضل" ظاهره أن الذي حدثه به الفضل مثل الذي ذكره له عبد الرحمن عن عائشة وأم سلمة، وليس كذلك لما قدمناه من مخالفة قول أبي هريرة لقول عائشة وأم سلمة، والسبب في هذا الإبهام أن رواية شعيب في حديث الباب لم يذكر في أولها كلام أبي هريرة كما قدمناه فلذلك أشكل أمر الإشارة بقوله كذلك. ووقع كلام أبي هريرة في رواية معمر وفي رواية ابن جريج كما قدمناه فلذلك قال في آخره: "سمعت ذلك - أي القول الذي كنت أقوله - من الفضل" وفي رواية مالك عن سمي "فقال أبو هريرة لا علم لي بذلك" وفي رواية معمر عن ابن شهاب "فتلون وجه أبي هريرة ثم قال: هكذا حدثني الفضل". قوله: "وهو أعلم" أي بما روى والعهدة عليه في ذلك لا علي. ووقع في رواية النسفي عن البخاري "وهن أعلم" أي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا في رواية معمر. وفي رواية ابن جريج "فقال أبو هريرة أهما قالتاه؟ قال نعم قال: هما أعلم" وهذا يرجح رواية النسفي، وللنسائي من طريق عمر بن أبي

(4/145)


بكر ابن عبد الرحمن عن أبيه "هي - أي عائشة - أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا" وزاد ابن جريج في روايته: "فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك" وكذلك وقع في رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عند النسائي أنه رجع، وروى ابن أبي شيبة من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رجع عن فتياه: من أصبح جنبا فلا صوم له، وللنسائي من طريق عكرمة بن خالد ويعلى بن عقبة وعراك بن مالك كلهم عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن أبا هريرة أحال بذلك على الفضل بن عباس، لكن عنده من طريق عمر بن أبي بكر عن أبيه "أن أبا هريرة قال في هذه القصة إنما كان أسامة بن زيد حدثني" فيحمل على أنه كان عنده عن كل منهما. ويؤيده رواية أخرى عند النسائي من طريق أخرى عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبيه قال فيها "إنما حدثني فلان وفلان" وفي رواية مالك المذكورة "أخبر نية مخبر" والظاهر أن هذا من تصرف الرواة، منهم من أبهم الرجلين ومنهم من اقتصر على أحدهما تارة مبهما وتارة مفسرا، ومنهم من لم يذكر عن أبي هريرة أحدا، وهو عند النسائي أيضا من طريق أبي قلابة عن عبد الرحمن بن الحارث ففي آخره: "فقال أبو هريرة: هكذا كنت أحسب". قوله: "وقال همام وابن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالفطر والأول أسند" أما رواية همام فوصلها أحمد وابن حبان من طريق معمر عنه بلفظ: "قال صلى الله عليه وسلم: إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم حينئذ" وأما رواية ابن عبد الله بن عمر فوصلها عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن ابن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة به" وقد اختلف على الزهري في اسمه فقال عنه شعيب عنه "أخبرني عبد الله بن عمر قال لي أبو هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالفطر إذا أصبح الرجل جنبا" أخرجه النسائي والطبراني في "مسند الشاميين". وقال عقيل عنه" عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر به "فاختلف على الزهري هل هو عبد الله مكبرا أو عبيد الله مصغرا، وأما قول المصنف: والأول أسند فاستشكله ابن التين قال: لأن إسناد الخبر رفعه فكأنه قال: إن الطريق الأولى أوضح رفعا، قال: لكن الشيخ أبو الحسن قال: معناه أن الأول أظهر اتصالا. قلت: والذي يظهر لي أن مراد البخاري أن الرواية الأولى أقوى إسنادا، وهي من حيث الرجحان كذلك لأن حديث عائشة وأم سلمة في ذلك جاءا عنهما من طرق كثيرة جدا بمعنى واحد حتى قال ابن عبد البر أنه صح وتواتر، وأما أبو هريرة فأكثر الروايات عنه أنه كان يفتى به، وجاء عنه من طريق هذين أنه كان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك وقع في رواية معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن "سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذكره، أخرجه عبد الرزاق، وللنسائي من طريق عكرمة بن خالد عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: بلغ مروان أن أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وله من طريق المقبري قال بعثت عائشة إلى أبي هريرة لأتحدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأحمد من طريق عبد الله بن عمرو القاري "سمعت أبا هريرة يقول: ورب هذا البيت ما أنا قلت من أدرك الصبح وهو جنب فلا يصم، محمد ورب الكعبة قاله "لكن بين أبو هريرة كما مضى أنه لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما سمعه بواسطة الفضل وأسامة، وكأنه كان لشدة وثوقه بخبرهما يحلف على ذلك. وأما ما أخرجه ابن عبد البر من رواية عطاء بن ميناء عن أبي هريرة أنه قال: "كنت حدثتكم من أصبح جنبا فقد أفطر، وأن ذلك من كيس أبي هريرة "فلا يصح ذلك عن أبي هريرة لأنه من رواية عمر بن قيس وهو متروك. نعم قد رجع أبو هريرة عن الفتوى بذلك إما لرجحان رواية أمي المؤمنين في جواز ذلك صريحا على رواية غيرهما مع ما في رواية غيرهما من الاحتمال، إذ يمكن أن يحمل الأمر بذلك على الاستحباب في غير الفرض، وكذا النهي عن صوم ذلك اليوم، وإما

(4/146)


لاعتقاده أن يكون خبر أمي المؤمنين ناسخا لخبر غيرهما. وقد بقي على مقالة أبي هريرة هذه بعض التابعين كما نقله الترمذي، ثم ارتفع ذلك الخلاف واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النووي. وأما ابن دقيق العيد فقال: صار ذلك إجماعا أو كالإجماع لكن من الآخذين بحديث أبي هريرة من فرق بين من تعمد الجنابة وبين من احتلم كما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه وكذا حكاه ابن المنذر عن طاوس أيضا. قال ابن بطال: وهو أحد قولي أبي هريرة. قلت: ولم يصح عنه، فقد أخرج ذلك ابن المنذر من طريق أبي المهزم وهو ضعيف عن أبي هريرة، ومنهم من قال: يتم صومه ذلك اليوم ويقضيه حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر. قلت: وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أنه سأل عطاء عن ذلك فقال اختلف أبو هريرة وعائشة فأرى أن يتم صومه ويقضى ا هـ، وكأنه لم يثبت عنده رجوع أبي هريرة عن ذلك، وليس ما ذكره صريحا في إيجاب القضاء. ونقل بعض المتأخرين عن الحسن بن صالح بن حي إيجاب القضاء أيضا، والذي نقله الطحاوي عنه استحبابه، ونقل ابن عبد البر عنه وعن النخعي إيجاب القضاء في الفرض والإجزاء في التطوع، ووقع لابن بطال وابن التين والنووي والفاكهي وغير واحد في نقل هذه المذاهب مغايرات في نسبتها لقائلها والمعتمد ما حررته. ونقل الماوردي أن هذا الاختلاف كله إنما هو في حق الجنب، وأما المحتلم فأجمعوا على أنه يجزئه، وهذا النقل معترض بما رواه النسائي بإسناد صحيح عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أنه احتلم ليلا في رمضان فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر ثم نام قبل أن يغتسل فلم يستيقظ حتى أصبح قال فاستفتيت أبا هريرة فقال أفطر، وله من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أنه سمع أبا هريرة يقول: من احتلم من الليل أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم، وهذا صريح في عدم التفرقة. وحمل القائلون بفساد صيام الجنب حديث عائشة على أنه من الخصائص النبوية، أشار إلى ذلك الطحاوي بقوله: وقال آخرون يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرت عائشة وحكم الناس على ما حكى أبو هريرة. وأجاب الجمهور بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل، وبأنه قد ورد صريحا ما يدل على عدمها، وترجم بذلك ابن حبان في صحيحة حيث قال: "ذكر البيان بأن هذا الفعل لم يكن المصطفى مخصوصا به" ثم أورد ما أخرجه هو ومسلم والنسائي وابن خزيمة وغيرهم من طريق أبي يونس مولى عائشة عن عائشة "أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة - أي صلاة الصبح - وأنا جنب، أفأصوم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم. فقال: لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقى" وذكر ابن خزيمة أن بعض العلماء توهم أن أبا هريرة غلط في هذا الحديث ثم رد عليه بأنه لم يغلط بل أحال على رواية صادق، إلا أن الخبر منسوخ، لأن الله تعالى عند ابتداء فرض الصيام كان منع في ليل الصوم من الأكل والشرب والجماع بعد النوم قال فيحتمل أن يكون خبر الفضل كان حينئذ ثم أباح الله ذلك كله إلى طلوع الفجر فكان للمجامع أن يستمر إلى طلوعه فيلزم أن يقع اغتساله بعد طلوع الفجر، فدل على أن حديث عائشة ناسخ لحديث الفضل ولم يبلغ الفضل ولا أبا هريرة الناسخ فاستمر أبو هريرة على الفتيا به، ثم رجع عنه بعد ذلك لما بلغه. قلت: ويقويه أن في حديث عائشة هذا الأخير ما يشعر بأن ذلك كان بعد الحديبية لقوله فيها "قد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر" وأشار إلى آية الفتح وهي إنما نزلت عام الحديبية سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية، وإلى دعوى النسخ فيه ذهب ابن المنذر والخطابي وغير واحد، وقرره ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَام ِ

(4/147)


الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} يقتضي إباحة الوطء في ليلة الصوم، ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبا ولا يفسد صومه فإن إباحة التسبب للشيء إباحة لذلك الشيء. قلت: وهذا أولى من سلوك الترجيح بين الخبرين كما تقدم من قول البخاري والأول أسند" وكذا قال بعضهم: إن حديث عائشة أرجح لموافقة أم سلمة لها على ذلك، ورواية اثنين تقدم على رواية واحد، ولا سيما وهما زوجتان وهما أعلم بذلك من الرجال، ولأن روايتهما توافق المنقول وهو ما تقدم من مدلول الآية، والمعقول وهو أن الغسل شيء وجب بالإنزال، وليس في فعله شيء يحرم على صائم، فقد يحتلم بالنهار فيجب عليه الغسل ولا يحرم عليه بل يتم صومه إجماعا، فكذلك إذا احتلم ليلا بل هو من باب الأولى، وإنما يمنع الصائم من تعمد الجماع نهارا. وهو شبيه بمن يمنع من التطيب وهو محرم لكن لو تطيب وهو حلال ثم أحرم فبقي عليه لونه أو ريحه لم يحرم عليه. وجمع بعضهم بين الحدثين. أن الأمر في حديث أبي هريرة أمر إرشاد إلى الأفضل، فإن الأفضل أن يغتسل قبل الفجر فلو خالف جاز، ويحمل حديث عائشة على بيان الجواز ونقل النووي هذا عن أصحاب الشافعي، وفيه نظر، فإن الذي نقله البيهقي وغيره عن نص الشافعي سلوك الترجيح وعن ابن المنذر وغيره سلوك النسخ، ويعكر على حمله على الإرشاد التصريح في كثير من طرق حديث أبي هريرة بالأمر بالفطر وبالنهي الصيام فكيف يصح الحمل المذكور إذا وقع ذلك في رمضان؟ وقيل هو محمول على من أدركه مجامعا فاستدام بعد طلوعه عالما بذلك، ويعكر عليه ما رواه النسائي من طريق أبي حازم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه "أن أبا هريرة كان يقول: من احتلم وعلم باحتلامه ولم يغتسل حتى أصبح فلا يصوم" وحكى ابن التين عن بعضهم أنه سقط "لا" من حديث الفضل، وكان في الأصل "من أصبح جنبا في رمضان فلا يفطر" فلما سقط "لا "صار "فليفطر" وهذا بعيد بل باطل، لأنه يستلزم عدم الوثوق بكثير من الأحاديث وأنها يطرقها مثل هذا الاحتمال، وكأن قائله ما وقف على شيء من طرق هذا الحديث إلا على اللفظ المذكور. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم دخول العلماء على الأمراء ومذاكرتهم إياهم بالعلم. وفيه فضيلة لمروان ابن الحكم لما يدل عليه الحديث من اهتمامه بالعلم ومسائل الدين. وفيه الاستثبات في النقل والرجوع في المعاني إلى الأعلم، فإن الشيء إذا نوزع فيه رد إلى من عنده علمه، وترجيح مروي النساء فيما لهن عليه الاطلاع دون الرجال على مروي الرجال كعكسه، وأن المباشر للأمر أعلم به من المخبر عنه، والائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله ما لم يقم دليل الخصوصية، وأن للمفضول إذا سمع من الأفضل خلاف ما عنده من العلم أن يبحث عنه حتى يقف على وجهه، وأن الحجة عند الاختلاف في المصير إلى الكتاب والسنة. وفيه الحجة بخبر الواحد وأن المرأة فيه كالرجل. وفيه فضيلة لأبي هريرة لاعترافه بالحق ورجوعه إليه. وفيه استعمال السلف من الصحابة والتابعين الإرسال عن العدول من غير نكير بينهم لأن أبا هريرة اعترف بأنه لم يسمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه كان يمكنه أن يرويه عنه بلا واسطة وإنما بينها لما وقع من الاختلاف. وفيه الأدب مع العلماء، والمبادرة لامتثال أمر ذي الأمر إذا كان طاعة، ولو كان فيه مشقة على المأمور. "تكميل": في معنى الجنب الحائض والنفساء إذا انقطع دمها ليلا ثم طلع الفجر قبل اغتسالها، قال النووي في شرح مسلم: مذهب العلماء كافة صحة صومها إلا ما حكي عن بعض السلف مما لا يعلم صح عنه أو لا، وكأنه أشار بذلك إلى ما حكاه في شرح المهذب عن الأوزاعي، لكن حكاه ابن عبد البر عن الحسن بن صالح أيضا، وحكى ابن دقيق العيد أن في المسألة في

(4/148)


مذهب مالك قولين، وحكاه القرطبي عن محمد بن مسلمة من أصحابهم ووصف قوله بالشذوذ، وحكى ابن عبد البر عن عبد الملك بن الماجشون أنها إذا أخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر لأنها في بعضه غير طاهرة، قال: وليس كالذي يصبح جنبا لأن الاحتلام لا ينقض الصوم والحيض ينقضه.

(4/149)


23- باب الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَرْجُهَا
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ"
وَقَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "مَآرِبُ"حَاجَةٌ قَالَ طَاوُسٌ {أُولِي الإِرْبَة} الأَحْمَقُ لاَ حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ"
وقال جابر بن زيد:إن نظر فأمنى يتم صومه
[الحديث 1927- طرفه في: 1928]
قوله: "باب المباشرة للصائم" أي بيان حكمها وأصل المباشرة التقاء البشرتين ويستعمل في الجماع سواء أولج أو لم يولج. وليس الجماع مرادا بهذه الترجمة. قوله: "وقالت عائشة رضي الله عنه يحرم عليه فرجها" وصله الطحاوي من طريق أبي مرة مولى عقيل عن حكيم بن عقال قال: "سألت عائشة ما يحرم على من امرأتي وأنا صائم؟ قالت فرجها" إسناده إلى حكيم صحيح، ويؤدي معناه أيضا ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن مسروق "سألت عائشة ما يحل للرجل من امرأته صائما؟ قالت كل شيء إلا الجماع". قوله: "حدثنا سليمان بن حرب عن شعبة" كذا للأكثر، ووقع للكشميهني عن سعيد بمهملة وآخره دال، وهو غلط فاحش فليس في شيوخ سليمان بن حرب أحد اسمه سعيد حدثه عن الحكم، الحكم المذكور هو ابن عتيبة، وإبراهيم هو النخعي. وقد وقع عند الإسماعيلي عن يوسف القاضي عن سليمان بن حرب عن شعبة على الصواب، لكن وقع عنده عن إبراهيم "أن علقمة وشريح بن أرطاة رجلان من النخع كانا عند عائشة، فقال أحدهما لصاحبه سلها عن القبلة للصائم، قال: ما كنت لأرفث عند أم المؤمنين. فقالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه" قال الإسماعيلي: رواه غندر وابن أبي عدي وغير واحد عن شعبة فقالوا "عن علقمة" وحدث به البخاري عن سليمان بن حرب عن شعبة فقال: "عن الأسود" وفيه نظر، وصرح أبو إسحاق بن حمزة فيما ذكره أبو نعيم في "المستخرج" عنه بأنه خطأ. قلت: وليس ذلك من البخاري، فقد أخرجه البيهقي من طريق محمد بن عبد الله بن معبد عن سليمان بن حرب كما قال البخاري، وكأن سليمان بن حرب حدث به على الوجهين، فإن كان حفظه عن شعبة فلعل شعبة حدث به على الوجهين، وإلا فأكثر أصحاب شعبة لم يقولوا فيه من هذا الوجه عن الأسود، وإنما اختلفوا: فمنهم من قال كرواية يوسف المتقدمة وصورتها الإرسال، وكذا أخرجه النسائي بطريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة. ومنهم من قال عن إبراهيم عن علقمة وشريح، وقد ترجم النسائي في سننه الاختلاف فيه على إبراهيم، والاختلاف على الحكم وعلى الأعمش وعلى منصور وعلى عبد الله ابن عون كلهم عن إبراهيم، وأورده من طريق إسرائيل عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: "خرج نفر من النخع فيهم رجل يدعى شريحا فحدث أن عائشة قالت" فذكر الحديث،

(4/149)


قال فقال له رجل: لقد هممت أن أضرب رأسك بالقوس، فقال قولوا له فليكف عني حتى نأتي أم المؤمنين؛ فلما أتوها "قالوا لعلقمة: سلها، فقال: ما كنت لأرفث عندها اليوم، فسمعته فقالت: "فذكر الحديث، ثم ساقه من طريق عبيدة عن منصور فجعل شريحا هو المنكر وأبهم الذي حدث بذلك عن عائشة، ثم استوعب النسائي طرقه، وعرف منها أن الحديث كان عند إبراهيم عن علقمة والأسود ومسروق جميعا فلعله كان يحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وتارة يجمع وتارة يفرق، وقد قال الدار قطني بعد ذكر الاختلاف فيه على إبراهيم: كلها صحاح وعرف من طريق إسرائيل سبب تحديث عائشة بذلك واستدراكها على من حدث عنها به على الإطلاق بقولها "ولكنه كان أملككم لإربه "فأشارت بذلك إلى أن الإباحة لمن يكون مالكا لنفسه دون من لا يأمن من الوقوع فيما يحرم. وفي رواية حماد عند النسائي: "قال الأسود قلت لعائشة أيباشر الصائم؟ قالت: لا. قلت أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه "وظاهر هذا أنها اعتقدت خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قاله القرطبي. قال: وهو اجتهاد منها. وقول أم سلمة - يعني الآتي ذكره - أولى أن يؤخذ به لأنه نص في الواقعة. قلت: قد ثبت عن عائشة صريحا إباحة ذلك كما تقدم، فيجمع بين هذا وبين قولها المتقدم أنه "يحل له كل شيء إلا الجمع" بحمل النهي هنا على كراهة التنزيه فإنها لا تنافي الإباحة. وقد رويناه في كتاب الصيام ليوسف القاضي من طريق حماد بن سلمة عن حماد بلفظ: "سألت عائشة عن المباشرة للصائم فكرهتها، وكأن هذا هو السر في تصدير البخاري بالأثر الأول عنها لأنه يفسر مرادها بالنفي المذكور في طريق حماد وغيره والله أعلم. ويدل على أنها لا ترى بتحريمها ولا بكونها من الخصائص ما رواه مالك في "الموطأ" عن أبي النضر "أن عائشة بنت طلحة أخبرته أنها كانت عند عائشة فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر فقالت له عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها وتقبلها؟ قال أقبلها وأنا صائم؟ قالت نعم" قوله: "كان يقبل ويباشر وهو صائم" التقبيل أخص من المباشرة، فهو من ذكر العام بعد الخاص، وقد رواه عمرو بن ميمون عن عائشة بلفظ: "كان يقبل في شهر الصوم" أخرجه مسلم والنسائي. وفي رواية لمسلم: "يقيل في رمضان وهو صائم" فأشارت بذلك إلى عدم التفرقة بين صوم الفرض والنفل. وقد اختلف في القبلة والمباشرة للصائم: فكرهها قوم وهو مطلقا وهو مشهور عند المالكية، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر "أنه كان يكره القبلة والمباشرة" ونقل ابن المنذر وغيره عن قوم تحريمها، واحتجوا بقوله تعالى:
{ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الآية. فمنع المباشرة في هذه الآية نهارا، والجواب عن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، هو المبين عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهارا فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قبلة ونحوها، والله أعلم. وممن أفتى بإفطار من قبل وهو صائم عبد الله بن شبرمة أحد فقهاء الكوفة، ونقله الطحاوي عن قوم لم يسمهم وألزم ابن حزم أهل القياس أن يلحقوا الصيام بالحج في المباشرة ومقدمات النكاح للاتفاق على إبطالهما بالجماع، وأباح القبلة قوم مطلقا وهو المنقول صحيحا عن أبي هريرة وبه قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة، بل بالغ بعض أهل الظاهر فاستحبها، وفرق آخرون بين الشاب والشيخ فكرهها للشاب وأباحها للشيخ وهو مشهور عن ابن عباس أخرجه مالك وسعيد بن منصور وغيرهما، وجاء فيه حديثان مرفوعان فيهما ضعف أخرج أحدها أبو داود من حديث أبي هريرة والآخر أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وفرق آخرون بين من يملك نفسه ومن لا يملك كما أشارت إليه عائشة وكما تقدم ذلك في مباشرة الحائض في كتاب الحيض. وقال الترمذي: ورأى بعض أهل العلم أن

(4/150)


للصائم إذا ملك نفسه أن يقبل وإلا فلا؛ ليسلم له صومه، وهو قول سفيان الشافعي، ويدل على ذلك ما رواه مسلم من طريق عمر بن أبي سلمة وهو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم أنه "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيقبل الصائم؟ فقال: سل هذه - لأم سلمة - فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك. فقال: يا رسول الله قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له" فدل ذلك على أن الشاب والشيخ سواء، لأن عمر حينئذ كان شابا، ولعله كان أول ما بلغ وفيه دلالة على أنه ليس من الخصائص، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء بن يسار "عن رجل من الأنصار أنه قبل امرأته وهو صائم، فأمر امرأته أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فسألته فقال إني أفعل ذلك، فقال زوجها: يرخص الله لنبيه فيما يشاء. فرجعت فقال: أنا أعلمكم بحدود الله وأتقاكم" وأخرجه مالك، لكنه أرسله قال: "عن عطاء أن رجلا" فذكر نحوه مطولا. واختلف فيما إذا باشر أو قبل أو نظر فأنزل أو أمذى، فقال الكوفيون والشافعي: يقضي إذا أنزل في غير النظر، ولا قضاء في الإمذاء. وقال مالك وإسحاق: يقضي في كل ذلك ويكفر، إلا في الإمذاء فيقضي فقط. واحتج له بأن الإنزال أقصى ما يطلب بالجماع من الالتذاذ في كل ذلك. وتعقب بأن الأحكام علقت بالجماع ولو لم يكن إنزال فافترقا. وروى عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك وجوب القضاء فيمن باشر أو قبل فأنعظ ولم يمذ ولا أنزل، وأنكره غيره عن مالك. وأبلغ من ذلك ما روى عبد الرزاق عن حذيفة "من تأمل خلق امرأته وهو صائم بطل صومه" لكن إسناده ضعيف. وقال ابن قدامة: إن قبل فأنزل أفطر بلا خلاف. كذا قال وفيه نظر، فقد حكى ابن حزم أنه لا يفطر ولو أنزل، وقوى ذلك وذهب إليه. وسأذكر في الباب الذي يليه زيادة في هذه المسألة إن شاء الله تعالى. قوله: "لأربه" بفتح الهمزة والراء وبالموحدة أي حاجته، ويروي بكسر الهمزة وسكون الراء أي عضوه، والأول أشهر، وإلى ترجيحه أشار البخاري بما أورده من التفسير. قوله: "وقال ابن عباس. مأرب حاجة" مأرب بسكون الهمزة وفتح الراء، وهذا وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} قال: حاجة أخرى، كذا فيه، وهو تفسير الجمع بالواحد، فلعله كان فيها حاجات أو حوائج فقد أخرجه أيضا من طريق عكرمة عنه بلفظ: {مَآرِبُ أُخْرَى} قال: "حوائج أخرى". قوله: "وقال طاوس {غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ} الأحمق لا حاجة له في النساء" وصله عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه في قوله: "غير أولى الإربة" قال: هو الأحمق الذي ليس له في النساء حاجة. وقد وقع لنا هذا الأثر بعلو في "جزء محمد بن يحيى الذهلي"؛ المروي من طريق السلفي، وقد تقدم في الحيض بيان الاختلاف في قوله: "لأربه" ورأيت بخط مغلطاي في شرحه هنا قال: وقال ابن عباس - أي في تفسير أولى الإربة - المقعد. وقال ابن جبير المعتوه. وقال عكرمة العنين، ولم أر ذلك في شيء من نسخ البخاري. وإنما أوقعه في ذلك أن القطب لما أخرج أثر طاوس قال بعده "وعن ابن عباس المعقد الخ "ولم يرد القطب أن البخاري ذكر ذلك، وإنما أورده القطب من قبل نفسه من كلام أهل التفسير. قوله: "وقال جابر بن زيد: إن نظر فأمنى يتم صومه" وصله ابن أبي شيبة من طريق عمر بن هرم "سئل جابر بن زيد عن رجل نظر إلى امرأته في رمضان فأمنى من شهوتها هل يفطر؟ قال: لا، ويتم صومه" وقد تقدم نقل الخلاف فيه قريبا. "تنبيه": وقع هذا الأثر في رواية أبي ذر وحده هنا، ووقع في رواية الباقين في أول الباب الذي بعده، وذكره ابن بطال في البابين معا، ومناسبته للبابين من جهة التفرقة بين من يقع منه الإنزال باختياره بين من يقع منه بغير اختياره كما سيأتي بسط القول فيه إن

(4/151)


شاء الله تعالى.

(4/152)


24 - باب الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ
1928- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ ضَحِكَتْ"
1929- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن هشام بن أبي عبد الله حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن زينب بنت أم سلمة عن أمها رضي الله عنها قالت ثم بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي فقال ما لك أنفست قلت نعم فدخلت معه في الخميلة وكانت هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسلان من إناء واحد وكان يقبلها وهو صائم"
قوله، "باب القبلة للصائم" أي بيان حكمها. قوله، "حدثني يحيى" هو القطان، وهشام هو ابن عروة، وقد أحال المصنف بالمتن على طريق مالك عن هشام وليس بين لفظهما مخالفة، فقد أخرجه النسائي من طريق يحيى القطان بلفظ: "قال إني لم أر القبلة بعض أزواجه وهو صائم" وزاد الإسماعيلي من طريق عمرو بن علي بن يحيى قال هشام "قال إني لم أر القبلة تدعو إلى خير"، ورواه سعيد بن منصور عن يعقوب بن عبد الرحمن عن هشام بلفظ: "كان يقبل بعض أزواجه وهو صائم ثم ضحكت"، فقال عروة لم أر القبلة تدعو إلى خير، وكذا ذكره مالك في "الموطأ" عن هشام عقب الحديث، لكن لم يقل فيه ثم ضحكت. وقوله ثم ضحكت يحتمل ضحكها التعجب ممن خالف في هذا، وقيل تعجبت من نفسها إذ تحدث بمثل هذا مما يستحيي من ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتها الضرورة في تبليغ العلم إلى ذكر ذلك، وقد يكون الضحك خجلا لإخبارها عن نفسها بذلك، أو تنبيها على أنها صاحبة القصة ليكون أبلغ في الثقة بها، أو سرورا بمكانها من النبي صلى الله عليه وسلم وبمنزلتها منه ومحبته لها. وقد روى ابن أبي شيبة عن شريك عن هشام في هذا الحديث: "فضحكت، فظننا أنها هي" وروى النسائي من طريق طلحة بن عبد الله التيمي عن عائشة قالت: "أهوى إلي النبي صلى الله عليه وسلم ليقبلني فقلت إني صائمة، فقال وأنا صائم، فقبلني" وهذا يؤيد ما قدمناه أن النظر في ذلك لمن لا يتأثر بالمباشرة والتقبيل، لا للتفرقة بين الشاب والشيخ، لأن عائشة كانت شابة، نعم لما كان الشاب مظنة لهيجان الشهوة فرق من فرق. وقال المازري: ينبغي أن يعتبر حال المقبل فإن أثارت منه القبلة الإنزال حرمت عليه لأن الإنزال يمنع منه الصائم فكذلك ما أدى إليه، وإن كان عنها المذي فمن رأى القضاء منه قال يحرم في حقه، ومن رأى أن لا قضاء قال يكره، وإن لم تؤد القبلة إلى شيء فلا معنى للمنع منها إلا على القول بسد الذريعة. قال: ومن بديع ما روي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للسائل عنها "أرأيت لو تمضمضت" فأشار إلى فقه بديع، وذلك أن المضمضة لا تنقض الصوم وهي أول الشرب ومفتاحه، كما أن القبلة من دواعي الجماع ومفتاحه، والشرب يفسد الصوم كما يفسده الجماع، وكما ثبت عندهم أن أوائل الشرب لا يفسد الصيام فكذلك أوائل الجماع ا هـ.
والحديث الذي أشار إليه أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عمر، قال النسائي منكر، وصححه ابن خزيمة وابن

(4/152)


حبان والحاكم وقد سبق الكلام على حديث أم سلمة في كتاب الحيض، والغرض منه هنا قولها "وكان يقبلها وهو صائم" وقد ذكرنا شاهده من رواية عمر بن أبي سلمة في الباب الذي قبله. وقال النووي: القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته لكن الأولى له تركها، وأما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح وقيل مكروهة، وروى ابن وهب عن مالك إباحتها في النفل دون الفرض. قال النووي: ولا خلاف أنها لا تبطل الصوم إلا إن أنزل بها. "تنبيه": روى أبو داود وحده من طريق مصدع بن يحيى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها ويمص لسانها وإسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على من لم يبتلع ريقه الذي خالط ريقها، والله أعلم.

(4/153)


25 - باب اغْتِسَالِ الصَّائِمِ
وَبَلَّ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ثَوْبًا فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَائِمٌ
وَدَخَلَ الشَّعْبِيُّ الْحَمَّامَ وَهُوَ صَائِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ الْقِدْرَ أَوْ الشَّيْءَ
وَقَالَ الْحَسَنُ لاَ بَأْسَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيُصْبِحْ دَهِينًا مُتَرَجِّلًا
وَقَالَ أَنَسٌ إِنَّ لِي أَبْزَنَ أَتَقَحَّمُ فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَاكَ وَهُوَ صَائِمٌ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَاكُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ وَلاَ يَبْلَعُ رِيقَهُ وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ ازْدَرَدَ رِيقَهُ لاَ أَقُولُ يُفْطِرُ
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لاَ بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ قِيلَ لَهُ طَعْمٌ قَالَ وَالْمَاءُ لَهُ طَعْمٌ وَأَنْتَ تُمَضْمِضُ بِهِ وَلَمْ يَرَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ بِالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ بَأْسًا
1930- حدثنا أحمد بن صالح حدثنا بن وهب حدثنا يونس عن بن شهاب عن عروة وأبي بكر قالت عائشة رضي الله عنها ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان حلم فيغتسل ويصوم"
1931- حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن كنت أنا وأبي فذهبت معه حتى دخلنا على عائشة رضي الله عنها قالت ثم أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصومه"
1932- ثم دخلنا على أم سلمة فقالت مثل ذلك
قوله: "باب اغتسال الصائم" أي بيان جوازه. قال الزين بن المنير: أطلق الاغتسال ليشمل الأغسال المسنونة والواجبة والمباحة، وكأنه يشير إلى ضعف ما روى عن علي من النهي عن دخول الصائم الحمام أخرجه عبد الرزاق وفي إسناده ضعف، واعتمده الحنفية فكرهوا الاغتسال للصائم. قوله: "وبل ابن عمر ثوبا فألقى عليه وهو صائم" في رواية الكشميهني: "فألقاه" وهذا وصله المصنف في التاريخ وابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن أبي عثمان أنه رأى ابن عمر يفعل ذلك، ومناسبته للترجمة من جهة أن بلل الثوب إذا طالت إقامته على الجسد حتى جف ينزل ذلك منزلة الدلك

(4/153)


بالماء، وأراد البخاري بأثر ابن عمر هذا معارضة ما جاء عن إبراهيم النخعي بأقوى منه، فإن وكيعا روي عن الحسن بن صالح عن مغيرة عنه أنه كان يكره للصائم بل الثياب. قوله: "ودخل الشعبي الحمام وهو صائم" وصله ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق قال: رأيت الشعبي يدخل الحمام وهو صائم، ومناسبته للترجمة ظاهرة. قوله: "وقال ابن عباس لا بأس أن يتطعم القدر" بكسر القاف أي طعام القدر أو الشيء، وصله ابن أبي شيبة من طريق عكرمة عنه بلفظ: "لا بأس أن يتطاعم القدر" ورويناه في "الجعديات" من هذا الوجه بلفظ: "لا بأس أن يتطاعم الصائم بالشيء" يعني المرقة ونحوها. ومناسبته للترجمة من طريق الفحوى، لأنه إذا لم يناف الصوم إدخال الطعام في الفم وتطعمه وتقريبه من الازدراد لم ينافه إيصاله الماء إلى بشرة الجسد من باب الأولى. قوله: "وقال الحسن: لا بأس بالمضمضة والتبرد للصائم" وصله عبد الرزاق بمعناه، ووقع بعضه في حديث مرفوع أخرجه مالك وأبو داود من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب الماء على رأسه - وهو صائم - من العطش أو من الحر" ومناسبته للترجمة ظاهرة، وسيأتي الكلام على ما يتعلق بالمضمضة في الباب الذي بعده. قوله: "وقال ابن مسعود إذا كان يوم صوم أحدكم فليصبح دهينا مترجلا" قال الزين بن المنير: مناسبته للترجمة من جهة أن الإدهان من الليل يقتضي استصحاب أثره في النار، وهو مما يرطب الدماغ ويقوي النفس فهو أبلغ من الاستعانة ببرد الاغتسال لحظة من النهار ثم يذهب أثره. قلت: وله مناسبة أخرى، وذلك أن المانع من الاغتسال لعله سلك به مسلك استحباب التقشف في الصيام كما ورد مثله في الحج، والإدهان والترجل في مخالفة التقشف كالاغتسال. وقال ابن المنير الكبير: أراد البخاري الرد على من كره الاغتسال للصائم لأنه إن كرهه خشية وصول الماء حلقه فالعلة باطلة بالمضمضة والسواك وبذوق القدر ونحو ذلك، وإن كرهه للرفاهية فقد استحب السلف للصائم الترفه والتجمل بالترجل والإدهان والكحل ونحو ذلك فلذلك ساق هذه الآثار في هذه الترجمة. قوله: "وقال أنس: إن لي أبزن أتقحم فيه وأنا صائم" الأبزن بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الزاي بعدها نون: حجر منقور شبه الحوض، وهي كلمة فارسية ولذلك لم يصرفه. وأتقحم فيه أي أدخل. وهذا الأثر وصله قاسم بن ثابت في "غريب الحديث:" له من طريق عيسى بن طهمان سمعت أنس بن مالك يقول: "إن لي أبزن إذا وجدت الحر تقحمت فيه وأنا صائم" وكأن الأبزن كان ملآن ماء فكان أنس إذا وجد الحر دخل فيه يتبرد بذلك. قوله: "وقال ابن عمر: يستاك أول النهار وآخره" وصله ابن أبي شيبة عنه بمعناه ولفظه: "كان ابن عمر يستاك إذا أراد أن يروح إلى الظهر وهو صائم" ومناسبته للترجمة قريبة مما تقدم في أثر ابن عباس في تطعم القدر. ووقع في نسخة الصغاني بعد قوله وآخره: "ولا يبلع ريقه". قوله: "وقال ابن سيرين: لا بأس بالسواك الرطب، قيل له طعم. قال: والماء له طعم وأنت تمضمض به" وصله ابن أبي شيبة من طريق أبي حمزة المازني قال: "أتى ابن سيرين رجل فقال: ما ترى في السواك للصائم؟ قال لا بأس به. قال: إنه جريد وله طعم" قال فذكر مثله. قوله: "ولم ير أنس والحسن وإبراهيم بالكحل للصائم بأسا" أما أنس فروى أبو داود في السنن من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس أنه كان يكتحل وهو صائم، ورواه الترمذي من طريق أبي عاتكة عن أنس مرفوعا وضعفه، وأما الحسن فوصله عبد الرزاق بإسناد صحيح عنه قال: "لا بأس بالكحل للصائم". وأما إبراهيم فاختلف عنه: فروى سعيد بن منصور عن جرير عن القعقاع بن يزيد "سألت إبراهيم أيكتحل الصائم؟ قال نعم. قلت أجد طعم الصبر في حلقي. قال ليس بشيء"

(4/154)


.وروى أبو داود من طريق يحيى بن عيسى عن الأعمش قال: "ما رأيت أحدا من أصحابنا يكره الكحل للصائم، وكان إبراهيم يرخص أن يكتحل الصائم بالصبر" وروى ابن أبي شيبة عن حفص عن الأعمش عن إبراهيم قال: "لا بأس بالكحل للصائم ما لم يجد طعمه" ثم أورد المصنف حديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بعد الفجر ويصوم، وأورده أيضا من حديثها وحديث أم سلمة وهو مطابق لما ترجم له، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى قبل بابين بحمد الله تعالى.

(4/155)


26 - باب الصَّائِمِ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا
وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ اسْتَنْثَرَ فَدَخَلَ الْمَاءُ فِي حَلْقِهِ لاَ بَأْسَ إِنْ لَمْ يَمْلِكْ
وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ دَخَلَ حَلْقَهُ الذُّبَابُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ إِنْ جَامَعَ نَاسِيًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ
1933- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ
[الحديث 1933- طرفه في 6669]
قوله: "باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا" أي هل يجب عليه القضاء أو لا؟ وهي مسألة خلاف مشهورة، فذهب الجمهور إلى عدم الوجوب، وعن مالك يبطل صومه ويجب عليه القضاء. قال عياض هذا هو المشهور عنه وهو قول شيخه ربيع وجميع أصحاب مالك، لكن فرقوا بين الفرض والنفل. وقال الداودي: لعل مالكا لم يبلغه الحديث، أو أوله على رفع الإثم. قوله: "وقال عطاء: إن استنثر فدخل الماء في حلقه لا بأس إن لم يملك" أي دفع الماء بأن غلبه، فإن ملك دفع الماء فلم يدفعه حتى دخل حلقه أفطر. ووقع في رواية أبي ذر والنسفي "لا بأس، لم يملك" بإسقاط "إن" وهي على هذا جملة مستأنفة كالتعليل لقوله: "لا بأس" وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن ابن جريج "قلت لعطاء إنسان يستنثر فدخل الماء في حلقه. قال لا بأس بذلك" قال عبد الرزاق. وقاله معمر عن قتادة. وقال ابن أبي شيبة حدثنا مخلد عن ابن أبي جريج "إن إنسانا قال لعطاء: أمضمض فيدخل الماء في حلقي. قال: لا بأس، لم يملك" وهذا يقوي رواية أبي ذر والنسفي. قوله: "وقال الحسن: إن دخل الذباب في حلقه فلا شيء عليه" وصله ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي نجيح "عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يدخل في حلقه الذباب وهو صائم قال لا يفطر" وعن وكيع عن الربيع عن الحسن قال: "لا يفطر" ومناسب هذين الأثرين للترجمة من جهة أن المغلوب بدخول الماء حلقه أو الذباب لا اختيار له في ذلك كالناسي، قال ابن المنير في الحاشية: أدخل المغلوب في ترجمة الناسي لاجتماعهما في ترك العمد وسلب الاختيار. ونقل ابن المنذر الاتفاق على أن من دخل في حلقه الذباب وهو صائم أن لا شيء عليه، لكن نقل غيره عن أشهب أنه قال: أحب إلي أن يقضى؛ حكاه ابن التين. وقال الزين بن المنير: دخول الذباب أقعد بالغلبة وعدم الاختيار من دخول الماء لأن الذباب يدخل بنفسه بخلاف الاستنشاق والمضمضة فإنما تنشأ عن تسببه، وفرق إبراهيم بين من كان ذاكرا لصومه حال المضمضة فأوجب عليه القضاء دون الناسي، وعن الشعبي إن كان لصلاة فلا قضاء وإلا قضى. قوله: "وقال

(4/155)


الحسن ومجاهد. إن جامع ناسيا فلا شيء عليه" هذان الأثران وصلهما عبد الرزاق قال: "أخبرنا ابن جريج عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لو وطئ رجل امرأته وهو صائم ناسيا في رمضان لم يكن عليه فيه شيء"،" وعن الثوري عن رجل عن الحسن قال: هو بمنزلة من أكل أو شرب ناسيا" وظهر بأثر الحسن هذا مناسبة ذكر هذا الأثر للترجمة، وروي أيضا: "عن ابن جريج أنه سأل عطاء عن رجل أصاب امرأته ناسيا في رمضان، قال لا ينسى، هذا كله عليه القضاء" وتابع عطاء على ذلك الأوزاعي والليث ومالك وأحمد وهو أحد الوجهين للشافعية، وفرق هؤلاء كلهم بين الأكل والجماع. وعن أحمد في المشهور عنه: تجب عليه الكفارة أيضا، وحجتهم قصور حالة المجامع ناسيا عن حالة الآكل، وألحق به بعض الشافعية من أكل كثيرا لندور نسيان ذلك، قال ابن دقيق العيد: ذهب مالك إلى إيجاب القضاء على من أكل أو شرب ناسيا وهو القياس، فإن الصوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات، والقاعدة أن النسيان لا يؤثر في المأمورات. قال: وعمدة من لم يوجب القضاء حديث أبي هريرة لأنه أمر بالإتمام، وسمي الذي يتم صوما، وظاهره حمله على الحقيقة الشرعية فيتمسك به حتى يدل دليل على أن المراد بالصوم هنا حقيقته اللغوية. وكأنه يشير بهذا إلى قول ابن القصار: إن معنى قوله: "فليتم صومه" أي الذي كان دخل فيه وليس فيه نفي القضاء. قال وقوله: "فإنما أطعمه الله وسقاه" مما يستدل به على صحة الصوم لإشعاره بأن الفعل الصادر منه مسلوب الإضافة إليه فلو كان أفطر لأضيف الحكم إليه، قال: وتعليق الحكم بالأكل والشرب للغالب لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما، وذكر الغالب لا يقتضي مفهوما، وقد اختلف فيه القائلون بأن أكل الناسي لا يوجب قضاء، واختلف القائلون بالإفساد هل يوجب مع القضاء الكفارة أو لا مع اتفاقهم على أن أكل الناسي لا يوجبها، ومدار كل ذلك على قصور حالة المجامع ناسيا عن حالة الآكل، ومن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه فإنما طريقه القياس والقياس مع وجود الفارق متعذر، إلا أن بين القائس أن الوصف الفارق ملغي ا هـ. وأجاب بعض الشافعية بأن عدم وجوب القضاء عن المجامع مأخوذ من عموم قوله في بعض طرق الحديث: "من أفطر في شهر رمضان" لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع، وإنما خص الأكل والشرب بالذكر في الطريق الأخرى لكونهما أغلب وقوعا ولعدم الاستغناء عنهما غالبا. قوله: "هشام" هو الدستوائي. قوله: "إذا نسى فأكل" في رواية مسلم من طريق إسماعيل عن هشام "من نسى وهو صائم فأكل" وللمصنف في النذر من طريق عوف عن ابن سيرين "من أكل ناسيا وهو صائم" ولأبي داود من طريق حبيب بن الشهيد وأيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة "جاء رجل فقال: يا رسول الله إني أكلت وشربت ناسيا وأنا صائم"، وهذا الرجل هو أبو هريرة راوي الحديث، أخرجه الدار قطني بإسناد ضعيف. قوله: "فليتم صومه" في رواية الترمذي من طريق قتادة عن ابن سيرين "فلا يفطر". قوله: "فإنما أطعمه الله وسقاه" في رواية الترمذي "فإنما هو رزق رزقه الله" وللدار قطني من طريق ابن علية عن هشام "فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه" قال ابن العربي: تمسك جميع فقهاء الأمصار بظاهر هذا الحديث، وتطلع مالك إلى المسألة من طريقها فأشرف عليه، لأن الفطر ضد الصوم والإمساك ركن الصوم فأشبه ما لو نسى ركعة من الصلاة. قال: وقد روى الدار قطني فيه: "لا قضاء عليك" فتأوله علماؤنا على أن معناه لا قضاء عليك الآن وهذا تعسف، وإنما أقول ليته صح فنتبعه ونقول به، إلا على أصل مالك في أن خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لم يعمل به، فلما جاء الحديث الأول الموافق للقاعدة في رفع الإثم عملنا به، وأما الثاني فلا يوافقها فلم نعمل به. وقال القرطبي احتج به

(4/156)


من أسقط القضاء، وأجيب بأنه لم يتعرض فيه للقضاء فيحمل على سقوط المؤاخذة، لأن المطلوب صيام يوم لا خرم فيه، لكن روى الدار قطني فيه سقوط القضاء وهو نص لا يقبل الاحتمال، لكن الشأن في صحته، فإن صح وجب الأخذ به وسقط القضاء ا هـ. وأجاب بعض المالكية بحمل الحديث على صوم التطوع كما حكاه ابن التين عن ابن شعبان، وكذا قال ابن القصار، واعتل بأنه لم يقع في الحديث تعيين رمضان فيحمل على التطوع. وقال المهلب وغيره: لم يذكر في الحديث إثباتا لقضاء فيحمل على سقوط الكفارة عنه وإثبات عذره ورفع الإثم عنه وبقاء نيته التي بيتها اهـ. والجواب عن ذلك كله بما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدار قطني من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة" فعين رمضان وصرح بإسقاط القضاء. قال الدار قطني: تفرد به محمد بن مرزوق عن الأنصاري، وتعقب بأن ابن خزيمة أخرجه أيضا عن إبراهيم ابن محمد الباهلي وبأن الحاكم أخرجه من طريق أبي حاتم الرازي كلاهما عن الأنصاري فهو المنفرد به كما قال البيهقي وهو ثقة، والمراد أنه انفرد بذكر إسقاط القضاء فقط لا بتعيين رمضان، فإن النسائي أخرج الحديث من طريق علي بن بكار عن محمد بن عمرو ولفظه: "في الرجل يأكل في شهر رمضان ناسيا فقال: الله أطعمه وسقاه" وقد ورد إسقاط القضاء من وجه آخر عن أبي هريرة أخرجه الدار قطني من رواية محمد بن عيسى ابن، الطباع عن ابن علية عن هشام عن ابن سيرين ولفظه: "فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه" وقال بعد تخريجه: هذا إسناد صحيح وكلهم ثقات. قلت: لكن الحديث عند مسلم وغيره من طريق ابن علية وليس فيه هذه الزيادة. وروى الدار قطني أيضا إسقاط القضاء من رواية أبي رافع وأبي سعيد المقبري والوليد بن عبد الرحمن وعطاء بن يسار كلهم عن أبي هريرة. وأخرج أيضا من حديث أبي سعيد رفعه: "من أكل في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه" وإسناده وإن كان ضعيفا لكنه صالح للمتابعة، فأقل. درجات الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنا فيصلح للاحتجاج به، وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوة، ويعتضد أيضا بأنه قد أفتى به جماعة من الصحابة من غير مخالفة لهم منهم - كما قاله ابن المنذر وابن حزم وغيرها - علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر، ثم هو موافق لقوله تعالى: { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فالنسيان ليس من كسب القلب، وموافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد الأكل لا بنسيانه فكذلك الصيام، وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يقبل، ورده للحديث مع صحته بكونه خبر واحد خالف القاعدة ليس بمسلم، لأنه قاعدة مستقلة بالصيام فمن عارضه بالقياس على الصلاة أدخل قاعدة في قاعدة، ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل، وفي الحديث لطف الله بعباده والتيسير عليهم ورفع المشقة والحرج عنهما، وقد روى أحمد لهذا الحديث سببا فأخرج من طريق أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحاق أنها "كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى بقصعة من ثريد فأكلت معه، ثم تذكرت أنها كانت صائمة، فقال لها ذو اليدين: الآن بعدما شبعت؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك" وفي هذا رد على من فرق بين قليل الأكل وكثيره. ومن المستظرفات ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار: أن إنسانا جاء إلى أبي هريرة فقال أصبحت صائما فنسيت فطعمت، قال لا بأس. قال: ثم دخلت على إنسان فنسيت وطعمت وشربت، قال. لا بأس الله أطعمك وسقاك. ثم قال: دخلت على آخر فنسيت فطعمت، فقال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام.

(4/157)


باب سواك الرطب و اليابس للصائم
...
27 - باب سِوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لِلصَّائِمِ
وَيُذْكَرُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لاَ أُحْصِي أَوْ أَعُدُّ"
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لاَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ"
وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَخُصَّ الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِهِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ يَبْتَلِعُ رِيقَهُ
1934- حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر قال حدثني الزهري عن عطاء بن يزيد عن حمران ثم رأيت عثمان رضي الله عنه توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا ثم تمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ثم اليسرى ثلاثا ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال من توضأ وضوئي هذا ثم يصلي ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء إلا غفر له ما تقدم من ذنبه"
قوله: "باب سواك الرطب واليابس للصائم" كذا للأكثر وهو كقولهم مسجد الجامع، ووقع في رواية الكشميهني: "باب السواك الرطب واليابس" وأشار بهذه الترجمة إلى الرد على من كره للصائم الاستياك بالسواك الرطب كالمالكية والشعبي، وقد تقدم قبل بباب قياس ابن سيرين السواك الرطب على الماء الذي يتمضمض به، ومنه تظهر النكتة في إيراد حديث عثمان في صفة الوضوء في هذا الباب فإن فيه أنه تمضمض واستنشق وقال فيه: "من توضأ وضوئي هذا" ولم يفرق بين صائم ومفطر، ويتأيد ذلك بما ذكر في حديث أبي هريرة في الباب. قوله: "ويذكر عن عامر بن ربيعة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أحصي أو أعد" وصله أحمد وأبو داود والترمذي من طريق عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر ابن ربيعة عن أبيه، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه وقال كنت لا أخرج حديث عاصم، ثم نظرت فإذا شعبة والثوري قد رويا عنه، وروى يحيى وعبد الرحمن عن الثوري عنه، وروى مالك عنه خبرا في غير الموطأ. قلت: وضعفه ابن معين والذهلي والبخاري وغير واحد، ومناسبته للترجمة إشعاره بملازمة السواك ولم يخص رطبا من يابس، وهذا على طريقة المصنف في أن المطلق يسلك به مسلك العموم، أو أن العام في الأشخاص عام في الأحوال، وقد أشار إلى ذلك بقوله في أواخر الترجمة المذكورة "ولم يخص صائما من غيره:" أي ولم يخص أيضا رطبا من يابس، وهذا التقرير تظهر مناسبة جميع ما أورده في هذا الباب للترجمة، والجامع لذلك كله قوله في حديث أبي هريرة لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء، فإنه يقتضي إباحته في كل وقت وعلى كل حال، قال ابن المنير في الحاشية: أخذ البخاري شرعية السواك للصائم بالدليل الخاص، ثم انتزعه من أعم الأدلة العامة التي تناولت أحوال متناول السواك وأحوال ما يستاك به، ثم انتزع ذلك من أعم من السواك وهو المضمضة إذ هي أبلغ من السواك الرطب. قوله: "وقالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" وصله أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن بن

(4/158)


أبي بكر الصديق عن أبيه عنها رواه عن عبد الرحمن هذا يزيد بن زريع والدراوردي وسليمان بن بلال وغير واحد، وخالفهم حماد بن سلمة فرواه عن عبد الرحمن بن أبي عتيق عن أبيه عن أبي بكر الصديق أخرجه أبو يعلى والسراج في مسنديهما عن عبد الأعلى بن حماد عن حماد بن سلمة. قال أبو يعلى في روايته قال عبد الأعلى: هذا خطأ إنما هو عن عائشة. قوله: "وقال عطاء وقتادة يبتلع ريقه" كذا للأكثر وللمستملي يبلع بغير مثناة، وللحموي يتبلع بتقديم المثناة بعدها موحدة ثم مشددة، فأما قول عطاء فوصله سعيد بن منصور وسيأتي في الباب الذي بعده، وأما أثر قتادة فوصله عبد بن حميد في التفسير عن عبد الرزاق عن معمر عنه نحوه، ومناسبته للترجمة من جهة أن أقصى ما يخشى من السواك الرطب أن يتحلل منه في الفم شيء وذلك الشيء كماء المضمضة فإذا قذفه من فيه لا يضره بعد ذلك أن يبتلع ريقه. قوله: "وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" وصله النسائي من طريق بشر بن عمر عن مالك عن ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة بهذا اللفظ، ووقع لنا بعلو في "جزء الذهلي"، وأخرجه ابن خزيمة من طريق روح بن عبادة عن مالك بلفظ: "لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء" والحديث في الصحيحين بغير هذا اللفظ من غير هذا الوجه، وقد أخرجه النسائي أيضا من طريق عبد الرحمن السراج عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: "لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع كل وضوء". قوله: "ويروى نحوه عن جابر وزيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم" أما حديث جابر فوصله أبو نعيم في كتاب السواك من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عنه بلفظ: "مع كل صلاة سواك" وعبد الله مختلف فيه، ووصله ابن عدي من وجه آخر عن جابر بلفظ: "لجعلت السواك عليهم عزيمة" وإسناده ضعيف، وأما حديث زيد بن خالد فوصله أصحاب السنن وأحمد من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عنه بلفظ: "عند كل صلاة" وحكى الترمذي عن البخاري أنه سأله عن رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ورواية محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن زيد بن خالد فقال: رواية محمد بن إبراهيم أصح، قال الترمذي: كلا الحديثين صحيح عندي. قلت: رجح البخاري طريق محمد بن إبراهيم لأمرين، أحدهما: أن فيه قصة وهي قول أبي سلمة فكان زيد بن خالد يضع السواك منه موضع القلم من أذن الكاتب فكلما قام إلى الصلاة استاك. ثانيهما: أنه توبع فأخرج الإمام أحمد من طريق يحيى بن أبي كثير حدثنا أبو سلمة عن يزيد بن خالد فذكر نحوه. "تنبيه": وقع في رواية غير أبي ذر في سياق هذه الآثار والأحاديث تقديم وتأخير والخطب فيه يسير، ثم أورد المصنف في الباب حديث عثمان في صفة الوضوء وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الوضوء وفي أوائل الصلاة وذكرت ما يتعلق بمناسبته للترجمة قبل.

(4/159)


باب إذا توضأ فليستنشق بنخره الماء
...
28 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرِهِ الْمَاءَ وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّائِمِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ الْحَسَنُ لاَ بَأْسَ بِالسَّعُوطِ لِلصَّائِمِ إِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَلْقِهِ وَيَكْتَحِلُ
وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ تَمَضْمَضَ ثُمَّ أَفْرَغَ مَا فِي فِيهِ مِنْ الْمَاءِ لاَ يَضِيرُهُ إِنْ لَمْ يَزْدَرِدْ رِيقَهُ وَمَاذَا بَقِيَ فِي فِيهِ
وَلاَ يَمْضَغُ الْعِلْكَ فَإِنْ ازْدَرَدَ رِيقَ الْعِلْكِ لاَ أَقُولُ إِنَّهُ يُفْطِرُ وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ
فَإِنْ اسْتَنْثَرَ فَدَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ لاَ بَأْسَ لَمْ يَمْلِكْ

(4/159)


قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء" هذا الحديث بهذا اللفظ من الأصول التي لم يوصلها البخاري، وقد أخرجه مسلم من طريق همام عن أبي هريرة، ورويناه في مصنف عبد الرزاق وفي نسخة همام من طريق الطبراني عن إسحاق عنه عن معمر عن همام ولفظه: "إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره الماء ثم ليستنثر" وقول المصنف "ولم يميز الصائم من غيره". قاله تفقها، وهو كذلك في أصل الاستنشاق، لكن ورد تمييز الصائم من غيره في المبالغة في ذلك كما رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق عاصم بن لقيط بن صيرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" ؛ وكأن المصنف أشار بإيراد أثر الحسن عقبه إلى هذا التفصيل. قوله: "وقال الحسن لا بأس بالسعوط للصائم إن لم يصل الماء إلى حلقه" وصله ابن أبي شيبة نحوه. وقال الكوفيون والأوزاعي وإسحاق: يجب القضاء على من استعط. وقال مالك والشافعي: لا يجب إلا إن وصل الماء إلى حلقه. وقوله: "ويكتحل" هو من قول الحسن أيضا وقد تقدم ذكره قبل بابين. قوله: "وقال عطاء الخ" وصله سعيد بن منصور عن ابن المبارك عن ابن جريج "قلت لعطاء الصائم يمضمض ثم يزدرد ريقه وهو صائم؟ قال: لا يضره، وماذا بقي في فيه:" وكذا أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج، ووقع في أصل البخاري "وما بقي في فيه؟" قال ابن بطال: ظاهره إباحة الازدراد لما بقي في الفم من ماء المضمضمة، وليس كذلك لأن عبد الرزاق رواه بلفظ: "وماذا بقي في فيه:" وكأن "ذا" سقطت من رواية البخاري. انتهى. و "ما" على ظاهر ما أورده البخاري موصولة، وعلى ما وقع من رواية ابن جريج استفهامية، وكأنه قال: وأي شيء يبقى في فيه بعد أن يمج الماء إلا أثر الماء، فإذا بلع ريقه لا يضره. وقوله في الأصل "لا يضره" وقع في رواية المستملي: "لا يضيره" بزيادة تحتانية والمعنى واحد. قوله: "ولا يمضغ العلك الخ" في رواية المستملي: "ويمضغ العلك" والأول أولى فكذلك أخرجه عبد الرازق عن ابن جريج "قلت لعطاء يمضغ الصائم العلك؟ قال: لا. قلت إنه يمج ريق العلك ولا يزدرده ولا يمصه قال1. وقلت له: أيتسوك الصائم؟ قال نعم. قلت له أيزدرد ريقه؟ قال: لا. فقلت ففعل أيضره؟ قال لا. ولكن ينهى عن ذلك" وقد تقدم الخلاف في المضمضة في "باب من أكل ناسيا" قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا شيء على الصائم فيما يبتلعه مما يجري مع الريق مما بين أسنانه مما لا يقدر على إخراجه، وكان أبو حنيفة يقول: إذا كان بين أسنانه لحم. فأكله متعمدا فلا قضاء عليه. وخالفه الجمهور لأنه معدود من الأكل. ورخص في مضغ العلك أكثر العلماء إن كان لا يتحلب منه شيء، فإن تحلب منه شيء فازدرده فالجمهور على أنه يفطر. انتهى. والعلك بكسر المهملة وسكون اللام بعدها كاف: كل ما يمضغ ويبقى في الفم كالمصطكى واللبان، فإن كان يتحلب منه شيء في الفم فيدخل الجوف فهو مفطر، وإلا فهو مجفف ومعطش فيكره من هذه الحيثية.
ـــــــ
1 لعله" قال لا"

(4/160)


29 - باب إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلاَ مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادٌ يَقْضِي

(4/160)


يَوْمًا مَكَانَهُ
1935- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ أَخْبَرَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ إِنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّهُ احْتَرَقَ قَالَ مَا لَكَ قَالَ أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِكْتَلٍ يُدْعَى الْعَرَقَ فَقَالَ أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ قَالَ أَنَا قَالَ تَصَدَّقْ بِهَذَا"
[الحديث 1935- طرفه في 6822]
قوله: "باب إذا جامع في رمضان" أي عامدا عالما وجبت عليه الكفارة. قوله: "ويذكر عن أبي هريرة رفعه: من أفطر يوما من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه" وصله أصحاب السنن الأربعة وصححه ابن خزيمة من طريق سفيان الثوري وشعبة كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن عمارة بن عمير عن أبي المطوس عن أبيه عن أبي هريرة نحوه. وفي رواية شعبة "في غير رخصة رخصها الله تعالى له لم يقض عنه وإن صام الدهر كله" قال الترمذي سألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس لا أعرف له غير هذا الحديث. وقال البخاري في التاريخ أيضا: تفرد أبو المطوس بهذا الحديث ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا. قلت: واختلف فيه على حبيب بن أبي ثابت اختلافا كثيرا فحصلت فيه ثلاث علل: الاضطراب والجهل بحال أبي المطوس والشك في سماع أبيه من أبي هريرة، وهذه الثالثة تختص بطريقة البخاري في اشتراط اللقاء، وذكر ابن حزم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مثله موقوفا. قال ابن بطال: أشار بهذا الحديث إلى إيجاب الكفارة على من أفطر بأكل أو شرب قياسا على الجماع، والجامع بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمدا. وقرر ذلك الزين بن المنير بأنه ترجم بالجماع لأنه الذي ورد فيه الحديث المسند، وإنما ذكر آثار الإفطار ليفهم أن الإفطار بالأكل والجماع واحد. انتهى. والذي يظهر لي أن البخاري أشار بالآثار التي ذكرها إلى أن إيجاب القضاء مختلف فيه بين السلف، وأن الفطر بالجماع لا بد فيه من الكفارة، وأشار بحديث أبي هريرة إلى أنه لا يصح لكونه لم يجزم به عنه، وعلى تقدير صحته فظاهره يقوي قول من ذهب إلى عدم القضاء في الفطر بالأكل بل يبقى ذلك في ذمته زيادة في عقوبته لأن مشروعية القضاء تقتضي رفع الإثم، لكن لا يلزم من عدم القضاء عدم الكفارة فيما ورد فيه الأمر بها وهو الجماع، والفرق بين الانتهاك بالجماع والأكل ظاهر فلا يصح القياس المذكور. قال ابن المنير في الحاشية ما محصله: إن معنى قوله في الحديث: "لم يقض عنه صيام الدهر" أي لا سبيل إلى استدراك كمال فضيلة الأداء بالقضاء، أي في وصفه الخاص، وإن كان يقضي عنه في وصفه العام فلا يلزم من ذلك إهدار القضاء بالكلية. انتهى. ولا يخفى تكلفه، وسياق أثر ابن مسعود الآتي يرد هذا التأويل، وقد سوى بينهما البخاري. قوله: "وبه قال ابن مسعود" أي بما دل عليه حديث أبي هريرة، وأثر ابن مسعود وصله البيهقي ورويناه عاليا في "جزء هلال الحفار" من طريق منصور عن واصل عن المغيرة بن عبد الله اليشكري قال: "حدثت أن عبد الله بن مسعود قال: من أفطر يوما من رمضان من غير علة لم يجزه صيام الدهر حتى يلقى الله، فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه" وصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة من وجه آخر عن واصل عن المغيرة عن فلان بن

(4/161)


الحارث عن ابن مسعود، ووصله الطبراني والبيهقي أيضا من وجه آخر عن عرفجة قال قال عبد الله بن مسعود "من أفطر يوما في رمضان متعمدا من غير علة ثم قضى طول الدهر لم يقبل منه" وبهذا الإسناد عن على مثله، وذكر ابن حزم من طريق ابن المبارك بإسناد له فيه انقطاع أن أبا بكر الصديق قال لعمر بن الخطاب فيما أوصاه به "من صام شهر رمضان في غيره لم يقبل منه ولو صام الدهر أجمع". قوله: "وقال سعيد بن المسيب والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة وحماد: يقضى يوما مكانه" أما سعيد بن المسيب فوصله مسدد وغيره عنه في قصة المجامع قال: "يقضى يوما مكانه ويستغفر الله" ولم أر عنه التصريح بذلك في الفطر بالأكل، بل روى ابن أبي شيبة من طريق عاصم قال: "كتب أبو قلابة إلى سعيد بن المسيب يسأله عن رجل أفطر يوما من رمضان متعمدا، قال: يصوم شهرا. قلت: فيومين؟ قال صيام شهر. قال فعددت أياما قال: صيام شهر" قال ابن عبد البر كأنه ذهب إلى وجوب التتابع في رمضان، فإذا تخلله فطر يوم عمدا بطل التتابع ووجب استئناف صيام شهر كمن لزمه صوم شهر متتابع بنذر أو غيره. وقال غيره يحتمل أنه أراد عن كل يوم شهر، فقوله: "فيومين قال صيام شهر" أي عن كل يوم، والأول أظهر. وروى البزار والدار قطني مقتضى هذا الاحتمال مرفوعا عن أنس وإسناده ضعيف. وأما الشعبي فقال سعيد بن منصور "حدثنا هشيم حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي في رجل أفطر يوما في رمضان عامدا قال: يصوم يوما مكانه ويستغفر الله عز وجل" وأما سعيد بن جبير فوصله ابن أبي شيبة من طريق يعلى بن حكيم عنه فذكر مثله. وأما إبراهيم النخعي فقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم. وقال ابن أبي شيبة: حدثنا شريك كلاهما عن مغيرة عن إبراهيم فذكر مثله. وأما قتادة فذكره عبد الرزاق عن معمر عن الحسن وقتادة في قصة المجامع في رمضان. وأما حماد وهو ابن أبي سليمان فذكره عبد الرزاق عن أبي حنيفة عنه. الحديث: قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن سعد الأنصاري وفي إسناده هذا أربعة من التابعين في نسق كلهم من أهل المدينة: يحيى وعبد الرحمن تابعيان صغيران من طبقة واحدة، وفوقهما قليلا محمد بن جعفر، وأما ابن عمه عباد فمن أواسط التابعين. قوله: "إن رجلا" قيل هو سلمة بن صخر البياضي ولا يصح ذلك كما سيأتي. قوله: "إنه احترق" سيأتي في حديث أبي هريرة أنه عبر بقوله: "هلكت" ورواية الاحتراق تفسر رواية الهلاك، وكأنه لما اعتقد أن مرتكب الإثم يعذب بالنار أطلق على نفسه أنه احترق لذلك، وقد أثبت. النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوصف فقال: "أين المحترق "إشارة إلى أنه لو أصر على ذلك لاستحق ذلك وفيه دلالة على أنه كان عامدا كما سيأتي. قوله: "تصدق بهذا" هكذا وقع مختصرا، وأورده مسلم وأبو داود من طريق عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم وفيه: "قال أصبت أهلي، قال تصدق، قال والله ما لي شيء، قال اجلس فجلس، فأقبل رجل يسوق حمارا عليه طعام، فقال أين المحترق آنفا؟ فقام الرجل، فقال تصدق بهذا. فقال أعلى غيرنا؟ فوالله إنا لجياع. قال كلوه" وقد استدل به لمالك حيث جزم في كفارة الجماع في رمضان بالإطعام دون غيره من الصيام والعتق، ولا حجة فيه لأن القصة واحدة وقد حفظها أبو هريرة وقصها على وجهها وأوردتها عائشة مختصرة، أشار إلى هذا الجواب الطحاوي، والظاهر أن الاختصار من بعض الرواة، فقد رواه عبد الرحمن بن الحارث عن محمد بن جعفر بن الزبير بهذا الإسناد مفسرا ولفظه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل فارع - يعني بالفاء والمهملة - فجاءه رجل من بني بياضة فقال: احترقت، وقعت بامرأتي في رمضان. قال أعتق رقبة، قال لا أجدها، قال أطعم ستين مسكينا، قال ليس عندي" فذكر الحديث، أخرجه أبو داود ولم يسق لفظه، وساقه ابن خزيمة في

(4/162)


صحيحه والبخاري في تاريخه ومن طريقه البيهقي، ولم يقع في هذه الرواية أيضا ذكر صيام شهرين، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. "تنبيه": اختلفت الرواية عن مالك في ذلك، فالمشهور ما تقدم، وعنه يكفر في الأكل بالتخيير وفي الجماع بالإطعام فقط، وعنه التخيير مطلقا، وقيل يراعى زمان الخصب والجدب، وقيل يعتبر حالة المكفر، وقيل غير ذلك.

(4/163)


باب إذا جامع في رمضان و لم يكن له شئ فتصدق عليه فليكسر
...
30 - باب إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّرْ
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ مَا لَكَ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا قَالَ لاَ قَالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لاَ فَقَالَ فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لاَ قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ قَالَ أَيْنَ السَّائِلُ فَقَالَ أَنَا قَالَ خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَ اللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ"
[الحديث 1936- أطرافه في: 1937، 2600، 5368، 6087، 6164، 6709، 6710، 6711، 6821]
قوله: "باب إذا جامع في رمضان" أي عامدا عالما "ولم يكن له شيء" يعتق أو يطعم ولا يستطيع الصيام "فتصدق عليه" أي بقدر ما يجزيه "فليكفر" أي به لأنه صار واجدا، وفيه إشارة إلى أن الإعسار لا يسقط الكفارة عن الذمة. قوله: "أخبرني حميد بن عبد الرحمن" أي ابن عوف، هكذا توارد عليه أصحاب الزهري وقد جمعت منهم في جزء مفرد لطرق هذا الحديث أكثر من أربعين نفسا، منهم: ابن عيينة والليث ومعمر ومنصور عند الشيخين، والأوزاعي وشعيب وإبراهيم بن سعد عند البخاري ومالك، وابن جريج عند مسلم، ويحيى بن سعيد وعراك بن مالك عند النسائي، وعبد الجبار بن عمر عند أبي عوانة، والجوزقي وعبد الرحمن بن مسافر عند الطحاوي، وعقيل عند ابن خزيمة، وابن أبي حفصة عند أحمد، ويونس وحجاج بن أرطاة وصالح بن أبي الأخضر عند الدار قطني، ومحمد بن إسحاق عند البزار، وسأذكر ما عند كل منهم من زيادة فائدة إن شاء الله تعالى. وخالفهم هشام بن سعد فرواه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أخرجه أبو داود وغيره. قال البزار وابن خزيمة وأبو عوانة: أخطأ فيه هشام بن سعد. قلت: وقد تابعه عبد الوهاب بن عطاء عن محمد بن أبي حفصة، فرواه عن الزهري أخرجه الدار قطني في "العلل" والمحفوظ عن ابن أبي حفصة كالجماعة. كذلك أخرجه أحمد وغيره من طريق روح بن عبادة عنه، ويحتمل أن يكون الحديث عند الزهري عنهما، فقد جمعهما عنه صالح بن أبي الأخضر، أخرجه الدار قطني في "العلل" من طريقه، وسيأتي في الباب الذي بعده حكاية خلاف آخر فيه على منصور وكذلك في الكفارات حكاية خلاف فيه على سفيان بن عيينة إن شاء الله تعالى. قوله: "أن أبا هريرة قال" في رواية ابن جريج عند مسلم وعقيل عند ابن خزيمة وابن أبي أويس عند الدار قطني التصريح بالتحديث بين حميد

(4/163)


وأبي هريرة. قوله: "بينما نحن جلوس" أصلها" بين "وقد ترد بغير "ما" فتشبع الفتحة، وهن خاصة "بينما" أنها تتلقى بإذ وبإذا حيث تجيء للمفاجأة، بخلاف بينا فلا تتلقى بواحدة منهما، وقد وردا في هذا الحديث كذلك. قوله: "عند النبي صلى الله عليه وسلم" فيه حسن الأدب في التعبير لما تشعر العندية بالتعظيم، بخلاف ما لو قال مع، لكن في رواية الكشميهني: "مع النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: "إذ جاءه رجل" لم أقف على تسميته، إلا أن عبد الغني في المبهمات - وتبعه ابن بشكوال - جزما بأنه سليمان أو سلمة بن صخر البياضي، واستند إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طريق سليمان ابن يسار "عن سلمة بن صخر أنه ظاهر من امرأته في رمضان وأنه وطئها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: حرر رقبة، قلت ما أملك رقبة غيرها وضرب صفحة رقبته. قال فصم شهرين متتابعين. قال وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال فأطعم ستين مسكينا. قال والذي بعثك بالحق ما لنا طعام. قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك" والظاهر أنهما واقعتان فإن في قصة المجامع في حديث الباب أنه كان صائما كما سيأتي، وفي قصة سلمة بن صخر أن ذلك كان ليلا فافترقا، ولا يلزم من اجتماعهما - في كونهما من بني بياضة وفي صفة الكفارة وكونها مرتبة وفي كون كل منهما كان لا يقدر على شيء من خصالها - اتحاد القصتين، وسنذكر أيضا ما يؤيد المغايرة بينهما. وأخرج ابن عبد البر في ترجمة عطاء الخراساني من "التمهيد" من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن الرجل الذي وقع على امرأته في رمضان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو سليمان بن صخر. قال ابن عبد البر: أظن هذا وهما، لأن المحفوظ أنه ظاهر من امرأته ووقع عليها في الليل لا أن ذلك كان منه بالنهار ا ه. ويحتمل أن يكون قوله في الرواية المذكورة "وقع على امرأته في رمضان" أي ليلا بعد أن ظاهر فلا يكون وهما ولا يلزم الاتحاد، ووقع في مباحث العام من "شرح ابن الحاجب" ما يوهم أن هذا الرجل هو أبو بردة بن يسار وهو وهم يظهر من تأمل بقية كلامه. قوله: "فقال يا رسول الله" زاد عبد الجبار بن عمر عن الزهري "جاء رجل وهو ينتف شعره ويدق صدره ويقول هلك الأبعد" ولمحمد بن أبي حفصة "يلطم وجهه" ولحجاج بن أرطاة "يدعو ويله" وفي مرسل ابن المسيب عند. الدار قطني "ويحثي على رأسه التراب" واستدل بهذا على جواز هذا الفعل والقول من وقعت له معصية، ويفرق بذلك بين مصيبة الدين والدنيا فيجوز في مصيبة الدين لما يشعر به الحال من شدة الندم وصحة الإقلاع، ويحتمل أن تكون هذه الواقعة قبل النهي عن لطم الخدود وحلق الشعر عند المصيبة. قوله: "فقال هلكت" في رواية منصور في الباب الذي يليه "فقال إن الأخر هلك" والأخر بهمزة مفتوحة وخاء معجمة مكسورة بغير مد هو الأبعد، وقيل الغائب، وقيل الأرذل. قوله: "هلكت" في حديث عائشة كما تقدم "احترقت" وفي رواية ابن أبي حفصة "ما أراني إلا قد هلكت" واستدل به على أنه كان عامدا لأن الهلاك والاحتراق مجاز عن العصيان المؤدي إلى ذلك، فكأنه جعل المتوقع كالواقع، وبالغ فعبر عنه بلفظ الماضي، وإذا تقرر ذلك فليس فيه حجة على وجوب الكفارة على الناسي وهو مشهور قول مالك والجمهور، وعن أحمد وبعض المالكية يجب على الناسي، وتمسكوا بترك استفساره عن جماعة هل كان عن عمد أو نسيان، وترك الاستفصال في الفعل ينزل منزلة العموم في القول كما اشتهر، والجواب أنه قد تبين حاله بقوله هلكت واحترقت فدل على أنه كان عامدا عارفا بالتحريم، وأيضا فدخول النسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية البعد، واستدل بهذا على أن من ارتكب معصية لا حد فيها وجاء مستفتيا أنه لا يعزر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه اعترافه بالمعصية، وقد ترجم لذلك البخاري في الحدود وأشار إلي هذه القصة، وتوجهه أن مجيئه مستفتيا

(4/164)


يقتضي الندم والتوبة، والتعزير إنما جعل للاستصلاح ولا استصلاح من الصلاح، وأيضا فلو عوقب المستفتي لكان سببا لترك الاستفتاء وهي مفسدة فاقتضى ذلك أن لا يعاقب، هكذا قرره الشيخ تفي الدين، لكن وقع في "شرح السنة للبغوي" أن من جامع متعمدا في رمضان فسد صومه وعليه القضاء والكفارة ويعزر على سوء صنيعه، وهو محمول على من لم يقع منه ما وقع من صاحب هذه القصة من الندم والتوبة، وبناه بعض المالكية على الخلاف في تعزير شاهد الزور. قوله: "قال مالك" ؟ بفتح اللام استفهام عن حاله. وفي رواية عقيل "ويحك ما شأنك؟" ولابن أبي حفصة "وما الذي أهلكك؟" ولعمرو "ما ذاك؟" وفي رواية الأوزاعي "ويحك ما صنعت؟" أخرجه المصنف في الأدب وترجم "باب ما جاء في قول الرجل ويلك ويحك" ثم قال عقبه "تابعه يونس عن الزهري" يعني في قوله: "ويحك" وقال عبد الرحمن بن خالد عن الزهري "ويلك". قلت: وسأذكر من وصلهما هناك إن شاء الله تعالى. وقد تابع ابن خالد في قوله: "ويلك" صالح بن أبي الأخضر، وتابع الأوزاعي في قوله: "ويحك" عقيل وابن إسحاق وحجاج بن أرطاة فهو أرجح وهو اللائق بالمقام، فإن ويح كلمة رحمة وويل كلمة عذاب والمقام يقتضي الأول. قوله: "وقعت على امرأتي" وفي رواية ابن إسحاق "أصبت أهلي" وفي حديث عائشة "وطئت امرأتي" ووقع في رواية مالك وابن جريج وغيرهما كما سيأتي بيانه بعد قليل في الكلام على الترتيب والتخيير في أول الحديث: "أن رجلا أفطر في رمضان، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم:" الحديث واستدل به على إيجاب الكفارة على من أفسد صيامه مطلقا بأي شيء كان وهو قول المالكية، وقد تقدم نقل الخلاف فيه، والجمهور حملوا قوله: "أفطر" هنا على المقيد في الرواية الأخرى وهو قوله: "وقعت على أهلي "وكأنه قال أفطر بجماع، وهو أولى من دعوى القرطبي وغيره تعدد القصة. واحتج من أوجب الكفارة مطلقا بقياس الآكل على المجامع بجامع ما بينهما من انتهاك حرمة الصوم، وبأن من أكره على الأكل فسد صومه كما يفسد صوم من أكره على الجماع بجامع ما بينهما، وسيأتي بيان الترجيح بين الروايتين في الكلام على الترتيب. وقد وقع في حديث عائشة نظير ما وقع في حديث أبي هريرة فمعظم الروايات فيها "وطئت" ونحو ذلك. وفي رواية ساق مسلم إسنادها وساق أبو عوانة في مستخرجه متنها أنه قال: "أفطرت في رمضان" والقصة واحدة ومخرجها متحد فيحمل على أنه أراد أفطرت في رمضان بجماع، وقد وقع في مرسل ابن المسيب عند سعيد ابن منصور "أصبت امرأتي ظهرا في رمضان" وتعيين رمضان معمول بمفهومه، وللفرق في وجوب كفارة المجامع في الصوم بين رمضان وغيره من الواجبات كالنذر، وفي كلام أبي عوانة في صحيحه إشارة إلى وجوب ذلك على من وقع منه في رمضان نهارا سواء كان الصوم واجبا عليه أو غير واجب. قوله: "وأنا صائم" جملة حالية من قوله: "وقعت" فيؤخذ منه أنه لا يشترط في إطلاق اسم المشتق بقاء المعنى المشتق منه حقيقة لاستحالة كونه صائما مجامعا في حالة واحدة، فعلى هذا قوله: "وطئت" أي شرعت في الوطء أو أراد جامعت بعد إذ أنا صائم، ووقع في رواية عبد الجبار بن عمر "وقعت على أهلي اليوم وذلك في رمضان". قوله: "هل تجد رقبة تعتقها" في رواية منصور "أتجد ما تحرر رقبة" وفي رواية ابن أبي حفصة "أتستطيع أن تعتق رقبة" وفي رواية إبراهيم بن سعد والأوزاعي فقال: "أعتق رقبة" زاد في رواية مجاهد عن أبي هريرة فقال: "بئسما صنعت أعتق رقبة". قوله: "قال لا" في رواية ابن مسافر "فقال لا والله يا رسول الله" وفي رواية ابن إسحاق "ليس عندي" وفي حديث ابن عمر "فقال والذي بعثك بالحق ما ملكت رقبة قط" واستدل بإطلاق الرقبة على جواز إخراج الرقبة الكافرة كقول الحنفية، وهو ينبني على أن السبب إذا اختلف

(4/165)


واتحد الحكم هل يقيد المطلق أو لا؟ وهل تقييده بالقيام أو لا؟ والأقرب أنه بالقياس، ويؤيده التقييد في مواضع أخرى. قوله: "قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا" وفي رواية إبراهيم عن سعد "قال فصم شهرين متتابعين" وفي حديث سعد "قال لا أقدر" وفي رواية ابن إسحاق "وهل لقيت ما لقيت إلا من الصيام؟" قال ابن دقيق العيد: لا إشكال في الانتقال عن الصوم إلى الإطعام، لكن رواية ابن إسحاق هذه اقتضت أن عدم استطاعته لشدة شبقه وعدم صبره عن الوقاع فنشأ للشافعية نظر: هل يكون ذلك عذرا - أي شدة الشبق - حتى يعد صاحبه غير مستطيع للصوم أو لا؟ والصحيح عندهم اعتبار ذلك، ويلتحق به من يجد رقبة لا غنى به عنها فإنه يسوغ له الانتقال إلى الصوم مع وجودها لكونه في حكم غير الواجد، وأما ما رواه الدار قطني من طريق شريك عن إبراهيم بن عامر عن سعيد بن المسيب في هذه القصة مرسلا أنه قال في جواب قوله هل تستطيع أن تصوم "إني لأدع الطعام ساعة فما أطيق ذلك" ففي إسناده مقال، وعلى تقدير صحته فلعله اعتل بالأمرين. قوله: "فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال لا" زاد ابن مسافر" يا رسول الله". ووقع في رواية سفيان "فهل تستطيع إطعام؟" وفي رواية إبراهيم بن سعد وعراك بن مالك "فتطعم ستين مسكينا؟ قال لا أجد" وفي رواية ابن أبي حفصة "أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال لا" وذكر الحاجة. وفي حديث ابن عمر "قال والذي بعثك بالحق ما أشبع أهلي" قال ابن دقيق العيد: أضاف الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى ستين فلا يكون ذلك موجودا في حق من أطعم ستة مساكين عشرة أيام مثلا، ومن أجاز ذلك فكأنه استنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال، والمشهور عن الحنفية الإجزاء حتى لو أطعم الجميع مسكينا واحدا في ستين يوما كفي، والمراد بالإطعام الإعطاء لا اشتراط حقيقة الإطعام من وضع المطعوم في الفم بل يكفي الوضع بين يديه بلا خلاف، وفي إطلاق الإطعام ما يدل على الاكتفاء بوجود الإطعام من غير اشتراط مناولة، بخلاف زكاة الفرض فإن فيها النص على الإيتاء وصدقة الفطر فإن فيها النص على الأداء، وفي ذكر الإطعام ما يدل على وجود طاعمين فيخرج الطفل الذي لم يطعم كقول الحنفية، ونظر الشافعي إلى النوع فقال: يسلم لوليه، وذكر الستين ليفهم أنه لا يجب ما زاد عليها، ومن لم يقل بالمفهوم تمسك بالإجماع على ذلك. وذكر في حكمة هذه الخصال من المناسبة أن من انتهك حرمة الصوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية فناسب أن يعتق رقبة فيفدي نفسه، وقد صح أن من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار. وأما الصيام فمناسبته ظاهره لأنه كالمقاصة بجنس الجناية، وأما كونه شهرين فلأنه لما أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من شهر رمضان على الولاء فلما أفسد منه يوما كان كمن أفسد الشهر كله من حيث أنه عبادة واحدة بالنوع فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده. وأما الإطعام فمناسبته ظاهرة لأنه مقابلة كل يوم بإطعام مسكين. ثم إن هذه الخصال جامعة لاشتمالها على حق الله وهو الصوم، وحق الأحرار بالإطعام، وحق الأرقاء بالإعتاق، وحق الجاني بثواب الامتثال. وفيه دليل على إيجاب الكفارة بالجماع خلافا لمن شذ فقال لا تجب مستندا إلى أنه لو كان واجبا لما سقط بالإعسار، وتعقب بمنع الإسقاط كما سيأتي البحث فيه. وقد تقدم في آخر "باب الصائم يصبح جنبا" نقل الخلاف في إيجاب الكفارة بالقبلة والنظر والمباشرة والإنعاظ، واختلفوا أيضا هل يلحق الوطء في الدبر بالوطء في القبل، وهل يشترط في إيجاب الكفارة كل وطء في أي فرج كان؟ وفيه دليل على جريان الخصال الثلاث المذكورة في الكفارة. ووقع في "المدونة" ولا يعرف مالك غير الإطعام ولا يأخذ بعتق ولا صيام. قال ابن دقيق العيد: وهي معضلة لا يهتدي إلى توجيهها مع مصادمة

(4/166)


الحديث الثابت، غير أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوله على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخصال، ووجهوا ترجيح الطعام على غيره بأن الله ذكره في القرآن رخصة للقادر ثم نسخ هذا الحكم، ولا يلزم منه نسخ الفضيلة فيترجح الإطعام أيضا لاختيار الله له في حق المفطر بالعذر، وكذا أخبر بأنه في حق من أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر، ولمناسبة إيجاب الإطعام لجبر فوات الصيام الذي هو إمساك عن الطعام، ولشمول نفعه للمساكين، وكل هذه الوجوه لا تقاوم ما ورد في الحديث من تقديم العتق على الصيام ثم الإطعام سواء قلنا الكفارة على الترتيب أو التخيير فإن هذه البداءة إن لم تقتض وجوب الترتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه. واحتجوا أيضا بأن حديث عائشة لم يقع فيه سوى الإطعام، وقد تقدم الجواب عن ذلك قبل، وأنه ورد فيه من وجه آخر ذكر العتق أيضا. ومن المالكية من وافق على هذا الاستحباب، ومنهم من قال إن الكفارة تختلف باختلاف الأوقات: ففي وقت الشدة يكون بالإطعام وفي غيرها يكون بالعتق أو الصوم ونقلوه عن محققي المتأخرين، ومنهم من قال: الإفطار بالجماع يكفر بالخصال الثلاث، وبغيره لا يكفر إلا بالإطعام وهو قول أبي مصعب. وقال ابن حرير الطبري: هو مخير بين العتق والصوم ولا يطعم إلا عند العجز عنهما، وفي الحديث أنه لا مدخل لغير هل هذه الخصال الثلاث في الكفارة. وجاء عن بعض المتقدمين إهداء البدنة عند تعذر الرقبة، وربما أيده بعضهم بإلحاق إفساد الصيام بإفساد الحج، وورد ذكر البدنة في مرسل سعيد بن المسيب عند مالك في "الموطأ" عن عطاء الخراساني عنه، وهو مع إرساله قد رده سعيد بن المسيب وكذب من نقله عنه كما روى سعيد بن منصور عن ابن علية عن خالد الحذاء عن القاسم ابن عاصم "قلت لسعيد بن المسيب ما حدث حدثناه عطاء ا الخراساني عنك في الذي وقع على امرأته في رمضان أنه يعتق رقبة أو يهدي بدنة؟ فقال: كذب "فذكر الحديث، وهكذا رواه الليث عن عمرو ابن الحارث عن أيوب عن القاسم بن عاصم، وتابعه همام عن قتادة عن سعيد، وذكر ابن عبد البر أن عطاء لم ينفرد بذلك فقد ورد من طريق مجاهد عن أبي هريرة موصولا، ثم ساقه بإسناده لكنه من رواية ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وليث ضعيف وقد اضطرب في روايته سندا ومتنا فلا حجة فيه. وفي الحديث أيضا أن الكفارة بالخصال الثلاث على الترتيب المذكور. قال ابن العربي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نقله من أمر بعد عدمه لأمر آخر وليس هذا شأن التخيير، ونازع عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال عن ذلك فقال: إن مثل هذا السؤال قد يستعمل فيما هو على التخيير، وقرره ابن المنير في الحاشية بأن شخصا لو حنث فاستفتى فقال له المفتي: أعتق رقبة فقال لا أجد، فقال صم ثلاثة أيام الخ، لم يكن مخالفا لحقيقة التخيير، بل يحمل على أن إرشاده إلى العتق لكونه أقرب لتنجيز الكفارة. وقال البيضاوي: ترتيب الثاني بالفاء على فقد الأول ثم الثالث بالفاء على فقد الثاني يدل على عدم التخيير مع كونها في معرض البيان وجواب السؤال فينزل منزلة الشرط للحكم، وسلك الجمهور في ذلك مسلك الترجيح بأن الذين رووا الترتيب عن الزهري أكثر ممن روى التخيير، وتعقبه ابن التين بأن الذين رووا الترتيب ابن عيينة ومعمر والأوزاعي، والذين رووا التخيير مالك وابن جريج وفليح بن سليمان وعمرو بن عثمان المخزومي، وهو كما قال في الثاني دون الأول، فالذين رووا الترتيب في البخاري الذي نحن في شرحه أيضا إبراهيم بن سعد والليث بن سعد وشعيب بن أبي حمزة ومنصور، ورواية هذين في هذا الباب الذي نشرحه وفي الذي يليه، فكيف غفل ابن التين عن ذلك وهو ينظر فيه؟ بل روى الترتيب عن الزهري كذلك تمام ثلاثين نفسا أو أزيد، ورجح الترتيب أيضا بأن راويه حكى لفظ القصة

(4/167)


على وجهها فمعه زيادة علم من صورة الواقعة، وراوي التخيير حكى لفظ راوي الحديث فدل على أنه من تصرف بعض الرواة إما لقصد الاختصار أو لغير ذلك. ويترجح الترتيب أيضا بأنه أحوط لأن الأخذ به مجزئ سواء قلنا بالتخيير أو لا بخلاف العكس وجمع بعضهم بين الروايتين كالمهلب والقرطبي بالحمل على التعدد وهو بعيد لأن القصة واحدة والمخرج متحد والأصل عدم التعدد، وبعضهم حمل الترتيب على الأولوية والتخيير على الجواز، وعكسه بعضهم فقال: "أو" في الرواية الأخرى ليست للتخيير وإنما هي للتفسير والتقدير، أمر رجلا أن يعتق رقبة أو يصوم إن عجز عن العتق أو يطعم إن عجز عنهما. وذكر الطحاوي أن سبب إتيان بعض الرواة بالتخيير أن الزهري راوي الحديث قال في آخر حديثه "فصارت الكفارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين أو الإطعام". قال فرواه بعضهم مختصرا مقتصرا على ما ذكر الزهري أنه آل إليه الأمر، قال وقد قص عبد الرحمن بن خالد ابن مسافر عن الزهري القصة على وجهها ثم ساقه من طريقه مثل حديث الباب إلى قوله: "أطعمه أهلك" قال فصارت الكفارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا. قلت: وكذلك رواه الدار قطني في "العلل" من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري وقال في آخره: "فصارت سنة عتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينا". قوله: "فمكث عند النبي صلى الله عليه وسلم" كذا هنا بالميم والكاف المفتوحة، ويجوز ضمها والثاء المثلثة. وفي رواية أبي نعيم في "المستخرج" من وجهين عن أبي اليمان "فسكت" بالمهملة والكاف المفتوحة والمثناة، وكذا ابن مسافر وابن أبي الأخضر. وفي رواية ابن عيينة "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اجلس فجلس". قوله: "فبينا نحن على ذلك" في رواية ابن عيينة "فبينما هو جالس كذلك "قال بعضهم يحتمل أن يكون سبب أمره له بالجلوس انتظار ما يوحي إليه في حقه، ويحتمل أنه كان عرف أنه سيؤتي بشيء يعينه به، ويحتمل أن يكون أسقط عنه الكفارة بالعجز. وهذا الثالث ليس بقوى لأنها لو سقطت ما عادت عليه حيث أمره بها بعد إعطائه إياه المكتل. قوله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم" كذا للأكثر بضم أوله على البناء للمجهول وهو جواب "بينا" في هذه الرواية. وأما رواية ابن عيينة المشار إليها فقال فيها "إذ أتى" لأنه قال فيها "فبينما هو جالس" وقد تقدم تقرير ذلك، والآتي المذكور لم يسم لكن وقع في رواية معمر كما سيأتي في الكفارات "فجاء رجل من الأنصار" وعند الدار قطني من طريق داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب مرسلا "فأتى رجل من ثقيف" فإن لم يحمل على أنه كان حليفا للأنصار أو إطلاق الأنصار بالمعنى الأعم وإلا فرواية الصحيح أصح، ووقع في رواية ابن إسحاق "فجاء رجل بصدقته يحملها" وفي مرسل الحسن عند سعيد بن منصور "بتمر من تمر المصدقة". قوله: "بعرق" بفتح المهملة والراء بعدها قاف. قال ابن التين كذا لأكثر الرواة. وفي رواية أبي الحسن يعني القابسي بإسكان الراء. قال عياض والصواب الفتح. وقال ابن التين أنكر بعضهم الإسكان لأن الذي بالإسكان هو العظم الذي عليه اللحم. قلت: إن كان الإنكار من جهة الاشتراك مع العظم فلينكر الفتح لأنه يشترك مع الماء الذي يتحلب من الجسد، نعم الراجح من حيث الرواية الفتح ومن حيث اللغة أيضا، إلا أن الإسكان ليس بمنكر بل أثبته بعض أهل اللغة كالقزاز. قوله: "والعرق المكتل" بكسر الميم وسكون الكاف وفتح المثناة بعدها لام، زاد ابن عيينة عند الإسماعيلي وابن خزيمة: المكتل الضخم. قال الأخفش: سمي المكتل عرقا لأنه يضفر عرقة عرقة جمع فالعرق جمع عرقة كعلق وعلقة، والعرقة الضفيرة من الخوص. وقوله والعرق المكتل تفسير من أحد رواته، وظاهر هذه الرواية أنه الصحابي، لكن في رواية ابن عيينة ما يشعر بأنه الزهري. وفي

(4/168)


رواية منصور في الباب الذي يلي هذا "فأتى بعرق فيه تمر وهو الزبيل" وفي رواية ابن أبي حفصة "فأتى بزبيل وهو المكتل" والزبيل بفتح الزاي وتخفيف الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم لام بوزن رغيف هو المكتل، قال ابن دريد يسمى زبيلا لحمل الزبل فيه، وفيه لغة أخرى زنبيل بكسر الزاي أوله وزيادة نون ساكنة وقد تدغم النون فتشدد الباء مع بقاء وزنه، وجمعه على اللغات الثلاث زنابيل، ووقع في بعض طرق عائشة عند مسلم: "فجاءه عرقان" والمشهور في غيرها عرق ورجحه البيهقي، وجمع غيره بينهما بتعدد الواقعة، وهو جمع لا نرضاه لاتحاد مخرج الحديث والأصل عدم التعدد، والذي يظهر أن التمر كان قدر عرق لكنه كان في عرقين في حال التحميل على الدابة ليكون أسهل في الحمل، فيحتمل أن الآتي به لما وصل أفرغ أحدهما في الآخر، فمن قال عرقان أراد ابتداء الحال ومن قال عرق أراد ما آل إليه، والله أعلم. قوله: "أين السائل؟" زاد ابن مسافر" آنفا" أطلق عليه ذلك لأن كلامه متضمن للسؤال فإن مراده هلكت فينجيني وما يخلصني مثلا، وفي حديث عائشة "أين المحترق آنفا" ؟ وقد تقدم توجيهه، ولم يعين في هذه الرواية مقدار ما في المكتل من التمر بل ولا في شيء من طرق الصحيحين في حديث أبي هريرة، ووقع في رواية ابن أبي حفصة "فيه خمسة عشر صاعا" وفي رواية مؤمل عن سفيان "فيه خمسة عشر أو نحو ذلك" وفي رواية مهران بن أبي عمر عن الثوري عن ابن خزيمة: "فيه خمسة عشر أو عشرون" وكذا هو عند مالك وعبد الرزاق في مرسل سعيد بن المسيب، وفي مرسله عند الدار قطني الجزم بعشرين صاعا، ووقع في حديث عائشة عند ابن خزيم "فأتى بعرق فيه عشرون صاعا" قال البيهقي قوله عشرون صاعا بلاغ بلغ محمد بن جعفر يعني بعض رواته، وقد بين ذلك محمد بن إسحاق عنه فذكر الحديث وقال في آخره: قال محمد بن جعفر فحدثت بعد أنه كان عشرين صاعا من تمر. قلت: ووقع في مرسل عطاء بن أبي رباح وغيره عند مسدد "فأمر له ببعضه" وهذا يجمع الروايات، فمن قال إنه كان عشرين أراد أصل ما كان فيه، ومن قال خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفارة، ويبين ذلك حديث على عند الدار قطني "تطعم ستين مسكينا لكل مسكين مد" وفيه: "فأتى بخمسة عشر صاعا فقال أطعمه ستين مسكينا" وكذا في رواية حجاج الزهري عند الدار قطني في حديث أبي هريرة، وفيه رد على الكوفيين في قولهم إن واجبه من القمح ثلاثون صاعا ومن غيره ستون صاعا، ولقول عطاء: إن أفطر بالأكل أطعم عشرين صاعا، وعلى أشهب في قوله لو غداهم أو عشاهم كفي تصدق الإطعام، ولقول الحسن يطعم أربعين مسكينا عشرين صاعا أو بالجماع أطعم خمسة عشر، وفيه رد على الجوهري حيث قال في الصحاح المكتل يشبه الزبيل يسع خمسة عشر صاعا لأنه لا حصر في ذلك، وروي عن مالك أنه قال يسع خمسة عشر أو عشرين ولعله قال ذلك في هذه القصة الخاصة فيوافق رواية مهران وإلا فالظاهر أنه لا حصر في ذلك والله أعلم. وأما ما وقع في رواية عطاء ومجاهد عن أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط أنه "أتى بمكتل فيه عشرون صاعا فقال تصدق بهذا" وقال قبل ذلك تصدق بعشرين صاعا أو بتسع عشرة أو بإحدى وعشرين فلا حجة فيه لما فيه من الشك، ولأنه من رواية ليث بن أبي سليم وهو ضعيف وقد اضطرب فيه، وفي الإسناد إليه مع ذلك من لا يحتج به.ووقع في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم: "فجاءه عرقان فيهما طعام" ووجهه إن كان محفوظا ما تقدم قريبا والله أعلم. قوله: "خذ هذا فتصدق به" كذا للأكثر ومنهم من ذكره بمعناه، وزاد ابن إسحاق "فتصدق به عن نفسك" ويؤيده رواية منصور في الباب الذي يليه بلفظ: "أطعم هذا عنك" ونحوه في مرسل سعيد ابن المسيب من رواية داود بن أبي هند عنه عند الدارقطني،

(4/169)


وعنده من طريق ليث عن مجاهد عن أبي هريرة "نحن نتصدق به عنك" واستدل بإفراده بذلك على أن الكفارة عليه وحده دون الموطوءة، وكذا قوله في المراجعة "هل تستطيع" و "هل تجد" وغير ذلك، وهو الأصح من قولي الشافعية وبه قال الأوزاعي. وقال الجمهور وأبو ثور وابن المنذر تجب الكفارة على المرأة أيضا على اختلاف وتفاصيل لهم في الحرة والأمة والمطاوعة والمكرهة وهل هي عليها أو على الرجل عنها، واستدل الشافعية بسكوته عليه الصلاة والسلام عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة، وأجيب بمنع وجود الحاجة إذ ذاك لأنها لم تعترف ولم تسأل واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكما ما لم تعترف، وبأنها قضية حال فالسكوت عنها لا يدل على الحكم لاحتمال أن تكون المرأة لم تكن صائمة لعذر من الأعذار. ثم إن بيان الحكم للرجل بيان في حقها لاشتراكهما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصوم كما لم يأمره بالغسل. والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين، ويحتمل أن يكون سبب السكوت عن حكم المرأة ما عرفه من كلام زوجها بأنها لا قدرة لها على شيء. وقال القرطبي اختلفوا في الكفارة هل هي على الرجل وحده على نفسه فقط أو عليه وعليها أو عليه كفارتان عنه وعنها أو عليه عن نفسه وعليها عنها، وليس في الحديث ما يدل على شيء من ذلك لأنه ساكت عن المرأة فيؤخذ حكمها من دليل آخر مع احتمال أن يكون سبب السكوت أنها كانت غير صائمة، واستدل بعضهم بقوله في بعض طرق هذا الحديث: "هلكت وأهلكت" وهي زيادة فيها مقال، فقال ابن الجوزي: في قوله وأهلكت تنبيه على أنه أكرهها ولولا ذلك لم يكن مهلكا لها، قلت: ولا يلزم من ذلك تعدد الكفارة بل لا يلزم من قوله وأهلكت إيجاب الكفارة عليها، بل يحتمل أن يريد بقوله هلكت أثمت وأهلكت أي كنت سببا في تأثيم من طاوعتني فواقعها إذ لا ريب في حصول الإثم على المطاوعة ولا يلزم من ذلك إثبات الكفارة ولا نفيها، أو المعنى هلكت أي حيث وقعت في شيء لا أقدر على كفارته، وأهلكت أي نفسي بفعلي الذي جر على الإثم، وهذا كله بعد ثبوت الزيادة المذكورة، وقد ذكر البيهقي أن للحاكم في بطلانها ثلاثة أجزاء، ومحصل القول فها أنها وردت من طريق الأوزاعي ومن طريق ابن عيينة، أما الأوزاعي فتفرد بها محمد بن المسيب عن عبد السلام بن عبد الحميد عن عمر بن عبد الواحد والوليد بن مسلم وعن محمد بن عقبة عن علقمة عن أبيه ثلاثتهم عن الأوزاعي قال البيهقي رواه جميع أصحاب الأوزاعي بدونها وكذلك جميع الرواة عن الوليد وعقبة وعمر، ومحمد ابن المسيب كان حافظا مكثرا إلا أنه كان في آخر أمره عمى فلعل هذه اللفظة أدخلت عليه، وقد رواه أبو علي النيسابوري عنه بدونها، ويدل على بطلانها ما رواه العباس بن الوليد عن أبيه قال: سئل الأوزاعي عن رجل جامع امرأته في رمضان قال: عليهما كفارة واحدة إلا الصيام، قيل له فإن استكرهها؟ قال عليه الصيام وحده. وأما ابن عيينة فتفرد بها أبو ثور عن معلى بن منصور عنه، قال الخطابي: المعلى ليس بذاك الحافظ. وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يعرف أحدا طعن في المعلى، وغفل عن قول الإمام أحمد إنه كان يخطئ كل يوم في حديثين أو ثلاثة، فلعله حدث من حفظه بهذا فوهم، وقد قال الحاكم: وقفت على "كتاب الصيام للمعلى" بخط موثوق به وليست هذه اللفظة فيه، وزعم ابن الجوزي أن الدار قطني أخرجه من طريق عقيل أيضا، وهو غلط منه فإن الدار قطني لم يخرج طريق عقيل في "السنن" وقد ساقه في "العلل" بالإسناد الذي ذكره عنه ابن الجوزي بدونها. "تنبيه": القائل بوجوب كفارة واحدة على الزوج عنه وعن موطوءته يقول يعتبر حالهما فإن كانا من أهل العتق أجزأت رقبة، وإن كانا من أهل الإطعام أطعم ما سبق، وإن كانا من أهل الصيام صاما

(4/170)


جميعا، فإن اختلف حالهما ففيه تفريع محله كتب الفروع. قوله: "فقال الرجل على أفقر مني" أي أتصدق به على شخص أفقر مني؟ وهذا يشعر بأنه فهم الإذن له في التصدق على من يتصف بالفقر، وقد بين ابن عمر في حديثه ذلك فزاد فيه: "إلى من أدفعه؟ قال إلى أفقر من تعلم" أخرجه البزار والطبراني في "الأوسط" وفي رواية إبراهيم بن سعد "أعلى أفقر من أهلي" ؟ ولابن مسافر "أعلى أهل بيت أفقر مني" ؟ وللأوزاعي "أعلى غير أهلي" ؟ ولمنصور "أعلى أحوج منا" ولابن إسحاق "وهل الصدقة إلا لي وعلي" ؟ قوله: "فوالله ما بين لابتيها" تثنية لابة وقد تقدم شرحها في أواخر كتاب الحج والضمير للمدينة، وقوله: "يريد الحرتين" من كلام بعض رواته، زاد في رواية ابن عيينة ومعمر "والذي بعثك بالحق" ووقع في حديث ابن عمر المذكور "ما بين حرتيها" وفي رواية الأوزاعي الآتية في الأدب "والذي نفسي بيده ما بين طنبي المدينة" تثنية طنب - وهو بضم الطاء المهملة بعدها نون - والطنب أحد أطناب الخيمة فاستعاره للطرف. قوله: "أهل بيت أفقر من أهل بيتي" زاد يونس" مني ومن أهل بيتي "وفي رواية إبراهيم بن سعد "أفقر منا" وأفقر بالنصب على أنها خبر ما النافية، ويجوز الرفع على لغة تميم. وفي رواية عقيل "ما أحد أحق به من أهلي، ما أحد أحوج إليه مني" وفي أحق وأحوج ما في أفقر. وفي مرسل سعيد من رواية داود عنه "والله ما لعيالي من طعام" وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة: "ما لنا عشاء ليلة". قوله: "فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه" في رواية ابن إسحاق "حتى بدت نواجذه" ولأبي قرة في "السنن" عن ابن جريج "حتى بدت ثناياه" ولعلها تصحيف من أنيابه فإن الثنايا تبين بالتبسم غالبا وظاهر السياق إرادة الزيادة على التبسم، ويحمل ما ورد في صفته صلى الله عليه وسلم أن ضحكه كان تبسما على غالب أحواله، وقيل كان لا يضحك إلا في أمر يتعلق بالآخرة فإن كان في أمر الدنيا لم يزد على التبسم، قيل وهذه القضية تعكر عليه وليس كذلك فقد قيل إن سبب ضحكه صلى الله عليه وسلم كان من تباين حال الرجل حيث جاء خائفا على نفسه راغبا في فدائها مهما أمكنه، فلما وجد الرخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه من الكفارة، وقيل ضحك من حال الرجل في مقاطع كلامه وحسن تأتيه وتلطفه في الخطاب وحسن توسله في توصله إلى مقصوده. قوله: "ثم قال أطعمه أهلك" تابعه معمر وابن أبي حفصة. وفي رواية لابن عيينة في الكفارات "أطعمه عيالك" ولإبراهيم بن سعد "فأنتم إذا" وقدم على ذلك ذكر الضحك، ولأبي قرة عن ابن جريج "ثم قال كله" ونحوه ليحيى بن سعيد وعراك، وجمع بينهما ابن إسحاق ولفظه: "خذها وكلها وأنفقها على عيالك" ونحوه في رواية عبد الجبار وحجاج وهشام بن سعد كلهم عن الزهري، ولابن خزيمة في حديث عائشة "عد به عليك وعلى أهلك" وقال ابن دقيق العيد: تباينت في هذه القصة المذاهب فقيل إنه دل على سقوط الكفارة بالإعسار المقارن لوجوبها لأن الكفارة لا تصرف إلى النفس ولا إلى العيال، ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم استقرارها في ذمته إلى حين يساره، وهو أحد قولي الشافعية وجزم به عيسى ابن دينار من المالكية. وقال الأوزاعي: يستغفر الله ولا يعود. ويتأيد ذلك بصدقة الفطر حيث تسقط بالإعسار المقارن لسبب وجوبها وهو هلال الفطر، لكن الفرق بينهما أن صدقة الفطر لها أمد تنتهي إليه، وكفارة الجماع لا أمد لها فتستقر في الذمة، وليس في الخبر ما يدل على إسقاطها بل فيه ما يدل على استمرارها على العاجز. وقال الجمهور: لا تسقط الكفارة بالإعسار، والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة. ثم اختلفوا فقال الزهري: هو خاص بهذا الرجل، وإلى هذا نحا إمام الحرمين، ورد بأن الأصل عدم الخصوصية. وقال بعضهم: هو منسوخ، ولم يبين قائله ناسخه، وقيل: المراد بالأهل الذين أمر بصرفها إليهم

(4/171)


من لا تلزمه نفقته من أقاربه، وهو قول بعض الشافعية، وضعف بالرواية الأخرى التي فيها عيالك، وبالرواية المصرحة بالإذن له في الأكل من ذلك، وقيل لما كان عاجزا عن نفقة أهله جاز له أن يصرف الكفارة لهم، وهذا هو ظاهر الحديث، وهو الذي حمل أصحاب الأقوال الماضية على ما قالوه بأن المرء لا يأكل من كفارة نفسه. قال الشيخ تقي الدين: وأقوى من ذلك أن يجعل الإعطاء لا على جهة الكفارة بل على جهة التصدق عليه وعلى أهله بتلك الصدقة لما ظهر من حاجتهم، وأما الكفارة فلم تسقط بذلك، ولكن ليس استقرارها في ذمته مأخوذا من هذا الحديث. وأما ما اعتلوا به من تأخير البيان فلا دلالة فيه، لأن العلم بالوجوب قد تقدم، ولم يرد في الحديث ما يدل على الإسقاط لأنه لما أخبره بعجزه ثم أمره بإخراج العرق دل على أن لا سقوط عن العاجز، ولعله أخر البيان إلى وقت الحاجة وهو القدرة ا ه. وقد ورد ما يدل على إسقاط الكفارة أو على إجزائها عنه بإنفاقه إياها على عياله وهو قوله في حديث علي "وكله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك" ولكنه حديث ضعيف لا يحتج بما انفرد به، والحق أنه لما قال له صلى الله عليه وسلم خذ هذا فتصدق به لم يقبضه بل اعتذر بأنه أحوج إليه من غيره فأذن له حينئذ في أكله، فلو كان قبضه لملكه ملكا مشروطا بصفة وهو إخراجه عنه في كفارته فينبني على الخلاف المشهور في التمليك المقيد بشرط، لكنه لما لم يقبضه لم يملكه، فلما أذن له صلى الله عليه وسلم في إطعامه لأهله وأكله منه كان تمليكا مطلقا بالنسبة إليه وإلى أهله وأخذهم إياه بصفة الفقر المشروحة، وقد تقدم أنه كان من مال الصدقة، وتصرف النبي صلى الله عليه وسلم فيه تصرف الإمام في إخراج مال الصدقة، واحتمل إنه كان تمليكا بالشرط الأول ومن ثم نشأ الإشكال، والأول أظهر فلا يكون فيه إسقاط ولا أكل المرء من كفارة نفسه ولا إنفاقه على من تلزمه نفقتهم من كفارة نفسه. وأما ترجمة البخاري الباب الذي يليه "باب المجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج" فليس فيه تصريح بما تضمنه حكم الترجمة. وإنما أشار إلى الاحتمالين المذكورين بإتيانه بصيغة الاستفهام والله أعلم. واستدل به على جواز إعطاء الصدقة جميعها في صنف واحد، وفيه نظر لأنه لم يتعين أن ذلك القدر هو جميع ما يجب على ذلك الرجل الذي أحضر التمر، وعلى سقوط قضاء اليوم الذي أفسده الجامع اكتفاء بالكفارة، إذ لم يقع التصريح في الصحيحين بقضائه وهو محكي في مذهب الشافعي، وعن الأوزاعي يقضي إن كفر بغير الصوم وهو وجه للشافعية أيضا، قال ابن العربي: إسقاط القضاء لا يشبه منصب الشافعي إذ لا كلام في القضاء لكونه أفسد العبادة وأما الكفارة فإنما هي لما اقترف من الإثم، قال: وأما كلام الأوزاعي فليس بشيء. قلت: وقد ورد الأمر بالقضاء في هذا الحديث في رواية أبي أويس وعبد الجبار وهشام بن سعد كلهم عن الزهري، وأخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزهري، وحديث إبراهيم بن سعد في الصحيح عن الزهري نفسه بغير هذه الزيادة، وحديث الليث عن الزهري في الصحيحين بدونها، ووقعت الزيادة أيضا في مرسل سعيد بن المسيب ونافع بن جبير والحسن ومحمد بن كعب، وبمجموع هذه الطرق تعرف أن لهذه الزيادة أصلا، ويؤخذ من قوله: "صم يوما" عدم اشتراط الفورية للتنكير في قوله: "يوما". وفي الحديث من الفوائد - غير ما تقدم - السؤال عن حكم ما يفعله المرء مخالفا للشرع، والتحدث بذلك لمصلحة معرفة الحكم، واستعمال الكناية فيما يستقبح ظهوره بصريح لفظه لقوله واقعت أو أصبت، على أنه قد ورد في بعض طرقه - كما تقدم - وطئت، والذي يظهر أنه من تصرف الرواة. وفيه الرفق بالمتعلم والتلطف في التعليم والتألف على الدين، والندم على المعصية، واستشعار الخوف. وفيه الجلوس في المسجد لغير

(4/172)


الصلاة من المصالح الدينية كنشر العلم، وفيه جواز الضحك عند وجود سببه، وإخبار الرجل بما يقع منه مع أهله للحاجة. وفيه الحلف لتأكيد الكلام، وقبول قول المكلف مما لا يطلع عليه إلا من قبله لقوله في جواب قوله أفقر منا أطعمه أهلك ويحتمل أن يكون هناك قرينة لصدقه. وفيه التعاون على العبادة والسعي في إخلاص المسلم وإعطاء الواحد فوق حاجته الراهنة، وإعطاء الكفارة أهل بيت واحد، وأن المضطر إلى ما بيده لا يجب عليه أن يعطيه أو بعضه لمضطر آخر.

(4/173)


31 - باب الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ هَلْ يُطْعِمُ أَهْلَهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ إِذَا كَانُوا مَحَاوِيجَ
1937- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ الأَخِرَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رَقَبَةً قَالَ لاَ قَالَ فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لاَ قَالَ أَفَتَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لاَ قَالَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَهُوَ الزَّبِيلُ قَالَ أَطْعِمْ هَذَا عَنْكَ قَالَ عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا قَالَ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ"
قوله:" باب المجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج" ؟ يعني أم لا؟ ولا منافاة بين هذه الترجمة والتي قبلها، لأن التي قبلها آذنت بأن الإعسار بالكفارة لا يسقطها عن الذمة لقوله فيها "إذا جامع ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر" والثانية ترددت هل المأذون له بالتصرف فيه نفس الكفارة أم لا؟ وعلى هذا يتنزل لفظ الترجمة. قوله: "عن منصور" هو ابن المعتمر. قوله: "عن الزهري عن حميد" كذا للأكثر من أصحاب منصور عنه، وكذا رواه مؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن منصور، وخالفه مهران بن أبي عمر فرواه عن الثوري بهذا الإسناد فقال: "عن سعيد ابن المسيب" بدل حميد بن عبد الرحمن أخرجه ابن خزيمة، وهو قول شاذ والمحفوظ الأول. قوله: "إن الأخر" بهمزة غير ممدودة بعدها خاء معجمة مكسورة، تقدم في أوائل الباب الذي قبله، وحكى ابن القوطية فيه مد الهمزة. قوله: "أتجد ما تحرر رقبة" ؟ بالنصب على البدل من لفظ: "ما" وهي مفعول بتجد، ومثله قوله: "أفتجد ما تطعم ستين مسكينا" وقد تقدم باقي الكلام عليه مستوفى في الذي قبله، وقد اعتنى به بعض المتأخرين ممن أدركه شيوخنا فتكلم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة، ومحصله إن شاء الله تعالى فيما لخصته مع زيادات كثيرة عليه، فلله الحمد على ما أنعم.

(4/173)


باب الحجامة و القئ للصائم
...
32 - باب الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ لِلصَّائِمِ
وَقَالَ لِي يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا قَاءَ فَلاَ يُفْطِرُ إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلاَ يُولِجُ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ وَالأَوَّلُ أَصَحُّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَحْتَجِمُ وَهُوَ

(4/173)


باب الصوم في السفر و الإفطار
...
33 - باب الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَالإِفْطَارِ
1941- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ سَمِعَ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الشَّمْسُ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الشَّمْسُ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فَشَرِبَ ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَا هُنَا ثُمَّ قَالَ إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ "
تَابَعَهُ جَرِيرٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ"
[الحديث 1941- أطرافه في: 1955، 1956، 1958، 5297]
1942- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ"
[الحديث 1942- طرفه في: 1943]
1943- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَقَالَ إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ"
قوله: "باب الصوم في السفر والإفطار" أي إباحة ذلك وتخيير المكلف فيه سواء كان رمضان أو غيره، وسأذكر بيان الاختلاف في ذلك بعد باب، وذكر المؤلف في الباب حديث عبد الله بن أبي أوفى وسيأتي الكلام عليه بعد أبواب وموضع الدلالة منه ما يشعر به سياقه من مراجعة الرجل له بكون الشمس لم تغرب في جواب طلبه لما يشير به، فهو ظاهر في أنه كان صلى الله عليه وسلم صائما، وقد كره في "باب متى يحل فطر الصائم" وفي غيره بلفظ صريح في ذلك حيث قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم" قوله: "الشمس يا رسول الله" بالرفع، ويجوز النصب وتوجيههما ظاهر. قوله: "تابعه جرير وأبو بكر بن عياش عن الشيباني" يعني تابعا سفيان وهو ابن عيينة، والشيباني هو أبو إسحاق شيخهم فيه، ومتابعة جرير وصلها المؤلف في الطلاق، ومتابعة أبي بكر ستأتي موصولة بعد قليل في "باب تعجيل الإفطار" وتابعهم غير من ذكر كما سيأتي ولفظهم متقارب، والمراد المتابعة في أصل قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان، وهشام هو ابن عروة. قوله: "أن حمزة بن عمرو الأسلمي" هكذا رواه الحفاظ عن هشام. وقال عبد الرحيم بن سليمان عند النسائي والدراوردي عند الطبراني ويحيى بن عبد الله بن سالم عند الدار قطني ثلاثتهم عن هشام عن أبيه عن عائشة عن حمزة بن عمرو جعلوه من مسند حمزة والمحفوظ أنه من مسند عائشة، ويحتمل أن

(4/179)


يكون هؤلاء لم يقصدوا بقولهم "عن حمزة" الرواية عنه وإنما أرادوا الإخبار عن حكايته فالتقدير عن عائشة عن قصة حمزة أنه سأل، لكن قد صح مجيء الحديث من رواية حمزة، فأخرجه مسلم من طريق أبي الأسود عن عروة عن أبي مراوح عن حمزة، وكذلك رواه محمد بن إبراهيم التيمي عن عروة لكنه أسقط أبا مراوح والصواب إثباته، وهو محمول على أن لعروة فيه طريقين: سمعه من عائشة، وسمعه من أبي مراوح عن حمزة. قوله: "أسرد الصوم" أي أتابعه، واستدل به على أن لا كراهية في صيام الدهر، ولا دلالة فيه لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، فإن ثبت النهي عن صوم الدهر لم يعارضه هذا الإذن بالسرد، بل الجمع بينهما واضح. قوله: "أأصوم في السفر الخ" قال ابن دقيق العيد: ليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان فلا يكون فيه حجة على من منع صيام رمضان في السفر. قلت: وهو كما قال بالنسبة إلى سياق حديث الباب، لكن في رواية أبي مراوح التي ذكرتها عند مسلم أنه قال: "يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي رخصة من الله، فن أخذ بها حسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام، الفريضة، وذلك أن الرخصة إنما تطلق في مقابلة ما هو واجب. وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو داود والحاكم من طريق محمد بن حمزة بن عمرو عن أبيه أنه قال: "يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكريه، وأنه ربما صادفني هذا الشهر - يعني رمضان - وأنا أجد القوة، وأجدني أن أصوم أهون علي من أن أوخره فيكون دينا علي، فقال: أي ذلك شئت يا حمزة".

(4/180)


34 - باب إِذَا صَامَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَالْكَدِيدُ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ"
[الحديث 1944- أطرافه في : 1948، 1953، 4275، 4276، 4277،4278، 4279]
قوله: "باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر" أي هل يباح له الفطر أو لا، وكأنه أشار إلى تضعيف ما روي عن علي، وإلى رد ما روي عن غيره في ذلك، قال ابن المنذر: روي عن علي بإسناد ضعيف. وقال به عبيدة بن عمرو وأبو مجلز وغيرهما ونقله النووي عن أبي مجلز وحده، ووقع في بعض الشروح أبو عبيدة وهو وهم، قالوا: إن من استهل عليه رمضان في الحضر ثم سافر بعد ذلك فليس له أن يفطر لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قال: وقال اكثر أهل العلم لا فرق بينه وبين من استهل رمضان في السفر، ثم ساق ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: قوله تعالى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} نسخها قوله تعالى: { وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} الآية. ثم احتج للجمهور بحديث ابن عباس المذكور في هذا الباب. الحديث: قوله: "خرج إلى مكة" كان ذلك في غزوة الفتح كما سيأتي. قوله: "فلما بلغ الكديد" بفتح الكاف وكسر الدال المهملة مكان معروف وقع تفسيره في نفس الحديث بأنه بين عسفان وقديد، يعني بضم القاف على التصغير. ووقع في رواية المستملي وحده نسبة هذا التفسير للبخاري، لكن سيأتي في المغازي موصولا من وجه آخر في نفس الحديث، وسيأتي قريبا عن ابن عباس من وجه

(4/180)


آخر "حتى بلغ عسفان" بدل الكديد، وفيه مجاز القرب لأن الكديد أقرب إلى المدينة من عسفان، وبين الكديد ومكة مرحلتان، قال البكري: هو بين أمج - بفتحتين وجيم - وعسفان وهو ماء عليه نخل كثير. ووقع عند مسلم في حديث جابر "فلما بلغ كراع الغميم" هو بضم الكاف والغميم بفتح المعجمة وهو اسم واد أمام عسفان، قال عياض: اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر صلى الله عليه وسلم فيه، والكل في قصة واحدة وكلها متقاربة والجميع من عمل عسفان ا ه، وسيأتي في المغازي من طريق معمر عن الزهري سياق هذا الحديث أوضح من رواية مالك، ولفظ رواية معمر "خرج النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف من المسلمين، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة فسار ومن معه من المسلمين يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطروا، قال الزهري: وإنما يؤخذ بالآخرة فالآخرة من أمره صلى الله عليه وسلم، وهذه الزيادة التي في آخره من قول الزهري، وقعت مدرجة عند مسلم من طريق الليث عن الزهري ولفظه: "حتى بلغ الكديد أفطر، قال وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره" وأخرجه من طريق سفيان عن الزهري قال مثله، قال سفيان: لا أدري من قول من هو، ثم أخرجه من طريق معمر ومن طريق يونس كلاهما عن الزهري، وبينا أنه من قول الزهري، وبذلك جزم البخاري في الجهاد، وظاهره أن الزهري ذهب إلى أن الصوم في السفر منسوخ ولم يوافق على ذلك كما سيأتي قريبا. وأخرج البخاري في المغازي أيضا من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان والناس صائم ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحلته ثم نظر الناس" زاد في رواية أخرى من طريق طاوس عن ابن عباس "ثم دعا بماء فشرب نهارا ليراه الناس" وأخرجه الطحاوي من طريق أبي الأسود عن عكرمة أوضح من سياق خالد ولفظه: "فلما بلغ الكديد بلغه أن الناس يشق عليهم الصيام، فدعا بقدح من لبن فأمسكه بيده حتى رآه الناس وهو على راحلته ثم شرب فأفطر، فناوله رجلا إلى جنبه فشرب" ولمسلم من طريق الدراوردي عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر في هذا الحديث: "فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر" وله من وجه آخر عن جعفر "ثم شرب فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال: أولئك العصاة" واستدل بهذا الحديث على تحتم الفطر في السفر، ولا دلالة فيه كما سيأتي. واستدل به على أن للمسافر أن يفطر في أثناء النهار ولو استهل رمضان في الحضر والحديث نص في الجواز إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم استهل رمضان في عام غزوة الفتح وهو بالمدينة ثم سافر في أثنائه. ووقع في رواية ابن إسحاق في المغازي عن الزهري في حديث الباب أنه خرج لعشر مضين من رمضان، ووقع في مسلم من حديث أبي سعيد اختلاف من الرواة في ضبط ذلك، والذي اتفق عليه أهل السير أنه خرج في عاشر رمضان ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه، واستدل به على أن للمرء أن يفطر ولو نوى الصيام من الليل وأصبح صائما فله أن يفطر في أثناء النهار وهو قول الجمهور وقطع به أكثر الشافعية، وفي وجه ليس له أن يفطر وكأن مستند قائله ما وقع في البويطي من تعليق القول به على صحة حديث ابن عباس هذا، وهذا كله فيما لو نوى الصوم في السفر، فأما لو نوى الصوم وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار؟ منعه الجمهور. وقال أحمد وإسحاق بالجواز، واختاره المزني محتجا بهذا الحديث، فقيل له قال كذلك، ظنا منه أنه صلى الله عليه وسلم أفطر في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، وليس كذلك فإن بين المدينة والكديد عدة أيام. وقد وقع في البويطي مثل ما وقع عند

(4/181)


المزني فسلم المزني، وأبلغ من ذلك ما رواه ابن أبي شيبة والبيهقي عن أنس أنه كان إذا أراد السفر يفطر في الحضر قبل أن يركب. ثم لا فرق عند المجيزين في الفطر بكل مفطر، وفرق أحمد في المشهور عنه بين الفطر بالجماع وغيره فمنعه في الجماع، قال فلو جامع فعليه الكفارة إلا إن أفطر بغير الجماع قبل الجماع، واعترض بعض المانعين في أصل المسألة فقال: ليس في الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم نوى الصيام في ليله اليوم الذي أفطر فيه، فيحتمل أن يكون نوى أن يصبح مفطرا ثم أظهر الإفطار ليفطر الناس، لكن سياق الأحاديث ظاهر في أنه كان أصبح صائما ثم أفطر. وقد روى ابن خزيمة وغيره من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، فأتى بطعام فقال لأبي بكر وعمر: ادنوا فكلا، فقالا إنا صائمان، فقال اعملوا لصاحبيكم ارحلوا لصاحبيكم ادنوا فكلا "قال ابن خزيمة: فيه دليل على أن للصائم السفر الفطر بعد مضي بعض النهار. "تنبيه": قال القابسي: هذا الحديث من مرسلات الصحابة لأن ابن عباس كان في هذه السفرة مقيما مع أبويه بمكة فلم يشاهد هذه القصة، فكأنه سمعها من غيره من الصحابة.

(4/182)


باب الصوم في السفر
...
35 - باب
1945- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِ رَوَاحَةَ"
قوله: "باب" كذا للأكثر بغير ترجمة، وسقط من رواية النسفي، وعلى الحالين لا بد أن يكون لحديث أبي الدرداء المذكور فيه تعلق بالترجمة، ووجهه ما وقع من إفطار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في السفر بمحضر منه، ولم ينكر عليهم فدل على الجواز، وعلى رد قول من قال: من سافر في شهر رمضان امتنع عليه الفطر. قوله: "عن أم الدرداء" في رواية أبي داود من طريق سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله وهو ابن أبي المهاجر الدمشقي "حدثتني أم الدرداء" والإسناد كله شاميون سوى شيخ البخاري وقد دخل الشام، وأم الدرداء هي الصغرى التابعية. قوله: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره" في رواية مسلم من طريق سعيد بن عبد العزيز أيضا: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد" الحديث، وبهذه الزيادة يتم المراد من الاستدلال، ويتوجه الرد بها على أبي محمد بن حزم في زعمه أن حديث أبي الدرداء هذا لا حجة فيه لاحتمال أن يكون ذلك الصوم تطوعا، وقد كنت ظننت أن هذه السفرة غزوة الفتح لما رأيت في "الموطأ" من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن عن رجل من الصحابة قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج في الحر وهو يصب على رأسه الماء - وهو صائم - من العطش ومن الحر، فلما بلغ الكديد أفطر" فإنه يدل على أن غزاة الفتح كانت في أيام شدة الحر، وقد اتفقت الروايتان على أن كلا من السفرتين كان في رمضان، لكنني رجعت عن ذلك وعرفت أنه ليس بصواب لأن عبد الله بن رواحة استشهد بمؤتة قبل غزوة الفتح بلا خلاف وإن كانتا جميعا في سنة واحدة، وقد استثناه أبو الدرداء في هذه السفرة النبي صلى الله عليه وسلم فصح أنها كانت سفرة أخرى. وأيضا فإن في سياق أحاديث غزوة الفتح أن الذين استمروا من الصحابة صياما كانوا جماعة، وفي هذا أنه عبد الله بن رواحة وحده. وأخرج الترمذي من

(4/182)


حديث عمر "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان يوم بدر ويوم الفتح" الحديث، ولا يصح حمله أيضا على بدر لأن أبا الدرداء لم يكن حينئذ أسلم، وفي الحديث دليل على أن لا كراهية في الصوم في السفر لمن قوى عليه ولم يصبه منه مشقة شديدة.

(4/183)


باب ليس من البر الصوم في السفر
...
36 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ
1946- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالُوا صَائِمٌ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ"
قوله: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر: ليس من البر الصيام في السفر" أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر" ما ذكره من المشقة، وأن من روى الحديث مجردا فقد اختصر القصة، وبما أشار إليه من اعتبار شدة المشقة يجمع بين حديث الباب والذي قبله، فالحاصل أن الصوم لمن قوى عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شق عليه الصوم أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم، وأن من لم يتحقق المشقة يخير بين الصوم والفطر.
وقد اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة: لا يجزئ الصوم في السفر عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر لظاهر قوله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر " ومقابلة البر الإثم، وإذا كان آثما بصومه لم يجزئه وهذا قول بعض أهل الظاهر، وحكى عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم، واحتجوا بقوله تعالى: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قالوا ظاهره فعليه عدة أو فالواجب عدة، وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر فعدة، ومقابل هذا القول قول من قال إن الصوم في السفر لا يجوز إلا لمن خاف على نفسه الهلاك أو المشقة الشديدة حكاه الطبري عن قوم، وذهب أكثر العلماء ومنهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوى عليه ولم يشق عليه. وقال كثير منهم الفطر أفضل عملا بالرخصة وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال آخرون هو مخير مطلقا. وقال آخرون أفضلهما أيسرهما لقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر كمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل وهو قول عمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر، والذي يترجح قول الجمهور، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة كما تقدم نظيره في المسح على الخفين، وسيأتي نظيره في تعجيل الإفطار، وقد روى أحمد من طريق أبي طعمة قال: قال رجل لابن عمر: إني أقوى على الصوم في السفر، فقال له ابن عمر: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة، وهذا محمول على من رغب عن الرخصة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني" وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر فقد يكون الفطر أفضل له، وقد أشار إلى ذلك ابن عمر، فروى الطبري من طريق مجاهد قال: إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم قال أصحابك: اكفوا الصائم، ارفعوا للصائم، وقاموا بأمرك. وقالوا فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك. ومن طريق مجاهد أيضا عن جنادة بن أمية عن أبي ذر نحو ذلك، وسيأتي

(4/183)


في الجهاد من طريق مؤرق عن أنس نحو هذا مرفوعا حيث قال صلى الله عليه وسلم للمفطرين حيث خدموا الصيام "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" واحتج من منع الصوم أيضا بما وقع في الحديث الماضي أن ذلك كان آخر الأمرين، وأن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله، وزعموا أن صومه صلى الله عليه وسلم في السفر منسوخ، وتعقب أولا بما تقدم من أن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري، وبأنه استند إلى ظاهر الخبر من أنه صلى الله عليه وسلم أفطر بعد أن صام ونسب من صام إلى العصيان، ولا حجة في شيء من ذلك لأن مسلما أخرج من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم صام بعد هذه القصة في السفر ولفظه: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، فنزلنا منزلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا ، فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت عزيمة فأفطرنا. ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر" وهذا الحديث نص في المسألة، ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان لأنه عزم عليهم فخالفوا، وهو شاهد لما قلناه من أن الفطر أفضل لمن شق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوى به على لقاء العدو، وروى الطبري في تهذيبه من طريق خيثمة سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر فقال: لقد أمرت غلامي أن يصوم، قال فقلت له فأين هذه الآية {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فقال: إنها نزلت ونحن نرتحل جياعا وننزل على غير شبع، وأما اليوم فنرتحل شباعا وننزل على شبع، فأشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم. وأما الحديث المشهور "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" فقد أخرجه ابن ماجة مرفوعا من حديث ابن عمر بسند ضعيف، وأخرجه الطبري من طريق أبي سلمة عن عائشة مرفوعا أيضا وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، ورواه الأثرم من طريق أبي سلمة عن أبيه مرفوعا والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفا كذلك أخرجه النسائي وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطع لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحته فهو محمول على ما تقدم أولا حيث يكون الفطر أولى من الصوم والله أعلم. وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر" فسلك المجيزون فيه طرقا: فقال بعضهم قد خرج على سبب فيقصر عليه وعلى من كان في مثل حاله، وإلى هذا جنح البخاري في ترجمته، ولذا قال الطبري بعد أن ساق نحو حديث الباب من رواية كعب بن عاصم الأشعري ولفظه: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في حر شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة وهو مضطجع كضجعة الوجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لصاحبكم، أي وجع به؟ فقالوا ليس به وجع، ولكنه صائم وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حينئذ ليس البر أن تصوموا في السفر، عليكم برخصة الله التي رخص لكم" فكان قوله صلى الله عليه وسلم ذلك لمن كان في مثل ذلك الحال. وقال ابن دقيق العيد: أخذ من هذه القصة أن كراهة الصوم في السفر مختصة بمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينزل قوله: "ليس من البر الصوم في السفر" على مثل هذه الحالة. قال: والمانعون في السفر يقولون إن اللفظ عام، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب، قال: وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم، وبين مجرد ورود العام على سبب، فإن بين العامين فرقا واضحا، ومن أجراهما مجرى واحدا لم يصب، فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به كنزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان، وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة لبيان المجملات وتعيين

(4/184)


المحتملات كما في حديث الباب. وقال ابن المنير في الحاشية: هذه القصة تشعر بأن من اتفق له مثل ما اتفق لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم؛ وأما من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله والله أعلم. وحمل الشافعي نفى البر المذكور في الحديث على من أبى قبول الرخصة فقال: معنى قوله: "ليس من البر" أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص الله تعالى له أن يفطر وهو صحيح، قال ويحتمل أن يكون معناه ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم، وجزم ابن خزيمة وغيره بالمعنى الأول. وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا البر الكامل الذي هو أعلى مراتب البر، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برأ لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم إذا كان للتقوى على لقاء العدو مثلا، قال: وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بالطواف" الحديث، فإنه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غني يغنيه ويستحيي أن يسأل ولا يفطن له. قوله: "حدثنا محمد بن عبد الرحمن الأنصاري" عند مسلم من طريق غندر عن شعبة عن محمد ابن عبد الرحمن يعني ابن سعد، ولأبي داود عن أبي الوليد عن شعبة عن محمد بن عبد الرحمن يعني بن سعد ابن زرارة. قوله: "سمعت محمد بن عمرو الخ" أدخل محمد بن عبد الرحمن بن سعد بينه وبين جابر محمد بن عمرو ابن الحسن في رواية شعبة عنه، واختلف في حديثه على يحيى بن أبي كثير فأخرجه النسائي من طريق شعيب ابن إسحاق عن الأوزاعي عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن حدثني جابر بن عبد الله فذكره، قال النسائي: هذا خطأ، ثم ساقه من طريق الفريابي عن الأوزاعي عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن حدثني من سمع جابرا، ومن طريق علي بن المبارك عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن رجل عن جابر ثم قال: ذكر تسمية هذا الرجل المبهم، فساق طريق شعبة ثم قال هذا هو الصحيح، يعني إدخال رجل بين محمد بن عبد الرحمن وجابر، وتعقبه المزي فقال ظن النسائي أن محمد بن عبد الرحمن شيخ شعبة في هذا الحديث هو محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى بن أبي كثير فيه، وليس كذلك لأن شيخ يحيى هو محمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان وشيخ شعبة هو ابن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ا ه. والذي يترجح في نظري أن الصواب مع النسائي، لأن مسلما لما روى الحديث من طريق أبي داود عن شعبة قال في آخره: قال شعبة كان بلغني هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير أنه كان يزيد في هذا الإسناد في هذا الحديث: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" فلما سألته لم يحفظه ا هـ. والضمير في سألت يرجع إلى محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى لأن شعبة لم يلق يحيى فدل على أن شعبة أخبر أنه كان يبلغه عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن محمد بن عمرو عن جابر في هذا الحديث زيادة، ولأنه لما لقي محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى سأله عنها فلم يحفظها. وأما ما وقع في رواية الأوزاعي عن يحيى أنه نسب محمد بن عبد الرحمن فقال فيه ابن ثوبان فهو الذي اعتمده المزي، لكن جزم أبو حاتم كما نقله عنه ابنه في "العلل" بأن من قال فيه عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان فقد وهم، وإنما هو ابن عبد الرحمن بن سعد ا ه. وقد اختلف فيه مع ذلك على الأوزاعي، وجل الرواة عن يحيى ابن أبي كثير لم يزيدوا على محمد بن عبد الرحمن، لا يذكرون جده ولا جد جده والله أعلم. قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر" تبين من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أنها غزوة الفتح، ولابن خزيمة من طريق حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر "سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان" فذكر نحوه. قوله: "ورجلا قد ظلل عليه" في رواية حماد المذكورة "فشق على رجل الصوم فجعلت راحلته تهيم به تحت الشجرة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأمره أن يفطر" الحديث ولم أقف على اسم هذا الرجل،

(4/185)


ولولا ما قدمته من أن عبد الله بن رواحة استشهد قبل غزوة الفتح لأمكن أن يفسر به لقول أبي الدرداء إنه لم يكن من الصحابة في تلك السفرة صائما غيره، وزعم مغلطاي أنه أبو إسرائيل وعزا ذلك لمبهمات الخطيب، ولم يقل الخطيب ذلك في هذه القصة وإنما أورد حديث مالك عن حميد بن قيس وغيره: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقالوا نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم" الحديث، ثم قال: هذا الرجل هو أبو إسرائيل القرشي العامري، ثم ساق بإسناده إلى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فنظر إلى رجل من قريش يقال له أبو إسرائيل فقالوا: نذر أن يصوم ويقوم في الشمس" الحديث فلم يزد الخطيب على هذا، وبين القصتين مغايرات ظاهرة أظهرها أنه كان في الحضر في المسجد وصاحب القصة في حديث جابر كان في السفر تحت ظلال الشجر والله أعلم. وفي الحديث استحباب التمسك بالرخصة عند الحاجة إليها، وكراهة تركها على وجه التشديد والتنطيع. "تنبيه": أوهم كلام صاحب "العمدة" أن قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" مما أخرجه مسلم بشرطه، وليس كذلك وإنما هي بقية في الحديث لم يوصل إسنادها كما تقدم بيانه، نعم وقعت عند النسائي موصولة في حديث يحيى بن أبي كثير بسنده، وعند الطبراني من حديث كعب بن عاصيم الأشعري كما تقدم.

(4/186)


باب لم يعب أصحاب النبي بعضهم بعضا في الصوم و الإفطار
...
37 - باب لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّوْمِ وَالإِفْطَارِ
1947- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ"
قوله: "باب لم يعب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضا في الصوم والإفطار" أي في الأسفار، وأشار بهذا إلى تأكيد ما اعتمده من تأويل الحديث الذي قبله، وأنه محمول على من بلغ حالة يجهد بها، وأن من لم يبلغ ذلك لا يعاب عليه الصيام ولا الفطر. قوله: "عن أنس" في رواية أبي خالد عند مسلم عن حميد التصريح بالإخبار بين حميد وأنس، ولفظه عن حميد "خرجت فصمت فقالوا لي أعد، فقلت إن أنسا أخبرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، قال حميد فلقيت ابن أبي مليكة فأخبرني عن عائشة مثله". قوله: "كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم" في حديث أبي سعيد عند مسلم: "كنا نغزو مع رسول الله فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ومن وجد ضعفا فأفطر أن ذلك حسن، وهذا التفصيل هو المعتمد، وهو نص رافع للنزاع كما تقدم والله أعلم. "تنبيه": نقل ابن عبد البر عن محمد بن وضاح أن مالكا تفرد بسياق هذا الحديث على هذا اللفظ، وتعقبه بأن أبا إسحاق الفزاري وأبا ضمرة وعبد الوهاب الثقفي وغيرهم رووه عن حميد مثل مالك.

(4/186)


38 - باب مَنْ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ لِيَرَاهُ النَّاسُ
1948- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ النَّاسَ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ قَدْ صَامَ

(4/186)


باب {وعلى الذين يطيقونة فدية}
...
39 - باب [البقرة:184] {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}
قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَسَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ نَسَخَتْهَا {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}" [البقرة: 185]
وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ"
1949- حدثنا عياش حدثنا عبد الأعلى حدثنا عبيد الله عن نافع عن بن عمر رضي الله عنهما ثم قرأ

(4/187)


{ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال هي منسوخة"
[الحديث 1949- طرفه في 4506]
قوله: "باب قوله تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع: نسختها {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ} - إلى قوله: { عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أما حديث ابن عمر فوصله في آخر الباب عن عياش وهو بتحتانية ومعجمة، وقد أخرجه عنه أيضا في التفسير وزاد أنه ابن الوليد وهو الرقام، وشيخه عبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى البصري السامي بالمهملة، ولكن لم يعين الناسخ، وقد أخرجه الطبري من طريق عبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله بن عمر بلفظ: نسخت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} التي بعدها {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وعلى هذا فقوله في الترجمة "وفي حديث سلمة نسختها شهر رمضان" أي الآية التي أولها {شَهْرُ رَمَضَانَ} لاشتمالها على موضع النسخ، وقوله تعالى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وأما حديث سلمة فوصله في تفسير البقرة بلفظ لما نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر أفطر وافتدى حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. قوله: "وقال ابن نمير الخ" وصله أبو نعيم في المستخرج والبيهقي من طريقه، ولفظ البيهقي "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولا عهد لهم بالصيام، فكانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر حتى نزل "شهر رمضان" فاستكثروا ذلك وشق عليهم، فكان من أطعم مسكينا كل يوم ترك الصيام ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك، ثم نسخه {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فأمروا بالصيام" وهذا الحديث أخرجه أبو داود من طريق شعبة والمسعودي عن الأعمش مطولا في الأذان والقبلة والصيام، واختلف في إسناده اختلافا كثيرا، وطريق ابن نمير هذه أرجحها، وإذا تقرر أن الإفطار والإطعام كان رخصة ثم نسخ لزم أن يصبر الصيام حتما واجبا فكيف يلتئم مع قوله تعالى: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} والخيرية لا تدل على الوجوب بل المشاركة في أصل الخير؟ أجاب الكرماني بأن المعنى فالصوم خير من التطوع بالفدية، والتطوع بها كان سنة، والخير من السنة لا يكون إلا واجبا أي لا يكون شيء خيرا من السنة إلا الواجب، كذا قال ولا يخفى بعده وتكلفه. ودعوى الوجوب في خصوص الصيام في هذه الآية ليست بظاهرة، بل هو واجب مخير، من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم، فنصت الآية على أن الصوم أفضل، وكون بعض الواجب المخير أفضل من بعض لا إشكال فيه، واتفقت هذه الأخبار على أن قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} منسوخ، وخالف في ذلك ابن عباس فذهب إلى أنها محكمة لكنها مخصوصة بالشيخ الكبير ونحوه، وسيأتي بيان ذلك والبحث فيه في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى حيث ذكره المصنف من تفسير البقرة.

(4/188)


40 - باب مَتَى يُقْضَى قَضَاءُ رَمَضَانَ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ بَأْسَ أَنْ يُفَرَّقَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي صَوْمِ الْعَشْرِ لاَ يَصْلُحُ حَتَّى يَبْدَأَ بِرَمَضَانَ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ إِذَا فَرَّطَ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ يَصُومُهُمَا وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ طَعَامًا وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلًا وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ

(4/188)


الإِطْعَامَ إِنَّمَا قَالَ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
1950- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ قَالَ يَحْيَى الشُّغْلُ مِنْ النَّبِيِّ أَوْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: "باب متى يقضي قضاء رمضان؟" أي متى تصام الأيام التي تقضي عن فوات رمضان؟ وليس المراد قضاء القضاء على ما هو ظاهر اللفظ، ومراد الاستفهام هل يتعين قضاؤه متتابعا أو يجوز متفرقا؟ وهل يتعين على الفور أو يجوز على التراخي؟ قال الزين بن المنير: جعل المصنف الترجمة استفهاما لتعارض الأدلة، لأن ظاهر قوله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يقتضي التفريق لصدق {أيام أخر} سواء كانت متتابعة أو متفرقة، والقياس يقتضي التتابع إلحاقا لصفة القضاء بصفة الأداء، وظاهر صنيع عائشة يقتضي إيثار المبادرة إلى القضاء لولا ما منعها من الشغل، فيشعر بأن من كان بغير عذر لا ينبغي له التأخير. قلت: ظاهر صنيع البخاري يقتضي جواز التراخي والتفريق لما أودعه في الترجمة من الآثار كعادته وهو قول الجمهور، ونقل ابن المنذر وغيره عن علي وعائشة وجوب التتابع وهو قول بعض أهل الظاهر، وروى عبد الرزاق بسنده عن ابن عمر قال: يقضيه تباعا. وعن عائشة: نزلت: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ متتابعات} فسقطت متتابعات. وفي "الموطأ" أنها قراءة أبي كعب، وهذا إن صح يشعر بعدم وجوب التتابع فكأنه كان أولا واجبا ثم نسخ، ولا يختلف المجيزون للتفريق أن التتابع أولى. قوله: "وقال ابن عباس: لا بأس أن يفرق لقول الله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وصله مالك عن الزهري: أن ابن عباس وأبا هريرة اختلفا في قضاء رمضان، فقال أحدهما يفرق وقال الآخر لا يفرق. هكذا أخرجه منقطعا مبهما، ووصله عبد الرزاق معينا عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس فيمن عليه قضاء من رمضان قال: يقضيه مفرقا، قال الله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، وأخرجه الدار قطني من وجه آخر عن معمر بسنده قال: صمه كيف شئت. ورويناه في "فوائد أحمد ابن شبيب" من روايته عن أبيه عن يونس عن الزهري بلفظ: لا يضرك كيف قضيتها إنما هي عدة من أيام أخر فأحصه. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء أن ابن عباس وأبا هريرة قالا: فرقه إذا أحصيته. وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي هريرة نحو قول ابن عمر، وكأنه اختلف فيه عن أبي هريرة. وروى ابن أبي شيبة أيضا من طريق معاذ بن جبل: إذا أحصى العدة فليصم كيف شاء. ومن طريق أبي عبيدة بن الجراح ورافع بن خديج نحوه، وروى سعيد بن منصور عن أنس نحوه. قوله: "وقال سعيد بن المسيب في صوم العشر لا يصلح حق يبدأ برمضان" وصله ابن أبي شيبة عنه نحوه ولفظه: "لا بأس أن يقضي رمضان في العشر "وظاهر قوله جواز التطوع بالصوم لمن عليه دين من رمضان، إلا أن الأولى له أن يصوم الدين أولا لقوله: "لا يصلح" فإنه ظاهر في الإرشاد إلى البداءة بالأهم والآكد، وقد روى عبد الرزاق عن أبي هريرة أن رجلا قال له إن علي أياما من رمضان أفأصوم العشر تطوعا؟ قال: لا، ابدأ بحق الله ثم تطوع ما شئت. وعن عائشة نحوه. وروى ابن المنذر عن علي أنه نهى عن قضاء رمضان في عشر ذي الحجة وإسناده ضعيف، قال وروى بإسناد صحيح نحوه عن الحسن والزهري وليس مع أحد منهم حجة على ذلك، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عمر أنه كان يستحب ذلك.

(4/189)


قوله: "وقال إبراهيم" أي النخعي" إذا فرط حتى جاء رمضان آخر يصومهما، ولم ير عليه إطعاما" وقع في رواية الكشميهني: "حتى جاز" بزاي بدل الهمزة من الجواز، وفي نسخة "حان" بمهملة ونون من الحين، وصله سعيد بن منصور من طريق يونس عن الحسن، ومن طريق الحارث العكلي عن إبراهيم، قال: إذا تتابع عليه رمضانان صامهما فإن صح بينهما فلم يقض الأول فبئسما صنع فليستغفر الله وليصم. قوله: "ويذكر عن أبي هريرة مرسلا، وعن ابن عباس أنه يطعم" أما أثر أبي هريرة فوجدته عنه من طرق موصولا، فأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عطاء عن أبي هريرة قال: أي إنسان مرض في رمضان ثم صح فلم يقضه حتى أدركه رمضان آخر فليصم الذي حدث ثم يقض الآخر ويطعم مع كل يوم مسكينا. قلت لعطاء: كم بلغك يطعم؟ قال مدا زعموا" وأخرجه عبد الرزاق أيضا عن معمر عن أبي إسحاق، عن مجاهد عن أبي هريرة نحوه وقال فيه: "وأطعم عن كل يوم نصف صاع من قمح" وأخرجه الدار قطني من طريق مطرف عن أبي إسحاق نحوه، ومن طريق رقبة وهو ابن مصقلة قال: "زعم عطاء أنه سمع أبا هريرة يقول في المريض يمرض ولا يصوم رمضان ثم يترك حتى يدركه رمضان آخر قال: يصوم الذي حضره ثم يصوم الآخر ويطعم لكل يوم مسكينا" ومن طريق ابن جريج وقيس بن سعد عن عطاء نحوه. وأما قول ابن عباس فوصله سعيد بن منصور عن هشيم والدار قطني من طريق ابن عيينة كلاهما عن يونس "عن أبي إسحاق عن مجاهد عن ابن عباس قال: من فرط في صيام رمضان حتى أدركه رمضان آخر فليصم هذا الذي أشركه ثم ليصم ما فاته ويطعم مع كل يوم مسكينا" وأخرجه عبد الرزاق من طريق جعفر بن برقان، وسعيد بن منصور من طريق حجاج، والبيهقي من طريق شعبة عن الحكم، كلهم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس نحوه. قوله: "ولم يذكر الله تعالى الإطعام، إنما قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} هذا من كلام المصنف قاله تفقها، وظن الزين بن المنير أنه بقية كلام إبراهيم النخعي، وليس كما ظن فإنه مفصول من كلامه بأثر أبي هريرة وابن عباس، لكن إنما يقوى ما احتج به إذا لم يصح في السنة دليل الإطعام إذ لا يلزم من عدم ذكره في الكتاب أن لا يثبت بالسنة، ولم يثبت فيه شيء مرفوع وإنما جاء فيه عن جماعة من الصحابة منهم من ذكر ومنهم عمر عند عبد الرزاق، ونقل الطحاوي عن يحيى بن أكثم قال: وجدته عن ستة من الصحابة لا أعلم لهم فيه مخالفا. انتهى. وهو قول الجمهور، وخالف في ذلك إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأصحابه، ومال الطحاوي إلى قول الجمهور في ذلك، وممن قال بالإطعام ابن عمر لكنه بالغ في ذلك فقال يطعم ولا يصوم، فروى عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما من طرق صحيحة عن نافع عن ابن عمر قال: "من تابعه رمضانان وهو مريض لم يصح بينهما قضى الآخر منها بصيام وقضى الأول منهما بإطعام مد من حنطة كل يوم ولم يصم" لفظ عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع، قال الطحاوي تفرد ابن عمر بذلك. قلت: لكن عند عبد الرزاق عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد قال: بلغني مثل ذلك عن عمر، لكن المشهور عن عمر خلافه، فروى عبد الرزاق أيضا من طريق عوف بن مالك سمعت عمر يقول: "من صام يوما من غير رمضان وأطعم مسكينا فإنهما يعدلان يوما من رمضان" ونقله ابن المنذر عن ابن عباس وعن قتادة، وانفرد ابن وهب بقوله: من أفطر يوما في قضاء رمضان وحب عليه لكل يوم صوم يومين. قوله: "حدثنا زهير" هو ابن معاوية الجعفي أبو خيثمة. قوله: "عن يحيى" هو ابن سعيد الأنصاري، ووهم الكرماني تبعا لابن التين فقال: هو يحيى ابن أبي كثير، وغفل عما أخرجه مسلم عن أحمد بن يونس شيخ البخاري فيه فقال في نفس السند "عن يحيى ابن سعيد ويحيى بن سعيد هذا هو الأنصاري" وذهل مغلطاي

(4/190)


فنقل عن الحافظ الضياء أنه القطان، وليس كما قال، فإن الضياء حكى قول من قال إنه يحيى بن أبي كثير ثم رده وجزم بأنه يحيى بن سعيد ولم يقل القطان، ولا جائز أن يكون القطان لأنه لم يدرك أبا سلمة، وليست لزهير بن معاوية عنه رواية وإنما هو يروي عن زهير. قوله: "عن أبي سلمة" في رواية الإسماعيلي من طريق أبي خالد عن يحيى بن سعيد "سمعت أبا سلمة". قوله: "فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان" استدل به على أن عائشة كانت لا تتطوع بشيء من الصيام لا في عشر ذي الحجة ولا في عاشوراء ولا غير ذلك، وهو مبني على أنها كانت لا ترى جواز صيام التطوع لمن عليه دين من رمضان، ومن أين لقائله ذلك؟ قوله: "قال يحيى" أي الراوي المذكور بالسند المذكور إليه فهو موصول. قوله: "الشغل من النبي أو بالنبي صلى الله عليه وسلم" هو خبر مبتدأ محذوف تقديره: المانع لها الشغل، أو هو مبتدأ محذوف الخبر تقديره الشغل هو المانع لها. وفي قوله: "قال يحيى" هذا تفصيل لكلام عائشة من كلام غيرها، ووقع في رواية مسلم المذكورة مدرجا لم يقل فيه قال يحيى فصار كأنه من كلام عائشة أو من روي عنها، وكذا أخرجه أبو عوانة من وجه آخر عن زهير، وأخرجه مسلم من طريق سليمان ابن بلال عن يحيى مدرجا أيضا ولفظه: "وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وأخرجه من طريق ابن جريج عن يحيى فبين إدراجه ولفظه: "فظننت أن ذلك لمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يحيى يقوله، وأخرجه أبو داود من طريق مالك، والنسائي من طريق يحيى القطان، وسعيد بن منصور عن ابن شهاب وسفيان، والإسماعيلي من طريق أبي خالد كلهم عن يحيى بدون الزيادة، وأخرجه مسلم من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بدون الزيادة لكن فيه ما يشعر بها فإنه قال فيه ما معناه: فما أستطيع قضاءها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المراد بالمعية الزمان أي أن ذلك كان خاصا بزمانه. وللترمذي وابن خزيمة من طريق عبد الله البهي عن عائشة "ما قضيت شيئا مما يكون على من رمضان إلا في شعبان حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ومما يدل على ضعف الزيادة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم لنسائه فيعدل وكان يدنو من المرأة في غير نوبتها فيقبل ويلمس من غير جماع، فليس في شغلها بشيء من ذلك ما يمنع الصوم، اللهم إلا أن يقال إنها كانت لا تصوم إلا بإذنه ولم يكن يأذن لاحتمال احتياجه إليها فإذا ضاق الوقت أذن لها، وكان هو صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان كما سيأتي بعد أبواب فلذلك كانت لا يتهيأ لها القضاء إلا في شعبان، وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقا سواء كان لعذر أو لغير عذر لأن الزيادة كما بيناه مدرجة فلو لم تكن مرفوعة لكان الجواز مقيدا بالضرورة لأن حديث حكم الرفع لأن الظاهر إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مع توفر دواعي أزواجه على السؤال منه عن أمر الشرع فلولا أن ذلك كان جائزا لم تواظب عائشة عليه، ويؤخذ من حرصها على ذلك في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر. وأما الإطعام فليس فيه ما يثبته ولا ينفيه وقد تقدم البحث فيه.

(4/191)


باب الحائض تترك الصوم و الصلاة
...
41 - باب الْحَائِضِ تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلاَةَ
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ إِنَّ السُّنَنَ وَوُجُوهَ الْحَقِّ لَتَأْتِي كَثِيرًا عَلَى خِلاَفِ الرَّأْيِ فَمَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنْ اتِّبَاعِهَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصِّيَامَ وَلاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ
1951- حدثنا بن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر قال حدثني زيد عن عياض عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم فذلك نقصان دينها"

(4/191)


قوله: "باب الحائض تترك الصوم والصلاة" قال الزين بن المنير ما محصله: إن الترجمة لم تتضمن حكم القضاء لتطابق حديث الباب فإنه ليس فيه تعرض لذلك، قال وأما تعبيره بالترك فللإشارة إلى أنه ممكن حسا، وإنما تتركه اختيارا لمنع الشرع لها من مباشرته. قوله: "وقال أبو الزناد الخ" قال الزين بن المنير: نظر أبو الزناد إلى الحيض فوجده مانعا من هاتين العبادتين، وما سلب الأهلية استحال أن يتوجه به خطاب الاقتضاء، وما يمنع صحة الفعل يمنع الوجوب، فلذلك استبعد الفرق بين الصلاة والصوم فأحال بذلك على اتباع السنة والتعبد المحض، وقد تقدم في كتاب الحيض سؤال معاذ من عائشة عن الفرق المذكور وأنكرت عليها عائشة السؤال وخشيت عليها أن تكون تلقنته من الخوارج الذين جرت عادتهم باعتراض السنن بآرائهم، ولم تزدها على الحوالة على النص، وكأنها قالت لها: دعي السؤال عن العلة إلى ما هو أهم من معرفتها وهو الانقياد إلى الشارع. وقد تكلم بعض الفقهاء في الفرق المذكور، واعتمد كثير منهم على أن الحكمة فيه أن الصلاة تتكرر فيشق قضاؤها بخلاف الصوم الذي لا يقع في السنة إلا مرة، واختار إمام الحرمين أن المتبع ذلك هو النص وأن كل شيء ذكروه من الفرق ضعيف والله أعلم. وزعم المهلب أن السبب في منع الحائض من الصوم أن خروج الدم يحدث ضعفا في النفس غالبا فاستعمل هذا الغالب في جميع الأحوال، فلما كان الضعف يبيح الفطر ويوجب القضاء كان كذلك الحيض، ولا يخفي ضعف هذا المأخذ، فان المريض لو تحامل فصام صح صومه بخلاف الحائض، وأن المستحاضة في نزف الدم أسد من الحائض وقد أبيح لها الصوم. وقول أبي الزناد إن السنن لتأتي كثيرا على خلاف الرأي كأنه يشير إلى قول علي: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أحق بالمسح من أعلاه أخرجه احمد وأبو داود والدار قطني ورجال إسناده ثقات، ونظائر ذلك في الشرعيات كثير.ومما يفرق فيه بين الصوم والصلاة في حق الحائض أنها لو طهرت قبل الفجر ونوت صح صومها في قول الجمهور ولا يتوقف على الغسل، بخلاف الصلاة، ثم أورد المصنف طرفا من حديث أبي سعيد الماضي في كتاب الحيض مقتصرا على قوله: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" وقد أخرجه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: "تمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين" الحديث.

(4/192)


42 - باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ صَامَ عَنْهُ ثَلاَثُونَ رَجُلًا يَوْمًا وَاحِدًا جَازَ
1952- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ تَابَعَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرٍو وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ
1953- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى قَالَ سُلَيْمَانُ

(4/192)


فقال الْحَكَمُ وَسَلَمَةُ وَنَحْنُ جَمِيعًا جُلُوسٌ حِينَ حَدَّثَ مُسْلِمٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالاَ سَمِعْنَا مُجَاهِدًا يَذْكُرُ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي خَالِدٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ الْحَكَمِ وَمُسْلِمٍ الْبَطِينِ وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَقَالَ يَحْيَى وَأَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَتْ أُمِّي وَعَلَيْهَا صَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا"
قوله: "باب من مات وعليه صوم" أي هل يشرع قضاؤه عنه أم لا؟ وإذا شرع هل يختص بصيام دون صيام أو يعم كل صيام؟ وهل يتعين الصوم أو يجزئ الإطعام؟ وهل يختص الولي بذلك أو يصح منه ومن غيره؟ والخلاف في ذلك مشهور للعلماء كما سنبينه. قوله: "وقال الحسن إن صام عنه ثلاثون رجلا يوما وأحدا جاز" في رواية الكشميهني: "في يوم واحد" والمراد من مات وعليه صيام شهر. وهذا الأثر وصله الدار قطني في كتاب الذبح من طريق عبد الله بن المبارك عن سعيد بن عامر وهو الضبعي عن أشعث عن الحسن فيمن مات وعليه صوم ثلاثين يوما فجمع له ثلاثون رجلا فصاموا عنه يوما واحدا أجزأ عنه، قال النووي في "شرح المهذب" : هذه المسألة لم أر فيها نقلا في المذهب، وقياس، المذهب الإجزاء. قلت: لكن الجواز مقيد بصوم لم يجب فيه التتابع لفقد التتابع في الصورة المذكورة. قوله: "حدثنا محمد بن خالد" أي ابن خلي بمعجمة وزن علي كما جزم به أبو نعيم في "المستخرج"، وجزم الجوزقي بأنه الذهلي فإنه أخرجه عن أبي حامد بن الشرقي عنه وقال: أخرجه البخاري عن محمد أين يحيى وبذلك جزم الكلاباذي، وصنيع المزي يوافقه وهو الراجح، وعلى هذا فقد نسبه البخاري هنا إلى جد أبيه لأنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد وشيخه محمد بن موسى بن أعين أدركه البخاري لكنه لم يرو عنه إلا بواسطة وكأنه لم يلقه، وعمرو بن الحارث هو المصري. قوله: "من مات" عام في المكلفين لقرينة "وعليه صيام" وقوله: "صام عنه وليه" خير بمعنى الأمر تقديره فليصم عنه وليه، وليس هذا الأمر للوجوب عند الجمهور، وبالغ إمام الحرمين ومن تبعه فادعوا الإجماع على ذلك، وفيه نطر لأن بعض أهل الظاهر أوجبه فلعله لم يعتد بخلافهم على قاعدته. وقد اختلف السلف في هذه المسألة: فأجاز الصيام عن الميت أصحاب الحديث، وعلق الشافعي في القديم القول به على صحة الحديث كما نقله البيهقي في "المعرفة" وهو قول أبي ثور وجماعة من محدثي الشافعية. وقال البيهقي في "الخلافيات" : هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها فوجب العمل بها، ثم ساق بسنده إلى الشافعي قال: كل ما قلت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فخذوا بالحديث ولا تقلدوني. وقال الشافعي في الجديد ومالك وأبو حنيفة لا يصام عن الميت. وقال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد: لا يصام عنه إلا النذر حملا للعموم الذي في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس، وليس بينهما تعارض حتى يجمع بينهما، فحديث ابن عباس صورة مستقلة سأل عنها من وقعت له، وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة، وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا

(4/193)


العموم حيث قيل في آخره: "فدين الله أحق أن يقضي". وأما رمضان فيطعم عنه، فأما المالكية فأجابوا عن حديث الباب بدعوى عمل أهل المدينة كعادتهم، وادعى القرطبي تبعا لعياض أن الحديث مضطرب، وهذا لا يتأتى إلا في حديث ابن عباس ثاني حديثي الباب، وليس الاضطراب فيه مسلما كما سيأتي، وأما حديث عائشة فلا اضطراب فيه. واحتج القرطبي بزيادة ابن لهيعة المذكورة لأنها تدل على عدم الوجوب، وتعقب بأن معظم المجيزين لم يوجبوه كما تقدم وإنما قالوا يتخير الولي بين الصيام والإطعام، وأجاب الماوردي عن الجديد بأن المراد بقوله: "صام عنه وليه أي فعل عنه وليه ما يقوم مقام الصوم وهو الإطعام، قال وهو نظير قوله: "التراب وضوء المسلم إذا لم يجد الماء" قال فسمي البدل باسم المبدل فكذلك هنا، وتعقب بأنه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل. وأما الحنفية فاعتلوا لعدم القول بهذين الحديثين بما روي عن عائشة أنها "سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم، قالت: يطعم عنها". وعن عائشة قالت: "لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم" أخرجه البيهقي، وبما روي عن ابن عباس "قال في رجل مات وعليه رمضان قال يطعم عنه ثلاثون مسكينا" أخرجه عبد الرزاق، وروى النسائي عن ابن عباس قال: "لا يصوم أحد عن أحد" قالوا فلما أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه دل ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه، وهذه قاعدة لهم معروفة، إلا أن الآثار المذكورة عن عائشة وعن ابن عباس فيها مقال، وليس فيها ما يمنع الصيام إلا الأثر الذي عن عائشة وهو ضعيف جدا، والراجح أن المعتبر ما رواه لا ما رآه لاحتمال أن يخالف ذلك لاجتهاد ومستنده فيه لم يتحقق ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده، وإذا تحققت صحة الحديث لم يترك المحقق للمظنون، والمسألة مشهورة في الأصول. واختلف المجيزون في المراد بقوله: "وليه" فقيل كل قريب، وقيل الوارث خاصة، وقيل عصبته، والأول أرجح، والثاني قريب، ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها. واختلفوا أيضا هل يختص ذلك بالولي؟ لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية، ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة في الحياة فكذلك في الموت إلا ما ورد فيه الدليل فيقتصر على ما ورد فيه ويبقى الباقي على الأصل وهذا هو الراجح، وقيل يختص بالولي فلو أمر أجنبيا بأن يصوم عنه أجزأ كما في الحج، وقيل يصح استقلال الأجنبي بذلك وذكر الولي لكونه الغالب، وظاهر صنيع البخاري اختيار هذا الأخير، وبه جزم أبو الطيب الطبري وقواه بتشبيهه صلى الله عليه وسلم ذلك بالدين والدين لا يختص بالقريب. قوله: "تابعه ابن وهب عن عمرو" يعني ابن الحارث المذكور بسنده، وهذه المتابعة وصلها مسلم وأبو داود وغيرهما بلفظه. قوله: "ورواه يحيى بن أيوب" يعني المصري عن عبيد الله بن أبي جعفر بسنده المذكور، وروايته هذه عند أبي عوانة والدار قطني من طريق عمرو بن الربيع وابن خزيم من طريق سعيد بن أبي مريم كلاهما عن يحيى بن أيوب وألفاظهم متوافقة، ورواه البزار من طريق ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر فزاد في آخر المتن إن شاء الله قوله: "حدثنا محمد بن عبد الرحيم" هو الحافظ المعروف بصاعقة، ومعاوية بن عمرو هو الأزدي ويعرف بابن الكرماني من قدماء شيوخ البخاري حدث عنه بغير واسطة في أواخر كتاب الجمعة وحدث عنه هنا وفي الجهاد وفي الصلاة بواسطة، وكان طلب معاوية المذكور للحديث وهو كبير وإلا فلو كان طلبه وهو على قدر سنه لكان من أعلى شيوخ البخاري، وزائدة شيخه هو ابن قدامة الثقفي مشهور قد لقي البخاري جماعة من أصحابه. قوله: "عن مسلم البطين" بفتح الموحدة وكسر المهملة ثم تحتانية ساكنة ثم نون، وسيأتي أن الحديث جاء من رواية شعبة عن الأعمش عن مسلم المذكور، وشعبة لا يحدث عن شيوخه الذين ربما دلسوا إلا بما تحقق أنهم سمعوه قوله

(4/194)


: "جاء رجل" في رواية غير زائدة "جاءت امرأة" وقد تقدم القول في تسميتها في كتاب الحج. قوله: "جاء رجل" لم أقف على اسمه، واتفق من عدا زائدة وعبثر بن القاسم على أن السائل امرأة، وزاد أبو حريز في روايته أنها خثعمية. قوله: "إن أمي" خالف أبو حامد جميع من رواه فقال: "إن أختي" واختلف على أبي بشر عن سعيد ابن جبير فقال هشيم عنه "ذات قرابة لها" وقال شعبة عنه "إن أختها" أخرجهما أحمد. وقال حماد عنه ذات قرابة لها إما أختها وإما ابنتها "وهذا يشعر بأن التردد فيه من سعيد بن جبير. قوله: "وعليها صوم شهر" هكذا في أكثر الروايات. وفي رواية أبي حريز "خمسة عشر يوما" وفي رواية أبي خالد "شهرين متتابعين" وروايته تقتضي أن لا يكون الذي عليها صوم شهر رمضان بخلاف رواية غيره فإنها محتملة إلا رواية زيد بن أبي أنيسة فقال: "إن عليها صوم نذر" وهذا واضح في أنه غير رمضان، وبين أبو بشر في روايته سبب النذر فروى أحمد من طريق شعبة عن أبي بشر "أن امرأة ركبت البحر فنذرت أن تصوم شهرا فماتت قبل أن تصوم، فأتت أختها النبي صلى الله عليه وسلم:" الحديث ورواه أيضا عن هشيم عن أبي بشر نحوه، وأخرجه البيهقي من حديث حماد بن سلمة. وقد ادعى بعضهم أن هذا الحديث اضطرب فيه الرواة عن سعيد ن جبير، فمنهم من قال: إن السائل امرأة، ومنهم من قال: رجل، ومنهم من قال: إن السؤال وقع عن نذر، فمنهم من فسره بالصوم ومنهم من فسره بالحج لما تقدم في أواخر الحج والذي يظهر أنهما قصتان، ويؤيده أن السائلة في نذر الصوم خثعمية كما في رواية أبي حريز المعلقة السائلة عن نذر الحج جهنية كما تقدم في موضعه. وقد قدمنا في أواخر الحج أن مسلما روى من حديث بريدة أن امرأة سألت عن الحج وعن الصوم معا. وأما الاختلاف في كون السائل رجلا أو امرأة والمسئول عنه أختا أو أما فلا يقدح في موضع الاستدلال من الحديث لأن الغرض منه مشروعية الصوم أو الحج عن الميت ولا اضطراب في ذلك، وقد تقدمت الإشارة إلى كيفية الجمع بين مختلف الروايات فيه عن الأعمش وغيره والله أعلم. قوله: "فدين الله أحق أن يقضي" تقدمت مباحثه في أواخر الحج قبيل "فضل المدينة" مستوفى. قوله: "قال سليمان" هو الأعمش، يعني بالإسناد المذكور أولا إليه. قوله: "فقال الحكم" أي ابن عتيبة، وسلمة أي ابن كهيل، والحاصل أن الأعمش سمع هذا الحديث من ثلاثة أنفس، في مجلس واحد مسلم البطين: أولا عن سعيد بن جبير، ثم من الحكم وسلمة عن مجاهد. قد خالف زائدة في ذلك أبو خالد الأحمر كما سيأتي. قوله: "ويذكر عن أبي خالد حدثنا الأعمش الخ" محصله أن أبا خالد جمع بين شيوخ الأعمش الثلاثة، فحدث به عنه عنهم عن شيوخ ثلاثة. وظاهره أنه عند كل منهم عن كل منهم. ويحتمل أن يكون أراد به اللف والنشر بغير ترتيب، فيكون شيخ الحكم عطاء، وشيخ البطين سعيد بن جبير، وشيخ سلمة مجاهدا، ويؤيده أن النسائي أخرجه من طريق عبد الرحمن بن مغراء عن الأعمش مفصلا هكذا، وهو مما يقوى رواية أبي خالد وقد وصلها مسلم لكن لم يسق المتن بل أحال به على رواية زائدة، وهو معترض لأن بينهما مخالفة سيأتي بيانها. ووصلها أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة والدار قطني من طريق أبي خالد. قوله: "وقال يحيى" أي ابن سعيد "وأبو معاوية عن الأعمش الخ" وافقا زائدة على أن شيخ مسلم البطين فيه سعيد بن جبير، وكذلك رواه شعبة وعبد الله بن نمير وعبثر بن القاسم وعبيدة بن حميد وآخرون عن الأعمش وطرقهم عند النسائي وأحمد وغيرهما. قوله: "وقال عبيد الله بن عمرو" أي الرقي "عن زيد بن أبي أنيسة الخ" هذا يخالف رواية عبد الرحمن ابن مغراء من حيث أن شيخ الحكم فيها عطاء وفي

(4/195)


هذه شيخه سعيد، ويحتمل أن يكون سمعه من كل منهما، وطريق عبيد الله هذه وصلها مسلم أيضا. قوله: "وقال أبو حريز" بالمهملة والراء والزاي، وهو عبد الله بن الحسين قاضي سجستان، وطريقه هذه وصلها ابن خزيمة والحسن بن سفيان ومن جهته البيهقي.

(4/196)


43 - باب مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ؟ وَأَفْطَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ حِينَ غَابَ قُرْصُ الشَّمْسِ
1954- حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ"
1955- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ لِبَعْضِ الْقَوْمِ يَا فُلاَنُ قُمْ فَاجْدَحْ لَنَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَوْ أَمْسَيْتَ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا قَالَ إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُمْ فَشَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ"
قوله: "باب متى يحل فطر الصائم" غرض هذه الترجمة الإشارة إلى أنه هل يجب إمساك جزء من الليل لتحقق مضى النهار أم لا؟ وظاهر صنيعه يقتضي ترجيح الثاني لذكره لأثر أبي سعيد في الترجمة، لكن محله إذا ما حصل تحقق غروب الشمس. قوله: "وأفطر أبو سعيد الخدري حين غاب قرص الشمس" وصله سعيد بن منصور وأبو بكر ابن أبي شيبة من طريق عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: "دخلنا على أبي سعيد فأفطر ونحن نرى أن الشمس لم تغرب" ووجه الدلالة منه أن أبا سعيد لما تحقق غروب الشمس لم يطلب مزيدا على ذلك ولا التفت إلى موافقة من عنده على ذلك، فلو كان يجب عنده إمساك جزء من الليل لاشترك الجميع في معرفة ذلك والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين.قوله: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة، والإسناد كله حجازيون: الحميدي وسفيان مكيان، والباقون مدنيون. وفيه رواية الأبناء عن الآباء، ورواية تابعي صغير عن تابعي كبير هشام عن أبيه، وصحابي صغير عن صحابي كبير عاصم عن أبيه، وكان مولد عاصم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن لم يسمع منه شيئا. قوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام "قال لي". قوله: "إذا أقبل الليل من هاهنا" أي من جهة المشرق كما في الحديث الذي يليه، والمراد به وجود الظلمة حسا، وذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور، لأنها وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة، فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقة بل لوجود أمر يغطي ضوء الشمس وكذلك إدبار النهار فمن ثم قيد بقوله: "وغربت الشمس" إشارة إلى اشتراط تحقق الإقبال والإدبار، وأنهما بواسطة غروب الشمس لا بسبب آخر، ولم يذكر ذلك في الحديث الثاني فيحتمل أن ينزل على حالين: أما حيث ذكرها ففي حال الغيم مثلا وأما حيث لم يذكرها ففي

(4/196)


حال الصحو، ويحتمل أن يكونا في حالة واحدة وحفظ أحد الراويين ما لم يحفظ الآخر، وإنما ذكر الإقبال والإدبار معا لإمكان وجود أحدهما مع عدم تحقق الغروب قاله القاضي عياض. وقال شيخنا في "شرح الترمذي" : الظاهر الاكتفاء بأحد الثلاثة لأنه يعرف انقضاء النهار بأحدهما، ويؤيده الاقتصار في رواية ابن أبي أوفى على إقبال الليل قوله: "فقد أفطر الصائم" أي دخل في وقت الفطر كما يقال أنجد إذا أقام بنجد وأتهم إذا أقام بتهامة. ويحتمل أن يكون معناه فقد صار مفطرا في الحكم لكون الليل ليس طرفا للصيام الشرعي، وقد رد ابن خزيمة هذا الاحتمال وأومأ إلى ترجيح الأول فقال: قوله: "فقد أفطر الصائم" لفظ خبر ومعناه الأمر أي فليفطر الصائم، ولو كان المراد فقد صار مفطرا كان فطر جمع الصوام واحدا ولم يكن للترغيب في تعجيل الإفطار معنى ا ه. وقد يجاب بأن المراد فعل الإفطار حسا ليوافق الأمر الشرعي، ولا شك أن الأول أرجح، ولو كان الثاني معتمدا لكان من حلف أن لا يفطر فصام فدخل الليل حنث بمجرد دخوله ولو لم يتناول شيئا، ويمكن الانفصال عن ذلك بأن الأيمان مبنية على العرف، وبذلك أفتى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في مثل هذه الواقعة بعينها، ومثل هذا لو قال إن أفطرت فأنت طالق فصادف يوم العيد لم تطلق حتى يتناول ما يفطر به، وقد ارتكب بعضهم الشطط فقال يحنث، ويرجح الأول أيضا رواية شعبة أيضا بلفظ: "فقد حل الإفطار" وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق الثوري عن الشيباني، وسيأتي لذلك مزيد بيان في "باب الوصال" بعد ثلاثة أبواب. قوله: "حدثنا خالد" هو ابن عبد الله الواسطي والشيباني هو أبو إسحاق. قوله: "عن عبد الله بن أبي أوفى" سيأتي الباب الذي يليه من وجه آخر عن أبي إسحاق "سمعت ابن أبي أوفى". قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر" هذا السفر يشبه أن يكون سفر غزوة الفتح، ويؤيده رواية هشميم عن الشيباني عند مسلم بلفظ: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في شهر رمضان" وقد تقدم أن سفره في رمضان منحصر في غزوة بدر وغزوة الفتح، فإن ثبت فلم يشهد ابن أبي أوفى بدرا فتعينت غزوة الفتح. قوله: "فلما غابت الشمس" في رواية الباب الذي يليه "فلما غربت الشمس" وهي تفيد معنى أزيد من معنى غابت. قوله: "قال لبعض القوم يا فلان" في رواية شعبة عن الشيباني عند أحمد "فدعا صاحب شرابه بشراب فقال لو أمسيت" وسأذكر من سماه في الباب الذي يليه. قوله: "فاجدح" بالجيم ثم الحاء المهملة، والجدح تحريك السويق ونحوه بالماء بعود يقال له المجدح مجنح الرأس، وزعم الداودي أن معنى قوله اجدح لي أي احلب، وغلطوه في ذلك. قوله: "إن عليك نهارا" يحتمل أن يكون المذكور كان يرى كثرة الضوء من شدة الصحو فيظن أن الشمس لم تغرب ويقول لعلها غطاها شيء من جبل ونحوه، أو كان هناك غيم فلم يتحقق غروب الشمس، وأما قول الراوي "وغربت الشمس" فإخبار منه بما في نفس الأمر وإلا فلو تحقق الصحابي أن الشمس غربت ما توقف لأنه حينئذ يكون معاندا، وإنما توقف احتياطا واستكشافا عن حكم المسألة، قال الزين بن المنير: يؤخذ من هذا جواز الاستفسار عن الظواهر لاحتمال أن لا يكون المراد إمرارها على ظاهرها، وكأنه أخذ ذلك من تقريره صلى الله عليه وسلم الصحابي على ترك المبادرة إلى الامتثال. وفي الحديث أيضا استحباب تعجيل الفطر، وأنه لا يجب إمساك جزء من الليل مطلقا، بل متى تحقق غروب الشمس حل الفطر. وفيه تذكر العالم بما يخشى أن يكون نسيه وترك المراجعة له بعد ثلاث. وقد اختلفت الروايات عن الشيباني في ذلك فأكثر ما وقع فيها أن المراجعة وقع ثلاثا وفي بعضها مرتين وفي بعضها مرة

(4/197)


واحدة، وهو محمول على أن بعض الرواة اختصر القصة، ورواية خالد المذكورة في هذا الباب أتمهم سياقا وهو حافظ فزيادته مقبولة، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يراجع بعد ثلاث، وهو عند أحمد من حديث عبد الله ابن أبي حدرد في حديث أوله "كان ليهودي عليه دين". وفي حديثي الباب من الفوائد بيان وقت الصوم وأن الغروب متى تحقق كفي، وفيه إيماء إلى الزجر عن متابعة أهل الكتاب فإنهم يؤخرون الفطر عن الغروب. وفيه أن الأمر الشرعي أبلغ من الحسي، وأن العقل لا يقضي على الشرع. وفيه البيان بذكر اللازم والملزوم جميعا لزيادة الإيضاح.

(4/198)


باب يفطر بما تيسر بالماء و غيرة
...
44 - باب يُفْطِرُ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ الْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ
1956-حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ سُلَيْمَانُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا فَنَزَلَ فَجَدَحَ ثُمَّ قَالَ إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ"
قوله: "باب يفطر بما تيسر من الماء أو غيره" أي سواء كان وحده أو مخلوطا. وفي رواية أبي ذر عن غير الكشميهني: "بالماء" وذكر فيه حديث ابن أبي أوفى وهو ظاهر فيما ترجم له، ولعله أشار إلى أن الأمر في قوله: "من وجد تمرا فليفطر عليه ومن لا فليفطر على الماء" ليس على الوجوب، وهو حديث أخرجه الحاكم من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس مرفوعا وصححه الترمذي وابن حبان من حديث سلمان بن عامر، وقد شذ ابن حزم فأوجب الفطر على التمر وإلا فعلى الماء. قوله: "سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم فلما غربت الشمس قال: انزل فاجدح لنا" لم يسم المأمور بذلك، وقد أخرجه أبو داود عن مسدد شيخ البخاري فيه فسماه ولفظه: "فقال يا بلال انزل الخ" وأخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عن عبد الواحد وهو ابن زياد شيخ مسدد فيه فاتفقت رواياتهم على قوله: "يا فلان" فلعلها تصحفت، ولعل هذا هو السر في حذف البخاري لها، وقد سبق الحديث في الباب الذي قبله من رواية خالد من الشيباني بلفظ: "يا فلان" وذكرنا أن في حديث عمر عند ابن خزيمة: "قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل الخ" فيحتمل أن يكون المخاطب بذلك عمر فإن الحديث واحد، فلما كان عمر هو المقول له "إذا أقبل الليل الخ" احتمل أن يكون هو المقول له أولا "اجدح" لكن يؤيد كونه بلالا قوله في رواية شعبة المذكورة قبل "فدعا صاحب شرابه" فإن بلالا هو المعروف بخدمة النبي صلى الله عليه وسلم.

(4/198)


45 - باب تَعْجِيلِ الإِفْطَارِ
1957-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ"
1958- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ

(4/198)


46 - باب إِذَا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ
1959- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ قِيلَ لِهِشَامٍ فَأُمِرُوا بِالْقَضَاءِ قَالَ لاَ بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ وَقَالَ مَعْمَرٌ سَمِعْتُ هِشَامًا لاَ أَدْرِي أَقَضَوْا أَمْ لاَ
قوله: "باب إذا أفطر في رمضان" أي ظانا غروب الشمس "ثم طلعت الشمس" أي هل يجب عليه قضاء ذلك

(4/199)


اليوم أو لا. وهي مسألة خلافية، واختلف قول عمر فيها كما سيأتي، والمراد بالطلوع الظهور، وكأنه راعي لفظ الخبر في ذلك. وأيضا فإنه يشعر بأن قرص الشمس كله ظهر مرتفعا، ولو عبر ظهرت لم يفد ذلك. الحديث: قوله: "عن هشام بن عروة" في رواية أبي داود من وجه آخر عن أبي أسامة "حدثنا هشام بن عروة". قوله: "عن فاطمة" زاد أبو داود "بنت المنذر" وهي ابنة عم هشام وزوجته، وأسماء جدتهما جميعا. قوله: "يوم غيم" كذا للأكثر فيه بنصب يوم على الظرفية. وفي رواية أبي داود وابن خزيمة: "في يوم غيم". قوله: "قيل لهشام" في رواية أبي داود "قال أبو أسامة قلت لهشام "وكذا أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه وأحمد في مسنده عن أبي أسامة. قوله: "بد من قضاء" هو استفهام إنكار محذوف الأداة والمعنى لا بد من قضاء، ووقع في رواية أبي ذر "لا بد من القضاء". قوله: "وقال معمر سمعت هشاما يقول لا أدري أقضوا أم لا" هذا التعليق وصله عبد بن حميد قال: "أخبرنا معمر سمعت هشام بن عروة" فذكر الحديث وفي آخره: "فقال إنسان لهشام أقضوا أم لا" ؟ فقال: "لا أدري" وظاهر هذه الرواية تعارض التي قبلها، لكن يجمع بأن جزمه بالقضاء محمول على أنه استند فيه إلى دليل آخر، وأما حديث أسماء فلا يحفظ فيه إثبات القضاء ولا نفيه، وقد اختلف في هذه المسألة فذهب الجمهور إلى إيجاب القضاء، واختلف عن عمر فروى ابن أبي شيبة وغيره من طريق زيد بن وهب عنه ترك القضاء، ولفظ معمر عن الأعمش عن زيد "فقال عمر: لم نقض والله ما يجانفنا الإثم" وروى مالك من وجه آخر عن عمر أنه قال لما أفطر ثم طلعت الشمس "الخطب يسير وقد اجتهدنا" وزاد عبد الرزاق في روايته من هذا الوجه "نقضي يوما" وله من طريق علي بن حنظلة عن أبيه نحوه، ورواه سعيد بن منصور وفيه: "فقال من أفطر منكم فليصم يوما مكانه" وروى سعيد بن منصور من طريق أخرى عن عمر نحوه. وجاء ترك القضاء عن مجاهد والحسن وبه قال إسحاق وأحمد في رواية واختاره ابن خزيمة فقال قول هشام لا بد من القضاء لم يسنده ولم يتبين عندي أن عليهم قضاء، ويرجح الأول أنه لو غم هلال رمضان فأصبحوا مفطرين ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق فكذلك هذا. وقال ابن التين: لم يوجب مالك القضاء إذا كان في صوم نذر، قال ابن المنير في الحاشية: في هذا الحديث أن المكلفين إنما خوطبوا بالظاهر، فإذا اجتهدوا فأخطئوا فلا حرج عليهم في ذلك.

(4/200)


47 - باب صَوْمِ الصِّبْيَانِ
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِنَشْوَانٍ فِي رَمَضَانَ وَيْلَكَ وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ فَضَرَبَهُ
1960- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ قَالَتْ فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ"
قوله: "باب صوم الصبيان" أي هل يشرع أم لا؟ والجمهور على أنه لا يجب على من دون البلوغ، واستحب جماعة من السلف منهم ابن سيرين والزهري وقال به الشافعي أنهم يؤمرون به للتمرين عليه إذا أطاقوه، وحده أصحابه بالسبع والعشر كالصلاة، وحده إسحاق باثنتي عشرة سنة، وأحمد في رواية بعشر سنين. وقال الأوزاعي:

(4/200)


إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعا لا يضعف فيهن حمل على الصوم، والأول قول الجمهور، والمشهور عن المالكية أنه لا يشرع في حق الصبيان، ولقد تلطف المصنف في التعقب عليهم بإيراد أثر عمر في صدر الترجمة لأن أقصى ما يعتمدونه في معارضة الأحاديث دعوى عمل أهل المدينة على خلافها ولا عمل يستند إليه أقوى من العمل في عهد عمر مع شدة تحريه ووفور الصحابة في زمانه، وقد قال للذي أفطر في رمضان موبخا له "كيف تفطر وصبياننا صيام"، وأغرب ابن الماجشون من المالكية فقال: إذا أطاق الصبيان الصيام ألزموه. فإن أفطروا لغير عذر فعليهم القضاء. قوله: "وقال عمر لنشوان الخ" أي لإنسان نشوان، وهو بفتح النون وسكون المعجمة كسكران وزنا ومعنى وجمعه نشاوى كسكارى، قال ابن خالويه: سكر الرجل وانتشى وثمل ونزف بمعنى. وقال صاحب "المحكم" : نشى الرجل وانتشى وتنشى كله سكر، ووقع عند ابن التين النشوان السكران سكرا خفيفا. وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور والبغوي في "الجعديات" من طريق عبد الله بن الهذيل "أن عمر بن الخطاب أتى برجل شرب الخمر في رمضان؛ فلما دنا منه جعل يقول: للمنخرين والفم" وفي رواية البغوي "فلما رفع إليه عثر فقال عمر: على وجهك ويحك، وصبياننا صيام. ثم أمر به فضرب ثمانين سوطا، ثم سيره إلى الشام" وفي رواية البغوي "فضربه الخ، وكان إذا غضب على إنسان سيره إلى الشام، فسيره إلى الشام". قوله: "عن خالد بن ذكوان" هو أبو الحسين المدني نزيل البصرة، وهو تابعي صغير "وليس له من الصحابة سماع من سوى الربيع بنت معوذ وهي من صغار الصحابة، ولم يخرج البخاري من حديثه عن غيرها. قوله: "عن الربيع" في رواية مسلم من وجه آخر عن خالد "سألت الربيع" وهي بتشديد الياء مصغرا وأبوها بكسر الواو والتشديد بوزن معلم، وهو ابن عوف ويعرف بابن عفراء، يأتي ذكره في وقعة بدر من المغازي إن شاء الله تعالى. قوله: "أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار" زاد مسلم: "التي حول المدينة" وقد تقدم تسمية الرسول بذلك في "باب إذا نوى بالنهار صوما". قوله: "صبياننا" زاد مسلم: "الصغار ونذهب بهم إلى المسجد". قوله: "من العهن" أي الصوف، وقد فسره المصنف في رواية المستملي في آخر الحديث، وقيل العهن الصوف المصبوغ. قوله: "أعطيناه فلك حتى يكون عند الإفطار" هكذا رواه ابن خزيمة وابن حبان، ووقع في رواية مسلم: "أعطيناه إياه عند الإفطار" وهو مشكل، ورواية البخاري توضح أنه سقط منه شيء، وقد رواه مسلم من وجه آخر عن خالد بن ذكوان فقال فيه: "فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم" وهو يوضح صحة رواية البخاري. ووقع لمسلم شك في تقييده الصبيان بالصغار، وهو ثابت في "صحيح ابن خزيم" وغيره، وتقييده بالصغار لا يخرج الكبار بل يدخلهم من باب الأولى، وأبلغ من ذلك ما جاء في حديث رزينة بفتح الراء وكسر الزاي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر مرضعاته في عاشوراء ورضعاء فاطمة فيتفل في أفواههم، ويأمر أمهاتهم أن لا يرضعن إلى الليل" أخرجه ابن خزيمة وتوقف في صحته، وإسناده لا بأس به، واستدل بهذا الحديث على أن عاشوراء كان فرضا قبل أن يفرض رمضان، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أول كتاب الصيام، وسيأتي الكلام على صيام عاشوراء بعد عشرين بابا، وفي الحديث حجة على مشروعية تمرين الصبيان على الصيام كما تقدم لأن من كان في مثل السن الذي ذكر في هذا الحديث فهو غير مكلف، وإنما صنع لهم ذلك للتمرين، وأغرب القرطبي فقال: لعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بذلك، ويبعد أن يكون أمر بذلك لأنه تعذيب صغير بعبادة غير متكررة في السنة، وما قدمناه من حديث رزينة يرد عليه، مع أن الصحيح عند أهل الحديث وأهل الأصول أن الصحابي إذا قال فعلنا كذا في عهد

(4/201)


رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حكمه الرفع لأن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتقريرهم عليه مع توفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام، مع أن هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه فما فعلوه إلا بتوقيف، والله أعلم.

(4/202)


48 - باب الْوِصَالِ وَمَنْ قَالَ لَيْسَ فِي اللَّيْلِ صِيَامٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }
وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ رَحْمَةً لَهُمْ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ التَّعَمُّقِ
1961- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُوَاصِلُوا قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى أَوْ إِنِّي أَبِيتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى"
[الحديث 1961- طرفه في : 7241]
1962- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى"
1963- حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث حدثني بن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ثم لا تواصلوا فأيكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر قالوا فإنك تواصل يا رسول الله قال إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقين"
1964- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدٌ قَالاَ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ فَقَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ لَمْ يَذْكُرْ عُثْمَانُ رَحْمَةً لَهُمْ"
قوله: "باب الوصال" هو الترك في ليالي الصيام لما يفطر بالنهار بالقصد، فيخرج من أمسك اتفاقا. ويدخل من أمسك جميع الليل أو بعضه، ولم يجزم المصنف بحكمه لشهرة الاختلاف فيه. قوله: "ومن قال ليس في الليل صيام لقوله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} كأنه يشير إلى حديث أبي سعيد الخير، وهو حديث ذكره الترمذي في "الجامع" ووصله في "العلل المفرد" وأخرجه ابن السكن وغيره في "الصحابة" والدولابي وغيره في "الكنى" كلهم من طريق أبي فروة الرهاوي عن معقل الكندي عن عبادة بن نسي عنه ولفظ المتن مرفوعا: "إن الله لم يكتب الصيام بالليل، فمن صام فقد تعني، ولا أجر له "قال ابن منده: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال الترمذي: سألت البخاري عنه فقال: ما أرى عبادة سمع من أبي سعيد الخير، وفي المعنى حديث بشير بن الخصاصية وقد أخرجه أحمد والطبراني وسعيد ابن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم في تفسيرهما بإسناد صحيح إلى ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: "أردت أن أصوم يومين مواصلة فمعنى بشير وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا وقال:

(4/202)


يفعل ذلك النصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى، أتموا الصيام إلى الليل فإذا كان الليل فأفطروا" لفظ ابن أبي حاتم، وروى هو وابن أبي شيبة من طريق أبي العالية التابعي أنه سئل عن الوصال في الصيام فقال: قال الله تعالى: { ُثمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فإذا جاء الليل فهو مفطر. وروى الطبراني في الأوسط من طريق علي بن أبي طلحة عن عبد الملك عن أبي ذر رفعه قال: "لا صيام بعد الليل" أي بعد دخول الليل ذكره في أثناء حديث، وعبد الملك ما عرفته فلا يصح، وإن كان بقية رجاله ثقات ومعارضه أصح منه كما سأذكره، ولو صحت هذه الأحاديث لم يكن للوصال معنى أصلا ولا كان في فعله قربة، وهذا خلاف ما تقتضيه الأحاديث الصحيحة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان الراجح أنه من خصائصه. قوله: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم" أي أصحابه "عنه" أي عن الوصال "رحمة ثم وإبقاء عليهم"، وهذا الحديث قد وصله المصنف في آخر الباب من حديث عائشة بلفظ: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم" وأما قوله: "وإبقاء عليهم" فكأنه أشار إلى ما أخرجه أبو داود وغيره من طريق عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن رجل من الصحابة قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه" وإسناده صحيح كما تقدم التنبيه عليه في "باب الحجامة للصائم" وهو يعارض حديث أبي ذر المذكور قبل. قوله: "وما يكره من التعمق" هذا من كلام المصنف معطوف على قوله: "الوصال" أي باب ذكر الوصال وذكر ما يكره من التعمق، والتعمق المبالغة في تكلف ما لم يكلف به، وعمق الوادي قعره، كأنه يشير إلى ما أخرجه في كتاب التمني من طريق ثابت عن أنس في قصة الوصال فقال صلى الله عليه وسلم: "لو مد بي الشهر لواصلت، وصالا يدع المتعمقون تعمقهم" وسيأتي في الباب الذي بعده في آخر حديث أبي هريرة "اكلفوا من العمل ما تطيقون". ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: أحدها حديث أنس من طريق قتادة عنه، ويحيى المذكور في الإسناد هو القطان. قوله: "لا تواصلوا" في رواية ابن خزيمة من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم عن شعبة بهذا الإسناد "إياكم والوصال" ولأحمد من طريق همام عن قتادة "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال". قوله: "قالوا إنك تواصل" كذا في أكثر الأحاديث. وفي رواية أبي هريرة الآتية في أول الباب الذي يليه "فقال رجل من المسلمين" وكأن القاتل واحد ونسب القول إلى الجميع لرضاهم به، ولم أقف على، تسمية القائل في شيء من الطرق. قوله: "لست كأحد منكم" في رواية الكشميهني: "كأحدكم" وفي حديث ابن عمر "لست مثلكم" وفي حديث أبي سعيد "لست كهيئتكم" وفي حديث أبي زرعة عن أبي هريرة عند مسلم: "لست في ذلك مثلي" ونحوه في مرسل الحسن عند سعيد بن منصور، وفي حديث أبي هريرة في الباب بعده وأيكم مثلي" وهذا الاستفهام يفيد التوبيخ المشعر بالاستبعاد، وقوله: "مثلي" أي على صفتي أو منزلتي من ربي. قوله: "إني أطعم وأسقى، أو إني أبيت أطعم وأسقى" هذا الشك من شعبة، وقد رواه أحمد عن بهز عنه بلفظ: "إني أظل - أو قال - إني أبيت" وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلفظ: "إن ربي يطعمني ويسقيني" أخرجه الترمذي، وقد رواه ثابتا عن أنس كما سيأتي في "باب التمني" بلفظ: "إني أظل يطعمني ربى ويسقيني" وبين في روايته سبب الحديث وهو أنه صلى الله عليه وسلم واصل في آخر الشهر فواصل ناس من أصحابه، فبلغه ذلك. وسيأتي نحوه في الكلام على حديث ابن عمر. ثاني الأحاديث حديث ابن عمر، أخرجه من طريق مالك عن نافع عنه. قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال" تقدم في "باب بركة السحور من غير إيجاب" من طريق جويرية عن نافع ذكر السبب أيضا ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل فواصل الناس، فشق عليهم، فنهاهم" وكذا رواه أبو قرة عن موسى بن عقبة عن نافع؛ وأخرجه

(4/203)


مسلم من طريق ابن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع مثله وزاد: "في رمضان" لكن لم يقل فشق عليهم. قوله: "إني أطعم وأسقى" في رواية جويرية المذكورة "إني أظل أطعم وأسقى". ثالثها حديث أبي سعيد وسيأتي بعد باب، وفيه: "فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر". رابعها حديث عائشة. قوله فيه "عبدة" هو ابن سليمان. قوله: "رحمة لهم" فيه إشارة إلى بيان السبب أيضا، ويؤيد ذلك ذكر المشقة في الرواية التي قبلها. قوله: "قال أبو عبد الله" هو المصنف "لم يذكر عثمان" أي ابن أبي شيبة شيخه في الحديث المذكور قوله: "رحمة لهم" فدل على أنها من رواية محمد بن سلام وحده، قد أخرجه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعثمان ابن أبي شيبة جميعا وفيه: "رحمة لهم" ولم يبين أنها ليست في رواية عثمان. وقد أخرجه أبو يعلى والحسن ابن سفيان في مسنديهما عن عثمان وليس فيه: "رحمة لهم" وأخرجه الإسماعيلي عنهما كذلك، وأخرجه الجوزقي من طريق محمد بن حاتم عن عثمان وفيه: "رحمة لهم" فيحتمل أن يكون عثمان كان تارة يذكرها وتارة يحذفها، وقد رواها الإسماعيلي عن جعفر الفريابي عن عثمان فجعل ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: "قالوا إنك تواصل، قال: إنما هي رحمة الله بها إني لست كهيئتكم" الحديث. واستدل بمجموع هذه الأحاديث على أن الوصال من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وعلى أن غيره ممنوع منه إلا ما وقع فيه الترخيص من الإذن فيه إلى السحر، ثم اختلف في المنع المذكور: فقيل على سبيل التحديم وقيل على سبيل الكراهة، وقيل يحرم على من شق عليه ويباح لمن لم يشق عليه، وقد اختلف السلف في ذلك فنقل التفصيل عن عبد الله بن الزبير، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوما، وذهب إليه من الصحابة أيضا أخت أبي سعيد ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي نعم وعامر بن عبد الله بن الزبير وإبراهيم بن زيد التيمي وأبو الجوزاء كما نقله أبو نعيم في ترجمته في "الحلية" وغيرهم رواه الطبري وغيره، ومن حجتهم ما سيأتي في الباب بعده أنه صلى الله عليه وسلم واصل بأصحابه بعد النهي فلو كان النهي للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرحت به عائشة في حديثها، وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم ولم ينكر على من بلغه أنه فعله ممن لم يشق عليه، وسيأتي نظير ذلك في صيام الدهر، فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال. وذهب الأكثرون إلى تحريم الوصال، وعن الشافعية في ذلك وجهان: التحريم والكراهة، هكذا اقتصر عليه النووي، وقد نص الشافعي في "الأم" على أنه محظور، وأغرب القرطبي فنقل التحريم عن بعض أهل الظاهر على شك منه في ذلك، ولا معنى لشكه فقد صرح ابن حزم بتحريمه وصححه ابن العربي من المالكية، وذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد المذكور، وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره إلا أنه في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه يؤخره لأن الصائم له في اليوم والليلة أكلة فإذا أكلها السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يشق على الصائم وإلا فلا يكون قربة، وانفصل أكثر الشافعية عن ذلك بأن الإمساك إلى السحر ليس وصالا بل الوصال أن يمسك في الليل جميعه كما يمسك في النهار، وإنما أطلق على الإمساك إلى السحر وصالا لمشابهته الوصال في الصورة، ويحتاج إلى ثبوت الدعوى بأن الوصال إنما هو حقيقة في إسماك جميع الليل، وقد ورد "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من سحر إلى سحر" أخرجه أحمد وعبد الرزاق من حديث علي، والطبراني من حديث جابر، وأخرجه سعيد بن منصور مرسلا من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه ومن طريق أبي

(4/204)


قلابة، وأخرجه عبد الرزاق من طريق عطاء، واحتجوا للتحريم بقوله في الحديث المتقدم "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم" إذ لم يجعل الليل محلا لسوى الفطر فالصوم فيه مخالفة لوضعه كيوم الفطر، وأجابوا أيضا بأن قوله: "رحمة لهم" لا يمنع التحريم فإن من رحمته لهم أن حرمه عليهم، وأما مواصلته بهم بعد نهيه فلم يكن تقريرا بل تقريعا وتنكيلا، فاحتمل منهم ذلك لأجل مصلحة النهي في أكيد زجرهم، لأنهم إذا باشروا ظهرت لهم حكمة النهي وكان ذلك أدعى إلى قلوبهم لما يترتب عليهم من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك، والجوع الشديد ينافي ذلك، وقد صرح بأن الوصال يختص به لقوله: "لست في ذلك مثلكم" وقوله: "لست كهيئتكم" هذا مع ما انضم إلى ذلك من استحباب تعجيل الفطر كما تقدم في بابه. قلت: ويدل على أنه ليس بمحرم حديث أبي داود الذي قدمت التنبيه عليه في أوائل الباب، فإن الصحابي صرح فيه بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرم الوصال، وروى البزار والطبراني من حديث سمرة "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال، وليس بالعزيمة" وأما ما رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث أبي ذر "أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد قبل وصالك ولا يحل لأحد بعدك" فليس إسناده بصحيح فلا حجة فيه، ومن أدلة الجواز إقدام الصحابة على الوصال بعد النهي فدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لما أقدموا عليه، ويؤيد أنه ليس بمحرم أيضا أنه صلى الله عليه وسلم في حديث بشير بن الخصاصية الذي ذكرته في أول الباب سوى في علة النهي بين الوصال وبين تأخير الفطر حيث قال في كل منهما إنه فعل أهل الكتاب، ولم يقل أحد بتحريم تأخير الفطر سوى بعض من لا يعتد به من أهل الظاهر، ومن حيث المعنى ما فيه من فطم النفس وشهواتها وقمعها عن ملذوذاتها فلهذا استمر على القول بجوازه مطلقا أو مقيدا من تقدم ذكره والله أعلم. وفي أحاديث الباب من الفوائد استواء المكلفين في الأحكام، وأن كل حكم ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق أمته إلا ما استثنى بدليل، وفيه جواز معارضة المفتي فيما أفتى به إذا كان بخلاف حاله ولم يعلم المستفتي بسر المخالفة، وفيه الاستكشاف عن حكمة النهي، وفيه ثبوت خصائصه صلى الله عليه وسلم وأن عموم قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} مخصوص، وفيه أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته ويبادرون إلى الائتساء به إلا فيما نهاهم عنه، وفيه أن خصائصه لا يتأسى به في جميعها، وقد توقف في ذلك إمام الحرمين. وقال أبو شامة ليس لأحد التشبه به في المباح كالزيادة على أربع نسوة، ويستحب التنزه عن المحرم عليه والتشبه به في الواجب عليه كالضحى، وأما المستحب فلم يتعرض له، والوصال منه فيحتمل أن يقال إن لم ينه عنه لم يمنع الائتساء به فيه والله أعلم. وفيه بيان قدرة الله تعالى على إيجاد المسببات العاديات من غير سبب ظاهر كما سيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده.

(4/205)


49 - باب التَّنْكِيلِ لِمَنْ أَكْثَرَ الْوِصَالَ. رَوَاهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1965- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَأَيُّكُمْ مِثْلِي إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ

(4/205)


وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلاَلَ فَقَالَ لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ كَالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا
[الحديث 1965- أطرافه في: 1966، 6851، 7242، 7299]
1966- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ مَرَّتَيْنِ قِيلَ إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ فَاكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ "
قوله: "باب التنكيل لمن أكثر الوصال" التقييد بأكثر قد يفهم منه أن من قل منه لا نكال عليه، لأن التقليل منه مظنة لعدم المشقة، لكن لا يلزم من عدم التنكيل ثبوت الجواز. قوله: "رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم" وصله في كتاب التمني من طريق حميد عن ثابت عنه كما تقدمت الإشارة إليه في الباب الذي قبله. قوله: "أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن" هكذا رواه شعيب عن الزهري، وتابعه عقيل عن الزهري كما سيأتي في "باب التعزير"، ومعمر كما سيأتي في كتاب التمني، ويونس عند مسلم وآخرون. وخالفهم عبد الرحمن بن خالد بن مسافر فرواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة علقه المصنف في المحاربين وفي التمني، وليس اختلافا ضارا فقد أخرجه الدار قطني في "العلل" من طريق عبد الرحمن بن خالد هذا عن الزهري عنهما جميعا، وكذلك رواه عبد الرحمن بن نمر عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة جميعا عن أبي هريرة، وأخرجه الإسماعيلي، وكذا ذكر الدار قطني أن الزبيدي تابع ابن نمير على الجمع بينهما. قوله: "فقال له رجل" كذا للأكثر. وفي رواية عقيل المذكورة "فقال له رجال". قوله: "عن الوصال" في رواية الكشميهني: "من الوصال". قوله: "واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال" ظاهره أن قدر المواصلة بهم كانت يومين وقد صرح بذلك في رواية معمر المشار إليها. قوله: "لو تأخر" أي الشهر "لزدتكم" استدل به على جواز قول "لو" وحمل النهي الوارد في ذلك على ما لا يتعلق بالأمور الشرعية كما سيأتي بيانه في كتاب التمني في أواخر الكتاب إن شاء الله تعالى. والمراد بقوله: "لو تأخر لزدتكم" أي في الوصال إلى أن تعجزوا عنه فتسألوا التخفيف عنكم بتركه، وهذا كما أشار عليهم أن يرجعوا من حصار الطائف فلم يعجبهم، فأمرهم بمباكرة القتال من الغد فأصابتهم جراح وشدة وأحبوا الرجوع فأصبح راجعا بهم فأعجبهم ذلك، وسيأتي ذكره موضحا في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى. قوله: "كالتنكيل لهم" في رواية معمر "كالمنكل لهم" ووقع فيها عند المستملي: "كالمنكر" بالراء وسكون النون من الإنكار، وللحموي "كالمنكي" بتحتانية ساكنة قبلها كاف مكسورة خفيفة من النكاية، والأول هو الذي تضافرت به الروايات خارج هذا الكتاب، والتنكيل المعاقبة. قوله: "حدثنا يحيى" كذا للأكثر غير منسوب، ولأبي ذر "حدثنا يحيى بن موسى". قوله: "إياكم والوصال مرتين" في رواية أحمد عن عبد الرزاق بهذا الإسناد "إياكم والوصال، إياكم والوصال" فدل على أن قوله مرتين اختصار من البخاري أو شيخه، وأخرجه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة كما قال أحمد، ورواه ابن أبي شيبة من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة بلفظ: "إياكم والوصال ثلاث مرات" وإسناده صحيح، وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه بدون قوله: "ثلاث مرات" قوله: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقين" كذا في الطريقين عن أبي هريرة في هذا الباب وقد تقدم في الباب الذي قبله من رواية في حديث أنس بلفظ: "أظل" وكذا في حديث عائشة عند الإسماعيلي، وهي

(4/206)


محمولة على مطلق الكون لا على حقيقة اللفظ لأن المتحدث عنه هو الإمساك ليلا لا نهارا؛ وأكثر الروايات إنما هي "أبيت" وكأن بعض الرواة عبر عنها بأظل نظرا إلى اشتراكهما في مطلق الكون، يقولون كثيرا أضحى فلان كذا مثلا ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى، ومعه قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} فإن المراد به مطلق الوقت ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل، وقد رواه أحمد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة كلهم عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: "إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني" وكذلك رواه أحمد أيضا عن ابن نمير، وأبو نعيم في "المستخرج" من طريق إبراهيم بن سعيد عن ابن نمير عن الأعمش، وأخرجه أبو عوانة عن علي بن حرب عن أبي معاوية كذلك، وأخرجه هو وابن خزيمة من طريق عبيدة بن حميد عن الأعمش كذلك، ووقع لمسلم فيه شيء غريب فإنه أخرجه عن ابن نمير عن أبيه فقال بمثل حديث عمارة عن أبي زرعة ولفظ عمارة المذكور عنده "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" وقد عرفت أن رواية ابن نمير عند أحمد فيها "عند ربي" وليس ذلك في شيء من الطرق عن أبي هريرة إلا في رواية أبي صالح، ولم ينفرد بها الأعمش فقد أخرجها أحمد أيضا من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح، ووقعت في حديث غير أبي هريرة، وأخرجها الإسماعيلي في حديث عائشة أيضا عن الحسن بن سفيان عن عثمان بن أبي شيبة بسنده الماضي في الباب الذي قبل هذا بلفظ: "أظل عند الله يطعمني ويسقيني"، وعن عمران بن موسى عن عثمان بلفظ: "عند ربي" ووقعت أيضا كذلك عند سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من مرسل الحسن بلفظ: "إني أبيت عند ربي" واختلف في معنى قوله: "يطعمني ويسقيني" فقيل هو على حقيقته وأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه، وتعقبه ابن بطال ومن تبعه بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا، وبأن قوله: "يظل" يدل على وقوع ذلك بالنهار فلو كان الأكل والشرب حقيقة لم يكن صائما، وأجيب بأن الراجح من الروايات لفظ: "أبيت" دون أظل، وعلى تقدير الثبوت فليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى له من حمل لفظ أظل على المجاز، وعلى التنزل فلا يضر شيء من ذلك لأن ما يؤتي به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام المكلفين فيه كما غسل صدره صلى الله عليه وسلم في طست الذهب، مع أن استعمال أواني الذهب الدنيوية حرام. وقال ابن المنير في الحاشية: الذي يفطر شرعا إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى، وليس تعاطيه من جنس الأعمال وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة في الجنة، والكرامة لا تبطل العبادة. وقال غيره: لا مانع من حمل الطعام والشراب على حقيقتهما، ولا يلزم شيء مما تقدم ذكره، بل الرواية الصحيحة "أبيت" وأكله وشربه في الليل مما يؤتي به من الجنة لا يقطع وصاله خصوصية له بذلك، فكأنه قال لما قيل له: إنك تواصل، فقال: إني لست في ذلك كهيئتكم أي على صفتكم في أن من أكل منكم أو شرب انقطع وصاله، بل إنما يطعمني ربي ويسقيني، ولا تنقطع بذلك مواصلتي، فطعامي وشرابي على غير طعامكم وشرابكم صورة ومعنى. وقال الزين بن المنير: هو محمول على أن أكله وشربه في تلك الحالة كحال النائم الذي يحصل له الشبع والري بالأكل والشرب ويستمر له ذلك حتى يستيقظ ولا يبطل بذلك صومه ولا ينقطع وصاله ولا ينقص أجره. وحاصله أنه يحمل ذلك على حالة استغراقه صلى الله عليه وسلم في أحواله الشريفة حتى لا يؤثر فيه حينئذ شيء من الأحوال البشرية. وقال الجمهور: قوله يطعمني ويسقيني مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة، فكأنه قال يعطيني قوة الآكل والشارب، ويفيض علي ما يسد مسد الطعام والشراب ويقوى

(4/207)


على أنواع الطاعة من غير ضعف في القوة ولا كلال في الإحساس، أو المعنى إن الله يخلق فيه من الشمع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب فلا يحس بجوع ولا عطش، والفرق بينه وبين الأول أنه على الأول يعطي القوة من غير شبع ولا ري مع الجوع والظمأ، وعلى الثاني يعطي القوة مع الشبع والري، ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم ويفوت المقصود من الصيام والوصال، لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها. قال القرطبي: ويبعده أيضا النظر إلى حاله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع ويربط على بطنه الحجارة من الجوع. قلت: وتمسك ابن حبان بظاهر الحال فاستدل بهذا الحديث على تضعيف الأحاديث الواردة بأنه صلى الله عليه وسلم كان يجوع ويشد الحجر على بطنه من الجوع، قال: لأن الله تعالى كان يطعم رسوله ويسقيه إذا واصل فكيف يتركه جائعا حتى يحتاج إلى شد الحجر على بطنه؟ ثم قال: وماذا يغني الحجر من الجوع؟ ثم ادعى أن ذلك تصحيف ممن رواه وإنما هي الحجز بالزاي جمع حجزة. وقد أكثر الناس من الرد عليه في جميع ذلك، وأبلغ ما يرد عليه به أنه أخرج في صحيحه من حديث ابن عباس قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فرأى أبا بكر وعمر فقال: ما أخرجكما؟ قالا: ما أخرجنا إلا الجوع، فقال: وأنا والذي نفسي بيده ما أخرجني إلا الجوع" الحديث. فهذا الحديث يرد ما تمسك به. وأما قوله وما يغني الحجر من الجوع؟ فجوابه أنه يقيم الصلب لأن البطن إذا خلا ربما ضعف صاحبه عن القيام لانثناء بطنه عليه، فإذا ربط عليه الحجر اشتد وقوى صاحبه على القيام، حتى قال بعض من وقع له ذلك: كنت أظن الرجلين يحملان البطن، فإذا البطن يحمل الرجلين. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "يطعمني ويسقيني" أي يشغلني بالتفكر في عظمته والتملي بمشاهدته والتغذي بمعارفه وقرة العين بمحبته والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب. وإلى هذا جنح ابن القيم وقال: قد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى ذوق وتجربة يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الجسماني ولا سيما الفرح المسرور بمطلوبه، الذي قرت عينه بمحبوبه. قوله: "اكلفوا" بسكون الكاف وضم اللام1 أي احملوا المشقة في ذلك، يقال كلفت بكذا إذا ولعت به، وحكى عياض أن بعضهم قاله بهمزة قطع كسر اللام قال: ولا يصح لغة. قوله: "بما تطيقون" في رواية أحمد "بما لكم به طاقة" وكذا لمسلم من طريق أبي الزناد عن الأعرج.
ـــــــ
1 في مختار الصحاح: كلف بكذا أي أولع به وبابه طرب

(4/208)


50 - باب الْوِصَالِ إِلَى السَّحَرِ
1967- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لاَ تُوَاصِلُوا فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ قَالُوا فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِ
قوله: "باب الوصال إلى السحر" أي جوازه، وقد تقدم أنه قول أحمد وطائفة من أصحاب الحديث، وتقدم توجيهه، وأن من الشافعية من قال إنه ليس بوصال حقيقة.
قوله: "حدثني ابن أبي حازم" هو عبد العزيز، وشيخه يزيد

(4/208)


هو ابن عبد الله بن الهاد شيخ الليث في الباب الذي قبله في هذا الحديث بعينه، وعبد الله بن خياب بمعجمة ومحدتين الأولى مثقلة مدني من موالي الأنصار لم أر له رواية إلا عن أبي سعيد الخدري، وقد أخرج له المصنف سبعة أحاديث هذا ثانيها، وتوقف الجوزقي في معرفة حاله، ووثقه أبو حاتم الرازي وغيره، وقد وافقه على رواية حديث الوصال عن أبي سعيد بشر بن حرب أخرجه عبد الرزاق من طريقه. "تنبيه": وقع عند ابن خزيمة في حديث أبي صالح عن أبي هريرة من طريق عبيدة بن حميد عن الأعمش عنه تقييد وصال النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إلى السحر، ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل إلى السحر، ففعل بعض أصحابه ذلك فنهاه، فقال: يا رسول الله إنك تفعل ذلك" الحديث. وظاهره يعارض حديث أبي سعيد هذا، فإن مقتضى حديث أبي صالح النهي عن الوصال إلى السحر وصريح حديث أبي سعيد الإذن بالوصال إلى السحر، والمحفوظ في حديث أبي صالح إطلاق النهي عن الوصال بغير تقييد بالسحر، ولذلك اتفق عليه جميع الرواة عن أبي هريرة، فرواية عبيدة بن حميد هذه شاذة، وقد خالفه أبو معاوية وهو أضبط أصحاب الأعمش فلم يذكر ذلك أخرجه أحمد وغيره عن أبي معاوية، وتابعه عبد الله بن نمير عن الأعمش كما تقدم، وعلى تقدير أن تكون رواية عبيدة بن حميد محفوظة فقد أشار ابن خزيمة إلى الجمع بينهما بأنه يحتمل أن يكون نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال أولا مطلقا سواء جميع الليل أو بعضه، وعلى هذا يحمل حديث أبي صالح، ثم خص النهي بجميع الليل فأباح الوصال إلى السحر، وعلى هذا يحمل حديث أبي سعيد، أو يحمل النهي في حديث أبي صالح على كراهة التنزيه، والنهي في حديث أبي سعيد على ما فوق السحر على كراهة التحريم. والله أعلم.

(4/209)


51 - باب مَنْ أَقْسَمَ عَلَى أَخِيهِ لِيُفْطِرَ فِي التَّطَوُّعِ وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَضَاءً إِذَا كَانَ أَوْفَقَ لَهُ
1968- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ قَالَتْ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ كُلْ قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ قَالَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ قَالَ نَمْ فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ قُمْ الْآنَ فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ سَلْمَانُ"
[الحديث 1968- طرفه في 6139]
قوله: "باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له" ذكر فيه حديث ابن أبي جحيفة في قصة أبي الدرداء وسلمان، فأما ذكر القسم فلم يقع في الطريق التي ساقها كما سأبينه، وأما القضاء فلم أقف عليه في شيء من طرقه إلا أن الأصل عدمه وقد أقره الشارع، ولو كان القضاء واجبا لبينه له مع حاجته إلى البيان، وكأنه يشير إلى حديث أبي سعيد قال: "صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما، فلما وضع قال رجل: أنا صائم، فقال رسول الله

(4/209)


صلى الله عليه وسلم: دعاك أخوك وتكلف لك، أفطر وصم مكانه إن شئت" رواه إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن ابن المنكدر عنه وإسناده حسن أخرجه البيهقي، وهو دال على عدم الإيجاب، وقوله: "إذا كان أوفق له" قد يفهم أنه يرى أن الجواز وعدم القضاء لمن كان معذورا بفطره لا من تعمده بغير سبب. "تنبيه": قوله: "أوفق له" يروى بالواو الساكنة، وبالراء بدل الواو، والمعنى صحيح فيهما. الحديث:قوله: "حدثنا أبو العميس" بمهملتين مصغر، اسمه عتبة؛ ولم أر هذا الحديث إلا من روايته عن عون بن أبي جحيفة، ولا رأيت له راويا عنه إلا جعفر بن عون، وإلى تفردهما بذلك أشار البزار. قوله: "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء" ذكر أصحاب المغازي أن المؤاخاة بين الصحابة وقعت مرتين: الأولى قبل الهجرة بين المهاجرين خاصة على المواساة والمناصرة، فكان من ذلك أخوة زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب. ثم آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار بعد أن هاجر وذلك بعد قدومه المدينة، وسيأتي في أول كتاب البيع حديث عبد الرحمن بن عوف "لما قدمنا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع" وذكر الواقدي أن ذلك كان بعد قدومه صلى الله عليه وسلم بخمسة أمهر والمسجد يبني، وقد سمى ابن إسحاق منهم جماعة منهم أبو ذر والمنذر بن عمرو، فأبو ذر مهاجري والمنذر أنصاري. وأنكره الواقدي لأن أبا ذر ما كان قدم المدينة بعد، وإنما قدمها بعد سنة ثلاث. وذكر ابن إسحاق أيضا الأخوة بين سلمان وأبي الدرداء كالذي هنا، وتعقبه الواقدي أيضا فيما حكاه ابن سعد أن سلمان إنما أسلم بعد وقعة أحد وأول مشاهده الخندق، والجواب عن ذلك كله أن التاريخ المذكور للهجرة الثانية هو ابتداء الأخوة، ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤاخى بين من يأتي بعد ذلك وهلم جرا، وليس باللازم أن تكون المؤاخاة وقعت دفعة واحدة حتى يرد هذا التعقب، فصح ما قاله ابن إسحاق وأيده هذا الخبر الذي في الصحيح وارتفع الإشكال بهذا التقرير ولله الحمد. واعترض الواقدي من جهة أخرى فروي عن الزهري أنه كان ينكر كل مؤاخاة وقعت بعد بدر يقول: قطعت بدر المواريث. قلت: وهذا لا يدفع المؤاخاة من أصلها، وإنما يدفع المؤاخاة المخصوصة التي كانت عقدت بينهم ليتوارثوا بها، فلا يلزم من نسخ التوارث المذكور أن لا تقع المؤاخاة بعد ذلك على المواساة ونحو ذلك. وقد جاء ذكر المؤاخاة بين سلمان وأبي الدرداء من طرق صحيحة غير هذه، وذكر البغوي في "معجم الصحابة" من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أبي الدرداء وسلمان" فذكر قصة لهما غير المذكورة هنا، وروى ابن سعد من طريق حميد بن هلال قال: "آخى بين سلمان وأبي الدرداء فنزل سلمان الكوفة ونزل أبو الدرداء الشام" ورجاله ثقات. قوله: "فزار سلمان أبا الدرداء" يعني في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد أبا الدرداء غائبا. قوله: "متبذلة" بفتح المثناة والموحدة وتشديد الذال المعجمة المكسورة أي لابسة ثياب البذلة بكسر الموحدة وسكون الذال وهي المهنة وزنا ومعنى، والمراد أنها تاركة للبس ثياب الزينة. وللكشميهني: "مبتذلة" بتقديم الموحدة والتخفيف وزن مفتعلة والمعنى واحد. وفي ترجمة سلمان من "الحلية لأبي نعيم" بإسناد آخر إلى أم الدرداء عن أبي الدرداء أن سلمان دخل عليه فرأى امرأته رثة الهيئة فذر القصة مختصرة. وأم الدرداء هذه هي خيرة بفتح المعجمة وسكون التحتانية بنت أبي حدرد الأسلمية صحابية بنت صحابي، وحديثها عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد وغيره، وماتت أم الدرداء هذه قبل أبي الدرداء، ولأبي الدرداء أيضا امرأة أخرى يقال لها أم الدرداء تابعية اسمها هجيمة عاشت بعده دهرا وروت عنه، وقد تقدم ذكرها في كتاب الصلاة. قوله: "فقال لها ما شأنك" ؟ زاد الترمذي في روايته عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه: "يا أم الدرداء

(4/210)


أمتبذلة؟". قوله: "ليس له حاجة في الدنيا" في رواية الدار قطني من وجه آخر عن جعفر بن عون "في نساء الدنيا" وزاد فيه ابن خزيمة عن يوسف بن موسى عن جعفر بن عون "يصوم النهار ويقوم الليل". قوله: "فجاء أبو الدرداء فصنع له" زاد الترمذي "فرحب بسلمان وقرب إليه طعاما". قوله: "فقال له كل، قال فإني صائم" كذا في رواية أبي ذر، والقائل "كل" هو سلمان والمقول له أبو الدرداء وهو المجيب بإني صائم. وفي رواية الترمذي "فقال كل فإني صائم" وعلى هذا فالقائل أبو الدرداء والمقول له سلمان وكلاهما يحتمل، والحاصل أن سلمان وهو الضيف أبي أن يأكل من طعام أبي الدرداء حتى يأكل معه، وغرضه أن يصرفه عن رأيه فيما يصنعه من جهد نفسه في العبادة وغير ذلك مما شكته إليه امرأته. قوله: "قال ما أنا بآكل حتى تأكل" في رواية البزار عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه: "فقال أقسمت عليك لتفطرن" وكذا رواه ابن خزيمة عن يوسف بن موسى، والدار قطني من طريق علي بن مسلم وغيره والطبراني من طريق أبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة والعباس بن عبد العظيم، وابن حبان من طريق أبي خثيمة كلهم عن جعفر بن عون به، فكأن محمد بن بشار لم يذكر هذه الجملة لما حدث به البخاري، وبلغ البخاري ذلك من غيره فاستعمل هذه الزيادة في الترجمة مشيرا إلى صحتها وإن لم تقع في روايته، وقد أعاده البخاري في كتاب الأدب عن محمد بن بشار بهذا الإسناد ولم يذكرها أيضا، وأغنى بذلك عن قول بعض الشراح كابن المنير: إن القسم في هذا السياق مقدر قبل لفظ: "ما أنا بآكل" كما قدر في قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} وترجم المصنف في الأدب "باب صنع الطعام والتكلف للضعيف" وأشار بذلك إلى حديث يروي عن سلمان في النهي عن التكلف للضيف أخرجه أحمد وغيره بسند لين، والجمع بينهما أنه يقرب لضيفه ما عنده ولا يتكلف ما ليس عنده، فإن لم يكن عنده شيء فيسوغ حينئذ التكلف بالطبخ ونحوه. قوله: "فلما كان الليل" أي في أوله. وفي رواية ابن خزيمة وغيره: "ثم بات عنده". قوله: "يقوم فقال نم" في رواية الترمذي وغيره: "فقال له سلمان نم" زاد ابن سعد من وجه آخر مرسل "فقال له أبو الدرداء أتمنعني أن أصوم لربي وأصلي لربي". قوله: "فلما كان في آخر الليل" أي عند السحر، وكذا هو في رواية ابن خزيمة، وعند الترمذي "فلما كان عند الصبح" وللدار قطني "فلما كان في وجه الصبح". قوله: "فصليا" في رواية الطبراني "فقاما فتوضأا ثم ركعا ثم خرجا إلى الصلاة". قوله: "ولأهلك عليك حقا" زاد الترمذي وابن خزيمة: "ولضيفك عليك حقا" زاد الدار قطني "فصم وأفطر، وصل ونم، وأنت أهلك". قوله: "فأتى النبي صلى الله عليه وسلم" في رواية الترمذي "فأتيا" بالتثنية. وفي رواية الدار قطني "ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالذي قال له سلمان، فقال له: يا أبا الدرداء إن لجسدك عليك حقا" مثل ما قال سلمان، ففي هذه الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليهما بأنه علم بطريق الوحي ما دار بينهما، وليس ذلك في رواية محمد بن بشار، فيحتمل الجمع بين الأمرين أنه كاشفهما بذلك أو لا ثم أطلعه أبو الدرداء على صورة الحال فقال له: صدق سلمان. وروى هذا الحديث الطبراني من وجه آخر عن محمد بن سيرين مرسلا فعين الليلة التي بات سلمان فيها عند أبي الدرداء ولفظه قال: "كان أبو الدرداء يحيى ليلة الجمعة ويصوم يومها، فأتاه سلمان" فذكر القصة مختصرة وزاد في آخرها "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عويمر، سلمان أفقه منك" انتهى، وعويمر اسم أبي الدرداء. وفي رواية أبي نعيم المذكورة آنفا "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أوتى سلمان من العلم" وفي رواية ابن سعد المذكورة "لقد أشبع سلمان علما". وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية المؤاخاة في الله، وزيارة الإخوان والمبيت عندهم، وجواز مخاطبة الأجنبية، والسؤال عما يترتب

(4/211)


عليه المصلحة وإن كان في الظاهر لا يتعلق بالسائل، وفيه النصح للمسلم وتنبيه من أغفل، وفيه فضل قيام آخر الليل، وفيه مشروعية تزين المرأة لزوجها، وثبوت حق المرأة على الزوج في حسن العشرة، وقد يؤخذ منه ثبوت حقها في الوطء لقوله: "ولأهلك عليك حقا" ثم قال: "وائت أهلك" وقرره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وفيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور، وإنما الوعيد الوارد على من نهى مصليا عن الصلاة مخصوص بمن نهاه ظلما وعدوانا. وفيه كراهية الحمل على النفس في العبادة، وسيأتي مزيد بيان لذلك في الكلام على حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص. وفيه جواز الفطر من صوم التطوع كما ترجم له المصنف، وهو قول الجمهور ولم يجعلوا عليه قضاء إلا أنه يستحب له ذلك، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس أنه ضرب لذلك مثلا كمن ذهب بمال ليتصدق به ثم رجع ولم يتصدق به أو تصدق ببعضه وأمسك بعضه، ومن حجتهم حديث أم هانئ "أنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهي صائمة فدعا بشراب فشرب، ثم ناولها فشربت، ثم سألته عن ذلك فقال: أكنت تقضين يوما من رمضان؟ قالت لا، قال: فلا بأس" وفي رواية: "إن كان من قضاء فصومي مكانه، وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضه وإن شئت فلا تقضه، أخرجه أحمد والترمذي والنسائي، وله شاهد من حديث أبي سعيد تقدم ذكره في أول الباب. وعن مالك الجواز وعدم القضاء بعذر، والمنع وإثبات القضاء بغير عذر. وعن أبي حنيفة يلزمه القضاء مطلقا ذكره الطحاوي وغيره وشبه بمن أفسد حج التطوع فإن عليه قضاءه اتفاقا، وتعقب بأن الحج امتاز بأحكام لا يقاس غيره عليه فيها، فمن ذلك أن الحج يؤمر مفسده بالمضي في فاسده والصيام لا يؤمر مفسده بالمضي فيه فافترقا، ولأنه قياس في مقابلة النص فلا يعتبر به، وأغرب ابن عبد البر فنقل الإجماع على عدم وجوب القضاء عمن أفسد صومه بعذر، واحتج من أوجب القضاء بما روى الترمذي والنسائي من طريق جعفر بن برقان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "كنت ألا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني إليه حفصة وكانت ببيت أبيها فقالت: يا رسول الله" فذكرت ذلك فقال: "اقضيا يوما آخر مكانه" قال الترمذي: رواه ابن أبي حفصة وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري مثل هذا، ورواه مالك ومعمر وزياد بن سعد وابن عيينة وغيرهم من الحفاظ عن الزهري عن عائشة مرسلا وهو أصح لأن ابن جريج ذكر أنه سأل الزهري عنه فقال: لم أسمع من عروة في هذا شيئا، ولكن سمعت من ناس عن بعض من سأل عائشة، فذكره ثم أسنده كذلك. وقال النسائي: هذا خطأ؛ وقال ابن عيينة في روايته: سئل الزهري عنه أهو عن عروة؟ فقال لا. وقال الخلال: اتفق الثقات على إرساله، وشذ من وصله. وتوارد الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا. وقد رواه من لا يوثق به عن مالك موصولا ذكره الدار قطني في "غرائب مالك"، وبين مالك في روايته فقال: إن صيامهما كان تطوعا. وله من طريق أخرى عند أبي داود من طريق زميل عن عروة عن عائشة، وضعفه أحمد والبخاري والنسائي بجهالة حال زميل، وعلى تقدير أن يكون محفوظا فقد صح عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يفطر من صوم التطوع كما تقدمت الإشارة إليه في "باب من نوى بالنهار صوما" وزاد فيه بعضهم "فأكل ثم قال: لكن أصوم يوما مكانه" وقد ضعف النسائي هذه الزيادة وحكم يخطئها، وعلى تقدير الصحة فيجمع بينهما بحمل الأمر بالقضاء على الندب، وأما قول القرطبي: يجاب عن حديث أبي جحيفة بأن إفطار أبي الدرداء كان لقسم سلمان ولعذر الضيافة، فيتوقف على أن هذا العذر

(4/212)


من الأعذار التي تبيح الإفطار، وقد نقل ابن التين عن مذهب مالك أنه لا يفطر لضيف نزل به ولا لمن حلف عليه بالطلاق والعتاق، وكذا لو حلف هو بالله ليفطرن كفر ولا يفطر، وسيأتي بعد أبواب من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما زار أم سليم لم يفطر" وكان صائما تطوعا، وقد أنصف ابن المنير في الحاشية فقال: ليس في تحريم الأكل في صورة النفل من غير عذر إلا الأدلة العامة كقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} إلا أن الخاص يقدم على العام كحديث سلمان، وقول المهلب إن أبا الدرداء أفطر متأولا ومجتهدا فيكون معذورا فلا قضاء عليه لا ينطبق على مذهب مالك، فلو أفطر أحد بمثل عذر أبي الدرداء عنده لوجب عليه القضاء. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم صوب فعل أبي الدرداء فترقى عن مذهب الصحابي إلى نص الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال ابن عبد البر: ومن احتج في هذا بقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فهو جاهل بأقوال أهل العلم، فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء كأنه قال: لا تبطلوا أعمالكم بالرياء بل أخلصوها لله. وقال آخرون: لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر. ولو كان المراد بذلك النهي عن إبطال ما لم يفرضه الله عليه ولا أوجب على نفسه بنذر وغيره لامتنع عليه الإفطار إلا بما يبيح الفطر من الصوم الواجب وهم لا يقولون بذلك والله أعلم. "تنبيه": هذه الترجمة التي فرغنا منها الآن أول أبواب التطوع، بدأ المصنف منها بحكم صوم التطوع هل يلزم تمامه بالدخول فيه أم لا؟ ثم أورد بقية أبوابه على ما اختاره من الترتيب.

(4/213)


52 - باب صَوْمِ شَعْبَانَ
1969- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يَصُومُ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلاَّ رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ"
[الحديث 1969- طرفاه في: 1970، 6465]
1970- حدثنا معاذ بن فضالة حدثنا هشام عن يحيى عن أبي سلمة أن عائشة رضي الله عنها حدثته قالت ثم لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله وكان يقول خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وأحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما دووم عليه وإن قلت وكان إذا صلى صلاة داوم عليها"
قوله: "باب صوم شعبان" أي استحبابه، وكأنه لم يصرح بذلك لما في عمومه من التخصيص وفي مطلقه من التقييد كما سيأتي بيانه. وسمي شعبان لتشعبهم في طلب المياه أو في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام، وهذا أولى من الذي قبله، وقيل فيه غير ذلك.قوله: "عن أبي النضر" هو سالم المدني زاد مسلم: "مولى عمر بن عبيد الله" وفي رواية ابن وهب عند النسائي والدار قطني في "الغرائب" عن مالك عن أبي النضر أنه حدثهم. قوله: "عن عائشة" في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة أن عائشة حدثته، وهو في ثاني حدثني الباب. وقوله فيه: "عن يحيى عن أبي سلمة" في رواية مسلم: "عن يحيى بن أبي كثير" واتفق أبو النضر ويحيى ووافقهما محمد بن إبراهيم وزيد بن أبي عتاب عند

(4/213)


النسائي ومحمد بن عمرو عند الترمذي على روايتهم إياه عن أبي سلمة عن عائشة، وخالفهم يحيى بن سعيد وسالم بن أبي الجعد فروياه عن أبي سلمة عن أم سلمة أخرجهما النسائي. وقال الترمذي عقب طريق سالم بن أبي الجعد: هذا إسناد صحيح، ويحتمل أن يكون أبو سلمة رواه عن كل من عائشة وأم سلمة. قلت: ويؤيده أن محمد بن إبراهيم التيمي رواه عن أبي سلمة عن عائشة تارة وعن أم سلمة تارة أخرى أخرجهما النسائي. قوله: "أكثر صياما" كذا لأكثر الرواة بالنصب، وحكى السهيلي، أنه روى بالخفض، وهو وهم ولعل بعضهم كتب صياما بغير ألف على رأي من يقف على المنصوب بغير ألف فتوهم مخفوضا، أو أن بعض الرواة ظن أنه مضاف لأن صيغة أفعل تضاف كثيرا فتوهمها مضافة، وذلك لا يصح هنا قطعا. وقوله: "أكثر" بالنصب وهو ثاني مفعولي رأيت، وقوله: "في شعبان" يتعلق بصياما والمعنى كان يصوم في شعبان وغيره، وكان صيامه في شعبان تطوعا أكثر من صيامه فيما سواه. قوله: "من شعبان" زاد حديث يحيى بن أبي كثير "فإنه كان يصوم شعبان كله" زاد ابن أبي لبيد عن أبي سلمة عن عائشة عند مسلم: "كان يصوم شعبان إلا قليلا" ورواه الشافعي من هذا الوجه بلفظ: "بل كان يصوم الخ" وهذا يبين أن المراد بقوله في حديث أم سلمة عند أبي داود وغيره: "أنه كان لا يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصله برمضان" أي كان يصوم معظمه، ونقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول صام الشهر كله، ويقال قام فلان ليلته أجمع ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره، قال الترمذي: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله أن الرواية الأولى مفسرة للثانية مخصصة لها وأن المراد بالكل الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال، واستبعده الطيبي قال: لأن الكل تأكيد لإرادة الشمول ودفع التجوز، فتفسيره بالبعض مناف له، قال: فيحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان، وقيل المراد بقولها "كله" أنه كان يصوم من أوله تارة ومن آخره أخرى ومن أثنائه طورا فلا يخلى شيئا منه من صيام ولا يخص بعضه بصيام دون بعض. وقال الزين بن المنير: إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة والمراد الأكثر وإما أن يجمع بأن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان وأخبرت ثانيا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله ا هـ. ولا يخفى تكلفه، والأول هو الصواب، ويؤيده رواية عبد الله بن شقيق عن عائشة عند مسلم وسعد بن هشام عنها عند النسائي ولفظه: "ولا صام شهرا كاملا قط منذ قدم المدينة غير رمضان" وهو مثل حديث ابن عباس المذكور في الباب الذي بعد هذا. واختلف في الحكمة في إكثاره صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان فقيل: كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان، أشار إلى ذلك ابن بطال، وفيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق ابن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن عائشة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان" وابن أبي ليلى ضعيف وحديث الباب والذي بعده دال على ضعف ما رواه، وقيل كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث آخر أخرجه الترمذي من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصوم أفضل بعد رمضان قال شعبان لتعظيم رمضان" قال الترمذي حديث غريب، وصدقة عندهم ليس بذاك القوي. قلت: ويعارضه ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم". وقيل الحكمة في إكثاره من الصيام في شعبان دون غيره أن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان

(4/214)


وهذا عكس ما تقدم في الحكمة في كونهن كن يؤخرن قضاء رمضان إلى شعبان لأنه ورد فيه أن ذلك لكونهن كن يشتغلن معه صلى الله عليه وسلم عن الصوم، وقيل الحكمة في ذلك أنه يعقبه رمضان وصومه مفترض، وكان يكثر من الصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره لما يفوته من التطوع بذلك في أيام رمضان، والأولى في ذلك ما جاء في حديث أصح مما مضى أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: "قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" ونحوه من حديث عائشة عند أبي يعلى لكن قال فيه: "إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم" ولا تعارض بين هذا وبين ما تقدم من الأحاديث في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني، فإن الجمع بينهما ظاهر بأن يحمل النهي على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده. وفي الحديث دليل على فضل الصوم في شعبان، وأجاب النووي عن كونه لم يكثر من الصوم في المحرم مع قوله إن أفضل الصيام ما يقع فيه بأنه يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا في آخر عمره فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم، أو اتفق له فيه من الأعذار بالسفر والمرض مثلا ما منعه من كثرة الصوم فيه. وقد تقدم الكلام على قوله: "لا يمل الله حتى تملوا" وعلى بقية الحديث في "باب أحب الدين إلى الله أدومه" وهو في آخر كتاب الإيمان، ومناسبة ذلك للحديث الإشارة إلى أن صيامه صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يتأسى به فيه إلا من أطاق ما كان يطيق، وأن من أجهد نفسه في شيء من العبادة خشي عليه أن يمل فيفضي إلى تركه، والمداومة على العبادة وإن قلت أولى من جهد النفس في كثرتها إذا انقطعت، فالقليل الدائم أفضل من الكثير المنقطع غالبا، وقد تقدم الكلام على مداومته صلى الله عليه وسلم على صلاة التطوع في بابها.

(4/215)


باب مايذكر من صوم النبي و إفطاره
...
53 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِفْطَارِهِ
1971- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَا صَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا كَامِلًا قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ وَيَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لاَ وَاللَّهِ لاَ يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لاَ وَاللَّهِ لاَ يَصُومُ"
1972- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لاَ يَصُومَ مِنْهُ وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لاَ يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا وَكَانَ لاَ تَشَاءُ تَرَاهُ مِنْ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ وَلاَ نَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ وَقَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسًا فِي الصَّوْمِ"ح
1973- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ صِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَرَاهُ مِنْ الشَّهْرِ صَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتُهُ وَلاَ مُفْطِرًا إِلاَّ رَأَيْتُهُ وَلاَ مِنْ اللَّيْلِ

(4/215)


قَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتُهُ وَلاَ نَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتُهُ وَلاَ مَسِسْتُ خَزَّةً وَلاَ حَرِيرَةً أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ شَمِمْتُ مِسْكَةً وَلاَ عَبِيرَةً أَطْيَبَ رَائِحَةً مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
قوله: "باب ما يذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم" أي التطوع "وإفطاره" أي في خلل صيامه. قال الزين بن المنبر: لم يضف المصنف الترجمة التي قبل هذه للنبي صلى الله عليه وسلم وأطلقها ليفهم الترغيب للأمة في الاقتداء به في إكثار الصوم في شعبان، وقصد بهذه شرح حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. ثم ذكر البخاري في الباب حديثين: الأول حديث ابن عباس. قوله: "عن أبي بشر" هو جعفر بن أبي وحشية. قوله: "عن سعيد بن جبير" في رواية شعبة عن أبي بشر "حدثني سعيد بن جبير" أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه، ولمسلم من طريق عثمان بن حكيم "سألت سعيد بن جبير عن صيام رجب فقال: سمعت ابن عباس". قوله: "ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا قط غير رمضان" في رواية شعبة عند مسلم: "ما صام شهرا متتابعا" وفي رواية أبي داود الطيالسي "شهرا تاما منذ قدم المدينة غير رمضان". قوله: "ويصوم" في رواية مسلم من الطريق التي أخرجها البخاري "وكان يصوم". قوله: "حتى يقول القائل لا والله لا يفطر" في رواية شعبة "حتى يقولوا ما يريد أن يفطر". الحديث الثاني حديث أنس. قوله: "حدثني محمد بن جعفر" أي ابن أبي كثير المدني، وحميد هو الطويل. قوله: "حتى نظن" بنون الجمع وبالتحتانية على البناء للمجهول، ويجوز بالمثناة على المخاطبة، ويؤيده قوله بعد ذلك "إلا رأيته" فإنه روي بالضم والفتح معا. قوله: "أن لا يصوم" بفتح الهمزة ويجوز في يصوم النصب والرفع. قوله: "وقال سليمان عن حميد أنه سأل أنسا في الصوم" كنت أظن أن سليمان هذا هو ابن بلال لكن لم أره بعد التتبع التام من حديثه فظهر لي أنه سليمان بن حيان أبو خالد الأحمر، وقد وصل المصنف حديثه عقب هذا وفيه: "سألت أنسا عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم:" فذكر الحديث أتم من طريق محمد بن جعفر، لكن تقدم بعض هذا الحديث في الصلاة وقال فيه: "تابعه سليمان وأبو خالد الأحمر" فهذا يدل على التعدد، ويحتمل أن تكون الواو مزيدة كما تقدمت الإشارة إليه. الحديث: قوله: "ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما إلا رأيته" يعني أن حاله في التطوع بالصيام والقيام كان يختلف، فكان تارة يقوم من أول الليل وتارة في وسطه وتارة من آخره، كما كان يصوم تارة من أول الشهر وتارة من وسطه وتارة من آخره، فكان من أراد أن يراه وقت من أوقات الليل قائما أو في وقت من أوقات الشهر صائما فراقبه المرة بعد المرة فلا بد أن يصادفه قام أو صام على وفق ما أراد أن يراه، هذا معنى الخبر، وليس المراد أنه كان يسرد الصوم ولا أنه كان يستوعب الليل قياما. ولا يشكل على هذا قول عائشة في الباب قبله "وكان إذا صلى صلاة دوام عليها" وقوله في الرواية الأخرى الآتية بعد أبواب "كان عمله ديمة" لأن المراد بذلك ما اتخذه راتبا لا مطلق النافلة، فهذا وجه الجمع بين الحديثين وإلا فظاهرهما التعارض والله أعلم. قوله: "حدثني محمد" كذا للأكثر ولأبي ذر "هو ابن سلام". قوله: "ولا مسست" بكسر المهملة الأولى على الأفصح، وكذا شممت بكسر الميم الأولى وفتحها لغة حكاها الفراء، ويقال في مضارعه أشمه وأمسه بالفتح فيهما على الأفصح وبالضم على اللغة المذكورة. قوله: "من رائحة" كذا للأكثر وللكشميهني: "من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم". وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان على أكمل الصفات خلقا وخلقا فهو كل الكمال وجل الجلال وجملة الجمال عليه أفضل الصلاة والسلام، وسيأتي شرح ما تضمنه هذا الحديث في "باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم: "في أوائل السيرة النبوية

(4/216)


إن شاء الله تعالى مستوفى. وفي حديثي الباب استحباب التنفل بالصوم في كل شهر، وأن صوم النفل المطلق لا يختص بزمان إلا ما نهى عنه، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يصم الدهر ولا قام الليل كله، وكأنه ترك ذلك لئلا يقتدي به فيشق على الأمة، وإن كان قد أعطي من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر عليه، لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى: فصام وأفطر، وقام ونام، أشار إلى ذلك المهلب. وفي حديث ابن عباس الحلف على الشيء وإن لم يكن هناك من ينكره مبالغة في تأكيده في نفس السامع.

(4/217)


54 - باب حَقِّ الضَّيْفِ فِي الصَّوْمِ
1974- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ يَعْنِي إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَقُلْتُ وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ قَالَ نِصْفُ الدَّهْرِ"
قوله: "باب حق الضيف في الصوم" قال الزين بن المنير: لو قال حق الضيف في الفطر لكان أوضح لكنه كان لا يفهم منه تعيين الصوم فيحتاج أن يقول من الصوم. وكأن ما ترجم به أخصر وأوجز.قوله: "حدثنا إسحاق" قال أبو علي الجياني لم ينسب إسحاق هذا عن أحد منهم. قلت: لكن جزم أبو نعيم في "المستخرج "بأنه ابن راهويه لأنه أخرجه من مسنده ثم قال: أخرجه البخاري عن إسحاق، ويؤيده أن ابن راهويه لا يقول في الرواية عن شيوخه إلا صيغة الإخبار وكذلك هو هنا، وهارون بن إسماعيل شيخه هو الخزاز كان تاجرا صدوقا ليس له في البخاري سوى هذا الحديث وحديث آخر في الاعتكاف كلاهما من روايته عن علي بن المبارك، وقد أخرج كلا من الحديثين من غير طريقه، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث" هكذا أورده مختصرا وفسر البخاري المراد منه بقوله: "يعني إن لزورك عليك حقا" إلى آخر ما ذكر من الحديث، وهو على طريقة البخاري في جواز اختصار الحديث، وقد أورده في الباب الذي يليه من طريق الأوزاعي، وأورده في الأدب من طريق حسين المعلم كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، وأورده قريبا من طريق الزهري عن أبي سلمة وسعيد ابن المسيب، ومن طريق أبي العباس الأعمى من وجهين، ومن طريق مجاهد وأبي المليح كلهم عن عبد الله ابن عمرو بن العاص بالحديث مطولا ومختصرا، ورواه جماعة من الكوفيين والبصريين والشاميين عن عبد الله ابن عمرو مطولا ومختصرا، فمنهم من اقتصر على قصة الصلاة ومنهم من اقتصر على قصة الصيام ومنهم من ساق القصة كلها، ولم أره من رواية أحد من المصريين عنه مع كثرة روايتهم عنه، وسأذكر الكلام عليه في الباب الذي يليه، وأنبه على ما في رواية كل منهم من فائدة زائدة سوى ما تقدم شرحه في أبواب التهجد، وسيأتي ما يتعلق بحق الضيف في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى وهو المستعان.

(4/217)


55 - باب حَقِّ الْجِسْمِ فِي الصَّوْمِ
1975- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي

(4/217)


56 - باب صَوْمِ الدَّهْرِ
1976- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَقُولُ وَاللَّهِ لاَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلاَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ فَقُلْتُ لَهُ قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَالَ فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَم وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ فَقُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ"
قوله: "باب صوم الدهر" أي هل يشرع أو لا؟ قال الزين بن المنير: لم ينص على الحكم لتعارض الأدلة واحتمال أن يكون عبد الله بن عمرو خص بالمنع لما اطلع النبي صلى الله عليه وسلم عليه من مستقبل حاله، فيلتحق به من في معناه ممن يتضرر بسرد الصوم، ويبقى غيره على حكم الجواز لعموم الترغيب في مطلق الصوم كما سيأتي في الجهاد من حديث أبي سعيد مرفوعا: "من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار" . قوله: "فإنك لا تستطيع ذلك" يحتمل أن يريد به الحالة الراهنة لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يتكلف ذلك ويدخل به على نفسه المشقة ويفوت به ما هو أهم من ذلك، ويحتمل أن يريد به ما سيأتي بعد إذا كبر وعجز كما اتفق له سواء، وكره أن يوظف على نفسه شيئا من العبادة ثم يعجز عنه فيتركه لما تقرر من ذم من فعل ذلك. قوله: "وصم من الشهر ثلاثة أيام" بعد قوله: "فصم وأفطر" بيان لما أجمل من ذلك وتقرير له على ظاهره، إذ الإطلاق يقتضي المساواة. قوله: "مثل صيام الدهر" يقتضي أن المثلية لا تستلزم التساوي من كل جهة لأن المراد به هنا أصل التضعيف دون التضعيف الحاصل من الفعل، ولكن يصدق على فاعل ذلك أنه صام الدهر مجازا. قوله بعد ذكر صيام داود "لا أفضل من ذلك" ليس فيه نفي المساواة صريحا، لكن قوله في الرواية الماضية في قيام الليل من طريق عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو "أحب الصيام إلى الله

(4/220)


صيام داود "يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقا، ورواه الترمذي من وجه آخر عن أبي العباس عن عبد الله بن عمرو بلفظ: "أفضل الصيام صيام داود"، وكذلك رواه مسلم من طريق أبي عياض عن عبد الله، ومقتضاه أن تكون الزيادة على ذلك من الصوم مفضلة، وسأذكر بسط ذلك في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى.

(4/221)


57 - باب حَقِّ الأَهْلِ فِي الصَّوْمِ، رَوَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1977- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْتُ عَطَاءً أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ وَأُصَلِّي اللَّيْلَ فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ وَإِمَّا لَقِيتُهُ فَقَالَ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ وَلاَ تُفْطِرُ وَتُصَلِّي فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ فَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَظًّا وَإِنَّ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَظًّا قَالَ إِنِّي لاَقْوَى لِذَلِكَ قَالَ فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَم قَالَ وَكَيْفَ قَالَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى قَالَ مَنْ لِي بِهَذِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ عَطَاءٌ لاَ أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الأَبَدِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ" مَرَّتَيْنِ
قوله: "باب حق الأهل في الصوم رواه أبو جحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم" يعني حديث أبي جحيفة في قصة سلمان وأبي الدرداء التي تقدمت قبل خمسة أبواب، وفيها قول سلمان لأبي الدرداء "وإن لأهلك عليك حقا" وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقد تقدم الكلام عليه قبل. قوله: "حدثنا عمرو بن علي" الفلاس، وأبو عاصم هو الضحاك بن مخلد النبيل وهون شيوخ البخاري الذين أكثر عنهم، وربما روي عنه بواسطة ما فاته منه كما في هذا الموضع، وكأنه اختار النزول من طريقه هذه لوقوع التصريح فيها بسماع ابن جريج له من عطاء وهو ابن أبي رباح، وأبو العباس يأتي القول فيه بعد باب. قوله: "بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أسرد الصوم" سبقت تسمية الذي بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأنه عمرو بن العاص والد عبد الله. قوله: "وتصلي" في رواية مسلم من وجه آخر عن ابن جريج "وتصلي الليل، فلا تفعل" قوله: "فإن لعينيك" في رواية السرخسي والكشميهني: "لعينك" بالإفراد. قوله: "عليك حظا" كذا فيه في الموضعين بالظاء المعجمة، وكذا لمسلم، وعند الإسماعيلي: "حقا" بالقاف، وعنده وعند مسلم من الزيادة "وصم من كل عشرة أيام يوما ولك أجر التسعة". قوله: "إني لأقوى لذلك" أي لسرد الصيام دائما. وفي رواية مسلم: "إني أجدني أقوى من ذلك يا نبي الله". قوله: "قال وكيف" في رواية مسلم: "وكيف كان داود يصوم يا نبي الله". قوله: "ولا يفر إذا لاقى" زاد النسائي من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة "وإذا وعد لم يخلف" ولم أرها من غير هذا الوجه، ولها مناسبة بالمقام وإشارة إلى أن سبب النهي خشية أن يعجز عن الذي يلزمه فيكون كمن وعد فأخلف، كما أن في قوله: "ولا يفر إذا لاقى" إشارة إلى حكمة صوم يوم وإفطار يوم، قال الخطابي: محصل قصة عبد الله بن عمرو أن الله تعالى لم يتعبد عبده بالصوم خاصة، بل تعبده بأنواع من العبادات، فلو استفرغ جهده لقصر في غيره، فالأولى الاقتصاد فيه ليستبقى بعض القوة لغيره، وقد أشير إلى ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في داود عليه السلام "وكان لا يفر إذا لاقى لأنه كان يتقوى بالفطر لأجل الجهاد". قوله: "قال عطاء" أي بالإسناد المذكور. قوله: "لا أدري كيف ذكر صيام الأبد الخ" أي أن عطاء لم يحفظ كيف جاء ذكر صيام الأبد في هذه القصة، إلا أنه حفظ أن فيها أنه

(4/221)


صلى الله عليه وسلم قال: "لا صام من صام الأبد" وقد روى أحمد والنسائي هذه الجملة وحدها من طريق عطاء، وسيأتي بعد باب بلفظ: "لا صام من صام الدهر". قوله: "لا صام من صام الأبد مرتين" في رواية مسلم: "قال عطاء: فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا صام من صام الأبد لا صام من صام الأبد" واستدل بهذا على كراهية صوم الدهر، قال ابن التين استدل على كراهته من هذه القصة من أوجه: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الزيادة، وأمره بأن يصوم ويفطر وقوله: "لا أفضل من ذلك"، ودعاؤه على من صام الأبد. وقيل معنى قوله: "لا صام" النفي أي ما صام كقوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} وقوله في حديث أبي قتادة عند مسلم وقد سئل عن صوم الدهر "لا صام ولا أفطر" أو "ما صام وما أفطر" وفي رواية الترمذي "لم يصم ولم يفطر" وهو شك من أحد رواته ومقتضاه أنهما بمعنى واحد، والمعنى بالنفي أنه لم يحصل أجر الصوم لمخالفته، ولم يفطر لأنه أمسك. وإلى كراهة صوم الدهر مطلقا ذهب إسحاق وأهل الظاهر، وهي رواية عن أحمد. وشذ ابن حزم فقال يحرم، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمرو الشيباني قال: "بلغ عمر أن رجلا يصوم الدهر، فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول: كل يا دهري" ومن طريق أبي إسحاق أن عبد الرحمن بن أبي نعيم كان يصوم الدهر فقال عمرو بن ميمون: لو رأى هذا أصحاب محمد لرجموه. واحتجوا أيضا بحديث أبي موسى رفعه: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم، وعقد بيده" أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان، وظاهره أنها تضيق عليه حصرا له فيها لتشديده على نفسه وحمله عليها ورغبته عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واعتقاده أن غير سنته أفضل مها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حراما. وإلى الكراهة مطلقا ذهب ابن العربي من المالكية فقال: قوله لا صام من صام الأبد إن كان معناه الدعاء فيا ويح من أصابه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان معناه الخير فيا ويح من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم، وإذا لم يصم شرعا لم يكتب له الثواب لوجوب صدق قوله صلى الله عليه وسلم لأنه نفى عنه الصوم، وقد نفى عنه الفضل كما تقدم، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب آخرون إلى جواز صيام الدهر وحملوا أخبار النهي على من صامه حقيقة فإنه يدخل فيه ما حرم صومه كالعيدين وهذا اختيار ابن المنذر وطائفة، وروي عن عائشة نحوه، وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال جوابا لمن سأله عن صوم الدهر "لا صام ولا أفطر" وهو يؤذن بأنه ما أجر ولا أثم، ومن صام الأيام المحرمة لا يقال فيه ذلك لأنه عند من أجاز صوم الدهر إلا الأيام المحرمة يكون قد فعل مستحبا وحراما، وأيضا فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعا فهي بمنزلة الليل وأيام الحيض فلم تدخل في السؤال عند من علم تحريمها، ولا يصلح الجواب بقوله: "لا صام ولا أفطر" لمن لم يعلم تحريمها. وذهب آخرون إلى استحباب صيام الدهر لمن قوي عليه ولم يفوت فيه حقا، وإلى ذلك ذهب الجمهور، قال السبكي: أطلق أصحابنا كراهة صوم الدهر لمن فوت حقا، ولم يوضحوا هل المراد الحق الواجب أو المندوب، ويتجه أن يقال إن علم أنه يفوت حقا واجبا حرم، وإن علم أنه يفوت حقا مندوبا أولى من الصيام كره، وإن كان يقوم مقامه فلا، وإلى ذلك أشار ابن خزيمة فترجم "ذكر العلة التي بها زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الدهر" وساق الحديث الذي فيه: "إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك" ومن حجتهم حديث حمزة بن عمرو الذي مضى فإن في بعض طرقه عند مسلم: "أنه قال يا رسول الله إني أسرد الصوم" فحملوا قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو "لا أفضل من ذلك" أي في حقك فيلتحق به من في معناه ممن يدخل فيه على نفسه مشقة أو يفوت حقا، ولذلك لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد فلو كان السرد ممتنعا لبينه له لأن تأخير البيان

(4/222)


عن وقت الحاجة لا يجوز قاله النووي، وتعقب بأن سؤال حمزة إنما كان عن الصوم في السفر لا عن صوم الدهر، ولا يلزم من سرد الصيام صوم الدهر فقد قال أسامة بن زيد "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسرد الصوم فيقال لا يفطر" أخرجه أحمد، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم الدهر فلا يلزم من ذكر السرد صيام الدهر، وأجابوا عن حديث أبي موسى المقدم ذكره بأن معناه ضيقت عليه فلا يدخلها، فعلى هذا تكون "على" بمعنى أي ضيقت عنه، وهذا التأويل حكاه الأثرم عن مسدد. وحكى رده عن أحمد. وقال ابن خزيمة سألت المزني عن هذا الحديث فقال: يشبه أن يكون معناه ضيقت عنه فلا يدخلها، ولا يشبه أن يكون على ظاهره لأن من ازداد لله عملا وطاعة ازداد عند الله رفعة وعلته كرامة، ورجح هذا التأويل جماعة منهم الغزالي فقالوا: له مناسبة من جهة أن الصائم لما ضيق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيق الله عليه النار فلا يبقى له فيها مكان لأنه ضيق طرقها بالعبادة، وتعقب بأنه ليس كل عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله تقربا. بل رب عمل صالح إذا ازداد منه ازداد بعدا كالصلاة في الأوقات المكروهة.والأولى إجراء الحديث على ظاهره وحمله على من فوت حقا واجبا بذلك فإنه يتوجه إليه الوعيد، ولا يخالف القاعدة التي أشار إليها المزني، ومن حجتهم أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق حديث الباب كما تقدم في الطريقين الماضيين "فإن الحسنة بعشرة أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر" وقوله فيما رواه مسلم: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر" قالوا فدل ذلك على أن صوم الدهر أفضل مما شبه به وأنه أمر مطلوب، وتعقب بأن التشبيه في الأمر المقدر لا يقتضي جوازه فضلا عن استحبابه، وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما، ومن المعلوم أن المكلف لا يجوز له صيام جميع السنة فلا يدل التشبيه على أفضلية المشبه به من كل وجه، واختلف المجيزون لصوم الدهر بالشرط المتقدم هل هو أفضل أو صيام يوم وإفطار يوم أفضل، فصرح جماعة من العلماء بأن صوم الدهر أفضل لأنه أكثر عملا فيكون أكثر أجرا وما كان أكثر أجرا كان أكثر ثوابا، وبذلك جزم الغزالي أولا وقيده بشرط أن لا يصوم الأيام المنهي عنها، وأن لا يرغب عن السنة بأن يجعل الصوم حجرا على نفسه، فإذا أمن من ذلك فالصوم من أفضل الأعمال، فالاستكثار منه زيادة في الفضل. وتعقبه ابن دقيق العيد بأن الأعمال متعارضة المصالح والمفاسد، ومقدار كل منها في الحث والمنع غير متحقق، فزيادة الأجر بزيادة العمل في شيء يعارضه اقتضاء العادة التقصير في حقوق أخرى يعارضها العمل المذكور، ومقدار الفائت من ذلك مع مقدار الحاصل غير متحقق، فالأولى التفويض إلى حكم الشارع ولما دل عليه ظاهر قوله: "لا أفضل من ذلك" وقوله: "إنه أحب الصيام إلى الله تعالى". وذهب جماعة منهم المتولي من الشافعية إلى أن صيام داود أفضل، وهو ظاهر الحديث بل صريحه، ويترجح من حيث المعنى أيضا بأن صيام الدهر قد يفوت بعض الحقوق كما تقدم، وبأن من اعتاده فإنه لا يكاد يشق عليه بل تضعف شهوته عن الأكل وتقل حاجته إلى الطعام والشراب نهارا ويألف تناوله في الليل بحيث يتجدد له طبع زائد، بخلاف من يصوم يوما ويفطر يوما فإنه ينتقل من فطر إلى صوم ومن صوم إلى فطر، وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشق الصيام، ويأمن مع ذلك غالبا من تفويت الحقوق كما تقدمت الإشارة إلي فيما تقدم قريبا في حق داود عليه السلام، ولا يفر إذا لاقى لأن من أسباب الفرار ضعف الجسد ولا شك أن سرد الصوم ينهكه، وعلى ذلك يحمل قول ابن مسعود فيما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه أنه قيل له إنك لتقل الصيام، فقال: إني أخاف أن يضعفني عن القراءة والقراءة

(4/223)


أحب إلي من الصيام، نعم إن فرض أن شخصا لا يفوته شيء من الأعمال الصالحة بالصيام أصلا ولا يفوت حقا من الحقوق التي خوطب بها لم يبعد أن يكون في حقه أرجح، وإلى ذلك أشار ابن خزيمة فترجم "الدليل على أن صيام داود إنما كان أعدل الصيام وأحبه إلى الله لأن فاعله يؤدي حق نفسه وأهله وزائره أيام فطره بخلاف من يتابع الصوم" وهذا يشعر بأن من لا يتضرر في نفسه ولا يفوت حقا أن يكون أرجح، وعلى هذا فيختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال: فمن يقتضي حاله الإكثار من الصوم أكثر منه، ومن يقتضي حاله الإكثار من الإفطار أكثر منه، ومن يقتضي حاله المزج فعله، حتى أن الشخص الواحد قد تختلف عليه الأحوال في ذلك، وإلى ذلك أشار الغزالي أخيرا. والله أعلم بالصواب.

(4/224)


باب صوم يوم و إفطار يوم
...
58 - باب صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ
1978- حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن مغيرة قال سمعت مجاهدا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال صم من الشهر ثلاثة أيام قال أطيق أكثر من ذلك فما زال حتى قال صم يوما وأفطر يوما فقال اقرإ القرآن في كل شهر قال إني أطيق أكثر فما زال حتى قال في ثلاث"
قوله: "باب صوم يوم وإفطار يوم" ذكر فيه حديث عبد الله بن عمرو من طريق شعبة عن مغيرة عن مجاهد عنه مختصرا، وقد أخرجه في "فضائل القرآن" من طريق أبي عوانة عن مغيرة مطولا، وسيأتي الكلام عليه فيما يتعلق بقراءة القرآن هناك، وقد تقدم الكلام على فوائد الزيادة المتعلقة بالصيام قريبا.

(4/224)


59 - باب صَوْمِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَم
1979- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْمَكِّيَّ وَكَانَ شَاعِرًا وَكَانَ لاَ يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ لَتَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ قُلْتُ فَإِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَم كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى"
1980- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَحَدَّثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي فَدَخَلَ عَلَيَّ فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ وَصَارَتْ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَقَالَ أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خَمْسًا قُلْتُ يَا رَسُولَ

(4/224)


باب صيام أيام البيض ثلاث عشرة و أربع عشرة و خمس عشرة
...
60 - باب صِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاَثٍ صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ"
قوله: "باب صيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" كذا للأكثر وللكشميهني: "صيام أيام البيض ثلاث عشرة الخ" قيل المراد بالبيض الليالي وهي التي يكون فيها القمر من أول الليل إلى آخره، حتى قال الجواليقي: من قال الأيام البيض فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ، وفيه نظر لأن الصوم الكامل هو النهار بليلته، وليس في الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض فصح قول "الأيام البيض" على الوصف. وحكى ابن بزيزة في تسميتها بيضا أقوالا أخر مستندة إلى أقوال واهية، قال الإسماعيلي وابن بطال وغيرهما: ليس في الحديث الذي أورده البخاري في هذا الباب ما يطابق الترجمة، لأن الحديث مطلق في ثلاثة أيام من كل شهر والبيض مقيدة بما ذكر، وأجيب بأن البخاري جرى على عادته في الإيماء إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، وهو ما رواه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب قد شواها، فأمرهم أن يأكلوا وأمسك الأعرابي، فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: إني أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، قال: إن كنت صائما فصم الغر، أي البيض" وهذا الحديث اختلف فيه على موسى بن طلحة اختلافا كثيرا بينه الدار قطني، وفي بعض طرقه عند النسائي: "إن كنت صائما فصم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" وجاء تقييدها أيضا في حديث قتادة بن ملحان - ويقال ابن منهال - عند أصحاب السنن بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وقال: هي كهيئة الدهر" وللنسائي من حديث جرير مرفوعا: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر: أيام البيض صبيحة ثلاث عشرة" الحديث وإسناده صحيح، وكأن البخاري أشار بالترجمة إلى أن وصية أبي هريرة بذلك لا تختص به، وأما ما رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر" وما روى أبو داود والنسائي من حديث حفصة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى" فقد جمع بينهما وما قبلهما البيهقي بما أخرجه مسلم من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم

(4/226)


من كل شهر ثلاثة أيام ما يبالي من أي الشهر صام "قال فكل من رآه فعل نوعا ذكره، وعائشة رأت جميع ذلك وغيره فأطلقت. والذي يظهر أن الذي أمر به وحث عليه ووصى به أولى من غيره، وأما هو فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك، أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز، وكل ذلك في حقه أفضل، وتترجح البيض بكونها وسط الشهر ووسط الشيء أعدله، ولأن الكسوف غالبا يقع فيها، وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع فإذا اتفق الكسوف صادف الذي يعتاد صيام البيض صائما فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة، بخلاف من لم يصمها فإنه لا يتأتى له استدراك صيامها، ولا عند من يجوز صيام التطوع بغير نية من الليل إلا إن صادف الكسوف من أول النهار، ورجح بعضهم صيام الثلاثة في أول الشهر لأن المرء لا يدري ما يعرض له من الموانع. وقال بعضهم: يصوم من أول كل عشرة أيام يوما، وله وجه في النظر، ونقل ذلك عن أبي الدرداء، وهو يوافق ما تقدم في رواية النسائي في حديث عبد الله بن عمرو "صم من كل عشرة أيام يوما" وروى الترمذي من طريق خيثمة عن عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس" وروي موقوفا وهو أشبه، وكأن الغرض به أن يستوعب غالب أيام الأسبوع بالصيام، واختار إبراهيم النخعي أن يصومها آخر الشهر ليكون كفارة لما مضى، وسيأتي ما يؤيده في الكلام على حديث عمران بن حصين في الأمر بصيام سرار الشهر. وقال الروياني صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب، فإن اتفقت أيام البيض كان أحب. وفي كلام غير واحد من العلماء أيضا أن استحباب صيام البيض غير استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. قوله: "حدثنا أبو معمر" هو عبد الله بن عمرو، والإسناد كله بصريون وأبو عثمان هو النهدي، وقد روى عن أبي هريرة جماعة كل منهم أبو عثمان، لكن لم يقع في البخاري حديث موصول من رواية أبي عثمان عن أبي هريرة إلا من رواية النهدي، وليس له عند البخاري سوى هذا وآخر في الأطعمة، ووقع عند مسلم عن شيبان عن عبد الوارث بهذا الإسناد فقال فيه: "حدثني أبو عثمان النهدي" وتقدم هذا الحديث في أبواب التطوع من طريق أخرى عن أبي عثمان النهدي، وقد تقدم الكلام هناك على بقية فوائده، ومما لم يتقدم منها ما نبه عليه أبو محمد بن أبي جمرة في قول أبي هريرة "أوصاني خليلي" قال في أفراده "بهذه الوصية" إشارة إلى أن القدر الموصى به هو اللائق بحاله. وفي قوله: "خليلي" إشارة إلى موافقته له في إيثار الاشتغال بالعبادة على الاشتغال بالدنيا لأن أبا هريرة صبر على الجوع في ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في أوائل البيوع من حديثه حيث قال: "أما إخواني فكان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فشابه حال النبي صلى الله عليه وسلم في إيثاره الفقر على الغنى والعبودية على الملك، قال: ويؤخذ منه الافتخار بصحبة الأكابر إذا كان ذلك على معنى التحدث بالنعمة والشكر لله، لا على وجه المباهاة والله أعلم. وقال شيخنا في "شرح الترمذي" : حاصل الخلاف في تعيين البيض تسعة أقوال: أحدها لا تتعين بل يكره تعيينها وهذا عن مالك. الثاني أول ثلاثة من الشهر قاله الحسن البصري، الثالث أولها الثاني عشر. الرابع أولها الثالث عشر. الخامس أولها أول سبت من أول الشهر ثم من أول الثلاثاء من الشهر الذي يليه وهكذا وهو عن عائشة. السادس أول خميس ثم اثنين ثم خميس. السابع أول اثنين ثم خميس ثم اثنين. الثامن أول يوم والعاشر والعشرون عن أبي الدرداء. التاسع أول كل عشر عن ابن شعبان المالكي. قلت: بقي قول آخر وهو آخر ثلاثة من الشهر عن النخعي فتمت عشرة

(4/227)


باب من زار قوما و لم يفطر عندهم
...
61 - باب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ
1982- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي خَالِدٌ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ قَالَ أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ فَإِنِّي صَائِمٌ ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ فَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي خُوَيْصَّةً قَالَ مَا هِيَ قَالَتْ خَادِمُكَ أَنَسٌ فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلاَ دُنْيَا إِلاَّ دَعَا لِي بِهِ قَالَ اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا وَوَلَدًا وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الأَنْصَارِ مَالًا وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ حَجَّاجٍ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ"
قال ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[الحديث 1982- أطرافه في: 6334، 6344، 6378، 6380]
قوله: "باب من زار قوما فلم يفطر عندهم" أي في التطوع، هذه الترجمة تقابل الترجمة الماضية وهي من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، وموقعها أن لا يظن أن فطر المرء من صيام التطوع لتطييب خاطر أخيه حتم عليه، بل المرجع في ذلك إلى من علم من حاله من كل منهما أنه يشق عليه الصيام، فمتى عرف أن ذلك لا يشق عليه كان الأولى أن يستمر على صومه. قوله: "حدثني خالد هو ابن الحارث" كذا في الأصل، وبيان اسم أبيه من المصنف، كأن شيخه قال حدثنا خالد فقط فأراد بالبيان رفع الإبهام لاشتراك من يسمى خالدا في الرواية عن حميد ممن يمكن محمد بن المثنى أن يروى عنه، ولم يطرد للمصنف هذا فإنه كثيرا ما يقع له ولمشايخه مثل هذا الإبهام ولا يعتني ببيانه. ورجال إسناد هذا الحديث كلهم بصريون. قوله: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم" هي والدة أنس المذكور، ووقع لأحمد من طريق حماد عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم حرام" وهي خالة أنس، لكن في بقية الحديث ما يدل على أنهما معا كانتا مجتمعتين. قوله: "فأتته بتمر وسمن" أي على سبيل الضيافة. وفي قوله: "أعيدوا سمنكم في سقائه" ما يشعر بأنه كان ذائبا، وليس بلازم. قوله: "ثم قام إلى ناحية من البيت فصلى غير المكتوبة" في رواية أحمد عن ابن أبي عدي عن حميد "فصلى ركعتين وصلينا معه" وكأن هذه القصة غير القصة الماضية في أبواب الصلاة التي صلى فيها على الحصير وأقام أنسا خلفه وأم سليم من ورائه، لكن وقع عند أحمد في رواية ثابت المذكورة - وهو لمسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت - نحوه، ثم صلى ركعتين تطوعا فأقام أم حرام وأم سليم خلفنا وأقامني عن يمينه" ويحتمل التعدد لأن القصة الماضية لا ذكر فيها لأم حرام، ويدل على التعدد أيضا أنه هنا لم يأكل وهناك أكل. قوله: "إن لي خويصة" بتشديد الصاد وبتخفيفها تصغير خاصة، وهو مما اغتفر فيه التقاء الساكنين. وقوله: "خادمك أنس" هو عطف بيان أو بدل والخبر محذوف تقديره أطلب منك الدعاء له. ووقع في رواية ثابت المذكورة عند أحمد "إن لي خويصة خويدمك أنس ادع الله له". قوله: "خير آخرة" أي خيرا من خيرات الآخرة. قوله: "إلا دعا لي به: اللهم ارزقه مالا" كذا في الأصل، وعند أحمد من رواية عبيدة بن حميد عن حميد "إلا دعا لي

(4/228)


به، وكان من قوله: اللهم" الخ. قوله: "وبارك له" في رواية الكشميهني: "وبارك له فيه:" وقوله: "فيه: "بالإفراد نظرا إلى اللفظ، ولأحمد "فيهم" نظرا إلى المعنى، ويأتي في الدعوات من طريق قتادة عن أنس "وبارك له فيما أعطيته" وفي رواية ثابت عند مسلم: "فدعا لي بكل خير، وكان آخر ما دعا لي أن قال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه:" ولم يقع في هذه الرواية التصريح بما دعا له من خير الآخرة لأن المال والولد من خير الدنيا، وكأن بعض الرواة اختصره. ووقع لمسلم في رواية الجعد عن أنس "فدعا لي بثلاث دعوات قد رأيت منها اثنتين في الدنيا وأنا أرجو الثالثة في الآخرة" ولم يبينها، وهي المغفرة كما بينها سنان بن ربيعة بزيادة، وذلك فيما رواه ابن سعد بإسناد صحيح عنه عن أنس قال: "اللهم أكثر ماله وولده وأطل عمره واغفر ذنبه". قوله: "فإني لمن أكثر الأنصار مالا" زاد أحمد في رواية ابن أبي عدي "وذكر أنه لا يملك ذهبا ولا فضة غير خاتمه" يعني أن ماله كان من النقدين. وفي رواية ثابت عند أحمد "قال أنس: وما أصبح رجل من الأنصار أكثر مني مالا، قال: يا ثابت وما أملك صفراء ولا بيضاء إلا خاتمي" وللترمذي من طريق أبي خلدة "قال أبو العالية: كان لأنس بستان يحمل في السنة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك" ولأبي نعيم في "الحلية" من طريق حفصة بنت سيرين عن أنس قال: "وإن أرضى لتثمر في السنة مرتين، وما في البلد شيء يثمر مرتين غيرها". قوله: "وحدثتني ابنتي أمينة" بالنون تصغير آمنة "أنه دفن لصلبي" أي من ولده دون أسباطه وأحفاده. قوله: "مقدم الحجاج البصرة" بالنصب على نزع الخافض أي من أول ما مات لي من الأولاد إلى أن قدمها الحجاج. ووقع ذلك صريحا في رواية ابن أبي عدي المذكورة ولفظه: "وذكر أن ابنته الكبرى أمينة أخبرته أنه دفن لصلبه إلى مقدم الحجاج، وكان قدوم الحجاج البصرة سنة خمس وسبعين وعمر أنس حينئذ نيف وثمانون سنة، وقد عاش أنس بعد ذلك إلى سنة ثلاث ويقال اثنتين ويقال إحدى وتسعين وقد قارب المائة. قوله: "بضع وعشرون ومائة" في رواية ابن أبي عدي "نيف على عشرين ومائة" وفي رواية الأنصاري عن حميد عند البيهقي في الدلائل "تسع وعشرون ومائة" وهو عند الخطيب في رواية الآباء عن الأبناء من هذا الوجه بلفظ: "ثلاث وعشرون ومائة" وفي رواية حفصة بنت سيرين "ولقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي خمسة وعشرين ومائة" وفي "الحلية" أيضا من طريق عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال: "دفنت مائة لا سقطا ولا ولد ولد" ولعل هذا الاختلاف سبب العدول إلى البضع والنيف، وفي ذكر هذا دلالة على كثرة ما جاءه من الولد فإن هذا القدر هو الذي مات منهم، وأما الذين بقوا ففي رواية إسحاق ابن أبي طلحة عن أنس عند مسلم: "وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة". وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم جواز التصغير على معنى التلطف لا التحقير، وتحفة الزائر بما حضر بغير تكلف، وجواز رد الهدية إذا لم يشق ذلك على المهدي، وأن أخذ من رد عليه ذلك له ليس من العود في الهبة. وفيه حفظ الطعام وترك التفريط فيه، وجبر خاطر المزور إذا لم يؤكل عنده بالدعاء له، ومشروعية الدعاء عقب الصلاة، وتقديم الصلاة أمام طلب الحاجة، والدعاء بخير الدنيا والآخرة، والدعاء بكثرة المال والولد وأن ذلك لا ينافي الخير الأخروي، وإن فضل التقلل من الدنيا يختلف باختلاف الأشخاص. وفيه زيارة الإمام بعض رعيته، ودخول بيت الرجل في غيبته لأنه لم يقل في طرق هذه القصة إن أبا طلحة كان حاضرا. وفيه إيثار الولد على النفس، وحسن التلطف في السؤال، وأن كثرة الموت في الأولاد لا ينافي إجابة الدعاء بطلب كثرتهم ولا طلب البركة فيهم لما يحصل من المصيبة بموتهم والصبر على ذلك من الثواب. وفيه التحدث بنعم

(4/229)


الله تعالى، وبمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم لما في إجابة دعوته من الأمر النادر وهو اجتماع كثرة المال مع كثرة الولد، وكون بستان المدعو له صار يثمر مرتين في السنة دون غيره. وفيه التأريخ بالأمر الشهير، ولا يتوقف ذلك على صلاح المؤرخ به، وفيه جواز ذكر البضع فيما زاد على عقد العشر خلافا لمن قصره على ما قبل العشرين. قوله: "قال ابن أبي مريم" هو سعيد، وفائدة ذكر هذه الطريق بيان سماع حميد لهذا الحديث من أنس لما اشتهر من أن حميدا كان ربما دلس عن أنس، ووقع في رواية كريمة والأصيلي في هذا الموضع "حدثنا ابن أبي مريم" فيكون موصولا.

(4/230)


62 - باب الصَّوْمِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ
1983- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ عَنْ غَيْلاَنَ ح و حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا غَيْلاَنُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَأَلَهُ أَوْ سَأَلَ رَجُلًا وَعِمْرَانُ يَسْمَعُ فَقَالَ يَا أَبَا فُلاَنٍ أَمَا صُمْتَ سَرَرَ هَذَا الشَّهْرِ قَالَ أَظُنُّهُ قَالَ يَعْنِي رَمَضَانَ قَالَ الرَّجُلُ لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَقُلْ الصَّلْتُ أَظُنُّهُ يَعْنِي رَمَضَانَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِمْرَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ"
قوله: "باب الصوم من آخر الشهر" قال الزين بن المنير: أطلق الشهر، وإن كان الذي يتحرر من الحديث أن المراد به شهر مقيد وهو شعبان إشارة منه إلى أن ذلك لا يختص بشعبان، بل يؤخذ من الحديث الندب إلى صيام أواخر كل شهر ليكون عادة للمكلف فلا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين لقوله فيه: "إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه".قوله: "حدثنا الصلت بن محمد" فتح الصاد المهملة وسكون اللام بعدها مثناة، بصري مشهور، وأضاف إليه رواية أبي النعمان وهو عارم لما وقع فيها من تصريح مهدي بالتحديث من غيلان، والإسناد كله بصريون. قوله: "عن مطرف" هو ابن عبد الله بن الشخير. قوله: "أنه سأله أو سأل رجلا وعمران يسمع" هذا شك من مطرف فإن ثابتا رواه عنه بنحوه على الشك أيضا أخرجه مسلم، وأخرجه من وجهين آخرين عن مطرف بدون شك على الإبهام "أنه قال لرجل" زاد أبو عوانة في مستخرجه "من أصحابه" ورواه أحمد من طريق سليمان التيمي به "قال لعمران" بغير شك. قوله: "يا فلان" كذا للأكثر، وفي نسخة من رواية أبي ذر "يا أبا فلان" بأداة الكنية. قوله: "أما صمت سرر هذا الشهر" في رواية مسلم عن شيبان عن مهدي "سره" بضم المهملة وتشديد الراء بعدها هاء، قال النووي تبعا لابن قرقول: كذا هو في جميع النسخ. انتهى. والذي رأيته في رواية أبي بكر بن ياسر الجياني ومن خطه نقلت "سرر هذا الشهر" كباقي الروايات. وفي رواية ثابت المذكورة "أصمت من سرر شعبان شيئا؟ قال لا". قوله: "قال أظنه قال يعني رمضان" هذا الظن من أبي النعمان، لتصريح البخاري في آخره بأن ذلك لم يقع في رواية أبي الصلت، وكأن ذلك وقع من أبي النعمان لما حدث به البخاري، وإلا فقد رواه الجوزقي من طريق أحمد بن يوسف السلمي عن أبي النعمان بدون ذلك وهو الصواب، ونقل الحميدي عن البخاري أنه قال: إن شعبان أصح، وقيل إن ذلك ثابت في بعض الروايات في الصحيح. وقال الخطابي: ذكر رمضان هنا وهم لأن رمضان يتعين صوم جميعه وكذا قال الداودي وابن الجوزي، ورواه مسلم أيضا من طريق ابن أخي مطرف عن

(4/230)


مطرف بلفظ: "هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا" يعني شعبان، ولم يقع ذلك في رواية هدبة ولا عبد الله بن محمد بن أسماء ولا قطر بن حماد ولا عفان ولا عبد الصمد ولا غيرهم عند أحمد ومسلم والإسماعيلي وغيرهم ولا في باقي الروايات عند مسلم، ويحتمل أن يكون قوله رمضان في قوله: "يعني رمضان" ظرفا للقول الصادر منه صلى الله عليه وسلم لا لصيام المخاطب بذلك، فيوافق رواية الجريري عن مطرف فإن فيها عند مسلم: "فقال له فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه". قوله: "وقال ثابت الخ" وصله أحمد ومسلم من طريق حماد بن سلمة عنه كذلك، ووقع في نسخة الصغاني من الزيادة هنا "قال أبو عبد الله: وشعبان أصح". والسرر بفتح السين المهملة ويجوز كسرها وضمها جمع سرة ويقال أيضا سرار بفتح أوله وكسره، ورجح الفراء الفتح، وهو من الاستسرار، قال أبو عبيد والجمهور: المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سميت بذلك لاستسرار القمر فيها وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين. ونقل أبو داود عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أن سرره أوله، ونقل الخطابي عن الأوزاعي كالجمهور، وقيل السرر وسط الشهر حكاه أبو داود أيضا ورجحه بعضهم، ووجهه بأن السرر جمع سرة وسرة الشيء وسطه، ويؤيده الندب إلى صيام البيض وهي وسط الشهر وأنه لم يرد في صيام آخر الشهر ندب، بل ورد فيه نهي خاص وهو آخر شعبان لمن صامه لأجل رمضان، ورجحه النووي بأن مسلما أفرد الرواية التي فيها سرة هذا الشهر عن بقية الروايات وأردف بها الروايات التي فيها الحض على صيام البيض وهي وسط الشهر كما تقدم، لكن لم أره في جميع طرق الحديث باللفظ الذي ذكره وهو "سرة" بل هو عند أحمد من وجهين بلفظ: "سرار" وأخرجه من طرق عن سليمان التيمي في بعضها سرر وفي بعضها سرار، وهذا يدل على أن المراد آخر الشهر، قال الخطابي قال بعض أهل العلم: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن ذلك سؤال زجر وإنكار، لأنه قد نهى أن يستقبل الشهر بيوم أو يومين، وتعقب بأنه لو أنكر ذلك لم يأمره بقضاء ذلك، وأجاب الخطابي باحتمال أن يكون الرجل أوجبها على نفسه فلذلك أمره بالوفاء وأن يقضي ذلك في شوال. انتهى. وقال ابن المنير في الحاشية: قوله سؤال إنكار فيه تكلف، ويدفع في صدره قول المسئول "لا يا رسول الله" فلو كان سؤال إنكار لكان صلى الله عليه وسلم قد أنكر عليه أنه صام والفرض، أن الرجل لم يصم فكيف ينكر عليه فعل ما لم يفعله؟ ويحتمل أن يكون الرجل كانت له عادة بصيام آخر الشهر فلما سمع نهيه صلى الله عليه وسلم أن يتقدم أحد رمضان بصوم يوم أو يومين ولم يبلغه الاستثناء ترك صيام ما كان اعتاده من ذلك فأمره بقضائها لتستمر محافظته على ما وظف على نفسه من العبادة، لأن أحب العمل إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه كما تقدم. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون هذا كلاما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم جوابا لكلام لم ينقل إلينا ا هـ. ولا يخفى ضعف هذا المأخذ. وقال آخرون: فيه دليل على أن النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين إنما هو لمن يقصد به التحري لأجل رمضان وأما من لم يقصد ذلك فلا يتناوله النهي ولو لم يكن اعتاده، وهو خلاف ظاهر حديث النهي لأنه لم يستثن منه إلا من كانت له عادة، وأشار القرطبي إلى أن الحامل لمن حمل سرر الشهر على غير ظاهره وهو آخر الشهر الفرار من المعارضة لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان بيوم أو يومين وقال: الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك وحمل الأمر على من له عادة حملا للمخاطب بذلك على ملازمة عادة الخير حتى لا يقطع، قال: وفيه إشارة إلى فضيلة الصوم في شعبان وأن صوم يوم منه يعدل صوم يومين في غيره أخذا من قوله في الحديث: "فصم يومين مكانه" يعني مكان اليوم الذي فوته من صيام شعبان. قلت: وهذا لا يتم إلا إن كانت عادة المخاطب بذلك أن

(4/231)


يصوم من شعبان يوما واحدا، وإلا فقوله: "هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا" أعم من أن يكون عادته صيام يوم منه أو أكثر، نعم وقع في سنن أبي مسلم الكجي "فصم مكان ذلك اليوم يومين" وفي الحديث مشروعية قضاء التطوع، وقد يؤخذ منه قضاء الفرض بطريق الأولى خلافا لمن منع ذلك.

(4/232)


63 - باب صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ
1984- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ سَأَلْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَالَ نَعَمْ زَادَ غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ يَعْنِي أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمهٍ"
1985- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لاَ يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلاَّ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ"
1986- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ أَصُمْتِ أَمْسِ قَالَتْ لاَ قَالَ تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا قَالَتْ لاَ قَالَ فَأَفْطِرِي وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ الْجَعْدِ سَمِعَ قَتَادَةَ حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ "أَنَّ جُوَيْرِيَةَ حَدَّثَتْهُ فَأَمَرَهَا فَأَفْطَرَتْ"
قوله: "باب صوم يوم الجمعة، إذا أصبح صائما يوم الجمعة فعليه أن يفطر" كذا في أكثر الروايات، ووقع في رواية أبي ذر وأبي الوقت زيادة هنا وهي "يعني إذا لم يصم قبله ولا يريد أن يصوم بعده" وهذه الزيادة تشبه أن تكون من الفربري أو من دونه فإنها لم تقع في رواية النسفي عن البخاري، ويبعد أن يعبر البخاري عما يقوله بلفظ: "يعني"، ولو كان ذلك من كلامه لقال: أعني، بل كان يستغني عنها أصلا ورأسا، وهذا التفسير لا بد من حمل إطلاق الترجمة عليه لأنه مستفاد من حديث جويرية آخر أحاديث الباب، إذ في الباب ثلاثة أحاديث: أولها حديث جابر وهو مطلق والتقييد فيه تفسير من أحد رواته كما سنبينه، وثانيها حديث أبي هريرة وهو ظاهر في التقييد، وثالثها حديث جويرية وهو أظهرها في ذلك. قوله: "عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة" أي ابن عثمان بن أبي طلحة الحجبي، في رواية عبد الرزاق عن ابن جريج "أخبرني عبد الحميد" أخرجه أحمد عنه ومسلم من طريقه، وكذا أخرجه أبو قرة في السنن عن ابن جريج، والنسائي من طريق حجاج بن محمد عنه، وكان ابن جريج ربما رواه عن محمد بن عباد نفسه ولم يذكر عبد الحميد، كذلك رواه يحيى بن سعيد القطان وحفص بن غياث أخرجه النسائي من طريقهما وكذا الإسماعيلي وزاد فضيل بن سليمان، وأخرجه النسائي أيضا من طريق النضر بن شميل كلهم عن ابن جريج وأومأ الإسماعيلي إلى أن في رواية البخاري عن أبي عاصم نظرا فإنه قال: رواه البخاري عن أبي عاصم" فذكر إسناده قال: وقد رويناه من طريق أبي عاصم كما قال يحيى، ثم ساقه كذلك. قال: وقد رواه أبو سعد الصغاني عن ابن جريج كم ساقه البخاري عن أبي عاصم وأبو سعد ليس كهؤلاء يعني القطان ومن تابعه. قلت: ولم

(4/232)


يصب الإسماعيلي في ذلك فإن رواية البخاري مستقيمة، وقد وافقه على الزيادة الدارمي في مسنده وأبو مسلم الكجي في سننه فأخرجاه عن أبي عاصم كما قال البخاري، وكذلك رواه أبو موسى كما أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب الصيام له عنه عن أبي عاصم، وكذلك أخرجه الجوزقي من طريق محمد بن عقيل بن خويلد عن أبي عاصم كذلك، وابن جريج كان ربما دلس ولهذا قال البيهقي: إن يحيى بن سعيد قصر في إسناده، لكن وقع عند النسائي من طريق يحيى بن سعيد عن ابن جريج "أخبرني محمد بن عباد" فيحمل على أنه سمعه من عبد الحميد عن محمد ثم لقي محمدا فسمعه منه، أو سمع من محمد واستثبت فيه من عبد الحميد فكان يحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، ولعل السر في ذلك أنه كان عند أحدهما في المتن ما ليس عند الآخر كما سنوضحه إن شاء الله تعالى، ولم ينفرد أبو سعد بمتابعة أبي عاصم على ذكر عبد الحميد كما يوهمه كلام الإسماعيلي بل تابعهما عبد الرزاق وأبو قرة وحجاج بن محمد كما قدمت ذكره، وعبد الحميد أكثر عددا ممن رواه عنه بإسقاطه، وعبد الحميد المذكور تابعي صغير روى عن عمته صفية بنت شيبة وهي من صغار الصحابة ووثقه ابن معين وغيره، وليس له في البخاري سوى ثلاثة أحاديث هذا وآخر في بدء الخلق وآخر في الأدب. قوله: "عن محمد بن عباد" في رواية عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد الحميد أن محمد بن عباد أخبره، ورجال هذا الإسناد مكيون إلا شيخ البخاري فهو بصري والصحابي فهو مدني وقد أقاما بمكة زمانا. قوله: "سألت جابرا" في رواية عبد الرزاق المذكورة وكذا في رواية ابن عيينة عن عبد الحميد عند مسلم وأحمد وغيرهما: "سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت" وزادوا أيضا في آخره قال: "نعم ورب هذا البيت" وفي رواية النسائي: "ورب الكعبة" وعزاها صاحب "العمدة" لمسلم فوهم. وفيه جواز الحلف من غير استحلاف لتأكيد الأمر، وإضافة الربوبية إلى المخلوقات المعظمة تنويها بتعظيمها، وفيه الاكتفاء في الجواب بنعم من غير ذكر الأمر المفسر بها. قوله: "زاد غير أبي عاصم يعني أن ينفرد بصومه" وفي رواية الكشميهني:" أن ينفرد بصوم "والغير المشار إليه جزم البيهقي بأنه يحيى بن سعيد القطان، وهو كما قال لكن لم يتعين، فقد أخرجه النسائي بالزيادة من طريقه ومن طريق النضر بن شميل وحفص بن غياث. ولفظ يحيى "أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن ينفرد يوم الجمعة بصوم؟ قال: أي ورب الكعبة" ولفظ حفص "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة مفردا" ولفظ النضر" أن جابرا سئل عن صوم يوم الجمعة فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرد". قوله: "لا يصوم أحدكم" كذا للأكثر وهو بلفظ النفي والمراد به النهي. وفي رواية الكشميهني: "لا يصومن" بلفظ النهي المؤكد. قوله: "إلا يوما قبله أو بعده" تقديره إلا أن يصوم يوما قبله لأن يوما لا يصح استثناؤه من يوم الجمعة. وقال الكرماني: يجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض تقديره إلا بيوم قبله وتكون الباء للمصاحبة. وفي رواية الإسماعيلي من طريق محمد بن أشكاب عن عمر بن حفص شيخ البخاري فيه: "إلا أن تصوموا قبله أو بعده " ولمسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش "لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يصوم بعده" وللنسائي من هذا الوجه "إلا أن يصوم قبله يوما أو يصوم بعده يوما" ولمسلم من طريق هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" ورواه أحمد من طريق عوف عن ابن سيرين بلفظ: "نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم"، وله من طريق أبي الأوبر زياد الحارثي" أن رجلا قال لأبي هريرة: أنت الذي تنهى الناس عن صوم يوم الجمعة؟ قال ها ورب الكعبة ثلاثا، لقد سمعت محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: لا يصوم

(4/233)


أحدكم يوم الجمعة وحده إلا في أيام معه " وله من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها" وهذه الأحاديث تقيد النهي المطلق في حديث جابر وتؤيد الزيادة التي تقدمت من تقييد الإطلاق بالإفراد، ويؤخذ من الاستثناء جوازه لمن صام قبله أو بعده أو اتفق وقوعه في أيام له عادة بصومها كمن يصوم أيام البيض أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة، ويؤخذ منه جواز صومه لمن نذر يوم قدوم زيد مثلا أو يوم شفاء فلان. قوله: "وحدثني محمد حدثنا غندر" لم ينسب محمد المذكور في شيء من الطرق، والذي يظهر أنه بندار محمد بن بشار وبذلك جزم أبو نعيم في "المستخرج" بعد أن أخرجه من طريقه ومن طريق محمد بن المثنى جميعا عن غندر. قوله: "عن أبي أيوب" في رواية يوسف القاضي في الصيام له من طريق خالد بن الحارث عن شعبة عن قتادة "سمعت أبا أيوب" ووافقه همام عن قتادة أخرجه أبو داود وقال في روايته: "عن أبي أيوب العتكي" وهو بفتح المهملة والمثناة نسبة إلى بطن من الأزد، ويقال له أيضا المراغي بفتح الميم والراء ثم بالغين المعجمة، ورواه الطحاوي من طريق شعبة وهمام وحماد بن سلمة جميعا عن قتادة، وليس لجويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري من روايتها سوى هذا الحديث، وله شاهد من حديث جنادة بن أبي أمية عند النسائي بإسناد صحيح بمعنى حديث جويرية، واتفق شعبة وهمام عن قتادة على هذا الإسناد، وخالفهما سعيد بن أبي عروبة فقال عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن العاص "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية" فذكره أخرجه النسائي وصححه ابن حبان، والراجح طريق شعبة لمتابعة همام وحماد ابن سلمة له وكذا حماد بن الجعد كما سيأتي، ويحتمل أن تكون طريق سعيد محفوظة أيضا فإن معمرا رواه عن قتادة عن سعيد بن المسيب أيضا لكن أرسله. قوله: "أفطري" زاد أبو نعيم في روايته: "إذا". قوله:" وقال حماد بن الجعد الخ" وصله أبو القاسم البغوي في "جمع حديث هدبة بن خالد" قال: "حدثنا هدبة حدثنا حماد بن الجعد سئل قتادة عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم فقال حدثني أبو أيوب "فذكره وقال في آخره:" فأمرها فأفطرت "وحماد بن الجعد فيه لين، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع. واستدل بأحاديث الباب على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام، ونقله أبو الطيب الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية، وكأنه أخذه من قول ابن المنذر: ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد، وزاد يوم الجمعة الأمر بفطر من أراد إفراده بالصوم فهذا قد يشعر بأنه يرى بتحريمه. وقال أبو جعفر الطبري: يفرق بين العيد والجمعة بأن الإجماع منعقد على تحريم صوم يوم العيد ولو صام قبله أو بعده، بخلاف يوم الجمعة فالإجماع منعقد على جواز صومه لمن صام قبله أو بعده. ونقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه عن علي وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر، قال ابن حزم: لا نعلم لهم مخالفا من الصحابة. وذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه، وعن مالك وأبي حنيفة لا يكره، قال مالك: لم أسمع أحدا ممن يقتدي به ينهى عنه، قال الداودي: لعل النهي ما بلغ مالكا. وزعم عياض أن كلام مالك يؤخذ منه النهي عن إفراده لأنه كره أن يخص يوم من الأيام بالعبادة فيكون له في المسألة روايتان. وعاب ابن العربي قول عبد الوهاب منهم: يوم لا يكره صومه مع غيره فلا يكره وحده، لكونه قياسا مع وجود النص. واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وقلما كان يفطر يوم الجمعة" حسنه الترمذي، وليس فيه حجة لأنه يحتمل أن يريد كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها، ولا يضاد ذلك كراهة إفراده بالصوم جمعا بين الحديثين، ومنهم من عده من الخصائص

(4/234)


، وليس بجيد لأنها لا تثبت بالاحتمال. والمشهور عند الشافعية وجهان: أحدهما ونقله المزني عن الشافعي أنه لا يكره إلا لمن أضعفه صومه عن العبادة التي تقع فيه من الصلاة والدعاء والذكر، والثاني وهو الذي صححه المتأخرون كقول الجمهور واختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال: أحدها لكونه يوم عيد والعيد لا يصام، واستشكل ذلك مع الإذن بصيامه مع غيره. وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة، ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم. ثانيها لئلا يضعف عن العبادة وهذا اختاره النووي، وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه، وأجاب أنه يحصل بفضيلة اليوم الذي قبله أو بعده جبر ما يحصل يوم صومه من فتور أو تقصير، وفيه نظر فإن الجيران لا ينحصر في الصوم بل يحصل بجميع أفعال الخير فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل فيه خيرا كثيرا يقوم مقام صيام يوم قبله أو بعده كمن أعتق فيه رقبة مثلا ولا قائل بذلك. وأيضا فكأن النهي يختص بمن يخشى عليه الضعف لا من يتحقق القوة، ويمكن الجواب عن هذا بأن المظنة أقيمت مقام المئنة كما في جواز الفطر في السفر لمن لم يشق عليه. ثالثها خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت، وهو منتقض بثبوت تعظيمه بغير الصيام، وأيضا فاليهود لا يعظمون السبت بالصيام فلو كان الملحوظ ترك موافقتهم لتحتم صومه لأنهما لا يصومونه. وقد روى أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من الأيام السبت والأحد وكان يقول إنهما يوما عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم" . رابعها خوف اعتقاد وجوبه، وهو منتقض بصوم الاثنين والخميس، وسيأتي ذكر ما ورد فيهما في الباب الذي يليه. خامسها خشية أن يفرض عليهم كما خشي صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل ذلك، قال المهلب: وهو منتقض بإجازة صومه مع غيره، وبأنه لو كان كذلك لجاز بعده صلى الله عليه وسلم لارتفاع السبب، لكن المهلب حمله على ذلك اعتقاده عدم الكراهة على ظاهر مذهبه. سادسها مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه ونحن مأمورون بمخالفتهم نقلها القمولي وهو ضعيف. وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب أولها، وورد فيه صريحا حديثان: أحدهما رواه الحاكم وغيره من طريق عامر بن لدين عن أبي هريرة مرفوعا: "يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده" . والثاني رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي وقال: "من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس، ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر" .

(4/235)


64 - باب هَلْ يَخُصُّ شَيْئًا مِنْ الأَيَّامِ؟
1987- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَصُّ مِنْ الأَيَّامِ شَيْئًا قَالَتْ لاَ كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيقُ؟
[الحديث 1987- طرفه في: 6466]
قوله: "باب هل يخص" بفتح أوله أي المكلف "شيئا من الأيام" وفي رواية النسفي "يخص شيء" بضم أول يخص على البناء للمجهول: شيء من الأيام، قال الزين بن المنير وغيره لم يجزم بالحكم لأن ظاهر الحديث إدامته صلى الله عليه وسلم العبادة ومواظبته على وظائفها، ويعارضه ما صح عن عائشة نفسها مما يقتضي نفي المداومة، وهو ما أخرجه مسلم

(4/235)


من طريق أبي سلمة ومن طريق عبد الله بن شقيق جميعا عن عائشة أنها "سئلت عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يصوم حتى نقول قد صام ويفطر حتى نقول قد أفطر" وتقدم نحوه قريبا في البخاري من حديث ابن عباس وغيره، فأبقى الترجمة على الاستفهام ليترجح أحد الخبرين أو يتبين الجمع بينهما، ويمكن الجمع بينهما بأن قولها "كان عمله ديمة" معناه أن اختلاف حاله في الإكثار من الصوم ثم من الفطر كان مستداما مستمرا، وبأنه صلى الله عليه وسلم كان يوظف على نفسه العبادة فربما شغله عن بعضها شاغل فيقضيها على التوالي فيشتبه الحال على من يرى ذلك، فقول عائشة "كان عمله ديمة" منزل على التوظيف، وقولها "كان لا تشاء أن تراه صائما إلا رأيته" منزل على الحال الثاني، وقد تقدم نحو هذا في "باب ما يذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم:" وقيل معناه أنه كان لا يقصد نفلا ابتداء في يوم بعينه فيصومه، بل إذا صام يوما بعينه كالخميس مثلا داوم على صومه. قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان وسفيان هو الثوري ومنصور هو ابن المعتمر وإبراهيم هو النخعي وعلقمة خاله. وهذا الإسناد مما يعد من أصح الأسانيد. قوله: "هل كان يختص من الأيام شيئا: قالت لا" قال ابن التين: استدل به بعضهم على كراهة تحري صيام يوم من الأسبوع، وأجاب الزين بن المنير بأن السائل في حديث عائشة إنما سأل عن تخصيص يوم من الأيام من حيث كونها أياما، وأما ما ورد تخصيصه من الأيام بالصيام فإنما خصص لأمر لا يشاركه فيه بقية الأيام كيوم عرفة ويوم عاشوراء وأيام البيض وجميع ما عين لمعنى خاص. وإنما سأل عن تخصيص يوم لكونه مثلا يوم السبت، ويشكل على هذا الجواب صوم الاثنين والخميس فقد وردت فيهما أحاديث وكأنها لم تصح على شرط البخاري فلهذا أبقى الترجمة على الاستفهام، فإن ثبت فيهما ما يقتضي تخصيصهما استثنى من عموم قول عائشة لا. قلت: ورد في صيام يوم الاثنين والخميس عدة أحاديث صحيحة، منها حديث عائشة أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه ابن حبان من طريق ربيعة الجرشي عنها ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس" وحديث أسامة "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الاثنين والخميس، فسألته فقال: إن الأعمال تعرض يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة، فعلى هذا فالجواب عن الإشكال أن يقال: لعل المراد بالأيام المسئول عنها الأيام الثلاثة من كل شهر، فكأن السائل لما سمع أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يصوم ثلاثة أيام" ورغب في أنها تكون أيام البيض سأل عائشة: هل كان يخصها بالبيض؟ فقالت: "لا، كان عمله ديمة" تعني لو جعلها البيض لتعينت وداوم عليها، لأنه كان يحب أن يكون عمله دائما، لكن أراد التوسعة بعدم تعينها فكان لا يبالي من أي الشهر صامها كما تقدمت الإشارة إليه في "باب صيام البيض" وأن مسلما روى من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وما يبالي من أي الشهر صام" وقد أورد ابن حبان حديث الباب وحديث عائشة في صيام الاثنين والخميس وحديثها "كان يصوم حتى نقول لا يفطر" وأشار إلى أن بينهما تعارضا ولم يفصح عن كيفية الجمع بينهما، وقد فتح الله بذلك بفضله. قوله: "يختص" في رواية جرير عن منصور في الرقاق "يخص" بغير مثناة. قوله: "ديمة" بكسر أوله وسكون التحتانية أي دائمة، قال أهل اللغة: الديمة مطر يدوم أياما، ثم أطلقت على كل شيء يستمر. قوله: "وأيكم يطيق" في رواية جرير "يستطيع" في الموضعين والمعني متقارب.

(4/236)


65 - باب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ
1988- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَيْرٌ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ أَنَّ

(4/236)


أُمَّ الْفَضْلِ حَدَّثَتْهُ ح و حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ"
1989- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِي صِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِحِلاَبٍ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الْمَوْقِفِ فَشَرِبَ مِنْهُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ"
قوله: "باب صوم يوم عرفة" أي ما حكمه؟ وكأنه لم تثبت الأحاديث الواردة في الترغيب في صومه على شرطه وأصحها حديث أبي قتادة "أنه يكفر سنة آتية وسنة ماضية" أخرجه مسلم وغيره، والجمع بينه وبين حديثي الباب أن يحمل على غير الحاج أو على من لم يضعفه صيامه عن الذكر والدعاء المطلوب للحاج كما سيأتي تفصيل ذلك. قوله: "حدثني سالم" هو أبو النضر المذكور في الطريق الثانية وهو بكنيته أشهر، وربما جاء باسمه وكنيته معا فيقال حدثنا سالم أبو النضر، وإنما ساق البخاري الطريق الأولى مع نزولها لما فيها من التصريح بالتحديث في المواضع التي وقعت بالعنعنة في الطريق الثانية مع علوها، وما أكثر ما يحرص البخاري على ذلك في هذا الكتاب. قوله: "عمير مولى أم الفضل" هو عمير مولى ابن عباس، فمن قال مولى أم الفضل فباعتبار أصله ومن قال مولى ابن عباس فباعتبار ما آل إليه حاله، لأن أم الفضل هي والدة ابن عباس وقد انتقل إلى ابن عباس ولاء موالي أمه. وليس لعمير في البخاري سوى هذا الحديث، وقد أخرجه أيضا في الحج في موضعين وفي الأشربة في ثلاثة مواضع، وحديث آخر تقدم في التيمم. قوله: "أن ناسا تماروا" أي اختلفوا، ووقع عند الدار قطني في "الموطآت" من طريق أبي نوح عن مالك "اختلف ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "في صوم النبي صلى الله عليه وسلم" هذا يشعر بأن صوم يوم عرفة كان معروفا عندهم معتادا لهم في الحضر، وكأن من جزم بأنه صائم استند إلى ما ألفه من العبادة، ومن جزم بأنه غير صائم قامت عنده قرينة كونه مسافرا، وقد عرف نهيه عن صوم الفرض في السفر فضلا عن النفل. قوله: "فأرسلت" سيأتي في الحديث الذي يليه أن ميمونة بنت الحارث هي التي أرسلت، فيحتمل التعدد، ويحتمل أنهما معا أرسلتا فنسب ذلك إلى كل منهما لأنهما كانتا أختين فتكون ميمونة أرسلت بسؤال أم الفضل لها في ذلك لكشف الحال في ذلك ويحتمل العكس، وسيأتي الإشارة إلى تعيين كون ميمونة هي التي باشرت الإرسال. ولم يسم الرسول في طرق حديث أم الفضل، لكن روى النسائي من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس ما يدل على أنه كان الرسول بذلك، ويقوي ذلك أنه كان ممن جاء عنه أنه أرسل إما أمه وإما خالته. قوله: "وهو واقف على بعيره" زاد أبو نعيم في "المستخرج" من طريق يحيى بن سعيد عن مالك "وهو يخطب الناس بعرفة" وللمصنف في الأشربة من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة عن أبي النضر "وهو واقف عشية عرفة" ولأحمد والنسائي من طريق عبد الله بن عباس عن أمه أم الفضل "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة". قوله: "فشربه" زاد في حديث

(4/237)


ميمونة "والناس ينظرون". قوله: "أخبرني عمرو" هو ابن الحارث، وبكير هو ابن عبد الله بن الأشج، ونصف إسناده الأول مصريون والآخر مدنيون، وقوله: "بحلاب" بكسر المهملة هو الإناء الذي يجعل فيه اللبن، وقيل الحلاب: اللبن المحلوب، وقد يطلق على الإناء ولو لم يكن فيه لبن. "تنبيه": روى الإسماعيلي حديث ابن وهب بثلاثة أسانيد: أحدها عنه عن مالك بإسناده، والثاني عنه عن عمرو بن الحارث عن سالم أبي النضر شيخ مالك فيه به، والثالث عن عمرو عن بكير به، واقتصر البخاري على أحد أسانيده اكتفاء برواية غيره كما سبق. واستدل بهذين الحديثين على استحباب الفطر يوم عرفة بعرفة، وفيه نظر لأن فعله المجرد لا يدل على نفي الاستحباب إذ قد يترك الشيء المستحب لبيان الجواز ويكون في حقه أفضل لمصلحة التبليغ، نعم روى أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم من طريق عكرمة أن أبا هريرة حدثهم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة" وأخذ بظاهره بعض السلف فجاء عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: يجب فطر يوم عرفة للحاج، وعن ابن الزبير وأسامة ابن زيد وعائشة: أنهم كانوا يصومونه، وكان ذلك يعجب الحسن ويحكيه عن عثمان، وعن قتادة مذهب آخر قال: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء، ونقله البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي في القديم، واختاره الخطابي والمتولي من الشافعية. وقال الجمهور: يستحب فطره، حتى قال عطاء من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم. وقال الطبري إنما أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ليدل على الاختيار للحاج بمكة لكي لا يضعف عن الدعاء والذكر المطلوب يوم عرفة، وقيل إنما أفطر لموافقته يوم الجمعة وقد نهى عن إفراده بالصوم، ويبعده سياق أول الحديث، وقيل إنما كره صوم يوم عرفة لأنه يوم عيد لأهل الموقف لاجتماعهم فيه، ويؤيده ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعا: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام". وفي الحديث من الفوائد أن العيان أقطع للحجة وأنه فوق الخبر، وأن الأكل والشرب في المحافل مباح ولا كراهة فيه للضرورة، وفيه قبول الهدية من المرأة من غير استفصال منها هل هو من مال زوجها أو لا، ولعل ذلك من القدر الذي لا يقع فيه المشاحجة، قال المهلب: وفيه نظر لما تقدم من احتمال أنه من بيت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه تأسى الناس بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه البحث والاجتهاد في حياته صلى الله عليه وسلم، والمناظرة في العلم بين الرجال والنساء، والتحيل على الاطلاع على الحكم بغير سؤال. وفيه فطنة أم الفضل لاستكشافها عن الحكم الشرعي بهذه الوسيلة اللطيفة اللائقة بالحال، لأن ذلك كان في يوم حر بعد الظهيرة، قال ابن المنير في الحاشية: لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم ناول فضله أحدا، فلعله علم أنها خصته به، فيؤخذ منه مسألة التمليك المقيد. انتهى. ولا يخفى بعده ا هـ. وقد وقع في حديث ميمونة "فشرب منه" وهو مشعر بأنه لم يستوف شربه منه. وقال الزين بن المنير: لعل استبقاءه لما في القدح كان قصدا لإطالة زمن الشرب حتى يعم نظر الناس إليه ليكون أبلغ في البيان. وفيه الركوب في حال الوقوف، وقد تقدمت مباحثه في كتاب الحج، وترجم له في كتاب الأشربة "في الشرب في القدح وشرب الواقف على البعير".

(4/238)


66 - باب صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ
1990-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ قَالَ شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ

(4/238)


صِيَامِهِمَا يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ وَالْيَوْمُ الْآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ
[الحديث 1990- طرفه في: 5571]
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَنْ قَالَ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ قَالَ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدْ أَصَابَ
1991- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ وَعَنْ الصَّمَّاءِ وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي الثَوْبٍ الوَاحد"
1992- وَعَنْ صَلاَةٍ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ
قوله: "باب صوم يوم الفطر" أي ما حكمه؟ قال الزين بن المنير: لعله أشار إلى الخلاف فيمن نذر صوم يوم فوافق يوم العيد هل ينعقد نذره أم لا؟ وسأذكر ما قيل في ذلك إن شاء الله تعالى. قوله: "مولى ابن أزهر" في رواية الكشميهني: "مولى بني أزهر" وكذا في رواية مسلم، وسيأتي ذكره في آخر الكلام على الحديث. قوله: "شهدت العيد" زاد يونس عن الزهري في روايته الآتية في الأضاحي "يوم الأضحى". قوله: "هذان" فيه التغليب، وذلك أن الحاضر يشار إليه بهذا والغائب يشار إليه بذاك فلما أن جمعهما اللفظ قال: "هذان" تغليبا للحاضر على الغائب. قوله: "يوم فطركم" برفع يوم إما على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره أحدهما، أو على البدل من قوله: "يومان" وفي رواية يونس المذكورة "أما أحدهما فيوم فطركم" قيل وفائدة وصف اليومين الإشارة إلى العلة في وجوب فطرهما وهو الفصل من الصوم وإظهار تمامه وحده بفطر ما بعده، والآخر لأجل النسك المتقرب بذبحه ليؤكل منه، ولو شرع صومه لم يكن لمشروعية الذبح فيه معنى فعبر عن علة التحريم بالأكل من النسك لأنه يستلزم النحر ويزيد فائدة التنبيه على التعليل، والمراد بالنسك هنا الذبيحة المتقرب بها قطعا، قيل ويستنبط من هذه العلة تعين السلام للفصل من الصلاة. وفي الحديث تحريم صوم يومي العيد سواء النذر والكفارة والتطوع والقضاء والتمتع وهو بالإجماع، واختلفوا فيمن قدم فصام يوم عيد: فعن أبي حنيفة ينعقد، وخالفه الجمهور، فلو نذر صوم يوم قدوم زيد فقدم يوم العيد فالأكثر لا ينعقد النذر، وعن الحنفية ينعقد ويلزمه القضاء. وفي رواية يلزمه الإطعام، وعن الأوزاعي يقضي إلا إن نوى استثناء العيد، وعن مالك في رواية يقضي إن نوى القضاء وإلا فلا، وسيأتي في الباب الذي يليه عن ابن عمر أنه توقف في الجواب عن هذه المسألة، وأصل الخلاف في هذه المسألة أن النهي هل يقتضي صحة المنهي عنه؟ قال الأكثر: لا، وعن محمد بن الحسن نعم، واحتج بأنه لا يقال للأعمى لا يبصر لأنه تحصيل الحاصل، فدل على أن صوم يوم العيد ممكن، وإذا أمكن ثبت الصحة. وأجيب أن الإمكان المذكور عقلي. والنزاع في الشرعي، والمنهي عنه شرعا غير ممكن فعله شرعا. ومن حجج المانعين أن النفل المطلق إذا نهى عن فعله لم ينعقد لأن المنهي مطلوب الترك سواء كان للتحريم أو للتنزيه، والنفل مطلوب الفعل فلا يجتمع الضدان. والفرق بينه وبين الأمر ذي الوجهين كالصلاة في الدار المغصوبة أن النهي عن الإقامة في المغصوب ليست لذات الصلاة بل للإقامة وطلب الفعل لذات العبادة، بخلاف صوم يوم النحر مثلا فإن النهي فيه لذات الصوم فافترقا. والله أعلم. قوله: "قال أبو

(4/239)


عبد الله" هو المصنف "قال ابن عيينة: من قال مولى ابن أزهر فقد أصاب، ومن قال مولى عبد الرحمن بن عوف فقد أصاب" انتهى. وكلام ابن عيينة هذا حكاه عنه علي بن المديني في "العلل" وقد أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده عن ابن عيينة عن الزهري فقال: "عن أبي عبيد مولى ابن أزهر" وأخرجه الحميدي في مسنده عن ابن عيينة "حدثني الزهري سمعت أبا عبيد" فذكر الحديث ولم يصفه بشيء، ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري فقال: "عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن ابن عوف" وكذا قال جويرية وسعيد الزبيري ومكي بن إبراهيم عن مالك حكاه أبو عمر وذكر أن ابن عيينة أيضا كان يقول فيه كذلك. وقال ابن التين: وجه كون القولين صوابا ما روي أنهما اشتركا في ولائه، وقيل يحمل أحدهما على الحقيقة والآخر على المجاز، وسبب المجاز إما بأنه كان يكثر ملازمة أحدهما إما لخدمته أو للأخذ عنه أو لانتقاله من ملك أحدهما إلى ملك الآخر، وجزم الزبير بن بكار بأنه كان مولى عبد الرحمن ابن عوف، فعلى هذا فنسبته إلى ابن أزهر هي المجازية ولعلها بسبب انقطاعه إليه بعد موت عبد الرحمن ابن عوف، واسم ابن أزهر أيضا عبد الرحمن وهو ابن عم عبد الرحمن بن عوف وقيل ابن أخيه، وقد تقدم له ذكر في الصلاة في حديث كريب عن أم سلمة، ويأتي في أواخر المغازي. قوله: "عن عمرو بن يحيى" هو المازني. قوله: "وعن الصماء" بفتح المهملة وتشديد الميم والمد. قوله: "وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد" زاد الإسماعيلي من طريق خالد الطحان عن عمرو بن يحيى "لا يواري فرجه بشيء" ومن طريق عبد العزيز بن المختار عن عمرو "ليس بين فرجه وبين السماء شيء" وفد سبق الكلام عليه في "باب ما يستر من العورة" في أوائل الصلاة، وسبق الكلام على بقية الحديث في المواقيت.

(4/240)


67 - باب صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ
1993- حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار عن عطاء بن ميناء قال سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يُنْهَى عَنْ صِيَامَيْنِ وَبَيْعَتَيْنِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ وَالْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ"
1994- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُعَاذٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ رَجُلٌ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَالَ أَظُنُّهُ قَالَ الِاثْنَيْنِ فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ عِيدٍ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ"
[الحديث 1994- طرفاه في: 6705، 6706]
1995- حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ قَزَعَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً قَالَ سَمِعْتُ أَرْبَعًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْجَبْنَنِي قَالَ لاَ تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إِلاَّ وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ وَلاَ صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ

(4/240)


الْفِطْرِ وَالأَضْحَى وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَلاَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ وَلاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا"
قوله: "باب صوم يوم النحر" في رواية الكشميهني: "باب الصوم"، والقول فيه كالقول في الذي قبله. قوله: "أخبرنا هشام" هو ابن يوسف. قوله: "ينهي" كذا هنا بضم أوله على البناء للمجهول، ووقع هذا الحديث هنا مختصرا، وسيأتي الكلام على تفسير الملامسة والمنابذة في البيوع إن شاء الله تعالى. قوله: "حدثنا معاذ" هو ابن معاذ العنبري، وابن عون هو عبد الله، والإسناد بصريون، وزياد ابن جبير بالجيم والموحدة مصغرا أي ابن حية بالمهملة والتحتانية الثقيلة. قوله: "جاء رجل إلى ابن عمر" لم أقف على اسمه، ووقع عند أحمد عن هشيم عن يونس بن عبيد عن زياد بن جبير "رأيت رجلا جاء إلى ابن عمر" فذكره. وأخرج ابن حبان من طريق كريمة بنت سيرين أنها سألت ابن عمر فقالت: "جعلت على نفسي أن أصوم كل يوم أربعاء واليوم يوم الأربعاء وهو يوم النحر، فقال: أمر الله بوفاء النذر" الحديث، وله عن إسماعيل عن يونس بسنده "سأل رجل ابن عمر وهو يمشي بمنى". قوله: "أظنه قال الاثنين" ولمسلم من طريق وكيع عن ابن عون "نذرت أن أصوم يوما" ولم يعينه، وعند الإسماعيلي من طريق النضر بن شميل عن ابن عون "نذر أن يصوم كل اثنين أو خميس" ومثله لأبي عوانة من طريق شعبة عن يونس بن عبيد عن زياد لكن لم يقل "أو خميس" وفي رواية يزيد بن زريع عن يونس ابن عبيد عند المصنف في النذر "أن أصوم كل ثلاثاء وأربعاء" ومثله للدار قطني من رواية هشيم المذكورة لكن لم يذكر الثلاثاء، وللجوزقي من طريق أبي قتيبة عن شعبة عن يونس "أنه نذر أن يصوم كل جمعة" ونحوه لأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة. قوله: "فوافق ذلك يوم عيد" لم يفسر العيد في هذه الرواية، ومقتضى إدخاله هذا الحديث في ترجمة صوم يوم النحر أن يكون المسئول عنه يوم النحر، وهو مصرح به في رواية يزيد بن زريع المذكورة ولفظه: "فوافق يوم النحر" ومثله في رواية أحمد عن إسماعيل بن علية عن يونس. وفي رواية وكيع "فوافق يوم أضحى أو فطر". وللمصنف في النذور من طريق حكيم بن أبي حرة عن ابن عمر مثله، وهو محتمل أن يكون للشك أو للتقسيم. قوله: "أمر الله بوفاء النذر الخ" قال الخطابي: تورع ابن عمر عن قطع الفتيا فيه، وأما فقهاء الأمصار فاختلفوا. قلت: وقد تقدم شرح اختلافهم قبل، وتقدم عن ابن عمر قريب من هذا في كتاب الحج في "باب متى يحل المعتمر" وأمره في التورع عن بت الحكم ولا سيما عند تعارض الأدلة مشهور. وقال الزين بن المنير: يحتمل أن يكون ابن عمر أراد أن كلا من الدليلين يعمل به فيصوم يوما مكان يوم النذر ويترك الصوم يوم العيد فيكون فيه سلف لمن قال بوجوب القضاء. وزعم أخوه ابن المنير في الحاشية أن ابن عمر نبه على أن الوفاء بالنذر عام والمنع من صوم العيد خاص، فكأنه أفهمه أنه يقضي بالخاص على العام، وتعقبه أخوه بأن النهي عن صوم يوم العيد أيضا عموم للمخاطبين ولكل عيد فلا يكون من حمل الخاص على العام، ويحتمل أن يكون ابن عمر أشار إلى قاعدة أخرى وهي أن الأمر والنهي إذا التقيا في محل واحد أيهما يقدم؟ والراجح يقدم النهي فكأنه قال لا تصم. وقال أبو عبد الملك: توقف ابن عمر يشعر بأن النهي عن صيامه ليس لعينه. وقال الداودي: المفهوم من كلام ابن عمر تقديم النهي لأنه قد روي أمر من نذر أن يمشي في الحج بالركوب فلو كان يجب الوفاء به لم يأمره بالركوب.قوله: "سمعت قزعة" بفتح القاف

(4/241)


والزاي هو ابن يحيى، وقد تقدم الكلام على حديث أبي سعيد مفرقا: أما سفر المرأة ففي الحج، وأما الصلاة بعد الصبح والعصر ففي المواقيت، وأما شد الرحال ففي أواخر الصلاة، وأما الصوم وهو الغرض من إيراد هذا الحديث هنا فقد تقدم حكمه. واستدل به على جواز صيام أيام التشريق للاقتصار فيه على ذكر يومي الفطر والنحر خاصة، وسيأتي البحث في ذلك في الباب الذي يليه.

(4/242)


68 - باب صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
1996- وَقَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ بِمِنًى وَكَانَ أَبُوهَا يَصُومُهَا"
1997-1998- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسى بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالاَ لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ"
1999- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ صَامَ أَيَّامَ مِنًى" وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
قوله: "باب صيام أيام التشريق" أي الأيام التي بعد يوم النحر، وقد اختلف في كونها يومين أو ثلاثة، وسميت أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها أي تنشر في الشمس، وقيل لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس، وقيل لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس، وقيل التشريق التكبير دبر كل صلاة، وهل تلتحق بيوم النحر في ترك الصيام كما تلتحق به في النحر وغيره من أعمال الحج أو يجوز صيامها مطلقا أو للمتمتع خاصة أو له ولمن هو في معناه؟ وفي كل ذلك اختلاف للعلماء، والراجح عند البخاري جوازها للمتمتع، فإنه ذكر في الباب حديثي عائشة وابن عمر في جواز ذلك ولم يورد غيره، وقد روى ابن المنذر وغيره عن الزبير بن العوام وأبي طلحة من الصحابة الجواز مطلقا، وعن علي وعبد الله بن عمرو ابن العاص المنع مطلقا وهو المشهور عن الشافعي وعن ابن عمر وعائشة وعبيد بن عمير في آخرين منعه إلا للمتمتع الذي لا يجد للهدي، وهو قول مالك والشافعي في القديم، وعن الأوزاعي وغيره يصومها أيضا المحصر والقارن، وحجة من منع حديث نبيشة الهذلي عند مسلم مرفوعا: "أيام التشريق أيام أكل وشرب" وله من حديث كعب بن مالك "أيام منى أيام أكل وشرب" ومنها حديث عمرو بن العاص أنه قال لابنه عبد الله في أيام التشريق "إنها الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومهن وأمر بفطرهن" أخرجه أبو داود وابن المنذر وصححه ابن خزيمة والحاكم. قوله: "قال لي محمد بن المثنى" كأنه لم يصرح فيه بالتحديث لكونه موقوفا على عائشة كما عرف من عادته بالاستقراء، ويحيى المذكور في الإسناد هو القطان وهشام هو ابن عروة. قوله: "أيام منى" في رواية المستملي: "أيام التشريق بمنى". قوله: "وكان أبوه يصومها" هو كلام القطان، والضمير

(4/242)


لهشام بن عروة، وفاعل يصومها هو عروة، والضمير فيه لأيام التشريق. ووقع في رواية كريمة: "وكان أبوها" وعلى هذا فالضمير لعائشة وفاعل يصومها هو أبو بكر الصديق. قوله: "سمعت عبد الله بن عيسى" زاد في رواية الكشميهني بن أبي ليلى وأبو ليلى جد أبيه فهو عبد الله ابن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ابن أخي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه المشهور، وكان عبد الله أسن من عمه محمد وكان يقال إنه أفضل من عمه، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في أحاديث الأنبياء من روايته عن جده عبد الرحمن عن كعب بن عجرة. قوله: "عن الزهري" في رواية الدار قطني من طريق النضر بن شميل عن شعبة عن عبد الله بن عيسى "سمعت الزهري". قوله: "وعن سالم" هو من رواية الزهري عن سالم فهو موصول. قوله: "قالا لم يرخص" كذا رواه الحفاظ من أصحاب شعبة بضم أوله على البناء لغير معين، ووقع في رواية يحيى بن سلام عن شعبة عند الدار قطني واللفظ له والطحاوي "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق" وقال أن يحيى بن سلام ليس بالقوي، ولم يذكر طريق عائشة، وأخرجه من وجه آخر ضعيف عن الزهري عن عروة عن عائشة، وإذا لم تصح هذه الطرق المصرحة بالرفع بقي الأمر على الاحتمال، وقد اختلف علماء الحديث في قول الصحابي "أمرنا بكذا ونهينا عن كذا" هل له حكم الرفع على أقوال ثالثها إن أضافه إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع وإلا فلا، واختلف الترجيح فيما إذا لم يضفه، ويلتحق به "رخص لنا في كذا وعزم علينا أن لا نفعل كذا" كل في الحكم سواء، فمن يقول إن له حكم الرفع فغاية ما وقع في رواية يحيى بن سلام أنه روى بالمعنى، لكن قال الطحاوي إن قول ابن عمر وعائشة "لم يرخص" أخذاه من عموم قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} لأن قوله: {فِي الْحَجِّ} يعم ما قبل يوم النحر وما بعده فيدخل أيام التشريق، فعلى هذا فليس بمرفوع بل هو بطريق الاستنباط منهما عما فهماه من عموم الآية، وقد ثبت نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق وهو عام في حق المتمتع وغيره، وعلى هذا فقد تعارض عموم الآية المشعر بالإذن وعموم الحديث المشعر بالنهي، وفي تخصيص عموم المتواتر بعموم الآحاد نظر لو كان الحديث مرفوعا فكيف وفي كونه مرفوعا نظر؟ فعلى هذا يترجح القول بالجواز، وإلى هذا جنح البخاري. والله أعلم. قوله في طريق عبد الله بن عيسى "إلا لمن لم يجد الهدي" في رواية أبي عوانة عن عبد الله بن عيسى عند الطحاوي "إلا لمتمتع أو محصر". قوله: "فإن لم يجد" في رواية الحموي "فإن لم يجد" وكذا هو في "الموطأ". قوله: "وتابعه إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب" وصله الشافعي قال: "أخبرني إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة في المتمتع إذا لم يجد هديا لم يصم قبل عرفة فليصم أيام منى" وعن سالم عن أبيه مثله، ووصله الطحاوي من وجه آخر عن ابن شهاب بالإسنادين بلفظ: "إنهما كانا يرخصان للمتمتع" فذكر مثله لكن قال: "أيام التشريق" وهذا يرجح كونه موقوفا لنسبة الترخيص إليهما، فإنه يقوي أحد الاحتمالين في رواية عبد الله بن عيسى حيث قال فيها "لم يرخص" وأبهم الفاعل فاحتمل أن يكون مرادهما من له الشرع فيكون مرفوعا أو من له مقام الفتوى في الجملة فيحتمل الوقف، وقد صرح يحيى بن سلام بنسبة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم بن سعد بنسبة ذلك إلى ابن عمر وعائشة، ويحيى ضعيف وإبراهيم من الحفاظ فكانت روايته أرجح، ويقويه رواية مالك وهو من حفاظ أصحاب الزهري فإنه مجزوم عنه بكونه موقوفا والله أعلم. واستدل بهذا الحديث على أن أيام التشريق ثلاثة غير يوم عيد الأضحى لأن يوم العيد لا يصام بالاتفاق وصيام أيام التشريق هي المختلف في

(4/243)


جوازها، والمستدل بالجواز أخذه من عموم الآية كما تقدم فاقتضى ذلك أنها ثلاثة لأنه القدر الذي تضمنته الآية.والله أعلم.

(4/244)


69 - باب صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
2000- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ عَاشُورَاءَ إِنْ شَاءَ صَامَ"
2001- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ"
2002- حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه"
2003- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكْتُبْ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ"
2004- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى قَالَ فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ"
[الحديث 2004- أطرافه في: 3397، 3943، 3680، 3737]
2005- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَصُومُوهُ أَنْتُمْ"
[الحديث 2005- طرفه في: 3942]

(4/244)


2006- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلاَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ"
2007- حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ"
قوله: "باب صيام يوم عاشوراء" أي ما حكمه. وعاشوراء بالمد على المشهور، وحكى فيه القصر، وزعم ابن دريد أنه اسم إسلامي وأنه لا يعرف في الجاهلية، ورد ذلك عليه ابن دحية بأن ابن الأعرابي حكى أنه سمع في كلامهم خابوراء، وبقول عائشة إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه. انتهى. وهذا الأخير لا دلالة فيه على رد ما قال ابن دريد. واختلف أهل الشرع في تعيينه فقال الأكثر هو اليوم العاشر، قال القرطبي عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها، فإن قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة فصار هذا اللفظ علما على اليوم العاشر، وذكر أبو منصور الجواليقي أنه لم يسمع فاعولاء إلا هذا وضاروراء وساروراء ودالولاء من الضار والسار والدال، وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر وهذا قول الخليل وغيره: وقال الزين ابن المنير: الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية، وقيل هو اليوم التاسع فعلى الأول فاليوم مضاف لليلته الماضية، وعلى الثاني هو مضاف لليلته الآتية، وقيل إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذا من أوراد الإبل كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام ثم أوردوها في التاسع قالوا وردنا عشرا بكسر العين، وكذلك إلى الثلاثة، وروى مسلم من طريق الحكم بن الأعرج "انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه فقلت: أخبرني عن يوم عاشوراء، قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت أهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال نعم" وهذا ظاهره أن يوم عاشوراء هو اليوم التاسع، لكن قال الزين بن المنير: قوله إذا أصبحت من تاسعه فأصبح يشعر بأنه أراد العاشر لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح من تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة وهو الليلة العاشرة. قلت: ويقوي هذا الاحتمال ما رواه مسلم أيضا من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع فمات قبل ذلك" فإنه ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم العاشر وهم بصوم التاسع فمات قبل ذلك، ثم ما هم به من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطا له وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح، وبه يشعر بعض روايات مسلم، ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا يوما قبله أو يوما بعده، وهذا كان في آخر الأمر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة

(4/245)


أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان، فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما ثبت في الصحيح، فهذا من ذلك، فوافقهم أولا وقال: نحن أحق بموسى منكم، ثم أحب مخالفتهم فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ويوم بعده خلافا لهم، ويؤيده رواية الترمذي من طريق أخرى بلفظ: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء يوم العاشر" وقال بعض أهل العلم: قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع" يحتمل أمرين، أحدهما أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع، والثاني أراد أن يضيفه إليه في الصوم، فلما توفي صلى الله عليه وسلم قبل بيان ذلك كان الاحتياط صوم اليومين، وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر والله أعلم. ثم بدأ المصنف بالأخبار الدالة على أنه ليس بواجب، ثم بالأخبار الدالة على الترغيب في صيامه. حديث ابن عمر أورده من رواية عمر بن محمد أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر عن عم أبيه سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وقد أخرجه مسلم عن أحمد بن عثمان النوفلي عن أبي عاصم شيخ البخاري فيه وصرح بالتحديث في جميع إسناده. قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يوم عاشوراء إن شاء صام" كذا وقع في جميع النسخ من البخاري مختصرا، وعند ابن خزيمة في صحيحه عن أبي موسى عن أبي عاصم بلفظ: "إن اليوم يوم عاشوراء فمن شاء فليصمه ومن شاء فليفطره" وعند الإسماعيلي قال: "يوم عاشوراء من شاء صامه ومن شاء أفطره" وفي رواية مسلم: "ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء فقال: كان يوم يصومه أهل الجاهلية، فمن شاء صامه ومن شاء تركه" وقد تقدم في أول كتاب الصيام من طرق أيوب عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك" فيحمل حديث سالم على ثاني الحال التي أشار إليها نافع في روايته، ويجمع بين الحديثين بذلك. حديث عائشة من طريقين: الأولى طريق الزهري قال أخبرني عروة، وهو موافق لرواية نافع المذكورة. والثانية من رواية هشام عن أبيه مثله وفيها زيادة "إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه في الجاهلية" أي قبل أن يهاجر إلى المدينة، وأفادت تعيين الوقت الذي وقع فيه الأمر بصيام عاشوراء وقد كان أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه كان في ربيع الأول فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية، وفي السنة الثانية فرض شهر رمضان فعلى هذا لم يقع الأمر بصيام عاشوراء إلا في سنة واحدة ثم فرض الأمر في صومه إلى رأي المتطوع، فعلى تقدير صحة قول من يدعي أنه كان قد فرض فقد نسخ فرضه بهذه الأحاديث الصحيحة، ونقل عياض أن بعض السلف كان يرى بقاء فرضية عاشوراء لكن انقرض القائلون بذلك، ونقل ابن عبد البر الإجماع على أنه الآن ليس بفرض والإجماع على أنه مستحب، وكان ابن عمر يكره قصده بالصوم ثم انقرض القول بذلك، وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف ولهذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه وغير ذلك، ثم رأيت في المجلس الثالث من "مجالس الباغندي الكبير" عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنبا في الجاهلية فعظم في صدورهم فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك، هذا أو معناه. حديث معاوية من طريق ابن شهاب عن حميد ابن عبد الرحمن أي ابن عوف عنه، هكذا رواه مالك وتابعه يونس وصالح بن كيسان وابن عيينة وغيرهم. وقال الأوزاعي "عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن "وقال النعمان بن راشد" عن الزهري عن السائب بن يزيد "كلاهما عن معاوية، والمحفوظ رواية الزهري عن حميد بن عبد الرحمن قاله النسائي وغيره، ووقع

(4/246)


عند مسلم في رواية يونس عن الزهري "أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية". قوله: "عام حج على المنبر" زاد يونس "بالمدينة" وقال في رواية: "في قدمة قدمها" وكأنه تأخر بمكة أو المدينة حجته إلى يوم عاشوراء، وذكر أبو جعفر الطبري أن أول حجة حجها معاوية بعد أن استخلف كانت في سنة أربع وأربعين، وآخر حجة حجها سنة سبع وخمسين والذي يظهر أن المراد بها في هذا الحديث الحجة الأخيرة. قوله: "أين علماؤكم" ؟ في سياق هذه القصة إشعار بأن معاوية لم ير لهم اهتماما بصيام عاشوراء، فلذلك سأل عن علماؤهم، أو بلغه عمن يكره صيامه أو يوجبه. قوله: "ولم يكتب الله عليكم صيامه الخ" هو كله من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما بينه النسائي في روايته، وقد استدل به على أنه لم يكن فرضا قط، ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد: ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان، وغايته أنه عام خص بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه، أو المراد أنه لم يدخل في قوله تعالى:
{ كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ثم فسره بأنه شهر رمضان، ولا يناقض هذا الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخا، ويؤيد ذلك أن معاوية إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم من سنة الفتح، والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أوائل العام الثاني، ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه ثم تأكد الأمر بذلك ثم زيادة التأكيد بالنداء العام ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم: "لما فرض رمضان ترك عاشوراء" مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باق، فدل على أن المتروك وجوبه. وأما قول بعضهم المتروك تأكد استحبابه والباقي مطلق استحبابه فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق ولا سيما استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر" ولترغيبه في صومه وأنه يكفر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا؟ حديث ابن عباس في سبب صيام عاشوراء. قوله: "عن أيوب عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه" وقع في رواية ابن ماجة من وجه آخر "عن أيوب عن سعيد بن جبير" والمحفوظ أنه عند أيوب بواسطة وكذلك أخرجه مسلم. قوله: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم" في رواية مسلم: "فوجد اليهود صياما". قوله: "فقال ما هذا" في رواية مسلم: "فقال لهم ما هذا" وللمصنف في تفسير طه من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير فسألهم. قوله: "هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم" في رواية مسلم: "هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرق فرعون وقومه". قوله: "فصامه موسى" زاد مسلم في روايته: "شكرا لله تعالى فنحن نصومه" وللمصنف في الهجرة في رواية أبي بشر "ونحن نصومه تعظيما له" ولأحمد من طريق شبيل بن عوف عن أبي هريرة نحوه وزاد فيه: "وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا" وقد استشكل ظاهر الخبر لاقتضائه أنه صلى الله عليه وسلم حين قدومه المدينة وجد اليهود صياما يوم عاشوراء، وإنما قدم المدينة في ربيع الأول، والجواب عن ذلك أن المراد أن أول علمه بذلك وسؤاله عنه كان بعد أن قدم المدينة لا أنه قبل أن يقدمها علم ذلك، وغايته أن في الكلام حذفا تقديره قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأقام إلى يوم عاشوراء فوجد اليهود فيه صياما، ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه صلى الله عليه وسلم المدينة، وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى عليه الصلاة والسلام لإضلالهم اليوم المذكور وهداية الله للمسلمين له، ولكن سياق الأحاديث تدفع هذا التأويل، والاعتماد على التأويل الأول. ثم وجدت في

(4/247)


"المعجم الكبير" للطبراني ما يؤيد الاحتمال المذكور أولا، وهو ما أخرجه في ترجمة زيد بن ثابت من طريق أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: "ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقوله الناس، إنما كان يوم تستر فيه الكعبة، وكان يدور في السنة، وكانوا يأتون فلانا اليهودي - يعني ليحسب لهم - فلما مات أتوا زيد ابن ثابت فسألوه "وسنده حسن، قال شيخنا الهيثمي في زوائد المسانيد: لا أدري ما معنى هذا. قلت: ظفرت بمعناه في كتاب" الآثار القديمة لأبي الريحان البيروني "فذكر ما حاصله: أن جهلة اليهود يعتمدون في صيامهم وأعيادهم حساب النجوم، فالسنة عندهم شمسية لا هلالية. قلت: فمن ثم احتاجوا إلى من يعرف الحساب ليعتمدوا عليه في ذلك. قوله: "وأمر بصيامه" للمصنف في تفسير يونس من طريق أبي بشر أيضا: "فقال لأصحابه أنتم أحق بموسى منهم فصوموا" واستشكل رجوعه إليهم في ذلك، وأجاب المازري باحتمال أن يكون أوحى إليه بصدقهم أو تواتر عنده الخبر بذلك، زاد عياض أو أخبره به من أسلم منهم كابن سلام، ثم قال: ليس في الخبر أنه ابتدأ الأمر بصيامه، بل في حديث عائشة التصريح بأنه كان يصومه قبل ذلك، فغاية ما في القصة أنه لم يحدث له بقول اليهود تجديد حكم، وإنما هي صفة حال وجواب سؤال، ولم تختلف الروايات عن ابن عباس في ذلك، ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة "إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه" كما تقدم إذ لا مانع من توارد الفريقين على صيامه مع اختلاف السبب في ذلك، قال القرطبي: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم، وصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم كما في الحج، أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير، فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه وأمر بصيامه احتمل ذلك أن يكون ذلك استئلافا لليهود كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك. وعلى كل حال فلم يصمه اقتداء بهما فإنه كان يصومه قبل ذلك وكان ذلك في الوقت الذي يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه. وقد أخرج مسلم من طريق أبي غطفان - بفتح المعجمة ثم المهملة بعدها فاء - ابن طريف بمهملة وزن عظيم "سمعت ابن عباس يقول: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا أنه يوم تعظمه اليهود والنصارى" الحديث. واستشكل بأن التعليل بنجاة موسى وغرق فرعون يختص بموسى واليهود، وأجيب باحتمال أن يكون عيسى كان يصومه وهو مما لم ينسخ من شريعة موسى لأن كثيرا منها ما نسخ بشريعة عيسى لقوله تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُم} ويقال إن أكثر الأحكام الفرعية إنما تتلقاها النصارى من التوراة. وقد أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس زيادة في سبب صيام اليهود له وحاصلها أن السفينة استوت على الجودي فيه فصامه نوح وموسى شكرا، وقد تقدمت الإشارة لذلك قريبا، وكأن ذكر موسى دون غيره هنا لمشاركته لنوح في النجاة وغرق أعدائهما. أبي موسى هو الأشعري قال: "كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فصوموه أنتم" وفي رواية مسلم: "كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود تتخذه عيدا" فظاهره أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود حتى يصام ما يفطرون فيه لأن يوم العيد لا يصام، وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث على صيامه موافقتهم على السبب وهو شكر الله تعالى على نجاة موسى، لكن لا يلزم من تعظيمهم له واعتقادهم بأنه عيد أنهم كانوا لا يصومونه فلعلهم كان من جملة تعظيمهم في شرعهم أن يصوموه، وقد ورد ذلك صريحا في حديث أبي موسى هذا فيما أخرجه المصنف في الهجرة بلفظ: "وإذا أناس من اليهود يعظمون عاشوراء ويصومونه" ولمسلم من وجه آخر عن قيس بن مسلم بإسناده قال: "كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم" وهو بالشين المعجمة

(4/248)


أي هيئتهم الحسنة، وقوله: "هذا يوم" الإشارة إلى نوع اليوم لا إلى شخصه، ومثله قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فيما ذكره الفخر الرازي في تفسيره. حديث ابن عباس أيضا من طريق ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد، وقد رواه أحمد عن ابن عيينة قال: "أخبرني عبيد الله ابن أبي يزيد منذ سبعين سنة". قوله: "ما رأيت الخ" هذا يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصائم بعد رمضان، لكن ابن عباس أسند ذلك إلى علمه فليس فيه ما يرد علم غيره، وقد روى مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعا: "إن صوم عاشوراء يكفر سنة، وإن صيام يوم عرفة يكفر سنتين" وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء، وقد قيل في الحكمة في ذلك إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام ويوم عرفة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك كان أفضل. قوله: "يتحرى" أي يقصد. قوله: "وهذا الشهر يعني شهر رمضان" كذا ثبت في جميع الروايات وكذا هو عند مسلم وغيره، وكأن ابن عباس اقتصر على قوله: "وهذا الشهر" وأشار بذلك إلى شيء مذكور كأنه تقدم ذكر رمضان وذكر عاشوراء أو كانت المقالة في أحد الزمانين وذكر الآخر فلهذا قال الراوي عنه: يعني رمضان. أو أخذه الراوي من جهة الحصر في أن لا شهر يصام إلا رمضان لما تقدم له عن ابن عباس أنه كان يقول: "لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم صام شهرا كاملا إلا رمضان" وإنما جمع ابن عباس بين عاشوراء ورمضان - وإن كان أحدهما واجبا والآخر مندوبا - لاشتراكهما في حصول الثواب، لأن معنى "يتحرى" أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه. حديث سلمة بن الأكوع في الأمر بصوم عاشوراء، وقد تقدم في أثناء الصيام في "باب إذا نوى بالنهار صوما" وأخرجه عاليا أيضا ثلاثيا وقد تقدم الكلام عليه هناك، واستدل به على إجزاء الصوم بغير نية لمن طرأ عليه العلم بوجوب صوم ذلك اليوم كمن ثبت عنده في أثناء النهار أنه من رمضان فإنه يتم صومه ويجزئه، وقد تقدم البحث في ذلك والرد على من ذهب إليه، وأن عند أبي داود وغيره أمر من كان أكل بقضاء ذلك اليوم مع الأمر بإمساكه. والله أعلم. "خاتمة": اشتمل كتاب الصيام من أوله إلى هنا على مائة وسبعة وخمسين حديثا. المعلق منها ستة وثلاثون حديثا والبقية موصولة، والمكرر منها فيه وفيما مضى ثمانية وستون حديثا، والخالص تسعة وثمانون حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة "من لم يدع قول الزور" وحديث عمار في صوم يوم الشك، وحديث أنس "آلى من نسائه" وحديث أبي هريرة في الأمر بفطر الجنب، وحديث عامر ابن ربيعة في السواك، وحديث عائشة "السواك مطهرة للفم" وحديث أبي هريرة "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" فالذي خرجه مسلم بلفظ: "عند كل صلاة" وحديث جابر فيه، وحديث زيد بن خالد فيه، وحديث أبي هريرة "من أفطر في رمضان" وحديث الحسن عن غير واحد "أفطر الحاجم والمحجوم" وجميع ذلك سوى الأول معلقات، وحديث ابن عباس "احتجم وهو صائم" وحديث أنس في كراهة الحجامة للصائم، وحديث ابن عمر في نسخ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} وحديث سلمة بن الأكوع في ذلك، وحديث ابن أبي ليلى عن الصحابي في تحويل الصيام، وحديث أبي هريرة في التفريط، وحديث النهي عن الوصال إبقاء عليهم، وهذه الثلاثة معلقات، وحديث أبي سعيد في النهي عن الوصال، وحديث أبي جحيفة في قصة سلمان وأبي الدرداء، وحديث أنس في الدخول على أم سليم، وحديث جويرية في صوم يوم الجمعة، وحديث ابن عمر في نذر صوم يوم العيد، وحديثه في صيام أيام التشريق، وحديث عائشة في ذلك على شك في رفعهما. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين ستون أثرا أكثرها معلق واليسير منها موصول. والله أعلم.

(4/249)


كتاب صلاة التراويح
فضل من قام رمضان
...
بسم الله الرحمن الرحيم
31- كِتَاب صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ
"كتاب صلاة التراويح". كذا في رواية المستملي وحده، وسقط هو والبسملة من رواية غيره، والتراويح جمع ترويحة وهي المرة الواحدة من الراحة كتسليمة من السلام. سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، وقد عقد محمد بن نصر في "قيام الليل" بابين لمن استحب التطوع لنفسه بين كل ترويحتين ولمن كره ذلك، وحكى فيه عن يحيى ابن بكير عن الليث أنهم كانوا يستريحون قدر ما يصلي الرجل كذا كذا ركعة.
1 - باب فَضْلِ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ
2008حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لِرَمَضَانَ مَنْ قَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"
2009حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا"
2010وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ"
2011حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ"
وحدثني يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ

(4/250)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاَتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّى فَصَلَّوْا مَعَهُ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى فَصَلَّوْا بِصَلاَتِهِ فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ"
2013 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَيْفَ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ قَالَ يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي"
قوله: "باب فضل من قام رمضان" أي قام لياليه مصليا، والمراد من قيام الليل ما يحصل به مطلق القيام كما قدمناه في التهجد سواء، وذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها، وأغرب الكرماني فقال: اتفقوا على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح. قوله: "عن ابن شهاب" في رواية ابن القاسم عند النسائي: "عن مالك حدثني ابن شهاب". قوله: "أخبرني أبو سلمة" كذا رواه عقيل وتابعه يونس وشعيب وابن أبي ذئب ومعمر وغيرهم، وخالفه مالك فقال: "عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن" بدل أبي سلمة، وقد صح الطريقان عند البخاري فأخرجهما على الولاء، وقد أخرجه النسائي من طريق جويرية بن أسماء عن مالك عن الزهري عنهما جميعا. وقدر ذكر الدار قطني الاختلاف فيه وصحح الطريقين، وحكى أن أبا همام رواه عن ابن عيينة عن الزهري فخالف الجماعة فقال: "عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة" وخالفه أصحاب سفيان فقالوا "عن أبي سلمة" وقد رواه النسائي من طريق سعيد بن أبي شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلا. قوله: "يقول لرمضان" أي لفضل رمضان أو لأجل رمضان، ويحتمل أن تكون اللام بمعنى عن أي يقول عن رمضان. قوله: "إيمانا" أي تصديقا بوعد الله بالثواب عليه "واحتسابا" أي طلبا للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه. قوله: "غفر له" ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر. وقال النووي: المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه حرم إمام الحرمين وعزاه عياض لأهل السنة، قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة. قوله: "ما تقدم من ذنبه" زاد قتيبة عن سفيان عند النسائي: "وما تأخر" وكذا زادها حامد بن يحيى عند قاسم بن أصبغ والحسين بن الحسن المروزي في "كتاب الصيام" له وهشام بن عمار في الجزء الثاني عشر من فوائده، ويوسف بن يعقوب النجاحي في فوائده كلهم عن ابن عيينة. ووردت هذه الزيادة من طريق أبي سلمة من وجه آخر أخرجها أحمد من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وعن ثابت عن الحسن كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت هذه الزيادة من رواية مالك نفسه أخرجها

(4/251)


أبو عبد الله الجرجاني في أماليه من طريق بحر بن نصر عن ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري ولم يتابع بحر بن نصر على ذلك أحد من أصحاب ابن وهب ولا من أصحاب مالك ولا يونس سوى ما قدمناه، وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب عدة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد، وقد استشكلت هذه الزيادة من حيث أن المغفرة تستدعي سبق شيء يغفر والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر، والجواب عن ذلك يأتي في قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل أنه قال في أهل بدر "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ومحصل الجواب أنه قيل إنه كناية عن حفظهم من الكبائر فلا تقع منهم كبيرة بعد ذلك، وقيل إن معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة، وبهذا أجاب جماعة منهم الماوردي في الكلام على حديث صيام عرفة وأنه يكفر سنتين سنة ماضية وسنة آتية. قوله: "قال ابن شهاب فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس" في رواية الكشميهني: "والأمر" "على ذلك" أي على ترك الجماعة في التراويح. ولأحمد من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري في هذا الحديث: "ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناس على القيام" وقد أدرج بعضهم قول ابن شهاب في نفس الخبر أخرجه الترمذي من طريق معمر عن ابن شهاب، وأما ما رواه ابن وهب عن أبي هريرة "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا الناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد فقال: ما هذا؟ فقيل: ناس يصلي بهم أبي بن كعب، فقال: أصابوا ونعم ما صنعوا" ذكره ابن عبد البر، وفيه مسلم بن خالد وهو ضعيف، والمحفوظ أن عمر هو الذي جمع الناس على أبي بن كعب. قوله: "وعن ابن شهاب" هو موصول بالإسناد المذكور أيضا، وهو في "الموطأ" بالإسنادين، لكن فرقهما حديثين، وقد أدرج بعض الرواة قصة عمر في الإسناد الأول أخرجه إسحاق في مسنده عن عبد الله بن الحارث المخزومي عن يونس عن الزهري فزاد بعد قوله وصدرا من خلافة عمر "حتى جمعهم عمر على أبي بن كعب فقام بهم في رمضان، فكان ذلك أول اجتماع الناس على قارئ واحد في رمضان" وجزم الذهلي في "علل حديث الزهري" بأنه وهم من عبد الله بن الحارث والمحفوظ رواية مالك ومن تابعه، وأن قصة عمر عند ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد وهو بغير إضافة، لا عن أبي سلمة. قوله: "أوزاع" بسكون الواو بعدها زاي أي جماعة متفرقون، وقوله في الرواية: "متفرقون" تأكيد لفظي، وقوله: "يصلي الرجل لنفسه" بيان لما أجمل أولا وحاصله أن بعضهم كان يصلي منفردا وبعضهم يصلي جماعة، قيل يؤخذ منه جواز الائتمام بالمصلي وإن لم ينو الإمامة. قوله: "أمثل" قال ابن التين وغيره استنبط عمر ذلك من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم من صلى معه في تلك الليالي، وإن كان كره ذلك لهم فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم، وكأن هذا هو السر في إيراد البخاري لحديث عائشة عقب حديث عمر، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم حصل الأمن من ذلك، ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين، وإلى قول عمر جنح الجمهور، وعن مالك في إحدى الروايتين وأبي يوسف وبعض الشافعية الصلاة في البيوت أفضل عملا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وبالغ الطحاوي فقال: إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية. وقال ابن بطال: قيام رمضان سنة لأن عمر إنما أخذه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم خشية الافتراض، وعند الشافعية في أصل المسألة ثلاثة أوجه: ثالثها من كان يحفظ القرآن ولا يخاف من الكسل ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه فصلاته في الجماعة والبيت سواء، فمن فقد بعض ذلك فصلاته في الجماعة أفضل. قوله: "فجمعهم على أبي بن كعب" أي جعله لهم إماما وكأنه اختاره عملا بقوله صلى الله عليه وسلم

(4/252)


: "يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله" وسيأتي في تفسير البقرة قول عمر "أقرؤنا أبي" وروى سعيد بن منصور من طريق عروة "أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي بالرجال، وكان تميم الداري يصلي بالنساء" ورواه محمد بن نصر في "كتاب قيام الليل" له من هذا الوجه فقال: "سليمان بن أبي حثمة" بدل تميم الداري، ولعل ذلك كان في وقتين. قوله: "فخرج ليلة والناس يصلون بصلاة قارئهم1" أي إمامهم المذكور، وفيه إشعار بأن عمر كان لا يواظب على الصلاة معهم وكأنه كان يرى أن الصلاة في بيته ولا سيما في آخر الليل أفضل، وقد روى محمد بن نصر في "قيام الليل" من طريق طاوس ابن عباس قال: "كنت عند عمر في المسجد، فسمع هيعة الناس فقال: ما هذا؟ قيل: خرجوا من المسجد، وذلك في رمضان، فقال: ما بقي من الليل أحب إلي مما مضى" ومن طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه من قوله. قوله: "قال عمر نعم البدعة" في بعض الروايات "نعمت البدعة" بزيادة تاء، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة وإن كان مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة. قوله: "والتي ينامون عنها أفضل" هذا تصريح منه بأن الصلاة في آخر الليل أفضل من أوله، لكن ليس فيه أن الصلاة في قيام الليل فرادى أفضل من التجميع. "تكميل": لم يقع في هذه الرواية عدد الركعات التي كان يصلي بها أبي بن كعب، وقد اختلف في ذلك ففي "الموطأ" عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنها إحدى عشرة، ورواه سعيد بن منصور من وجه آخر وزاد فيه: "وكانوا يقرؤون بالمائتين ويقومون على العصى من طول القيام" ورواه محمد بن نصر المروزي من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن يوسف فقال ثلاث عشرة ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن محمد بن يوسف فقال إحدى وعشرين، وروى مالك من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عشرين ركعة وهذا محمول على غير الوتر، وعن يزيد بن رومان قال: "كان الناس يقومون في زمان عمر بثلاث وعشرين" وروى محمد بن نصر من طريق عطاء قال: "أدركتهم في رمضان يصلون عشرين ركعة وثلاث ركعات الوتر" والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس وبذلك جزم الداودي وغيره، والعدد الأول موافق لحديث عائشة المذكور بعد هذا الحديث في الباب، والثاني قريب منه، والاختلاف فيما زاد عن العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر وكأنه كان تارة يوتر بواحدة وتارة بثلاث، وروى محمد ابن نصر من طريق داود بن قيس قال: "أدركت الناس في إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز - يعني بالمدينة - يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث" وقال مالك هو الأمر القديم عندنا. وعن الزعفراني عن الشافعي "رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق" وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إلي. وقال الترمذي: أكثر ما قيل فيه أنها تصلى إحدى وأربعين ركعة يعني بالوتر، كذا قال. وقد نقل ابن عبد الله الأسود بن يزيد: تصلى أربعين ويوتر بسبع، وقيل ثمان وثلاثين ذكره محمد ابن نصر عن ابن أيمن عن مالك، وهذا يمكن رده إلى الأول بانضمام ثلاث الوتر، لكن صرح في روايته بأنه يوتر بواحدة، فتكون أربعين إلا واحدة، قال مالك: وعلى هذا العمل
ـــــــ
1 هده الرواية تختلف عن رواية المتن ، ورواية المتن هي التي شرح عليها القسطلاني

(4/253)


منذ بضع ومائة سنة، وعن مالك ست وأربعين وثلاث الوتر وهذا هو المشهور عنه، وقد رواه ابن وهب عن العمري عن نافع قال: لم أدرك الناس إلا وهم يصلون تسعا وثلاثين يوترون منها بثلاث، وعن زرارة بن أوفى أنه كان يصلي بهم بالبصرة أربعا وثلاثين ويوتر، وعن سعيد بن جبير أربعا وعشرين وقيل ست عشرة غير الوتر روى عن أبي مجلز عند محمد بن نصر. وأخرج من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب ابن يزيد قال: كنا نصلي زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة، قال ابن إسحاق وهذا أثبت ما سمعت في ذلك، وهو موافق لحديث عائشة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل والله أعلم. قوله: "حدثنا إسماعيل" هو ابن أبي أويس. قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى وذلك في رمضان" هكذا أورده مقتصرا على شيء من أوله وشيء من آخره، وقد أورده تاما في أبواب التهجد بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس" فذكر الحديث إلى قوله: "خشيت أن تفرض عليكم" وذلك في رمضان وقد تقدم شرحه مستوفى هناك. قوله: "خشيت أن تفرض عليكم" قال ابن المنير في الحاشية: يؤخذ منه أن الشروع ملزم إذ لا تظهر مناسبة بين كونهم يفعلون ذلك ويفرض عليهم إلا ذلك. انتهى. وفيه نظر لأنه يحتمل أن يكون السبب في ذلك الظهور اقتدارهم على ذلك من غير تكلف فيفرض عليهم. قوله في آخر طريق عقيل "فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك" هذه الزيادة من قول الزهري كما بينته في الكلام على الحديث الأول. قوله: "ما كان يزيد في رمضان الخ" تقدم الكلام عليه مستوفى في أبواب التهجد، وأما ما رواه ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر" فإسناده ضعيف، وقد عارضه حديث عائشة هذا الذي في الصحيحين مع كونها أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ليلا من غيرها. والله أعلم.

(4/254)


كتاب فضل ليلة القدر
باب فضل ليلة القدر
...
بسم الله الرحمن الرحيم
32 – كتاب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
1- باب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ {ومَا أَدْرَاكَ} فَقَدْ أَعْلَمَهُ وَمَا قَالَ {وَمَا يُدْرِيكَ} فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلِمْهُ
2014- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ وَإِنَّمَا حَفِظَ مِنَ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ"
: "باب فضل ليلة القدر. وقال الله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} إلى آخر السورة" ثبت في رواية أبي ذر قبل الباب بسملة. وفي رواية غيره: "وقول الله عز وجل" أي وتفسير قول الله، وساق في رواية كريمة السورة كلها. ومناسبة ذلك للترجمة من جهة أن نزول القرآن في زمان بعينه يقتضي فضل ذلك الزمان، والضمير في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} للقرآن لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ومما تضمنته السورة من فضل ليلة القدر تنزل الملائكة فيها، وسيأتي في التفسير ذكر الاختلاف في سبب نزولها وغير ذلك من تفسيرها. واختلف في المراد بالقدر الذي أضيفت إليه الليلة فقيل: المراد به التعظيم كقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} والمعنى أنها ذات قدر لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر. وقيل القدر هنا التضييق كقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} ومعنى التضييق فيها إخفاؤها عن العلم بتعيينها، أو لأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة. وقيل القدر هنا بمعنى القدر بفتح الدال الذي هو مؤاخي القضاء، والمعنى أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة لقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وبه صدر النووي كلامه فقال: قال العلماء سميت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار لقوله تعالى:
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ورواه عبد الرزاق وغيره من المفسرين بأسانيد صحيحة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم. وقال التوربشتي: إنما جاء القدر بسكون الدال، وإن كان الشائع في القدر الذي هو مؤاخي القضاء فتح الدال ليعلم أنه لم يرد به ذلك وإنما أريد به تفصيل ما جرى به القضاء وإظهاره وتحديده في تلك السنة لتحصيل ما يلقى إليهم فيها مقدارا بمقدار. قوله: "قال ابن عيينة الخ" وصله محمد بن يحيى بن أبي عمر في "كتاب الإيمان" له من رواية أبي حاتم الرازي عنه قال: حدثنا سفيان بن عيينة، فذكره بلفظ: كل شيء في القرآن وما أدراك فقد أخبره به، وكل شيء فيه وما يدرك فلم يخبره به. انتهى. وعزاه مغلطاي فيما قرأت بخطه لتفسير ابن عيينة رواية سعيد ابن عبد الرحمن عنه، وقد راجعت منه نسخة بخط الحافظ الضياء فلم أجده فيه، ومقصود ابن عيينة أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف تعيين ليلة القدر، وقد تعقب

(4/255)


هذا الحصر بقوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} فإنها نزلت في ابن أم مكتوم، وقد علم صلى الله عليه وسلم بحاله وأنه ممن تزكى ونفعته الذكرى. قوله: "حفظناه من الزهري أيما حفظ" برفع أي وما زائدة وهو مبتدأ وخبره محذوف تقديره حفظ ومن الزهري متعلق بحفظناه، وروى بنصب أيما على أنه مفعول مطلق لحفظ المقدر. قوله: "من صام رمضان" تقدم في الباب قبله من رواية مالك عن الزهري بسنده بلفظ: "قام" بدل صام، وتقدم الكلام عليه، وزاد ابن عيينة في روايته هنا "ومن قام ليلة القدر الخ". قوله: "تابعه سليمان بن كثير عن الزهري" وصله الذهلي في "الزهريات" وقد تقدم شرحه في الباب قبله، وسنذكر بقية الكلام على ليلة القدر قريبا.

(4/256)


2 - باب الْتِمَاسِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ
2015- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ"
2016- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ وَكَانَ لِي صَدِيقًا فَقَالَ اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا وَقَالَ إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا أَوْ نُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي الْوَتْرِ وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَرْجِعْ فَرَجَعْنَا وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ"
قوله: "باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر" في رواية الكشميهني: "التمسوا" بصيغة الأمر.
وهذه الترجمة والتي بعدها - وهي تحري ليلة القدر - معقودتان لبيان ليلة القدر، وقد اختلف الناس فيها على مذاهب كثيرة سأذكرها مفصلة بعد الفراغ من شرح أحاديث البابين. قوله: "أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء. قوله: "أروا ليلة القدر" أروا بضم أوله على البناء للمجهول أي قيل لهم في المنام إنها في السبع الأواخر، والظاهر أن المراد به أواخر الشهر، وقيل المراد به السبع التي أولها ليلة الثاني والعشرين وآخرها ليلة الثامن والعشرين، فعلى الأول لا تدخل ليلة إحدى وعشرين ولا ثلاث وعشرين، وعلى الثاني تدخل الثانية فقط ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين، وقد رواه المصنف في التعبير من طريق الزهري عن سالم عن أبيه "إن ناسا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر، وإن ناسا أروا أنها في العشر الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: التمسوها في السبع الأواخر " وكأنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى المتفق عليه من الروايتين فأمر به، وقد رواه أحمد عن ابن عيينة عن الزهري بلفظ: "رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أو كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: التمسوها في العشر البواقي في الوتر منها" ورواه أحمد من حديث علي مرفوعا: "إن غلبتم فلا تغلبوا في السبع البواقي" ولمسلم عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر بلفظ: "من

(4/256)


كان يلتمسها فيلتمسها في العشر الأواخر" ولمسلم من طريق عقبة بن حريث عن ابن عمر "التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي"، وهذا السياق يرجح الاحتمال الأول من تفسير السبع. قوله: "أرى" بفتحتين أي أعلم، والمراد أبصر مجازا. قوله: "رؤياكم" قال عياض كذا جاء بإفراد الرؤيا، والمراد مرائيكم لأنها لم تكن رؤيا واحدة وإنما أراد الجنس. وقال ابن التين: كذا روي بتوحيد الرؤيا، وهو جائز لأنها مصدر، قال: وأفصح منه رؤاكم جمع رؤيا ليكون جمعا في مقابلة جمع. قوله: "تواطأت" بالهمزة أي توافقت وزنا ومعنى. وقال ابن التين. روى بغير همز والصواب بالهمز، وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطء صاحبه. وفي هذا الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية، وسنذكر بسط القول في أحكام الرؤيا في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى. الحديث: قوله: "حدثنا هشام" هو الدستوائي ويحيى هو ابن أبي كثير، ويأتي في الاعتكاف عن طريق علي ابن المبارك عن يحيى "سمعت أبا سلمة". قوله: "سألت أبا سعيد وكان لي صديقا فقال اعتكفنا" لم يذكر المسئول عنه في هذه الطريق. وفي رواية على المذكورة "سألت أبا سعيد: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم "فذكر الحديث. ولمسلم من طريق معمر عن يحيى "تذاكرنا ليلة القدر في نفر من قريش، فأتيت أبا سعيد" فذكره. وفي رواية همام عن يحيى في "باب السجود في الماء والطين" من صفة الصلاة" انطلقت إلى أبي سعيد فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل فنتحدث؟ فخرج، فقلت: حدثني ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر، فأفاد بيان سبب السؤال، وفيه تأنيس الطالب للشيخ في طلب الاختلاء به ليتمكن مما يريد من مسألته. قوله: "اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط" هكذا وقع في أكثر الروايات، والمراد بالعشر الليالي وكان من حقها أن توصف بلفظ التأنيث لكن وصفت بالمذكر على إرادة الوقت أو الزمان أو التقدير الثلث كأنه قال: الليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر، ووقع في "الموطأ" العشر الوسط بضم الواو والسين جمع وسطى ويروى بفتح السين مثل كبر وكبرى ورواه الباجي في "الموطأ" بإسكانها على أنه جمع واسط كبازل وبزل وهذا يوافق رواية الأوسط، ووقع في رواية محمد بن إبراهيم في الباب الذي يليه "كان يجاور العشر التي في وسط الشهر" وفي رواية مالك الآتية في أول الاعتكاف "كان يعتكف" والاعتكاف مجاورة مخصوصة، ولمسلم من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد "اعتكف العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له، فلما انقضين أمر بالبناء فقوض، ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر فأمر بالبناء فأعيد" وزاد في رواية عمارة بنغزية عن محمد إبراهيم أنه "اعتكف العشر الأول ثم اعتكف العشر الأوسط ثم اعتكف العشر الأواخر"، ومثله في رواية همام المذكورة وزاد فيها "إن جبريل أتاه في المرتين فقال له: إن الذي تطلب أمامك" وهو بفتح الهمزة والميم أي قدامك، قال الطيبي: وصف الأول والأوسط بالمفرد والأخير بالجمع إشارة إلى تصوير ليلة القدر في كل ليلة من ليالي العشر الأخير دون الأولين.قوله: "فخرج صبيحة عشرين فخطبنا" في رواية مالك المذكورة "حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه" وظاهره يخالف رواية الباب، ومقتضاه أن خطبته وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين، وعلى هذا يكون أول ليالي اعتكافه الأخير ليلة اثنتين وعشرين، وهو مغاير لقوله في آخر الحديث: "فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين" فإنه ظاهر في أن الخطبة

(4/257)


كانت في صبح اليوم العشرين، ووقوع المطر كان في ليلة إحدى وعشرين وهو الموافق لبقية الطرق، وعلى هذا فكأن قوله في رواية مالك المذكورة "وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها" أي من الصبح الذي قبلها، ويكون في إضافة الصبح إليها تجوز. وقد أطال ابن دحية في تقرير أن الليلة تضاف لليوم الذي قبلها، ورد على من منع ذلك ولكن لم يوافق على ذلك فقال ابن حزم: رواية ابن أبي حازم والدراوردي - يعني رواية حديث الباب - مستقيمة ورواية مالك مشكلة، وأشار إلى تأويلها بنحو مما ذكرته. ويؤيده أن في رواية الباب الذي يليه "فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه" وهذا في غاية الإيضاح، وأفاد ابن عبد البر في "الاستذكار" أن الرواة عن مالك اختلفوا عليه في لفظ الحديث فقال بعد ذكر الحديث: هكذا رواه يحيى بن يحيى بن بكير والشافعي عن مالك "يخرج في صبيحتها من اعتكافه" ورواه ابن القاسم وابن وهب والقعنبي وجماعة عن مالك فقالوا "وهي الليلة التي يخرج فيها من اعتكافه" قال: وقد روى ابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك فقال من اعتكف أول الشهر أو وسطه فإنه يخرج إذا غابت الشمس من آخر يوم من اعتكافه، ومن اعتكف في آخر الشهر فلا ينصرف إلى بيته حتى يشهد العيد. قال ابن عبد البر: ولا خلاف في الأول، وإنما الخلاف فيمن اعتكف العشر الأخير هل يخرج إذا غابت الشمس أو لا يخرج حتى يصبح؟ قال: وأظن الوهم دخل من وقت خروج المعتكف. قلت: وهو بعيد لما قرره هو من بيان محل الاختلاف. وقد وجه شيخنا الإمام البلقيني رواية الباب بأن معنى قوله: "حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين" أي حتى إذا كان المستقبل من الليالي ليلة إحدى وعشرين، وقوله: "وهي الليلة التي يخرج" الضمير يعود على الليلة الماضية، ويؤيد هذا قوله: "من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر" لأنه لا يتم ذلك إلا بإدخال الليلة الأولى. قوله: "أريت" بضم أوله على البناء لغير معين، وهي من الرؤيا أي أعلمت بها، أو من الرؤية أي أبصرتها، وإنما أرى علامتها وهو السجود في الماء والطين كما وقع في رواية همام المشار إليها بلفظ: "حتى رأيت أثر الماء والطين على جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديق رؤياه". قوله: "ثم أنسيتها أو نسيتها" شك من الراوي هل أنساه غيره إياها أو نسيها هو من غير واسطة، ومنهم من ضبط نسيتها بضم أوله والتشديد فهو بمعنى أنسيتها والمراد أنه أنسى علم تعيينها في تلك السنة، وسيأتي سبب النسيان في هذه القصة في حديث عبادة بن الصامت بعد باب. قوله: "أني أسجد" في رواية الكشميهني: "أن أسجد". قوله: "فمن كان اعتكف معي فليرجع" في رواية همام المذكورة "من اعتكف مع النبي" وفيه التفات. قوله: "قزعة" بفتح القاف والزاي أي قطعة من سحاب رقيقة. قوله: "فمطرت" بفتحتين، في الباب الذي يليه من وجه آخر "فاستهلت السماء فأمطرت". قوله: "حتى سال سقف المسجد" في رواية مالك "فوكف المسجد "أي قطر الماء من سقفه، وكان على عريش أي مثل العريش وإلا فالعريش هو نفس سقفه، والمراد أنه كان مظللا بالجريد والخوص، ولم يكن محكم البناء بحيث يكن من المطر الكثير. قوله: "يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته" وفي رواية مالك "على جبهته أثر الماء والطين" وفي رواية ابن أبي حازم في الباب الذي يليه "انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طينا وماء" وهذا يشعر بأن قوله: "أثر الماء والطين" لم يرد به محض الأثر وهو ما يبقى بعد إزالة العين، وقد مضى البحث في ذلك في صفة الصلاة. وفي حديث أبي سعيد من الفوائد ترك مسح جبهة المصلي، والسجود على الحائل، وحمله الجمهور على الأثر الخفيف لكن يعكر عليه قوله في بعض طرقه: "ووجهه ممتلئ طينا وماء" وأجاب النووي

(4/258)


بأن الامتلاء المذكور لا يستلزم ستر جميع الجبهة. وفيه جواز السجود في الطين، وقد تقدم أكثر ذلك في أبواب الصلاة. وفيه الأمر بطلب الأولى والإرشاد إلى تحصيل الأفضل، وأن النسيان جائز على النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقص عليه في ذلك لا سيما فيما لم يؤذن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلق بالتشريع كما في السهو في الصلاة، أو بالاجتهاد في العبادة كما في هذه القصة، لأن ليلة القدر لو عينت في ليلة بعينها حصل الاقتصار عليها ففاتت العبادة في غيرها، وكان هذا هو المراد بقوله: "عسى أن يكون خيرا لكم" كما سيأتي في حديث عبادة. وفيه استعمال رمضان بدون شهر، واستحباب الاعتكاف فيه، وترجيح اعتكاف العشر الأخير، وأن من الرؤيا ما يقع تعبيره مطابقا، وترتب الأحكام على رؤيا الأنبياء. وفي أول قصة أبي سلمة مع أبي سعيد المشي في طلب العلم، وإيثار المواضع الخالية للسؤال، وإجابة السائل لذلك واجتناب المشقة في الاستفادة، وابتداء الطالب بالسؤال، وتقدم الخطبة على التعليم وتقريب البعيد في الطاعة وتسهيل المشقة فيها بحسن التلطف والتدريج إليها، قيل ويستنبط منه جواز تغيير مادة البناء من الأوقاف بما هو أقوى منها وأنفع.

(4/259)


3 - باب تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِيهِ عَنْ عُبَادَةَ
2017- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَبُو سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"
[الحديث 2017- طرفاه في: 2019، 2020]
- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ فِي رَمَضَانَ الْعَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً تَمْضِي وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ إِلَى مَسْكَنِهِ وَرَجَعَ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ وَأَنَّهُ أَقَامَ فِي شَهْرٍ جَاوَرَ فِيهِ اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا فَخَطَبَ النَّاسَ فَأَمَرَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ ثُمَّ قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا فَابْتَغُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وَابْتَغُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَاسْتَهَلَّتْ السَّمَاءُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَأَمْطَرَتْ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فِي مُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ فَبَصُرَتْ عَيْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ انْصَرَفَ مِنْ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً"
2019- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْتَمِسُوا
2020- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَيَقُولُ تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ

(4/259)


2021-حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى"
[الحديث 2021- طرفه في: 2022]
2022-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ وَعِكْرِمَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هِيَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ هِيَ فِي تِسْعٍ يَمْضِينَ أَوْ فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ تَابَعَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ وَعَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الْتَمِسُوا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ"
قوله: "باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر" في هذه الترجمة إشارة إلى رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان ثم في العشر الأخير منه ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها، وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها. وقد ورد لليلة القدر علامات أكثرها لا تظهر إلا بعد أن تمضى، منها في صحيح مسلم عن أبي بن كعب "أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها" وفي رواية لأحمد من حديثه "مثل الطست" ونحوه لأحمد من طريق أبي عون عن ابن مسعود وزاد: "صافية" ومن حديث ابن عباس نحوه، ولابن خزيمة من حديثه مرفوعا: "ليلة القدر طلقة لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة" ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "إنها صافية بلجة كأن فيها قمرا ساطعا، ساكنة صاحبة لا حر فيها ولا برد، ولا يحل لكوكب يرمى به فيها، ومن أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ" ولابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود أيضا: "أن الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان، إلا صبيحة ليلة القدر" وله من حديث جابر ابن سمرة مرفوعا: "ليلة القدر ليلة مطر وريح" ولابن خزيمة من حديث جابر مرفوعا في ليلة القدر "وهي ليلة طلقه بلجة لا حارة ولا باردة، تتضح كواكبها ولا يخرج شيطانها حتى يضئ فجرها" ومن طريق قتادة أبي ميمونة عن أبي هريرة مرفوعا: "إن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى" وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد " لا يرسل فيها شيطان، ولا يحدث فيها داء" ومن طريق الضحاك "يقبل الله التوبة فيها من كل تائب، وتفتح فيها أبواب السماء، وهي من غروب الشمس إلى طلوعها" وذكر الطبري عن قوم أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض ثم تعود إلى منابتها. وأن كل شيء بسجد فها. وروى البيهقي في "فضائل الأوقات" من طريق الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة أنه سمعه يقول إن المياه المالحة تعذب تلك الليلة، وروى ابن عبد البر من طريق زهرة بن معبد نحوه. قوله: "فيه عبادة" أي يدخل في هذا الباب حديث عبادة بن الصامت، وأشار إلى ما أخرجه في الباب الذي يليه بلفظ: "التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث أورده من وجهين وفصل بينهما بحديث أبي سعيد، فالوجه الأول: قوله: "أبو سهيل عن أبيه" هو نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، وليس لأبيه في الصحيح عن عائشة غير هذا

(4/260)


الحديث، والوجه الثاني: قوله: "حدثنا يحيى" هو القطان "عن هشام" هو ابن عروة، ووقع في رواية يوسف القاضي في "كتاب الصيام" حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا هشام أخرجه أبو نعيم من طريقه ومن طريق مسند أحمد عن يحيى أيضا، وأخرجه الإسماعيلي من طريق ابن زنجويه عن أحمد فأدخل بين يحيى وهشام شعبة وهو غريب، وقد أخرجه الإسماعيلي من وجهين عن يحيى عن هشام بغير واسطة مصرحا فيه بالتحديث بينهما. قوله: "كان يجاور" أي يعتكف، وقوله: "العشر التي في وسط الشهر" حذف الظرف في رواية الكشميهني، وقوله: "يمضين" في رواية الكشمهيني "تمضي" بالمثناة وحذف النون. قوله: "فليثبت" كذا للأكثر من الثبات وفي رواية: "فليلبث" من الليث ومعناهما متقارب. قوله: "فابتغوها" بالغين المعجمة وتقديم الموحدة. الحديث الثالث حديث ابن عباس أورده من أوجه. قوله: "فبصرت" بفتح الموحدة وضم المهملة، وذكر العين بعد البصر تأكيد كقوله أخذت بيدي، وإنما يقال ذلك في أمر مستغرب إظهارا للتعجب من حصوله. قوله: "التمسوا" كذا اقتصر على هذه اللفظة من الخبر وكأنه أحال ببقيته على الطريق التي بعدها وهي طريق عبدة عن هشام ولفظه: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" وهو مشعر بأنهما متفقان إلا في هذه اللفظة فقال يحيى "التمسوا" وقال عبدة "تحروا" وعلى ذلك اعتمد المزي وغيره من أصحاب الأطراف فترجموا لرواية يحيى كذلك، ولكن لفظ يحيى عند أحمد وسائر من ذكرت قبل "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر ويقول: التمسوها في العشر الأواخر" يعني ليلة القدر، وبين اللفظين من التغاير ما لا يخفى. قوله: "حدثني محمد أخبرنا عبدة" محمد هو ابن سلام كما جزم به أبو نعيم في "المستخرج"، ويحتمل أن يكون هو محمد بن المثنى فيكون الحديث عنده عن يحيى وعبدة معا فساقه البخاري عنه على لفظ أحدهما، ولم يقع في شيء من طرق هشام في هذا الحديث التقييد بالوتر، وكأن البخاري أشار بإدخاله في الترجمة إلى أن مطلقه يحمل على المقيد في رواية أبي سهيل. الحديث الثاني حديث أبي سعيد، وقد سبق الكلام عليه في الباب الذي قبله. قوله: "التمسوها" كذا فيه بإضمار المفعول والمراد به ليلة القدر، وهو مفسر بما بعده، وسيأتي أنه تقدم قبل ذلك كلام يحسن معه عود الضمير وإنما وقع في هذه الرواية اختصار. قوله: "ليلة القدر" بالنصب على البدل من الضمير في قوله: "التمسوها" ويجوز الرفع. قوله: "عبد الواحد" هو ابن زياد، وعاصم هو الأحول. قوله: "عن أبي مجلز وعكرمة قالا قال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا أخرجه مختصرا وقد أخرجه أحمد عن عفان والإسماعيلي من طريق محمد بن عقبة كلاهما عن عبد الواحد فزاد في أوله قصه وهي "قال عمر: من يعلم ليلة القدر؟ فقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذكره، وبهذا يظهر عود الضمير المبهم في رواية الباب، وقد توقف الإسماعيلي في اتصال هذا الحديث لأن عكرمة وأبا مجلز ما أدركا عمر فما حضرا القصة المذكورة، والجواب أن الغرض منه أنهما أخذا ذلك عن ابن عباس، فقد رواه معمر عن عاصم عن عكرمة ابن عباس، وسياقه أبسط من هذا كما سنذكره، وإن كان موصولا عن ابن عباس فهو المقصود بالأصالة فلا يضر الإرسال في قصة عمر فإنها مذكورة على طريق التبع أن لو سلمنا أنها مرسلة. قوله: "في تسع يمضين أو في سبع يبقين" كذا للأكثر بتقديم السين في الثاني وتأخيرها في الأول وبلفظ المضي في الأول والبقاء في الثاني، وللكشميهني بلفظ المضي فيهما. وفي رواية الإسماعيلي بتقديم السين في الموضعين، وقد اعترض على تخريجه هذا الحديث من وجه آخر فإن المرفوع منه قد رواه عبد الرزاق موقوفا

(4/261)


فروى عن معمر عن قتادة وعاصم أنهما سمعا عكرمة يقول: "قال ابن عباس: دعا عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ليلة القدر، فأجمعوا على أنها العشر الأواخر، قال ابن عباس: فقلت لعمر إني لأعلم - أو أظن - أي ليلة هي، قال عمر: أي ليلة هي؟ فقلت: سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر، فقال: من أين علمت ذلك؟ قلت خلق الله سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام والدهر يدور في سبع والإنسان خلق من سبع ويأكل من سبع ويسجد على سبع والطواف والجمار وأشياء ذكرها، فقال عمر: لقد فطنت لأمر ما فطنا له "فعلى هذا فقد اختلف في رفع هذه الجملة ووقفها فرجح عند البخاري المرفوع فأخرجه وأعرض عن الموقوف، وللموقوف عن عمر طريق أخرى أخرجها إسحاق بن راهويه في مسنده والحاكم من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس وأوله "أن عمر كان إذا دعا الأشياخ من الصحابة قال لابن عباس: لا تتكلم حتى يتكلموا، فقال ذات يوم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: التمسوا ليله القدر في العشر الأواخر وترا، أي الوتر هي؟ فقال رجل برأيه تاسعة سابعة خامسة ثالثة، فقال لي: مالك لا تتكلم يا ابن عباس؟ قلت: أتكلم برأي: قال: عن رأيك أسألك، قلت "فذكر نحوه وفي آخره: "فقال عمر أعجزتم أن تكونوا مثل هذا الغلام الذي ما استوت شئون رأسه"، ورواه محمد بن نصر في "قيام الليل" من هذا الوجه وزاد فيه: وأن الله جعل النسب في سبع والصهر في سبع، ثم تلا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} . وفي رواية الحاكم "إني لأرى القول كما قلت". قوله: "تابعه عبد الوهاب عن أيوب" هكذا وقعت هذه المتابعة عند الأكثر من رواية الفربري هنا، وعند النسفي عقب طريق وهيب "عن أيوب" وهو الصواب وأصلحها ابن عساكر في نسخته كذلك، وقد وصله أحمد وابن أبي عمر في مسنديهما عن عبد الوهاب وهو ابن عبد المجيد الثقفي عن أيوب متابعا لوهيب في إسناده ولفظه، وأخرجه محمد بن نصر في "قيام الليل" عن إسحاق بن راهويه عن عبد الوهاب مثله وزاد في آخره: "أو آخر ليلة". قوله: "وعن خالد عن عكرمة عن ابن عباس: التمسوا في أربع وعشرين" ظاهره أنه من رواية عبد الوهاب عن خالد أيضا، لكن جزم المزي بأن طريق خالد هذه معلقة، والذي أظن أنها موصولة بالإسناد الأول وإنما حذفها أصحاب المسندات لكونها موقوفة، وقد روى أحمد من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: "أتيت وأنا نائم فقيل لي الليلة ليلة القدر، فقمت وأنا ناعس فتعلقت ببعض أطناب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يصلي، قال فنظرت في تلك الليلة فإذا هي ليلة أربع وعشرين "وقد استشكل هذا مع قوله في الطريق الأخرى إنها في وتر، وأجيب بأن الجمع ممكن بين الروايتين أن يحصل ما ورد مما ظاهره الشفع أن يكون باعتبار الابتداء بالعدد من آخر الشهر فتكون ليلة الرابع والعشرين هي السابعة، ويحتمل أن يكون مراد ابن عباس بقوله في أربع وعشرين أي أول ما يرجى من السبع البواقي فيوافق ما تقدم من التماسها في السبع البواقي، وزعم بعض الشراح أن قوله: "تاسعة تبقى" يلزم منه أن تكون ليلة اثنين وعشرين إن كان الشهر ثلاثين ولا تكون ليلة إحدى وعشرين إلا إن كان ذلك الشهر تسعا وعشرين، وما ادعاه من الحصر مردود لأنه ينبني على المراد بقوله: "تبقى" هل هو تبقى بالليلة المذكورة أو خارجا عنها فبناه على الأول، ويجوز بناؤه على الثاني فيكون على عكس ما ذكر، والذي يظهر أن في التعبير بذلك الإشارة إلى الاحتمالين، فإن كان الشهر مثلا ثلاثين فالتسع معناها غير الليلة، وإن كان تسعا وعشرين فالتسع بانضمامهما والله أعلم. وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافا كثيرا. وتحصل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولا كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كل منهما ليقع الجد في

(4/262)


طلبهما: القول الأول أنها رفعت أصلا ورأسا حكاه المتولي في التتمة عن الروافض والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية وكأنه خطأ منه. والذي حكاه السروجي أنه قول الشيعة، وقد روى عبد الرزاق من طريق داود بن أبي عاصم عن عبد الله بن يحنس "قلت لأبي هريرة: زعموا أن ليلة القدر رفعت، قال: كذب من قال ذلك" ومن طريق عبد الله بن شريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنه أنكرها، فأراد زر بن حبيش أن يحصبه فمنعه قومه. الثاني أنها خاصة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاه الفاكهاني أيضا. الثالث أنها خاصة بهذه الأمة ولم تكن في الأمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله عن الجمهور وحكاه صاحب "العدة" من الشافعية ورجحه، وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي حيث قال فيه: "قلت يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قال: لا بل هي باقية" وعمدتهم قول مالك في "الموطأ" بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية فأعطاه الله ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر. الرابع أنها ممكنة في جميع السنة، وهو قول مشهور عن الحنفية حكاه قاضي خان وأبو بكر الرازي منهم، وروى مثله عن ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وغيرهم، وزيف المهلب هذا القول وقال: لعل صاحبه بناه على دوران الزمان لنقصان الأهلة، وهو فاسد لأن ذلك لم يعتبر في صيام رمضان فلا يعتبر في غيره حتى تنقل ليلة القدر عن رمضان ا ه. ومأخذ ابن مسعود كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أنه أراد أن لا يتكل الناس. الخامس أنها مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه، وهو قول ابن عمر رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه، وروي مرفوعا عنه أخرجه أبو داود، وفي "شرح الهداية" الجزم به عن أبي حنيفة وقال به ابن المنذر والمحاملي وبعض الشافعية ورجحه السبكي في "شرح المنهاج" وحكاه ابن الحاجب رواية. وقال السروجي في "شرح الهداية" قول أبي حنيفة إنها تنتقل في جميع رمضان وقال صاحباه إنها في ليلة معينة منه مبهمة، وكذا قال النسفي في "المنظومة" :
وليلة القدر بكل الشهر ... دائرة وعيناها فادر ا ه
وهذا القول حكاه ابن العربي عن قوم وهو السادس. السابع أنها أول ليلة من رمضان حكى عن أبي رزين العقيلي الصحابي، وروى ابن أبي عاصم من حديث أنس قال: ليلة القدر أول ليلة من رمضان، قال ابن أبي عاصم لا نعلم أحدا قال ذلك غيره. الثامن أنها ليلة النصف من رمضان حكاه شيخنا سراج الدين ابن الملقن في "شرح العمدة" والذي رأيت في "المفهم" للقرطبي حكاية قول أنها ليلة النصف من شعبان، وكذا نقله السروجي عن صاحب "الطراز" فإن كانا محفوظين فهو القول التاسع، ثم رأيت في "شرح السروجي" عن "المحيط" أنها في النصف الأخير. العاشر أنها ليلة سبع عشرة من رمضان، روى ابن أبي شيبة والطبراني من حديث زيد بن أرقم قال: ما أشك ولا أمتري أنها ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة أنزل القرآن، وأخرجه أبو داود عن ابن مسعود أيضا. القول الحادي عشر أنها مبهمة في العشر الأوسط حكاه النووي وعزاه الطبري لعثمان بن أبي العاص والحسن البصري وقال به بعض الشافعية. القول الثاني عشر أنها ليلة ثمان عشرة قرأته بخط القطب الحلبي في شرحه وذكره ابن الجوزي في مشكله. القول الثالث عشر أنها ليلة تسع عشرة رواه عبد الرزاق عن علي، وعزاه الطبري لزيد بن ثابت وابن مسعود، ووصله الطحاوي عن ابن مسعود. القول الرابع عشر أنها أول ليلة من العشر الأخير وإليه مال الشافعي وجزم به جماعة من الشافعية، ولكن قال السبكي أنه ليس مجزوما به عندهم لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده في

(4/263)


ليلة القدر أنه لا يعتق تلك الليلة بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها في العشر الأخير وقيل بانقضاء السنة بناء على أنها لا تختص بالعشر الأخير بل هي في رمضان. القول الخامس عشر مثل الذي قبله إلا أنه إن كان الشهر تاما فهي ليلة العشرين وإن كان ناقصا فهي ليلة إحدى وعشرين وهكذا في جميع الشهر وهو قول ابن حزم وزعم أنه يجمع بين الإخبار بذلك، ويدل له ما رواه أحمد والطحاوي من حديث عبد الله بن أنيس قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: التمسوها الليلة، قال وكانت تلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين، فقال رجل: هذه أولى بثمان بقين، قال بل أولى بسبع بقين فإن هذا الشهر لا يتم.القول السادس عشر أنها ليلة اثنين وعشرين وسيأتي حكايته بعد، وروى أحمد من حديث عبد الله ابن أنيس أنه "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وذلك صبيحة إحدى وعشرين فقال: كم الليلة؟ قلت: ليلة اثنين وعشرين، فقال: هي الليلة أو القابلة". القول السابع عشر أنها ليلة ثلاث وعشرين رواه مسلم عن عبد الله بن أنيس مرفوعا: "أريت ليلة القدر ثم نسيتها" فذكر مثل حديث أبي سعيد لكنه قال فيه: "ليلة ثلاث وعشرين بدل إحدى وعشرين" وعنه قال: "قلت يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها، فمرني بليلة القدر، قال: انزل ليلة ثلاث وعشرين" وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن معاوية قال: "ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين" ورواه إسحاق في مسنده من طريق أبي حازم عن رجل من بني بياضة له صحبة مرفوعا، وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعا: "من كان متحريها فليتحرها ليلة سابعة" وكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس الطيب، وعن ابن جريج عن عبيد الله ابن أبي يزيد عن ابن عباس "أنه كان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين، وروى عبد الرزاق من طريق يونس ابن سيف سمع سعيد بن المسيب يقول: استقام قول القوم على أنها ليلة ثلاث وعشرين، ومن طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة، وعن طريق مكحول أنه كان يراها ليلة ثلاث وعشرين. القول الثامن عشر أنها ليلة أربع وعشرين كما تقدم من حديث ابن عباس في هذا الباب، وروى الطيالسي من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا: "ليلة القدر ليلة أربع وعشرين" وروي ذلك عن ابن مسعود وللشعبي والحسن وقتادة، وحجتهم حديث واثلة أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان، وروى أحمد من طريق ابن لهيعة عن يزيد ابن أبي الخير الصنابحي عن بلال مرفوعا: "التمسوا ليلة القدر ليلة أربع وعشرين" وقد أخطأ ابن لهيعة في رفعه فقد رواه عمرو بن الحارث عن يزيد بهذا الإسناد موقوفا بغير لفظه كما سيأتي في أواخر المغازي بلفظ: "ليلة القدر أول السبع من العشر الأواخر". القول التاسع عشر أنها ليلة خمس وعشرين حكاه ابن العربي في "العارضة" وعزاه ابن الجوزي في "المشكل" لأبي بكرة. القول العشرون أنها ليلة ست وعشرين وهو قول لم أره صريحا إلا أن عياضا قال: ما من ليلة من ليالي العشر الأخير إلا وقد قيل إنها فيه. القول الحادي والعشرون أنها ليلة سبع وعشرين وهو الجادة من مذهب أحمد ورواية عن أبي حنيفة وبه جزم أبي بن كعب وحلف عليه كما أخرجه مسلم، وروى مسلم أيضا من طريق أبي حازم عن أبي هريرة قال: "تذاكرنا ليلة القدر فقال صلى الله عليه وسلم: أيكم يذكر حين طلع القمر كأنه شق جفنة؟ قال أبو الحسن الفارسي: أي ليلة سبع وعشرين فإن القمر يطلع فيها بتلك الصفة. وروى الطبراني من حديث ابن مسعود "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال: أيكم يذكر ليلة الصهباوات؟ قلت: أنا، وذلك ليلة سبع وعشرين" ورواه ابن أبي شيبة عن عمر وحذيفة وناس من الصحابة، وفي الباب عن ابن عمر عند مسلم: "رأى رجل ليلة القدر ليلة سبع وعشرين" ولأحمد من حديثه مرفوعا: "ليلة القدر ليلة سبع وعشري"

(4/264)


ولابن المنذر "من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين" وعن جابر بن سمرة نحوه أخرجه الطبراني في أوسطه، وعن معاوية نحوه أخرجه أبو داود وحكاه صاحب "الحلية" من الشافعية عن أكثر العلماء، وقد تقدم استنباط ابن عباس عند عمر فيه وموافقته له، وزعم ابن قدامة أن ابن عباس استنبط ذلك من عدد كلمات السورة وقد وافق قوله فيها هي سابع كلمة بعد العشرين، وهذا نقله ابن حزم عن بعض المالكية وبالغ في إنكاره نقله ابن عطية في تفسيره وقال: إنه من ملح التفاسير وليس من متين العلم.
واستنبط بعضهم ذلك في جهة أخرى فقال: ليلة القدر تسعة أحرف وقد أعيدت في السورة ثلاث مرات فذلك سبع وعشرون. وقال صاحب الكافي من الحنفية وكذا المحيط: من قال لزوجته أنت طالق ليلة القدر طلقت ليلة سبع وعشرين لأن العامة تعتقد أنها ليلة القدر. القول الثاني والعشرون أنها ليلة ثمان وعشرين وقد تقدم توجيهه قبل بقول. القول الثالث والعشرون أنها ليلة تسع وعشرين حكاه ابن العربي. القول الرابع والعشرون أنها ليلة ثلاثين حكاه عياض والسروجي في شرح الهداية ورواه محمد بن نصر والطبري عن معاوية وأحمد من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة. القول الخامس والعشرون أنها في أوتار العشر الأخير وعليه يدل حديث عائشة وغيرها في هذا الباب، وهو أرجح الأقوال وصار إليه أبو ثور والمزني وابن خزيمة وجماعة من علماء المذاهب. القول السادس والعشرون مثله بزيادة الليلة الأخيرة رواه الترمذي من حديث أبي بكرة وأحمد من حديث عبادة بن الصامت. القول السادس والعشرون تنتقل في العشر الأخير كله قاله أبو قلابة ونص عليه مالك والثوري وأحمد وإسحاق وزعم الماوردي أنه متفق عليه؛ وكأنه أخذه من حديث ابن عباس أن الصحابة اتفقوا على أنها في العشر الأخير ثم اختلفوا في تعيينها منه كما تقدم، ويؤيد كونها في العشر الأخير حديث أبي سعيد الصحيح أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما اعتكف العشر الأوسط "إن الذي طلب أمامك" وقد تقدم ذكره قريبا، وتقدم ذكر اعتكافه صلى الله عليه وسلم العشر الأخير في طلب ليلة القدر واعتكاف أزواجه بعده والاجتهاد فيه كما في الباب الذي بعده، واختلف القائلون به فمنهم من قال هي فيه محتملة على حد سواء نقله الرافعي عن مالك وضعفه ابن الحاجب، ومنهم من قال بعض لياليه أرجى من بعض فقال الشافعي: أرجاه ليلة إحدى وعشرين وهو القول الثامن والعشرون، وقيل أراه ليلة ثلاث وعشرين وهو القول التاسع والعشرون، وقيل أرجاه ليلة سبع وعشرين وهو القول الثلاثون، القول الحادي والثلاثون أنها تنتقل في السبع الأواخر، وقد تقدم بيان المراد منه في حديث ابن عمر: هل المراد ليالي السبع من آخر الشهر أو آخر سبعة تعد من الشهر؟ ويخرج من ذلك القول الثاني والثلاثون. القول الثالث والثلاثون أنها تنتقل في النصف الأخير ذكره صاحب المحيط عن أبي يوسف ومحمد، وحكاه إمام الحرمين عن صاحب التقريب. القول الرابع والثلاثون أنها ليلة ست عشرة أو سبع عشرة رواه الحارث بن أبي أسامة من حديث عبد الله بن الزبير. القول الخامس والثلاثون أنها ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين رواه سعيد بن منصور من حديث أنس بإسناد ضعيف. القول السادس والثلاثون أنها في أول ليلة من رمضان أو آخر ليلة رواه ابن أبي عاصم من حديث أنس بإسناد ضعيف. القول السابع والثلاثون أنها أول ليلة أو تاسع ليلة أو سابع عشرة أو إحدى وعشرين أو آخر ليلة رواه ابن مردوية في تفسيره عن أنس بإسناد ضعيف. القول الثامن والثلاثون أنها ليلة تسع عشرة أو إحدى عشرة أو ثلاث وعشرين رواه أبو داود من حديث ابن مسعود بإسناد فيه مقال، وعبد الرزاق من حديث علي بإسناد منقطع، وسعيد بن منصور من حديث عائشة بإسناد

(4/265)


منقطع أيضا. القول التاسع والثلاثون ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين وهو مأخوذ من حديث ابن عباس في الباب حيث قال: "سبع يبقين أو سبع يمضين" ولأحمد من حديث النعمان ابن بشير "سابعه تمضي أو سابعة تبقى" قال النعمان: فنحن نقول ليلة سبع وعشرين وأنتم تقولون ليلة ثلاث وعشرين. القول الأربعون ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين كما سيأتي في الباب الذي بعده من حديث عبادة بن الصامت، ولأبي داود من حديثه بلفظ: "تاسعة تبقى سابعة تبقى خامسة تبقى" قال مالك في "المدونة" قوله تاسعة تبقى ليلة إحدى وعشرين الخ. القول الحادي والأربعون أنها منحصرة في السبع الأواخر من رمضان لحديث ابن عمر في الباب الذي قبله. القول الثاني والأربعون أنها ليلة اثنتين وعشرين أو ثلاث وعشرين لحديث عبد الله بن أنيس عند أحمد. القول الثالث والأربعون أنها في أشفاع العشر الوسط والعشر الأخير قرأته بخط مغلطاي. القول الرابع والأربعون أنها ليلة الثالثة من العشر الأخير أو الخامسة منه رواه أحمد من حديث معاذ بن جبل، والفرق بينه وبين ما تقدم أن الثالثة تحتمل ليلة ثلاث وعشرين وتحتمل ليلة سبع وعشرين فتنحل إلى أنها ليلة ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين وبهذا يتغاير هذا القول مما مضى. القول الخامس والأربعون أنها في سبع أو ثمان من أول النصف الثاني روى الطحاوي من طريق عطية بن عبد الله بن أنيس عن أبيه أنه "سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال: تحرها في النصف الأخير، ثم عاد فسأله فقال: إلى ثلاث وعشرين، قال: وكان عبد الله يحيى ليلة ست عشرة إلى ليلة ثلاث وعشرين ثم يقصر". القول السادس والأربعون أنها في أول ليلة أو أخر ليلة أو الوتر من الليل أخرجه أبو داود في كتاب "المراسيل" عن مسلم بن إبراهيم عن أبي خلدة عن أبي العالية "أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال له: متى ليلة القدر؟ فقال اطلبوها في أول ليلة وآخر ليلة والوتر من الليل" وهذا مرسل رجاله ثقات. وجميع هذه الأقوال التي حكيناها بعد الثالث فهلم جرا متفقة على إمكان حصولها والحث على التماسها. وقال ابن العربي: الصحيح أنها لا تعلم، وهذا يصلح أن يكون قولا آخر، وأنكر هذا القول النووي وقال: قد تظاهرت الأحاديث بإمكان العلم بها وأخبر به جماعة من الصالحين فلا معنى لإنكار ذلك. ونقل الطحاوي عن أبي يوسف قولا جوز فيه أنه يرى أنها ليلة أربع وعشرين أو سبع وعشرين، فإن ثبت ذلك عنه فهو قول آخر. هذا آخر ما وقفت عليه من الأقوال وبعضها يمكن رده إلى بعض، وإن كان ظاهرها التغاير، وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير وأنها تنتقل كما يفهم من أحاديث هذا الباب، وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين على ما في حديث أبي سعيد وعبد الله بن أنيس، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين، وقد تقدمت أدلة ذلك. قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها كما تقدم نحوه في ساعة الجمعة، وهذه الحكمة مطردة عند من يقول إنها في جميع من السنة وفي جميع رمضان أو في جميع العشر الأخير أو في أوتاره خاصة، إلا أن الأول ثم الثاني أليق به. واختلفوا هل لها علامة تظهر لمن وفقت له أم لا؟ فقيل: يرى كل شيء ساجدا، وقيل الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة، وقيل يسمع سلاما أو خطابا من الملائكة، وقيل علامتها استجابة دعاء من وفقت له، واختار الطبري أن جميع ذلك غير لازم وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه. واختلفوا أيضا هل يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه قامها وإن لم يظهر له شيء، أو يتوقف ذلك على كشفها له؟ وإلى الأول ذهب الطبري والمهلب وابن

(4/266)


العربي وجماعة، وإلى الثاني ذهب الأكثر، ويدل له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: "من يقم ليلة القدر فيوافقها" وفي حديث عبادة عند أحمد "من قامها إيمانا واحتسابا ثم وفقت له" قال النووي معنى يوافقها أي يعلم أنها ليلة القدر فيوافقها، ويحتمل أن يكون المراد يوافقها في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك. وفي حديث زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: "من يقم الحول يصب ليلة القدر" وهو محتمل للقولين أيضا. وقال النووي أيضا في حديث: "من قام رمضان" وفي حديث: "من قام ليلة القدر" : معناه من قامه ولو لم يوافق ليلة القدر حصل له ذلك، ومن قام ليلة القدر فوافقها حصل له، وهو جار على ما اختاره من تفسير الموافقة بالعلم بها، وهو الذي يترجح في نظري، ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر وإن لم يعلم بها ولو لم توفق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به، وفرعوا على القول باشتراط العلم بها أنه يختص بها شخص دون شخص فيكشف لواحد ولا يكشف لآخر ولو كانا معا في بيت واحد وقال الطبري: في إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة، إذ لو كان ذلك حقا لم يخف على كل من قام ليالي السنة فضلا عن ليالي رمضان. وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأنه لا ينبغي إطلاق القول بالتكذيب لذلك بل يجوز أن يكون ذلك على سبيل الكرامة لمن شاء الله من عباده فيختص بها قوم دون قوم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحصر العلامة ولم ينف الكرامة، وقد كانت العلامة في السنة التي حكاها أبو سعيد نزول المطر، ونحن نرى كثيرا من السنين ينقضي رمضان دون مطر مع اعتقادنا أنه لا يخلو رمضان من ليلة القدر، قال: ومع ذلك فلا نعتقد أن ليلة القدر لا ينالها إلا من رأى الخوارق، بل فضل الله واسع ورب قائم تلك الليلة لم يحصل منها إلا على العبادة من غير رؤية خارق، وآخر رأى الخارق من غير عبادة، والذي حصل على العبادة أفضل، والعبرة إنما هي بالاستقامة فإنها تستحيل أن تكون إلا كرامة، بخلاف الخارق فقد يقع كرامة وقد يقع فتنة والله أعلم، وفي هذه الأحاديث رد لقول أبي الحسن الحولي المغربي أنه اعتبر ليلة القدر فلم تفته طول عمره وأنها تكون دائما ليلة الأحد، فإن كان أول الشهر ليلة الأحد كانت ليلة تسع وعشرين وهلم جرا، ولزم من ذلك أن تكون في ليلتين من العشر الوسط لضرورة أن أوتار العشر خمسة. وعارضه بعض من تأخر عنه فقال إنها تكون دائما ليلة الجمعة وذكر نحو قول أبي الحسن، وكلاهما لا أصل له، بل هو مخالف لإجماع الصحابة في عهد عمر كما تقدم، وهذا كاف في الرد وبالله التوفيق. "تنبيه": وقعت هنا في نسخة الصغاني زيادة سأذكرها في آخر الباب الذي يلي هذا بعد باب آخر إن شاء الله تعالى.

(4/267)


4 - باب رَفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِتَلاَحِي النَّاسِ
2023-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ"
قوله: "باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس" أي بسبب تلاحي الناس، وقيد الرفع بمعرفة إشارة إلى أنها

(4/267)


لم ترفع أصلا ورأسا. قال الزين بن المنير: يستفاد هذا التقييد من قوله: "التمسوها" بعد إخبارهم بأنها رفعت، ومن كون أن وقوع التلاحي في تلك الليلة لا يستلزم وقوعه فيما بعد ذلك، ومن قوله: "فعسى أن يكون خيرا" فإن وجه الخيرية من جهة أن خفاءها يستدعي قيام كل الشهر أو العشر بخلاف ما لو بقيت معرفة تعيينها. قوله: "عن أنس عن عبادة بن الصامت" كذا رواه أكثر أصحاب حميد عن أنس، ورواه مالك فقال: "عن حميد عن أنس قال: خرج علينا "ولم يقل "عن عبادة" قال ابن عبد البر: والصواب إثبات عبادة وأن الحديث من مسنده. قوله: "فتلاحي" بالمهملة أي وقعت بينهما ملاحاة، وهي المخاصمة والمنازعة والمشاتمة، والاسم اللحاء بالكسر والمد. وفي رواية أبي نضرة عن أبي سعيد عند مسلم: "فجاء رجلان يختصمان معهما الشيطان" ونحوه في حديث القلتان عند ابن إسحاق وزاد أنه لقيهما عند سدة المسجد فحجز بينهما، فاتفقت هذه الأحاديث على سبب النسيان. وروى مسلم أيضا من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها" وهذا سبب آخر، فإما أن يحمل على التعدد بأن تكون الرؤيا في حديث أبي هريرة مناما فيكون سبب النسيان الإيقاظ، وأن تكون الرؤية في حديث غيره في اليقظة فيكون سبب النسيان ما ذكر من المخاصمة، أو يحمل على اتحاد القصة ويكون النسيان وقع مرتين عن سببين، ويحتمل أن يكون المعنى أيقظني بعض أهلي فسمعت تلاحي الرجلين فقمت لأحجز بينهما فنسيتها للاشتغال بهما، وقد روى عبد الرزاق من مرسل سعيد بن المسيب أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بليلة القدر"؟ قالوا: بلى. فسكت ساعة ثم قال: لقد قلت لكم وأنا أعلمها ثم أنسيتها" فلم يذكر سبب النسيان، وهو مما يقوى الحمل على التعدد. قوله: "رجلان" قيل هما عبد الله بن أبي حدرد وكعب بن مالك ذكره ابن دحية ولم يذكر له مستندا. قوله: "لأخبركم بليلة القدر" أي بتعيين ليلة القدر. قوله: "فرفعت" أي من قلبي، فنسيت تعيينها للاشتغال بالمتخاصمين، وقيل: المعنى فرفعت بركتها في تلك السنة، وقيل التاء في رفعت للملائكة لا لليلة. وقال الطيبي قال بعضهم رفعت أي معرفتها، والحامل له على ذلك أن رفعها مسبوق بوقوعها فإذا وقعت لم يكن لرفعها معنى، قال ويمكن أن يقال المراد برفعها أنها شرعت أن تقع فلما تخاصما رفعت بعد، فنزل الشروع منزلة الوقوع، وإذا تقرر أن الذي ارتفع علم تعيينها تلك السنة فهل أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بتعيينها؟ فيه احتمال، وقد تقدم قول ابن عيينة في أول الكلام على ليلة القدر أنه أعلم، وروى محمد بن نصر من طريق واهب المغافري أنه سأل زينب بنت أم سلمة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ليلة القدر؟ فقالت: لا، لو علمها لما أقام الناس غيرها ا ه. وهذا قالته احتمالا وليس بلازم، لاحتمال أن يكون التعبد وقع بذلك أيضا فيحصل الاجتهاد في جميع العشر كما تقدم. واستنبط السبكي الكبير، في "الحلبيات" من هذه القصة استحباب كتمان ليلة القدر لمن رآها؛ قال: ووجه الدلالة أن الله قدر لنبيه أنه لم يخبر بها، والخير كله فيما قدر له فيستحب اتباعه في ذلك، وذكر في "شرح المنهاج" ذلك عن "الحاوي" قال: والحكمة فيه أنها كرامة والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلاف بين أهل الطريق من جهة رؤية النفس فلا يأمن السلب، ومن جهة أن لا يأمن الرياء، ومن جهة الأدب فلا يتشاغل عن الشكر لله بالنظر إليها وذكرها للناس، ومن جهة أنه لا يأمن الحسد فيوقع غيره في المحذور، ويستأنس له بقول يعقوب عليه السلام: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} الآية. قوله: "فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" يحتمل أن يريد بالتاسعة تاسع ليلة من العشر الأخير فتكون ليلة تسع وعشرين، ويحتمل أن يريد بها تاسع ليلة تبقى من الشهر فتكون ليلة إحدى

(4/268)


أو اثنين بحسب تمام الشهر ونقصانه، ويرجح الأول قوله في رواية إسماعيل بن جعفر عن حميد الماضية في كتاب الإيمان بلفظ: "التمسوها في التسع والسبع والخمس" أي في تسع وعشرين وسبع وعشرين وخمس وعشرين. وفي رواية لأحمد "في تاسعة تبقى" والله أعلم.

(4/269)


5 - باب الْعَمَلِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
2024- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ"
قوله: "باب العمل في العشر الأواخر من رمضان" وفي رواية المستملي: "في رمضان". قوله: "عن أبي يعفور" بفتح التحتانية وسكون المهملة وضم الفاء، ولأحمد عن سفيان عن أبي عبيد ابن نسطاس وهو أبو يعفور المذكور واسمه عبد الرحمن، وهو كوفي تابعي صغير، ولهم أبو يعفور آخر تابعي كبير اسمه وقدان. قوله: "إذا دخل العشر" أي الأخير، وصرح به في حديث علي عند ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق عاصم بن ضمرة عنه. قوله: "شد مئزره" أي اعتزال النساء، وبذلك جزم عبد الرزاق عن الثوري، واستشهد بقول الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... عن النساء ولو باتت بأطهار
وذكر ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش نحوه. وقال الخطابي يحتمل أن يريد به الجد في العبادة كما يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي تشمرت له، ويحتمل أن يراد التشمير والاعتزال معا، ويحتمل أن يراد الحقيقة والمجاز يقول طويل النجاد لطويل القامة وهو طويل النجاد حقيقة، فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وشمر للعبادة. قلت: وقد وقع في رواية عاصم بن ضمرة المذكورة "شد مئزره واعتزل النساء" فعطفه بالواو فيتقوى الاحتمال الأول. قوله: "وأحيي ليله" أي سهره فأحياه بالطاعة وأحيي نفسه بسهره فيه لأن النوم أخو الموت وأضافه إلى الليل اتساعا لأن القائم إذا حيى باليقظة أحيي ليله بحياته، وهو نحو قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا" أي لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور. قوله: "وأيقظ أهله" أي للصلاة وروى الترمذي ومحمد بن نصر من حديث زينب بن أم سلمة "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه" قال القرطبي: ذهب بعضهم إلى أن اعتزاله النساء كان بالاعتكاف، وفيه نظر لقوله فيه: "وأيقظ أهله" فإنه يشعر بأنه كان معهم في البيت فلو كان معتكفا لكان في المسجد ولم يكن معه أحد، وفيه نظر فقد تقدم حديث: "اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه"؛ وعلى تقدير أنه لم يعتكف أحد منهن فيحتمل أن يوقظهن من موضعه وأن يوقظهن عندما يدخل البيت لحاجته. "تنبيه": وقع في نسخة الصغاني قبل هذا الباب في آخر "باب تحري ليلة القدر" ما نصه "قال أبو عبد الله قال أبو نعيم: كان هبيرة مع المختار على القتلى، قال أبو عبد لله فلم أخرج حديث هبيرة عن علي لهذا، ولم أخرج حديث الحسن بن عبيد الله لأن عامة حديثه مضطرب" انتهى وأراد بحديث هبيرة ما أخرجه أحمد والترمذي من طريق أبي إسحاق السبيعي عن هبيرة بن مريم وهو بفتح الياء المثناة من تحت بوزن عظيم عن علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشر الأخير من رمضان" وأخرجه أحمد وابن أبي

(4/269)


شيبة وأبو يعلى من طرق متعددة عن أبي إسحاق. وقال الترمذي حسن صحيح وأراد بحديث الحسن بن عبيد الله ما أخرجه مسلم والترمذي أيضا والنسائي وابن ماجة من رواية عبد الواحد بن زياد عنه عن إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها" قال الترمذي بعد تخريجه: حسن غريب. وأما قول أبي نعيم في هبيرة فمعناه أنه كان ممن أعان المختار - وهو ابن أبي عبيد الثقفي - لما غلب على الكوفة في خلافة عبد الله بن الزبير ودعا إلى الطلب بدم الحسين بن علي فأطاعه أهل الكوفة ممن كان يوالي أهل البيت، فقتل المختار في الحرب وغيرها ممن اتهم بقتل الحسين خلائق كثيرة، وكأن من وثق هبيرة لم يؤثر ذلك فيه عنده قدحا لأنه كان متأولا ولذلك صحح الترمذي حديثه، وممن وثق هبيرة1 ومعنى قوله: "يجهز" وهو بضم أوله وجيم وزاي: يكمل القتل. وأما الحسن بن عبيد الله فهو كوفي نخعي قدم يحيى القطان عليه الحسن بن عمرو وقال ابن معين: ثقة صالح، ووثقه أبو حاتم والنسائي وغيرهما. وقال الدار قطني: ليس بقوي ولا يقاس بالأعمش. انتهى. وقد تفرد بهذا الحديث عن إبراهيم وتفرد به عبد الواحد بن زياد عن الحسن ولذلك استغربه الترمذي، وأما مسلم فصحح حديثه لشواهده على عادته، وتجنب حديث علي للمعنى الذي ذكره البخاري أو لغيره، واستغنى البخاري عن الحديثين بما أخرجه في هذا الباب من طريق مسروق عن عائشة، وعلى هذا فمحل الكلام المذكور أن يكون عقب حديث مسروق في هذا الباب لا قبله وكأن ذلك من بعض النساخ والله أعلم. وفي الحديث الحرص على مداومة القيام في العشر الأخير إشارة إلى الحث على تجويد الخاتمة، ختم الله لنا بخير آمين.
ـــــــ
1 بياض في غالب النسخ التي اعتمدت في طبعة بولاق

(4/270)


كتاب الإعتكاف
باب الإعتكاف في العشر الاواخر و الاعتكاف في المساجد كلها
...
33 - كتاب الاعتكاف
قوله "أبواب الاعتكاف" كذا المستملي ، وسقط لغيره إلا النسفي فإنه قال "كتاب" وثبتت له البسملة مقدمة وللمسبملي مؤخرة والاعتكاف لغة لزوم الشيء وحبس النفس عليه وشرعا المقام في المسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة وليس بواجب إجماعا إلا على من نذره وكذا من شرع فيه فقطعه عامدا عند قوم واختلف في اشتراط الصوم له كما سيأتي في باب مفرد وانفرد سويد بن غفلة باشتراط الطهارة له .
1- باب الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [البقرة 187] {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
2025- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ
2026- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ"
2027- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ قَالَ مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فَبَصُرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ"
قوله: "باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها" أي مشروطية المسجد له من غير تخصيص بمسجد دون مسجد. قوله: "لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} الآية" ووجه

(4/271)


الدلالة من الآية أنه لو صح في غير المسجد لم يختص تحريم المباشرة به، لأن الجماع مناف للاعتكاف بالإجماع، فعلم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها. ونقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع، وروى الطبري وغيره من طريق قتادة في سبب نزول الآية: كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته جامعها إن شاء فنزلت. واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن عمر ابن لبابة المالكي فأجازه في كل مكان، وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة فيه، وفيه قول للشافعي قدم، وفي وجه لأصحابه وللمالكية يجوز للرجال والنساء لأن التطوع في البيوت أفضل، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات، وخصه أبو يوسف بالواجب منه وأما النفل ففي كل مسجد. وقال الجمهور بعمومه من كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة فاستحب له الشافعي في الجامع، وشرطه مالك لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة، ويجب بالشروع عند مالك، وخصه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقا وأومأ إليه الشافعي في القديم، وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجد مكة والمدينة وابن المسيب بمسجد المدينة، واتفقوا على أنه لا حد لأكثره واختلفوا في أقله فمن شرط فيه الصيام قال أقله يوم، ومنهم من قال يصح مع شرط الصيام في دون اليوم حكاه ابن قدامة، وعن مالك يشترط عشرة أيام، وعنه يوم أو يومان، ومن لم يشترط الصوم قالوا أقله ما يطلق عليه اسم لبث ولا يشترط القعود، وقيل يكفي المرور مع النية كوقوف عرفة، وروى عبد الرزاق عن يعلى أمية الصحابي "إني لأمكث في المسجد الساعة وما أمكث إلا لأعتكف"، واتفقوا على فساده بالجماع حتى قال الحسن والزهري: من جامع فيه لزمته الكفارة، وعن مجاهد: يتصدق بدينارين، واختلفوا في غير الجماع: ففي المباشرة أقوال ثالثها إن أنزل بطل وإلا فلا. ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: قوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان" وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه وزاد: قال نافع: وقد أراني عبد الله بن عمر المكان الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيه من المسجد، وزاد ابن ماجة من وجه آخر عن نافع: أن ابن عمر كان إذا اعتكف طرح له فراشه وراء أسطوانة التوبة. حديث عائشة مثل حديث ابن عمر وزاد: "حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده"، فيؤخذ من الأول اشتراط المسجد له، ومن الثاني أنه لم ينسخ وليس من الخصائص. وأما قول ابن نافع عن مالك: فكرت في الاعتكاف وترك الصحابة له مع شدة اتباعهم للأثر فوقع في نفسي أنه كالوصال، وأراهم تركوه لشدته ولم يبلغني عن أحد من السلف أنه اعتكف إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن ا ه. وكأنه أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة، ومن كلام مالك أخذ بعض أصحابه أن الاعتكاف جائز، وأنكر ذلك عليهم ابن العربي وقال: إنه سنة مؤكدة، وكذا قال ابن بطال: في مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تأكيده. وقال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافا أنه مسنون. قوله: "عن ابن شهاب" زاد معمر فيه: عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، خالفه الليث عن الزهري فقال: عن عروة عن عائشة موصولا وعن سعيد مرسلا. حديث أبي سعيد، قد تقدمت مباحثه في الباب الذي قبله.

(4/272)


باب الحائض ترجل المعتكف
...
2 - باب الْحَائِضِ تُرَجِّلُ رَأْسَ الْمُعْتَكِفِ
2028- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ

(4/272)


كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ"
قوله: "باب الحائض ترجل رأس المعتكف" أي تمشطه وتدهنه. قوله: "يصغي إلى" بضم أوله أي يميل. قوله: "وهو مجاور" في رواية أحمد والنسائي: "كان يأتيني وهو معتكف في المسجد فيتكئ على باب حجرتي فأغسل رأسه وسائره في المسجد" وقد تقدمت فوائده في كتاب الحيض، ويؤخذ منه أن المجاورة والاعتكاف واحد، وفرق بينهما مالك. وفي الحديث جواز التنظف والتطيب والغسل والحلق والتزين إلحاقا بالترجل، والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد، وعن مالك تكره فيه الصنائع والحرف حتى طلب العلم. وفي الحديث استخدام الرجل امرأته برضاها، وفي إخراجه رأسه دلالة على اشتراط المسجد للاعتكاف، وعلى أن من أخرج بعض بدنه من مكان حلف أن لا يخرج منه لم يحنث حتى يخرج رجليه ويعتمد عليهما.

(4/273)


باب لايدخل البيت إلا حاجة
...
3 - باب لاَ يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةٍ
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ وَكَانَ لاَ يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا"
[الحديث 2029- أطرافه في: 2033، 2034، 2041، 2045]
قوله: "باب لا يدخل" أي المعتكف "البيت إلا لحاجة" كأنه أطلق على وفق الحديث. قوله: "عن عروة" أي ابن الزبير "وعمرة" كذا في رواية الليث جمع بينهما، ورواه يونس عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة وحده، ورواه مالك عنه عن عروة عن عمرة، قال أبو داود وغيره لم يتابع عليه وذكر البخاري أن عبيد الله بن عمر تابع مالكا، وذكر الدار قطني أن أبا أويس رواه كذلك عن الزهري، واتفقوا على أن الصواب قول الليث وأن الباقين اختصروا منه ذكر عمرة، وأن ذكر عمرة في رواية مالك من المزيد في متصل الأسانيد. وقد رواه بعضهم عن مالك فوافق الليث أخرجه النسائي أيضا، وله أصل من حديث عروة عن عائشة كما سيأتي من طريق هشام عن أبيه وهو عند النسائي من طريق تميم بن سلمة عن عروة. قوله: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة" زاد مسلم إلا لحاجة الإنسان وفسرها الزهري بالبول والغائط، وقد اتفقوا على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب، ولو خرج لهما فتوضأ خارج المسجد لم يبطل. ويلتحق بهما القيء والفصد لمن احتاج إليه، ووقع عند أبي داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، قال أبو داود غير عبد الرحمن لا يقول فيه البتة، وجزم الدار قطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها "لا يخرج إلا لحاجة" وما عداه ممن دونها، وروينا عن علي والنخعي والحسن البصري إن شهد المعتكف جنازة أو عاد مريضا أو خرج للجمعة بطل اعتكافه، وبه قال الكوفيون وابن المنذر في الجمعة. وقال الثوري والشافعي وإسحاق إن شرط شيئا من ذلك في ابتداء اعتكافه لم يبطل اعتكافه بفعله وهو رواية عن أحمد.

(4/273)


4 - باب غَسْلِ الْمُعْتَكِفِ
2030- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ"
2031- وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ"
قوله: "باب غسل المعتكف" ذكر فيه حديث عائشة أيضا، وقد تقدمت مباحثه في كتاب الحيض.قوله: "فأغسله" زاد النسائي من رواية حماد عن إبراهيم "فاغسله بخطمي".

(4/274)


5 - باب الِاعْتِكَافِ لَيْلًا
2032- حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله أخبرني نافع عن بن عمر رضي الله عنهما أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم كنت نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام قال فأوف بنذرك"
[الحديث 2032- أطرافه في: 2043، 3144، 4320، 6697]
قوله باب الاعتكاف ليلا أي بغير نهار قوله حدثنا مسدد حدثني يحيى بن سعيد وهو القطان كذا رواه مسدد من مسند بن عمر ووافقه المقدمي وغيره ثم مسلم وغيره وخالفهم يعقوب بن إبراهيم عن يحيى فقال عن بن عمر عن عمر أخرجه النسائي وكذا أخرجه أبو داود عن أحمد لكنه في المسند كما قال مسدد فالله أعلم فاختلف فيه على عبيد الله بن عمر عن نافع وعلى أيوب عن نافع وسيأتي لذلك مزيد بيان في فرض الخمس وفي غزوة حنين قوله أن عمر سأل لم يذكر مكان السؤال وسيأتي في النذر من وجه آخر أن ذلك كان بالجعرانة لما رجعوا من حنين ويستفاد منه الرد على من زعم أن اعتكاف عمر كان قبل المنع من الصيام في الليل لأن غزوة حنين متاخرة عن ذلك قوله كنت نذرت في الجاهلية زاد حفص بن غياث عن عبيد الله ثم مسلم فلما أسلمت سألت وفيه رد على من زعم أن المراد بالجاهلية ما قبل فتح مكة وأنه إنما نذر في الإسلام وأصرح من ذلك ما أخرجه الدارقطني من طريق سعيد بن بشير عن عبيد الله بلفظ نذر عمر أن يعتكف في الشرك قوله أن أعتكف ليلة استدل به على جواز الاعتكاف بغير صوم لأن الليل ليس ظرفا للصوم فلو كان شرطا لآمره النبي صلى الله عليه وسلم به وتعقب بأن في رواية شعبة عن عبيد الله ثم مسلم يوما بدل ليلة فجمع بن حبان وغيره بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة فمن أطلق ليلة أراد بيومها ومن أطلق يوما أراد بليلته وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن بن عمر صريحا لكن إسنادها ضعيف وقد زاد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أعتكف وصم أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عبد الله بن بديل وهو ضعيف وذكر بن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار وروايةمن روى يوما شاذة وقد وقع في رواية سليمان بن بلال الآتية بعد أبواب فاعتكف ليلة فدل على أنه لم يزد على نذره شيئا وأن الاعتكاف لا صوم فيه وأنه لا يشترط له

(4/274)


.حد معين قوله في المسجد الحرام زاد عمرو بن دينار في روايته ثم الكعبة وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بعد أبواب من لم ير عليه إذا أعتكف صوما وترجمة هذا الباب مستلزمة للثانية لأن الاعتكاف إذا ساغ ليلا بغير نهار استلزم صحته بغير صيام عكس وباشتراط الصيام قال بن عمر وابن عباس أخرجه عبد الرزاق عنهما بإسناد صحيح وعن عائشة نحوه وبه قال مالك والأوزاعي والحنفية واختلف عن أحمد وإسحاق واحتج عياض بأنه صلى الله عليه وسلم لم يعتكف الا بصوم وفيه نظر لما في الباب الذي بعده أنه أعتكف في شوال كما سنذكره واحتج بعض المالكية بان الله تعالى ذكر الاعتكاف أثر الصوم فقال {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} وتعقب بأنه ليس فيها ما يدل على تلازمها ولا لكان لا صوم الا باعتكاف ولا قائل به وسنذكر بقية فوائد حديث عمر في كتاب النذور أن شاء الله تعالى وفي الحديث أيضا رد على من قال أقل الاعتكاف عشرة أيام أو أكثر من يوم وقد تقدم نقله في أول الاعتكاف وتظهر فائدة الخلاف فيمن نذر اعتكافا مبهما والله أعلم

(4/275)


6 - باب اعْتِكَافِ النِّسَاءِ
2033-حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً فَأَذِنَتْ لَهَا فَضَرَبَتْ خِبَاءً فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى الأَخْبِيَةَ فَقَالَ مَا هَذَا فَأُخْبِرَ
فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَالْبِرَّ تُرَوْنَ بِهِنَّ فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ"
قوله: "باب اعتكاف النساء" أي ما حكمه وقد أطلق الشافعي كراهته لهن في المسجد، الذي تصلي فيه الجماعة، واحتج بحديث الباب فإنه دال على كراهة الاعتكاف للمرأة إلا في مسجد بيتها لأنها تتعرض لكثرة من يراها. وقال ابن عبد البر لولا أن ابن عيينة زاد في الحديث - أي حديث الباب - أنهن استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف لقطعت بأن اعتكاف المرأة في مسجد الجماعة غير جائز. انتهى. وشرط الحنفية لصحة اعتكاف المرأة أن تكون في مسجد بيتها. وفي رواية لهم أن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها وبه قال أحمد. قوله: "حدثنا يحيى" هو ابن سعيد الأنصاري، ونسبه خلف بن هشام في روايته عن حماد بن زيد عند الإسماعيلي. قوله: "عن عمرة" في رواية الأوزاعي الآتية في أواخر الاعتكاف عن يحيى بن سعيد "حدثتني عمرة بنت عبد الرحمن". قوله: "عن عائشة" في رواية أبي عوانة من طريق عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد عن عمرة "حدثتني عائشة". قوله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فكنت أضرب له خباء" أي بكسر المعجمة ثم موحدة، وقوله: "فيصلي الصبح ثم يدخله" وفي رواية ابن فضيل عن يحيى بن سعيد الآتية في باب الاعتكاف في شوال "كان يعتكف في كل رمضان، فإذا صلى الغداة دخل" واستدل بهذا على أن مبدأ الاعتكاف من أول النهار، وسيأتي نقل الخلاف فيه. قوله: "فاستأذنت حفصة

(4/275)


عائشة أن تضرب خباء" في رواية الأوزاعي المذكورة "فاستأذنته عائشة فأذن لها، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت" وفي رواية ابن فضيل المذكورة "فاستأذن عائشة أن تعتكف فأذن لها فضربت قبة، فسمعت بها حفصة فضربت قبة" زاد في رواية عمرو بن الحارث "لتعتكف معه" وهذا يشعر بأنها فعلت ذلك بغير إذن، لكن رواية ابن عيينة عند النسائي: "ثم استأذنته حفصة فأذن لها" وقد ظهر من رواية حماد والأوزاعي أن ذلك كان على لسان عائشة. قوله: "فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر" وفي رواية ابن فضيل "وسمعت بها زينب فضربت قبة أخرى" وفي رواية عمرو بن الحارث "فلما رأته زينب ضربت معهن وكانت امرأة غيورا" ولم أقف في شيء من الطرق أن زينب استأذنت، وكأن هذا هو أحد ما بعث على الإنكار الآتي. قوله: "فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأخبية" في رواية مالك التي بعد هذه "فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه إذا أخبية" وفي رواية ابن فضيل "فلما انصرف من الغداة أبصر أربع قباب" يعني قبة له وثلاثا للثلاثة. وفي رواية الأوزاعي "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه الذي بني له ليعتكف فيه:" ووقع في رواية أبي معاوية عند مسلم وأبي داود "فأمرت زينب بخبائها فضرب، وأمر غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخبائها فضرب" وهذا يقتضي تعميم الأزواج بذلك وليس كذلك، وقد فسرت الأزواج في الروايات الأخرى بعائشة وحفصة وزينب فقط وبين ذلك قوله في هذه الرواية: "أربع قباب" وفي رواية ابن عيينة عند النسائي: "فلما صلى الصبح إذا هو بأربعة أبنية، قال: لمن هذه؟ قالوا لعائشة وحفصة وزينب". قوله: "آلبر" بهمزة استفهام ممدودة وبغير مد، "وآلبر "بالنصب، وقوله: "ترون بهن "بضم أوله أي تظنون. وفي رواية مالك "آلبر تقولون بهن "أي تظنون، والقول يطلق على الظن قال الأعشى:
أما الرحيل فدون بعد غد ... فمتى تقول الدار تجمعنا
أي تظن، ووقع في رواية الأوزاعي "آلبر أردن بهذا" وفي رواية ابن عيينة "آلبر تقولون يردن بهذا" والخطاب للحاضرين من الرجال وغيرهم. وفي رواية ابن فضيل "ما حملهن على هذا، آلبر؟ انزعوها فلا أراها، فنزعت" وما استفهامية، وآلبر في هذه الرواية مرفوع، وقوله فلا أراها زعم ابن التين أن الصواب حذف الألف من أراها قال: لأنه مجزوم بالنهي وليس كما قال. قوله: "فترك الاعتكاف" في رواية أبي معاوية "فأمر بخبائه فقوض" وهو بضم القاف وتشديد الواو المكسورة بعدها ضاد معجمة أي نقض، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون الحامل لهن على ذلك المباهاة والتنافس الناشئ عن الغيرة حرصا على القرب منه خاصة فيخرج الاعتكاف عن موضوعه أو لما أذن لعائشة وحفصة أولا كان ذلك خفيفا بالنسبة إلى ما يفضي إليه الأمر من توارد بقية النسوة على ذلك فيضيق المسجد على المصلين، أو بالنسبة إلى أن اجتماع النسوة عنده يصيره كالجالس في بيته، وربما شغلنه عن التخلي لما قصد من العبادة فيفوت مقصود الاعتكاف. قوله: "فترك الاعتكاف ذلك الشهر، ثم اعتكف عشرا من شوال" في رواية الأوزاعي "فرجع فلما أن اعتكف" وفي رواية ابن فضيل "فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال" وفي رواية أبي معاوية "فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال" ويجمع بينه وبين رواية ابن فضيل بأن المراد بقوله: "آخر العشر من شوال" انتهاء اعتكافه، قال الإسماعيلي: فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم، لأن أول شوال هو يوم الفطر وصومه حرام. وقال غيره: في اعتكافه في شوال

(4/276)


دليل على أن النوافل المعتادة إذا فاتت تقضي استحبابا، واستدل به المالكية على وجوب قضاء العمل لمن شرع فيه ثم أبطله، ولا دلالة فيه لما سيأتي. وقال ابن المنذر وغيره: في الحديث أن المرأة لا تعتكف حتى تستأذن زوجها وأنها إذا اعتكفت بغير إذنه كان له أن يخرجها، وإن كان بإذنه فله أن يرجع فيمنعها. وعن أهل الرأي إذا أذن لها الزوج ثم منعها أثم بذلك وامتنعت، وعن مالك ليس له ذلك، وهذا الحديث حجه عليهم، وفيه جواز ضرب الأخبية في المسجد، وأن الأفضل للنساء أن لا يعتكفن في المسجد، وفيه جواز الخروج من الاعتكاف بعد الدخول فيه، وأنه لا يلزم بالنية ولا بالشروع فيه، ويستنبط منه سائر التطوعات خلافا لمن قال باللزوم، وفيه أن أول الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح وهو قول الأوزاعي والليث والثوري. وقال الأئمة الأربعة وطائفة: يدخل قبيل غروب الشمس، وأولو الحديث على أنه دخل من أول الليل، ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح، وهذا الجواب يشكل على من منع الخروج من العبادة بعد الدخول فيها وأجاب عن هذا الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل المعتكف ولا شرع في الاعتكاف وإنما هم به ثم عرض له المانع المذكور فتركه، فعلى هذا فاللازم أحد الأمرين إما أن يكون شرع في الاعتكاف فيدخل على جواز الخروج منه، وإما أن لا يكون شرع فيدل على أن أول وقته بعد صلاة الصبح. وفيه أن المسجد شرط للاعتكاف لأن النساء شرع لهن الاحتجاب في البيوت فلو لم يكن المسجد شرطا ما وقع ما ذكر من الإذن والمنع ولاكتفي لهن بالاعتكاف في مساجد بيوتهن: وقال إبراهيم بن علية: في قوله: "آلبر تردن" دلالة على أنه ليس لهن الاعتكاف في المسجد إذ مفهومه أنه ليس ببر لهن، ما قاله ليس بواضح، وفيه شؤم الغيرة لأنها ناشئة عن الحسد المفضي إلى ترك الأفضل لأجله، وفيه ترك الأفضل إذا كان فيه مصلحة، وأن من خشي على عمله الرياء جاز له تركه وقطعه، وفيه أن الاعتكاف لا يجب بالنية، وأما قضاؤه صلى الله عليه وسلم له فعلى طريق الاستحباب لأنه كان إذا عمل عملا أثبته ولهذا لم ينقل أن نساءه اعتكفن معه في شوال، وفيه أن المرأة إذا اعتكفت في المسجد استحب لها أن تجعل لها ما يسترها، ويشترط أن تكون إقامتها في موضع لا يضيق على المصلين. وفي الحديث بيان مرتبة عائشة في كون حفصة لم تستأذن إلا بواسطتها، ويحتمل أن يكون سبب ذلك كونه كان تلك الليلة في بيت عائشة.

(4/277)


باب الاخبية في المساجد
...
7 - باب الأَخْبِيَةِ فِي الْمَسْجِدِ
2034-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ إِذَا أَخْبِيَةٌ خِبَاءُ عَائِشَةَ وَخِبَاءُ حَفْصَةَ وَخِبَاءُ زَيْنَبَ فَقَالَ أَلْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ"
قوله: "باب الأخبية في المسجد" ذكر فيه الحديث الماضي في الباب قبله مختصرا من طريق مالك عن يحيى بن سعيد فوقع في أكثر الروايات عن عمرة عن عائشة، وسقط قوله عن عائشة في رواية النسفي والكشميهني وكذا هو في الموطآت كلها، وأخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق عبد الله بن يوسف شيخ البخاري فيه مرسلا أيضا

(4/277)


وجزم بأن البخاري أخرجه عن عبد الله بن يوسف موصولا، قال الترمذي: رواه مالك وغير واحد عن يحيى مرسلا. وقال الدار قطني: تابع مالكا على إرساله عبد الوهاب الثقفي ورواه إلياس عن يحيى موصولا؛ وقال الإسماعيلي: تابع مالكا أنس بن عياض وحماد بن زيد على اختلاف عنه. انتهى. وأخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق عبد الله بن نافع عن مالك موصولا، فحصلنا على جماعة وصلوه، وقد تقدمت مباحثه في الباب الذي قبله.

(4/278)


باب هل يخرج المعتكف لحوائجهالى باب المسجد
...
8 - باب هَلْ يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ لِحَوَائِجِهِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلاَنِ مِنْ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا
فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا
[الحديث 2035- أطرافه في : 2038، 2039، 3101، 3281، 6219، 7171]
قوله: "باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد" أورد هذه الترجمة على الاستفهام لاحتمال القضية ما ترجم له، لكن تقييده ذلك بباب المسجد مما لا يتأتى فيه الخلاف حتى يتوقف عن بت الحكم فيه، وإنما الخلاف في الاشتغال في المسجد بغير العبادة. قوله: "أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته" عند ابن حبان في رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن علي بن الحسين "حدثتني صفية" وهي صفية بنت حيي بمهملة وتحتانية مصغرا، ابن أخطب، كان أبوها رئيس خيبر وكانت تكنى أم يحيى، وسيأتي شرح تزويجها في المغازي إن شاء الله تعالى. وفي تصريح علي بن الحسين بأنها حدثته رد على من زعم أنها ماتت سنة وثلاثين أو قبل ذلك، لأن عليا إنما ولد بعد ذلك سنة أربعين أو نحوها، والصحيح أنها ماتت سنة خمسين وقيل بعدها، وكان علي بن الحسين حين سمع منها صغيرا، وقد اختلفت الرواة عن الزهري في وصل هذا الحديث، وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى، واعتمد المصنف الطريق الموصولة وحمل الطريق المرسلة على أنها عند علي عن صفية فلم يجعلها علة للموصول كما صنع في طريق مالك في الباب قبله. قوله: "أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه" وفي رواية معمر الآتية في صفة إبليس فأتيته أزوره ليلا. وفي رواية هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري "كان النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وعنده أزواجه فرحن. وقال لصفية: لا تعجلي حتى أنصرف معك" والذي يظهر أن اختصاص صفية بذلك لكون مجيئها تأخر عن رفقتها فأمرها بتأخير التوجه ليحصل لها التساوي في مدة جلوسهن عنده، أو أن بيوت رفقتها كانت أقرب من منزلها فخشي النبي صلى الله عليه وسلم عليها، أو كان مشغولا فأمرها بالتأخر ليفرغ من شغله ويشيعها، وروى عبد الرزاق من

(4/278)


طريق مروان بن سعيد بن المعلى "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفا في المسجد فاجتمع إليه نساؤه ثم تفرقن، فقال لصفية أقلبك إلى بيتك، فذهب معها حتى أدخلها بيتها وفي رواية هشام المذكورة "وكان بيتها في دار أسامة" زاد في رواية عبد الرزاق عن معمر "وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد" أي الدار التي صارت بعد ذلك لأسامة ابن زيد لأن أسامة إذ ذاك لم يكن له دار مستقلة بحيث تسكن فيها صفية، وكانت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حوالي أبواب المسجد وبهذا يتبين صحة ترجمة المصنف. قوله: "فتحدثت عنده ساعة" زاد ابن أبي عتيق عن الزهري كما سيأتي في الأدب "ساعة من العشاء". قوله: "ثم قامت تنقلب" أي ترد إلى بيتها "فقام معها يقلبها" بفتح أوله وسكون القاف أي يردها إلى منزلها. قوله: "حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة" في رواية ابن أبي عتيق "الذي عند مسكن أم سلمة" والمراد بهذا بيان المكان الذي لقيه الرجلان فيه لإتيان مكان بيت صفية. قوله: "مر رجلان من الأنصار" لم أقف على تسميتهما في شيء من كتب الحديث، إلا أن ابن العطار في "شرح العمدة" زعم أنهما أسيد بن حضير وعباد بن بشر ولم يذكر لذلك مستندا، ووقع في رواية. سفيان الآتية بعد ثلاثة أبواب "فأبصره رجل من الأنصار" بالإفراد. وقال ابن التين إنه وهم ثم قال: يحتمل تعدد القصة، قلت: والأصل عدمه بل هو محمول على أن أحدهما كان تبعا للآخر أو خص أحدهما بخطاب المشافهة دون الآخر، ويحتمل أن يكون الزهري كان يشك فيه فيقول تارة رجل وتارة رجلان، فقد رواه سعيد بن منصور عن هشيم عن الزهري "لقيه رجل أو رجلان" بالشك، وليس لقوله رجل مفهوم، نعم رواه مسلم من وجه آخر من حديث أنس بالإفراد، ووجهه ما قدمته من أن أحدهما كان تبعا للآخر فحيث أفرد ذكر الأصل وحيث ثنى ذكر الصورة. قوله: "فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم" في رواية معمر "فنظرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجازا" أي مضيا يقال جاز وأجاز بمعنى "ويقال جاز الموضع إذا سار فيه وأجازه إذا قطعه وخلفه. وفي رواية ابن أبي عتيق "ثم نفذا" وهو بالفاء والمعجمة أي خلفاه. وفي رواية معمر "فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا" أي في المشي. وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عند ابن حبان: "فلما رأياه استحييا فرجعا" فأفاد سبب رجوعهما وكأنهما لو استمرا ذاهبين إلى مقصدهما ما ردهما بل لما رأى أنهما تركا مقصدهما ورجعا ردهما. قوله: "على رسلكما" بكسر الراء ويجوز فتحها أي على هينتكما في المشي فليس هنا شيء تكرهانه، وفيه شيء محذوف تقديره امشيا على هينتكما. وفي رواية معمر "فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم تعاليا" وهو بفتح اللام قال الداودي أي قفا، وأنكره ابن التين وقد أخرجه عن معناه بغير دليل. وفي رواية سفيان، فلما أبصره دعاه فقال تعال". قوله: "إنما هي صفية بنت حيي" في رواية سفيان "هذه صفية". قوله: "فقالا سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما" زاد النسائي من طريق بشر بن شعيب عن أبيه ذلك، مثله في رواية ابن مسافر الآتية في الخمس، وكذا للإسماعيلي من وجه آخر عن أبي اليمان شيخ البخاري وفيه. وفي رواية ابن أبي عتيق عند المصنف في الأدب "وكبر عليهما ما قال" وله من طريق عبد الأعلى عن معمر "فكبر ذلك عليهما" وفي رواية هشيم "فقال يا رسول الله هل نظن بك إلا خيرا". قوله: "إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ القدم" كذا في رواية ابن مسافر وابن أبي عتيق؛ وفي رواية معمر "يجري من الإنسان مجرى الدم" وكذا لابن ماجة من طريق عثمان بن عمر التيمي عن الزهري، زاد عبد الأعلى فقال: "إني خفت أن تظنا ظنا، أن الشيطان يجري، الخ" وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق "ما أقول لكما هذا أن تكونا تظنان شرا، ولكن قد علمت أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" . قوله: "ابن آدم" المراد جنس أولاد آدم فيدخل

(4/279)


فيه الرجال والنساء كقوله: "يا بني آدم" وقوله: "يا بني إسرائيل" بلفظ المذكر إلا أن العرف عممه فأدخل فيه النساء. قوله: "وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا" كذا في رواية ابن مسافر. وفي رواية معمر "سوءا أو قال شيئا" وعند مسلم وأبي داود وأحمد من حديث معمر "شرا" بمعجمه وراء بدل سوءا. وفي رواية هشيم "إني خفت أن يدخل عليكما شيئا" والمحصل من هذه الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينسبهما إلى أنهما يظنان به سوءا لما تقرر عنده من صدق إيمانهما، ولكن خشى عليهما أن يوسوس لهما الشيطان ذلك لأنهما غير معصومين فقد يفضي بهما ذلك إلى الهلاك فبادر إلى إعلامهما حسما للمادة وتعليما لمن بعدهما إذا وقع له مثل ذلك كما قاله الشافعي رحمه الله تعالى، فقد روى الحاكم أن الشافعي كان في مجلس ابن عيينة فسأله عن هذا الحديث فقال الشافعي: إنما قال لهما ذلك لأنه خاف عليهما الكفر إن ظنا به التهمة فبادر إلى إعلامهما نصيحة لهما قبل أن يقذف الشيطان في نفوسهما شيئا يهلكان به. قلت: وهو بين من الطرق التي أسلفتها، وغفل البزار فطعن في حديث صفية هذا واستبعد وقوعه ولم يأت بطائل، والله الموفق. وقوله: "يبلغ" أو "يجري" قيل هو على ظاهره وأن الله تعالى أقدره على ذلك، وقيل هو على سبيل الاستعارة من كثرة إغوائه، وكأنه لا يفارق كالدم فاشتركا في شدة الاتصال وعدم المفارقة. وفي الحديث من الفوائد جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة من تشييع زائره والقيام معه والحديث مع غيره، وإباحة خلوة المعتكف بالزوجة، وزيارة المرأة للمعتكف، وبيان شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته وإرشادهم إلى ما يدفع عنهم الإثم. وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار، قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدي به فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مخلص لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، ومن ثم قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن يبين للمحكوم عليه وجه الحكم إذا كان خافيا نفيا للتهمة. ومن هنا يظهر خطأ من يتظاهر بمظاهر السوء ويعتذر بأنه يجرب بذلك على نفسه، وقد عظم البلاء بهذا الصنف والله أعلم. وفيه إضافة بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليهن، وفيه جواز خروج المرأة ليلا، وفيه قول "سبحان الله" عند التعجب، قد وقعت في الحديث لتعظيم الأمر وتهويله وللحياء من ذكره كما في حديث أم سليم، واستدل به لأبي يوسف ومحمد في جواز تمادي المعتكف إذا خرج من مكان اعتكافه لحاجته وأقام زمنا يسيرا زائدا عن الحاجة ما لم يستغرق أكثر اليوم، ولا دلالة فيه لأنه لم يثبت أن منزل صفية كان بينه وبين المسجد فاصل زائد، وقد حد بعضهم اليسير بنصف يوم وليس في الخبر ما يدل عليه.

(4/280)


باب الاعتكاف وخروج النبي صبيحة عشرين
...
9 - باب الِاعْتِكَافِ وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ
2036- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ هَارُونَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَالَ نَعَمِ اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ قَالَ فَخَرَجْنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ قَالَ فَخَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَقَالَ إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَإِنِّي نُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي وِتْرٍ فَإِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ وَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(4/280)


فَلْيَرْجِعْ فَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً قَالَ فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطِّينِ وَالْمَاءِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي أَرْنَبَتِهِ وَجَبْهَتِهِ" قوله: "باب الاعتكاف وخروج النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة عشرين" أورد فيه حديث أبي سعيد، وقد تقدم الكلام عليه قريبا، وكأنه أراد بالترجمة تأويل ما وقع في حديث مالك من قوله: "فلما كانت ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من اعتكافه صبيحتها" وقد تقدم توجيه ذلك وأن المراد بقوله صبيحتها الصبيحة التي قبلها، قال ابن بطال: هو مثل قوله تعالى: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} فأضاف الضحى إلى العشية وهو قبلها، وكل شيء متصل بشيء فهو مضاف إليه سواء كان قبله أو بعده. قوله: "أريت" بضم أوله وكسر الراء. وفي رواية الكشميهني: "رأيت" بتقديم الراء وفتحها. قوله: "نسيتها" بفتح النون وللكشميهني بضمها وتثقيل السين. قوله: "رأيت أني أسجد" في رواية الكشميهني: "رأيت أن أسجد" قال القفال: معناه أنه رأى من يقول له في النوم ليلة القدر ليلة كذا وكذا وعلامتها كذا وكذا، وليس معناه أنه رأى ليلة القدر نفسها ثم نسيها لأن مثل ذلك لا ينسى. قلت: وقد تقدم للمصنف أن جبريل هو المخبر له بذلك.

(4/281)


10 - باب اعْتِكَافِ الْمُسْتَحَاضَةِ
2037- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ فَرُبَّمَا وَضَعْنَا الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي"
قوله: "باب اعتكاف المستحاضة" أورد فيه حديث عائشة "اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مستحاضة من أزواجه" وقد تقدم الكلام عليه في كتاب الحيض، وفي هذا اللفظ رد لقول من قال يحمل على أن قوله امرأة من نسائه أي من النساء اللواتي لهن به تعلق، لأنه لم ينقل أن امرأة من أزواجه صلى الله عليه وسلم استحاضت، وتقدم ذكر المستحاضة في عهده والخلاف فيهن، ويستدرك هنا أن تسمية هذه الزوجة وقع في رواية سعيد بن منصور عن إسماعيل وهو ابن علية حدثنا خالد وهو الحذاء الذي أخرجه المصنف من طريقه فذكر الحديث وزاد فيه: "قال وحدثنا به خالد مرة أخرى عن عكرمة أن أم سلمة كانت عاكفة وهي مستحاضة" فأفاد بذلك معرفة عينها وازداد بذلك عدد المستحاضات.
والله أعلم.

(4/281)


11 - باب زِيَارَةِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي اعْتِكَافِهِ
2038- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ ح
وحَدَّثَنَي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ "كَانَ

(4/281)


12 - باب هَلْ يَدْرَأُ الْمُعْتَكِفُ عَنْ نَفْسِهِ
2039- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ أَخْبَرَتْهُ ح
و حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يُخْبِرُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَلَمَّا رَجَعَتْ مَشَى مَعَهَا فَأَبْصَرَهُ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَلَمَّا أَبْصَرَهُ دَعَاهُ فَقَالَ تَعَالَ هِيَ صَفِيَّةُ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ هَذِهِ صَفِيَّةُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ قُلْتُ لِسُفْيَانَ أَتَتْهُ لَيْلًا قَالَ وَهَلْ هُوَ إِلاَّ لَيْلاٌ"
قوله: "باب هل يدرأ" بفتح أوله وسكون الدال بعدها راء ثم همزة مضمومة أي يدفع، وقوله: "عن نفسه" أي بالقول والفعل. وقد دل الحديث على الدفع بالقول فيلحق به الفعل، وليس المعتكف بأشد في ذلك من المصلي. ثم أورد المصنف فيه حديث صفية أيضا من وجهين عن الزهري: أحدهما طريق ابن أبي عتيق وهي موصولة، وإسماعيل بن عبد الله شيخه هو ابن أبي أويس، وأخوه أبو بكر، وسليمان هو ابن بلال، والإسناد كله مدنيون. والأخرى طريق سفيان وهي مرسلة، وساقه على لفظ سفيان، وأعاده بالإسناد المذكور هنا من طريق ابن أبي عتيق في الأدب على لفظه، وقد بينت ما فيه أيضا. قوله: "قلت لسفيان" وهو ابن عيينة، القائل هو علي بن عبد الله بن المديني شيخ البخاري. وقوله: "وهل هو إلا ليلا" أي وهل وقع الإتيان إلا في الليل؟ وليس المراد نفي إمكانه بل نفي وقوعه، وقد وقع عند النسائي من طريق عبد الله بن المبارك عن سفيان بن عيينة في نفس الحديث: "أن صفية أتت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة"

(4/282)


13 - باب مَنْ خَرَجَ مِنْ اعْتِكَافِهِ عِنْدَ الصُّبْحِ
2040- حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ خَالِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ح قَالَ سُفْيَانُ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ح قَالَ وَأَظُنُّ أَنَّ ابْنَ أَبِي لَبِيدٍ حَدَّثَنَا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ نَقَلْنَا مَتَاعَنَا فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُعْتَكَفِهِ فَإِنِّي رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مُعْتَكَفِهِ وَهَاجَتْ السَّمَاءُ فَمُطِرْنَا فَوَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَقَدْ هَاجَتْ السَّمَاءُ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَرِيشًا فَلَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى أَنْفِهِ وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ"
قوله: "باب من خرج من اعتكافه عند الصبح" ذكر فيه حديث أبي سعيد أيضا وقد تقدم الكلام عليه مستوفى وهو محمول على أنه أراد اعتكاف الليالي دون الأيام، وسبيل من أراد ذلك أن يدخل قبيل غروب الشمس ويخرج بعد طلوع الفجر، فإن أراد اعتكاف الأيام خاصة فيدخل مع طلوع الفجر ويخرج بعد غروب الشمس، فإن أراد اعتكاف الأيام والليالي معا فيدخل قبل غروب الشمس ويخرج بعد غروب الشمس أيضا. وقد وقع في حديث الباب: "فلما كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا" وهو مشعر بأنهم اعتكفوا الليالي دون الأيام، وحمله المهلب على نقل أثقالهم وما يحتاجون إليه من آلة الأكل والشرب والنوم، إذ لا حاجة لهم بها في ذلك اليوم، فإذا كان المساء خرجوا خفافا. ولذلك قال: "نقلنا متاعنا" ولم يقل خرجنا، وقد تقدم في "باب تحري ليلة القدر" من وجه آخر "فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة ويستقبل إحدى وعشرين رجع" وبذلك يجمع بين الطريقين فإن القصة واحدة والحديث واحد وهو حديث أبي سعيد. قوله: "حدثنا عبد الرحمن بن بشر" كذا للأكثر وليس في رواية الأصيلي وكريمة قوله: "ابن بشر" وذكره النسفي وحده تعليقا فقال: "وعبد الرحمن حدثنا سفيان" وهو ابن عيينة. قوله: "عن ابن جريج" في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان "حدثنا ابن جريج". قوله: "عن سليمان" زاد الحميدي ابن أبي مسلم. قوله: "وحدثنا محمد بن عمرو" القائل هو سفيان وهو ابن عيينة وهو القائل أيضا: "وأظن أن ابن أبي لبيد حدثنا" والحاصل أن لسفيان فيه ثلاثة أشياخ حدثوه به عن أبي سلمة، وقد أخرجه أحمد عن سفيان قال: "حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة وابن أبي لبيد عن أبي سلمة سمعت أبا سعيد "ولم يقل" وأظن "ومحمد بن عمرو هو ابن علقمة الليثي ولم يخرج له البخاري إلا مقرونا.

(4/283)


14 - باب الِاعْتِكَافِ فِي شَوَّالٍ
2041- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ فَإِذَا صَلَّى

(4/283)


الْغَدَاةَ دَخَلَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ قَالَ فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ أَنْ تَعْتَكِفَ فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ قُبَّةً وَسَمِعَتْ زَيْنَبُ بِهَا فَضَرَبَتْ قُبَّةً أُخْرَى فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَدَاةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ فَقَالَ مَا هَذَا فَأُخْبِرَ خَبَرَهُنَّ فَقَالَ مَا حَمَلَهُنَّ عَلَى هَذَا آلْبِرُّ انْزِعُوهَا فَلاَ أَرَاهَا فَنُزِعَتْ فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ"
قوله: "باب الاعتكاف في شوال" ذكر فيه حديث عمرة عن عائشة، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في "باب اعتكاف النساء". قوله: "حدثنا محمد" في رواية كريمة: "هو ابن سلام". قوله: "فإذا صلى الغداة دخل مكانه" في رواية الكشميهني: "حل" بمهملة وتشديد.

(4/284)


15 - باب مَنْ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ صَوْمًا إِذَا اعْتَكَفَ
2042- حدثنا إسماعيل بن عبد الله عن أخيه عن سليمان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ثم يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أوف نذرك فاعتكف ليلة"
قوله: "باب من لم ير عليه إذا اعتكف صوما" ذكر فيه قصة عمر في نذره اعتكاف ليلة، وقد تقدمت مباحثه في "باب الاعتكاف ليلا".

(4/284)


16 - باب إِذَا نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ أَسْلَمَ
2043- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ أُرَاهُ قَالَ لَيْلَةً قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْفِ بِنَذْرِكَ"
قوله: "باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم" أي هل يلزمه الوفاء بذلك أم لا؟ ذكر فيه قصة عمر أيضا وترجم له في أبواب النذر "إذا نذر أو حلف لا يكلم إنسانا في الجاهلية ثم أسلم" وكأنه ألحق اليمين بالنذر لاشتراكهما في التعليق، وفيه إشارة إلى أن النذر واليمين ينعقد في الكفر حتى يجب الوفاء بهما على من أسلم، وستأتي مباحثه في كتاب النذر إن شاء الله تعالى. قوله: "قال أراه ليلة" بضم أوله أي أظنه، والقائل ذلك هو عبيد شيخ البخاري أو البخاري نفسه، فقد رواه الإسماعيلي وغيره من طريق أخرى عن أبي أسامة بغير شك.

(4/284)


17 - باب الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ
2044- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ

(4/284)


18 - باب مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُجَ
2045- حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن أخبرنا عبد الله أخبرنا الأوزاعي قال حدثني يحيى بن سعيد قال حدثتني عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان فاستأذنته عائشة فأذن لها وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت فلما رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت ببناء فبني لها قالت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه فبصر بالأبنية فقال ما هذا قالوا بناء عائشة وحفصة وزينب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آلبر أردن بهذا ما أنا بمعتكف فرجع فلما أفطر اعتكف عشرا من شوال"

(4/285)


قوله: "باب من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج" أورد فيه حديث عمرة عن عائشة، وقد تقدمت مباحثه، وفيه إشارة إلى الجزم بأنه لم يدخل في الاعتكاف ثم خرج منه، بل تركه قبل الدخول فيه، وهو ظاهر السياق خلافا لمن خالف فيه.

(4/286)


19 - باب الْمُعْتَكِفِ يُدْخِلُ رَأْسَهُ الْبَيْتَ لِلْغُسْلِ
2046- حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها ثم كانت ترجل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه"
قوله: "باب المعتكف يدخل رأسه البيت للغسل" أورد فيه حديث عائشة من طريق معمر عن الزهري عن عروة عنها، وقد تقدم الكلام عليه في أوائل الاعتكاف. "تنبيه": الرأس مذكر اتفاقا ووهم من أنثه من الفقهاء وغيرهم.
"خاتمة": اشتملت أحاديث التراويح وليلة القدر والاعتكاف من الأحاديث المرفوعة على تسعة وثلاثين حديثا، المعلق منها حديثان، المكرر منها فيه وفيما مضى ثلاثون حديثا، والخالص منها تسعة أحاديث وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عباس في ليلة القدر وحديث أبي هريرة في اعتكاف عشرين ليلة، وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أثر عمر في جمع الناس على أبي بن كعب في التراويح وهو موصول، وأثر الزهري في ذلك، وأثر ابن عيينة في ليلة القدر، وأثر ابن عباس في التماس ليلة القدر ليلة أربع وعشرين. والله أعلم.

(4/286)


كتاب البيوع
باب {فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله}
...
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
34- كِتَاب الْبُيُوعِ
وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ [275 البقرة] {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
وَقَوْلُهُ [282 البقرة] {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}
قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم "كتاب البيوع" وقول الله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} و قوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} كذا للأكثر، ولم يذكر النسفي ولا أبو ذر الآيتين والبيوع جمع بيع، وجمع لاختلاف أنواعه. والبيع نقل ملك إلى الغير بثمن، والشراء قبوله، ويطلق كل منهما على الآخر. وأجمع المسلمون على جواز البيع والحكمة تقتضيه لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبا وصاحبه قد لا يبذله له ففي تشريع البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج، والآية الأولى أصل في جواز البيع، وللعلماء فيها أقوال أصحها أنه عام مخصوص، فإن اللفظ لفظ عموم يتناول كل بيع فيقتضي إباحة الجميع، لكن قد منع الشارع بيوعا أخرى وحرمها فهو عام في الإباحة مخصوص بما لا يدل الدليل على منعه. وقيل عام أريد به الخصوص، وقيل مجمل بينته السنة، وكل هذه الأقوال تقتضي أن المفرد المحلى بالألف واللام يعم. والقول الرابع أن اللام في البيع للعهد وأنها نزلت بعد أن أباح الشرع بيوعا وحرم بيوعا فأريد بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} أي الذي أحله الشرع من قبل. ومباحث الشافعي وغيره تدل على أن البيوع الفاسدة تسمى بيعا وإن كانت لا يقع بها الحنث لبناء الأيمان على العرف والآية الأخرى تدل على إباحة التجارة في البيوع الحالة وأولها في البيوع المؤجلة.
1 - باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وَقَوْلِهِ {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
2047- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُونَ مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لاَ يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالأَسْوَاقِ وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَتِي مِنْ الأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ وَقَدْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ

(4/287)


ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلاَّ وَعَى مَا أَقُولُ فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَيَّ حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ"
2048- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالًا فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا قَالَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لاَ حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ قَالَ سُوقُ قَيْنُقَاعٍ قَالَ فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ قَالَ ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَزَوَّجْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَمَنْ قَالَ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ كَمْ سُقْتَ قَالَ زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"
[الحديث 2048-طرفه في: 3780]
2049- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ فَمَكَثْنَا يَسِيرًا أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ فَجَاءَ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْيَمْ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ مَا سُقْتَ إِلَيْهَا قَالَ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ
[الحديث 2049- أطرافه في 2293، 3781، 3937، 5073، 5148، 5153، 5155، 5167، 6082، 6386]
2050- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا كَانَ الإِسْلاَمُ فَكَأَنَّهُمْ تَأَثَّمُوا فِيهِ فَنَزَلَتْ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ"
قوله باب ما جاء في قول الله عز وجل: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} إلى آخر السورة كذا لأبي ذر وللنسفى الآيتين أي إلى آخر الآيتين وساق في رواية كريمة الآيتين بتمامهما قوله وقوله: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ؤوالاية الأولى يؤخذ منها مشروعية البيع من طريق عموم ابتغاء الفضل لأنه يشمل التجارة وانواع التكسب واختلف في الأمر المذكور فالأكثر على أنه للإباحة ونكتتها مخالفة أهل الكتاب في منع ذلك يوم السبت فلم يحظر ذلك على المسلمين وقال

(4/288)


الداودي الشارح هو على الإباحة لمن له كفاف ولم لا يطيق التكسب وعلى الوجوب للقادر الذي لا شيء عنده لئلا يحتاج إلى السؤال وهو محرم عليه مع القدرة على التكسب وسيأتي بقية تفسير الآيتين في تفسير الجمعة وأغرب بعض الشراح فقال أن الآيات المذكورة ظاهرة في إباحة التجارة الا الأخيرة فهي إلى النهى عنها أقرب يعني قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} الخ ثم أجاب بان التجارة المذكورة مقيدة بالصفة المذكورة فمن ثم اشير إلى ذمها فلو خلت عن المعارض لم تذم والذي يظهر أن مراد البخاري بهذه الترجمة قوله {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وأما ذكر التجارة فيها فقد أفرده بترجمة تأتي بعد ثمانية أبواب والاية الثانية فيها تقييد التجارة المباحة بالتراضي وقوله {أَمْوَالَكُمْ} أي مالك كل إنسان لا يصرفه في محرم أو المعنى لا يأخذ بعضكم مال بعض وقوله : {إِلَّا أَنْ تَكُونَ} الاستثناء منقطع اتفاقا والتقدير لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل لكن أن حصلت بينكم تجارة وتراضيتم بها فليس بباطل وروى أبو داود من حديث أبي سعيد مرفوعا إنما البيع عن تراض وهو طرف من وروى الطبري من مرسل أبي قلابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يتفرق بيعان الا عن رضا ورجاله ثقات ومن طريق أبي زرعة بن عمرو أنه كان إذا بايع رجلا يقول له خيرني ثم يقول قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفترق اثنان يعني في البيع الا عن رضا وأخرجه أبو داود أيضا وسيأتي الكلام في الخيار قريبا أن شاء الله تعالى ومن طريق سعيد عن قتادة أنه أصحهما هذه الآية فقال التجارة رزق من رزق الله لمن طلبها بصدقها ثم ذكر البخاري في الباب أربعة أحاديث الأول حديث أبي هريرة : "أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة" كذا في رواية شعيب، وقد تقدم في أواخر كتاب العلم من طريق مالك عن الزهري فقال: "عن الأعرج" وهو صحيح عن الزهري عن كل منهم، وطريقه عن الأعرج مختصرة، وسيأتي في الاعتصام من طريق سفيان عن الزهري أتم منه وقد تقدمت مباحث الحديث هناك. والمقصود منه قول أبي هريرة "إن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق" والصفق بفتح المهملة - ووقع في رواية القابسي بالسين وسكون الفاء بعدها قاف - والمراد به التبايع، وسميت البيعة صفقة لأنهم اعتادوا عند لزوم البيع ضرب كف أحدهما بكف الآخر إشارة إلى أن الأملاك تضاف إلى الأيدي، فكأن يد كل واحد استقرت على ما صار له. ووجه الدلالة منه وقوع ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم واطلاعه عليه وتقريره له. قوله: "على ملء بطني" أي مقتنعا بالقوت أي فلم تكن له غيبة عنه. قوله: "نمرة" بفتح النون وكسر الميم أي كساء ملونا. وقال ثعلب: هي ثوب مخطط. وقال القزاز: دراعة تلبس فيها سواد وبياض. وقد تقدمت بقية مباحثه في أواخر كتاب العلم، لأنه ساق هذا الكلام الأخير هناك من وجه آخر عن أبي هريرة، ويأتي شيء من ذلك في كتاب الاعتصام. قوله: "عن جده" هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. قوله: "قال: قال عبد الرحمن بن عوف" في رواية أبي نعيم في "المستخرج" من طريق يحيى الحماني عن إبراهيم بن سعد بسنده عن عبد الرحمن بن عوف فهو من مسند عبد الرحمن، وقد أخرجه المصنف في "فضائل الأنصار" عن إسماعيل بن عبد الله وهو ابن أبي أويس عن إبراهيم بن سعد فقال: "عن أبيه عن جده قال: لما قدموا المدينة آخى الخ" فهو من هذه الطريق مرسل، وقد تبين لي بالطريق التي في هذا الباب أنه موصول. قوله: "آخى" تقدم في الصيام بيان وقت المؤاخاة في قصة سلمان وأبي الدرداء. قوله: "سعد

(4/289)


بن الربيع" سأذكر ترجمته في "فضائل الأنصار". قوله: "نزلت لك عنها" أي طلقتها لأجلك، و "حلت" أي انقضت عدتها.وسيأتي الكلام على هذا الحديث مستوفى في "الوليمة" من كتاب النكاح إن شاء الله تعالى، قال ابن التين: كان هذا القول من سعد قبل أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يكفوا المهاجرين العمل ويعطوهم نصف الثمرة. قوله: "قينقاع" بفتح القاف وسكون التحتانية وضم النون بعدها قاف: قبيلة من اليهود نسب السوق إليهم، وذكر ابن التين أنه ضبط قينقاع بكسر النون في أكثر نسخ القابسي وهو صواب أيضا، وقد حكى فتحها أيضا، صرف قينقاع على إرادة الحي، وتركه على إرادة القبيلة.قوله: "تابع الغدو" أي داوم الذهاب إلى السوق للتجارة. حديث أنس في قصة عبد الرحمن بن عوف المذكورة.قد أورده المصنف من طرق عن حميد وعن ثابت وعن عبد العزيز ابن صهيب كلهم عن أنس، وليس في شيء منها أن أنسا حمله عن عبد الرحمن إلا ما وقع في رواية لمسلم وللنسائي عن طريق عبد العزيز عن أنس فقال: "عن عبد الرحمن بن عوف قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي" فذكر ووقع عند الدار قطني من طريق مالك عن حميد عن أنس عن عبد الرحمن ابن عوف أيضا وذكر أن روح بن عبادة تفرد به عن مالك، والمحفوظ عنه كما رواه الجماعة، وسيأتي الكلام على حديث أنس وبيان فوائد طرقه واختلافها في "الوليمة" إن شاء الله تعالى.والغرض من إيراد هذين الحديثين اشتغال بعض الصحابة بالتجارة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره على ذلك، وفيه أن الكسب من التجارة ونحوها أولى من الكسب من الهبة ونحوها.حديث ابن عباس في ذكر أسواق الجاهلية وتقريرها في الإسلام، قد تقدم الكلام عليه في أثناء كتاب الحج، وقوله فيه "وكان الإسلام" أي وجاء الإسلام، فكان هنا تامة، و "تأثموا" أي طرحوا الإثم، والمعنى تركوا التجارة في الحج حذرا من الإثم، وقراءة ابن عباس "في مواسم الحج" معدودة من الشاذ الذي صح إسناده وهو حجة وليس بقرآن.

(4/290)


باب الحلال بين و الحرام بين و بينهما متشابهات
...
2 - باب الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ
2051- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا أَبُو فَرْوَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنْ الإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ وَمَنْ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ"
قوله: "باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات" ذكر فيه حديث النعمان بن بشير بلفظ الترجمة وزيادة،

(4/290)


فأورده من طريقين عن الشعبي عنه، والثانية من طريقين عن أبي فروة عن الشعبي، فأورده أولا من طريق عبد الله بن عون عن الشعبي ثم من طريق ابن عيينة عن أبي فروة عن الشعبي صرح تارة بالتحديث لابن عيينة عن أبي فروة وثانيا بالتصريح بسماع أبي فروة من الشعبي وبسماع الشعبي من النعمان على المنبر وبسماع النعمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساقه المصنف من طريق سفيان وهو الثوري عن أبي فروة وساقه على لفظه كما صرح بذلك أبو نعيم في "المستخرج" وأما لفظ ابن عيينة فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه والإسماعيلي من طريقه ولفظه: "حلال بين وحرام بين ومشتبهات بين ذلك" فذكره وفي آخره: "ولكل ملك حمى وحمى الله في الأرض معاصيه" ، وأما لفظ ابن عون فأخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما بلفظ، "إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات - وأحيانا يقول مشتبهة - وسأضرب لكم في ذلك مثلا: إن الله حمى حمى، وإن حمى الله ما حرم، وأنه من يرع حول الحمى يوشك أن يخالطه، وأنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر". وأبو فروة المذكور هو الأكبر واسمه عروة بن الحارث الهمداني الكوفي، ولهم أبو فروة الأصغر الجهني الكوفي واسمه مسلم بن سالم ما له في البخاري سوى حديث واحد في أحاديث الأنبياء قوله: "قال النبي صلى الله عليه وسلم" في الرواية الأولى "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم:" وقد قدمت في الإيمان الرد على من نفى سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم.قوله: "الحلال بين والحرام بين الخ" فيه تقسيم الأحكام إلى ثلاثة أشياء، وهو صحيح لأن الشيء إما أن ينص على طلبه مع الوعيد على تركه، أو ينص على تركه مع الوعيد على فعله، أو لا ينص على واحد منهما. فالأول الحلال البين، والثاني الحرام البين. فمعنى قوله: "الحلال بين" أي لا يحتاج إلى بيانه ويشترك في معرفته كل أحد، والثالث مشتبه لخفائه فلا يدرى هل هو حلال أو حرام، وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه لأنه إن كان في نفس الأمر حراما فقد برئ من تبعتها وإن كان حلالا فقد أجر على تركها بهذا القصد لأن الأصل في الأشياء مختلف فيه حظرا وإباحة، والأولان قد يردان جميعا فإن علم المتأخر منهما وإلا فهو من حيز القسم الثالث، وسأذكر ما فسرت به الشبهة بعد هذا الباب، والمراد أنها مشتبهة على بعض الناس بدليل قوله عليه السلام "لا يعلمها كثير من الناس" وقد تقدم الكلام على ذلك وعلى هذا الحديث مستوفى في "باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه" من كتاب الإيمان، وقد توارد أكثر الأئمة المخرجين له على إيراده في كتاب البيوع لأن الشبهة في المعاملات تقع فيها كثيرا، وله تعلق أيضا بالنكاح وبالصيد والذبائح والأطعمة والأشربة وغير ذلك مما لا يخفى والله المستعان. وفيه دليل على جواز الجرح والتعديل قاله البغوي في "شرح السنة" واستنبط منه بعضهم منع إطلاق الحلال والحرام على ما لا نص فيه لأنه من جملة ما لم يستبن، لكن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يعلمها كثير من الناس" يشعر بأن منهم من يعلمها. وقوله في هذه الطريق "استبان" أي ظهر تحريمه. وقوله: "أوشك" أي قرب لأن متعاطي الشبهات قد يصادف الحرام وإن لم يتعمده أو يقع فيه لاعتياده التساهل

(4/291)


باب تفسير المتشابهات
...
3 - باب تَفْسِيرِ الْمُشَبَّهَاتِ
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ مِنْ الْوَرَعِ دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ
1947 حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين حدثنا

(4/291)


عبد الله بن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه ثم أن امرأة سوداء جاءت فزعمت أنها أرضعتهما فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه وتبسم النبي صلى الله عليه وسلم قال كيف وقد قيل وقد كانت تحته ابنة أبي إهاب التميمي"
2053- حدثنا يحيى بن قزعة حدثنا مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن بن وليدة زمعة مني فاقبضه قالت فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال بن أخي قد عهد إلي فيه فقام عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال سعد يا رسول الله بن أخي كان قد عهد إلي فيه فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو لك يا عبد بن زمعة ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر ثم قال لسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله"
[الحديث 2053- أطرافه في: 2218،2421، 2533، 2745، 4303، 6749، 6765، 6817، 7182]
2054- حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة قال أخبرني عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال ثم سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المعراض فقال إذا أصاب بحده فكل وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ قلت يا رسول الله أرسل كلبي وأسمي فأجد معه على الصيد كلبا آخر لم أسم عليه ولا أدري أيهما أخذ قال لا تأكل إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر قوله: "باب تفسير المشبهات" بتشديد الموحدة، وللنسفي بضمتين مخففا بغير ميم، ولابن عساكر بضم الميم وزيادة تاء لما تقدم في حديث النعمان بن بشير "إن الشبهات لا يعلمها كثير من الناس" واقتضى ذلك أن بعض الناس يعلمها، أراد المصنف أن يعرف الطريق إلى معرفتها لتجتنب. فذكر أولا ما يضبطها، ثم أورد أحاديث يؤخذ منها مراتب ما يجب اجتنابه منها، ثم ثنى بباب فيه بيان ما يستحب منها، ثم ثلث بباب فيه بيان ما يكره. وشرح ذلك أن الشيء إما أن يكون أصله التحريم أو الإباحة أو يشك فيه، فالأول كالصيد فإنه يحرم أكله قبل ذكاته فإذا شك فيها لم يزل عن التحريم إلا بيقين، وإليه الإشارة بحديث عدي ابن حاتم. والثاني كالطهارة إذا حصلت لا ترفع إلا بيقين الحدث وإليه الإشارة بحديث عبد الله بن زيد في الباب الثالث، ومن أمثلته من له زوجة وعبد وشك هل طلق أو أعتق فلا عبرة بذلك وهما على ملكه. والثالث ما لا يتحقق أصله ويتردد بين الحظر والإباحة فالأولى تركه، وإليه الإشارة بحديث التمرة الساقطة في الباب الثاني. قوله: "وقال حسان بن أبي سنان" هو البصري أحد العباد في زمن التابعين، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع، وقد وصله أحمد في "الزهد" وأبو نعيم في "الحلية" عنه بلفظ: "إذا شككت في شيء فاتركه" ولأبي نعيم من وجه آخر اجتمع يونس بن عبيد وحسان بن أبي سنان فقال

(4/292)


يونس ما عالجت شيئا أشد علي من الورع. فقال حسان ما عالجت شيئا أهون علي منه، قال: كيف؟ قال حسان: تركت ما يريبني إلى ما لا يريبني فاسترحت. قال بعض العلماء: تكلم حسان على قدر مقامه، والترك الذي أشار إليه أشد على كثير من الناس من تحمل كثير من المشاق الفعلية. وقد ورد قوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" مرفوعا أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وابن حبان والحاكم من حديث الحسن بن علي. وفي الباب عن أنس عند أحمد من حديث ابن عمر عند الطبراني في "الصغير" ومن حديث أبي هريرة وواثلة بن الأسقع ومن قول ابن عمر أيضا وابن مسعود وغيرهما. قوله: "يريبك" بفتح أوله ويجوز الضم يقال رابه يريبه بالفتح وأرابه يريبه بالضم ريبة وهي الشك والتردد، والمعنى إذا شككت في شيء فدعه، وترك ما يشك فيه أصل عظيم في الورع. وقد روى الترمذي من حديث عطية السعدي مرفوعا: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس" وقد تقدمت الإشارة إليه في كتاب الإيمان، قال الخطابي كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه. ثم هو على ثلاثة أقسام: واجب ومستحب ومكروه، فالواجب اجتناب ما يستلزمه ارتكاب المحرم، والمندوب اجتناب معاملة من أكثر ماله حرام، والمكروه اجتناب الرخص المشروعة على سبيل التنطع. الحديث الأول حديث عقبة بن الحارث في الرضاع، ووجه الدلالة منه قوله: "كيف وقد قيل" ؟ فإنه يشعر بأن أمره بفراق امرأته إنما كان لأجل قول المرأة إنها أرضعتهما، فاحتمل أن يكون صحيحا فيرتكب الحرام، فأمره بفراقها احتياطا على قول الأكثر، وقيل بل قبل شهادة المرأة وحدها على ذلك، وستأتي مباحثه في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى. الحديث الثاني حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة، وستأتي مباحثه في كتاب الفرائض، ووجه الدلالة منه قوله صلى الله عليه وسلم: "احتجبي منه يا سودة" مع حكمه بأنه أخوها لأبيها، لكن لما رأى الشبه البين فيه من غير زمعة أمر سودة بالاحتجاب منه احتياطا في قول الأكثر، واعترض الداودي فقال: ليس هذا الحديث من هذا الباب في شيء، وأجاب ابن التين بأن وجهه أن المشبهات ما أشبهت الحلال من وجه والحرام من وجه، وبيانه من هذه القصة أن إلحاقه بزمعة يقتضي أن لا تحتجب منه سودة والشبه بعتبة يقتضي أن تحتجب. وقال ابن القصار: إنما حجب سودة منه لأن للزوج أن يمنع زوجته من أخيها وغيره من أقاربها. وقال غيره: بل وجب ذلك لغلظ أمر الحجاب في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولو اتفق مثل ذلك لغيره لم يجب الاحتجاب كما وقع في حق الأعرابي الذي قال له "لعله نزعه عرق". الحديث الثالث حديث عدي بن حاتم في الصيد، ووجه الدلالة منه قوله: "إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر" فبين له وجه المنع وهو ترك التسمية، وأبعد من استدل به على سد الذرائع.

(4/293)


باب ما ينزه من المشبهات
...
4 - باب مَا يُتَنَزَّهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ
2055- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ فَقَالَ لَوْلاَ أَنْ تَكُونَ مِنْ صَدَقَةٍ لاَكَلْتُهَا وَقَالَ هَمَّامٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَجِدُ تَمْرَةً سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي
[الحديث 2055- طرفه في: 2431]
قوله: "باب ما يتنزه" بضم أوله أي يجتنب "من الشبهات". وللكشميهني: "يكره" بدل يتنزه. قوله: "حدثنا

(4/293)


سفيان" هو الثوري ومنصور هو ابن المعتمر وطلحة هو ابن مطرف، والإسناد كله كوفيون إلا الصحابي فإنه سكن البصرة وقد دخل الكوفة مرارا، وصرح يحيى القطان بالتحديث بين منصور وسفيان كما سيأتي في اللقطة. قوله: "مسقوطة" كذا للأكثر. وفي رواية كريمة: "مسقطة" بضم أوله وفتح القاف، قال ابن التيمي قوله: "مسقوطة" كلمة غريبة لأن المشهور أن سقط لازم والعرب قد تذكر الفاعل بلفظ المفعول؛ واستشهد له الخطابي بقوله تعالى: { كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} أي آتيا وقال ابن التين: مسقوطة بمعنى ساقطة كقوله حجابا مستورا أي ساترا. وقال ابن مالك في الشواهد: قوله مسقوطة بمعنى مسقطة ولا فعل له، ونظيره مرقوق بمعنى مرق أي مسترق عن ابن جني، قال: وكما جاء مفعول ولا فعل له جاء فعل ولا مفعول له كقراءة النخعي "عموا وصموا" بضم أولهما ولم يجيء مصموم اكتفاء بأصم. قلت. وقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن قبيصة شيخ البخاري فيه فقال: "مطروحة" وأخرجه أبو نعيم من وجهين آخرين عن قبيصة شيخ البخاري فيه فقال: "بتمرة" ولم يقل مسقوطة ولا مسقطة. قوله: "وقال همام الخ" وصله في اللقطة بتمامه ولفظه: "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها. قلت: ولم يستحضر الكرماني لفظ رواية همام فقال: تمام الحديث غير مذكور، وهو لولا أن تكون صدقة لأكلتها. قلت: والنكتة في ذكره هنا ما فيه من تعيين المحل الذي رأى فيه التمرة وهو فراشه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يأكلها وذلك أبلغ في الورع. قال المهلب: لعله صلى الله عليه وسلم كان يقسم الصدقة ثم يرجع إلى أهله فيعلق بثوبه من تمر الصدقة شيء فيقع في فراشه، وإلا فما الفرق بين هذا وبين أكله من اللحم الذي تصدق به على بريرة. قلت: ولم ينحصر وجود شيء من تمر الصدقة في غير بيته حتى يحتاج إلى هذا التأويل، بل يحتمل أن يكون ذلك التمر حمل إلى بعض من يستحق الصدقة ممن هو في بيته وتأخر تسليم ذلك له، أو حمل إلى بيته فقسمه فبقيت منه بقية. وقد روى أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "تضور النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقيل له ما أسهرك؟ قال إني وجدت ثمرة ساقطة فأكلتها، ثم ذكرت تمرا كان عندنا من تمر الصدقة فما أدري أمن ذلك كانت التمرة أو من تمر أهلي، فذلك أسهرني" وهو محمول على التعدد، وأنه لما اتفق له أكل التمرة كما في هذا الحديث وأقلقه ذلك صار بعد ذلك إذا وجد مثلها مما يدخل التردد تركه احتياطا، ويحتمل أن يكون في حالة أكله إياها كان في مقام التشريع وفي حال تركه كان في خاصة نفسه. وقال المهلب: إنما تركها صلى الله عليه وسلم تورعا وليس بواجب، لأن الأصل أن كل شيء في بيت الإنسان على الإباحة حتى يقوم دليل على التحريم، وفيه تحريم قليل الصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤخذ منه تحريم كثيرها من باب أولى.

(4/294)


باب من لم ير الوساوس و نحوها من الشبهات
...
5 - باب مَنْ لَمْ يَرَ الْوَسَاوِسَ وَنَحْوَهَا مِنْ الشُّبُهَاتِ
2056- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يَجِدُ فِي الصَّلاَةِ شَيْئًا أَيَقْطَعُ الصَّلاَةَ قَالَ لاَ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ لاَ وُضُوءَ إِلاَّ فِيمَا وَجَدْتَ الرِّيحَ أَوْ سَمِعْتَ الصَّوْتَ
2057- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ الْعِجْلِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ

(4/294)


عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لاَ نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لاَ
فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَكُلُوهُ"
[الحديث 2057_ طرفاه في:5507،7398]
قوله: "باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات" في رواية الكشميهني من المشبهات بميم وتثقيل، وفي نسخة بمثناة بدل التثقيل والكل بمعنى مشكلات، وهذه الترجمة معقودة لبيان ما يكره من التنطع في الورع، قال الغزالي: الورع أقسام، ورع الصديقين وهو ترك ما لا يتناول بغير نية القوة على العبادة، وورع المتقين وهو ترك ما لا شبهة فيه ولكن يخشى أن يجر إلى الحرام، وورع الصالحين وهو ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع، فإن لم يكن فهو ورع الموسوسين، قال: ووراء ذلك ورع الشهود وهو ترك ما يسقط الشهادة، أي أعم من أن يكون ذلك المتروك حراما أم لا. انتهى. وغرض المصنف هنا بيان ورع الموسوسين كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون الصيد كان لإنسان ثم أفلت منه، وكمن يترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لا يدري أماله حلال أم حرام وليست هناك علامة تدل على الثاني، وكمن يترك تناول الشيء لخبر ورد فيه متفق على ضعفه وعدم الاحتجاج به ويكون دليل إباحته قويا وتأويله ممتنع أو مستبعد. ثم ذكر فيه حديثين: قوله: "عن عباد بن تميم عن عمه" هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني. وفي رواية الحميدي المذكورة "أخبرني سعيد هو ابن المسيب وعباد بن تميم عن عبد الله بن زيد" وقد تقدم في الطهارة عن أبي نعيم عن سفيان، وسياقه يشعر بأن طريق سعيد مرسلة وطريق عباد موصولة، ولم يتعرض المزي لتمييز ذلك في "الأطراف". قوله: "وقال ابن أبي حفصة" هو محمد وكنيته أبو سلمة واسم والد أبي حفصة ميسرة وهو بصري نزل الجزيرة، وظن الكرماني أن محمدا هذا وسالما بن أبي حفصة وعمارة بن أبي حفصة إخوة فجزم بذلك هنا فوهم فيه وهما فاحشا، فإن والد سالم لا يعرف اسمه وهو كوفي ووالد عمارة اسمه نابت بالنون ثم موحدة ثم مثناة، وهو بصري أيضا، لكن ميسرة مولى نابت عربي، وسالم بن أبي حفصة من طبقة أعلى من طبقة الاثنين. قوله: "لا وضوء الخ" وصل أحمد أثر ابن أبي حفصة المذكور من طرق، ووقع لنا بعلو في "مسند أبي العباس السراج" ولفظه: "عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه مرفوعا: "باللفظ المعلق، ومشى بعض الشراح على ظاهر قول البخاري عن الزهري "لا وضوء الخ" فجزم بأن هذا المتن من كلام الزهري، وليس كما ظن لما ذكرته عن مسندي أحمد والسراج، وقد جرت عادة البخاري بهذا الاختصار كثيرا، والتقدير: عن الزهري بهذا السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لا وضوء. وأقرب أمثلة ذلك ما مضى في الصوم في "باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس" فإنه أورد حديث الباب من رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء قالت: "أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس "قيل لهشام: أمروا بالقضاء؟ قال: وبد من قضاء" قال البخاري "وقال معمر سمعت هشاما لا أدري أقضوا أم لا" فهذا أيضا فيه حذف تقديره سمعت هشاما عن معمر عن هشام1 بالسند والمتن. وقال في آخره: "فقال إنسان لهشام: أقضوا أم لا؟ قال: لا أدري" وقد أخرجه عبد الرزاق عن معمر كذلك، وأوردته
ـــــــ
1 في هامش طبعة بولاق: هكذا في النسخ

(4/295)


من "مسند عبد بن حميد" عاليا "عن عبد الرزاق عن معمر سمعت هشاما عن فاطمة عن أسماء" فذكرت الحديث، قال: "فقال إنسان لهشام أقضوا أم لا؟ قال لا أدري". "تنبيه" اختصر ابن أبي حفصة هذا المتن اختصارا مجحفا، فإن لفظه يعم ما إذا وقع الشك داخل الصلاة وخارجها، ورواية غيره من أثبات أصحاب الزهري تقتضي تخصيص ذلك بمن كان داخل الصلاة، ووجهه أن خروج الريح من المصلي هو الذي يقع له غالبا بخلاف غيره من النواقض فإنه لا يهجم عليه إلا نادرا، وليس المراد حصر نقض الوضوء بوجود الريح. حديث عائشة في التسمية على الذبيحة، وقد استدل به على أن التسمية ليست شرطا لصحة الذبح، وقد استدل به على أن التسمية ليست شرطا في جواز الأكل من الذبيحة، وسيأتي تقريره والجواب عما أورد عليه وسائر مباحثه في كتاب الذبائح مستوفى إن شاء الله تعالى، وهو أصل في تحسين الظن بالمسلم وأن أموره محمولة على الكمال ولا سيما أهل ذلك العصر.

(4/296)


باب{واذا راواتجارة او لهو انفضوا اليها}
...
6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}
2058- حدثنا طلق بن غنام حدثنا زائدة عن حصين عن سالم قال حدثني جابر رضي الله عنه قال ثم بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت من الشام عير تحمل طعاما فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا فنزلت {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}
قوله: "باب قول الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} كأنه أشار بهذه الترجمة إلى أن التجارة وإن كانت ممدوحة باعتبار كونها من المكاسب الحلال فإنها قد تذم إذا قدمت على ما يجب تقديمه عليها. وقد أورد في الباب حديث جابر في قصة انفضاض الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، ومضى الكلام عليه مبسوطا في كتاب الجمعة، ويأتي بعضه في تفسير سورة الجمعة إن شاء الله تعالى.

(4/296)


7 - باب مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ حَيْثُ كَسَبَ الْمَالَ
2059- حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلاَلِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ"
[ الحديث2059- طرفه:في 2083]
قوله: "باب من لم يبال من حيث كسب المال" في هذه الترجمة إشارة إلى ذم ترك التحري في المكاسب. قوله: "يأتي على الناس زمان" في رواية أحمد عن يزيد عن ابن أبي ذئب بسنده "ليأتين على الناس زمان" وللنسائي من وجه آخر "يأتي على الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال من حل أو حرام" وهذا أورده النسائي من طريق محمد بن عبد الرحمن عن الشعبي عن أبي هريرة، ووهم المزي في "الأطراف" فظن أن محمد بن عبد الرحمن هو ابن أبي ذئب فترجم به للنسائي مع طريق البخاري هذه عن ابن أبي ذئب، وليس كما ظن فإني لم أقف عليه في جميع النسخ التي وقفت عليها من النسائي إلا عن الشعبي لا عن سعيد، ومحمد بن عبد الرحمن المذكور عنه أظنه ابن أبي ليلى لا ابن أبي ذئب، لأني لا أعرف لابن أبي ذئب رواية عن الشعبي. وقال ابن التين: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا تحذيرا من

(4/296)


باب التجارة في البز و غيره
...
8 - باب التِّجَارَةِ فِي الْبَزِّ
وَقَوْلِهِ عز وجل [37 النور]: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}
وَقَالَ قَتَادَةُ كَانَ الْقَوْمُ يَتَبَايَعُونَ وَيَتَّجِرُونَ وَلَكِنَّهُمْ إِذَا نَابَهُمْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ"
2060،2061- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ كُنْتُ أَتَّجِرُ فِي الصَّرْفِ فَسَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ح
و حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَعَامِرُ بْنُ مُصْعَبٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا الْمِنْهَالِ يَقُولُ سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالاَ كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّرْفِ فَقَالَ إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلاَ بَأْسَ وَإِنْ كَانَ نَسَاءً فَلاَ يَصْلُحُ"
[الحديث 2060- أطرافه في: 2180، 2497، 3939]
[الحديث 2061 – أطرافه في : 2181، 2498، 3940]
قوله: "باب التجارة في البز وغيره" لم يقع في رواية الأكثر قوله: "وغيره:" وثبتت عند الإسماعيلي وكريمة. واختلف في ضبط البز فالأكثر على أنه بالزاي، وليس في الحديث ما يدل عليه بخصوصه بل بطريق عموم المكاسب المباحة. وصوب ابن عساكر أنه بالراء وهو أليق بمؤاخاة الترجمة التي بعد هذه بباب وهو التجارة في البحر، وكذا ضبطها الدمياطي، وقرأت بخط القطب الحلبي ما يدل على أنها مضبوطة عند ابن بطال وغيره بضم الموحدة وبالراء، قال وليس في الباب ما يقتضي تعيينه من بين أنواع التجارة ا ه. وقد أخطأ من زعم أنه بالراء تصحيف إذ ليس في الآية ولا الحديث ولا الأثر اللاتي أوردها في الباب ما يرجح أحد اللفظين. قوله: "وقوله عز وجل: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه} أي وتفسير ذلك، وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المعنى لا تلهيهم عن الصلاة المكتوبة، وتمسك به قوم في مدح ترك التجارات وليس بواضح. قوله: "وقال قتادة: كان القوم يتبايعون الخ" لم أقف عليه موصولا عنه، وقد وقع لي من كلام ابن عمر أخرجه عبد الرزاق عنه أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال ابن عمر "فيهم نزلت: فذكر الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود نحوه، وفي "الحلية" عن سفيان الثوري: كانوا يتبايعون ولا يدعون الصلوات المكتوبات في الجماعة. ثم أورد المصنف حديث زيد بن أرقم والبراء بن عازب في الصرف، وسيأتي الكلام عليه في "باب بيع الورق بالذهب نسيئة" بعد نيف وستين بابا وموضع الترجمة منه قوله فيه: "وكانا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خفي ذلك على

(4/297)


القطب فقرأت بخطه: لم يذكر أحد من الشراح مناسبة الترجمة لهذا الحديث فينظر."تنبيه": أبو المنهال المذكور في هذا الإسناد غير أبي المنهال صاحب أبي برزة الأسلمي في حديث المواقيت، واسم هذا عبد الرحمن بن مطعم واسم صاحب أبي برزة سيار بن سلامة.وأخرج البخاري الطريق الثانية بنزول رجل لأجل زيادة عامر بن مصعب مع عمرو بن دينار في رواية ابن جريج عنهما عن أبي المنهال المذكور، وعامر بن مصعب ليس له في البخاري سوى هذا الموضع الواحد.قوله: "نسيئا" بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها همزة، وللكشميهني نساء بفتح النون والمهملة ومدة.

(4/298)


9 - باب الْخُرُوجِ فِي التِّجَارَةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}
2062-حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَكَأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى فَفَرَغَ عُمَرُ فَقَالَ أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ائْذَنُوا لَهُ قِيلَ قَدْ رَجَعَ فَدَعَاهُ فَقَالَ كُنَّا نُؤْمَرُ بِذَلِكَ فَقَالَ تَأْتِينِي عَلَى ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسِ الأَنْصَارِ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا لاَ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلاَّ أَصْغَرُنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَذَهَبَ بِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقَالَ عُمَرُ أَخَفِيَ هَذَا عَلَيَّ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ يَعْنِي الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ"
[الحديث2062- طرفاه في : 6245، 7353]
قوله: "باب الخروج في التجارة، وقول الله عز وجل: { انْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه} قال ابن بطال. هو إباحة بعد حظر كقوله تعالى: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وقال ابن المنير في الحاشية: غرض البخاري إجازة الحركات في التجارة ولو كانت بعيدة خلافا لمن يتنطع ولا يحضر السوق كما سيأتي في مكانه إن شاء الله تعالى. قوله: "أن أبا موسى استأذن على عمر فلم يؤذن له" زاد بشر بن سعيد عن أبي سعيد كما سيأتي في الاستئذان "أنه استأذن ثلاثا". قوله: "فقال كنا نؤمر بذلك" في الرواية المذكورة أنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع". قوله: "فذهب بأبي سعيد" في الرواية المذكورة "فأخبرت عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك" وفيه الدلالة على أن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" محمول على الرفع، ويقوى ذلك إذا ساقه مساق الاستدلال، وفيه أن الصحابي الكبير القدر الشديد اللزوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد يخفى عليه بعض أمره ويسمعه من هو دونه، وادعى بعضهم أنه يستفاد منه أن عمر كان لا يقبل الخبر من شخص واحد، وليس كذلك لأن في بعض طرقه أن عمر قال: إني أحببت أن أتثبت. وستأتي فوائده مستوفاة في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى. وقد قبل عمر خبر الضحاك بن سفيان وحده في الدية وغير ذلك. قوله: "فقال عمر أخفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

(4/298)


ألهاني الصفق بالأسواق، يعني الخروج إلى التجارة" كذا في الأصل، وأطلق عمر على الاشتغال بالتجارة لهوا لأنها ألهته عن طول ملازمته النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمع غيره منه ما لم يسمعه، ولم يقصد عمر ترك أصل الملازمة وهي أمر نسبي، وكان احتياج عمر إلى الخروج للسوق من أجل الكسب لعياله والتعفف عن الناس، وأما أبو هريرة فكان وحده فلذلك أكثر ملازمته، وملازمة عمر للنبي صلى الله عليه وسلم لا تخفى كما سيأتي في ترجمته في المناقب. واللهو مطلقا ما يلهي سواء كان حراما أو حلالا، وفي الشرع ما يحرم فقط.

(4/299)


10 - باب التِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ
وَقَالَ مَطَرٌ لاَ بَأْسَ بِهِ وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إِلاَّ بِحَقٍّ ثُمَّ تَلاَ [14النحل] {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} وَالْفُلْكُ السُّفُنُ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ سَوَاءٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَمْخَرُ السُّفُنُ الرِّيحَ وَلاَ تَمْخَرُ الرِّيحَ مِنْ السُّفُنِ إِلاَّ الْفُلْكُ الْعِظَامُ
2063- وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَرَجَ إِلَى الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ وَسَاقَ الْحَدِيثَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بِهَ"
قوله: "باب التجارة في البحر" أي إباحة ركوب البحر للتجارة، وفي بعض النسخ "وغيره:" فإن ثبت قوى قول من قرأ: { الْبِرَّ } فيما سبق بباب بضم أوله أو بالزاي. قوله: "وقال مطر الخ" هو مطر الوراق البصري مشهور في التابعين، ووقع في رواية الحموي وحده "وقال مطرف" وهو تصحيف، وبأنه الوراق وصفه المزي والقطب وآخرون. وقال الكرماني: الظاهر أنه ابن الفضل المروزي شيخ البخاري، وكأن ظهور ذلك له من حيث أن الذين أفردوا رجال البخاري كالكلاباذي لم يذكروا فيهم الوراق المذكور لأنهم لم يستوعبوا من علق لهم، وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن شوذب عن مطر الوراق أنه كان لا يرى بركوب البحر بأسا ويقول: ما ذكره الله تعالى في القرآن إلا بحق، ووجه حمل مطر ذلك على الإباحة أنها سيقت في مقام الامتنان، وتضمن ذلك الرد على من منع ركوب البحر، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. قوله: "الفلك السفن الواحد والجمع سواء" هو قول أكثر أهل اللغة، ويدل عليه قوله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُون} وقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فذكره في الإفراد والجمع بلفظ واحد، وقيل إن الفلك بالضم والإسكان جمع فلك بفتحتين مثل أسد وأسد. وقال صاحب "المحكم" السفينة فعيلة بمعنى فاعلة سميت سفينة لأنها تسفن وجه الماء أي تفسره، والجمع سفن وسفائن وسفين. قوله: "وقال مجاهد الخ" وصله الفريابي في تفسيره، وكذلك عبد بن حميد من وجه آخر، قال عياض: ضبطه الأكثر بنصب السفن وعكسه الأصيلي، والصواب الأول عند بعضهم بناء على أن الريح الفاعل وهي التي تصرف السفينة في الإقبال والإدبار، وضبط الأصيلي صواب وهو ظاهر القرآن إذ جعل الفعل للسفينة فقال: {مَوَاخِرَ فِيهِ} وقوله: "تمخر" بفتح المعجمة أي تشق يقال مخرت السفينة إذا شقت الماء بصوت، وقيل المخر الصوت نفسه، وكأن مجاهدا أراد أن شق السفينة للبحر بصوت إنما هو بواسطة الريح، ومعنى قوله: "ولا تمخر الخ" أن الصوت لا يحصل إلا من كبار السفن، أو لا يحصل من الصغار غالبا. قوله: "وقال

(4/299)


الليث الخ" هو طرف من حديث ساقه بتمامه في كتاب الكفالة كما سيأتي، وسنذكر الكلام عليه ثم، ووجه تعلقه بالترجمة ظاهر من جهة أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما ينسخه، ولا سيما إذا ذكره صلى الله عليه وسلم مقررا له أو في سياق الثناء على فاعله أو ما أشبه ذلك، ويحتمل أن يكون مراد المصنف بإيراد هذا أن ركوب البحر لم يزل متعارفا مألوفا من قديم الزمان، فيحمل على أصل الإباحة حتى يرد دليل على المنع. قوله في آخره "حدثني عبد الله بن صالح حدثنا الليث به" فيه التصريح بوصل المعلق المذكور، ولم يقع ذلك في أكثر الروايات في الصحيح، ولا ذكره أبو ذر إلا في هذا الموضع، وكذا وقع في رواية أبي الوقت.

(4/300)


باب{واذا راواتجارة او لهو انفضوا اليها}
...
11 – باب { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [11- الجمعة]
وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ [37 النور]: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه}
وَقَالَ قَتَادَةُ كَانَ الْقَوْمُ يَتَّجِرُونَ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا نَابَهُمْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
2064- حدثني محمد قال حدثني محمد بن فضيل عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن جابر رضي الله عنه قال أقبلت عير ونحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة فانفض الناس إلا اثني عشر رجلا فنزلت هذه الآية {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً}
قوله: "باب {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} وقوله: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} قال قتادة: كان القوم يتجرون الخ" كذا وقع جميع ذلك معادا في رواية المستملي، وسقط لغيره إلا النسفي فإنه ذكرها هاهنا وحذفها مما مضى، وكذا وقع مكررا في نسخة الصغاني، وهذا يؤيد ما تقدم من النقل عن أبي ذر الهروي أن أصل البخاري كان عند الفربري وكانت فيه إلحاقات في الهوامش وغيرها، وكان من ينسخ الكتاب يضع الملحق في الموضع الذي يظنه لائقا به. فمن ثم وقع الاختلاف في التقديم والتأخير، ويزاد هنا أن بعضهم احتاط فكتب الملحق في الموضعين فنشأ عنه التكرار، وقد تكلف بعض الشراح في توجيهه بأن قال: ذكر الآية هنا لمنطوقها وهو الذم، وذكرها هناك لمفهومها وهو تخصيص وقتها بحاله غير المتلبسين بالصلاة وسماع الخطبة، وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى.

(4/300)


باب {انفقو من طيبات ما كسبتم}
...
12 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [267البقرة] {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}
2065- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لاَ يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا"

(4/300)


13 - باب مَنْ أَحَبَّ الْبَسْطَ فِي الرِّزْقِ
2067- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الْكِرْمَانِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"
[الحديث 2067- طرفه في: 5986]
قوله: "باب من أحب البسط" أي التوسع "في الرزق" وجواب "من" محذوف تقديره ما في الحديث وهو "فليصل رحمه". ويستفاد منه جواز هذه المحبة خلافا لمن كرهها مطلقا. قوله: "حدثنا محمد بن أبي يعقوب" اسم أبيه إسحاق بن منصور، وقيل إن منصورا اسم أبيه، وقيل إن أبا يعقوب جده الكرماني بكسر الكاف، وذكر الكرماني الشارح أن النووي ضبطها بفتح الكاف وتعقبه، وسلف النووي في ذلك أبو سعيد بن السمعاني وهو أعلم الناس بذلك، فلعل الصواب فيها في الأصل الفتح، ثم كثر استعمالها بالكسر تغييرا من العامة، وقد نزل محمد المذكور البصرة، ووثقه ابن معين وغيره، ولم يعرف أبو حاتم الرازي حاله، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في تفسير المائدة وآخر في أوائل الأحكام، والثلاثة إسنادها واحد إلى الزهري، وشيخه حسان هو ابن إبراهيم الكرماني ويونس هو ابن يزيد. قوله: "قال محمد هو الزهري" كذا في الأصل. وفي رواية أبي نعيم

(4/301)


من وجه آخر عن حسان عن يونس بن يزيد عن الزهري. قوله: "عن أنس" يأتي في الأدب من وجه آخر عن الزهري أخبرني أنس. قوله: "وينسأ" بضم أوله وسكون النون بعدها مهملة ثم همزة أي يؤخر له، والأثر هنا بقية العمر قال زهير:
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا ينتهي الطرف حتى ينتهي الأثر
وسيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. قال العلماء: معنى البسط في الرزق البركة فيه، وفي العمر حصول القوة في الجسد، لأن صلة أقاربه صدقة والصدقة تربي المال وتزيد فيه فينمو بها ويزكو، لأن رزق الإنسان يكتب وهو في بطن أمه فلذلك احتيج إلى هذا التأويل، أو المعنى أنه يكتب مقيدا بشرط كأن يقال إن وصل رحمه فله كذا وإلا فكذا، أو المعنى بقاء ذكره الجميل بعد الموت. وأغرب الحكيم الترمذي فقال: المراد بذلك قلة البقاء في البرزخ. وقال ابن قتيبة: يحتمل أن يكتب أجل العبد مائة سنة وتزكيته عشرين فإن وصل رحمه زاد التزكية. وقال غيره: المكتوب عند الملك الموكل به غير المعلوم عند الله عز وجل، فالأول يدخل فيه التغيير. وتوجيهه أن المعاملات على الظواهر والمعلوم الباطن خفي لا يعلق عليه الحكم، فذلك الظاهر الذي اطلع عليه الملك هو الذي يدخله الزيادة والنقص والمحو والإثبات، والحكمة فيه إبلاغ ذلك إلى المكلف ليعلم فضل البر وشؤم القطيعة، وسيأتي ذكر هذه المسألة مبسوطة في كتاب القدر، ويأتي الكلام على إيثار الغنى على الفقر في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.

(4/302)


باب شراء النبي بالنسيئة
...
14 - باب شِرَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّسِيئَةِ
2068- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ ذَكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ فَقَالَ حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ"
[الحديث 2068- أطرافه في: 2096 ،2200، 2251، 2252، 2286، 2509، 2513، 2916، 4467،]
2069- حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ ح حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ أَبُو الْيَسَعِ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَشَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ وَلَقَدْ رَهَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعًا لَهُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ يَهُودِيٍّ وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لِأَهْلِهِ وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَا أَمْسَى عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعُ بُرٍّ وَلاَ صَاعُ حَبٍّ وَإِنَّ عِنْدَهُ لَتِسْعَ نِسْوَةٍ"
[الحديث 2096- طرفه في: 2508 ]
قوله: "باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة" بكسر المهملة والمد أي بالأجل، قال ابن بطال: الشراء بالنسيئة جائز بالإجماع. قلت: لعل المصنف تخيل أن أحدا يتخيل أنه صلى الله عليه وسلم لا يشتري بالنسيئة لأنها دين فأراد دفع ذلك التخيل، وأورد المصنف فيه حديثي عائشة وأنس في أنه صلى الله عليه وسلم اشترى شعيرا إلى أجل ورهن عليه درعه، وسيأتي الكلام عليهما

(4/302)


مستوفى في أول الرهن إن شاء الله تعالى.قوله في طريق عائشة "ذكرنا عند إبراهيم" هو النخعي، و قوله: "الرهن في السلم" أي السلف ولم يرد به السلم العرفي.و قوله في حديث أنس"حدثنا مسلم" هو ابن إبراهيم. وقوله في الطريق الثانية "أسباط" هو بفتح الهمزة وسكون المهملة بعدها موحدة. وقوله: "أبو اليسع" بفتح التحتانية والمهملة وهو بصري، وكذا بقية رجال الإسناد، وليس لأسباط في البخاري سوى هذا الموضع، وقد قيل إن اسم أبيه عبد الواحد، وقد ساقه المصنف هنا على لفظ أبي اليسع، وساقه في الرهن على لفظ مسلم بن إبراهيم، والنكتة في جمعهما هنا مع أن طريق مسلم أعلى مراعاة للغالب من عادته أن لا يذكر الحديث الواحد في موضعين بإسناد واحد، ولأن أبا اليسع المذكور فيه مقال فاحتاج أن يقرنه بمن يعضده. وقوله فيه "ولقد سمعته يقول" هو كلام أنس، والضمير في سمعته للنبي صلى الله عليه وسلم، أي قال ذلك لما رهن الدرع عند اليهودي مظهرا للسبب في شرائه إلى أجل، وذهل من زعم أنه كلام قتادة وجعل الضمير في سمعته لأنس، لأنه إخراج للسياق عن ظاهره بغير دليل، والله أعلم.

(4/303)


15 - باب كَسْبِ الرَّجُلِ وَعَمَلِهِ بِيَدِهِ
2070- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَالَ لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَئُونَةِ أَهْلِي وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ"
2071- حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ وَكَانَ يَكُونُ لَهُمْ أَرْوَاحٌ فَقِيلَ لَهُمْ لَوْ اغْتَسَلْتُمْ رَوَاهُ هَمَّامٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ
2072- حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ الْمِقْدَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَم كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ"
2073- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلاَم كَانَ لاَ يَأْكُلُ إِلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ"
[الحديث 2073- طرفاه في: 3417، 4713]
2074- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ

(4/303)


الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ"
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أَحْبُلَهُ"
قوله: "باب كسب الرجل وعمله بيده" عطف العمل باليد على الكسب من عطف الخاص على العام، لأن الكسب أعم من أن يكون عملا باليد أو بغيرها. وقد اختلف العلماء في أفضل المكاسب. قال الماوردي: أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة، والأشبه بمذهب الشافعي أن أطيبها التجارة، قال: والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة لأنها أقرب إلى التوكل. وتعقبه النووي بحديث المقدام الذي في هذا الباب وأن الصواب أن أطيب الكسب ما كان بعمل اليد، قال: فإن كان زراعا فهو أطيب المكاسب لما يشتمل عليه من كونه عمل اليد، ولما فيه من التوكل، ولما فيه من النفع العام للآدمي وللدواب، ولأنه لا بد فيه في العادة أن يوكل منه بغير عوض. قلت: وفوق ذلك من عمل اليد ما يكتسب من أموال الكفار بالجهاد وهو مكسب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أشرف المكاسب لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى وخذلان كلمة أعدائه والنفع الأخروي، قال: ومن لم يعمل بيده فالزراعة في حقه أفضل لما ذكرنا. قلت: وهو مبني على ما بحث فيه من النفع المتعدي، ولم ينحصر النفع المتعدي في الزراعة بل كل ما يعمل باليد فنفعه متعد لما فيه من تهيئة أسباب ما يحتاج الناس إليه. والحق أن ذلك مختلف المراتب، وقد يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والعلم عند الله تعالى. قال ابن المنذر: إنما يفضل عمل اليد سائر المكاسب إذا نصح العامل، كما جاء مصرحا به في حديث أبي هريرة. قلت: ومن شرطه أن لا يعتقد أن الرزق من الكسب بل من الله تعالى بهذه الواسطة، ومن فضل العمل باليد الشغل بالأمر المباح عن البطالة واللهو وكسر النفس بذلك والتعفف عن ذلة السؤال والحاجة إلى الغير، ثم أورد المصنف في الباب أحاديث أولها في التجارة، والثاني في الزراعة، والثالث وما بعده في الصنعة، الحديث الأول. قوله: "حدثني إسماعيل بن عبد الله" هو ابن أبي أويس. قوله: "لقد علم قومي" أي قريش والمسلمون. قوله: "حرفتي" بكسر المهملة وسكون الراء بعدها فاء أي جهة اكتسابي، والحرفة جهة الاكتساب والتصرف في المعاش، وأشار بذلك إلى أنه كان كسوبا لمؤنته ومؤنة عياله بالتجارة من غير عجز، تمهيدا على سبيل الاعتذار عما يأخذه من مال المسلمين إذا احتاج إليه. قوله: "وشغلت" جملة حالية أي أن القيام بأمور الخلافة شغله عن الاحتراف، وقد روى ابن سعد وابن المنذر بإسناد صحيح عن مسروق عن عائشة قالت: "لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه قال: انظروا ماذا في مالي منذ دخلت الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة بعدي. قالت: فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه، وناضح كان يسقي بستانا له، فبعثنا بهما إلى عمر فقال: رحمة الله على أبي بكر، لقد أتعب من بعده" وأخرج ابن سعد من طريق القاسم بن محمد عن عائشة نحوه وزاد: "إن الخادم كان صيقلا يعمل سيوف المسلمين ويخدم آل أبي بكر" ومن طريق ثابت عن أنس نحوه وفيه: "قد كنت حريصا على أن أوفر مال المسلمين، وقد كنت أصبت من اللحم واللبن" وفيه: "وما كان عنده دينار ولا درهم، ما كان إلا خادم ولقحة ومحلب". قوله: "آل أبي بكر" أي هو نفسه ومن تلزمه نفقته. وقيل أراد نفسه بدليل قوله: "أحترف"

(4/304)


حكاه الطيبي. قال: ويدل عليه نسق الكلام لأنه أسند الاحتراف إلى ضمير المتكلم عاطفا له على "فسيأكل" فلو كان المراد الأهل لتنافر. انتهى. وجزم البيضاوي بأن قوله: "آل أبي بكر" عدول عن المتكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات، قال وقيل: أراد نفسه، والأول مقحم لقوله: "وأحترف "وليس بشيء، بل المعنى أني كنت أكتسب لهم ما يأكلونه والآن أكتسب للمسلمين. قال الطيبي: فائدة الالتفات أنه جرد من نفسه شخصا كسوبا لمؤنة الأهل بالتجارة فامتنع لشغله بأمر المسلمين عن الاكتساب، وفيه إشعار بالعلة وأن من اتصف بالشغل المذكور حقيق أن يأكل هو وعياله من بيت المال، وخص الأكل من بين الاحتياجات لكونه أهمها ومعظمها. قال ابن التين: وفيه دليل على أن للعامل أن يأخذ من عرض المال الذي يعمل فيه قدر حاجته إذا لم يكن فوقه إمام يقطع له أجرة معلومة، وسبقه إلى ذلك الخطابي. قلت: لكن في قصة أبي بكر أن القدر الذي كان يتناوله فرض له باتفاق من الصحابة، فروى ابن سعد بإسناد مرسل رجاله ثقات قال: "لما استخلف أبو بكر أصبح غاديا إلى السوق على رأسه أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقال: كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالوا: نفرض لك، ففرضوا له كل يوم شطر شاة". قوله: "وأحترف" في رواية الكشميهني: "ويحترف" قال ابن الأثير: أراد باحترافه للمسلمين نظره في أمورهم وتمييز مكاسبهم وأرزاقهم، وكذا قال البيضاوي: المعنى أكتسب للمسلمين في أموالهم بالسعي في مصالحهم ونظم أحوالهم. وقال غيره: يقال احترف الرجل إذا جازى على خير أو شر. وقال المهلب: قوله أحترف لهم أي أتجر لهم في مالهم حتى يعود عليهم من ربحه بقدر ما آكل أو أكثر وليس بواجب على الإمام أن يتجر في مال المسلمين بقدر مؤنته إلا أن يطوع بذلك كما تطوع أبو بكر. قلت: والتوجيه الذي ذكره ابن الأثير أوجه، لأن أبا بكر بين السبب في ترك الاحتراف وهو الاشتغال بالإمارة، فمتى يتفرغ للاحتراف لغيره؟ إذ لو كان يمكنه الاحتراف لاحترف لنفسه كما كان، إلا أن يحمل على أنه كان يعطى المال لمن يتجر فيه ويجعل ربحه للمسلمين، وقد روى الإسماعيلي في حديث الباب من طريق معمر عن الزهري "فلما استخلف عمر أكل هو وأهله من المال - أي مال المسلمين - واحترف في مال نفسه". "تنبيه": حديث أبي بكر هذا وإن كان ظاهره الوقف لكنه بما اقتضاه من أنه قبل أن يستخلف كان يحترف لتحصيل مؤنة أهله يصير مرفوعا لأنه يصير كقول الصحابي: كنا نفعل كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى ابن ماجة وغيره من حديث أم سلمة "أن أبا بكر خرج تاجرا إلى بصرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: "وتقدم في حديث أبي هريرة في أول البيوع "إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق" ويأتي حديث عائشة "أن الصحابة كانوا عمال أنفسهم" وهذا هو السر في إيراد البخاري له عقب حديثها عن أبي بكر. قوله: "حدثنا محمد حدثنا عبد الله بن يزيد" كذا ثبت في جميع الروايات إلا رواية أبي علي بن شبويه عن الفربري عن البخاري "حدثنا عبد الله بن يزيد" فمحمد على هذا هو المصنف وعبد الله بن يزيد هو المقري، وقد أكثر عنه البخاري، وربما روي عنه بواسطة، وسعيد هو ابن أبي أيوب، وأبو الأسود هو النوفلي المعروف بيتيم عروة، وجزم الحاكم بأن محمدا هنا هو الذهلي. قوله: "رواه همام" يعني ابن يحيى "عن هشام" يعني ابن عروة. وهذا التعليق وصله أبو نعيم في "المستخرج" من طريق هدبة عنه بلفظ: "كان القوم خدام أنفسهم، وكانوا يروحون إلى الجمعة فأمروا أن يغتسلوا" وبهذا اللفظ رواه قريش بن أنس عن هشام عند ابن خزيمة والبزار، وقد تقدم هذا الحديث من وجه عن عروة ومن وجه آخر عن عمرة، وتقدم

(4/305)


شرحه مستوفى، والغرض منه هنا قوله: "كانوا عمال أنفسهم" وقوله: "يكون لهم أرواح" جمع ريح لأن أصل ريح روح بفتح الراء وسكون الواو ويقال في جمعه أيضا أرياح بقلة. قوله: "عن ثور" هو ابن يزيد الشامي لا ابن زيد المدني. قوله: "عن المقدام" هو ابن معدي كرب الكندي من صغار الصحابة، مات سنة بضع وثمانين بحمص، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الأطعمة. قوله: "ما أكل أحد" زاد الإسماعيلي: "من بني آدم". قوله: "طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده" في رواية الإسماعيلي: "خير" بالرفع وهو جائز. وفي رواية له من "كد يديه" والمراد بالخيرية ما يستلزم العمل باليد من الغنى عن الناس. ولابن ماجة من طريق عمر بن سعد عن خالد بن معدان عنه "ما كسب الرجل أطيب من عمل يديه" ولابن المنذر من هذا الوجه "ما أكل رجل طعاما قط أحل من عمل يديه" وفي فوائد هشام بن عمار عن بقية حدثني عمر بن سعد بهذا الإسناد مثل حديث الباب وزاد: "من بات كالا من عمله بات مغفورا له" وللنسائي من حديث عائشة "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه" وفي الباب من حديث سعيد بن عمير عن عمه عند الحاكم، ومن حديث رافع بن خديج عند أحمد، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود. قوله: "وأن داود الخ" في رواية الإسماعيلي بحذف الواو، وفي روايته: "من كسب يده". قوله: "لا يأكل إلا من عمل يده" وهو صريح في الحصر بخلاف الذي قبله، وحديث أبي هريرة هذا طرف من حديث سيأتي في ترجمة داود من أحاديث الأنبياء؛ ووقع في المستدرك عن ابن عباس بسند واه "كان داود زرادا، وكان آدم حراثا، وكان نوح نجارا، وكان إدريس خياطا، وكان موسى راعيا" وفي الحديث فضل العمل باليد، وتقديم ما يباشره الشخص بنفسه على ما يباشره بغيره، والحكمة في تخصيص داود بالذكر أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة لأنه كان خليفة في الأرض كما قال الله تعالى، وإنما ابتغى الأكل من طريق الأفضل، ولهذا أورد النبي صلى الله عليه وسلم قصته في مقام الاحتجاج بها على ما قدمه من أن خير الكسب عمل اليد، وهذا بعد تقرير أن شرع من قبلنا شرع لنا، ولا سيما إذا ورد في شرعنا مدحه وتحسينه مع عموم قوله تعالى: { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وفي الحديث أن التكسب لا يقدح في التوكل، وأن ذكر الشيء بدليله أوقع في نفس سامعه. قوله: "لأن يحتطب أحدكم" تقدم الكلام عليه في "باب الاستعفاف عن المسألة" وأخرجه هناك من طريق الأعرج عن أبي هريرة، وبعد أبواب من طريق أبي صالح عنه، وهنا من طريق أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف - وهو مولى ابن أزهر - وقد تقدم الكلام على ترجمته في أواخر الصيام. وحديث الزبير بن العوام في ذلك أورده هنا مختصرا وساقه في "باب الاستعفاف من الزكاة" بتمامه وتقدم الكلام عليه هناك، وقوله: "أحبله" بفتح أوله وضم الموحدة جمع حبل مثل فلس وأفلس.

(4/306)


باب السهولة و السماحة في الشراء و البيع و من طلب حقا فليطلبه في عفاف
...
16 - باب السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَمَنْ طَلَبَ حَقًّا فَلْيَطْلُبْهُ فِي عَفَافٍ
2076- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى1"

(4/306)


قوله: "حدثنا علي بن عياش" بالتحتانية والمعجمة. قوله: "رحم الله رجلا" يحتمل الدعاء ويحتمل الخبر، وبالأول جزم ابن حبيب المالكي وابن بطال ورجحه الداودي، ويؤيد الثاني ما رواه الترمذي من طريق زيد بن عطاء بن السائب عن ابن المنكدر في هذا الحديث بلفظ: "غفر الله لرجل كان قبلكم كان سهلا إذا باع" الحديث، وهذا يشعر بأنه قصد رجلا بعينه في حديث الباب. قال الكرماني: ظاهره الإخبار لكن قرينة الاستقبال المستفاد من "إذا" تجعله دعاء وتقديره رحم الله رجلا يكون كذلك، وقد يستفاد العموم من تقييده بالشرط. قوله: "سمحا" بسكون الميم وبالمهملتين أي سهلا، وهي صفة مشبهة تدل على الثبوت، فلذلك كرر أحوال البيع والشراء والتقاضي، والسمح الجواد، يقال سمح بكذا إذا جاد، والمراد هنا المساهلة. قوله: "وإذا اقتضى" أي طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف، في رواية حكاها ابن التين "وإذا قضى" أي أعطى الذي عليه بسهولة بغير مطل، وللترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "إن الله يحب سمح البيع سمح الشراء سمح القضاء" وللنسائي من حديث عثمان رفعه: "أدخل الله الجنة رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا وقاضيا ومقتضيا" ولأحمد من حديث عبد الله بن عمرو نحوه وفيه الحض على السماحة في المعاملة واستعمال معالي الأخلاق وترك المشاحة والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة وأخذ العفو منهم.

(4/307)


17 - باب مَنْ أَنْظَرَ مُوسِرًا
2077- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ أَنَّ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ حَدَّثَهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَلَقَّتْ الْمَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالُوا أَعَمِلْتَ مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا قَالَ كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنْ الْمُوسِرِ قَالَ قَالَ فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ عَنْ رِبْعِيٍّ كُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ وَتَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيٍّ وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيٍّ أُنْظِرُ الْمُوسِرَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ رِبْعِيٍّ فَأَقْبَلُ مِنْ الْمُوسِرِ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ
[الحديث 2077- طرفاه في: 2391، 3451]
قوله: "باب من أنظر موسرا" أي فضل من فعل ذلك وحكمه. وقد اختلف العلماء في حد الموسر: فقيل من عنده مؤنته ومؤنة من تلزمه نفقته. وقال الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق: من عنده خمسون درهما أو قيمتها

(4/307)


من الذهب فهو موسر. وقال الشافعي: قد يكون الشخص بالدرهم غنيا مع كسبه وقد يكون بالألف فقيرا مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله، وقيل: الموسر والمعسر يرجعان إلى العرف، فمن كان حاله بالنسبة إلى مثله يعد يسارا فهو موسر وعكسه، وهذا هو المعتمد وما قبله إنما هو في حد من تجوز له المسألة والأخذ من الصدقة. قوله: "منصور" هو ابن المعتمر. قوله: "إن حذيفة حدثه" زاد مسلم في روايته من طريق نعيم بن أبي هند عن ربعي "اجتمع حذيفة وأبو مسعود، فقال حذيفة: رجل لقي ربه "فذكر الحديث وفي آخره: "فقال أبو مسعود هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومثله رواية أبي عوانة عن عبد الملك عن ربعي كما سيأتي في هذا الباب. قوله: "تلقت الملائكة" أي استقبلت روحه عند الموت. وفي رواية عبد الملك بن عمير عن ربعي في ذكر بني إسرائيل "أن رجلا كان فيمن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه". قوله: "أعملت من الخير شيئا" ؟ وفي رواية بحذف همزة الاستفهام وهي مقدرة، زاد في رواية عبد الملك المذكورة "فقال ما أعلم، قيل انظر، قال ما أعلم شيئا غير أني" فذكره. ولمسلم من طريق شقيق عن أبي مسعود رفعه: "حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا" وفي رواية أبي مالك المعلقة هنا ووصلها عند مسلم: "أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالا فقال له: ما عملت في الدنيا؟ - قال ولا يكتمون الله حديثا - قال: يا رب آتيتني مالك فكنت أبايع الناس وكان خلقي الجواز" الحديث. وفي رواية ابن أبي عمر في هذا الحديث: "فيقول: يا رب ما عملت لك شيئا أرجو به كثيرا. إلا أنك كنت أعطيتني فضلا من مال"؛ فذكره. قوله: "فتياني" بكسر أوله جمع فتى وهو الخادم حرا كان أو مملوكا. قوله: "أن ينظروا ويتجاوزوا عن الموسر" كذا وقع في رواية أبي ذر والنسفي وهو لا يخالف الترجمة، وللباقين "أن ينظروا المعسر ويتجاوزوا عن الموسر" وكذا أخرجه مسلم عن أحمد بن يونس شيخ البخاري فيه، وظاهره غير مطابق للترجمة، ولعل هذا هو السر في إيراد التعاليق الآتية لأن فيها ما يطابق الترجمة. قوله: "وقال أبو مالك عن ربعي كنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر" وهذه الطريق عن حذيفة في هذا الحديث وصلها مسلم من طريق أبي خالد الأحمر عن أبي مالك كما تقدم أولا وقال في آخره: "فقال أبو مسعود الأنصاري وعقبة بن عامر الجهني: هكذا سمعناه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: "وتابعه شعبة عن عبد الملك" يعني ابن عمير "عن ربعي" أي عن حذيفة يعني في قوله: "وأنظر المعسر" وقد وصله ابن ماجة من طريق أبي عامر عن شعبة بهذا اللفظ، ووصله المؤلف في الاستقراض عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ: "فأتجوز عن الموسر وأخفف عن المعسر" وفي آخره قول أبي مسعود "هكذا سمعت". قوله: "وقال أبو عوانة عن عبد الملك الخ" وصله المؤلف في ذكر بني إسرائيل مطولا، وهو كما قال: "أنظر الموسر وأتجاوز عن المعسر" وفي آخره قول أبي مسعود "هكذا سمعت". قوله: "وقال نعيم بن أبي هند الخ" وصله مسلم من طريق مغيرة بن مقسم عنه وقد تقدم لفظه، وفيه قول أبي مسعود أيضا، قال ابن التين: رواية من روى "وأنظر الموسر" أولى من رواية من روى "وأنظر المعسر" لأن إنظار المعسر واجب. قلت: ولا يلزم من كونه واجبا أن لا يؤجر صاحبه عليه أو يكفر عنه بذلك من سيئاته، وسأذكر الاختلاف في الوجوب في الباب الذي يليه.

(4/308)


18 - باب مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا
2078- حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ

(4/308)


بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ
[الحديث 2078- طرفه في: 3480]
قوله: "باب من أنظر معسرا" روى مسلم من حديث أبي اليسر بفتح التحتانية والمهملة ثم الراء رفعه: "من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله في ظل عرشه" وله من حديث أبي قتادة مرفوعا: "من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه"، ولأحمد عن ابن عباس نحوه وقال: "وقاه الله من فيح جهنم" واختلف السلف في تفسير قوله تعالى: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فروى الطبري وغيره من طريق إبراهيم النخعي ومجاهد وغيرهما أن الآية نزلت في دين الربا خاصة، وعن عطاء أنها عامة في دين الربا وغيره، واختار الطبري أنها نزلت نصا في دين الربا ويلتحق به سائر الديون لحصول المعنى الجامع بينهما، فإذا أعسر المديون وجب إنظاره ولا سبيل إلى ضربه ولا إلى حبسه. قوله: "حدثنا الزبيدي" بالضم. قوله: "عن عبيد الله بن عبد الله" أي ابن عتبة بن مسعود، في رواية يونس عند مسلم عن الزهري "أن عبيد الله بن عبد الله حدثه". قوله: "كان تاجر يداين الناس" في رواية أبي صالح عن أبي هريرة عند النسائي: "إن رجلا لم يعمل خيرا قط وكان يداين الناس". قوله: "تجاوزوا عنه" زاد النسائي: "فيقول لرسوله خذ ما يسر واترك ما عسر وتجاوز" ويدخل في لفظ التجاوز الإنظار والوضيعة وحسن التقاضي. وفي حديث الباب والذي قبله أن اليسير من الحسنات إذا كان خالصا لله كفر كثيرا من السيئات، وفيه أن الأجر يحصل لمن يأمر به وإن لم يتول ذلك بنفسه، وهذا كله بعد تقرير أن شرع من قبلنا إذا جاء في شرعنا في سياق المدح كان حسنا عندنا.

(4/309)


باب اذا بين البيعان ولم يكتما و نصحا
...
19 - باب إِذَا بَيَّنَ الْبَيِّعَانِ وَلَمْ يَكْتُمَا وَنَصَحَا
وَيُذْكَرُ عَنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ كَتَبَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ لاَ دَاءَ وَلاَ خِبْثَةَ وَلاَ غَائِلَةَ قَالَ قَتَادَةُ الْغَائِلَةُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالإِبَاقُ
وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ إِنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ يُسَمِّي آرِيَّ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ فَيَقُولُ جَاءَ أَمْسِ مِنْ خُرَاسَانَ جَاءَ الْيَوْمَ مِنْ سِجِسْتَانَ فَكَرِهَهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً
وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ لاَ يَحِلُّ لِامْرِئٍ يَبِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إِلاَّ أَخْبَرَهُ
2079- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ رَفَعَهُ إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا
[الحديث 2079- أطرافه في: 2082، 2108، 2110، 2114]

(4/309)


قوله: "باب إذا بين البيعان" بفتح الموحدة وتشديد التحتانية أي البائع والمشتري. قوله: "ولم يكتما" أي ما فيه من عيب، و قوله: "ونصحا" من العام بعد الخاص، وحذف جواب الشرط للعلم به وتقديره بورك لهما في بيعهما كما في حديث الباب. وقال ابن بطال: أصل هذا الباب أن نصيحة المسلم واجبة. قوله: "ويذكر عن العداء" بالتثقيل وآخره همزة بوزن الفعال ابن خالد بن هوذة بن ربيعة بن عمرو ابن عامر بن صعصعة، صحابي قليل الحديث، أسلم بعد حنين. قوله: "هذا ما اشترى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من العداء بن خالد" هكذا وقع هذا التعليق، وقد وصل الحديث الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن الجارود وابن منده كلهم من طريق عبد المجيد ابن أبي يزيد عن العداء بن خالد فاتفقوا على أن البائع النبي صلى الله عليه وسلم والمشتري العداء عكس ما هنا، فقيل إن الذي وقع هنا مقلوب وقيل هو صواب وهو من الرواية بالمعنى لأن اشترى وباع بمعنى واحد، ولزم من ذلك تقديم اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم على اسم العداء، وشرحه ابن العربي على ما وقع في الترمذي فقال فيه: البداءة باسم المفضول في الشروط إذا كان هو المشتري، قال: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك وهو ممن لا يجوز عليه نقض عهده لتعليم الخلق، قال: ثم إن ذلك على سبيل الاستحباب لأنه قد يتعاطى صفقات كثيرة بغير عهدة، وفيه كتابة الاسم واسم الأب والجد في العهدة إلا إذا كان مشهورا بصفة تخصه، ولذلك قال: "محمد رسول الله" استغنى بصفته عن نسبه ونسب العداء بن خالد، قال: وفي قوله: "هذا ما اشترى" ثم قال: "بيع المسلم المسلم:" إشارة إلى أن لا فرق بين الشراء والبيع. قوله: "بيع المسلم المسلم" فيه أنه ليس من شأن المسلم الخديعة، وأن تصدير الوثائق بقول الكاتب هذا ما اشترى أو أصدق لا بأس به، ولا عبرة بوسوسة من منع من ذلك وزعم أنها تلتبس بما النافية. قوله: "لا داء" أي لا عيب، والمراد به الباطن سواء ظهر منه شيء أم لا كوجع الكبد والسعال قاله المطرزي. وقال ابن المنير في الحاشية: قوله: "لا داء" أي يكتمه البائع، وإلا فلو كان بعبد داء وبينه البائع لكان من بيع المسلم للمسلم، ومحصله أنه لم يرد بقوله لا داء نفي الداء مطلقا بل نفي داء مخصوص وهو ما لم يطلع عليه. قوله: "ولا خبثة" بكسر المعجمة وبضمها وسكون الموحدة بعدها مثلثة أي مسبيا من قوم لهم عهد قاله المطرزي، وقيل المراد الأخلاق الخبيثة كالإباق. وقال صاحب "العين" الريبة، وقيل المراد الحرام كما عبر عن الحلال بالطيب. وقال ابن العربي. الداء ما كان في الخلق بالفتح والخبثة ما كان في الخلق بالضم، والغائلة سكوت البائع على ما يعلم من مكروه في المبيع. قوله: "ولا غائلة" بالمعجمة أي ولا فجور، وقيل المراد الإباق. وقال ابن بطال هو من قولهم اغتالني فلان إذا احتال بحيلة يتلف بها مالي. قوله: "قال قتادة الخ" وصله ابن منده من طريق الأصمعي عن سعيد بن أبي عروبة عنه، قال ابن قرقول: الظاهر أن تفسير قتادة يرجع إلى الخبثة والغائلة معا. قوله: "وقيل لإبراهيم" أي النخعي "أن بعض النخاسين" بالنون والخاء المعجمة أي الدلالين. قوله: "يسمى آري" بفتح الهمزة الممدودة وكسر الراء وتشديد التحتانية هو مربط للدابة وقيل معلفها ورده ابن الأنباري، وقيل هو حبل يدفن في الأرض ويبرز طرفه تشد به الدابة أصله من الحبس والإقامة من قولهم: تأرى الرجل بالمكان أي أقام به، والمعنى أن النخاسين كانوا يسمون مرابط دوابهم بأسماء البلاد ليدلسوا على المشتري بقولهم ذلك ليوهموا أنه مجلوب من خراسان وسجستان فيحرص عليها المشتري ويظن أنها قريبة العهد بالجلب، قال عياض: وأظن أنه سقط من الأصل لفظة دوابهم، قلت أو سقطت الألف واللام التي للجنس كأنه كان فيه يسمى الآري أي الإصطبل، أو سقط الضمير كأنه كان فيه يسمى آرية، وقد تصحفت هذه الكلمة في رواية أبي زيد

(4/310)


المروزي فذكرها "أرى" بفتحتين بغير مد وقصر آخره وزن دعا. وفي رواية أبي ذر الهروي مثله لكن بضم الهمزة أي أظن، واضطرب فيها غيرهما فحكى ابن التين أنها رويت بفتح الهمزة وسكون الراء، قال وفي رواية ابن نظيف قرى بضم القاف وفتح الراء والأول هو المعتمد قال الراعي:
فقد فخروا بخيلهم علينا ... لنا آريهن على معد
وقد بين الصواب في ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال: "قيل له إن ناسا من النخاسين وأصحاب الدواب يسمي أحدهم إصطبل دوابه خراسان وسجستان ثم يأتي السوق فيقول جاءت من خراسان وسجستان، قال فكره ذلك إبراهيم" ورواه سعيد بن منصور عن هشيم ولفظه: "إن بعض النخاسين يسمي آريه خراسان الخ" والسبب في كراهة إبراهيم ذلك ما يتضمنه من الغش والخداع والتدليس. قوله: "وقال عقبة بن عامر لا يحل لامرئ يبيع سلعة يعلم أن بها داء إلا أخبره" في رواية الكشميهني أخبر به، وهذا الحديث وصله أحمد وابن ماجة والحاكم من طريق عبد الرحمن بن شماسة بكسر المعجمة وتخفيف الميم وبعد الألف مهملة عن عقبة مرفوعا بلفظ: "المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه غش إلا بينه له" وفي رواية أحمد "يعلم فيه عيبا" وإسناده حسن. قوله: "عن صالح أبي الخليل" في الرواية التي بعد بابين "سمعت أبا الخليل". قوله: "رفعه إلى حكيم بن حزام" في الرواية المذكورة "عن حكيم" وسيأتي الكلام عليه مستوفى في "باب كم يجوز الخيار" بعد عشرين حديثا، والغرض منه قوله: "فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما الخ" وقوله صدقا أي من جانب البائع في السوم ومن جانب المشتري في الوفاء، وقوله: "وبينا" أي لما في الثمن والمثمن من عيب فهو من جانبيهما وكذا نقصه. وفي الحديث حصول البركة لهما إن حصل منهما الشرط وهو الصدق والتبيين، ومحقها إن وجد ضدهما وهو الكذب والكتم، وهل تحصل البركة لأحدهما إذا وجد منه المشروط دون الآخر؟ ظاهر الحديث يقتضيه، ويحتمل أن يعود شؤم أحدهما على الآخر بأن تنزع البركة من المبيع إذا وجد الكذب أو الكتم من كل واحد منهما، وإن كان الأجر ثابتا للصادق المبين، والوزر حاصل للكاذب الكاتم. وفي الحديث أن الدنيا لا يتم حصولها إلا بالعمل الصالح، وأن شؤم المعاصي يذهب بخير الدنيا والآخرة.

(4/311)


20 - باب بَيْعِ الْخِلْطِ مِنْ التَّمْرِ
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نُرْزَقُ تَمْرَ الْجَمْعِ وَهُوَ الْخِلْطُ مِنْ التَّمْرِ وَكُنَّا نَبِيعُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ. فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ وَلاَ دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ"
قوله: "باب بيع الخلط من التمر" الخلط بكسر المعجمة التمر المجمع من أنواع متفرقة. وقوله في الحديث: "كنا نرزق" بضم النون أوله أي نعطاه، وكان هذا العطاء مما كان صلى الله عليه وسلم يقسمه فيهم مما أفاء الله عليهم من خيبر وتمر الجمع بفتح الجيم وسكون الميم: فسر بالخلط، وقيل هو كل لون من النخيل لا يعرف اسمه، والغالب في مثل ذلك أن يكون رديئه أكثر من جيده. وفائدة هذه الترجمة رفع توهم من يتوهم أن مثل هذا لا يجوز بيعه لاختلاط جيده برديئه

(4/311)


لأن هذا الخلط لا يقدح في البيع لأنه متميز ظاهر فلا يعد ذلك عيبا، بخلاف ما لو خلط في أوعية موجهة يرى جيدها ويخفى رديئها. وفي الحديث النهي عن بيع التمر بالتمر متفاضلا، وكذا الدراهم. وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى في "باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه "في أواخر البيوع إن شاء الله تعالى.

(4/312)


باب ماقيل في اللحام و الجزار
...
21 - باب مَا قِيلَ فِي اللَّحَّامِ وَالْجَزَّارِ
2081- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا شُعَيْبٍ فَقَالَ لِغُلاَمٍ لَهُ قَصَّابٍ اجْعَلْ لِي طَعَامًا يَكْفِي خَمْسَةً فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْجُوعَ فَدَعَاهُمْ فَجَاءَ مَعَهُمْ رَجُلٌ فَقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا قَدْ تَبِعَنَا فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ فَأْذَنْ لَهُ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ يَرْجِعَ رَجَعَ فَقَالَ لاَ بَلْ قَدْ أَذِنْتُ لَهُ"
[الحديث 2081- أطرافه في: 2456، 5434، 5461]
قوله: "باب اللحام والجزار" كذا وقعت هذه الترجمة هنا.وفي رواية ابن السكن بعد خمسة أبواب، وهو أليق لتتوالى تراجم الصناعات. قوله: "فقال لغلام له قصاب" بفتح القاف وتشديد المهملة وآخره موحدة وهو الجزار، وسيأتي في المظالم من وجه آخر عن الأعمش بلفظ: "كان له غلام لحام" واتفقت الطرق على أنه من مسند أبي مسعود إلا ما رواه أحمد عن ابن نمير عن الأعمش بسنده فقال فيه: "عن رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفت في وجهه الجوع، فأتيت غلاما لي" فذكر الحديث، وكذا رويناه في الجزء التاسع من "أمالي المحاملي" من طريق ابن نمير، زاد مسلم في بعض طرقه: "وعن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر" وسيأتي الكلام على فوائد هذا الحديث مستوفى في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى.

(4/312)


باب مايمحق الكذب و الكتمان
...
22 - باب مَا يَمْحَقُ الْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ فِي الْبَيْعِ
2082- حدثنا بدل بن المحبر حدثنا شعبة عن قتادة قال سمعت أبا الخليل يحدث عن عبد الله بن الحارث عن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما
قوله: "باب ما يمحق الكذب والكتمان" أي من البركة "في البيع" ذكر فيه حديث حكيم بن حزام المذكور قبل بابين وهو واضح فيما ترجم له.

(4/312)


باب{ياايها الذين امنوا لا تأكلو الربا أضعافا مضاعفة}
...
23 - باب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل [130 آل عمران] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } الآية

(4/312)


باب آكل الربا و شاهده وكاتبه
...
24 - باب آكِلِ الرِّبَا وَشَاهِدِهِ وَكَاتِبِهِ
وَقَوْل الله تَعَالَى[275 البقرة]: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ} إلى آخرالأية
2084- حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم لما نزلت آخر البقرة قرأهن النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في المسجد ثم حرم التجارة في الخمر"
2085- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جرير بن حازم حدثنا أبو رجاء عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان فقلت ما هذا فقال الذي رأيته في النهر آكل الربا"
قوله: "باب آكل الربا وشاهده وكاتبه" أي بيان حكمهم، والتقدير باب إثم أو ذم. في رواية الإسماعيلي: "وشاهديه" بالتثنية. قوله: "قول الله تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ} إلى آخر الآية" وهو قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} روى الطبري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ

(4/313)


الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} قال: ذاك حين يبعث من قبره . ومن طريق سعيد عن قتادة قال: تلك علامة أهل الربا يوم القيامة، يبعثون وبهم خبل . وأخرجه الطبري من حديث أنس نحوه مرفوعا. وقيل معناه أن الناس يخرجون من الأجداث سراعا، لكن آكل الربا يربو الربا في بطنه فيريد الإسراع فيسقط فيصير بمنزلة المتخبط من الجنون. وذكر الطبري في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} أنهم لما قيل لهم هذا ربا لا يحل قالوا: لا فرق إن زدنا الثمن في أول البيع أو عند محله، فأكذبهم الله تعالى. قال الطبري: إنما خص الآكل بالذكر لأن الذين نزلت فيهم الآيات المذكورة كانت طعمتهم من الربا، وإلا فالوعيد حاصل لكل من عمل به سواء أكل منه أم لا. ثم ساق البخاري في الباب حديثين: أحدهما حديث عائشة "لما نزلت آخر البقرة قرأهن النبي صلى الله عليه وسلم ثم حرم التجارة في الخمر" وقد تقدم الكلام عليه في أبواب المساجد من كتاب الصلاة، ويأتي الكلام على تحريم التجارة في الخمر في أواخر البيوع. ثانيهما حديث سمرة في المنام الطويل، وقد تقدم بطوله في كتاب الجنائز، واقتصر منه هنا على قصة آكل الربا. وقال ابن التين: ليس في حديثي الباب ذكر لكاتب الربا وشاهده، وأجيب بأنه ذكرهما على سبيل الإلحاق لإعانتهما للآكل على ذلك، وهذا إنما يقع على من واطأ صاحب الربا عليه فأما من كتبه أو شهد القصة ليشهد بها على ما هي عليه ليعمل فيها بالحق فهذا جميل القصد لا يدخل في الوعيد المذكور، وإنما يدخل فيه من أعان صاحب الربا بكتابته وشهادته فينزل منزلة من قال: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وأيضا فقد تضمن حديث عائشة نزول آخر البقرة ومن جملة ما فيه قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وفيه {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} وفيه {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} فأمر بالكتابة والإشهاد في البيع الذي أحله، فأفهم النهي عن الكتابة والإشهاد في الربا الذي حرمه، ولعل البخاري أشار إلى ما ورد في الكاتب والشاهد صريحا، فعند مسلم وغيره من حديث جابر "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم في الإثم سواء" ولأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من طريق عبد الرحمن بن عبد الله ابن مسعود عن أبيه "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه" وفي رواية الترمذي بالتثنية. وفي رواية النسائي من وجه آخر عن ابن مسعود "آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم".

(4/314)


25 - باب مُوكِلِ الرِّبَا،لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل [278 البقرة]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2086- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ رَأَيْتُ أَبِي اشْتَرَى عَبْدًا حَجَّامًا فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَثَمَنِ الدَّمِ وَنَهَى عَنْ الْوَاشِمَةِ وَالْمَوْشُومَةِ وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ"
[الحديث 2086- أطرافه فك: 2238، 5347، 5945، 5961]
قوله: "باب موكل الربا" أي مطعمه والتقدير فيه كالذي قبله. قوله: "لقول الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

(4/314)


اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} - إلى قوله: { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} هكذا في جميع الروايات ووقع عند الداودي - إلى قوله - لا تظلمون ولا تظلمون، وفسره أي لا تظلمون بأخذ الزيادة ولا تظلمون بأن تحبس عنكم رءوس أموالكم. ثم اعترض بما سيأتي. قوله: "وقال ابن عباس: هذه آخر آية نزلت" وصله المصنف في التفسير من طريق الشعبي عنه، واعترضه الداودي فقال: هذا إما أن يكون وهما وإما أن يكون اختلافا عن ابن عباس، لأن الذي أخرجه المصنف في التفسير عنه فيه التنصيص على أن آخر آية نزلت قوله تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية، قال: فلعل الناقل وهم لقربها منها. انتهى. وتعقبه ابن التين بأنه هو الواهم لأن من جملة الآيات التي أشار إليها البخاري في الترجمة قوله تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية، وهي آخر آية ذكرها لقوله إلى قوله: { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وإليها أشار بقوله هذه آخر آية أنزلت. انتهى. وكأن البخاري أراد بذكر هذا الأثر عن ابن عباس تفسير قول عائشة "لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة". قوله: "عن عون بن أبي جحيفة" في رواية آدم عن شعبة "حدثتا عون" وسيأتي في أواخر أبواب الطلاق. قوله: "رأيت أبي اشترى عبدا حجاما فسألته" كذا وقع هنا، وظاهره أن السؤال وقع عن سبب مشتراه، وذلك لا يناسب جوابه بحديث النهي، ولكن وقع في هذا السياق اختصار بينه ما أخرجه المصنف بعد هذا في آخر البيوع من وجه آخر عن شعبة بلفظ: "اشترى حجاما فأمر بمحاجمه فكسرت، فسألته على ذلك "ففيه البيان بأن السؤال إنما وقع عن كسر المحاجم، وهو المناسب للجواب. وفي كسر أبي جحيفة المحاجم ما يشعر بأنه فهم أن النهي عن ذلك على سبيل التحريم فأراد حسم المادة، وكأنه فهم منه أنه لا يطيع النهي ولا يترك التكسب بذلك فلذلك كسر محاجمه، وسيأتي الكلام على كسب الحاجم بعد أبواب، ونذكر هناك بقية فوائده إن شاء الله تعالى. قوله: "ونهى عن الواشمة والموشومة" أي نهى عن فعلهما، لأن الواشم والموشوم لا ينهى عنهما وإنما ينهى عن فعلهما. قوله: "وآكل الربا وموكله" هكذا وقع في هذه الرواية معطوفا على النهي عن الوشمة، والجواب عنه كالذي قبله، ثم ظهر لي أنه وقع في هذه الرواية تغيير فأبدل اللعن بالنهي فسيأتي في أواخر البيوع وفي أواخر الطلاق بلفظ: "ولعن الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله" والله أعلم.

(4/315)


باب {يمحق الله الربا و يربى الصدقات}
...
26 - باب {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}
2087- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ"
قوله: "باب {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} " روى ابن أبي حاتم من طريق الحسن قال: ذاك يوم القيامة يمحق الله الربا يومئذ وأهله. وقال غيره: المعنى أن أمره يئول إلى قلة. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان قال: "ما كان من ربا وإن زاد حتى يغبط صاحبه فإن الله يمحقه" وأصله من حديث ابن مسعود عند ابن ماجة وأحمد بإسناد حسن مرفوعا: "إن الربا وإن كثر عاقبته إلى قل" وروى عبد الرزاق عن معمر قال: سمعنا أنه لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنة حتى يمحق. قوله: "عن يونس" هو ابن يزيد. قوله: "الحلف" بفتح المهملة وكسر اللام أي اليمين الكاذبة. قوله: "منفقة" بفتح الميم والفاء بينهما نون ساكنة مفعلة من

(4/315)


النفاق بفتح النون وهو الرواج ضد الكساد، والسلعة بكسر السين المتاع، وقوله ممحقة بالمهملة والقاف وزن الأول وحكى عياض ضم أوله وكسر الحاء، والمحق النقص والإبطال. وقال القرطبي: المحدثون يشددونها والأول أصوب والهاء للمبالغة ولذلك صح خبرا عن الحلف. وفي مسلم اليمين، ولأحمد اليمين الكاذبة وهي أوضح، وهما في الأصل مصدران مزيدان محدودان بمعنى النفاق والمحق. قوله: "للبركة" تابعه عنبسة بن خالد عن يونس عند أبي داود. وفي رواية ابن وهب وأبي صفوان عند مسلم: "للربح" وتابعهما أنس بن عياض عند الإسماعيلي، ورواه الليث عند الإسماعيلي بلفظ: "ممحقة للكسب" وتابعه ابن وهب عند النسائي، ومال الإسماعيلي إلى ترجيح هذه الرواية، وقد اختلف في هذه اللفظة على الليث كما اختلف على يونس، ووقع للمزي في "الأطراف" في نسبة هذه اللفظة لمن خرجها وهم يعرف مما حررته، قال ابن المنير: مناسبة حديث الباب للترجمة أنه كالتفسير للآية لأن الربا الزيادة والمحق النقص فقال: كيف تجتمع الزيادة والنقص؟ فأوضح الحديث أن الحلف الكاذب وإن زاد في المال فإنه يمحق البركة فكذلك قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} أي يمحق البركة من البيع الذي فيه الربا وإن كان العدد زائدا لكن محق البركة يفضي إلى اضمحلال العدد في الدنيا كما مر في حديث ابن مسعود، وإلى اضمحلال الأجر في الآخرة على التأويل الثاني.

(4/316)


باب مايكره من الحلف في البيع
...
27 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ
2088- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً وَهُوَ فِي السُّوقِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } الْآيَةَ [77 آل عمران]
[الحديث 2088- طرفاه في: 2675، 4551]
قوله: "باب ما يكره من الحلف في البيع" أي مطلقا فإن كان كذبا فهي كراهة تحريم، وإن كان صدقا فتنزيه. وفي السنن من حديث قيس بن أبي غرزة بفتح المعجمة والراء والزاي مرفوعا: "يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة" . قوله: "عن عبد الله بن أبي أوفى" في رواية يزيد عن العوام "سمعت عبد الله بن أبي أوفى" وسيأتي في التفسير مع بقية الكلام عليه، وقد تعقب بأن السبب المذكور في الحديث خاص والترجمة عامة لكن العموم مستفاد من قوله في الآية {وَأَيْمَانِهِمْ} وسيأتي في الشهادات في سبب نزولها من حديث ابن مسعود ما يقوي حمله على العموم.

(4/316)


باب ماقيل في الصواغ
...
28 - باب مَا قِيلَ فِي الصَّوَّاغِ
وَقَالَ طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا وَقَالَ الْعَبَّاسُ إِلاَّ الإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ فَقَالَ إِلاَّ الإِذْخِرَ"
2089- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلاَم قَالَ كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنْ الْمَغْنَمِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنْ الْخُمْسِ فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا مِنْ بَنِي

(4/316)


باب ذكر القين و الحداد
...
29 - باب ذِكْرِ الْقَيْنِ وَالْحَدَّادِ
2091- حدثنا محمد بن بشار حدثنا بن أبي عدي عن شعبة عن سليمان عن أبي الضحى عن مسروق عن خباب قال ثم كنت قينا في الجاهلية وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه قال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقلت لا أكفر حتى يميتك الله ثم تبعث قال دعني حتى أموت وأبعث فسأوتى مالا وولدا فأقضيك فنزلت {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [الحديث 2091- أطرافه في: 2275، 2425، 4732، 4733، 4734، 4735]

(4/317)


قوله: "باب ذكر القين" بفتح القاف "والحداد" قال ابن دريد: أصل القين الحداد ثم صار كل صائغ عند العرب قينا. وقال الزجاج: القين الذي يصلح الأسنة، والقين أيضا الحداد. وكأن البخاري اعتمد القول الصائر إلى التغاير بينهما. وليس في الحديث الذي أورده في الباب إلا ذكر القين، وكأنه ألحق الحداد به في الترجمة لاشتراكهما في الحكم، وسيأتي الكلام على الحديث في تفسير سورة مريم إن شاء الله تعالى. وأما قول أم أيمن "أنا قينت عائشة" فمعناه زينتها، قال الخليل: التقيين التزيين، ومنه سميت المغنية قينة لأن من شأنها الزينة. -= بعده

=============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب بر الوالدين للبخاري

     كتاب بر الوالدين للبخاري ............     .............